ويدخل متولي حاملا الشربات، ويقول زين العابدين: أحسنت صنعا يا متولي.
وقال متولي: تفضل يا حاج. مبروك.
وأخذ الحاج الكوب ووضعه على المنضدة، وقال زين العابدين: ماذا بك؟
وقال متولي: يا سيدي إنه منذ جاء وهو بهذا النكد.
وقال زين العابدين: عجيبة!
وخرج متولي وهو يقول: عجيبة!
والتفت زين العابدين إلى الحاج والي: ما لك يا حاج والي؟ - ألم تعرف كيف تزوجت يا زين العابدين بك؟ - نعم عرفت. - عرفت أن زوجتي هي التي خطبت لي؟ - نعم، ولا أكتمك؛ لقد اندهشت لهذا، وكنت أريد أن أسألك منذ سمعت، ولكنك لم تأت. - خجلت أن ترى وجهي. - ولماذا تخجل؟ - ما الذي يجعل امرأتي تخطب لي؟ لا بد أنها رأت حرصي الشديد على الإنجاب. - نعم، لا شيء في ذلك. - أليس هذا مخجلا؟ - لماذا؟! - كيف سولت لي نفسي أن أهين كرامة زوجتي إلى هذا الحد؟
يا سعادة البك أنت سيد العارفين، ألا تتصور مقدار الألم الذي عانته امرأتي، وهي تخطب لي امرأة غيرها؟ أقسم بالله يا سعادة البك إنني منذ جاءت زوجتي، وأنا أستحي أن أكلمها أمام الحاجة.
وصمت زين العابدين، وأحس الحاج والي ببعض الراحة، وهو يلقي هذا الحديث لأول مرة إلى مسمعي إنسان واسترسل: أكل هذا من أجل الأولاد؟! - وهل الأولاد شيء بسيط يا حاج والي؟ - والله يا سعادة البك أصبحت لا أدري. - اسمع يا حاج والي، لقد سمعت عن زوجتك الحاجة أنها عاقلة وكريمة، ولكنها بما فعلته جعلت نفسها مثلا أعلى فأكرمها. - أكرمها! أكرمها يا سعادة البك! إنني لا أدري كيف أعاملها. يتهيأ لي أحيانا أنها ليست من البشر، ولا أدري كيف أعامل الملائكة. لقد جعلتني لها عبدا. أنا عارف يا بك، أنا عارف بشعور المرأة وبغيرتها، عارف. كيف أستطيع أن أوفيها حقها؟ - أنت محق يا حاج والي، الحاجة بمبة تستحق ما تقوله عنها. - ولكن ... ولكن أنا ... أنا خجلان يا سعادة البك. - أخطبت لك دون أن تخبرك؟ - أخبرتني بعد أن خطبت. - وماذا فعلت؟ - فعلت ما لا زلت أخجل منه. - ماذا؟ - ثرت، ولكنني في دخيلة نفسي كنت مسرورا. - كيف؟ - غضبت. قلت لها أتزوج؟! هذا كلام فارغ ... و... و... ولكن لم أفلح في إخفاء حقيقة نفسي. إنها زوجة عشرين سنة وذكية؛ أدركت أنني مسرور، فإذا هي تقول في كل هدوء، سأشتري لعروسك بعض، ملابس وتتزوجها في الأسبوع القادم إن شاء الله. وكأنما ألقت على رأسي ماء باردا، فإذا أنا صامت وكأني مستسلم. ثم قمت وخرجت؛ فإذا جميع من في البلدة يعرفون أمر الخطبة، فهم يهنئونني، وأرى في عيونهم ابتسامة تجمع بين التعجب والحسد، يخيل لي أنهم كلهم يتمنون أن تكون زوجاتهم مثل زوجتي، مع أنهم جميعا آباء، لهم من البنين ما تضيق به البلدة. لم أجد من أشكو له همي إلا أنت، ولكني كنت خجلا منك، فغبت عنك ثم لم أجد بدا من أن أتغلب على خجلي، وإلا انفجرت بالألم الذي أعانيه فجئت، وارتحت أن قلت لك ما قلت يا زين العابدين بك. أبقاك الله لنا. - يا رجل، المسألة لا تستأهل كل هذا. - بل تستأهل يا سعادة البك، ولكن ماذا أفعل؟ لم تعد هناك فائدة. أيستحق الأطفال كل هذا؟ أيستحق الأطفال أن تطعن امرأة صالحة كزوجتي كرامتها كامرأة، وتتجاهل أنوثتها إلى درجة أن تخطب لزوجها امرأة لتنجب له أطفالا؟ ماذا أصنع بهم؟ لماذا كنت شديد الرغبة في الإنجاب إلى درجة أن جعلتها تقتل أنوثتها بيديها، وكأنها تنتحر؟ ماذا سأصنع بهم؟ وماذا سيجري في الدنيا إذا لم أنجب أنا أطفالا؟ هل ستتوقف الدنيا عن الدوران؟ ماذا أصنع بهم؟ أرى من عندهم أطفال يضيقون بهم، وأراهم إذا مرض أحدهم يكاد الأب يموت من قلق وخوف وشفقة! ثم إذا صح الطفل المريض؛ وجدت الأب ضيقا غاية الضيق بما يحمل من مسئولية. لا تؤاخذني يا سعادة البك، فأنت لم تنجب. أي شعور عجيب يشعر به الأب فيجعلني حريصا كل هذا الحرص على أن أنجب؟ أنت لا تدري شعوري هذا، أم تراك تدري؟ - بل لا أدري، حقا أنا لا أدري. ولا أكتمك، فقد كنت أحب أن أدري. - أهو حرصنا على أن يظل اسمنا من بعدنا؟ - وماذا يهم من بعدنا إن بقي اسمنا أو لم يبق؟ - فماذا إذن؟ أي شيء عجيب في هذه المخلوقات الصغيرة الجبارة يجعلنا نحبها ونحرص عليها، ونتوق إلى أن نصبح آباء لها؟ - لعلنا نحب فيهم الحياة يا حاج والي، فهم حياة جديدة. وإقبال الأطفال يشعرنا - أو هو يشعر الآباء - أن الحياة ما زالت تستطيع أن تجدد نفسها.
وماذا نحب في هذه الحياة؟ هذه الحياة التي لا نستطيع فيها أن ننال ما نهفو إليه إلا على أشلاء أحبائنا وكرامتهم! - ليس هناك كثيرون خطبت لهم زوجاتهم يا حاج والي. - نعم، ولكن هناك كثيرين سعوا إلى الإنجاب بشتى الوسائل، وسهروا الليالي الطوال لتحقيق هذه الأمنية. لقد كانت زوجتي شريفة فيما فعلته؛ سمعت عن نساء أخريات بذلن أنفسهن لغير أزواجهن ليهبوا لأزواجهن أطفالا، أحبوا أزواجهن إلى درجة الخيانة من أجلهم. هل يستحق الأطفال هذا؟ هل يستحقون؟ أم نحن مخدوعون؟ أنا حائر يا سعادة البك، حائر. ماذا في هذه المخلوقات الصغيرة؟ أي سحر فيها؟ إنهم أقوى من الحياة يا زين العابدين بك، أقوى من الحياة؛ يهون على المرأة أن تموت ولا ترى زوجها مع غيرها، ولكن زوجتي خطبت لي، خطبت لي؛ لأنها أحست إلى أي مدى أريد أن أرى لنفسي أطفالا. هذه المخلوقات اللعينة، اللعينة، اللعينة. - ولكنك مع هذا تريد أطفالا يا حاج والي.
نامعلوم صفحہ