وسارت العربة، وقبل أن ينطق زين العابدين التفت إليه السائق نصف التفاتة وقال: الجزيرة؟
وقال زين العابدين في مرح: تعجبني.
واتجهت العربة إلى الجزيرة. وقال زين العابدين: أنت اليوم قمر.
وقالت نعمات، وقد ابتسمت عن أربع أسنان ذهبية، وعن تجاعيد كثيرة حول فمها: اليوم فقط يا عمر؟ - وكل يوم وشرفك. - أين كان هذا؟ كنت لا تسأل عنا أيام سنية شخلع. الله يرحم أيامها. - أنت التي كنت منصرفة عنا. - وهل كنا نتوصل؟ - أيام. - ألا تعجبك أيامنا هذه؟ - حلوة، والنبي حلوة يا نعنع. - أراك تتحسر على سنية. - أنت أنسيتيني الكل. - يا ترى صحيح؟ - والنبي صحيح ... صحيح والنبي. - كنت أيام سنية ...
وراحت تعيد على مسمعيه أيام مجده، وهو يزداد انتفاخا بجانبها وينظر إلى المارة يكاد يستوقفهم ليسمعوا ما يسمع، وقد تسري في داخله في لحظة عابرة همسة تقول كذب ما تسمع، ولكن سرعان ما يكتم هذه الهمسة، فإن الحقيقة كئيبة عندما يحلو الخيال. وعلى كل حال ما أقرب الواقع من الخيال، وعلى كل حال هو مبتهج يكاد يطير من البهجة؛ نسي الشيخوخة والصبغة، ونسي الحقيقة لم يعد يذكرها، لم تعد الحقيقة عنده إلا هذا الذي ترويه نعمات، ووقائع تشركه هي فيها في جرأة ودربة ومران، وهو لم يفعلها، أو لا يذكر أنه فعلها، بل إنه يكاد يذكر أنه فعلها، بل إنه واثق أنه فعلها وأنها الحقيقة هي الحقيقة. وتسير العربة.
ويصل موكب الذكريات الأساطير إلى الجزيرة، تمر العربة بعربات أخرى، وتمر بسيارات، والذكريات تنهمر وزين العابدين نشوة هيهات أن تبلغها نشوة الخمر مهما تتزايد. وينظر زين العابدين إلى العربات والسيارات، لو استطاع أن يصرخ فيمن بها: أتعرفون أنتم الحب والشباب؟ تعالوا فانظروا كيف كنت، بل فانظروا كيف أنا إلى الآن. ويزداد إنعاما في العربات والسيارات الواقفة يرميها بنظرات محايدة ليس فيها معنى. وتسير العربة.
ولكن العربة تبلغ سيارة مكشوفة، ويقول زين العابدين في نفسه؛ مكشوفة! أليس لها غطاء؟! وينعم النظر ثم ينتفض انتفاضة مجنونة، ويعود ينظر؛ إنها هي. ويقول: بنتي؟!
ويخيل إليه أنه قالها في نفسه لم تنطق بها شفتاه، وما درى أنه صرخ وراح السائق يحث الخيل على العدو، وهي تأبى إلا أن تسير. وأمسكت نعمات بملابسه ذاهلة لا تدري ماذا تفعل أو تقول. ويقول زين العابدين ذاهلا: قف! قف يا أوسطى.
وتقول نعمات: ماذا تريد أن تفعل؟
ويرد السؤال الرجل إلى بعض العقل، وإن كان جسمه قد أصبح مرجلا يغلي، ويلتفت إلى نعمات فتطالعها منه نظرة ذاهلة حائرة كسيرة مخذولة. وتعيد سؤالها: ماذا تريد أن تفعل؟
نامعلوم صفحہ