أشخاص الرواية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
أشخاص الرواية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
سيرانو دي برجراك
سيرانو دي برجراك
تأليف
إدموند روستان
ترجمة
عباس حافظ
أشخاص الرواية
سيرانو دي برجراك.
كريستيان دي نيفييت.
الكونت دي جيش.
راجينو.
لوبريه.
الكابتن كاربون بون دي كاستل جالوه.
الغساقنة.
لينيير.
دي فلفير.
ماركيز - ماركيز آخر - ماركيز ثالث.
مونفليري.
بلروز.
جودوليه.
كويجي.
دار تانيان.
بريساي.
الأخت مارتا:
الراهبة.
ليزا:
زوجة راجينو.
الأم مرجريت:
بائعة مشروبات ومرطبات.
الأخت كلير.
ممثلة.
وصيفة.
بائعة زهر ... إلخ - راهبات، ونساء كثيرات.
آخرون:
فضولي - جندي - جندي آخر - ضابط إسباني - فارس - بواب - رجل من الشعب - ولده - متفرج - نشال - جندي حراسة - عازفان على الناي - قسيس - شعراء - عمال في محل حلواني - كومبارس عديدون - روكسان.
الفصل الأول
حفلة تمثيلية في فندق بروغونيا
بهو في فندق بروغونيا سنة 1640، أشبه بملعب لكرة المضرب «التنس»، وقد زخرف وأعد للحفلات التمثيلية.
والبهو مستطيل بانحراف بحيث يبدو المسرح كالقطاع المائل، وقد صفت على جانبي المسرح الأرائك، وستار المسرح من شقين من قماش مزخرف، تنفرجان عن المسرح حين يبدأ التمثيل، وقد علقت فوقهما الشارة الملكية، ومنها ثوب المهرج، وثمة درج عريض يؤدي إلى خشبة المسرح، صفت على جانبيه مقاعد فرقة الموسيقى، وصف من الشموع.
وهيئت أماكن للنظارة على جانبي البهو صفا من خلف صف، خصص أعلاها للمقصورات، أما أرض البهو التي تؤلف المسرح ذاته فلم يكن عليها مقاعد.
وفي نهاية المسرح - أي إلى اليمين من المقدمة - عدد من المقاعد تؤلف درجا، وتحت إحدى الدرجات المؤدية إلى المقاعد العالية، حيث لا يرى منها إلا المقاعد السفلى، شيء يشبه المقصف ازدان بالمصابيح البراقة، وأصص الزهر، والأقداح البللورية، والصحاف الملأى بأنواع الحلوى، والفطائر، والأباريق.
ويقع مدخل المسرح في الوسط من مؤخرته تحت صف المقصورات، وهو باب كبير وقد فتح قليلا ليدخل منه المشاهدون، وقد وضعت على واجهتيه الزجاجيتين، وفي أركان عدة، وفوق المقصف، وفي أماكن أخرى إعلانات حمراء عن المسرحية التي ستمثل تلك الليلة «كلوزير». وعند رفع الستار يبدو البهو مظلما تقريبا، وخلوا من الناس والمصابيح مدلاة وسطه تنتظر الإضاءة ...
المشهد الأول (أخذ النظارة يتقاطرون قبل موعد التمثيل، وارتفعت جلبة خارج باب البهو، واختلت الأصوات: فرسان، وأناس من الطبقة المتوسطة، وخدم، وعازفون - الماركيز كويجي - بريساي، وغيرهم.) (يدخل أحد الفرسان مسرعا غير آبه باعتراض الملاحظ الواقف بالباب.)
الملاحظ :
أين تذكرتك يا هذا؟
الفارس :
أنا داخل من غير تذكرة.
الملاحظ :
ولماذا؟
الفارس :
أتسألني لماذا ...؟ أنا من رجال سلاح فرسان الملك. (يدخل فارس آخر.)
الملاحظ :
وأنت؟
الفارس الثاني :
أنا لا أدفع شيئا.
الملاحظ :
ولم؟
الفارس الأول (لزميله) :
ما أظن الرواية تبدأ قبل الثانية بعد منتصف الليل، والبهو خال من الناس ... فتعال نتجالد بالسيف لقضاء الوقت (يتجالدان) .
أحد خدم القصور (يلمح صاحبا له قد استبقه إلى القاعة) :
أهذا أنت يا فلانكن؟
الآخر (وقد دخل في تلك اللحظة) :
وهذا أنت يا شامبان!
الأول (وهو يطلع من صداره أوراق اللعب، ويجلس على الأرض) :
أتلاعبني؟
الآخر :
أنا لك ... فهلم!
الأول (يخرج بقية شمعة فيشعلها، ثم يثبتها فوق الأرض) :
لقد جئت بهذه الشمعة لأستضيء على حساب المولى الذي أخدمه.
جندي (لبائعة زهور) :
إنه لكرم منك أن تحضري قبل إضاءة الأنوار (يعانقها) .
أحد الجنديين المتجالدين (وقد سدد ضربة إلى غريمه) :
لقد أصبتك.
أحد اللاعبين بالورق (يصرخ صرخة مغلوب) :
سباتي.
الحارس (في أثر الفتاة) :
قبلة!
الفتاة :
ويحك إن الأعين ترانا.
الحارس (يجذبها إلى ركن مظلم) :
لا تراعي؛ فإن أحدا لا يرانا. (وهنا يأتي بعض النظارة يحملون طعاما فيجلسون فوق الأرض ليأكلوا.)
أحدهم :
لنأكل طعامنا على مهل ما دمنا قد جئنا مبكرين.
أحد رجال الشعب (وقد اصطحب ابنه) :
دعنا نجلس هنا يا بني.
أحد اللاعبين بالورق :
ثلاثة آس. (متفرج آخر يخرج زجاجة من خلف مئزره، ويجلس فوق الأرض وهو يجرع منها.) - لا بأس على الشارب من جرعة يتناولها من نبيذ في فندق بورغونيا!
الرجل (لابنه) :
يمين الله ليخيل للمرء أنه قد دخل بؤرة لا ملهى (يشير بعصاه إلى السكير)
ألا ترى السكارى؟ (وهنا يصطدم أحد المتجالدين بالسيف، وقد أراد أن يتحامى ضربة من زميله فيصطدم به) : ورعاع أيضا ...! (ومن أثر الصدمة يقع وسط اللاعبين بالورق) : ومقامرون ...!
الحارس (جندي من ورائه يعاكس الفتاة) :
قبلة!
الرجل (يتباعد بولده) :
يا لله ... أفهذا يا بني هو الملهى الذي مثلوا فيه روايات روترو؟
الابن :
وروايات كورني ... (يدخل جمع من الغلمان يرقصون ويغنون، وقد تواثبوا يدا ليد.)
الغلمان :
ترا لا لا لا لا لا لا لا! ...
الملاحظ (غاضبا) :
حسبكم، ما هذه المساخر وألاعيب الحواة؟
أحدهم (بلهجة الغاضب للكرامة) :
إن سوء الظن بنا ... (لزميله)
أمعك خيط؟
الثاني :
وشص لصيد السمك أيضا!
الأول :
فلنصد بها الشعور المستعارة من فوق رؤوس المشاهدين!
نشال (يجمع حوله فتية خبثاء) :
استمعوا لي يا قطاعي الجيوب، بل أعيروني آذانكم حتى ألقنكم درسا في النشل.
الغلام الثاني (ينادي صحابا له في أعلا المسرح) :
يا هؤلاء أعندكم نبال تهلو بها؟
الغلام الثالث :
نعم، وحمص نرمي به. (وانبرى يساقط عليهم حمصا.)
الفتى (لأبيه) :
أية رواية سيقدمون لنا الليلة؟
الأب :
كلوريز
الفتى :
ومن هو المؤلف؟
الأب :
الأستاذ بالتزار بارو. إنها مسرحية رائعة! (يقف خلف كتف ابنه) .
النشال (لصبيانه) :
لا تنسوا أن تقطعوا بكل خفة ورفق.
أحد النظارة (يشير إلى موضع في الملهى وهو يتحدث إلى صاحب له) :
لقد كنت جالسا في ذلك المكان المرتفع في الليلة الأولى لتمثيل رواية «السيد».
النشال (يعلم الصبيان بأصابعه حركة النشل) :
هكذا تنشل الساعات.
الأب (لابنه) :
سنرى الليلة مجموعة طيبة من مشاهير الممثلين والممثلات.
النشال (يمثل حركة النشل) :
وهكذا تنشل المناديل.
الأب (لابنه) :
وسنرى من هؤلاء الممثلين مونفليري.
أحدهم (من إحدى المقصورات) :
ألا عجلتم فأضأتم الشموع.
الأب :
وسنرى بلروزوليبي، ولوبريه، وجودوليه!
أحد الغلمان (في قاعة المسرح) :
ها قد جاءت البائعة. (تظهر الفتاة التي ستتولى البيع في المقصف «البوفيه»، فتقف وراءه منادية.)
الفتاة :
عصير الليمون، عصير البرتقال، لبن، شراب التوت. (ترتفع جلبة في الخارج، وتسمع صيحة.)
الصوت :
أفسحوا أيها الأوغاد.
أحد الخدم (في دهشة) :
يا عجبا، حضرات الأشراف جاءوا للجلوس في القاعة مع السوقة؟
خادم آخر :
لقد وفدوا لبضع دقائق فقط! (يدخل فوج من النبلاء.)
مركيز (لصاحبه وقد رأى الصالة شبه خاوية) :
ماذا ترون؟ ونحن داخلون هكذا كأننا جماعة من تجار الأقمشة؟ فلنتلطف في دخولنا، لا نزعج القوم، ولا ندوس على أقدامهم، أف لهم، أف لهم! من ذا أرى؟ ها هو ذا كويجي! وهذا بريساي! (يتبادل النبلاء التحيات والعناق.)
كويجي :
لقد حافظنا على الموعد؛ فجئنا قبل إضاءة الشموع.
المركيز :
ولكني لا أطيق طول الانتظار.
مركيز آخر :
لا بأس أيها المركيز، انتظر ها هم قد جاءوا ليضيئوا المكان؛ فلا تضق ذرعا. (ويرتفع التهليل وصيحات الفرح من النظارة أن رأوا الأنوار قد بدأت تضاء، وأخذوا مجالسهم استعدادا لابتداء التمثيل.)
النظارة :
وافرحتاه.
المشهد الثاني (يدخل شاب ذو مكانة، مضطرب البزة، مخمور هو لينيير، متأبطا ذراع شاب متأنق، على الرغم من قدم هندامه.)
المركيز كويجي (وهو يلمح ذلك الخليع قادما) :
ها هو ذا لينيير داخلا!
بريساي (وهو يضحك) :
ألم يثمل إلى الآن؟
لينيير (يتقدم بصاحبه نحو النبلاء) :
هل أقدمك إليهم؟
كريستيان (يهز رأسه موافقا) :
أقدم إليكم البارون دي نوفييت (انحناءات بالتحية) . (يدوي المكان بتصفيق النظارة حين أضيئت الأنوار جميعا.)
الجمهور :
وافرحتاه.
كويجي (ينحني على صديقه بريساي، ويرنو بعينه لكريستيان) :
يا له من شاب مليح.
المركيز الأول (للمركيز الثاني، وقد سمع الحوار) :
هراء.
لينيير (يسترسل في تعريف كريستيان) :
مولاي المركيز دي كويجي، ومولاي المركيز دي بريساي.
كريستيان :
لي الشرف.
المركيز الأول :
لست أنكر أنه وسيم الصفحة، ولكن هندامه ليس فوق أحدث الأزياء.
لينيير (يتحدث إلى المركيز كويجي) :
إن هذا السيد قادم من تورين.
كريستيان (في أثره) :
نعم، ولم يمض في باريس غير عشرين يوما أو قرابتها، وأنا غدا ملتحق بالحرس بفرقة الطلبة العسكريين.
المركيز الأول :
لقد وصلت الرئيسة أوبرى.
فتاة المقصف :
شراب البرتقال. لبن ... (الموسيقيون يصلحون الأوتار.)
كويجي (ينوه بازدحام المسرح لكريستيان) :
لقد امتلأ المسرح.
كريستيان :
نعم، جمهور كبير!
المركيز الأول :
معرض لجميع الأزياء. (تدخل السيدات فيشيران إلى كل باسمها، والنساء يوزعن الابتسامات ردا على التحيات.)
المركيز الثاني :
هذه مدام دي جيمينيه .
كويجي :
وهذه مدام بوا-دوفان.
المركيز الأول :
الحسناء التي ما زالت في قلوب الجميع.
بريساي :
وهذه مدام دي شافيني.
المركيز الثاني :
وهي التي ما زالت تلعب بأفئدتنا سحرا وفتونا.
لينيير :
انظر! هو ذا المسيو كورتي، لقد عاد من روان.
الفتى (لأبيه) :
أعضاء المجمع العلمي الفرنسي كلهم هنا.
الأب :
إني أرى أكثر من عضو واحد: فهو ذا بودي، وهناك يواسا وكيرو، ويورشير، وكولومبي، وبورزيس، وبوربون، وأردو ... ولن يموت اسم من هذه الأسماء، ما أجمل هذه الفكرة!
المركيز الأول :
انظر! لقد احتلت سيداتنا مقصوراتهن، فهذه بارتنوئيد، وهناك أوريميدونت، وكاسانداس، وفيليكسيري.
المركيز الثاني :
ما أمتع أسماءهن؛ فهل تعرفهن جميعا يا مركيز؟
المركيز الأول :
نعم كلهن.
لينيير (لكريستيان في ناحية) :
لقد جئت إلى هنا يا صديقي لأدخل السرور على نفسك، ولكن غادتنا لم تحضر؛ فأنا منسحب لأوافي «آفتي» المحبوبة، بنت الحان.
كريستيان (يتلطف إليه محلفا في إمساكه) :
كلا، كلا؛ فأنت الوحيد الذي تستطيع أكثر من سواك أن تعرفني من تكون هذه الغادة التي أموت في حبها، ألست شاعر البلاط والشعب معا؛ فهلا بقيت مرة أخرى؟ (وفي تلك اللحظة بدأت الموسيقى الوترية ترسل أنغامها، بينما ذهبت فتاة المقصف تنادي على معروضاتها.)
رئيس الفرقة الموسيقية :
سادتي (يرفع وتره استعدادا) .
فتاة المقصف :
شراب البرتقال، بقسماط.
كريستيان :
أواه، أخشى أن تكون هذه الحسناء لعوبا خداعة، صعبة الإرضاء، فأين لمثلي وأنا البليد الألكن الجرأة على التحدث إليها ومخاطبتها؟ إنني بلغة اليوم وأساليب العصر لجاهل، ما أنا إلا جندي، وإن كنت في مواقف الحب الهيابة الوجل، لقد كانت تجلس هناك في ذلك الموضع أبدا، تلك المقصورة الخاوية التي على اليمين.
لينيير (يهم بالذهاب) :
إني منصرف لا محالة.
كريستيان (يمسك بذراعه، ويتشبث به) :
عليك بالله ... إلا ما مكثت.
لينيير :
لا أستطيع مكثا، إن «داسوسي» ينتظرني في الحان، والإنسان هنا يكاد يموت ظمأ. (وفي تلك اللحظة تمر فتاة المقصف عن كثب منهما، تحمل صينية صفت عليها الأقداح من مختلف الأشربة مترعة.)
الفتاة :
شراب البرتقال ...
لينيير (يتأفف من سماع هذا النوع من الأشربة ) :
أف!
الفتاة :
أتريد لبنا إذن؟
لينيير (يبدي حركة استياء) :
أف!
الفتاة :
نبيذ جيد؟
لينيير (لصاحبه) :
سأمكث معك لحظة أخرى فدعني أذق هذا الذي عندها. (يجلس إلى منضدة المقصف. وتصب الفتاة له شرابا.) (وإذا بالأصوات ترتفع على مقدم رجل بدين قزم.)
الجمهور (ينادي في فرح وتهليل) :
ها هو ذا راجينو ... راجينو!
لينيير (لكريستيان) :
إنه الحلواني المشهور. (وكان هذا مرتديا ثياب حلواني، فلم يكد يلمح لينيير حتى أسرع إليه.)
راجينو :
هل رأيت يا سيدي مسيو سيرانو؟
لينيير :
هذا حلواني الشعراء والممثلين.
راجينو :
إن هذا لشرف عظيم.
لينيير :
أمسك يا صاح؛ فأنت راعي الأدب والفنون.
صاحب الحان :
نعم، إن أولئك جميعا يأكلون ما يشتهون عندي.
لينيير (مقاطعا) :
دون أن يدفعوا ... (يستمر في التعريف به) : وهو أيضا شاعر موهوب.
راجينو :
لقد قيل ذلك لي.
لينيير :
وهو بالشعر مفتون.
راجينو :
القول الصحيح إني أعطي في القصيدة الصغيرة ...
لينيير (مستبقا) :
فطيرة أو كعكة.
راجينو :
بل كعيكة.
لينيير :
يا له من شهم كريم، ولكن ألم تعط في مقابل قصيدة من ثمانية أبيات؟
راجينو (معاجلا) :
أقراصا صغيرة من الخبز.
لينيير (محتدا) :
بالزبد، والمسرح ألا تحبه؟
راجينو :
إلى حد الهيام.
لينيير :
وتدفع ثمنا لدخولك المسرح عملة من الفطير والحلوى؟ قل لنا فيما بيننا: كم يكلفك الدخول؟
راجينو :
أربع قراقيش بالسكر، وخمس عشرة فطيرة رقيقة صغيرة (يدير في المكان عينيه) . أليس مسيو سيرانو هنا الليلة؟ إن هذا لغريب.
لينيير :
وما وجه الغرابة فيه؟
راجينو :
لأن مونفليري سيمثل!
لينيير :
هذا صحيح، فإن هذا البرميل سيظهر في دور «فيدون» ... ولكن ما شأن سيرانو به؟
راجينو : .كيف؟ ألم تعلم النبأ ... إن سيرانو يضمر له أشد الكراهية، وقد حرم عليه الظهور على المسرح شهرا كاملا
لينيير (يجرع القدح الرابع) :
وما رأيك إذن؟
راجينو :
رأيي أن مونفليري لن يمثل.
المركيز كويجي (يقترب من جماعته) :
ولكن ليس في وسعه أن يمنعه.
راجينو :
ليس في وسعه؟ هذا ما جئت لأراه!
المركيز الأول :
ومن يكون سيرانو هذا الذي تتحدثون عنه؟
المركيز كويجي :
فتى حاذق لجميع فنون السيف.
المركيز الثاني :
وهل هو من النبلاء؟
كويجي :
هو في عدادهم؛ وهو ضابط صغير في فرقة الحرس (يشير إلى رجل من الأشراف يروح ويغدو في القاعة كمن يبحث عن شخص معين)
هو هو ذا صديقه «لوبريه» قادم نحونا، فاسألوه عنه، إنه بأمره العليم الخبير، (يناديه)
لوبريه، (لوبريه يدنو منه)
أتبحث عن دي برجراك؟
لوبريه :
نعم، وإني لقلق.
كويجي :
أليس حقا أنه من أفذاذ الناس؟
لوبريه (بحنان) :
الحق أنه بدماثة أخلاقه، ورقة حواشيه يفضل كل من تظلهم السماء.
راجينو :
شاعر!
كويجي :
مبارز بالسيف!
بريساي :
عالم بالطبيعيات.
لوبريه :
موسيقار!
لينيير السكير (وهو يغمز بعينه) :
إنه لشخصية عجيبة!
راجينو :
إنه لكذلك، وإني لا أعتقد أن رساما وقورا كفيليب دي شامبان سيرسم لنا صورة له، ولكن سيرانو، وهو ذلك الرجل الغريب، المسرف، المتقلب الأهواء ليمد المرحوم جاك كالو
1
بموضوع لإحدى لوحاته، هو موضوع ذلك المبارز بالسيف الذي يتخيل أنه المفرد العلم بين المبارزين، والبهلول الذي يستطيع أن يثير ضحك الناس وسخريتهم، المعجب بنفسه الذي يتجمل بقبعة ذات ثلاث ريشات مختلفة الألوان، ولباس ينزل من الرقبة إلى الخصر، تتدلى منه ستة أطراف، وذباب حسامه يرتفع إلى أعلى من تحت ردائه من الخلف كأنه ذيل الديك، أما أنفه فحدث عنه ولا حرج، إن من يقع بصره على هذه العينة الأنفية لا يتملك نفسه من أن يصيح: «إن الرجل وايم الله يغالي»، ثم إذا هو يبتسم، ثم يقول: «سوف يزيله»، ولكن مسيو برجراك لن يزيله قط.
لوبريه (وهو يطوح برأسه إلى الخلف) :
نعم يستبقيه ويشطر من تسول له نفسه بالسخرية منه شطرين!
راجينو (معتزا مفاخرا) :
نعم، فإن سيفه هو يد القدر ضاربة، وعلى شفير حسامه المنايا راصدة.
المركيز الأول (وهو يهز كتفيه) :
ولكنه لن يأتي الليلة.
راجينو :
بل سيأتينا ما في ذلك شك، وأنا أراهن بدجاجة، على نسق راجينو.
المركيز الأول (مستضحكا) :
فليكن. (همسات في الصفوف، همسات الإعجاب، وغمغمة الاستحسان لظهور الحسناء روكسان في مقصورتها، وقد جلست في الصدر، ومن خلفها الوصيفة العجوز.) (كريستيان في تلك اللحظة منشغلا بدفع حساب الشراب لبائعة المقصف، فلم ينتبه إلى الحسناء لحظة دخولها.)
المركيز الثاني (في مرح بالغ) :
لله درها أيها السادة من فاتنة مرهوبة الحسن، رائعة الجمال تستبي القلوب استباء.
المركيز الأول :
إن من ينظر إليها يخيل له كأن خوخة تضحك مع توتة!
المركيز الثاني :
وكلها صباحة ونضارة ندية بدرجة يخشى معها المقترب أن تغشى القلب قشعريرة من البرد.
كريستيان (يرفع بصره، فيلمحها في مقصورتها؛ فيضطرب ويمسك بذراع لينيير بقوة وهو يقول) :
إنها هي!
لينيير (يمسكه من ذراعه) :
أهي هذه؟
كريستيان :
نبئني وعجل، فإني في وجل.
لينيير (يتناول جرعات من النبيذ) :
مجدولين روبان المعروفة بروكسان، حسناء من ربات الأدب المتحزلقات.
كريستيان :
يا ويلتا! وأنا العيي لا أبين.
لينيير :
وهي غير متزوجة، يتيمة الأبوين، وابنة عم سيرانو الذي كنا اللحظة نتحدث عنه. (وفي تلك اللحظة يدخل في مقصورتها أحد النبلاء في ثوب رشيق، يزين صدره شريط أزرق؛ فيظل واقفا يجاذبها أطراف الحديث.)
كريستيان (بدهشة) :
ومن هذا الذي يكلمها؟
لينيير (وقد ثمل، فجعل يغمز بعينه وهو يجيب ضاحكا) :
هذا كونت دي جيش المفتون بها، وهو وإن كان متزوجا بابنة أخت أرمان دي ريشيليه، يسعى في تزويج روكسان برجل حقير يدعى الفيكونت دي فلفير، عساه يظفر منها، وهي ذات بعل كهذا، بما عز عليه الظفر به، وهي عذراء، ولكنها تأبى الصفقة، وتستعصم من المساومة، غير أن دي جيش ذو نفوذ، وفي وسعه معاكستها؛ إذ أين لابنة رجل من عرض الناس، بلا نسب ولا لقب أن تقاوم رجلا في مثل نفوذه، ولقد عرضت لهذه المحاولة الماكرة بالتورية، والاستعارة، والكناية في قصيدة لي من الشعر الغنائي، وأحسبه الآن علي واجدا، وقد كان مقطع القصيدة في الصميم ... ألا تسمع ماذا قلت؟ (وتحامل لينهض؛ فترنح، ورفع القدح إليهم بالإنشاد.)
كريستيان :
لا ضرورة ... لا ضرورة ... طاب مساؤك.
لينيير :
إلى أين؟
كريستيان :
إلى مسيو دي فلفير.
لينيير :
حذار؛ فإنه هو ولا ريب قاتلك (يوجه نظر كريستيان إلى روكسان بطرف خفي)
يالله، اثبت في مكانك إنها تنظر إليك!
كريستيان :
هذا صحيح. (ظل كريستيان غارقا في تأملاته بأعين مفتوحة، ورآه جماعة النشالين على تلك الحال، فاغر الفم مشدوها، متطلعا إلى المقاصير ببصره؛ فدنوا منه ليسرقوه.)
لينيير (إلى صاحبه) :
أنا ذاهب؛ فإن الظمأ قد اشتد بي، ولي صحاب ينتظرونني في المشارب والحانات (ويمشي مترنحا إلى الباب) .
لوبريه (يعود إلى حيث كان راجينو جالسا بعد أن طاف القاعة كلها، فلم يجد صديقه سيرانو، فيقول بصوت الواثق المطمئن) :
لم أعثر لسيرانو على أثر.
راجينو (وهو غير مصدق) :
ومع ذلك ...
لوبريه :
عندي بقية أمل، فلعله لم يقرأ الإعلان في الرواية.
النظارة (يملون بطول الانتظار، فترتفع الأصوات من كل جانب) :
الرواية! الرواية!
المشهد الثالث (ينزل الكونت دي جيش من مقصورة روكسان فيجتاز القاعة، يحيط به جمع كبير من السادات، وحملة الألقاب، ومن بينهم الكونت دي فلفير.)
المركيز الأول (يهمس لصاحب له) :
ألا ترى دي جيش كيف يمشي وسط حاشية كبيرة كأنه رب بلاط عظيم.
الماركيز الثاني (ساخرا) :
لا يغرنك ما ترى؛ فما هو إلا غسقوني كسائر الغسقونيين.
الأول :
ولكنه الغسقوني ذو الحلم والمداورة الذي يصل ... ويشق طريقه في الحياة، والرأي عندي أن لا خير في تجاهله، بل يحسن بنا أن نحييه. (يتقدم الأشراف نحو دي جيش.)
المركيز الثاني :
ما أجمل هذه الأشرطة والأوشحة، بأي لون تصفها يا كونت دي جيش، أتسميه قبلة الغرام، أم دم الغزلان ...؟
دي جيش :
أسميه مرض الإسبان!
المركيز الأول :
لقد صدق المظهر المخبر، فلن يلبث أمر إسبانيا في فلاندر أن يسوء بفضل شجاعتك.
الكونت دي جيش :
إنني متجه إلى المسرح، فهلا جئتم معي. (ويمضي إلى المسرح؛ فيتبعه الأشراف الشباب مع الحاشية المحيطة به، ولكنه يستدير فينادي): هلم يا فلفير. (كريستيان يسمع هذا الاسم فيجفل، ويخطر له أن يخرج قفازه من جيبه ليقذف به وجهه)
الفيكونت : ... لأقذفن به في وجهه ... في وجهه ... (ولكنه حين يدس يده في جيبه ليخرج القفاز يحس يد النشال فيمسك بها) ... وما هذا؟
النشال :
آه ...
كريستيان (بينما يظل قابضا على يد النشال) :
لقد كنت أبحث عن القفاز.
النشال (مبتسما متوسلا) :
ولكنك وجدت يدا (بصوت منخفض)
هلا تركتني، فإن عندي سرا أكاشفك به.
كريستيان (وهو لا يزال ممسكا بيده) :
وما هو هذا السر؟
النشال :
لقد كان معك منذ لحظة الشاعر لينيير.
كريستيان :
نعم، ثم ماذا؟
النشال :
إن حياته في خطر، فقد نظم قصيدة هجاء أغضبت عليه جهات عليا، وقد نظمت مؤامرة لقتله الليلة، وسيكمن له مائة رجل، وأنا أحدهم ليغتالوه ...
كريستيان (مندهشا) :
مائة رجل لرجل واحد، ولكن من هذا الذي دبر هذه المؤامرة؟
النشال :
هذا سر لن أبوح به.
كريستيان (يهز كتفيه) :
أي سر يا هذا؟
النشال (متصنعا الوقار) :
سر المهنة!
كريستيان :
وفي أي مكان سيكمنون؟
النشال :
عند بوابة نل، وفي وقت عودته إلى بيته ... فعليك أن تحذره.
كريستيان (يطلق يد اللص من قبضته) :
ولكن أين تراني واجده الساعة؟
النشال :
التمسه في الحانات، وطف عليه المشارب، اذهب إلى القنينة الذهبية، الأناناس، المنطقة والخصر، المشعلان، المداخن الثلاث، واترك في كل حان ومشرب خبرا ينبهه إلى ما يكاد له ليتقيه.
كريستيان :
ليكن، وهأنذا منطلق ... يا للأوغاد، أمائة رجل على رجل بمفرده (يلقي نظرة إلى روكسان، كلها وجد ولوعه)
يا ويح القلب، كيف أتركها الساعة وأمضي (يحدج فلفير شزر، ويصرف بأسنانه)
وهذا الوغد، أذاهب أنا عنه، ولكن ما العمل، ومن الشهامة أن أنقذ حياة لينيير؟ (ينصرف مسرعا) . (الكونت دي جيش، والأشراف الذين أحاطوا به قد تواروا خلف الستار ليأخذوا أماكنهم فوق المقاعد المصفوفة على جوانب المسرح، وكان الزحام على أشده، وامتلأت المقاعد والشرف بالمشاهدين، وهم في مضض من طول الانتظار.)
أحد النظارة :
ألا يبتدئ التمثيل؟ (وكان أحد الخبثاء في أعلى المسرح قد انتزع بخيط وشص الشعر المستعار عن رأس أحد رجال الطبقة البورجوازية، وكان هذا جالسا في بهو المسرح، فتلفت مذعورا؛ فانكشف رأسه الأصلع للنظارة؛ فتعالت الصيحات من الجمهور في فرح وسرور.)
البورجوازي :
شعري!
ثان :
ها ها ها ها!
ثالث :
إنه أصلع.
رابع :
مرحى، الخدم ... ها ها ها.
البورجوازي (يهز قبضة يده) :
ويحك أيها الشقي المهذار.
النظارة (صيحات الضحك والمرح) :
ها ... ها ... ها ... (ثم يسود السكون.)
لوبريه :
ما معنى هذا السكون الذي ساد هكذا بغتة؟ (أحدهم يهمس له) : أصحيح هذا الذي قلت؟
الهامس :
لقد سمعته اللحظة ممن أثق به.
همسات في الصفوف :
إنه هو بلا ريب! كلا ليس هو ... إنه في المقصورة الأولى ذات السياج ... الكردينال ... الكردينال!
أحد الخدم :
يا للشيطان، سيفسد حضوره علينا المرح والتسلية، ويلزمنا الأدب والسكون. (يسمع النظارة الطرقة الأولى على المسرح من خلف الستار فيخلدون إلى الهدوء، وتشرئب منهم الأعناق.)
صوت مركيز :
أطفئوا الشموع!
مركيز آخر (يطل برأسه بين شقي الستار) :
إلي بكرسي! (ينقل الكرسي من يد ليد فوق الرؤوس؛ فيتناوله المركيز، ويتوارى عن الأنظار، ولكن بعد أن يكون قد بعث قبلات بيديه إلى صاحبات المقصورات.)
أحد النظارة :
هدوءا. (يتوالى الدق ثلاثا، وترتفع الستار، فإذا السادات والنبلاء قد جلسوا على جانبيه، تبدو عليهم مظاهر العظمة، وكان المنظر يمثل مرعى نضيرا تعلوه سماء زرقاء، وقد أضيء قاع المسرح بأربع شموع في أوان بلورية.) (القيثارات تعزف في رفق.)
لوبريه (بصوت منخفض لراجينو) :
ماذا ترى الآن؟ ألا تظن أن مونفليري هو الذي سيظهر اللحظة على المسرح؟
راجينو (عندما بدا الممثل للأبصار) :
يا الله، إنه هو الذي سيبدأ.
لوبريه :
وها هو سيرانو لم يحضر!
راجينو :
نعم، وقد خسرت الرهان.
لوبريه :
قدر الله ولطف. (وبدا مونفليري بدينا ضخما في ثوب الرعاة، قد وضع فوق رأسه قبعة مكللة بالورد، متدلية على إحدى أذنيه، وهو يمسك بمزمار مزين بالأشرطة، ينفخ فيه فيرسل أنغاما موسيقية.) (واستقبله الجمهور بالتصفيق ... مونفليري ... مونفليري ...) (ينحني الممثل لهم شاكرا، ويبدأ التمثيل في دور فيدون.)
مونفليري :
السعيد من نأى بنفسه عن قصور الملوك، وقربة الأمراء، وآثر العزلة في الخلاء، وارتضى العيش في الأرض الفضاء، وحين تهب على الغاب أنفاس الهواء ...
صوت (من وسط المسرح) :
ويحك أيها الشقي، ألم أحرج عليك الظهور على المسرح شهرا كاملا ...؟ (وهنا يستولي الذهول على الجميع، وتدور الأنظار لترى من هذا الصائح المتوقح، ويسري الهمس في كل مكان، وتقف الغيد في المغاصير لتتبين ما جرى.)
أصوات متباينة :
عجبا؟ ما هذا؟ ما جلية الأمر؟
كويجي :
يا عجبا ... إنه هو؟
لوبريه (مرتاعا) :
سيرانو!
سيرانو :
يا أمير المهرجين، اترك المسرح في الحال.
الجمهور (غاضبا متذمرا) :
أف! أف!
الممثل (في اضطراب) :
ولكن ...
سيرانو :
ويحك أتتحداني بعصيان أمري؟
أصوات (من قاعة المسرح) :
سكوتا وكفى صياحا ... وأنت يا مونفليري استمر ولا تخف شيئا.
مونفليري : «السعيد من نأى بنفسه عن قصور الملوك، وقربة الأمراء ...»
سيرانو :
الويل لك يا شر الأشقياء ... ألا تريد أن تغرب من المسرح إلا إذا جئتك فأذقتك طعم عصاي؟ (وارتفعت عصا في يد ممسكة بها فوق رؤوس المشاهدين.)
مونفليري (يهم بالمضي في دوره مبتدئا) :
السعيد من ...
سيرانو :
انصرف قلت لك! (ويهز العصا في الفضاء) .
الجمهور (متذمرا) :
أف!
مونفليري (يمضي في دوره، ولكن صوته يختنق) :
السعيد من نأى بنفسه عن قصور ...
سيرانو (ينهض واقفا على كرسي وسط الصالة شابكا ذراعيه شبكة المتوعد، مرخيا قبعته في ناحية إرخاءة الغضب، جافل الشاربين من سورة الغيظ، وقد استطال أنفه المخيف) :
لقد بدأت أغضب، فحذار من غضبي وبطشي. (يشتد الهرج والمرج من هذه المباغتة العجيبة.)
المشهد الرابع
مونفليري (يدور بعينيه إلى الأشراف مروعا) :
النجدة أيها السادة.
المركيز (بغير اكتراث) :
استمر، استمر.
سيرانو (يصبح بالممثل) :
حذار أيها البدين، وإلا أوسعتك لطما.
المركيز :
كفى!
سيرانو (يلتفت إلى حيث كان النبلاء يجلسون) :
وإذا لم يمسك هؤلاء السادة ألسنتهم فسأضطر إلى إذاقتهم طعم عصاي.
النبلاء (ينهضون) :
حسبك يا هذا، وأنت يا مونفليري.
سيرانو :
إذا لم ينصرف مسرعا صلمت أذنيه، وقطعته إربا إربا.
صوت من المسرح :
ولكن ...
سيرانو :
لينصرف!
صوت آخر :
ومع ذلك ...
سيرانو :
ألم يذهب بعد، إذن فلأصعد إلى المسرح بنفسي فأفري هذا الإنسان اللحيم الشحيم فريا (يشمر عن ساعديه ليفعل) .
مونفليري (يحاول أن يهدئ من سورة غضبه متلطفا) :
إنك بإهانتي على هذه الصورة تغضب بنات الشعر.
سيرانو (في مثل لهجته) :
وهل لبنات الشعر بمثلك صلة، وأنت البطين الضخم الفاتر البليد الإحساس، لا والله لو أن لبنات الشعر معرفة بك لضربنك بنعالهن. (ترتفع الصيحات من القاعة، وتسود الفوضى، وتتردد الأصوات.)
النظارة :
مونفليري، مونفليري أنشد لنا قصيدة بارو.
سيرانو (إلى النظارة) :
أرجوكم أن تحذروا وإلا إذا استمر هرجكم هذا، وصياحكم؛ فإن سيفي لن يلبث أن يخرج من غمده. (ويتحسس مكان سيفه؛ فيتراجع الذين كانوا قد أحاطوا به من خيفته، ولكنهم يعاودون الصياح.)
النظارة :
حلمك يا هذا.
سيرانو (يلتفت إلى الممثل) :
هلم انصرف.
النظارة (يقتربون محتجين) :
أف لهذا! أف لهذا!
سيرانو (يلتفت فجأة) :
هل أراد أحدكم الكلام؟
صوت من الخلف (ينشد) :
السيد سيرانو يستبد بنا، ولكن ستمثل رواية كلوريز، رغم أنف الطاغية!
الجميع (ينشدون) :
كلوريز ... كلوريز.
سيرانو :
حسبكم أيها الأوغاد، لو سمعت هذه الأنشودة تعاد؛ لأفنيتكم جميعا.
أحدهم :
لست شمشون!
سيرانو :
أعرني إذن عظمة فكك أيها الرجل لأضرب بها هذه الوجوه، كما فعل شمشون بفك الحمار.
سيدة في مقصورتها :
هذا تهجم فظيع.
أحد السادة :
هذه فضيحة!
أحدهم :
شيء يغيظ!
أحد الخدم :
إنه لعبث سخيف! (وعادت الضجة أشد من قبل.)
القاعة :
هدوءا، مونفليري ... سيرانو ...
سيرانو :
سكوتا!
النظارة (يسخرون، وبعض الخبثاء فيهم يقلدون القطط، وصياح الديكة، ومختلف البهائم والأنعام) :
هي ها ... با ... أوا ...
سيرانو :
آمركم ...
أحد الخدم (يموء) :
مياو ...
سيرانو (يصيح بهم) :
إني آمركم جميعا بالتزام السكوت، وأتحداكم بجمعكم، بل إني لمدون عندي أسماءكم، فهلموا، تقدموا، وليبرز الشجعان فيكم والصناديد، صنديدا في إثر صنديد، وعلي أنا المناداة بالعديد تلو العديد، والآن من منكم يريد أن يفتح القائمة؟ وأين الشجاع البادئ بالمهاجمة؟ (يتطلع إلى الوجوه، ويمشي مستعرضا الصفوف، وهو لكل واحد منهم قائل)
أنت يا سيد ... أم أنت؟ أفكلكم لا؟ ألا من مبارز يتاح له شرف الموت من كفي لفضل السبق على الآخرين ... أيها السادة ... من يشتق إلى الموت فليرفع يده. (يسود السكون.)
سيرانو (صائحا) :
يا لكم من جبناء رعاديد، خفتم مشهد سيفي مجردا عن غمده، إذن ألا من مبارز؟ أفلا مناجز ... حسن ما أرى ... فلأمض فيما أريد. (يستدير ناحية المسرح حيث كان مونفليري قد وقف وهو في أشد حالات الاضطراب.)
سيرانو :
هلموا انكفئوا من حيث أتيتم نجيا سالمين، وإلا أعملت سيفي في الرقاب، (ويضع يده على مقبض حسامه ) .
مونفليري (بخوف) :
إنني ...
سيرانو (ينزل من كرسيه، ويتوسط حلقة المتفرجين الذين أحاطوا من حوله) :
سأصفق بيدي ثلاثا، وها أنتم قد اجتمع شملكم حولي، واكتمل كالبدر الممتلئ الباهر، ولكنكم بعد الثالثة «من التصفيق» ستخسفون خسوفا، وتذهبون أشتاتا. (فاستضحك الناس، وتماجنوا لهذا التشبيه الذي شبه فرارهم به.)
القاعة :
مرحى!
سيرانو (ولكنه لم يحفل بهم، وصفق صائحا) :
واحد! (مونفليري يرتاع ولا يدري ماذا هو صانع.)
صوت (من جانب المقاصير يهيب به) :
لا تذهب! (وانقسم الناس فريقين: فمن قائلين إنه سينصرف، ومن قائلين إنه سيصر على البقاء.)
القاعة :
لن ينصرف! بل سينصرف!
مونفليري (وهو يرفع بصره إلى الجمهور متلعثما) :
أظن أيها السادة.
سيرانو (يصفق صائحا) :
اثنين!
مونفليري :
أظن أنه من الحكمة في موقف كهذا ...
سيرانو (يعاجله بالتصفيق مناديا) :
ثلاثة! (مونفليري يفر مثل خطفة البرق كأن الأرض انشقت من تحته فابتلعته ...!) (النظارة يضحكون من فراره على تلك الصورة، ويطيلون صفير الاستهزاء.)
المتفرجون :
يا جبان ... يا جبان ... ارجع ولا تخف ...!
سيرانو (يطرب لهذا المشهد، وتنتفخ أوداجه؛ فيعود إلى مقعده، ويجلس شابكا ذراعيه) :
ليرجع إن استطاع.
أحد النظارة :
نادوا خطيب الفرقة. (يظهر الممثل بليروز، ويتقدم وينحني للجمهور محييا.)
الجمهور :
الممثل بلروز ... ها هو ذا سيتكلم؟
بلروز (بتؤدة مخاطبا الأشراف) :
سادي النبلاء.
الجمهور :
نريد جودوليه! نريد جودوليه.
جودوليه (يتكلم من أنفه مشمئزا) :
أيها العجول!
الجمهور :
مرحى، مرحى، استمر.
جوديليه :
لا مرحى يا سادة، ولا أحسنت، فإن ممثلكم المؤثر الذي تحبونه قد شعر بأنه ...
الجمهور (مقاطعا) :
إنه جبان.
جوديليه :
بأنه مضطر إلى الذهاب.
أصوات :
فليرجع.
أصوات أخرى :
لا، لا ...
أصوات :
ليرجع! ليرجع! ليرجع!
شاب من المتفرجين (يخاطب سيرانو) :
ولكن أرجو يا سيدي أن تبين لنا ما سر كراهيتك لمونفليري.
سيرانو (وهو لا يزال مستويا في مجلسه) :
لقد سألتني يا فرخ الإوز عما يدعوني إلى كراهيته، وجوابا عن سؤالك أقول: إن لهذه الكراهية سببين، كل منهما يكفي في ذاته مبررا، أما الأول فلأنه ممثل شنيع الإلقاء، غليظ الصوت، وهو حين يلقي الأبيات يتثاقل بها كأنما يمتح دلوا من بئر، فتذهب روعة الشعر في انطلاقته، ويتجمد نسيمه، وأما الثاني فذلك سر من أسراري لا أذيعه، ولا شأن لأحد به ...
شيخ (من خلفه باستياء) :
ولكن هذا عيب كان أولى بك الاستحياء منه، فقد حرمنا الليلة من مشاهدة رواية «كلوريز»، ولهذا أصر ...
سيرانو (يدور نحوه مقاطعا) :
أيها الشيخ المخرف، إن شعر بارو العجوز من سقط المتاع، وإني لمسرور أن أغنيكم عن سماعه دون أن يؤنبني ضميري على ذلك.
السيدات الأديبات المتحذلقات «اللاتي ازدانت بهن المقاصير» :
كيف تجترئ بهذا القول في حق شاعرنا «بارو»؟ هذا كثير! هذا كثير!
سيرانو (يحرك مقعده صوب مقاصيرهن متلطفا مداعبا) :
يا أملح الغيد، وأجمل بنات حواء، تلألأن كما تشأن، وأرسلن علينا من باهر ضيائكن، ووهج سبائكن، أليس حسبكن أنكن بالشعر إلى خواطرنا موحيات حتى تردن أن تكن له ناقدات؟
الممثل بلروز :
لقد أفسدت علينا مورد ليلتنا، ونحن مضطرون إلى رد ثمن التذاكر للمتفرجين ...
سيرانو (ملتفتا إليه) :
يا بلروز، هذه هي أول ملاحظة بارعة وجيهة سمعتها الليلة، فلا ويمين الله ما كان مثلي ليجرد الفن
2
من ثيابه (ثم ينهض من مجلسه فيخرج كيسا مليئا بالمال، ويطوح به على خشبة المسرح)
هاك التقط الكيس الذي أرمي به، وحسبك لا تجادلني فيما فعلت. (النظار يصيحون بدهشة بالغة ويهمهمون.)
جوديليه (يجري إلى الكيس فيلتقطه بفرح متناه، ويزنه في يده بسرور زائد مخاطبا سيرانو) :
إذا كان هذا هو الثمن يا سيدي فتعال كل يوم لتعطيل تمثيل مسرحية كلوريز. (النظارة ترتفع صيحات الاحتجاج والهمهمة.)
جودوليه :
أيستهزأ بنا جملة على هذا النحو؟
بلروز :
يجب إخلاء المسرح.
جودوليه :
تفضلوا يا حضرات، لقد أوقفنا الرواية. (فريق منهم ينصرفون، وسيرانو ينظر نظرة الارتياح، وتنهض السيدات في المقاصير ليرتدين معاطفهن استعدادا للخروج، ولكنهن لم يلبثن أن تلكأن، كما وقف كثيرون من النظارة في أماكنهم لسماع حوار قام في تلك اللحظة بين سيرانو وصديقه لوبريه، وعادت السيدات إلى الجلوس.)
لوبريه (معاتبا) :
إن هذا جنون يا صاح.
فضولي ثقيل :
لقد أسأت صنعا، واستهدفت للأذى، ألا تعلم أن مونفليري محسوب على الدوق دي كندال، وتحت رعايته، أفليس لك عظيم يحميك؟
سيرانو :
كلا.
الفضولي :
يا عجبا، أحقا ليس لك من عظيم يرعاك؟
سيرانو (مجيبا) :
قلت لك: كلا مرتين، فهل لا بد لي أن أعيد؟
لا أنا بحسيب على أحد، ولا أنا صنيعة لمخلوق، ولكن حسبي هذا السيف لي راعيا وحاميا (يقبض بيده على حسامه) .
الفضولي :
يجب إذن أن تغادر المدينة غير متردد.
سيرانو (متأففا) :
سنرى.
الفضولي :
إن للدوق باعا طويلا.
سيرانو :
ولكنه لن يوازي سيفي طولا إذا خرج من جرابه هكذا، (وراح يريه حسامه) .
الفضولي :
وهل تنوي أن ...
سيرانو :
نعم أنوي ذلك.
الفضولي :
ولكن ...
سيرانو :
قلت لك انطلق في وجهك، وإلا فخبرني يا هذا ما الذي جعلك تطيل النظر هكذا إلى أنفي ...؟!
الفضولي (بخوف وتلعثم) :
أنا؟!
سيرانو (يقترب منه) :
وما الذي يدهشك منه؟
الفضولي (يتراجع منتفضا من شدة الروع) :
إنك تخطئ يا سيدي.
سيرانو :
هل تراه متهدلا كالخرطوم؟
الفضولي :
حاشا يا مولاي، لم يخطر مطلقا لي ...
سيرانو :
أم تحسبه أعوج مقوسا كمنقار البوم؟
الفضولي :
حاشا، حاشا، والله ...
سيرانو :
أم تراك لمحت تؤلولا على أرنبته؟
الفضولي :
إني ...
سيرانو :
أم شهدت ذبابة تستنشق الهواء فوق قمته؟ وإلا فما الذي تراه عجيبا فيه؟
الفضولي :
ويحي.
سيرانو :
أهو فلتة من فلتات الطبيعة؟
الفضولي :
لقد تحاشيت يا سيدي أن أنظر إليه حتى النظرة العابرة.
سيرانو :
وما الذي منعك أن تتطلع إليه؟
الفضولي :
لقد كنت ...
سيرانو :
هل اشمئززت منه؟
الفضولي :
سيدي، حاشا لله.
سيرانو :
أم عفت قبح لونه؟
الفضولي :
سيدي!
سيرانو :
أم لم يرقك شكله؟
الفضولي :
أستغفر الله، ما عن هذا لخاطري.
سيرانو :
ما بالك إذن قد أبديت علامات التنفض، وأمارات التأفف والاستهزاء؟ أرأيته مفرطا في حجمه؟
الفضولي :
كلا يا سيدي، إنه صغير، عفوا، بل إنه لدقيق مفرط في دقته.
سيرانو :
أتجترئ يا هذا على وصفي بما يعاب، واتهامي بما يبعث السخرية والضحك أصغير أنفي؟ ... مهلا!
الفضولي :
يا إلهي!
سيرانو :
ويحك أيها المغفل الأحمق، والفضولي الذي يدخل فيما لا يعنيه، ألا فاعلم أنني بهذا الأنف الكبير لفخور، أفقد جهلت يا هذا أن كبر الأنف دليل على لطف النفس، ورقة الطبع، وعنوان الأدب والشجاعة، والأنفة والشمم، وهذا هو شأني، وتلك هي شيمتي، هيهات أن تتاح لمثلك، ويقع شيء منها لمن هم على شاكلتك أيها المخلوق الحقير، والصعلوك المهين، على حين يدل وجهك الكالح، وسحنتك الغبية، وصفحتك السميكة التي لن ألبث أن أصفعها الساعة، على التجرد (يلطمه فيصرخ) .
الفضولي :
أواه ...
سيرانو :
أي والله، على التجرد من الشعور والكرامة في ملامح العبقرية، ومجمل القول من الأنف، تجرد ركلة من حذائي تصيب أسفل ظهرك من هذه الصفات (يمسك بكتفيه، ويديره إليه، ويركله بقدمه في ظهره ركلة قوية) .
الفضولي (يتخلص منه) :
النجدة، النجدة، أيها الجنود، إلي أيها الشرطة.
سيرانو (إلى الذين أحاطوا به) :
أفرأيتم ما صنعت بهذا الفضولي الثقيل، فليكن هذا نذيرا مني لمعاشر الحمقى والمغفلين الذين يجدون في هذا الجزء الناتئ من وجهي مجالا للغزل والسخرية، ومادة للنكات والمجون، فإنني لمذيقهم من هذا، أما إذا كان الماجن نبيلا، والمهذار شريفا، فإني غير مفارق مكاني حتى أطعمه من مذاق سيفي، بدلا من نعلي وخفي. (كان النبلاء والأشراف في هذه اللحظة قد نزلوا من المسرح فسمعوا هذا النذير الذي أطلقه سيرانو فيمن حوله.)
دي جيش (لرفاقه) :
لقد تمادى هذا الرجل في غيه، وأصبح ثقيلا علينا.
الكونت دي فلفير (يهز كتفيه) :
إنه لمغرور مدع.
دي جيش :
ألا من أحد يسكته؟
المركيز دي فلفير (غاضبا) :
أتسأل ألا من أحد؟ مهلا بعض هذا التجاهل؛ فإني مبادره بشيء من سخريتي وازدرائي، ودعابتي واستهزائي، اسمع يا هذا (يتقدم إلى سيرانو، ولم يكن قد فاته شيء من كلام المركيز ومراده)
سيدي إن أنفك ... ولكن لست أدري والله ماذا أنا قائل ... إن أنفك يا صاح مفرط في حجمه كثيرا.
سيرانو (يلتفت إليه بطرف من نظره، وبمنتهى البرود والسخرية) :
أحقا؟
المركيز (يضحك حتى يكاد يستلقي) :
ماذا تعنى؟
سيرانو (هادئا كالصخرة الصماء) :
أهذا ما عندك؟
المركيز :
ولكن ...
سيرانو (غاضبا) :
أيها الشاب الغر، أراك أوجزت وقصرت فيما وصفت، والموصوف مديد مستطيل، لقد كان يصح أن تقول في وصفه الشيء الكثير وتعدد، ويطول بك نفس الكلام ويمتد، ولا يعوزك في أفانين القول وضروبه إلا التنويع في لهجته وأسلوبه، فأما وقد عجزت، ولم تنصف أنفي بل ظلمت، فاسمع فنونا من القول فيه: فإن أردت لهجة المهاجم المتحدي، قلت: «لو أن لي أنفا كأنفك يا سيدي لبترته من ميدان وجهي واستأصلته»، وإن شئت لهجة الصديق قلت: «إن أنفك يا سيدي ينغمس في كأس شرابك، فخير لك أن تصنع له وعاء خاصا»، وإن أردت مجرد الوصف قلت: «ليس هذا بأنف، إنه لصخرة ناتئة من جبل، أو قلة قائمة فوق طود، أو رأس مشرف على بحر، لا والله، بل إنه في الحق أدنى إلى شبه جزيرة شبها»، أما إذا قصدت العجب واستغربت، فإنك قائل: لعمر الله ما أولى بهذا العقاص المستطيل الأجوف أن يروح للمقص جرابا، وأن يكون للخنجر غمدا، أو ما بالك يا سيدي لا تتخذ منه دواة ليكون للمداد مددا، وإذا أنت أردت الإشادة بالفضل، وإبراز المحامد، قلت: «أحسبك على الطير مشفقا، وعلى العصافير حانيا، فجعلت لها من أنفك الطويل مأوى لها، تقع عليه لتسكن، وإذا قصدت إلى الجفوة، ورمت قولا عنيفا، فما أراك إلا قائلا: «إذا دخنت لفائف تبغك، فخرجت ذوائب الدخان منبعثة من هذه الماسورة التي في وجهك، أفلا يتصايح الجيران: «لقد شب في المدخنة حريق!!» وفي مقام التنبيه والتحذير، يصح لك أن تقول: «أخشى عليك يا سيدي أن ينقلب رأسك في الهوة إلى أسفل، وترتفع قدماك، إذا أنت أطرقت برأسك وفيه هذا الثقل، الذي يختل به توازنك.
وفي مجال التحبب والعطف، جاز لك أن تقول: ألا من مظلة صغيرة نقيمها من فوق أنفك، خشية على لونه الزاهي من شعاع الشمس أن تنطفئ، ومخافة على أديمه البراق أن تتصل، وحين تريد التباهي بالعلم الواسع، وادعاء المعرفة والاصطلاح تنشئ تقول: «أكبر الظن أن الحيوان الذي أطلق عليه (أرستوفانيس)
3
اسم هيبو كامبلفانتو كاميلوس
4
كان دون شك يحمل تحت جبهته هذه الكتلة المجتمعة من اللحم فوق هذه الكتلة المجتمعة من العظم».
وإن أحببت مجونا قلت: «إن أنفك يا صات هو إحدى المبتكرات في صناعة المشاجب لتعليق القبعات».
وإذا أردت التوكيد فإنك قائل: «أيها الأنف الجليل، ليس في الرياح ما يستطيع أن يصيبك بوعكة البرد، إلا أن تكون رياح «المسترال».»
5
وإن عمدت إلى لغة التمثيل والتهويل، قلت: إن هذا الأنف الضخم إذا دمي فهو البحر الأحمر.
وفي باب الإعجاب والاستحسان تقول: هو إعلان على دكان لبيع الروائح العطرية، وتقطير الزهر والريحان»، وعلى سبيل التغني: «أأنت تربتون،
6
وهذا الأنف بوقه؟»
فإن آثرت الوقار قلت: «دعني يا سيدي أحييك بوصفك من ذوي الأملاك، وهذا الأنف دارك». وفي لغة البساطة أنت قائل: «في أية ساعة من النهار، يمكن الدخول لمشاهدة هذا المتحف، أو دار الآثار؟»
فإذا أردت تشبيهات الفلاحين. تقول: «لا تخدعني ما هذا بأنف يا بني! إن هو إلا لفتة عملاقة، أو شمامة قميئة». وفي لغة رجال الحرب تقول: «صوب فوهته إلا الفرسان».
وفي الأساليب المالية، لك أن تقول: «لو عملت عليه «يا نصيب» لفاز بالربح الأوفى دون شك».
وإن شئت تحويرا لمرثاة بيرام، قلت: «هو ذا الأنف الذي يفسد على وجه صاحبه جماله وتناسقه، كيف احمر خجلا من شعوره بالجرم في حقه والخيانة».
7
فمثل هذا يا سيدي العزيز وأشباهه كان جائزا لك أن تقوله لو أنك أوتيت أقل نصيب من ذكاء، أو أدنى حظ من أدب وعلم.
ولكنك أيها المسكين الذي يرثى له لم تصب من الذكاء ذروة، ولم تظفر من بحر العلم بقطرة، وما وعيت من أفانين القراءة والكتابة إلى أربعة أحرف مركبة، وإذا تهجيتها كانت لك صفة مناسبة، وهذه الأحرف تجمعها كلمة «حمار».
وأما عن الذكاء، فلو أنك أوتيت القدر الضروري منه، لما رضيت لنفسك في معرض مجانتك وعبثك أمام هذا الجمع الكبير من السامعين أن تقف عند نكتة واحدة، وهي في ذاتها باردة، فتفسح بذلك لي المجال لقول ما قلت، وتخدمني في سياق كل هذه الأوصاف والتشبيهات التي سقت، ولئن رأيتني قد وصفت بها نفسي، ورضيتها في معرض الكلام عن شخصيتي، فإني لا أقبل عشر معشارها من أي إنسان، كائنا من كان.
الفيكونت دي جيش :
هلم إذن أيها الفيكونت! (يتميز غضبا)
كل هذا الصلف والكبرياء! ومن ريفي حقير ليس لديه ... ليس لديه حتى قفاز، ويسير بدون أشرطة أو أربطة.
سيرانو :
إن تيهي إنما هو تيه النفس الباطنة، فلست أقنع بمخادعة نفسي كما تفعل الببغاء، بل إني أكثر إباء وشمما، مني نزاعا إلى الظهور، وليس دأبي أن أمضي في طريقي بأي حال من الأحوال قبل أن أمحو الإهانة، وأزيل آثارها، وما أنا لأقعد وغمة بضميري، أو انتقاص بكرامتي، أو سبة بجبيني، إن ريشة المجد هي صراحتي، واستقلال شخصيتي، ولا أتحدث عن القوام المنسق الجميل، بل إنها نفسي هي التي أقمعها، فأمضي في حياتي تشرفني أعمالي لا الأشرطة، وإني لأشذب نفسي كما يشذب الشارب، ويدقق طرفاه، وعندما أشق طريقي وسط الجمع أرسل الحقائق؛ فيكون لها رنين نخز مهماز الفارس.
فالفير :
ولكن يا سيدي ...
سيرانو :
ليس لدي قفاز؟ وهذا أمر جلل! لم يكن لدي سوى زوج واحد قديم، لم ألبث أن أحسست به عبئا ثقيلا ...؛ فألقيت به في وجه واحد من الناس.
الفيكونت :
وغد، دنيء، نفاية من نفايات الأرض.
سيرانو (يرفع قبعته محييا كأن الفيكونت قد أقبل يقدم نفسه إليه) :
ماذا تقول؟ وأنا سيرانو سافينيان هركيول دي برجراك.
الفيكونت (بغيظ) :
بهلول.
سيرانو (يتلوى وينثني وينفرد، كأنما قد التوى عضل فيه، أو ضلع من أضلاعه، وهو يصيح منه شاكيا) :
أواه!
الفيكونت (وكان قد هم بأن ينصرف، فلما سمع ذلك منه التفت إليه) :
ماذا قال أيضا هذا المخلوق؟
سيرانو :
ها هو ذا يتحرك، وأخشى أن يتوتر ويتخشب، وأحسب الكسل والفراغ، وانقطاع الحركة هي العلة والسبب (ويمضي في تأوهه وتوجعه) .
الفيكونت :
ما الذي تشكو منه وتتلوى يا هذا؟
سيرانو :
أصاب سيفي تشنج، فهو في غمده مضطرب متهيج.
الفكيونت (يستل سيف) :
هلم إذن.
سيرانو :
إنني لمشعرك منه ضربة صغيرة، وقدة يسيرة.
الفيكونت (باحتقار) :
كلام شاعر.
سيرانو :
أي والله إني لشاعر، وبرهاني أنني ونحن متجالدان مرتجل أمامك أبياتا من الشعر الغنائي.
الفيكونت :
من الشعر الغنائي؟
سيرانو :
هل تريد أن أعرفك ما هو هذا «الضرب» منه؟
الفيكونت (مرتبكا) :
ولكن ...
سيرانو (بلهجة المدرس الذي يلقن تلاميذه درسا يستظهرونه) :
اعلم يا فتى أن الأغنية، أو القطعة الغنائية من الشعر هي قصيدة تتألف من ثلاث مقطعات، كل منها تحتوي على ثمانية أبيات.
الفيكونت (يضرب الأرض بقدميه متأففا ضجرا) :
أف.
سيرانو (مسترسلا في تلقينه) :
وهي تنتهي بمقطع أو ختام يتألف من أربعة أبيات.
الفيكونت (ضجرا) :
إنك ...
سيرانو (لم يترك له مجالا للقول) :
وإني لمنشدك قطعة من هذا الضرب من الشعر، أو توشيحا على غراره، ونحن نتجالد بالسيف ونتبارز، ثم لا أكاد أبلغ منها المقطع، حتى أكون قد أنفذت فيك الطعنة الأولى والأخيرة.
الفيكونت :
هيهات.
سيرانو :
كيف هيهات، وإني لمبتدئ من اللحظة فمرتجل مقدمة الأبيات، وهي عند البداية واجبة: (المبارزة في فندق بورغونيا ناشبة، بين دي برجراك وأحد الأوغاد.)
وما موضع هذا من القصيدة الغنائية؟
سيرانو :
هذا هو الرأس منها والعنوان، فلنتم الآن. (عند ذلك يستولي على جميع الحاضرين في الملهى اضطراب بالغ، وحماسة متناهية؛ فيتزاحمون ويتدافعون.)
أحدهم :
أفسحوا المكان؛ لنرى النزال بينهما، والطعان، ولتكف الأصوات لنسمع الأبيات. (ينظم القوم دائرة، واختلط الأشراف والنبلاء فيهم بالعامة والغوغاء، وتسلق المجنة والخبثاء أكتاف صحابهم والخلطاء ليشرفوا على سير المبارزة الدائرة.) (تقف الحسان والغيد في المقاصر متطلعات قلقات، بينما ينتحي الكونت بحاشيته إلى اليمين، ويجتمع أنصار سيرانو ومريدوه: لوبريه، وراجينو، وكويجي إلى اليسار.)
سيرانو (يغمض عينيه برهة) :
مهلا ولو ثانية، حتى أختار لأبياتي الروي والقافية، (يم ينشد مطابقا بين كل لفظة من شعره، وبين كل حركة من كره وفره) «إني لأخلع في فرح قبعتي، وأنزع عن كتفي عباءتي، لتخلص لي وثبتي وحركتي، ثم أستل حسامي المصقول، فأجول به وأصول، كأني «سلادون» خفة وخطرانا، ورشاقة ودورانا، أو «سكاراموش»
8
ثم أختلس همسة في أذنك، وهي أني في النهاية طاعنك، ومع الختام مصيبك، (وهنا يبدأ النزال)
كان خيرا لك لو لبثت محايدا وتطامنت، ولقدر نفسك عرفت، فليت شعري من أي موضع فيك أبعث الموت؟ ... أمن خاصرتك، أم تحت إبطك، أمن قلبك، أم من تحت وشاحك الأزرق الذي يلي الصدر؟ يا للغناء العذب المشنف، في قراع السيف، فإني يا ميرميدون،
9
حتما للكرش والخوف مع الختام مصيب ...» «ألا من قافية على حرف التاء المربوطة، أيتها المسكينة «البياض» المتلوية المتخبطة، ألا من قافية تناسب رعشتك البادية؟ كأنك الريشة القلقة في مهاب الرياح الجارفة، وي، هأنذا من ذبابة سيفك ألتمس واقيا، ومن الطعنة التي أردتها ناجيا، وأما أنت إذن فخذ، ولا تنس أني في المقطع الأخير مصيب ...»، (وهنا يهبط صوته منشدا الختام شاديا)
والآن صل على روحك قبل أن تطير إلى السماء؛ فهأنذا أتقدم إليك الخطوة الباقية ليكون الغناء ... (فإذا بالفيكونت يتراجع مدبرا، ويترنح متقهقرا) .
سيرانو :
ألم أنبئك أني في المقطع الأخير مصيب؟ (يدوي المكان بالتصفيق، وترتفع الأصوات بالهتاف، وصياح الاستحسان، وتشترك في التصفيق الغيد والحسان، وينثرن على الشجاع سيرانو الزهر، والمناديل والرياحين، ويطوف به الفوارس مهنئين، ويرقص راجينو صاحب الخان في الهواء، ويقفز من فرط السرور، ويبدو الفرح على وجه لوبريه، ولكنه يلبث قلقا في موضعه، منشغل البال بينما يحمل الفيكونت الجريح أصحابه، وينصرفون به مبتعدين.)
الجمهور :
يعيش، يعيش، يعيش!
أحد الفرسان :
عظيم!
امرأة :
جميل!
راجينو :
مدهش!
ماركيز :
نوع من النزال جديد! (ويعود الجمهور فيرسل هتافا يشق السماء، ويحيط بسيرانو.)
لوبريه :
يبهر الأنظار.
صوت امرأة :
إنه لبطل مغوار.
فارس (وهو يبسط له يديه) :
اسمح لي يا سيدي، فلعمر الحق ما في العالم أبدع مما رأينا، وأنا في مثله حكم ترضى حكومته، ولقد شهدت براعتك فما ملكت نفسي من ضرب الأرض بقدمي إعجابا (وينصرف مسرعا) .
سيرانو (إلى كويجي) :
من يكون هذا السيد الذي انصرف اللحظة؟
كويجي :
هذا دارتانيان، يا عجبا ألم تكن تعرفه؟
لوبريه :
كلمة لي معك (ويمسكه من ذراعه لينصرف به، ولكنه لا يذهب) .
سيرانو :
انتظر حتى ينصرف الناس (مخاطبا الممثل بلروز)
أتأذن لي في البقاء؟
بلروز (باحترام) :
بلا شك. (تسمع جلبة في الخارج، وصيحات متعالية.)
جودوليه :
ما هذه الجلبة في الخارج ؟ إن الجمهور يصفق خلف مونفليري تصفيق الاستهزاء.
بلروز (مخاطبا حراس الباب) :
هلموا أخرجوا الناس، وأغلقوا الأبواب، ولكن اتركوا الأنوار، فإنا سنتناول العشاء، ولكننا سنعود بعد ذلك للتمرن والمذاكرة في أدوارنا الليلة القادمة. (وينحني الممثلان لسيرانو تحية مؤدبة، وينصرفان عنه.)
البواب (لسيرانو) :
وأنت يا سيدي أذاهب لتناول العشاء؟
سيرانو :
كلا. (البواب ينصرف.)
لوبريه :
ولماذا لا تلتمس العشاء؟
سيرانو (بأنفة وكبرياء) :
لأنني ... (ويتهمل حتى يتوارى البواب)
ذلك لأنني لا أملك درهما.
لوبريه (بدهشة وهو يمثل حركة التطويح بكيس النقود) :
كيف؟ وكيس النقود؟
سيرانو :
فكرت كما يفكر الأب، إننا نعيش من يوم ليوم!
لوبريه :
يا عجبا لك ... ومم أنت منفق الشهر كله؟
سيرانو :
لم أعد أملك شيئا.
لوبريه (وهو في أشد الدهشة) :
رمي الكيس حماقة ما بعدها حماقة!
سيرانو :
ولكنه عمل جميل، وفعلة رائعة، ألا تراها كذلك؟ (وكانت الفتاة التي تبيع الحلوى والأشربة في المقصف واقفة من خلفهما، وقد سمعت حوارهما؛ فسعلت سعلة ظاهرة، فالتفتا نحوها، وتقدمت وجلة إلى سيرانو.)
البائعة :
يؤلمني يا سيدي أن أراك ممسكا عن الطعام، وها هو ذا المقصف خذ منه كفو حاجتك (بحرارة) ، هيا تناول منه ما يطيب لك.
سيرانو (وهو يرفع قبعته إكبارا واحتراما لشعورها) :
أيتها الصبية الرفيقة الحانية، لئن كان إبائي وعزة نفسي، وحفاظي وكرامتي تنهاني جميعا عن أن أتقبل أي عطاء مهما قل وضؤل من يديك، فإن خوفي من جرح شعورك برفضي، وإيلام نفسك بإمساكي ليتغلبان عندي على الكرامة والإباء، فلا يسعني إلا القبول (يتقدم إلى المقصف)
فليكن حسبي هذا القدر القليل ... سآخذ هذه الأعناب، وتقدم الفتاة العنقود كله، وتعرض عليه شرابا، ولكنه يدفعها.
سيرانو :
بل شربة من ماء قراح أفضل، ثم نصف قطعة من البقسماط. (وكانت قد تقدمت إليه بقطعة كاملة، فرد النصف الآخر إليها.)
لوبريه :
يا لك من أحمق!
الفتاة :
ألا تأخذ شيئا آخر؟
سيرانو :
نعم يدك لأقبلها ... (وينحني على يد الفتاة يقبلها كما لو كانت يد أميرة عظيمة، وتنحني له بأدب كثير: شكرا لك أيها السيد الكريم، وطاب ليلك.) (تنصرف مسرعة.)
المشهد الخامس
سيرانو (يكلم لوبريه) :
الآن هات ما عندك؛ فإني مستمع لك. (يقف قبالة البوفيه، ويضع البقسماط أمامه)
العشاء أولا (ثم يمد يده إلى الأعناب، فيجعل صفحتها بجانب البقسماط ثم الشراب، ويلقي قدح الماء حياله)
ثم الفاكهة (ويأخذ له مجلسا قبالة عشائه)
الآن إلى المائدة. يا لله ... لقد كنت في الواقع جائعا في مثل سغب الطير الجارحة (يتناول الطعام)
لقد كنت الآن تقول؟
لوبريه :
إن أولئك المنتفخين الذين يزدهيهم حديث النزال والطعان لن يلبثوا أن يذهبوا بلبك، ويفسدوا عليك عقلك، فإذا لم تصدقني، فسل من كان به مسكة من عقل عن عقبى هذه الجرأة المتناهية.
سيرانو (وقد انتهى من تناول البقسماط) :
بقسماط فاخر.
لوبريه :
الكردينال.
سيرانو (متهللا) :
أكان حاضرا الكردينال؟
لوبريه :
نعم، ولا بد أنه كان من رأيه ...
سيرانو :
إنها مبتكرة.
لوبريه :
ومع ذلك ...
سيرانو :
إنه مؤلف، وأكبر ظني أنه يسره أن أمنع تمثيل رواية لزميل له.
لوبريه (غاضبا) :
إنك بمثل هذا ونحوه تكثر أعداءك، وتزيد خصومك وحاقديك.
سيرانو (وهو يتناول الأعناب) :
كم بلغ عددهم الليلة في اعتقادك؟
لوبريه :
أربعون لا أقل، من غير أن نعد السيدات.
سيرانو (مازحا) :
حسنا، عدهم لي.
لوبريه :
مونفليري أولا، ثم السيد الذي نهرته، ثم دي جيش، والفيكونت، والمؤلف بارو، والمجمع العلمي.
سيرانو :
كفى، إنك لمسعدي.
لوبريه :
ولكن إلى أية نتيجة ستؤدي بك هذه التصرفات الغريبة، في النهاية هلا شرحت لي غرضك منها ومرادك؟ خبرني ماذا تبغي من ورائها.
سيرانو :
ماذا تريد أن أقول لك؟ لقد وجدتني في تيه متشعب المسالك، متناوح الدروب، ورأسي أمام منافذ وسبل كثيرة متفرقة؛ فضللت وتهت؛ فأخذت ...
لوبريه :
أيها أخذت؟
سيرانو :
أسهلها، لقد وطنت النفس على أن أصيب الإعجاب في كل شيء.
لوبريه (يهز كتفيه) :
ليكن ذلك، فما سر كراهيتك لمونفليري، السحر الحقيقي، قل لي.
سيرانو (ناهضا) :
هاك باعثا على بغضائه فاسمع: إن هذا الممثل البطين، سيلنوس
10
العجوز هذا، ذا الكرش الضخم لا يزال يحسب نفسه خطرا على الغيد، كارثة على ربات الجمال، من تنظر إليه منهن، تقع في حبه، ومن تنظر إليه تستهم به فهو حين تهدر شفاشفه، في تمثيل دوره، ويسيل لعابه، ويتساقط ريقه، يروح يلعب بحاجبيه، ويغمز بطرفيه، نحو مقاصيرهن، ويضرب بعينين غليظتين كعيني الضفدع، ولقد كرهته من تلك الليلة التي تجرأ فيها؛ فرفع عينيه إليها، حتى خيل إلي أني رأيت «حلزونا» قد دب لينفث لعابه فوق غلاف زهرة على فروعها يانعة.
لوبريه (مندهشا) :
عجبا، أو فيمكن أن تكون ...؟
سيرانو (يقاطعه ضاحكا ضحكة مريرة حزينة) :
في حب؟ أي والله أنا أحب.
لوبريه :
وهل يجوز لي أن أعرف من تكون؟ لأنك لم تقل لي شيئا عن هذا قبل الآن.
سيرانو :
أي والله إني محب، ولكنه الحب البائس لا أمل فيه، حب لا بصيص رجاء يشع عليه، ولا علاقة فيه لتبادل، حتى ولا من جانب فتاة مسيحية فقيرة شوهاء، إذ لعمرك أية فتاة تحبني، وأنا بهذا الأنف القبيح المركب في وجهي، هذا الأنف المستطيل الذي يسبقني أينما سرت، ويتقدمني باعا كلما مشيت؟ ولكني مع ذلك أحسست حبا، فهل تدري من تلك التي أحببت؟ لقد أبى القدر العجيب إلا أن أحب أجمل نساء الأرض، فليت شعري ماذا كانت الحال لو كان الأمر بالعكس؟
لوبريه :
يا لله أجمل نساء الأرض تقول!
سيرانو :
نعم ... أجمل النساء كافة، وأذكاهن عقلا، وأرقهن حاشية، ثم أفتنهن لون شعر، وذهب جدائل.
لوبريه :
ومن هي؟ بربك قل لي.
سيرانو :
هي الخطر تمثل إنسانا سويا، والفتنة المميتة تجسمت بشرية، براءة كلها ونقاء، مليئة بمفتن وبهاء، وهي بها غير آبهة ولا دارية، كأنها وردة حلوة عطرة، فخ من فخاخ الطبيعة، بين لفائفها وأوراقها يكمن «كيوبيد» إله الحب في خفية، فمن رآها تبتسم رأى الكمال الإنساني مائلا، وإنها لتقطر ملاحة، فتجعل لأتفه الأشياء شأنا، وتضفي عليه من حسنها حسنا، في كل حركة منها، وإشارة نقاء سماوي وطهارة، فلا والله ما «فينوس» نفسها على زورقها الصدفي في البحر ماخرا، كمثلها وهي على المحفة سائرة، ولا «ديانا» ذاتها، وهي تجوب الغابة في الربيع الزاهر خاطرة لتعدل جمال تهاديها وخطراتها مجتازة بك عابرة.
لوبريه :
يا للشيطان لقد وضح الآن لي من تعني.
سيرانو :
بل أوضح من النهار.
لوبريه :
إنها ابنة عمك مجدولين روبان، المشهورة بروكسان.
سيرانو :
أجل روكسان.
لوبريه :
لا بأس من ذلك ولا ضير، بل لعل فيه الخير، ولكن لماذا لا تبوح لها بحبك وقد شاهدت الليلة انتصارك وعلو شأنك.
سيرانو :
أطل النظر في وجهي، ثم خبرني بأي أمل أيها الصديق يوحي إلى قلبي هذا الأنف الناتئ في وجهي، ما أنا بالذي يغري نفسه بخداع الآمال، وينساق مع كواذب الأماني، ولكني لا أكتمك يا صاحبي أن هناك أويقات تمر علي أحس فيها أحيانا بحنان يسيل على قلبي، ونشوة حب تخامرني إذا أتى أزرق المساء، فأدخل روضة ناضرة عطرة، أستنشق بأنفي الكبير المتقوس أرجها ورياها، وأملأ صدري من نفحات الربيع المبكر، وقد يتاح لي أثناء ذلك أن أرى في الشعاع الفضي شبح عاشقين يمسك أحدهما بذراع الآخر، فأتمنى لو صحبتني كهذا الهمام غادة تمسك بذراعي أنا أيضا، ونمشي معا بخطى صغيرة في ضوء القمر الساهي، ولا يني الخيال يستخفني، ويطير بي حتى تصدمني الحقيقة، وتتبدد الأماني والأحلام فجأة حين أرى ظل وجهي مبتسما على حائط الروض.
لوبريه (متأثرا) :
واها لك أيها الصديق.
سيرانو :
إنه في الحق لأليم أن أشعر أحيانا بوحدتي ووحشتي، وأتبين النحس المقترن بقبح سحنتي.
لوبريه :
أتبكي؟
سيرانو :
لا يا سيدي، ولن تراني باكيا أبد الدهر، وهل هناك أقبح منظرا من دمعة تنحدر على ذلك الأنف الطويل، إنني لن أترك ما حييت ذلك الجمال المائل في الدموع يخالط القبح ويجانسه، أتعرف يا صاحبي ما الدموع؟ لا شيء أنبل منها في الكون وأغلى، لا شيء ... ولا أريد أن أريق واحدة منها تكون عرضة للضحك والسخرية.
لوبريه (يهز رأسه) :
هون عليك ولا تحزن، الحب أحاظ وجدود.
سيرانو :
لا، انظر إلي، هل أنا قيصر فأهيم بكليوباترة، أو أنا فينوس فأحب برنيس؟
لوبريه :
إن لك يا صديقي شجاعتك، وعقلك ... أنسيت الفتاة الصغيرة التي عرضت عليك الساعة الطعام والشراب ... وهل رأيت كيف أن عينيها سكنتا إليك، وأعجبتا بك؟
سيرانو :
أي والله، لقد كان ذلك.
لوبريه :
ما بالك إذن تستسلم هكذا لليأس؟ فلقد والله رأيت روكسان نفسها شاحبة اللون، وهي ترقب المبارزة وتتبعها.
سيرانو :
أكانت حقا شاحبة؟
لوبريه :
إن قلبها وخاطرها لفي عجب؛ فتشجع وتحدث إليها لعلها ...
سيرانو :
تسخر من قبحي ... لا، فإن هذا هو الشيء الوحيد في العالم الذي أخشاه. (يدخل حارس الملهى.)
الحارس :
سيدة تسأل عنك يا سيدي.
سيرانو (يلمح وصيفة روكسان قادمة إليه) :
يا إلهي هذه وصيفتها.
المشهد السادس
الوصيفة :
كلفت يا سيدي بأن أعرف في أي مكان يصلح لسيدة معروفة أن تقابل ابن عمها الشجاع الباسل على انفراد بمنأى عن العيون والرقباء ...
سيرانو :
أتريد مقابلتي أنا؟
الوصيفة :
نعم يا سيدي، إنها تريد أن تتحدث إليك في أمر ما.
سيرانو :
في أمر ما؟ يا للعجب، وماذا عسى أن يكون؟
الوصيفة :
في شئون خاصة يا سيدي.
سيرانو :
يا إلهي.
الوصيفة :
غدا حين يتورد وجه النهار، ويصطبغ محيا الصباح بأرجوان الشق، ستذهب للصلاة في كنيسة سان روك.
سيرانو :
يا إلهي؟
الوصيفة :
ففي أي مكان بعد الصلاة تستطيع سيدتي أن تخلو بك ... عجل بالجواب؟
سيرانو :
دعني أفكر! في مطعم ... راجينو ... الحلواني ...
الوصيفة :
وأين يكون؟
سيرانو :
في شارع (ينسى من فرط اضطرابه مكان الحان)
في شارع سان أونوريه! ...
الوصيفة :
حسنا يا سيدي ... فلتكن في انتظارنا هناك في السابعة من الصباح.
سيرانو :
بلا أدنى شك.
المشهد السابع
سيرانو (مضطرب الفؤاد مرتميا على صدر صاحبه) :
يا الله ... أموعد منها؟ ...
لوبريه :
لا تحزن إذن، ولا تبتئس بعد الآن.
سيرانو :
لتحترق الدنيا، وليفن العالم فما أحفل اليوم به ... إذ حسبي أنها قد عرفت أن سيرانو في هذا العالم يحيا.
لوبريه :
والآن لعلك تهدأ؟
سيرانو :
الآن ... ولكني الآن في جنة، أنا عاصفة تهدر، وسماء تصعق ... ألا من جيش كامل أنازله ... فإن لي الآن عشرة قلوب تخفق في صدري، وإن لي عشرين ذراعا ... ولا يكفيني الأقزام لأقدها بسيفي ... ألا من عمالقة؟ (تبدو أشباح الممثلين في هذه اللحظة على المسرح، وأصواتهم الخافتة تترامى في الردهة، وقد بدأوا يتمرنون على إلقاء أدوارهم في الرواية القادمة.)
أحدهم (وقد سمع صوت سيرانو) :
ما هذه الأصوات، ونحن نتمرن على الرواية؟
سيرانو (إلى الممثلين الواقفين فوق المسرح وديعا ضاحكا) :
لا بأس ... سنذهب في الحال (ولكنه عند الباب يرى كويجي، وبريساي، وبعض الضباط والجنود، وقد حملوا رجلا من فرط السكر لم تعد ساقاه تقويان على حمله) .
كويجي :
لقد أحضروا إليك رجلا أخذ فيه الشراب ...
سيرانو (وقد عرفه) :
يا عجبا ... هذا لينيير، فماذا؟
كويجي :
إنه يبحث عنك ...
بريساي :
ولا يجرء على الذهاب إلى بيته.
سيرانو :
ما الذي يمنعه من ذلك؟
لينيير :
لقد جاءني هذا الكتاب ينبئني بأن مائة رجل سيكمنون لي عند بوابة «نل» ليقتلوني، وما أحسب إلا أنهم قد استؤجروا شفاء لموجدة، ورغبة في انتقام، ولعلك لم تنس أنت تلك القصيدة الهجائية التي قلتها، ولا بد لي من المرور بذلك الموضع في طريقي الليلة إلى بيتي، ولست على هذا جريئا، فهلا أذنت لي في المبيت الليلة تحت سقف بيتك.
سيرانو :
أتقول مائة رجل؟ يمين الرحمن إنك الليلة ستنام في بيتي. لينيير: ولكن ... كيف يا صاح وأنا ...
سيرانو (في عنف وصوت قاصف، مشيرا إلى المصباح المضاء الذي يحمله بواب المسرح، وكان هذا هاجه الفضول؛ فتلكأ ليسمع الحديث) :
خذ المصباح منه. (لينيير مذعنا لا يقول شيئا.)
سيرانو :
هيا بنا ... وأقسم لك إنني سأهيئ لك مرقدك بنفسي في هذه الليلة (إلى الضباط والجنود)
اتبعونا، ولكن عن بعد ... لتكونوا على ما سيجري شهودا.
كويجي :
ولكن مائة رجل ...
سيرانو :
لو كانوا دون ذلك لما رضيت قتالا ... (وكان الممثلون والممثلات في ثياب التمثيل قد نزلوا في تلك اللحظة من المسرح، ووقفوا يصغون إلى الحديث.)
لوبريه :
وعلام تورط نفسك في أمر كهذا؟
سيرانو :
يا عجبا لوبريه الذي يعلم، هو الذي يؤنب ويلوم.
لوبريه :
ولكن ألذلك السكير الحقير؟ ...
سيرانو (مقاطعا وهو يأخذ لينيير تحت جناحه، ويربت على كتفه ملاطفا) :
اعلم أن هذا السكير الذي يملأ كل ليلة جوفه خمرا، بل هذا الدن أو الراقود، فعل ذات يوم فعلة جميلة، وذلك أنه بينما كان يهم بالخروج من الكنيسة بعد الصلاة إذ رأى حبيبته وهي تشرب من الماء المقدس، فما كان منه وهو الذي يعاقر الخمر، ويعاف الماء القراح إلا أن أسرع نحو جرن الماء المقدس، فشرب ذلك الماء إلى آخر قطرة.
إحدى الممثلات (في زي وصيفة) :
حقا إنه لعمل جميل.
سيرانو :
ألم أقل الحق أيتها الوصيفة؟
الوصيفة (للآخرين) :
ولكن لماذا يتألب مائة على شاعر مسكين كهذا، وأي ذنب جناه؟ (ولكن أحدا لم يجبها عن سؤالها ...)
سيرانو :
هلموا بنا ... (إلى الضباط)
وأنتم أيها السادة حين ترونني أحمل على القوم لا يتقدم أحد منكم نحوي لمعونة، ولا تحاولوا مددا ...
ممثلة أخرى (تقفز من فوق المسرح) :
لكم الله ... خذوني معكم لأشاهد وأرى.
سيرانو (لها ضاحكا) :
هيا إذن معنا.
ممثل (يقفز من مكانه في البهو، ويلتفت إلى زميل له) :
وأنت ألا تذهب معنا لتشهد كيف يخضب الدم الثرى
سيرانو :
تعالوا جميعا ... وهلموا بجمعكم ... ليكتمل المهرجان بكم، ويقترن من هذه الرواية التي ستمثل ... الجد فيها بالمهزلة، والوقار بالسخرية ... (النساء جميعا يتراقصن من الفرح، ويصفقن، وترتفع الأصوات.)
سيرانو :
لتبدأ فرقة الموسيقى عزف دور المسير. (يتألف موكب بديع ينضم ضاربو الكمان إليه، وينتزعون الشموع التي تضيء جوانب المسرح ليتخذوا منها مشاعل في الطريق وأنواره.)
سيرانو : (يتقدم الضباط والجنود، تتلوهم النساء أترابا، في أرديتهم، وثياب تمثيلهم أسرابا، وعلى عشرين خطوة من ورائهن)
سأمشي أنا بمفردي، تحت هذه الريشة التي زان المجد بها قبعتي، فخورا معتزا بشجاعتي وكرامتي، ولكن حذار أن يتقدم أحد لمعونتي ... والآن هلموا، واحد، اثنان، ثلاثة، يا حارس! افتح الأبواب. (وهنا تلوح باريس للعيان في سر الليل الرهيب، وهي تمتد وتتباعد، تحت ضياء القمر.)
سيرانو :
ها هي ذي باريس قد لفها الليل بسواد ردائه، وها هو ذا القمر يسيل لجين ضيائه على منحدر السقوف الزرقاء، فما أنسبه لمعركة الليل زينة، وما أجمله لصورتها إطارا، بل ها هو ذا نهر السين كالمرأة الساحرة يرعش ويضطرب تحت وشاح من البخار، وما هي إلا لحظة حتى تشاهدوا ما أنتم مشاهدوه ...
الجميع :
إلى باب نل ... إلى باب نل ...
سيرانو (على عتبة الباب صارخا) :
نعم إلى باب نل، إلى الممثلة التي كانت منذ لحظة تسأل عن سر تألب مائة رجل على رجل، ألم تسألي يا فتاة: ما الذي جمع مائة رجل على واحد بمفرده؟ (يستل سيفه)
السر يا حسناء أنهم عرفوا أن ذلك الرجل صاحبي، ولعنة الله على من يخذل صاحبه ... (ينطلق منصرفا، يجري لينيير في أثره مترنحا متعثرا، يتبعه الجمع من الضباط، والجنود، والممثلين، والممثلات بينما راحت الموسيقى تدق أعذب النغمات، والليل رهيب، والمشاعل ترسل ظلالا متراقصة.)
الفصل الثاني
المنظر (مطعم الشعراء)
كان راجينو «الحلواني» و«الكبابجي» يطل على شارعين: شارع سان أندريه، وشارع لابرسك، أي الشجرة الجافة.
المنضدة الرخامية المستطيلة التي تصف فوقها الصحاف والأكواب قد أقيم فوقها رف من صلب علقت بالخطاطيف منه أنواع الطير مختلفة بين إوز وبط وديكة، وهناك أوان من الخزف تحمل باقات من الزهر، وأصص من عباد الشمس، وغيره من الأزهار ... ثم موقد لدفء طيب، ونار مشبوبة من فوقها سفاقيد، وأوعية للشواء والطهي بأنواعه، وعن اليمين سلم قليل الدرجات، يؤدي إلى غرفة ذات مائدة لمن يريد الخلوة إلى طعام وشراب، وقد انفرع عن السلم دهليز خشبي يفضي إلى غرف أخرى مماثلة ... وفي وسط الحانون يتدلى طوق كبير من حديد له بكرة لرفعه وخفضه، وقد استدارت من حوله لحوم الصيد ...
وكانت (الأفران) تبدو من تحت السلم من لهبها الحمراء، ونيرانها المتقدة، وقد برقت عندها الآنية النحاسية من صقلتها ولمعانها، واجتمعت أكوام من المآكل والأطعمة في أشكال هندسية مربعات، ومخاريط كالأهرام.
وكان النهار قد طلع وبدأت الحركة في المطعم لإعداد معدات اليوم ومطالبه ... وصبيان الطهاة في شغل رائحين غداة ... والطباخون السمان البطان، ومن يلونهم من الخدم والغلمان في الطهي وضعوا قلانسهم البيضاء فوق رؤوسهم مزدانة بريش كثير من ريش الديكة والدجاج، وهم يحملون فوق ألواح معدنية، أو خيزرانية أكداسا مكدسة من الفطائر، والكعك، وصنوف الحلوى.
وفي نواحي الحانوت وأرجائه مناضد صفت حولها الكراسي، ووضع عليها ما لذ وطاب من صنوف المآكل، وصحاف الطعام.
المشهد الأول (يشاهد راجينو عند رفع الستار جالسا إلى منضدة صغيرة قائمة في ركن من الحانون، عليها الدفاتر والأوراق ... وهو منهمك في الكتابة، سابح المخيلة، رافع بصره إلى السماء، يعد على أصابعه بين لحظة وأخرى.)
طاه (يحمل وعاء ممتلئا بالحلوى) :
حلوى بالفاكهة ... «نوجا».
طاه ثان (يحمل طبقا) :
حلوى «كستر».
طاه ثالث (يحمل ديكا محمرا فوق ريشه) :
طاووس.
طاه رابع (يحمل صينية عليها فطائر الحلوى) :
فطائر رقاق.
طاه خامس (يحمل قدرا) :
مرق لحم بقري. (راجينو ينقطع عن الكتابة، ويرفع عن الدفاتر رأسه.)
راجينو (لنفسه) :
ها هو الفجر قد بدأت تتألق فضته على الآنية النحاسية، ولا تزال يا راجينو مضطرا إلى خلق وحي الشاعرية للذي يطير في صدرك، ولن تلبث أن تحين ساعة الغناء، وألحان القيثار ... الآن سأعد «المواقد» والأفران ... (ثم ينهض من مجلسه، ويوجه كلاما لأحد الطهاة)
هذا المرق سميك يا هذا ألا خففته؟
الطاهي :
إلى أي قدر أخففه؟
راجينو :
اسكب عليه الماء حتى يرتفع إلى ثلاثة أقدام. (يبتعد عنه.)
الطاهي :
كذا!
الطاهي الأول :
إلي «بالتورتة»!
الطاهي الثاني :
لقمة القاضي!
راجينو (يقف أمام موقد قريب منه) :
يا بنات الشعر، عودي إلى خدورك لئلا تلتهب الأعين الساحرة من أجيج النيران الثائرة. (طاه يقربه ويعرض عليه خبزا)
لقد أخطأت وأسأت التقسيم، ألا تعلم أن المقطع ينبغي أن يكون بين المصراعين لوزن الشطرين؟ (إلى آخر يعرض عليه فطيرة كبيرة لم تستكمل نضجها) ، هذا قصر بلا سقف، فأضف له سقفا (وإلى طاه ثالث من ناشئة الطهاة، وكان يشوي دجاجا على السفود)
وأنت يا بني، أراك لا ينضج لك شواء، إنك تنظم الدجاجة الصغيرة مع الديك الكبير في سفود واحد، وكان يجب أن تنظم كالشاعر «ما لرب» البيوت الطويلة متناوبة مع البيوت القصيرة، وأن تدير على النار مجموعات متراصة من الشواء.
طاه ناشئ (يتقدم من صنعة الحلوى، يحمل وعاء مغطى) :
لقد تذكرت أيها «المعلم» ذوقك، وما تحب ويروقك، فاصطنعت هذا الصنف لك فعله سيسرك (يكشف الغلام عندئذ عن فطيرة مطهوة في شكل قيثارة) ...
راجينو :
متهلل الوجه: قيثارة؟
الطاهي الناشئ :
نعم ... وهي من الدقيق، والزبد، والبيض، والسكر ...
راجينو (متأثرا) :
وفواكه مجففة مسكرة.
الطاهي الناشئ :
ألا ترى إلى أوتاره كيف صنعتها من السكر؟
راجينو (ينفحه ببعض الدراهم) :
خذ هذا لتشرب كأسا في صحتي ... (يرى زوجته ليز قادمة)
اذهب ولا تبطئ، وأخف القطعة التي أعطيتك (ويتجه صوب ليز امرأته، فيريها القيثار، وبه حرج)
أليست رائعة؟
ليزا (متأففة ضجرة) :
إنها لسخافة وعبث (تضع على المنضدة رزما من أوراق ولفائف لتصطنع منها أكياسا صغارا لصنع الحلوى) .
راجينو :
ما هذا؟ أأكياسا أرى؟ شكرا لك (يدنو من الأوراق ليتأملها)
يا إلهي كتبي المبجلة، وقصائد أصحابي، سولت لك النفس تمزيقها على هذه الصورة وتشويهها، لتصطنعي منها أكياسا للفطائر، ها أنت تعيدين تمثيل القصة القديمة ... قصة أورفيوس، وكاهنات باخوس.
1
ليزا (بجفوة) :
ألست حرة على الأقل في الانتفاع بهذا الشيء الوحيد الذي يتركه كتابك الأردياء أصحاب الأشعار المبتورة ثمنا لما طعموا وشربوا؟
راجينو :
أيتها النملة ... لا تسبي الجنادب المقدسة، معاشر الشعراء الصادحين بأعذب الشعر وأحلاه نغما.
ليزا :
لم تكن قبل معرفتك بهذه الطغمة من الصحاب والأصدقاء تدعوني نملة، وتشبهني بكاهنات باخوس.
راجينو :
أهكذا بالشعر تصنعين؟!
ليزا :
لا شيء خلاف ذلك.
راجينو :
وما تصنعين إذن بالنثر يا سيدتي؟
المشهد الثاني (يدخل غلامان صغيران يقفزان قفزا.)
راجينو :
ماذا تطلبان أيها الصغيران؟
أحدهما :
ثلاث فطائر.
راجينو (بعد أن يعطيهما) :
انظر كيف هي طازجة ساخنة.
الغلام الثاني :
هلا تفضلت يا سيدي فلففتها لنا.
راجينو (وهو حائر متألم يقول لنفسه) :
يا للأسف! سأفارق قصيدة من قصائد أصحابي (إلى الغلامين)
أو لا بد من لفها؟ (يتناول كيسا من الورق، ويهم بأن يضع فيه الفطائر لولا أن أخذت عينيه من الكيس هذا الشطر «ولما فارق عولص حسناء بنيلوب» ... ليس هذا! (وتناول كيسا آخر، وكاد يضع الحلوى في جوفه لولا أن قرأ على ظاهره) «فيبيس الشقراء» ... لا، لا، ليس هذا.
ليزا (وقد عيل صبرها) :
ما هذا التلكؤ؟
راجينو :
ها هو، ها هو، ها هو. (يتناول كيسا ثالثا بيد راعشة مستسلمة، ويلقي عليه نظرة ... ثم يقول) «أغنية المناجاة ... إلى فيليس»، فلتكن هذه وإن كان فراقي لها محزنا قاسيا.
ليزا :
الحمد لله على أنك انتهيت من تخير الأكياس أخيرا (تهز كتفيها) ، يا لك من متردد جبان
2 (تصعد مقعدا، وتصف الصحاف، وتنسق الآنية) .
راجينو (يراها متولية عنه، فيغفلها فينادي الغلامين، وكانا قد بلغا الباب) :
هلا رددتما لي «مناجاة فيليس»، وأخذتما ست قطائر بدلا من ثلاث؟ (فما إن يسمع الصبيان هذه المساومة الرابحة حتى يدفعا بالكيس إليه، ويتناولا الفطائر الست، وينصرفا مسرعين.)
راجينو (ينشر الورقة، ويتلو ما فيها من الشعر) :
فيليس! يا أسفاه على هذا الاسم البديع الفاتن، الحلو الرنين ... فيليس لقد تلوث بزبد الفطيرة.
المشهد الثالث (يدخل سيرانو مسرعا.)
سيرانو :
كم الساعة الآن؟
راجينو (وقد رأى سيرانو يدخل الحانوت مسرعا، ينحني انحناءة بالغة) :
أحسبها السادسة.
سيرانو (بلهجة حماسة وانفعال وقلق) :
لم يبق إذن على الموعد غير ساعة واحدة (يذرع الحانوت ذهابا وجيئة، ويمشي راجينو في أثره) .
راجينو :
مرحى! لقد رأيت ...
سيرانو :
ماذا؟
راجينو :
معركتكم ...
سيرانو :
أية معركة؟
راجينو :
المعركة الرائعة التي جرت في فندق بورغونيا.
سيرانو (بازدراء) :
آه ... المبارزة!
راجينو :
أجل ... المبارزة في الشعر.
ليزا :
هو هكذا أبدا، لا يتكلم في شيء سواه.
سيرانو :
ما في ذلك من بأس.
راجينو (يجرح نفسه بسفود أمسك به) :
وفي المقطع الأخير أصيب! وفي المقطع الأخير أصيب! حقا إن هذا لبديع.
سيرانو (بقلق وصبر نافد) :
كم الساعة الآن يا راجينو؟
راجينو (وكان قد وقف يلوح بسفوده كأنه السيف في كفه مقلدا سيرانو حين كان يجالد المركيز، ويصوب الطعنات إليه؛ فأمسك بصره إلى الساعة المعلقة فوق الجدار) :
الدقيقة الخامسة بعد السادسة، ولكن دعني أتمثل بختام الأبيات المرتجلة حيث تقول: «في المقطع الأخير أصيب» ... لي الله ما أشوقني إلى نظم موشح غنائي.
سيرانو :
بإزاء المنضدة الرخامية المستطيلة، ويسلم على ليزا وهو شارد الفكر، فترى يده جريحة.
ليزا :
ما الذي أصاب يدك؟
سيرانو :
لا شيء، جرح خفيف.
راجينو :
هل جرى لك حادث سوء، أو تعرضت لخطر؟
سيرانو :
لا شيء مطلقا.
ليزا (تهدده بإصبعها) :
لست تقول حقا.
سيرانو :
وهل رأيت أنفي يرعش وأنا أتكلم؟ إن مثل هذه الحركة تدل على إفك عظيم (يغير لهجته)
إنني أنتظر هنا بعض الناس، فإذا جاءوا فاتركونا وحدنا، ولا تزعجونا لشيء ما حتى ولو قامت القيامة، وأزفت الآزفة.
راجينو :
ولكن هذا مستحيل؛ فإن أصحابي الشعراء قادمون.
ليزا (بتهكم لاذع) :
لكي يتناولوا وجبتهم الأولى.
سيرانو (للحلواني متلطفا) :
أرجو أن تتنحى بهم ناحية حين ترى إشارة مني ... خبرني كم الساعة الآن؟
راجينو :
السادسة وعشر دقائق.
سيرانو (يفتقد مجلس راجينو إزاء منضدته، وهو في حال من القلق ظاهرة، يتناول ورقة من فوقها) :
علي بقلم.
راجينو (يدفع إليه بالقلم الذي كان قد وضعه خلف إحدى أذنيه) :
هاكه فإنه من ريش بجعة. (يدخل الحانوت فارس من حرس الملك، له شارب كبير.)
الفارس (بصوت راعد) :
طاب صباحكم. (ليزا تسرع إليه.)
سيرانو (متأملا) :
من هذا؟
راجينو :
هذا صاحب لزوجتي، وهو جندي مخيف، ومقاتل جبار كما يزعم هو عن نفسه.
سيرانو (يتناول القلم في يده ويشير إلى راجينو ليبتعد) :
سكوتا (ثم يناجي نفسه)
أكتب الكتاب وأطويه ... وأدفع به إليها، وأنطلق هربا (ولكنه يلقي بالقلم من كفه)
يا لي من جبان ... يخيل إلي أنني أموت، أو أصعق قبل أن أجترئ على مفاتحتها بما في فؤادي، أو أنطق أمامها بكلمة واحدة (إلى راجينو)
كم الساعة؟
راجينو :
السادسة والربع.
سيرانو (يضرب صدره بيده) :
ألا من كلمة واحدة من الكلمات التي يزخر بها صدري هذا! (يتناول القلم مرة ثانية) .
والآن لأكتب هذه الرسالة الغرامية التي ألفتها، وأعدتها في نفسي مائة مرة ومرة ... وما علي إلا أن أضع روحي بجانب القرطاس لأنسخ صورة مما فيها عليه (وبينما هو مكب على الكتاب لاحت له من وراء الباب الزجاجي أشباح هزيلة مترددة) .
المشهد الرابع
ليزا (إلى زوجها مهرعة، غضبى، متبرمة) :
ها هم أولاء شعراؤك المهلهلون قد حضروا. (يدخل الشعراء في ثياب سود، ترتمي أطراف جواربهم فوق وجوه أحذيتهم؛ لافتقارها إلى الحمائل والأربطة، وهم شعث، غبر، تتلطخ بالأوحال أرديتهم.)
أولهم (إلى راجينو محييا) :
السلام على نسيبي في الشعر والفن.
الثاني (باليد مصافحا) :
سلام على نسيبي العزيز.
الثالث (مناديا) :
تحية لك أيها النسر المحلق وسط طهاة الحلوى والفطير (يرفع أنفه ليشم الفطائر)
حقا ما أزكى رائحة عشك.
الرابع :
لقد انقلبت «فيبيس» ربة النور حلوانيا ...
الخامس :
السلام على «أبوللون»
3
رب الطهاة البارعين. (يجتمعون من حوله يعانقونه، ويتملقونه، ويدورون به.)
راجينو :
ما أروح النفس إليكم، وما آنس الخاطر بكم، كلما اجتمعتم تهللت لكم الروح تهللا.
الأول :
لقد عاقتنا جموع الغوغاء عن البكور إليك، فإن الزحام كان شديدا حول «بوابة نل».
الثاني :
وقد تجمهر الناس، وأحاطوا بجثث ثمانية من اللصوص كانت طريحة فوق الأفاريز مثخنة الجراح، كست أديم الأرض خضابا.
سيرانو (مكبا على الكتاب الذي بين يديه، ولكنه إذ يسمع صوت هذا الراوي يرفع بصره) :
ثمانية! كنت أظنهم سبعة. (يعاود الكتابة) .
راجينو (لسيرانو) :
وهل عرفت يا سيدي من يكون بطل المعركة؟
سيرانو (دون أن يرفع إليه ناظره، أو يحتفل بالجواب) :
لست أنا ...
ليزا (إلى الفارس) :
وأنت هل تعرفه؟
الفارس (وهو يفتل شاربيه) :
ربما ...
سيرانو (وهو لا يزال منشغلا بكتابته مغمغما) : «أحبك ... أحبك ...»
الشاعر الأول :
ولقد سمعت بأن رجلا واحدا هو الذي دوخ عصابة بأكملها، وبدد شملها! ...
الثاني :
يا له من مشهد عجيب، الهراوات والأسنة كانت تغطي الأرض! ...
سيرانو (لا يزال يكتب) :
وإن عينيك.
الثالث (في حماسة بالغة) :
وكان الناس يجدون القبعات والقلانس حتى ساحل نهر السين.
الأول :
يا لله لا بد أن يكون ذلك البطل وحشا ضاريا ...
سيرانو (كدأبه) :
وإن شفتيك ...
الأول :
لقد كان صاحب هذه الفعال الجسام بلا ريب ماردا جبارا يقذف الرعب في القلوب ...
سيرانو (مكبا على القرطاس) :
وحين أراك دانية أنتفض من الرعب، وتسري الرعدة في أوصالي ...
الثاني (وهو يلتهم فطيرة أهوى عليها) :
ألا تنشدنا يا راجينو مما نظمت أخيرا؟
سيرانو (وقد هم في تلك اللحظة أن يمهر الكتاب بتوقيعه) :
من الذي يهواك؟ (ولكنه أمسك ونهض من مجلسه، ودس الكتاب طي ثوبه)
لا ضرورة للتوقيع ما دمت سأدفع إليها الكتاب بنفسي .
راجينو (للشاعر الثاني) :
لقد وصفت وصفة من الفطير في قصيدة خريدة من الشعر الذي اختمر في صدري.
الثالث (وقد جلس إلى صحيفة حوت قطعة من الحلوى المزيجة بالقشدة) :
هلم أسمعنا ما قلت؛ فكلنا آذان ...
الرابع (ينظر إلى فطيرة قد تناولها صاحبه) :
ما لي أرى قبعتها منحرفة إلى ناحية، ألا يحسن أن نأتيها بأسناننا ننقص من أطرافها لتعتدل، ويستقيم غطاء رأسها ... (ويهوي على الفطيرة فيقضم رأسها) .
الأول :
انظروا إلى هذه الكيكة المحلاة بالجنزبيل، إنها لتغمز للشاعر الساغب بعينيها اللوزيتين، وحاجبيها المصنوعتين من حشيشة الملائكة، فتستبيه بحسنها الفتان (يلتهمها التهامة الحوت المفترس) .
الثاني :
أسمعنا قصيدتك.
الثالث (يضرب بأصبعه جوف فطيرة محشوة بالقشدة) :
يا لله ما بالها، هكذا تومض ضاحكة حتى ليسيل عسلها على جوانبها، وينبعث من جوفها الدسم الشهي للطاعمين.
الثاني (وقد أنشب أسنانه في الفطيرة المصنوعة على صورة القيثارة) :
يا لله! هذه هي أول مرة في حياتي تغذيني القيثارة فيها أشهى الأنغام مؤنة ...
راجينو (استعد للإنشاد فتنحنح، وسعل وأرخى قبعته على جبينه، ووقف وقفة شاعر معجب بنفسه) :
إليكم قصيدتي في وصفة اللوزينج. (الشعراء في شغل بالتهام الفطائر، والانقضاض على الكعك والحلوى.)
الثاني (للأول وهو يدفعه بمرفقه) :
أتتناول طعام إفطارك؟
الأول (للثاني) :
أتتناول عشاءك؟
راجينو :
والآن إليكم وصفة كعكة اللوز.
اخفق البيض خفيفا، ولكن مسرعا ... حتى يتكاتف زلاله مع محه فلا يكون مائعا، وأخلط مع خفضه به عصير ليمون طيبا رائعا ... وضع على الخليط اللبن واللوز معا ... ثم أحط خصر القالب الجميل بالعجين، وخطط على القمة التقاسم برفق ولين ... واقطر المزيج بخفة ورشرشة ... وهات القشدة الصريحة المنعشة، فاسكب منها سكبا طيبا ... وأدخل القوالب في الفرن قالبا قالبا ... فإذا أخرجتها كانت محمرة الأديم ... وظفرت من أكلها بمتاع ونعيم ... وصحت في فرح وحمية ... إنها لوزية أي لوزية!
الشعراء (ترتفع أصوات الشعراء بالهتاف، وقد امتلأت بالفطائر أشداقهم) :
عظيم! لذيذ!
شاعر (يكاد يختنق من الطعام) :
أحسنت! (الشعراء ينصرفون إلى موضع آخر من الحانوت وهم منتفخو الأشداق بالطعام.)
سيرانو (لراجينو، وكان يتأمل هذا المشهد الغريب) :
ألم تر إليهم كيف يطربهم صوتك؛ فشرهوا على الطعام؟
راجينو :
نعم رأيت ذلك، ولكني تظاهرت بأني لا أرى حياء منهم، وخوفا من إيلامهم، وهكذا أكتسب سرورا مضاعفا، وأجني لذة مزدوجة حين أنشدهم أشعاري؛ لأنني أتركهم أحرارا يأكل منهم من لم يأكل، وفي الوقت ذاته أحقق شهوتي للشعر، وهو ضعف في ممتع.
سيرانو (وهو يربت على كتفه) :
إنك تعجبني! (ينصرف الحلواني لينضم إلى رفاقه، يتبعه سيرانو بناظريه، ثم ينادي زوجة الحلواني بحدة، وكانت تتحدث إلى الفارس حديث الغرام)
ما الأمر يا ليز، أهذا الضابط يحاصرك؟
ليزا (بغضب) :
إن نظرة ازدراء واحدة مني تعرف كيف تقهر أي رجل إن هو اجترأ على عفافي وفضائلي.
سيرانو (بسخرية) :
لكني أرى الأعين القاهرة ضعيفة مستسلمة ...
ليزا (تستشيط غضبا) :
ولكن ...
سيرانو (بلهجة حادة قاطعة) :
إنني أحب راجينو، وأنت فلتعلمي يا سيدة ليز أنني لن أسمح بأن يجعل ضحكة من أحد مهما كان شأنه.
ليزا :
ولكن ... (تحاول ليزا أن تتكلم، ولكنه يستبقها رافعا صوته بالنذير والوعيد لكي يبلغ ذلك الجريء الفاجر الذي يغازلها.)
سيرانو :
ليتعظ من يسمع. (يحيي الضابط، ويمضي إلى الباب القصي ليراقب بعد أن تطلع إلى ساعة الجدار.)
ليزا (إلى الضابط، وكان هذا قد رد على تحية سيرانو فحسب) :
إني لأتعجب منك ... أهذا كل جوابك؟ هل فاتك أنفه؟
الضابط (مرتبكا) :
أي والله، إنه أنفه، حقا إن أنفه ... (يتقدم ولكن في ناحية بعيدة متحاشيا الدنو من سيرانو، وهي تتبعه وتتأثره لتعرف أين هو ملتمس أن يذهب.)
سيرانو (وهو لدى الباب يشير إلى راجينو ليصرف الشعراء بعيدا) :
هيا (فينتحي الحلواني بالشعراء إلى ناحية الباب الأيمن) .
راجينو :
تعالوا بنا إلى هذه الحجرة؛ فنستمتع بخلوة لنا طيبة.
سيرانو (وقد عيل صبره) :
هيا، هيا (يبتعد راجينو بهم أكثر من ذلك وأنأى) .
راجينو :
تعالو معي لمطارحة الشعر.
الشاعر الأول (ولا يزال فمه بالفطير مزدحما) :
إلى أين؟ إلى أين؟ والفطائر! ...
الثاني :
نأخذها معنا. (يهجمون على الأواني والأوعية هجمة مضرية، حتى يتركوها من الحلوى والأطعمة خالية، ويذهبون في صف متتابع رهيب في أثر راجينو.)
المشهد الخامس
سيرانو (لنفسه) :
إذا أنا لمحت أقل بارقة من الأمل دفعت بالكتاب إليها (تدخل روكسان وقد أرخت على محياها نقابا، وفي أثرها وصيفتها، وهي تتهادى متقدمة نحوه، وخيالها يلوح له خلف زجاج الباب؛ فيبادر إليه يفتحه على عجل)
ادخلا (للوصيفة)
كلمتان معك يا سيدتي.
الوصيفة :
بل أربعا يا مولاي.
سيرانو :
هل تحبين الطعام الشهي؟
الوصيفة :
آكل حتى ينتابني منه المرض.
سيرانو (يمد يده إلى الأكياس الورقية فوق المنضدة فيتناول جملة منها) :
بديع ما تقولين ... أفرأيت إلى هاتين القصيدتين الغنائيتين للشاعر بنسراد؟
الوصيفة (بوجه يرثى له) :
تبا لك.
سيرانو :
سأملأ هذين الكيسين اللذين يحويانها بالكعك والفطير ...
الوصيفة (متغيرة الوجه) :
مرحى.
سيرانو :
وما رأيك في الحلواء التي يسمونها القطائف.
الوصيفة :
إذا حشيت بالقشدة كانت آية عجبا.
سيرانو :
ها هي ذي ست منها أسقطها لك في قلب قصيدة للشاعر «سان أمانت»، وأزيدك عليها في هذا الكيس الحاوي لأبيات من شعر شابلان قطعة أخرى أخف وزنا، ولكن أوفر عسلا وسمنا ... والآن هل تحبين الفطير الساخن الخارج لساعته من اللهب؟
الوصيفة :
من صميم القلب.
سيرانو (يملأ حضنها بالأكياس من مختلف الصنوف والأشكال مزدحمة) :
هيا كلي، واستمتعي بمذاقها في الشارع.
الوصيفة (بتردد) :
ولكن يا سيدي ...
سيرانو (يصرفها برفق) :
إياك أن تعودي قبل أن تأتي على آخر واحدة منها. (يغلق الباب في أثرها، ويتقدم إلى روكسان فيحسر عن رأسه محييا، ويقف على خطوات منها وقفة أدب بالغ، واحترام كثير.)
المشهد السادس
سيرانو :
أسعد باللحظة التي تنازلت فيها إلى التفكير في وجود رجل مثلي يتنفس في هذه الدنيا ويعيش ... وتفضلك بالمجيء لتخبريني ... لتخبريني؟
روكسان (معاجلة وقد حسرت النقاب عن محياها) :
بل لأشكرك أولا، فإن ذلك الكونت الدعي الخليع الذي هزمته ليلة أمس بسيفك البتار هو الذي كان أحد كبار الأشراف الهائم بحبي ...
سيرانو :
الكونت دي جيش؟
روكسان (وهي تخفض الطرف) :
يريد أن يفرضه علي فرضا، ويحملني على الرضى به زوجا.
سيرانو (بلهجة مرة لذاعة) :
يا عجبا زوجا لمثلك ... زوجا مزيفا ... (منحنيا بالتحية) : ما أهنأني يا سيدتي الكريمة أن أعلم الساعة أني كنت أقاتله في سبيل عينيك الساحرتين، ولم أكن أقاتله من أجل أنفي القبيح.
روكسان :
وثانيا أردت ... ولكن قبل أن أبوح بما جئت أعترف لك به، أود أن أجد فيك مرة أخرى الصديق الأخ الذي كنته في أيام الطفولة البريئة، أيام كنا نرتع ونستبق في الغاب على ضفاف البحيرة ...
سيرانو :
نعم، وكنت تأتين إلى برجراك كل صيف ...
روكسان :
أفذاكر أنت القصب كيف كنت تقتطع من خشبه مضارب وسيوفا؟
سيرانو :
نعم، إني له لذاكر، فهل تذكرين كيف كنت تتخذين من «شواشي» الذرة جدائل لعرائسك؟
روكسان :
تلك أيام ملاعب ولهو.
سيرانو :
وعليق حامض لم يتم نضجه.
روكسان :
ولقد كنت في تلك الأيام تفعلين كل ما أريد.
سيرانو :
وكانت روكسان في ثوبها القصير تدعى مادلين ...
روكسان :
أكانت جميلة في تلك الأيام؟
سيرانو :
بهجة الخاطر كنت، ومسرة العين.
روكسان :
كم من أحيان كنت تأتي من التسلق دامي اليدين، وكنت أنا إذ أراك هكذا، أمثل دور الأم فأقسو عليك وأؤنبك (تتناول يده في كفها) ، ولكن ما هذا الخدش الذي أرى؟ (وقد استولت عليها الدهشة وهي ترى خدشا آخر) : يا إلهي، وهذا خدش آخر. (ويهم سيرانو بسحب يده من إمساكتها.)
روكسان :
كلا، دعني أرى، حتى بعد أن كبرت سنا، وأين حدث لك هذا؟
سيرانو :
أصابني وأنا ألعب وألهو عند بوابة نل.
روكسان (تجلس إلى مائدة، وتغمس طرف منديلها في قدح من الماء) :
هات يدك.
سيرانو (يجلس بجانبها) :
يا لها من أمومة حدبة حانية!
روكسان :
خبرني وأنا أمسح الجرح، وأزيل الدم عنه، كم اجتمع من المقاتلين عليك؟
سيرانو :
مائة أو نحوهم.
روكسان :
نبئني بالتفصيل ما جرى ...
سيرانو :
اتركي هذا الموضوع، وحدثيني أنت عن الذي لم تجرئي على إعلانه ...
روكسان (وهي لا تزال ممسكة بيده) :
الآن أستطيع أن أتكلم؛ فإن ذكريات تلك الأيام العطرة قد شجعتني، الآن أستطيع أن أبيحك سرا يتردد في صدري، فاستمع لي: إنني أحب ...
سيرانو :
آه! (ينتفض من الرعب، ولا يملك منع زفرة انبعثت من أعماق جوانحه) .
روكسان :
ولكن الذي أحبه لا يدري بما في نفسي له ...
سيرانو :
آه، (يشتد اضطرابه، ويرسل زفرة أحر من الأولى) .
روكسان :
مهلا إنه إلى الآن لا علم له ... ولكنه لن يلبث أن يكون به عليما ...
سيرانو :
آه! (يزفر زفراته وهو لا يملك النفس من فرط الدهشة والذهول) .
روكسان :
هو شاب مسكين يهابني إجلالا، وقد أحبني من بعيد، ولكنه لا يجرؤ أن يعلن عن حبه.
سيرانو :
آه ...
روكسان :
دع يدك في يدي ... ما بالها حارة كأنها من الحمى في مثل اللهب مستعرة، ولكني رأيت اعترافاته ترتعد على شفتيه.
سيرانو :
آه.
روكسان (تضمد جرح يده بمنديلها) :
وأعجب ما تتصور أنه بالمصادفة يا ابن العم يعمل في فرقتك ...
سيرانو :
آه.
روكسان (ضاحكة) :
وهو في الضباط الأحداث عندكم، وفتيانكم الناشئين ...
سيرانو :
آه.
روكسان :
وعلى جبينه يبدو طابع الذكاء الخارق، والألمعية الباهرة، وهو فخور أبي قوي شجاع جميل ...
سيرانو (وقد دارت الأرض به؛ فنهض من مجلسه بجانبها) :
جميل!
روكسان :
ماذا بك حتى تلوح هكذا شاحبا مضطربا؟
سيرانو :
لا شيء بي، إنه (وأراها الجرح الذي في كفه مبتسما)
إنه هذا الخدش لا شيء سواه ...
روكسان :
لقد أحببته، وفي هذا القول حسبي، ولكن يجب أن تعلم أني ما رأيته من قبل هذا إلا في الملهى ...
سيرانو (مدهوشا) :
كيف هذا ... ألم تتخاطبا؟
روكسان :
إذا لم تتخاطب الألسنة تخاطبت العيون.
سيرانو :
ومن أين عرفت إذن أنه كما تصفين ...؟
روكسان :
من أحاديث الناس تحت أشجار الزيزفون في منتزه رويال ... ومما يدور على الأفواه فهمت ثم قدرت ...
سيرانو :
أهو من صغار الضباط قلت؟
روكسان :
في فرقة الحرس.
سيرانو :
وما اسمه؟
روكسان :
البارون كريستيان دي نوفييت.
سيرانو :
كيف ذلك، وليس لدينا أحد بهذا الاسم؟
روكسان :
اليوم فقط يلتحق بفرقتكم تحت إمرة الكابتن كاريون دي كاستل جالو.
سيرانو :
ما أسرع رفيف القلب وطيرانه، ولكن يا بنيتي المسكينة ... (يسمع صوت الوصيفة وهي تفتح الباب.)
الوصيفة :
لقد أكلت الفطير كله يا مسيو برجراك.
سيرانو :
اقرئي الأشعار المطبوعة التي على الأكياس إذن (تنصرف) ، ولكنك يا فتاتي المسكينة الصغيرة التي تحب الكلام الرشيق ، واللفظ البارع، والحديث الموفق، والذكاء البارق، ماذا تكون الحال إذا ظهر أن هذا الذي أحببته ليس إلا فتى غبيا بليد الخاطر، عييا محصورا؟
روكسان :
لا يمكن أن يكون كذلك، وله شعره الجميل الذهبي أشبه بشعر أبطال القصص في الروايات.
4
سيرانو :
وما يدريك أن يكون جميل الشعر ذهبيه، وهو في الوقت نفسه ألكن اللسان عييه؟
روكسان :
كلا، أكبر ظني وخاطري، بل حديث نفسي ومشاعري، أن لسانه عذب، وكلامه جميل.
سيرانو :
أفكل الكلام في تقديرك جميل، ما دام مختبئا تحت الشارب الجميل، فلنفرض أنه مأفون أحمق، فماذا تفعلين؟
روكسان (وهي تضرب الأرض بقدميها) :
أقتل نفسي من الحزن الدفين ...
سيرانو (بعد لحظة) :
أفواعدتني اللقاء لكي تخبريني بهذا وتنبئيني؟ لست أرى يا سيدتي أي جدوى من ذلك، وأي نفع ترتجين.
روكسان :
لقد أحس قلبي بكمد قاتل حين علمت أمس أنكم جميعا في فرقتكم غساقنة.
سيرانو :
ومن دأبنا أن نتحرش بكل فتى متثن مياس لم تنبت له لحية ولا عذار، ممن تدخله الوساطة، والشفاعة، واحتساب المحتسبين في وسطنا نحن الغساقنة الخالصين، حفظ الله موطنهم وصانه، أفحدثوك بهذا أيضا؟
روكسان :
ولك أن تتصور مبلغ الرعب الذي تملكني من خيفة عليه.
سيرانو (يغمغم بين أسنانه) :
ولك العذر.
روكسان :
ولكني حين شاهدتك الليلة البارحة شجاعا قهارا، وباسلا مغوارا، رابط الجأش، ثابت الجنان حيال أولئك النبلاء الفادسين الفجار، قلت لنفسي: لو أن هذا الشجاع الذي يخاطبونه جميعا، ويتهيبونه تكرم وتعطف فقط بأن ...
سيرانو :
أدافع عن بارونك الصغير، ليكن ذلك، فإني له لفاعل.
روكسان :
أحقا ستدافع عنه؟ لطالما كنت لك الصديقة الوفية الحنون.
سيرانو :
نعم، نعم.
روكسان :
وسوف تكون صديقا له وحاميا، أليس كذلك؟
سيرانو :
سوف أكون صديقه.
روكسان :
أتعدني أنه لن يدخل في مبازرة قط؟
سيرانو :
أقسم لك.
روكسان :
كم أودك؟ والآن أحسب قد حان أن أنصرف. (ترخي النقاب على وجهها، وتتهيأ للذهاب، ولكنها لا تلبث أن تقف) : ولكنك لم تخبرني عن معركة الليلة الماضية، يا لله، لا بد أنها كانت معركة رهيبة، تجلت فيها بطولتك رائعة تأخذ الأبصار ، أرجو إليك أن توصيه بأن يكتب لي. (تمشي خطوات، ثم تبعث إليه بقبلة في الهواء من أطراف أناملها) ، لله ما أعظم محبتي لك!
سيرانو :
نعم، نعم.
روكسان :
أمائة رجل ألب عليك؟ وداعا الآن ... لقد أصبحنا صديقين حميمين، أليس كذلك؟
سيرانو :
هو كذلك، هو كذلك.
روكسان (وهي منصرفة) :
دعه يكتب لي ... وستقص على مسمعي قصة المائة رجل في يوم من الأيام، يا عجبا ... مائة رجل ... يا لك من شجاع.
سيرانو (ينحني لها مودعا) :
لقد كانت المعركة التي تلتها بيني وبين نفسي أشد وأقسى، وكان موقفي منها أروع وأسمى. (يقف في مكانه مطرقا إلى الأرض. راجينو يفتح الباب للجناح الأيمن من الحانوت، ويطل برأسه من فتحة الباب.)
المشهد السابع
راجينو :
هل نستطيع الآن دخولا؟
سيرانو (وهو في موضعه لا يريمه) :
نعم فقد انتهى الأمر. (راجينو يومئ إلى الشعراء أن يدخلوا فيأتون مهرولين، يدخل في تلك اللحظة من الباب الخلفي، كاربون دي كاستل جالو في ثياب الضباط، وشارات (الكبتن)، فلم يكد يلمح سيرانو حتى تبدو الدهشة المتناهية عليه ...)
كاربون دي كاستل جالو :
من أرى!
سيرانو (يرفع بصره من طول إطراقته) :
يا عجبا، الكبتن كاربون دي كاستل جالو؟
كاربون (متهللا) :
أأنت هنا يا بطلنا الغضنفر؟ لقد سمعنا قصة ما جرى، وقد خلفت في الموضع ثلاثين أو أكثر من ضباطنا.
سيرانو :
ولكن (يحاول أن ينزوي عنه، ويذهب منصرفا، ولكن كاربون جعل يحاول أخذه معه) .
كاربون :
هيا بنا إليهم؛ فلن يستريحوا حتى يروك.
سيرانو :
كلا.
كربون :
وهم الساعة جلوس في الحانة المقابلة، حانة كروا دي تراهوار يكرعون الكئوس.
سيرانو :
إني ...
كربون (يمشي إلى الباب، وينادي بصوت قاصف، مخاطبا ضباط فرقته في الجانب الآخر من الطريق) :
إنه لا يريد أن يأتي، إن البطل اليوم لمتجهم منقبض.
صوت (في الخارج) :
ها! سانديو. (جلبة في الشارع، ومواقع الأحذية الضخمة، وصليل السيوف، وهي جميعا تقترب.)
كاربون (إلى صديقه وهو يفرك يديه) :
إنهم قادمون إلى هنا مسرعون. (يدخل الضباط يتصايحون، وقد اختلطت الأصوات، وازدحم بهم الحانوت: ميلديو - كابدديو - مورديو - بوكابدديو.) (تراجع راجينو على مشهدهم مذعورا مجفلا.)
راجينو :
أيها السادة، أأنتم جميعا من غسقونيا؟
الضباط :
نعم كلنا ... كلنا. (يحيطون بسيرانو متصايحين، مصافحين بالأكف، بين معتنق له، وهاز يده، ومقبل خديه.)
الضابط الأول :
مرحى.
سيرانو :
سيدي البارون.
الضابط الثاني :
عشت.
سيرانو :
سيدي البارون.
الضابط الثالث :
دعني أعانقك.
سيرانو :
سيدي البارون.
جمع من الضباط :
لنعانقه.
سيرانو (حائر وسطهم لا يدري من يجيب) :
سيدي البارون عفوا، عفوا سيدي البارون.
راجينو :
أكلكم بارونات أيها السادة؟
الضباط :
أي نعم كلنا بلا استثناء.
راجينو :
وهل حقا هم كذلك؟
أحدهم :
وكيف لا ... وإنك لتستطيع أن تقيم برجا عاليا من تيجان باروناتنا وحدها.
لوبريه (يدخل فيمشي رأسا إلى سيرانو) :
إن الجمهور المتحمس يبحث عنك، وقد جاءت مظاهرة كبيرة يقودها أولئك الذين كانوا معك ليلة أمس.
سيرانو (باضطراب شديد) :
يا لله، وهل أنبأتهم بمكاني؟
لوبريه (وهو يقلب كفيه) :
نعم قد فعلت. (وفي سرعة البرق دخل رجل من الطبقة المتوسطة تتبعه جماعة كبيرة من الناس.)
الرجل :
إن أهل حي ماريه في باريس قادمون جميعا إلى هنا لتحية البطل الصنديد. (في الخارج تموج الشوارع بالجماهير، وتبدو مركبات ومحفات تقل الأشراف والسادات.)
لوبريه (في أذن سيرانو وهو يبتسم) :
وروكسان؟
سيرانو (بعجلة) :
صه، لا كلام الآن.
الجمهور (يهتف في الخارج) :
سيرانو ... نريد سيرانو! (ويندفع الناس، ويتزاحمون بالمناكب، ويهجم الذين في الطليعة فيقتحمون الباب، ويرسلون تصفيقا مدويا يصم الآذان.)
راجينو (وهو فوق مقعد من المقاعد) :
لقد اشتد الزحف على دكاني، وتكاثفت طلائع الهجوم على بضاعتي، وحطمت كل شيء، ولكن كل هذا رائع بديع.
الجمهور (حول سيرانو يصيحون) :
ليحي صديق الشعب ... ليحي صديق الشعب.
سيرانو :
يا سبحان الله، لم أكن أجد لي بالأمس صديقا واحدا، فأصبحت اليوم ولي كل هؤلاء الأصدقاء.
لوبريه :
لا عجب، فهكذا هو النجاح، وكذا يكون المجد.
مركيز شاب (يتقدم إلى سيرانو) :
لو أنك أيها الصديق العزيز عرفت ...
سيرانو (مقاطعا) :
صديق؟ عزيز؟ يا للعجب، ومتى كنت أنا وأنت نقف للحراسة معا؟
شريف آخر :
أحب يا سيدي أن أعرفك ببعض الغيد الحسان يرغبن في رؤيتك ، وهن الساعة في مركبتي الواقفة بالباب تنتظر.
سيرانو (ببرود) :
ومن يعرفني أولا يا سيدي بك؟
لوبريه (مبهوتا) :
ماذا حدث يا عزيزي وما الذي يغضبك؟
سيرانو :
صه.
أحد الأدباء (يحمل دواة وقلما) :
ألا أستطيع يا سيدي أن أظفر ببعض التفصيلات عن ...
سيرانو (بجفوة) :
كلا ...
لوبريه : (يغمزه بمرفقه معاتبا): كيف هذا؟ إنه تيوفراست رينودو المعروف، مخترع الصحيفة السيارة.
سيرانو :
ومن يعنيه أن يقرأ ورقة كهذه؟
لوبريه :
ولكن هذه الصحيفة من التي يحشدون فيها الأنباء والطرائف من كل نوع، ويقولون: إنها فكرة ناجحة ستصادف بلا شك رواجا وإقبالا.
الشاعر (يتقدم نحو سيرانو) :
سيدي ...
سيرانو :
وهل أديب آخر هذا الذي أرى؟
الشاعر :
ألا تأذن لي أيها البطل العجيب في نظم خماسيات من الشعر باسمك؟
أحدهم (يتقدم نحوه أيضا) :
سيدي.
سيرانو :
كفى، كفى. (تظهر حركة أخرى في الصفوف، وبينهم الكونت دي جيش في حاشية من الضباط، ومن بينهم كويجي، وبريساي، والضباط الذين صحبوا سيرانو في ختام الفصل الأول.)
كويجي (إلى سيرانو معلنا قدوم القائد) :
مسيو دي جيش! (فيتهامس الناس باسمه، وتتسع الحلقة، وتفرج الصفوف، ويتنحى المتزاحمون لإفساح الطريق.)
وقد جاء من قبل المارشال دي جاسيون (دي جيش يحيي سيرانو)
ليعبر لك عن إعجابه بما أبديت أمس من جسام الفعال، وعظائم الأمور في ذلك الحادث الرائع الذي سرى نبأه في البلاد.
أصوات (بالهتاف) :
مرحى.
سيرانو (وهو ينحني أمام الكونت) :
لا بدع؛ فإن المارشال حكم في فنون البسالة.
دي جيش :
ولم يكن ليصدق ما سمع من أمرك، وترامى إليه لو لم يقسم هذان السيدان أمامه أنهما شهدا المعركة.
كويجي :
بعيني رأسينا.
لوبريه (لصديقه سيرانو، وقد رآه ذاهلا، شارد الخاطر، مشتت اللب) :
ولكن ما بالك؟
سيرانو :
صه.
لوبريه :
يبدو أنك تتألم.
سيرانو (ينتفض ثم ينتصب واقفا) :
أمثلي يضطرب أو يتألم أمام هؤلاء السوقة؟ (يستوي بقامته، ويشرئب بعنقه، ويفتل شاربه، ويبرز بصدره) : مهلا فسترى.
دي جيش (بعد لحظة كان كويجي خلالها قد دنا منه، فأسره كلاما غير مسموع) :
لقد بدأ اسمك في ميادين الشجاعة ينبه، وذكرك في ساحات المجالدة يشتهر، أتخدم مع أولئك الغساقنة الحمقى؟
سيرانو :
أي نعم شباب الضباط.
أحد الضباط (بصوت مرعب) :
معنا.
دي جيش (وهو يرى الغسقونيين وقوفا وراء سيرانو) :
أفهؤلاء الذين تبدو على وجوههم أمارات الزهو، والتعاظم، والعجرفة هم المشهورون بأنهم ...
كاربون دي كاستل جالو (مناديا) :
سيرانو.
سيرانو :
سيدي الكابتن؟
القائد :
أنا وجميع ضباط فرقتي مجتمعون اللحظة هنا، فأرجو إليك أن تتكرم بتقديمهم إلى مولاي الكونت.
سيرانو (يتقدم خطوتين حتى يمثل بين يدي دي جيش) :
سيدي الكونت دي جيش، اسمح لي أن أقدم (وأشار بيده إلى صفوف رفقائه) .
إنهم شباب غسقونيا البواسل
تحت إمرة كابتن كاربون دي كاستل جالو
قتلة، كذبة، ولا حرج لكنهم أشرف من اللصوص نسبا
تستعر دماؤهم في أوردتهم، وتضطرم الحمية في حناياهم
إنهم شباب غسقونيا البواسل
أعينهم كالصقور، وسيقانهم كاللقالق
لهم شوارب السنانير، وأنياب الذئاب تمزق كل وغد
يغطي الريش قلانسهم العتيقة ليستر ما بها من خروق
لكن لهم عيون الصقور، وسيقان اللقالق
شوارب السنانير، وأنياب الذئاب
شعارهم المفضل الضرب والطعان
بقر البطون وتحطيم الجماجم
بلذة المجد أرواحهم سكرى، ونفوسهم إليه عطاش
أينما قام صدام، كانوا فيه على موعد
لأن شعارهم المفضل الضرب والطعان
ها هم شباب غسقونيا البواسل
عجائز الأزواج أكلت نفوسهم الغيرة
ومن أكلته الغيرة - أيتها الفاتنات - جعلوه ديوثا
فانفخي يا أبواق، واصدحي يا طيور
ها هم شباب غسقونيا البواسل.
الكونت دي جيش (وهو جالس جلسة العظمة في مقعد رهيب، قدمه إليه راجينو صاحب الحانوت) :
إنه لمن دواعي الترف اليوم أن يكون للنبلاء شعراء يتبعونهم، أترضى أن تكون شاعري؟
سيرانو (بأنفة وإباء) :
كلا يا سيدي، لست أرضى أن أكون لمخلوق في هذا العالم تبعا.
دي جيش :
لقد سر عمي ريشيليو من عبقريتك ليلة أمس، فلست أبخل أن أقول عنك كلمة تزكية طيبة أمامه.
لوبريه :
يا إلهي، إن هذا لنبأ عظيم.
دي جيش :
وقد بلغني أنك وضعت رواية شعرية في خمسة فصول أو نحوها، فهل أبلغت حقا؟
لوبريه (في أذن صاحبه) :
إنه يقصد روايتك «أجريبينا» لسوف تراها ممثلة في النهاية .
دي جيش :
لو أنك أخذتها إليه ...
سيرانو (وقد بدأ يتأثر ويفعل في نفسه الإغراء والترغيب) :
في الحق إنني ...
دي جيش :
فهو نقادة حاذق، وأديب بارع، وقد يصحح لك بيتا أو بيتين فيها.
سيرانو (وقد عاوده إباؤه فتجهم) :
هذا مستحيل، وإن دمي ليجمد في مسراه حين أتصور أن قلما يعمل فيما أكتب، أو يدا تمحو فيه وتثبت حتى ولا نقطة واحدة أو ترقيما.
دي جيش :
ولكنه إذا استطاب بيتا، أو راقه من الشعر شيء لم يضن عليه بثمن عظيم يا صديقي العزيز.
سيرانو :
ما أحسبه يدفع فيه ثمنا أعظم، ولا أغلى مما أدفعه أنا فيه، فإنني حين أنظم بيتا يروقني أدفع نفسي له ثمنا، وأتغنى أنا ذاتي به.
دي جيش :
إنك لمتكبر، وبنفسك فخور.
سيرانو :
أحقا؟ ألم تدرك ذلك إلا الآن؟ (يدخل في تلك اللحظة ضابط من الغساقنة يحمل على سنان سيفه خيطا قد ربط فيه عدة قبعات قديمة ممزقة، كثيرة الثقوب والخروق.)
الضابط :
انظر أيها العزيز ماذا وجدنا في هذا الصباح على الطريق؟ لقد قنصنا هذا القنص البديع من الريش، بل هذه القبعات القديمة، قبعات الهاربين.
كاربون دي كاستيل جالو «قائد الفرقة» :
إنها والله لأسلاب المعركة (يضج الجميع ضاحكين) ! ها! ها! ها!
كويجي :
إن من دبر ذلك الكمين يجب عليه والله أن يسخط اليوم.
بريساي :
وهل عرف الفاعل؟
الكونت دي جيش (بغضب) :
هو أنا. (فينقطع الضحك، ويسود السكون.)
الكونت دي جيش :
لقد أردت عقاب شاعر عربيد، وتأديب نظام أفاق، فنزهت سيفي عن فعلة قذرة، وربأت بحسامي عن عمل صغير، فعهدت إلى أولئك السوقة أن يتولوه عني وينفذوه. (وخيم صمت طويل.)
الضابط الذي حمل الأسلاب :
ماذا نصنع بهذه القبعات وهي ملأى بالشحم والدهن؟ أنطبخ بها قدرا؟
سيرانو (يتناول السيف الذي ينتظم القبعات، ثم يلقيها تماما عند قدمي الكونت دي جيش، ويؤدي التحية العسكرية) :
أرجو يا سيدي أن تتكرم بردها إلى أصحابك، (يخرج دي جيش غاضبا) .
دي جيش (ينهض ويقول في لهجة مقتضبة) :
إلي بمحفتي، وبالحمالين في الحال. (يتوجه إلى سيرانو في صرامة)
أما أنت أيها السيد ... (يسمع صوت صائح في الطريق: حمالو السيد الكونت دي جيش.)
دي جيش (بعد أن ملك زمام أمره، يقول وعلى شفته ابتسامة) :
أقرأت دون كيخوته؟
سيرانو :
نعم قرأته، وإني باسم هذا المجنون الذي هبط علينا من عل، لأميطن اللثام عن ...
دي جيش :
نصيحتي إليك إذن أن تتروى ...
أحد الحمالين (يظهر إلى الخلف) :
المحفة بالباب!
دي جيش :
وتذكر الفصل الخاص بالمطاحن الهوائية!
سيرانو (بانحناءة) :
الفصل الثالث عشر.
دي جيش :
ذلك لأنه عندما يهاجمها الإنسان، فما يحدث عادة ...
سيرانو :
إلى أن أستنبط من ذلك أنني قد هاجمت أناسا يدورون مع كل ريح؟
دي جيش :
ذلك الذراع المكسو بالخيش من أذرعها الطويلة يلقي الإنسان في الوحل!
سيرانو :
أو يرفعه إلى السماكين! (يخرج دي جيش، يرى وهو يدلف إلى محفته، ينصرف السادة مهمهمين، يصاحبهم لوبريه ثانية إلى الباب، ينفض الجمع، يظل الضباط جالسين إلى الموائد، إلى يمينها ويسارها حيث يقدم إليها الطعام والشراب.)
المشهد الثامن (سيرانو، لوبريه، الضباط جالسين إلى الموئد على اليمين وعلى اليسار يقدم لهم الطعام والشراب.)
سيرانو (ينحني في استهزاء إلى من ينصرفون دون أن يجرؤوا على استئذانه بالانصراف) :
سادتي ... سادتي ... سادتي ...
لوبريه (يعود إلى النزول، في حالة شديدة من الابتئاس، رافعا يديه إلى السماء) :
ليت شعري، ما كان أجمل ملابسهم!
سيرانو :
واه، أأنت؟ كنت أنتظر منك أن تتوجع وتتذمر.
لوبريه :
وأخيرا، أنت متفق معي في أن اقتناص الفرص العابرة دواما يصبح ضربا من المغالاة ...
سيرانو :
أجل هذا صحيح، فإني أشتط فعلا.
لوبريه (في نشوة النصر) :
أرأيت، إنك تعترف بذلك.
سيرانو :
ولكن اعتقادي أنه من الخير أن أشتط كما أفعل الآن، في سبيل المبدأ، وكذلك لأقدم عظة لمن يتعظ.
لوبريه :
ألا تخليت بربك لحظة واحدة عن نزوعك إلى الفروسية، وإلى الجاه والمجد.
سيرانو :
ترى ما عسى المرء أن يفعل؟
هل يسعى إلى عظيم من العظماء، ويتخذه نصيرا، ويحاول كما يفعل اللبلاب الخفي عندما يلتف حول جذع شجرة يجعل منه دعامته، ويمتص لحاءه، فيبلغ العلا بالمكر والخديعة لا بقوة ساعديه؟ لا شكرا لك.
هل تريدني أن أقدم القصائد كما يفعل البعض إلى أصحاب الجاه، وأنظمها في مدحهم؟ هل أخلع على نفسي ثوب المهرج بغية أمل حقير في أن يرى شفتي وزير تنفرجان له، ولو مرة واحدة عن ابتسامة لا تنذر بشر مستطير؟ لا شكرا لك.
هل آكل ضفدعا بريا كل يوم؟ أأزحف على بطني ذلا واستكانة حتى تتجرد ثيابي، ويتسخ جلدي سريعا عند ركبتي؟ أأؤدي أعمالا تكسب ظهري مرونة من كثرة الخشوع والانحناء؟ لا شكرا لك. أأربت على العنزة بيد، وأروي الكرنب باليد الأخرى؟ أأقدم هدايا من نبات السنا لآخذ بدلا منه هدايا من الرواند، وألا أكف عن التلويح بمبخرتي بين يدي واحد من أصحاب اللحى؟ لا شكرا لك.
أأرتمي في حضن بعد حضن، وأصبح رجلا عظيما صغيرا، في دائرة عظيمة ضيقة؟ أأدفع سفينتي بالقصائد الغزلية بدلا من المجاديف، وأملأ أشرعتي بآهات عجائز النساء؟ لا شكرا لك.
أأسعى لدى سرسي، ذلك الناشر الحاذق، وأعطيه مالا لينشر قصائدي؟ لا شكرا لك.
أأسعى لنيل الشهرة بنظم قصيدة غزلية واحدة بدلا من أن أنظم قصائد غيرها؟ لا شكرا لك.
أتراني أقصر جهدي على كشف مواهب الناشئين دون سواهم؟ أأخشى ما قد يحلو للصحف الخاملة أن تقوله عني، ثم لا أفتأ أحدث نفسي قائلا: ليت اسمي يظهر في صحيفة «باريس ميركري» الصغرى؟ لا شكرا لك.
هل أحتمي، وأخاف، وأنزوي، وأوثر القيام بزورة على الاضطلاع بنظم قصيدة، وأن أجنح إلى تدبيج العرائض والملتمسات؟ لا شكرا لك؟ لا شكرا لك! لا شكرا لك.
ولكني أوثر أن أغتني وأحلم، وأضحك وألهو، وأعيش منفردا حرا، وأن تكون لي عينان يقظتان، وصوت مجلجل، وأن ألبس قبعتي حين أشاء وكيف أشاء، وأن يكون لي الخيار حسب هواي في أن أدخل في مبارزة، أو أنشد أنشودة! وأن أعمل دون أن أحسب حسابا للجاه والمجد، وأن أقوم بالرحلة إلى القمر، الرحلة التي تنشدها جميع النفوس! وألا يدبج يراعي شيئا لا يصدر عن عميق وجداني، بيد أني في اتضاع أقول لنفسي : يا صاح لتقنع بالأزاهير والفواكه، أجل لترض بأوراق الشجر فحسب، ما دمت تجمعها من حديقتك أنت، ثم إذا اتفق أن أحرزت بعض النصر، فلن أكون ملزما أن أعطي أي قسط منه لقيصر، بل أن أحتفظ به كله لنفسي، ومجمل القول: إني لأنأى بنفسي عن أن أكون اللبلاب الطفيلي، حتى وإن عجزت عن أن أكون شجرة البلوط، أو الزيزفون، وأوثر أن أرتفع معتمدا على نفسي، وإن لم أبلغ علوا شاهقا.
لوبريه :
وحدك؟ ليكن ذلك لك، ولكن لا يجب أن يقف شخص واحد في وجه الجميع! كيف بربك أصبت بهذا الجنون الذي يملكك، والذي يجعلك تخلق على الدوام أعداء لك في كل مكان؟
سيرانو :
أصبت به عندما رأيتك تتودد إلى الناس، وتبتسم لهذه الجماعات من الأصدقاء عينها بابتسامة لا تنفرج لها شفتان! لا أريد أن أحمل عبء رد التحايا في الطريق، وإني لأصبح في نشوة: هل من عدو جديد؟
لوبريه :
هذا انحراف عقلي!
سيرانو :
إني لا أجادلك في ذلك؛ فهذه إحدى نقائصي، إن سروري في أن أغضب الآخرين، وإني أحب أن يكرهني الناس، أيها الصديق الحميم، لو تعلم كم هو حسن بالمرء أن يسير، والعيون الحاقدة ترسل عليه شواظا من الحقد، وكم يكون ارتياحه لتلك البقع التي تنتشر على صدره، وإن كان فيها شفاء لحقد الحاقدين والجبناء ... أما أنت فإن الصداقات التي لم تكتمل، والتي تحيط بها نفسك أشبه بتلك «الياقات» الإيطالية الواسعة، السهلة، المسترخية، ذات الفتحة التي تظهر منها الرقبة، وكأنها رقبة امرأة، إنها ياقات توفر الراحة، ولكنها ذات مظهر غير لائق؛ لأن أطرافها التي لا تشد إلى أعلى شدا لائقا، كثيرا ما تنحرف ذات اليمين وذات اليسار ... أما عني فإن الكراهية تزيد كل يوم صلابة ياقتي التي تقيم رأسي وتنصبها في وضعها الصحيح، إن كل عدو جديد هو طية أخرى من طيات هذه الياقة، وإن كانت هذه الطية تولد ضغطا جديدا إلا أنها تضيف شعاعا آخر، فإن الكراهية التي تشبه الياقة الإسبانية من جميع الأوجه هي رباط ووثاق، ولكنها هالة من النور أيضا!
لوبريه (بعد برهة، يتأبط ذراع سيرانو) :
إني لأعلنها على أسماع الجميع بأنك متشامخ حاقد، أما عني فلتقل لي في همس: إن الأمر لا يعدو أنها لا تحبك.
سيرانو (في حدة) :
صه! (كريستيان يدخل، ويختلط مع الضباط فيتجاهلونه؛ فيتوجه في النهاية إلى منضدة صغيرة يجلس إليها منفردا؛ حيث تقوم ليز على خدمته.)
المشهد التاسع
ضابط (جالس إلى مائدة ممسكا بكأس من الشراب ينادي) :
سيرانو، (يلتفت سيرانو نحوه)
سيرانو، علينا بالقصة.
سيرانو :
بعد حين. (وينثني إلى صدقه لوبريه، فيعتمد على ذراعه، يروحان ويغدوان، وهما في حديث وهمس مخافت.)
الضابط (وهو ينهض من مجلسه ويتقدم إلى سيرانو) :
علينا بالقصة، قصة معركة الليلة الفائتة، فلعلها تكون درسا حسنا وعظة (يقف قبالة المائدة التي كان كريستيان جالسا إليها)
لهذا التلميذ الحدث المتهيب.
كريستيان (رافعا رأسه) :
تلميذ؟ من هو الذي تعني؟
آخر :
هو هذا الفتى الشمالي الهزيل.
كريستيان :
هزيل؟
الضابط الأول (متذمرا) :
اسمع مني في أذنك يا مسيو دي نيفييت، إن هناك شيئا لا يستطيع أحد منا التحدث عنه، كما لا يستطيع أحد التحدث عن الحبل في بيت المشنوق!
كريستيان :
وما هذا الذي عنيت؟
ضابط آخر (بصوت مرعب) :
انظر إلى (يضع أصبعه ثلاث مرات فوق أنفه)
أفهمتني؟
كريستيان :
آه ... إنه ذلك ال ...
آخر :
صه، ولا تنبس بهذه الكلمة وإلا كنت من الهالكين (يشير إلى سيرانو، وكان في شغل بالحديث مع صديقه لوبريه) ، ويتقدم ثالث من كريستيان فيقتعد المنضدة القائمة قبالته، وينحني إليه، ويهمس له.
آخر :
اسمع لقد أهلك رجلين أخنفين في غضبة له، لا لسبب سوى أنهما كانا أخنفين.
ضابط آخر (يزحف من تحت المائدة، وكان قد تسلل تحتها خلسة) :
وإذا أردت ألا تموت قبل الأوان، فتحاشى يا بني ذكر هذا الغضروف المميت.
آخر (وهو يربت على ظهره صائحا به) :
بل إن كلمة أو إشارة أو حركة بمنديلك قد تجعل منه كفنك. (يسود السكون، وينظر الجميع وهم مشبكو الأذرع فوق الصدور إلى كريستيان، وكان قد تقدم إلى كاربون دي كاستل قائد الفرقة، غير أن هذا جعل يتحدث إلى أحد الضباط متظاهرا بأنه لم ير كريستيان قادما نحوه.)
كريستيان :
يا سيدي الكابتن!
الكابتن (وقد استدار نحوه، وجعل يثأره بنظرة من رأسه إلى أخمص قدمه) :
ماذا تقول؟
كريستيان :
ماذا يصنع المرء إذا رأى جنوبيين يكثرون من الزهو والادعاء، ويسرفون في الغطرسة والخيلاء؟
كاربون :
يقدم لهم الدليل على أن الفتى قد يكون شماليا، ومع ذلك شجاعا أبيا.
كريستيان :
شكرا لك.
الضابط الأول (إلى سيرانو) :
علينا الآن بالقصة.
الجميع :
القصة، القصة.
سيرانو :
إذن فلتسمعوا. (وفي الحال يزدحم جميعهم من حوله، ويقربون المقاعد حياله، ويتحفزون للإصغاء، ويقفز كريستيان فوق مقعد، ويظل قائما يترقب.)
سيرانو :
لقد ذهبت وحدي للقاء تلك العصابة، ومشيت إليها بمفردي، وكان القمر مفترشا أديم السماء، كأنه من الساعة الكبيرة الوجه والميناء، وإذا بذلك الصانع الماهر الذي اصطنع الساعة، والأنجم الدقاق، قد أرسل بحكمته، وعجيب مشيئته، غماما كأنه قطعة من قطن فوق الظرف الذي يمسك بتلك الساعة الفضية، فما لبث القمر أن احتجب، وذهب متواريا، وساد الكون ظلام، فلم يعد المرء يرى شيئا أبعد من ...
كريستيان :
أبعد من أنفه. (يذهل القوم وينهضون من مجالسهم بطاء، وينظرون إلى سيرانو نظرات الرعب إذ وقف مبهوتا لحظة، مشدوها لا يستأنف حديثا، ولا يعاود كلاما.)
سيرانو :
من هذا المتكلم؟
أحدهم (همسا) :
إنه زميل التحق بالفرقة اليوم فقط!
سيرانو (وهو يخطو خطوة نحو كريستيان) :
اليوم فقط.
كاربون دي كاستل (بصوت خافت) :
نعم، وهو يدعى البارون دي نيفييت! (لا يكاد سيرانو يسمع هذا الاسم حتى يشحب لونه ويحمر.)
سيرانو :
هذا؟ حسنا! (ثم يتمالك نفسه وينزوي، ويهم بأن ينقض على الفتى ليصرعه لولا أن احتجز غضبه)
إنه ... (يتمالك نفسه) .
إلى أي حد من القصة كنت قد بلغت؟ (ويطلق زمجرة ولعنة مكبوتة)
يا للعنة! وكان الظلام شديد الحلكة. (وما كاد يبدأ على هذا النحو حتى علت الوجوه دهشة بالغة، فقد كان القوم يتوقعون منه شيئا آخر، ويرتقبون أن يروه فاتكا بالفتى لساعته، وظلوا يرمقونه بأبصارهم عاجبين.)
ولكني سرت قدما، وأنا أحدث نفسي قائلا: «أتراني من أجل مسألة تافهة أو حكاية قبيحة أتحدى رجلا عظيما، أو كبيرا ذا خطر، أو من يدري أميرا في وسعه بلا شك أن يهشم ...
كريستيان :
أنفي ... (فما أن يسمع الجميع هذه الكلمة الجرئية من الشباب الدخيل الجديد عليهم حتى يستووا على سوقهم مبهوتين، قد تملكتهم الدهشة المتناهية، بينما يظل كريستيان متأرجحا على كرسيه لا يأبه بشيء!.)
سيرانو :
أن يهشم أسناني، ومجمل القول: أنني بطيشي وتهوري إنما رحت أدخل ...
كريستيان :
أنفي ...
سيرانو :
أصبعي بين الشجرة ولحائها، بل ما يدريني إذا كان ذلك العظيم شديد البأس، قوي المحال، مديد السلطان، فيلقيني ...
كريستيان :
فوق أنفي. (يضطرب سيرانو، ويتصبب العرق من جبينه، ويمسحه عنه بمنديله.)
سيرانو :
على أصابعي، غير أني ناديت نفسي في نجواي قائلا: «تقدم يا ابن غسقونيا، وافعل ما يمليه الواجب عليك، تقدم يا سيرانو!»، قلت هذا وتقدمت، ولكني ما لبثت أن رأيت في الحلكة شبحا ينقر ...
كريستيان :
أنفي ...
سيرانو :
فتحاشيته، ولكني وجدت نفسي فجأة ...
كريستيان :
أنفا لأنف!
سيرانو (ولم يستطع تجلدا فانقض عليه صائحا) :
لعنة السماء والأرض. (فاشرأبت الأعناق، وتواثب الشباب ليروا ماذا سيحدث، ولكن سيرانو ما كاد يصبح على قيد خطوة واحدة من كريستيان حتى تماسك، وانثنى يستأنف.)
سيرانو :
وحيال مائة مخلوق من الرجال والصعاليك، والسكارى تنبعث منهم ...
كريستيان (مقاطعا) :
بل من أنوفهم.
سيرانو (يبتسم بوجه شاحب) :
تنبعث منهم روائح البصل والثوم، رحت أكر وأفر خافضا رأسي من خبث ريحهم.
كريستيان :
والأنف ضارب في الهواء.
سيرانو :
فما زلت أكر عليهم حتى كتمت أنفس اثنين، ونفذت بالسيف في صدر ثالث، وتصدى لي أحدهم، ولطمني «باف»! فرددت عليه ...
كريستيان :
ثم عطست. (سيرانو وقد انفجر غيظه المحتدم في صدره؛ فزعق زعقة مدوية راعدة.)
سيرانو :
يا للصاعقة! انصرفوا جميعا، ولا يمكث منكم أحد. (يتدافعون جميعا إلى الأبواب.)
أحدهم :
ها هو ذا النمر قد استيقظ.
سيرانو :
اخرجوا جميعا، ودعوني وحدي معه.
ضابط :
لن تلبثوا أن تشهدوه مفريا كاللحم المفروم.
راجينو :
مفروما؟
ضابط ثالث :
حشو فطيرة من فطائرك.
راجينو :
يخيل إلي أني شحبت، وانكمشت كهذه المنشفة .
كاربون (إلى ضباطه) :
هلموا بنا ننصرف.
ضابط منهم :
لن يترك صاحبنا منه، ولا قطعة نثيرة من لحمه!
ضابط آخر :
إني لأموت فزعا من تصور ما سوف يحدث الآن هنا.
ضابط آخر :
إنه لشيء رهيب ما سيحدث الساعة هنا!
ضابط ثالث (يغلق الباب) :
شيء فظيع. (ينصرف الجميع من أبواب متفرقة بينما يقف سيرانو وكريستيان وجها لوجه، يرمق كل منهما الآخر شزرا.)
المشهد العاشر
سيرانو :
الآن تعال عانقني.
كريستيان :
سيدي؟!
سيرانو :
إنك لشجاع جسور.
كريستيان :
ولكن يا سيدي، ما ...
سيرانو :
هيا عانقني؛ فإنني أخوها.
كريستيان :
ومن هي تلك التي تعني؟
سيرانو :
أعنيها هي؟
كريستيان :
عجبا! ومن هي؟
سيرانو :
روكسان.
كريستيان (وهو يعدو نحوه) :
يا لله، أخوها أنت؟
سيرانو :
أخوها، أو ابن عمها، كلاهما على حد سواء.
كريستيان :
هل نبأتك؟
سيرانو :
بكل شيء.
كريستيان :
وهل هي تحبني؟
سيرانو :
يجوز.
كريستيان (وهو يتناول يديه في كفه) :
ما أسعدني يا سيدي اليوم بلقائك!
سيرانو :
قد يسمى هذا شعورا فجائيا.
كريستيان :
أستميحك يا سيدي مغفرة، وأسأل صفحا.
سيرانو (يطيل النظر إليه، وهو ملق يده على كتفه، ويغمغم لنفسه) :
الوغد جميل حقا، جميل.
كريستيان (في استحياء) :
أواه يا سيدي، لو أنك عرفت مبلغ إعجابي بك؟
سيرانو :
وما شأن تلك الأنوف التي جعلت تذكرها لي؟
كريستيان :
أسحبها جميعا!
سيرانو :
روكسان تنتظر منك هذا المساء كتابا.
كريستيان :
يا ويحي.
سيرانو :
ما الخبر؟
كريستيان :
لو فتحت شفتي بالكلام لكان في ذلك الخسران المبين.
سيرانو :
ولم هذا؟
كريستيان :
وا آسفاه! إنني أبله منزو، شديد الحياء.
سيرانو :
ليس الأبله من يدرك أنه الأبله، ولم تك كذلك حين تحديتني!
كريستيان :
لا يعز على المرء أن يطلق صوته بصيحة الحرب قبل الهجمة، وما أنكر أن لي بالجندية قليلا من المعرفة، ولكنني أمام النساء أجدني المرتج عليه، العيي الحصور، أن أعينهن، يا لي من أعينهن، إنهن ليلحن لي من بعد عاطفة حانية.
سيرانو :
وهل قلوبهن أقل حنانا إذا دنوت منهن، ووقفت بقربهن؟
كريستيان :
كلا، فإني من أولئك، وأنا أعرف ذلك، من أولئك الذين تنعقد ألسنتهم حين يتحدثون عن الحب!
سيرانو :
ليت شعري! لو أن الطبيعة عنيت بخلقتي، وأحسنت تصويري لكنت سيد العاشقين مكاشفة وإعلانا.
كريستيان (بتحسر) :
أواه ليت لي من ملكة الكلام حظا، يؤهلني للتعبير عن الأشياء تعبيرا جميلا.
سيرانو :
ويا ليتني كنت جنديا عاديا، ولكن مليحا صبيح المحيا.
كريستيان :
ولكن روكسان أديبة متحذلقة، ولا شك في أني سأخيب آمالها؛ فتتضح الحقيقة لها ...
سيرانو (ينظر إلى وجهه المليح، ومعارفه المستوية، وطلعته الباهرة) :
لو أن لي مثل هذا المحيا مترجما يعبر عن روحي، ومتحدثا يشهد بما في نفسي.
كريستيان (متوجعا) :
ألا بلاغة تباع؟ ألا بيان يشترى؟
سيرانو (فجأة) :
في وسعي أن أعطيك فصاحتي، وفي وسعك أنت أن تعيرني حسنك ومفاتنك، بل لو تمازجنا واختلطنا، لكان من مزاجنا وخليطنا بطل من أبطال القصص الغرامية.
كريستيان :
ماذا تقول؟
سيرانو :
هل تحسبك مستطيعا أن تردد في كل يوم ما أعلم لسانك ترداده، وألقنك له إعادة وتكرارا؟
كريستيان :
أتقترح علي ذلك؟
سيرانو :
إن روكسان لن تصدم في حبها، فهل تريد أن نشترك معا في غزو قلبها؟ أنت بحسنك فاتنا، وأنا بالكلام الملقن ساحرا؟ هل ترضى أن أخرج ما في صدري فأضعه في صدرك وحيا طبعا؟
كريستيان :
ولكن ...
سيرانو :
سألتك هل أنت بهذه القسمة راض؟
كريستيان :
كلامك يخيفني.
سيرانو :
أما وأنت بنفسك تخاف أن تبترد عاطفتها من نحوك في صدرها، فهل ترضى في سبيل إضرام نار المحبة في قلبها أن أشترك بكلامي مع شفتيك وهما تقبلانها؟
كريستيان :
ما بال عينيك تتقدان؟
سيرانو :
أراض أنت؟
كريستيان :
عجبا! وهل يسرك رضائي كل هذا السرور؟
سيرانو (يستخفه الطرب) :
بل أجد فيه بعض التسلية، فإن ذلك كما لا يخفى عليك يساعد الشاعرية، ويلهم المعاني العاطفية، فدعني أكمل نقصك، ولتكمل أنت نقصي، أنت تمشي فائزا منتصرا، وأنا أسير في أثرك ظلا تابعا، وشبحا مستترا، ولأكن أنا لك الخاطر والخيال، ولتكن أنت لي الصباحة والجمال.
كريستيان :
والكتاب الذي نبأتني أنها ترتقبه، فإني لن أستطيع أن أكتب منه حرفا واحدا.
سيرانو (يخرج من صدريته خطابا مكتوبا) :
انظر ها هو ذا الكتاب الذي تريده.
كريستيان :
كيف فعلت ذلك؟
سيرانو :
خذه فهو لك، ولم يبق إلا أن يكتب عنوانه.
كريستيان :
ولكني ...
سيرانو :
لا تخف، وبادر إلى إرساله إليها، فهو الكتاب المناسب الذي سوف يسرها، ويلهب الحب في صدرها.
كريستيان :
وهل عندك منه؟
سيرانو :
نحن الشعراء جيوبنا من رسائل الغرام ملأى حافلة نخيلها تخيلا، ونتصور للعشيقات أسماء تتشكل بها أحلامنها، بنات أشعارنا، وعذارى خواطرنا، ومصنوعات أخيلتنا، هاك الكتاب، خذه، تتحول العواطف الزائفة فيه إلى حقائق لديك، وقد أطلقت الزفرات والأنات في فضائه إطلاقا بغير حساب، وسترى كل هذه الطيور الهائمة في أوكارها تقع وتشعر بأني كنت فيه فصيحا بقدر ما كنت بعيدا عن الإخلاص، خذ الكتاب وتوكل.
كريستيان :
ألا يحسن التحوير فيها والتبديل؟ وما دمت لم تكتبها إلى شخص معين، فهل ستكون مناسبة لروكسان؟
سيرانو :
ستناسبها كما يناسب القفاز اليد.
كريستيان :
ولكن ...
سيرانو (لنفسه) :
ما أعجب براءة الحب، وسذاجة الهوى، وما أقرب سرعة تصديق المحبين، لست أحسب روكسان إذ تقرأ الكتاب إلا معتقدة أن كل كلمة فيه قد كتبت لها.
كريستيان :
أي صديقي! (يرتمي على ذراعيه، ويعانقه مليا) .
المشهد الحادي عشر (يشتد قلق الجمع المنتظر بنجوة منهما، ويكاد صبرهم ينفد في ارتقاب ما عسى أن يقع بينهما، فيدنو ضابط محاذرا يفتح الباب قليلا.)
الضابط :
لا شيء، سكون رهيب، لا جرأة لي على الرؤية (يطل برأسه ليرى)
عجبا! ماذا أرى؟ (يندفع الضباط والجميع في إثره متزاحمين، وهم في أشد الذهول ليروا كريستيان وسيرانو متعانقين!) عجبا! عجبا!
أحدهم :
لقد تجاوز هذا حدود التصور والإمكان (رعب) ، (وكان بين القدوم الضابط الذي يدعي البطولة، ويتحبب إلى زوجة الحلواني، ويزعم أنه الشجاع الذي لا يشق له غبار، والفتى الفارس المغوار، فاستهواه هذا المشهد إلى السخرية، وظن أن ما قيل عن سيرانو وجسام فعاله لم يكن سوى خيال، ورواية تروى) .
الفارس :
يا للعجب.
القائد كاربون دي كاستل جالو (مداعبا) :
لقد استحال شيطاننا قديسا وديعا إذا ضربه أحد على منخره الأيمن أدار له منخره الأيسر.
الضابط المدعي (مناديا لويز) :
لقد أصبحنا اليوم في حل من الكلام على أنفه، فتعالي اسمعي اللحظة ما أنا قائله له (بتصنع استنشاق الهواء)
أوه! أوه! ما هذا الشذى الكريه؟ (ويتقدم نحو سيرانو، وينظر إلى أنفه) : لا شك عندي يا سيدي في أنك قد عطست، وإلا فما هذه الريح التي انتشرت في كل ناحية؟!
سيرانو (يضربه على أم ناصيته) :
يا لها من رأس صنمة! (الجميع يغرقون في الضحك، ويلوح السرور في الوجوه؛ إذ رأوا سيرانو شجاعهم المعهود قد عاد إلى نفسه كما كان، يقفزون ويتشقلبون في الهواء.)
الفصل الثالث
المشهد - في دار روكسان
دار روكسان في حي (ماربه) بباريس، ذات بستان تكسو جداره الأغصان الناضرة غطاء من سندس بهيج، وطلع نضيد.
شرفة ونافذة فوق الباب، ومتكأ قد وضع عن كثب منه، ومن السهل أن يصل الإنسان إلى الشرفة إذا هو تسلق المتكأ أو من الأحجار الناتئة في الجدار.
وقبالة دار روكسان دار تشابهها في طراز بنائها، وشكل عمارتها، ولا تختلف عنها إلا في أن لباب الدار المناوحة مطرقة، أو حلقة ملففة بقماش كأنها إبهام جريح مضمودة.
مصراعا الشرفة في دار روكسان مفتحان، والمساء موشك أن يؤذن، وقد توارت الشمس بالحجاب في يوم قريب من العهد الذي جرت فيه الحوادث الماضية.
عند رفع الستار تشاهد الوصيفة جالسة على هذا المتكأ وراجينو واقفا إلى جانبها يروي لها قصته، وقد ارتدى شيئا يشبه الفوطة، وراح يجفف دموعه.
المشهد الأول
راجينو :
واحسرتي، لقد فرت مع ذلك الضابط، وحطمت تجارتي من ورائها، حتى لقد رحت أوثر الموت على الحياة، وكدت أشنق نفسي، ولكن بينما هممت أن أفعل، وقد أخذت أنفاسي تنقطع، ونبضي يخفت، وقلبي تهبط ضرباته، إذ دخل علي مسيو دي برجراك فبادر إلى الحبل فقطعه، ثم ذهب فزكاني عند ابنة عمه؛ فأدخلتني في خدمتها كما تعلمين.
الوصيفة :
ولكنك لم تشرح لي كيف تحطمت تجارتك لهذا السبب، وكيف تركت متجرك؟
راجينو :
كانت ليز تحب رجال الحرب، وكنت أحب الشعراء، وكان إله الحرب يأكل الفطائر التي يتركها إله الشعر والفن ، ولا يغيب عنك أن الحال ما لبثت أن تدهورت.
الوصيفة (تنهض من مجلسها، وترفع بصرها إلى الشرفة وتنادي) :
روكسان، هل تأهبت للذهاب؟ إن القوم ينتظروننا. (تبدو الحسناء عند النافذة.)
روكسان :
لم يبق سوى أن أشتمل بردائي، وأنزل حالا.
الوصيفة (إلى راجينو) :
إنهم ينتظروننا في هذه الدار المواجهة، فهي دار السيدة كلومير، وستلقي فيها الليلة محاضرة عن العاطفة الرقيقة.
راجينو :
عن العاطفة الرقيقة؟
الوصيفة (باستحياء) :
نعم في الحب! (تعود إلى مناداة سيدتها.)
الوصيفة :
إذا لم تنزلي يا سيدتي مبادرة فاتتنا المحاضرة!
روكسان :
هأنذي قادمة، هأنذي قادمة. (أنغام أوتار تنبعث من موضع غير بعيد، وصوت سيرانو متغنيا.)
سيرانو :
لا! لا! لا! لا!
الوصيفة :
ما أسمع؟! أتراهم يعزفون قطعة لنا؟ (يظهر سيرانو بعد لحظة، وفي أثره غلامان يعزفان على قيثارتين.)
سيرانو (لأحدهما) :
لقد نبهتك مرارا إلى أن هذه الطبقة ليست هي التي أريد أيها الأحمق.
الغلام :
ومن أين لك يا سيدي أن تميز بين طبقات الألحان؟
سيرانو :
ويحك! إن كل من أخذ عن الأستاذ العظيم «دي جاساندي» لا بد بالموسيقى العليم الخبير.
الغلام (يعزف ويغني) :
لا! لا!
سيرانو (ينتزع القيثار من الغلام، ويتم الجملة الموسيقية) :
أستطيع أن أتمها لا! لا! لا! لا! لا! (تشاهد روكسان في الشرفة.)
روكسان :
من أرى؟ أهذا أنت؟
سيرانو (يغني وهو على القيثار عازف) :
هأنا جئت أحيي نرجسك الغض، وأقدم احترامي إلى وردك!
روكسان (تنزل من الشرفة) :
هأنذي نازلة.
الوصيفة (وهي تشير إلى الغلامين) :
وما شأن هذين اللاعبين اللذين ينفثان السحر في المعازف؟
سيرانو :
كسبتهما اليوم من «داسوسي» مراهنة، فقد كنا نتحدث في مشكلة نحوية، فاحتدمت المناقشة اللغوية، واصطخبت بيننا الحجج والاعتراضات الجدلية، أنا أقول الصحيح هو كذا، وهو يقول: لا، بل الصحيح هو كذا، وبينما نحن في حوار ومناظرة ونقاش محتدم، وجدليات مستمرة، إذ جاء هذان الغلامان اللذان اعتاد أن يتخذهما لنفسه حرسا كلما ذهب أو خرج من داره، وهما بالعزف والتوقيع عليمان، وللموسيقى بضروبها حاذقان، فقال صديقي العالم النحرير، والفقيه الكبير: أراهنك على يوم كامل من الموسيقى تسمعه إذا كنت أنت المصيب، وكان مني الخطأ، وانفلت إلى مظلته يغوص فيها، وإلى مراجعه يبحث وينقب خلالها، حتى وجد ما كنا فيه مختلفين، فظهر أني أنا المحق، وأنه هو المبطل، فكان لي الغلامان يغنيان لي، ويعزفان إلى أن تستقل «فيبيس»
1
مركبتها مع الصبح إذا تنفس، وقد جئت بهما يطيعان أمري، ويشنفان برنين المثاني والمثالث سمعي، وقد بدا الأمر لي أولا بديعا مسليا، ولكني بدأت أمله، وأوشكت أن أضيق به (يستدير نحو الغلامين العزافين) ، وأنتما يا هذان، اذهبا إلى مونفليري، وغنياه لحنا راقصا! (وكان الممثل يسكن في تلك الناحية، فيتقدم أحد العازفين يريد بابه.)
سيرانو (إلى الوصيفة) :
الليلة أتيت كعادتي لأسأل روكسان ... (إلى الغلامين)
أطيلا العزف، وأكثرا من التوقيع، وأفسدا النغم، وانشزا ما استطعتما نشوزا حتى تزعجاه، وتكدرا عليه عمله، (مخاطبا الوصيفة)
لقد جئت كدأبي كل ليلة لأسأل روكسان إذا كان حبيب النفس لا يزال كعهدها به لا عيب فيه؟
روكسان (وهي خارجة من البيت) :
لله كم هو مليح، وكم هو ذكي ألمعي، وكم أنا أحبه!
سيرانو :
أكريستيان الذكي الألمعي حقا؟
روكسان :
بل أحسبه أذكى حتى منك أنت، وأفتن ألمعية يا ابن عمي!
سيرانو :
ما أحب هذا إلى خاطري، فليكن كما تصفين!
روكسان :
أحسبني لست واجدة في هذا العالم كله إنسانا قد برع مثل براعته، في حلاوة عبارته، وعذوبة كلامه، وملاحة تأديته للمعاني التي تجيش في صدره، وقد تأتي عليه أحيان يلوح عليه فيها أن ذهنه منه شارد، وشاعريته غائبة، والمعاني عليه مستعصية، ثم إذا هو فجأة قد عاد المتحدث الساحر.
سيرانو (متظاهرا بأنه غير مصدق ما قالت) :
إنك تبالغين!
روكسان :
بل أنت الذي تبالغ وتجاوز كل حد، ولكن لا بدع فأنتم كذلك معاشر الرجال تتصورون أنه ما دام الفتى مليحا جميل الوجه، فلا عقل له، ولا فطنة!
سيرانو :
وهل يعرف كيف يصف القلب وصف خبير؟
روكسان :
إنه لا يصف، بل يحلل ويفيض في دراسة الموضوع!
سيرانو :
ويكتب.
روكسان :
بل أكثر من ذلك، ألا تسمع إليه وهو يقول: «كلما أخذت من قلبي زاد قلبي ونما»، (متفاخرة) : فما رأيك في هذا؟
سيرانو (بزمة من شفتيه) :
أهذا كل ما عنده؟
روكسان :
بل استمع لما بعده: «واعلمي أن الإنسان لا غنى له عن القلب لكي يتألم، فإذا احتفظت بقلبي لديك فابعثي قلبك إلي بديلا».
سيرانو :
إني لا أفهم مراده، فهو تارة يدعي أن عنده من القلب أكثر مما يطلب، وأخرى يشكو أن صبابة القلب لا تكفيه.
روكسان (باستياء) :
أنت لا يعجبك العجب، إنها الغيرة.
سيرانو (مضطربا) :
ماذا تعنين؟
روكسان :
غيرة الشاعر منك والشاعرية، فاصغ الآن إلى هذه الآية في الرقة: «إن قلبي لديك له صرخة واحدة هي صرخة الحب، ولو أن القبلات ترسل بالمداد بريدا لكنت تقرئين، يا سيدتي، كتابي بشفتيك!»
سيرانو (يبتسم ابتسامة الرضى بالرغم عنه) :
ها! ها! هذه الأبيات ... (بازدراء)
تافهة.
روكسان :
إذن فاسمع مزيدا ...
سيرانو :
يا عجبا، أفحفظت كل رسائله إليك عن ظهر قلب؟!
روكسان :
كلها.
سيرانو :
حقا إن هذا بلا ريب تقدير عظيم!
روكسان :
إنه شاعر فحل.
سيرانو (بتواضع) :
عجبا! شاعر فحل؟
روكسان :
إنه وايم الحق كذلك.
سيرانو (محييا) :
ليكن ما تقولين، إنه شاعر فحل. (تأتي الوصيفة مسرعة.)
الوصيفة :
الكونت دي جيش (إلى سيرانو، وهي تدفعه إلى البيت)
ادخل فلعله من الخير ألا يراك مخافة أن يعرف السر أو طريقه!
روكسان :
أظن ذلك هو عين الحكمة، فإنه يحبني وهو ذو سلطان، فإذا عرف خافية أمري ذهب كل أملي، وفجعت في حبي، ولرمى قلبي بضربة منه قاضية.
سيرانو (وهو يدنو من البيت) :
ليكن ما تشائين. (يدخل دي جيش.)
المشهد الثاني
روكسان (محيية دي جيش) :
لقد كنت موشكة أن أخرج.
دي جيش :
جئت للوداع.
روكسان :
أمسافر أنت؟
دي جيش :
إلى الحرب.
روكسان :
يا لله!
دي جيش :
ونحن مسافرون الليلة.
روكسان :
كذا؟
دي جيش :
لقد صدرت لي الأوامر بالذهاب؛ لأن أراس محاصرة.
روكسان :
أراس محاصرة؟
دي جيش :
يبدو لي أن نبأ سفري قد نزل منك على قلب كالصخرة الصماء.
روكسان (بأدب) :
أوه ...
دي جيش :
أما أنا فمحزون، وفي القلب غم، رباه، هل سيتاح لي بعد اليوم أن أراك؟ لست أدري! فهل علمت أنني قد أعطيت مقاليد القيادة؟
روكسان (بغير اكتراث) :
مرحى.
دي جيش :
قيادة فرقة الحرس.
روكسان :
فرقة الحرس؟
دي جيش :
وهي الفرقة التي يعمل فيها ابن عمك المتبجح المتعجرف أخو الخيلاء، وإني لواجد هناك وسيلة للانتقام منه.
روكسان (من فرط الروع تختنق، وكأنما لم تصدق ما سمعت) :
كيف ذلك؟ أيسافر الحرس إلى أراس؟
دي جيش (ضاحكا) :
ولم لا؟ أليست فرقتي؟
روكسان (وقد تهاوت جالسة على المقعد لنفسها) :
كريستيان.
دي جيش :
ماذا بك؟
روكسان (بتأثر) :
إنني في غم شديد، ويأس بالغ من أمر هذا السفر، عندما تتعلق النفس بشخص، ثم تعلم أنه إلى الحرب الغداة مرتحل!
دي جيش (مندهشا ومنسحرا) :
لأول مرة أسمع منك هذا الكلام الحلو، ولكن في يوم سفري.
روكسان (وقد غيرت من لهجتها، وراحت تحرك مروحتها) :
أحقا تنتوي من ابن عمي ثأرا؟
دي جيش (مبتسما) :
أريد أن أعرف أولا هل أنت عليه أو معه؟
روكسان :
بل عليه!
دي جيش :
أترينه أحيانا؟
روكسان :
لا أراه إلا قليلا.
دي جيش :
إنه اليوم يلازم ضابطا في الحرس، ضابطا اسمه نو ... فيلان ... فيليه ...
روكسان :
هل هو طويل؟
دي جيش :
ولكنه غبي!
روكسان :
من ينظر إليه يحسبه كذلك، (متدللة متلطفة) : ولكن ما الذي في خاطرك أعددته للثأر من سيرانو؟ أحسبك قد فكرت في أن تلقي به في أكثف القتال، وأحر نار المعمعة، ذلك أحب شيء إلى نفسه، إنه انتقام يائس، ولكني أعرف وجها آخر أشد جرحا لكبريائه وأفجعه!
دي جيش :
وما هو ذاك؟
روكسان :
لو أنك خلفته في باريس مكتوف الأيدي، طوال الحرب هو ورفقاؤه الذين لا يفارقهم؛ لكانت تلك الطريقة الوحيدة لإغاظة رجل مثله، فإن أردت عقابه، احرمه من ركوب الأخطار.
دي جيش :
يا للمرأة من دهائها ومكرها، من ذا يتصور فكرة كهذه، أو يتخيل للثأر شيئا كهذا الذي أسمعه؟
روكسان :
ألا فاعمل يا سيدي على أن تدعه للهم والنكد يأكلان قلبه، واتركه للفراغ يذله، ويخضعه ويحرمه من مضارب السيف ومقارعه ...
دي جيش (وهو يقترب منها) :
أتحبينني يا روكسان إذن ... ولو قليلا؟ (روكسان تبتسم له لتخدعه) .
دي جيش :
أود لو يكون هذا الذي رأيته الليلة منك، من مشاركتي فيما أعمل من حقد، دليلا على الحب يا روكسان!
روكسان :
إنه لدليل ...
دي جيش (يبسط بين يديه كتبا) :
هذه أوامر السفر، وسترسل حالا إلى كل فرقة وكتيبة ما خلا (يحتجز منها كتابا) ، ما خلا هذا؛ فإنه خاص بفرقة شبان الحرس، وإني به لمحتفظ ... حقا إن سيرانو سوف يتميز من الغيظ، إذ يعلم أنه لن يشهد للحرب ميدانا، ولن يلتمس في ساحاتها من تيجان النصر إكليلا، يا عجبا، ما كنت أحسبك من بين النساء تعرفين مكرا ... أو تكيدين للناس كيدا ...
روكسان :
إنما أفعل ذلك قليلا ...
دي جيش (وقد دنا منها) :
لقد أضعت لبي، اسمعي، الليلة موعد سفري، ولكنني لا أستطيع الفرار حين أحس أنك تجزعين لفراقي، اسمعي، يوجد بالقرب من هنا، في شارع أورليان، دير أسسه الأب إثناسيوس، ولا يأذن الآباء لغير رجال الدين بدخوله، ولكنني كفيل بأولئك؛ فلهم أردان يجدون متسعا لإخفائي فيها.
إنهم رهبان في خدمة ريشليو، ومن يك من العم في وجل يخشى ابن الأخ، وسيعتقد الجميع أنني في طريقي إلى أراس ... وسآتي إليك متنكرا فدعيني، أيتها الفاتنة اللعوب، أؤخر رحلتي يوما.
روكسان (بقوة) :
ولكن سمعتك ومجدك، إذا علم الناس، ماذا يكون مصيرهما؟
دي جيش :
أف لهما ...
روكسان :
ولكن ... الحصار، أراس ...
دي جيش :
ليكن ما يكون، فأذني لي في البقاء!
روكسان (برقة) :
كلا ... فإن واجبي أن أثنيك عن ذلك.
دي جيش :
يا لها من كلمة!
روكسان :
ارحل! (لنفسها)
كريستيان يبقى «بصوت عال»: أريد أن تكون بطلا يا أنطونيو!
دي جيش (يستخف به الفرح) :
إني إذن لمسافر، (وانحنى على يدها يقبلها)
أفأنت راضية؟
روكسان :
نعم أيها الصديق ...
الوصيفة (تنحني له باحترام ساخر) :
نعم أيها الصديق. (ينصرف دي جيش.)
روكسان (إلى الوصيفة) :
إياك أن تذكري كلمة واحدة مما جرى ... فإن سيرانو لو علم بأنني حرمته محضر المعارك المنتظرة، لما صفح آخر الدهر عني.
المشهد الثالث
روكسان (يتجه بوجهها نحو البيت منادية) :
يا ابن العم، هلم إلينا مبادرا، (يأتي سيرانو مسرعا) : إننا ذاهبتان إلى دار كلومير هذه (تشير إلى الباب المقابل)
لنستمع إلى الكاندر وإلى ليزيمون.
الوصيفة (تضع أصبعها على آذانها) :
أجل، ولكن أصبعي ينبئني بأننا سنتأخر، ولن نصل في الوقت المناسب لسماعهم.
سيرانو (لروكسان) :
لا تدعي الفرصة تفوتك لسماع هذه القردة المدربة (وقد وصلوا إلى منزل كلومير) .
الوصيفة :
انظر، لقد لفوا مطرقة الباب بالقماش، (توجه الكلام إلى المطرقة) : لقد كمموك حتى لا يفسد رنينك على القوم سماع المحاضرات الرائعة، واها لك من مشاكسة متوحشة! (ترفع المطرقة بحذر، وتطرق على الباب بتؤدة.)
روكسان (وقد رأت الباب يفتح) :
اقترب يا سيرانو، وإذا جاء كريستيان - كما أتوقع - فلينتظرني حتى أعود.
سيرانو :
كلمة قبل أن تدخلي: في أي موضوع أنت راغبة في أن يتحدث كريستيان الليلة؟
روكسان (مترددة) :
ولكن ... لست أدري ...
سيرانو (ملحا) :
نبئيني؛ فليس في النبأ من يأس.
روكسان :
أفتكتم عنه الذي أنا منبئتك به؟
سيرانو :
سوف لا يعلم حرفا منه.
روكسان :
إني منتوية ألا ألقي عليه الليلة سؤالا، ولا أطلب إليه شرحا، ولا تفسيرا، ولكني قائلة له: أطلق لخيالك عنانه، ارتجل.
سيرانو (مبتسما) :
كن عظيما!
سيرانو (مبتسما) :
حسنا.
روكسان :
صه!
سيرانو :
صه!
روكسان :
اكتم السر، ولا تنبس بكلمة. (تنصرف عنه مولية، وتغلق الباب) .
سيرانو (والباب يقفل) :
شكرا. (يفتح الباب ثانية، وتطل روكسان.)
روكسان :
قد يعد ما سيقوله!
سيرانو :
كلا! يا للشيطان، كلا!
روكسان وسيرانو (معا) :
صه (ثم يغلق الباب) .
المشهد الرابع (يدخل كريستيان في الموعد موافيا.)
سيرانو (ينادي كريستيان) :
لقد علمت ما يفيدنا ... هيئ قريحتك، فالفرصة مواتية لننال فخرا، فهيا بنا ولا تضع الوقت سدى، ولا تكن - كما أرى - غاضبا متجهما، تعال بنا نذهب إلى بيتك، لكي ألقنك وأعلمك مما أوتيت علما ...
كريستيان :
كلا.
سيرانو :
ماذا تقول؟
كريستيان :
كلا إني أنتظر روكسان ها هنا.
سيرانو :
هل جننت يا فتى ... تعال معي لنتعلم ...
كريستيان :
قلت لك كلا ... فقد مللت هذه الكتب المستعارة، وبرمت بهذا الغزل المحفوظ، والتشبيب الموحى به ... والتمثيل المردد المعاد، والانتفاض الدائم، والرعشة المستمرة ... لقد كان هذا حسنا في البداية ... أما الآن فإني أحس أنها تحبني فلم أعد خائفا، ولا بي في الحب من وجل، وسأكلمها بنفسي، وأتحدث إليها حديث شعوري وإحساسي.
سيرانو :
عجبا!
كريستيان :
لست أنكر أنني أفدت من دروسك، وانتفعت بتلقينك وتدريبك ... ولكن من علمك أنني لست على الكلام قديرا، فإني على كل حال لست ضعيفا غبيا، ولا أخرس عييا، وستعلم أنني الليلة الشارح المبين، والمعلن المتكلم ... يا عجبا ... أأعجز عن عناقها، وضمها إلي! ... (يلمح روكسان خارجة من الدار المجاورة) : ها هي ذي قادمة، لا تتركني يا سيرانو!
سيرانو :
تكلم يا صديقي، وأرنا مبلغ براعتك (ينصرف ويذهب ليختبئ خلف جدار الحديقة) .
المشهد الخامس (تخرج روكسان من دار مدام كلومير في سرب من صاحباتها وأترابها، فتودعهن لدى الباب.)
روكسان :
إلى اللقاء يا برثنوئيد، ويالكاندر إلى اللقاء يا جرميوني. (تخطر متهادية، وفي أثرها وصيفتها.)
روكسان (ما زالت تودع صديقاتها) :
إلى اللقاء يا أريمدونت، (ينحنين لروكسان، ويتبادلن عبارات الوداع، ثم ينصرفن في متشعب الطرق) .
الوصيفة (ضجرة مضحكة) :
لقد فاتتنا المحاضرة عن «الإحساسات الرقيقة» من تلكؤك يا سيدتي؛ فحرمنا من متعة طيبة (تدخل البيت نافرة، وفي هذه اللحظة تلمح روكسان صاحبها كريستيان فتدلف نحوه) .
روكسان :
أهذا أنت ... لقد دنا الإمساء، ونأى الصحب، وطاب النسيم، لا نفس صاعد ولا حس، فلنجلس سويا، ولنتكلم فإني أصغي إليك (سكون) .
كريستيان (يجلس بجوارها على مقعد ممدود. سكون) :
إنني أحبك ...
روكسان (تغمض عينيها) :
هات حديثك عن الحب.
كريستيان :
إنني ...
روكسان :
فصل وبين!
كريستيان :
إنني أحبك كثيرا ...
روكسان :
بلا شك ... ثم ماذا؟
كريستيان :
ثم إنني لأرى في حبك لي منتهى سعادتي، قولي إنك تحبينني.
روكسان :
إنك تقدم القشور، وكنت أنا أطمع في اللباب، ألا حدثتني قليلا كيف تحبني؟
كريستيان :
كيف؟ حبا جما ...
روكسان :
هلم ... هلم ... أحلل هذه العقد المتشابكة، وأبن عن شعورك ...
كريستيان (الذي اقترب منها، وأخذ يلتهم بعينيه جيدها الأبيض) :
جيدك! ليتني أستطيع له تقبيلا!
روكسان :
كريستيان!
كريستيان :
إنني أحبك!
روكسان (تهم بالنهوض ) :
أما لهذا الحديث المعاد من نهاية؟
كريستيان (وهو يمسكها بقوة) :
كلا، كلا، إنني لا أحبك.
روكسان (عادت إلى مقعدها) :
هذا حسن ... فماذا بعد؟
كريستيان :
بل أعبدك.
روكسان (تنهض وتبتعد) :
آه!
كريستيان :
أجل، لقد صيرني الحب أحمق!
روكسان (بجفوة) :
هذا لا يروقني كما لا يروقني أن تكون قبيح الوجه كئيبا ...
كريستيان :
إنني ...
روكسان :
هلا ذهبت واستجمعت شتات فصاحتك الشاردة!
كريستيان :
ويحي ...
روكسان :
إنك تحبني، لقد عرفت ذلك، الوداع (تسير صوب البيت) .
كريستيان :
مهلا! أريد أن أقول لك ...
روكسان (وهي تغلق في وجهه الباب) :
إنك تعبدني ... نعم لقد عرفت ذلك. كلا ... كلا ... ارحل من هنا.
المشهد السادس
سيرانو (وقد تسلل منذ هنيهة دون أن يراه أحد) :
إنك كنت موفقا ...
كريستيان :
أغثني!
سيرانو :
وما أصنع لك؟
كريستيان :
الرحمة بي أيها الصديق، إذا لم أستعد في الحال رضاها قتلت نفسي.
سيرانو :
وكيف بالله عليك أستطيع أن أعطيك درسا، ونحن تحت شرفتها.
كريستيان :
ها هي ذي في حجرتها.
سيرانو (وقد أحس رثاء لهذا الشاب المستهام العاجز المتحير، وأجفل إذ رأى الضياء في حجرتها، ولكن الظلام كان داجنا، والليل حلكة) :
لا يزال ثم أمل في إصلاح ما أفسدته، وإن كنت لا تستحق مني العطف الذي أوليتكه وأظهرته، فاسمع ما أنا مشير به، سأختبئ أنا تحت الشرفة، وألقنك الكلام لفظا لفظا، بل حرفا حرفا ...
كريستيان :
ولكن ...
سيرانو :
صه ... (يدخل الغلامان يناديانه) .
الغلامان :
هلم.
سيرانو :
صه (يشير إليهما أن يخفضا صوتهما) .
الغلام الأول (هامسا) :
لقد ذهبنا فعزفنا عند دار مونفليري ...
سيرانو :
اذهبا فاكمنا غير بعيد عنها، أحدكما في شارع، والثاني في شارع آخر، وإذا دخل علينا أحد فنبهانا بعزفكما.
الغلام الثاني :
وأي نغم نعزف، نغم السيد جاسندي؟
سيرانو :
ليكن النغم مرحا إذا كان القادم امرأة، وحزينا إذا كان رجلا. (يختفي الغلامان، فيتجه كل منهما صوب ركن من الشارع.) (سيرانو ينادي كريستيان.)
كريستيان (مناديا) :
روكسان!
سيرانو :
انتظر (يتناول من الأرض بعض الحصا، فيحصب الشرفة بحصوات دقاق منها) .
المشهد السابع (روكسان، كريستيان، سيرانو لا زلنا نراه في أول المشهد مختبئا تحت الشرفة.)
روكسان (في الشرفة) :
سمعت هاتفا باسمي مناديا ...
كريستيان :
أنا ...
روكسان :
ومن تكون؟
كريستيان :
كريستيان ...
روكسان (باحتقار) :
أهو أنت؟
كريستيان :
أريد أن أكلمك.
سيرانو :
أحسنت ... امض هكذا برفق متوانيا.
روكسان :
لست لك بسامعة، فإنك لا تحسن كلاما ... اذهب عني.
كريستيان :
رحمة.
روكسان :
كلا، إنك لم تعد تحبني.
كريستيان (وقد بدا سيرانو يلقنه وهو في مكمنه) :
يا رب السماء، أتقولين إنني لم أعد أحبك، بينما في كل يوم أرى الحب في جوانحي متلظيا ...
روكسان (وقد همت بأن توصد الشرفة) :
عجبا! هذا أحسن قليلا، فهات ما عندك سبحا طويلا.
كريستيان (ما زال يلقن الكلام) :
لقد نما الحب في صدري الخفاق بعد أن حل به كيوبيد القاسي، واتخذه مهدا له.
روكسان (تخرج إلى الشرفة، وقد هزها هذا الكلام الطريف اللذيذ في سمعها) :
هذا أحسن نوعا، ولكنك تبدو كأنك تشكو كيوبيد، وتحسبه قاسيا، فكان حريا بك أن تخنق الوليد وهو في المهد صبيا ...
كريستيان :
وا أسفاه، لقد حاولت ولكن سدى، فإن هذا الوليد قد انقلب هرقل، وارتد جبارا عتيا ...
روكسان :
وهذا أحسن!
كريستيان :
وما لبث أن خنق الحيتين التوأمتين ... الكبر ... والشك،
2
وكأنه يعبث فحسب.
روكسان (متكئة على الشرفة) :
أسلوب جيد، ولكن ما بالك هكذا متلعثما قليلا ومضطربا، فهل في العقل خالج وخبال سرى منه إلى ملكة الخيال؟ (سيرانو يجذب كريستيان إلى ما تحت الشرفة، ويتسلل إلى مكانه وهو يهمس له في أذنه ...)
سيرانو :
أفسح لي مكانك، فإن الموقف قد توعر.
روكسان :
مالي أجد الليلة كلماتك حيرى مترددة؟
سيرانو (يقلد صوت كريستيان) :
لأن الليل قد أوغل، فهي في الظلام تتلمس طريقها إلى أذنيك ...
روكسان :
ولكن لماذا لا تلاقي كلماتي هذا الحائل في طريقها إليك؟
سيرانو :
لا عجب، إذا هي اهتدت إلي فلم تتردد ولم تضطرب؛ لأن قلبي يتلقفها، بل ما أكبر قلبي، وما أدق أذنك، وما أسرع مهبط الكلمات إذا هي من الأعالي نزلت، وما أبطأها إذا صعدت!
روكسان :
أخال كلماتك الأخيرة قد ألفت الصعود؛ لأنها قد انتظمت فلم أعد أحس خلالها تلعثما ولا ترددا.
سيرانو :
مع المرانة والتكرار تقل مشقة مثل هذه الرياضة!
روكسان :
في الحق يخيل لي أنني أتكلم من أفق عال.
سيرانو :
عال حقا، ولو سقطت منه على قلبي كلمة قاسية، لأوردته حوض المنية.
روكسان :
إذن فلأنزل إليك.
سيرانو :
كلا ...
روكسان (تشير إلى المتكأ القائم تحت الشرفة) :
اصعد فوق هذا المتكأ، وقف مليا ...
سيرانو :
كلا.
روكسان :
وكيف تعصي، أفتكون على الحب أبيا؟
سيرانو (وقد استأثرت به شيئا فشيئا) :
بل انتظري هنيهة جارية ... فإن هذا الموقف بديع، والفرصة نادرة قلما تكون مثلها مواتية، الفرصة التي يتحدث قلبانا فيها بين مختف لا يرى، وآخر ليس مرئيا.
روكسان :
ولماذا الخفية؟
سيرانو :
إنه لبديع ظاهر اللذة فليس السر فيه عصيا؛ لأنك وأنا على هذه الصورة بين نصف مختبئ، ونصف منكشف، إنما ترين أطواء ثوبي سودا كأنها الأكفان البالية، ولأنني أرى من ثوبك الناصع الأضواء البهية، أنا الشبح وأنت الضياء، أنا السواد وأنت البهاء، فهل تتصورين مقدار هذه اللحظات في نفسي لو أنني كنت البليغ الفصيح، ولم أكن عييا؟
روكسان :
ولكنك بليغ، دعوت إليك البيان فجاء ملبيا.
سيرانو :
ولكن حديث نفسي لم ينبعث من قبل من نبعة القلب جاريا، كما ترينه في هذه الليلة متدفقا ضافيا ...
روكسان :
ولماذا؟
سيرانو :
لأن لا بد لكلماتي أن ترقى إليك الآن في مشقة.
روكسان :
ماذا تقول؟
سيرانو :
إن لعينيك شعاعا يجعل القلوب واجفة، والأبصار زائغة راجفة، ولكن الليلة يبدو لي أني أحدثك للمرة الأولى.
روكسان :
هذا صحيح، فإن صوتك يبدو غريبا مختلفا ...
سيرانو :
لأني في هذا الظلام الرفيق الحاني قد اجترأت على أن أكون نفسي ولو مرة واحدة. (يتلعثم، ويهاجمه شعوره القديم، وحبه الدفين) : رباه لست أدري ماذا أقول، فاصفحي الصفح الجميل، فإن هذه اللذة الجديدة التي لا عهد لي بها ما أعذبها على النفس، وما أحلاها!
روكسان :
كيف تقول جديدة؟
سيرانو :
نعم جديدة؛ لأن الإخلاص في القول أصبح الساعة رائدي إليك، وكان خوفي من سخرية الناس لا يفتأ يقبض القلب.
روكسان :
وعلام السخرية؟
سيرانو :
لتلك الدوافع ... ولطالما أنزوى القلب حياء وراء الفصاحة والبيان، وكم من مرة أهم فيها باجتذاب نجمة علوية، فأنثني من خشية المهزأة لأجتني زهرة دنية.
روكسان :
وما للزهرة إنها حلوة ندية.
سيرانو :
ولكنها جديرة منا بالازدراء هذا المساء.
روكسان :
بالله، ما سمعتك تقول قولا مثل هذا قبل الآن!
سيرانو :
وماذا علينا لو تركنا السهام والمشاعل والجعاب، ولذنا بعيدا بأشياء أبرد ظلا وأحنى؟ ... وماذا علينا بدلا من أن نرتشف ماء ليس به طعم في قدح صغير رقيق من الذهب لو تركنا النفس تشفي غليلها، وتعب في بحبوحة النهر الزاخر.
روكسان :
وما قولك في البلاغة؟
سيرانو :
إذا كنت قد استعنتها على مشاغلتك في البداية، فاليوم حاشا أن أتخذها مستعارا؛ لأن ذلك سبة بل إهانة، لهذا الليل النفاح، والعبق الفواح، والطبيعة البليغة في ذاتها لا حاجة بها إلى البلاغة وأدواتها، ولا إلى الكلمات المنمقة المصقولة التي تزدان بها كتب العاطفة ورسالاتها، انظري إلى كواكبها، وتطلعي إلى مسابحها في الفلك ومذاهبها ... إن النظر إلى الطبيعة ينزع من نفوسنا كل بهرج وزيف، وإن أخشى ما أخشاه أن كيمياءنا المستعذبة من صناعة وبيان قد يتلاشى فيها محض الشعور وخالصه، وقد لا تلبث النفس بهذه الحيل والخدع الفارغة أن تضمحل وتذوي، فيكون كسبنا لهذه الأشياء المصنوعة الزاهية هو في الواقع خسارتنا لكل شيء.
روكسان :
قل لي أيضا ما البلاغة؟
سيرانو :
البلاغة في الحب جريمة، والالتجاء إلى كلامها الرشيق، وتعبيرها المنمق بغيض إلى النفس الصادقة كريه؛ لأنها أدنى في حلبة الحب الصادق الصريح إلى ملاكمة، أو مجالدة، أو معركة سلاحها الألفاظ ... أو مباراة كلامية أداتها الكنية والمجاز، ودقة الاستعارة، فعلام الفزع إلى البلاغة إذا كانت اللحظة المحتومة لا بد آتية في النهاية، وإلا فيا ويح الذين لا يعرفون تلك اللحظة السماوية، اللحظة التي يمضي فيها الحب الزاخر في قلوبنا مطهرا سائر نواحينا، وتصبح كل كلمة مختارة، أو تشبيه، أو استعارة، تافهة لا قيمة لها ولا اعتبار.
روكسان :
وافرض أن هذه اللحظة التي وصفتها قد جاءت فعلا وتجلت فماذا لعمرك أنت قائل فيها؟ وأي الكلمات أنت على التعبير عنها مستعين؟
سيرانو :
كل كلام يومئذ يقال جميل، وكل ما يرد على الخاطر صالح، حسبي أن أتلقى الكلمات من خاطري لحظة تواردها فأنثرها بغير نظام، وأقذف بها في غير تنسيق، نثري الأزهار، لا أصطنعها باقات مرتبة الورود بجانب الرياحين ... يومئذ يغني قولي: إني أحبك إني مستهام بك، لم أعد أحتمل إني أختنق، هذا كثير، اسمك في قلبي يخفق خفق الجرس، ولهذا كان قلبي في خفقان دائم متصل، إذ الجرس لا يني عن الخفقان، مدويا باسمك في رنين حلو.
أذكر يوما من أيام السنة الماضية، هو الثاني عشر من شهر مايو، يوم خرجت من دارك في الصباح، وقد صففت شعرك تصفيفة جديدة، فاتخذت بريق شعرك نبراسا لي، وكنت كمن يتطلع إلى قرص الشمس القرمزي، فلا تقع عينه إلا على بقع ذهبية تموج في ناظريه.
روكسان :
هذا هو لعمرك الحب.
سيرانو :
أجل، إن هذا الذي يملأ حسي رهيبا غيورا متلظيا باكيا، هو الحب؛ لأن الحب أبدا حزين، حتى وسط أفراحه، مبتئس حتى في لحظات مباهجه وانشراحه.
أي والله إنه الحب، وإن كان العجيب فيه أنه لا ينطوي على حب ذات، أو حب لنفسه، فأنا من أجل حبك أرتضي أن أقتل بسرور ما أجد منه في صدري وإحساسي، حتى وإن ظللت بسره تجهلين، بل ستلبثين الدهر كله عنه لا تدرين شيئا، ولا تعرفين، حسبي وأنا في وحدتي ومنآي، وعزلتي وجواي، أن أسمع أحيانا صدى ورنينا، لذلك الرغد الذي اشتريته لك كريما لا ضنينا، كل لمحة منك توقظ في نفسي فضيلة، وكل نظرة مني إليك تهيئ شجاعة جديدة مجهولة، وشهامة لم تكن من قبل عندي وبسالة، أفتراك أيتها العزيزة بدأت تفهمين ... لقد توانيت فهما، وتباطأت وجدانا، ألا تعلمين أنني في اللحظات التي ترقى فيها آمالي أبعد ما تكون صعدة ورقيا، أحس أنني قد أوتيت تعويضا مواسيا، لم أكن من قبل لمثله مؤملا، ولا راجيا، فاليوم لم يبق لي إلا أن أموت فما أهنأ المنية، لقد كان لكلماتي فيك وقع السحر، وهأنذا أراك تضطربين بين الأغصان الزرقاء في ظلمة الليل ... إنك ترتعدين كورقة ناضرة بين أوراق الشجر ... ولقد أحسست بالرعشة الحلوة وهي تنزل من يديك على فروع الياسمين المتدلية من الشرفة (يقبل بجنون طرف فرع متهدل) .
روكسان :
أي والحب ... إنني لواجفة ... والعبرات من عيني واكفة، إني لك، فقد شربت من أدبك، وسكرت من حبك!
سيرانو :
فليأت إذن الموت، فأنا، أنا حقا باعث هذه النشوة ...
روكسان :
فما هو؟
كريستيان (من تحت الشرفة) :
قبلة (تتراجع روكسان) ... فدعيني أسأل شيئا واحدا ...
روكسان :
ماذا؟
سيرانو :
واها لك.
روكسان :
أنت تسأل؟
سيرانو :
نعم ... أنا ... (لكريستيان)
أيها الأحمق، إنك متسرع.
كريستيان :
ألا ترى أنها قلقة، فيجب أن أغتنم الفرصة؟
سيرانو (لروكسان) :
لقد عجل لساني بما لم يساير وجداني محاذرا، وقد أدركت اللحظة أني كنت جسورا، يا للخجلة، باغيا.
روكسان (تعتريها خيبة أمل) :
أو تصر على هذا فحسب؟
سيرانو :
ليس ثمة إصرار، نعم، نعم، إن حياءك ليردك عنها؛ ولذا فالقبلة التي سألتها لك أن ترجعي فيها.
كريستيان (إلى سيرانو وهو يجذبه من ثوبه) :
لماذا؟
سيرانو :
صه يا كريستيان.
روكسان (من فوق حافة الشرفة) :
ماذا تقول بصوت خافت؟
سيرانو :
لقد جاوزت القصد، فكنت أحدث نفسي وألومها، وكنت أقول: اسكت يا كريستيان! (يبدأ العازفان في العزف)
لحظة! ها هي مواقع إقدام منا دانية. (تغلق روكسان الشرفة، ويلبث سيرانو يرهف السمع للأنغام، أحد العازفين يعزف نغما مرحا، والآخر يعزف نغما حزينا)
يا عجبا! ما بالها ابتدأت حزينة، ثم عادت لاهية، ثم انقلبت باكية؟ ليس القادم إذن رجلا ولا امرأة، فمن يكون إذن إذا لم يكن راهبا تقيا ...؟
المشهد الثامن (يظهر قسيس حاملا مصباحا، وهو يبحث بين البيوت واقفا لكل باب مناديا.)
سيرانو (للقسيس) :
ما حاجتك أيها القسيس تحذو حذو ديوجينيس بمصباحك؟
القسيس :
ولكني أفتش عن المرأة، وإن كان النهار قد راح.
كريستيان :
إنه يقف في طريقنا.
القسيس :
أريد دار مدام مادلين روبان؟
كريستيان :
وماذا يريد؟
سيرانو (يأخذ بيده، ويشير إلى شارع بعيد صاعد وهو يقول) :
خذ هذا الطريق واستقم فيه إلى نهايته .
القسيس :
بارك الله فيك يا بني ... سأدعو الله لك ليجزيك خيرا (يخرج) .
سيرانو :
ولتتبعك تمنياتي الصادقة. (يعود سيرانو إلى كريستيان.)
المشهد التاسع
كريستيان (متأوها متحرقا) :
ألا تحصل لي على تلك القبلة ناشدتك الله!
سيرانو :
كلا.
كريستيان :
إن عاجلا وإن آجلا ...
سيرانو :
هذا حق ... إن اللحظة لا بد آتية، اللحظة التي ستخامر كما فيها نشوة الجنون، وسكرة الهوى، فلا يلبث أن يلتقي الثغر بالثغر، وأن يميل الشارب الأشقر على شفاه من الورد ... (لنفسه) : لكم تمنيت أن تكون بسبب ... (تفتح الشرفة؛ فيتسلل كريستيان تحتها مختبئا.)
المشهد العاشر
روكسان :
ألا تزال واقفا يا كريستيان إلى الآن ... لقد كنا نتحدث عن ماذا؟
سيرانو :
عن القبلة ما حدها سحرا والتذاذا، وما عجبي منك إلا أن شفتيك لست أدري ما الذي يمسكهما، فإن كانت اللفظة ملهبة محرقة في معناها، فماذا عسى أن تكون هي بذاتها، وماذا هي بالشفتين صانعة من حرها ونارها.
أواه يا مالكتي ... لا تدعيها ترعب حياءك، أو تخجل تواضعك، أفلم تتركي منذ لحظة العبث جانبا، واستدرجك في غير فزع الابتسام إلى التأوه والأنين، ومن الأنين تقدمت إلى الدمع السخين، فهلا تدرجت في رفق خطوة أخرى من الدمعة إلى القبلة، وليس بينهما إلا رعدة لحظة، وخفقة قلب أخرى، وفي الجوانح من وسوستها رنين؟
روكسان :
صه ... صه ...
سيرانو (في حماسة اللحظة وحرارتها) :
ما القبلة، وما أدراك ما القبلة، إن هي إلا في ميثاق الحب الإمضاءة والتوقيع، العهد المختوم، والوعد المطبوع، اعتراف من القلب يسأل التوكيد، ونقطة النون، في لفظة «الفتون»، وسر لا يهمس به في الأذنين ... وإنما يوسوس به في الفم والشفتين، رفرفة جناح، تحمل الأرواح إلى لذة بلا نهاية، ونشوة أبدية، وخليط مركب من عصير أزهار برية، نفاحة الأرج زكية، وتفريج عن القلب وتنفيس، حين يطغى الفيضان على الحافتين، فينساب إلى الشفتين.
روكسان :
حسبك ... حسبك ...
سيرانو :
القبلة يا سيدتي كانت قديما عنوان تكريم، وشارة رضوان، إن ملكة فرنسا منحتها يوما لعظيم اكتسب حظوتها.
روكسان :
ثم ماذا؟
سيرانو :
لقد كان ذلك العظيم هو اللورد باكنهام ، وكان يتألم في صمت كما أتألم ... وكان يعبد ملكته كما أعبدك أنت يا ملكتي، وكان حزينا كحزني ... وكان وفيا.
روكسان :
وأنت جميل كباكنهام!
سيرانو (لنفسه متحسرا) :
هذا صحيح، إني جميل، لقد نسيت ذلك.
روكسان :
اصعد إذن لنقتطف هذه الزهرة التي لا مثيل لها.
سيرانو (انحنى وأمسك بكريستيان يدفعه إلى الشرفة) :
اصعد.
روكسان :
أو أنفاس القلب تفريجا وتنفيسا؟
سيرانو (يشد صاحبه، ويهمس له) : ... هيا اصعد.
روكسان :
أو هي طنين النحل ...؟
كريستيان (مترددا) :
ولكن يخيل إلي الآن أنها قبلة خطرة.
روكسان :
أو هي اللحظة الأبدية، والنشوة السرمدية.
سيرانو (يدفع كريستيان) :
اصعد أيها الحيوان.
كريستيان (يتسلق المتكأ والأغصان حتى يبلغ المكان، ويحتوي روكسان في الأحضان، ثم ينحني على شفتيها؛ فيقتطف ما شاء الحب أن يقتطف) :
أواه يا روكسان.
سيرانو (مناجيا) :
أيها الألم الممض الذي يرفرف كالطائر في الصدر مني والحنايا، وهذه هي القبلة، وليمة الحب ومأدبته، مني قريبة دانية، ولكني منها الطريد المنبوذ في ناحية، كأنني الشحاذ الطريح في الظلام،
3
يرتقب من الموائد فتاتا، أو فضلات من طعام تساقط عليه، سارية إليه هاوية.
أي روكسان، أحس أن قلبي الآن لديك؛ لأنك تقبلين على تلك الشفاه المتوهمة، الكلمات التي قلتها الساعة! (يسمع عزف الغلامين على قيثارتيهما بلحنيهما المتباينين ... نغم حزين، ثم نغم مفرح: إنه الكاهن، فيجري متظاهرا بأنه قادم اللحظة من مكان بعيد، ويقول بصوت واضح النبرات) : هولا!
روكسان (تطل لترى) :
ما الذي جرى؟
سيرانو :
هذا أنا ... كنت مارا من هنا، ولكن هل رأيت كريستيان؟
كريستيان (مندهشا) :
عجبا، سيرانو.
روكسان :
أسعدت صباحا يا ابن العم.
سيرانو :
أسعدت صباحا يا ابنة العم.
روكسان :
إنني عما قليل موافية (تختفي داخل الدار) . (يعود الكاهن حامل المصباح يتلمس الطريق.)
كريستيان (يلمح الكاهن) :
أنت ثانية، (يسير الكاهن خلف روكسان) .
المشهد الحادي عشر
القسيس :
ماجدولين روبان! إني متأكد أنها تسكن هذه الدار.
سيرانو :
أقلت «رولان»؟
القسيس :
لا، بل روبان ... باء ألف نون!
روكسان (تظهر على عتبة الدار يتبعها راجينو وهو يحمل مصباحا، ثم كريستيان) :
وما هذا؟
القسيس :
إنه خطاب.
كريستيان :
ماذا؟
القسيس :
إنه كتاب لا يليق بحمله غير كاهن أو قسيس ... لأنه من أمير عظيم ...
روكسان (باضطراب) :
ما أحسب الكتاب إلا من دي جيش.
كريستيان :
أو يجرؤ على هذا.
روكسان :
إنه لن يضايقني بعد اليوم، حسبي أني أحبك. (نقض الكتاب فيقدم راجينو في تلك اللحظة فيدني منها مصباحا، وتقرأ هي على ضوئه.) «سيدتي ...
الطبول تدق، وفرقتي تتأهب للرحيل، وأنا وحدي المتخلف، وإن ظن الجميع أنني قد استبقت، لقد راودتني الجرأة على عصيان نصحك، والتمرد على أمرك، وأنا الساعة مختبئ وراء جدران الدين رابض، متحينا الفرصة المواتية تبسم لي، وتومض لكي أتزود بوداع الليلة وأسعد، وقد حملت كتابي هذا راهبا أبله لا يدري ماذا حمل في اليد، لقد ابتسمت لي شفتاك العذبتان، فلا طاقة لي على الرحيل دون أن أراهما مرة أخرى قبل البين ...»
روكسان :
أحسبك يا أبي لم تعلم ما في هذا الكتاب فاسمع إذن (تقرأ بصوت عال) . «سيدتي ... «أمر الكردينال مطاع، وكلمته قانون، وإن كنت بالأمر لا ترحبين، أو فيه لا ترغبين، وتنفيذا لأمره، وتحقيقا لمشيئته ... بعثت إليك بهذا الكتاب، على يد رجل تقي ورع، ذكي حازم أريب؛ لكي تتلقي منه في الحال في بيتك بركة الزواج سرا بكريستيان، وإن كنا نعلم أنك للزواج به كارهة ... ولكن فلتصبري ولتستسلمي يعوضك الله عن صبرك خيرا كثيرا، والسلام».
الكاهن (وقد اشتد اغتباطه) :
إنه لسيد عظيم، بارك الله فيه، وما شككت في حسن رسالته، وشريف غايته.
روكسان (همسا إلى كريستيان) :
ألا ترى أني أحسن قراءة الكتب؟ (يدير القسيس المصباح ناحية سيرانو.)
القسيس :
فأنت الزوج إذن يا سيدي؟
سيرانو :
يحس بالأرض تميد به، ولكنه لا يجيب.
كريستيان (مبادرا) :
بل أنا هو.
القسيس :
وهو يرفع المصباح ليراه، ولكنه يتبين خياله وجها مليحا، (ولكن) .
روكسان (مقاطعة) :
يا عجبا ... إن للكتاب حاشية نسيتها: «تبرعي إلى الدير بمائة وعشرين بستولا».
القسيس (بفرح) :
نعم السيد العظيم، والمولى الكريم. (لروكسان) : وما تقولين، ألا تسلمين أمرك لله وتذعنين؟
روكسان (بعد لحظة كأنما تستخير ضميرها، وتناجي خاطرها) :
ثم لا تلبث أن تتخذ سمات المكره المستشهد منه).
روكسان :
أسلم (تلتفت إلى راجينو بأن يتقدم بالمصباح يهدي إلى الطريق، يدخلون البيت إلا سيرانو الذي يتخلف) . (لسيرانو)
ابق يا ابن العم بموضعك هذا لترد عنا غائلة دي جيش، وتكون له بمرصد، فإذا جاء فاحم الباب في وجهه، ولا تبحه دخولا، فهمت؟
سيرانو :
فهمت، (إلى الكاهن قبل أن يتوارى عنه) : كم يستغرق عقد القران منك؟
الكاهن :
حوالي ربع الساعة.
سيرانو (يدفعهم داخل الدار) :
ادخلوا فإني هنا ماكث، وليفعل الله ما يشاء.
روكسان (لكريستيان) :
هلم! (يدخلون) .
المشهد الثاني عشر
سيرانو :
كيف السبيل ليت شعري إلى احتجاز دي جيش ربع ساعة؟ (يعتلي المتكأ، ويتسلق الجدار في اتجاه الشرفة) : والآن لأتسلقه ... لدي خطتي (يبلغ سمعه عزف القيثارة، وهي تعزف تعزف لحنا محزنا)
أن رجلا في الطريق! (ويسرع إلى قبعته فيرخيها على عينيه، ويخلع سيفه، ويتزمل بردائه، يصبح اللحن تشاؤميا)
لن أخطئ هذا المرة! (يطل مختبرا الارتفاع من الشرفة إلى الأرض) : ليست المسافة بعيدة على كل حال. (يتمشى في الشرفة، ويمده يده إلى فرع مديد في دوحة من الجدار قريبة؛ فيتعلق به، ويمسكه بكلتا يديه، على الأهبة ليسقط من فوقه) : سأرج هذا الأفق رجا خفيفا.
المشهد الثالث عشر (يظهر شبح دي جيش وهو ملثم، يتلمس الطريق في الظلام.)
دي جيش :
يا عجبا لهذا الكاهن اللعين! ما الذي يمكن أن يريده؟
سيرانو (لنفسه) :
ويحي إن هو عرف صوتي، (يترك يدا متعلقة بالشجرة، وباليد الأخرى يتظاهر بأنه يدير مفتاحا خفيا في الباب)
كريك! كراك، (بخشوع) : سيرانو! عد إلى قديم غسقونيتك!
دي جيش (ينظر إلى الدار) :
نعم، هذه هي الدار ... مالي لا أتبين الأشياء جيدا، إن هذا القناع ليضايقني. (يقف دي جيش بالباب، ويهم بأن يدخل البيت، يترك سيرانو جسده في تلك اللحظة يهوي من مكمنه، فيسقط بين الباب وقدمي الكونت، يتعمد أن يحدث سقوطه صوتا يوحي بأنه سقط من مكان عال جدا، ويظل راقدا على الأرض بلا حراك، وكأنه قد غشي عليه.)
دي جيش (يتراجع) :
يا لله ما هذا؟ (يرفع عينيه إلى أعلى فلا يرى إلا السماء؛ لأن الغصن الذي كان متعلقا به عاد إلى مكانه بعد انحنائه) : من أين سقط هذا الرجل إذن؟
سيرانو (وهو يتحامل ويجلس، ويتحدث بالغسقونية) :
من القمر انحدرت ...
دي جيش :
من أين قلت؟
سيرانو (وكأنه يحلم) :
كم الساعة الآن؟
دي جيش :
هل فقد الرجل عقله؟
سيرانو :
أي البلاد هذا البلد؟ وأي الأيام هذا من الأسبوع؟ وأية ساعة هذه؟ وأي فصل من فصول السنة؟
دي جيش :
ولكني.
سيرانو :
إني في ذهول.
دي جيش :
سيدي!
سيرانو :
من القمر سقطت كما تسقط القنبلة.
دي جيش (وقد عيل صبره) :
أهذا! سيدي!
سيرانو (بصوت مدو وقد هب واقفا) :
لقد هويت منه!
دي جيش (متراجعا) :
حسنا! حسنا! لقد هويت منه ... لعله مخبول ...
سيرانو (متجها نحوه) :
قلت لك إنني من القمر انحدرت، وأنا في ذلك لا أتكلم مجازا، ولا أستخدم استعارة.
دي جيش :
ولكن ...
سيرانو :
لم يكن لي الخيار وأنا أهوي في أن أعرف مكان استغرقت، منذ كنت في تلك الكرة الصفراء وأقمت؟ لست أدري.
دي جيش (غير عابئ) :
لقد أقمت هناك، فدعني أمضي وشأني.
سيرانو (يمنعه عن المسير) :
نبئني الحق، أين أنا؟ ولا تخف عني في أي قطر كنت، وبين أي قوم مثل النيزك سقطت.
دي جيش :
عجبا!
سيرانو :
لم يكن لي الخيار، وأنا أهوي أن أعرف مكان سقوطي، فهل ثقل جسمي طرح بي إلى القمر أو إلى الأرض؟
دي جيش :
ولكن أنصت لي يا سيدي.
سيرانو (يصرخ صرخة مدوية يتراجع لها الكونت) :
يا إلهي، إن وجوه أهل هذا البلد سود.
دي جيش (يتلمس وجهه بيديه) :
وكيف كان ذلك؟
سيرانو (خائفا) :
أفي بلاد الجزائر أنا؟ ولعلك أنت من أهل البلاد؟
دي جيش (أدرك أنه يلبس قناعا) :
واها لهذا القناع!
سيرانو (متصعنا اهتداءه إلى الحقيقة) :
فأنا في البندقية إذن، أو لعلي في جنوا؟
دي جيش (محاولا المرور) :
دعني أمر؛ فإن غادة تنتظر.
سيرانو (وكأنه قد اهتدى إلى الحقيقة) :
أنا في باريس إذن يا رجل؟
دي جيش (يبتسم بالرغم عنه) :
يا للوغد! إنه مسل .
سيرانو :
عجبا! أتضحك؟
دي جيش :
نعم، ولكني أريد أن أمضي لسبيلي.
سيرانو (مشرق الوجه) :
لقد هبطت باريس، مع الزوبعة الأخيرة، (يلقي الكلام على عواهنه، نافضا الغبار عن ردائه، منحنيا في أدب) : معذرة، إنه السفر، إن الأثير يغطي بعض جسمي، وغبار الكواكب يملأ عيني، حتى مهمازي تكسوهما بعض الشعرات من النجوم)، ثم يلتقط شعرة من كمه: يا عجبا، هذه شعرة في صدريتي ما أحسبها إلا من ذنب نجم مذنب، (ينفخها في الفضاء كأنما يردها إليه) .
دي جيش (وقد ضاق ذرعا) :
سيدي! (ولكن سيرانو يسارع إلى الانحناء ليمسك بساقه كأنما يريد أن يريه شيئا).
سيرانو :
يا لله ما هذا الذي وجدته مغروزا في ساقي؟ هذه سن من أسنان الدب الأكبر حين كنت أمر بقرب «السماك الرامح» انحرفت، فرارا من حربته المثلثة الأسنة، فسقطت على «الميزان»، واستويت جالسا على إحدى كفتيه، وأحسب أن مؤشره قد قيد وزني عليه، هناك في السماء، (يحاول دي جيش الانصراف؛ فيمسك سيرانو بزر من أزرار صدريته) : وإني لأقسم لك يا سيدي أنك لو ضغطت أنفي بين أصبعيك لنفث لبنا حليبا.
دي جيش :
تقول لبنا حليبا؟
سيرانو :
نعم؛ من أثر خوضي وسبحي في نهر المجرة «الطريق اللبني».
دي جيش :
بل بمرورك على الجحيم!
سيرانو :
كلا! بل هبطت من السماء، (يضم ذراعيه على صدره) : وهل تصدق يا سيدي بالله عليك أنني في منحدري من السماء رأيت «الشعرى اليمانية» تضع على رأسها «طاقية»، (يسر إليه كلاما) : وقد نجوت من عضات الدب الأصغر؛ لأنه لا يزال حدثا لا يعرف عضا؛ (يضحك) : ومررت بكوكب «القيثارة»، فقطعت من أوتارها وترا، (متفاخرا) : وفي نيتي أن أضع في رحلتي هذه كتابا أو سفرا، وقد حملت بين طيات قبائي الشائط نجيمات دقاقا، ركبت في سبيلها الأخطار، وأحسبها تصلح لكي تكون «سطور نجوم» بين أجزاء الكتاب الذي أعتزم طبعه.
دي جيش :
أو لم تنته بعد؟ لقد تحملت الكثير وأريد ...
سيرانو :
إني أعرف ما تريد ...
دي جيش :
سيدي!
سيرانو :
أحسبك الآن تتشوق لمعرفة شيء مني عن القمر، ومم يتركب ، وهل يعيش الناس على سطح هذه القرعة الكروي؟
دي جيش (ضاحكا) :
كلا، كلا، إني أريد ...
سيرانو :
لقد فطنت، إنك تريد أن تعرف كيف صعدت السماء، ألا فاعلم يا سيدي أني قد اهتديت إلى طريقة عجيبة من حسر تفكيري، وصميم مبتكري.
دي جيش (مبتئسا) :
إنه لمجنون.
سيرانو (باحتقار) :
فلم ألتجئ إلى الرخ الثقيل كما فعل رجيومونتانس، ولا إلى اليمامة الوجلة التي استخدمها أركيتاس.
دي جيش :
هذا والله مجنون، لكنه مجنون مثقف.
سيرانو :
كلا لن أكون مقلدا شيئا سبقني إليه القدماء. (وفلت منه، وكان ينجح في بلوغ باب دار روكسان، لولا أن سيرانو جرى في أثره مستعدا لاستخدام العنف والقوة لمنعه ورده.)
سيرانو :
لقد ابتكرت ست طرق لاقتحام القبة الزرقاء، وغزو قلاعها.
دي جيش (يلتفت خلفه) :
ستة طرق؟
سيرانو (بطلاقة لسان) :
أما الطريقة الأولى: فهي أن أقف مثل كفك عاريا، تحيط بي قوارير بلورية، ملأى بعبرات الطبيعة الباكرية، في البكرة الندية، معرضا الجسد للشمس المتوهجة القاسية؛ فتمتص قطر الندى، وتمتصني معه.
دي جيش (بدهشة، يقف على الرغم منه مصغيا) :
هذه واحدة، فما هي الثانية؟
سيرانو (وهو يتراجع خطوات؛ لكي يبعد به عن الشرفة الدانية) :
والثانية يا صاح أن أعمد إلى توليد الرياح والأهوية، فأحتجزها في صندوق من خشب الأرز، بوساطة مرايا متعددة الأوجه، وعدسات محرقة، ثم أرقى بها.
دي جيش (وهو يتقدم خطوة) :
والثالثة ما هي؟
سيرا (يتراجع خطوة مثلها) :
أما الثالثة فتحتاج إلى براعة آلية؛ لاصطناع جرادة عملاقة، ذات أذرع صلبية، وألقي بنفسي في جوفها، محركا إياها بمادة بارودية تحدث انفجارات متصلة، تقذفني إلى تلك الحقول السماوية الزرقاء حيث قطعان النجوم.
دي جيش (يتبعه وهو ساهم يعد على أصابعه) :
عجل بالرابعة.
سيرانو :
ولما كان للأدخنة والأبخرة خاصية الصعود إلى الطباق العالية، أروح أملأ بها منطادا، بالقدر الذي يكفي لحملي معه.
دي جيش (يتابعه مندهشا) :
هذه طرق أربع، فلعل الخامسة أبدع.
سيرانو :
أو ألطخ نفسي بنخاع من جسد ثور، أيتها الثيران، ما دامت فيبي،
4
وهي تتضاءل، تحب ارتضاع الدهن.
دي جيش (مندهشا ) :
هذه خمس، فما السادسة؟
سيرانو (وكان قد تراجع بدي جيش إلى أن بلغا الجانب الآخر من المكان، ووقفا بجانب أحد المقاعد) :
أو أركب لوحا من حديد، وأمسك في يدي بقطعة من مغناطيس أقذف بها في الفضاء، ولا يكاد المغناطيس يطير حتى يندفع وراءه الحديد منجذبا إليه، ثم أبادر بقذف المغناطيس كرة ثانية، وهكذا دواليك.
دي جيش :
هذه ست طرق كلها طيبة باهرة فاخرة، فأيتها كانت المختارة؟
سيرانو :
اخترت سابعة.
دي جيش :
إنه لمدهش، فما تلك؟
سيرانو :
حدس إن استطعت.
دي جيش :
ليتني عرفت.
سيرانو :
دعني أمثلها تمثيلا (يمد ذراعيه، ويلوح بهما في الفضاء كما يفعل الطافي فوق صفحة الماء، ويمثل الخرير والأمواج)
هويش! هويش!
دي جيش :
وما هذا؟
سيرانو :
ألا تخمن؟
دي جيش :
لا.
سيرانو :
هذا هو اللج المتقاذف، أو هو حركة المد والجذر في تلك الساعة الساحرة التي يغازل القمر فيها الأمواج، ويجتذب عندها اللج الرجراج، وقد رحت بعد الاستحمام في الماء الملح الأجاج، أستلقي على الرمال، حتى إذا أقبل القمر الوهاج، جذب إليه اللجة فانجذبت من رأسي؛ لأن شعري كان مبتلا بالماء، ولم أزل أرقى السماء طبقا طبقا، حتى رأيتني فجأة قد اصطدمت ...
دي جيش (يجلس من الدهشة فوق المتكأ ليستمع إلى النهاية) :
وماذا بعد؟
سيرانو (يعاود لهجة الغسقوني الصميم، ويترك التقليد) :
لقد مضت الدقائق المحدودة فلن أمنعك بعد هذا ولا دقيقة واحدة؛ وقد تمت صيغة القران.
دي جيش (يثب واقفا) :
يا عجبا، هذا الصوت أعرفه ... (تفتح الأبواب في تلك اللحظة، ويأتي الخدم والغلمان يحملون في أيديهم الشموع مستبقين العروسين، وقد تماسكا باليدين، وفي أثرهما الكاهن، ويحمل راجينو كذلك مشعلا مضيئا، وفي الساقة الخادمة بثياب النوم مبهوتة.)
سيرانو (يرفع قبعته) :
والآن، هل عرفت من أنا؟
دي جيش (وقد كاد يجن من الدهشة والغضب معا) :
وهذا الأنف ... أنت سيرانو.
سيرانو (منحنيا بأدب) :
لقد انتهوا الآن من عقد القران.
المشهد الرابع عشر
دي جيش :
يا إلهي، ومن العروسان؟ (يدور في القوم يلتمس الوجوه، فيلمح روكسان) : أأنت، (ثم يلمح كريستيان) : وهذا هو؟ (ينحني لهما انحناءة الإعجاب) : يا لك من ماكرة غادرة، (ويلتفت إلى سيرانو) : تهنئاتي الحارة، أيها المخترع صاحب الآلات الطائرة؛ فإن قصتك والله لتحتجز على باب الفردوس القديسين والأبرار، ونصيحتي لك ألا تغفل في كتابك مما بسطته لي صغيرة ولا كبيرة، فإنه بلا شك سيكون ذا فائدة جليلة.
سيرانو (منحنيا) :
سوف أقوم يا سيدي بتنفيذ وصيتكم. (يتقدم الراهب إلى الكونت ليريه العروسين، وهو مغتبط جذلان تهتز لحيته البيضاء.)
الكاهن :
زوجان جميلان تفضلت عليهما يا بني فوحدت بعقد القران اتباعا لوصيتك.
دي جيش (يرمقه ببرود) :
حسنا! (إلى روكسان) : هلمي أيتها العروس، ودعي القرين قبل وشك الفراق.
روكسان (مروعة) :
وكيف هذا؟
دي جيش (يوجه الكلام إلى كريستيان) :
إن فرقتك الساعة راحلة، فلتلحق في الحال بها.
روكسان (جازعة) :
أمسافرة إلى الميدان؟
دي جيش :
بلا شك.
روكسان :
ولكن فرقة شبان الحرس لا تذهب ...
دي جيش :
بل هي ذاهبة لا محالة، (يتذكر الورقة التي في جيبه فيخرجها) : وهذا هو الأمر الصادر بشأنها ... (إلى كريستيان) : احمل الأمر إلى البارون بنفسك.
روكسان (ترتمي في أحضان فتاها الوسيم الجميل صارخة) :
كريستيان.
سيرانو (لنفسه) :
يظن أنه بذلك يسبب لي ألما.
دي جيش (إلى سيرانو هازئا متهكما) :
ما زالت ليلة الزفاف نائية.
سيرانو (وهو على المشهد حزين كظيم «لنفسه») :
أواه ... إن في لدغة تهكمه ألم الموت، إن كان يدري، ولكني المتجلد الصبور.
كريستيان :
هات شفتيك مرة أخرى.
سيرانو :
حسبك الآن، وهلم.
كريستيان (يهوي على صفحتها تقبيلا) :
يشق على النفس فصالها، ولكنك لا تدري ...
سيرانو (يحاول أن يبعد به) :
بل أدري. (أصداء طبول مدوية من مكان سحيق.)
دي جيش (من الخلف) :
لقد آذن الرحيل، والفرقة على أهبة المسير.
روكسان (تتشبث بكريستيان لتمنعه، ويمسك به سيرانو ليجتذبه معه) :
سيرانو، وصيتي لك أن ترعاه، وإلى ذمتك أعهد به، فهلا وعدتني أنك عليه حريص، وهلا أقسمت ألا تدعه يجازف يوما بالحياة، وأن تصد الأخطار عنه، وتقيه البأس والبلاء.
سيرانو :
سأبذل جهدي، أما أن أعد فليس في إمكاني.
روكسان (متوسلة باكية) :
إذن فأقسم على أنه سيكون الحاذر الحريص على نفسه!
سيرانو :
وفي هذا أيضا سأبذل جهدي، ولكن ...
روكسان :
وفي الحصار لا تدعه يعاني بأسا، أو يشكو بردا.
سيرانو :
كل ما في مكنة الإنسان أنا فاعله ...
روكسان :
وأن يبقى على حبي مخلصا وفيا.
سيرانو :
بلا شك، ولكني ...
روكسان :
وأن يكتب لي أحيانا.
سيرانو :
أما هذا فلك به وعدي وثوقا واطمئنانا. (ينزل الستار)
الفصل الرابع
العسكر الغسقونيون
الموقع الذي تحتله فرقة كاربون دي كاسيل جالو في حصار مدينة أراس، يمتد بطول المسرح كله، عند مؤخرته، يشاهد فيما وراء ذلك سهل ممتد إلى الأفق، أما الأرض فتغطيها منشآت تتصل بعملية الحصار، ترى عن بعد وعلى صفحة السماء أشباح أسوار أراس ومبانيها، خيام وأسلحة متناثرة وطبول، النهار يوشك أن يطلع، وفي الشرق لمع خافتة من خيوط صفر متجمعة، الحراس واقفون على أبعاد متساوية، نيران المعسكر موقدة، يرقد العسكر الغسقونيون في سبات، ملتفين بعباءاتهم، كاربون دي كاسيل جالو ولوبريه ساهران للحراسة، وقد شحب لونهما، ونحل بدناهما، وكريستيان راقد في مقدمة المسرح مع غيره من رفقاء فرقته، وقد التف بعباءته، واستضاء وجهه بضوء إحدى النيران المشبوبة بالمعسكر، والسكون مخيم على الجميع.
المشهد الأول
لوبريه :
لقد ساءت حالنا.
كاربون :
وهل بعد أن نفدت ميرتنا من سوء؟
لوبريه :
يا للشيطان ...
كاربون (يحذره بإشارة منه أن يخفت صوته) :
العن واسخط كما شئت، ولكن في سرك؛ لئلا يستيقظوا، (يلقي ببصره إلى الشباب الرقود) : لكم الله أيها الشباب الجياع الغرقى، وليهنأكم النوم، (إلى لوبريه) : فإن الجياع النيام يأكلون.
لوبريه :
ولكن هذا عزاء لا يغني عن الذين هم مسهدون لا يخالط الكرى أجفانهم، يا لها من مجاعة! (أصوات طلقات من مكان بعيد.)
سيرانو (فوق الهضبة) :
برجراك أيها الأحمق (ينزل من الهضبة) .
كاربون :
ألا سحقا لهم ولطلقاتهم! سوف يوقظون أولادي (يخاطب الجنود، وقد استيقظوا ورفعوا رؤوسهم) : عودوا إلى الرقاد! (ينامون ثانية، وتسمع طلقات جديدة عن كثب.)
أحد الجنود (يتحرك في موضعه) :
لقد عاد الشيطان.
كاربون :
لا شيء، إنه سيرانو عائد إلى المعسكر. (يرقد الجنود ثانية.)
حارس (فوق الهضبة ) :
يا للشيطان ... من يسير هناك؟
كاربون :
لعنة الله على نيرانكم، إنها ستوقظ أبنائي من نومهم (ينظر فيرى رؤوسا ارتفعت) ، بل استرسلوا يا بني الأعزة المكدودين في سباتكم؛ فإن اليقظة لهف نفسي مؤلمة، (يتحرك في هذه اللحظة شاب من النائمين، على سماع طلقات النيران) يا للشيطان، ألا تزال هذه الأصوات مدوية.
كاربون (إليه مواسيا) :
لا شيء يا بني، لا شيء ... إن هذا إلا سيرانو راجعا ... (يعود الرقود الذين هموا بأن يرفعوا رؤوسهم إلى النوم مستسلمين.)
الديدبان (يشاهد على التل) :
أيها القادم قف، من أنت؟
سيرانو :
سيرانو برجراك، أيها المعتوه (يظهر وهو يهبط المنحدر) .
لوبريه (مبادرا) :
يا للسماء.
سيرانو :
صه ... لئلا يستيقظوا.
لوبريه :
أو جريح أنت؟
سيرانو :
لا ترع يا صاح ... ألست تعلم أنهم قد جعلوا دأبهم ألا يروني بينهم في الصباح؟
لوبريه :
إن مهمتك قد جاوزت كل حد، تحمل رسائل في كل مطلع فجر، إن هذا والله لهو الخطر الأكبر.
سيرانو (يقف قبالة كريستيان) :
ماذا أصنع غير هذا الذي أنا صانع ... لقد وعدتها أن يكتب إليها كل يوم. (يظل لحظة يتطلع إلى كريستيان) : إنه نائم وسنان، ولكن لله ما أشد شحوبه، (فيتوجه إليه لوبريه مضطربا) : فلو أن فتاته عرفت أنه اليوم يوشك أن يموت جائعا ضاويا ... ولكن جماله لا يزال على حاله باقيا.
لوبريه :
هيا أسرع إلى غرفتك لتنام.
سيرانو :
أقصر اللوم يا صديقي، أو أقلله ناصحا مشفقا، ولا تحسبني في حملي البريد كل ليلة جزافا كبيرا، لقد اهتديت إلى موضع أسرب منه مجتازا خطوط الأسبان، حيث يرقد الجند سكارى بين ضابط منزوف، وجندي ثمل، وديدبان نشوان.
لوبريه :
حاول إذن أن تجلب إلينا طعاما.
سيرانو :
لا ينبغي لمن يذهب أن يكون لشيء ثقيل حاملا، ولكن ثق أن مفاجأة ستباغتنا الليلة، فإما أن يجد الفرنسيون طعاما، وإما أن يلاقوا الموت زؤاما، إذا صحت رؤيتي.
لوبريه :
ألا تقص علينا الخبر؟
سيرانو :
كلا ألست متأكدا من ذلك؟ ... سوف ترون.
كاربون :
من المخجل أن نجوع نحن المحاصرين لا المحصورين.
لوبريه :
ليس ثمة أعقد من حصار أراس هذا، لقد جئنا لنحصر جيشا، فإذا بنا نلقى فخا منصوبا، وشركا محتلا، إذ بادرنا الأسبان بجيش هذا الكردينال الطفل فحاصرونا.
سيرانو :
يجب أن يخف إليه الآن من عليه النوبة في محاصرته.
لوبريه :
لست مازحا.
سيرانو :
عجبا! عجبا!
لوبريه :
هلا فكرت أيها الجاحد أنك تعرض في كل يوم حياتنا للخطر، حياة قبل حياتك لمجرد حمل ... (يرى سيرانو متجها إلى إحدى الخيام.)
لوبريه :
إلى أين؟
سيرانو :
إلى الخيمة لأعد كتابا آخر. (يدخل الخيمة.)
المشهد الثاني
تشرق الشمس، ويصطبغ الجو بحمرة خفيفة، وتبدو مدينة أراس في الأفق، وقد انعكست عليها الأشعة الذهبية.
يسمع قصف المدافع من بعيد، يتبعه قرع الطبول من جهة الغرب، ثم يسمع صوتها مقتربا، وتتجاوب أصواتها وهي تدنو، ويتضاءل الصوت إذ تتباعد إلى أن تتلاشى جهة الشرق حول المعسكر.
وتدب الحركة في الخيام حين يستيقظ النائمون، وتسمع أحاديث الضباط من بعيد.
كاربون :
هذه نوبة الصحيان، ويحي! (يتحرك الجنود في مضاجعهم، ويتمطون بأصلابهم) : أيها النوم اللذيذ لقد انتهيت، وإني أعرف ما ستكون صيحتهم الأولى.
أحد الجنود (يتحرك ويفتح عينيه) :
أشعر بجوع.
آخر :
إنني أموت.
الجميع :
أواه! أواه!
كاربون :
انهض يا هذا!
ثالث :
لا قدرة لي على الانتقال خطوة واحدة.
رابع :
ليست القوة على الحركة.
الأول (ينظر إلى نفسه في صفحة السلاح) :
لساني مغطى بطبقة صفراء، يبدو أن ثمة شيئا في الطقس لا يمكن هضمه.
آخر :
إني لأتنازل عن جميع ألقابي في مقابل قطعة من الجبن.
آخر :
أما أنا فإن لم يدخل معدتي شيء يهيج عصارتها، فسوف أحذو حذو أخيل، وأدخل خيمتي.
آخر :
نعم، شيء كالخبز مثلا!
كاربون (يذهب إلى خيمة سيرانو، ويناديه بصوت منخفض) :
سيرانو!
آخرون :
إننا نموت جوعا.
كاربون (عند باب خيمة سيرانو يكلمه بصوت منخفض) :
أقبل يا سيرانو ناشدتك الله، فأعني على أمري، فلقد عرفناك المرح، القادر على إدخال السرور إلى القلوب، تعال اشدد قلوبهم برطب حديثك، ولطف أمازيحك.
الجندي الثاني (يهوي على الجندي الأول، وقد رآه يمضع شيئا) :
ماذا تمضع يا هذا؟
الجندي الأول :
قطعة من فتيلة مدفع محمرة في شحم محور عجلته، وقد اتخذت من إحدى الخوذات مقلاة لتحميرها، ذلك أن ضواحي أراس ليست غنية بحيوانات القنص.
جندي آخر (يدخل) :
لقد كنت أصطاد.
ثالث (المزاح عينه) :
وأنا كنت أصيد السمك.
الجميع (وقد نهضوا وراحوا يضحكون، ويتمازحون مع القادمين) :
ماذا؟ وماذا أحضرتما معكما؟ أسمكا أم طيورا؟ لنر ما في جعبتكما أسرعا! أسرعا!
الصياد :
لقد صدت عصفورا دوريا.
صائد السمك :
وأنا صدت سمكة نهرية.
الجميع :
كفانا هزرا (وقد أخذ منهم الغضب مأخذه)
لنتمرد!
كربون :
أغثني يا سيرانو! (وقد طلع النهار) .
المشهد الثالث
سيرانو (يخرج من خيمته ساكن النفس هادئا، وقد وضع قلما خلف أذنه، وأمسك بكتاب) :
ما الذي أصابكم؟ (سكون، يوجه كلامه لجندي يتخاذل في مشيته)
ما بالك يا هذا تجر ساقيك هكذا جرا؟
الجندي :
أحس شيئا في قدمي يمنعهما عن السير.
سيرانو :
وما هو؟
الجندي :
معدتي!
سيرانو :
وأنا والله مثلك.
الجندي :
لعلها مسببة لك ضيقا.
سيرانو :
بل هي مسببة لي اتساعا.
جندي آخر :
لي أسنان طويلة!
سيرانو :
إذن فلن تقضم إلا ما سمك وغلظ.
آخر :
معدتي خاوية.
سيرانو :
ذلك خير، لكي تصلح طبلا ضخما، ندق عليها نوبة الهجوم ...
ثالث :
أسمع دويا في أذني.
سيرانو :
كذبت؛ فإن المعدة الخالية لا آذان لها.
آخر :
إلينا بشيء نأكله بالزيت.
سيرانو (يخلع خوذته ويضعها بين يديه) :
خوذتك ملأى بزيت الشعر.
بعضهم :
يا لله! ألا شيء نلتهمه.
سيرانو (يدفع إليهم بكتاب كان في يده) :
إليك الإلياذة.
أحدهم :
إن الوزير في باريس ينعم بأربع وجبات في يومه.
سيرانو :
كان من الذوق أن يرسل إليك بعض طير تأكله.
الجندي :
ولم لا ... ونبيذ أيضا.
سيرانو :
من نبيذ بورغونيا يا ريشيلييه أسعفنا، وكن متفضلا.
صاحب الطلب :
كان في وسعه أن يرسله إلينا مع كهانه وأحباره.
سيرانو :
بل يحمله إليك قداسته متشحا بثوب أغبر.
فتى آخر :
إنني جوعان جوعة الغول.
سيرانو :
كل من صبرك حتى تتخم.
الجندي الأول (يهز كتفيه) :
ألا تزال كدأبك لا تكف عن المجون، واستعمال التورية والمجاز؟
سيرانو :
كيف وإني لأوثر أن أجد منيتي على مساء يوم صائف، وعلائل النسيم في البكور، أو عند رونق الضحى، وما للمجون من ضير، إذا كان لهدف نبيل، لنفي حزن، وطرد شر، أو حمل جندي شجاع على ألا يموت إلا من حد الحسام بطعنة من عدو نبيل كائنا من كان، أي والله إني لأوثر أن أموت فوق عشب بالدم مخضب، على أن أقضي على فراش الحمى عليلا، فأهوي وسن الحربة في قلبي، وحلو النكتة على شفتي.
أصوات (تصرخ) :
نحن جياع، فماذا نصنع؟
سيرانو (وقد ضم ذراعيه) :
ويحي! أكل أفكاركم وأخلادكم من لحم يؤكل، وشراب يشرب؟ فأنت يا برتران نافخ البوق، كنت بالأمس راعيا تهش على الشياه والنوق، أخرج من حقيبتك الجلدية إحدى آلاتك الموسيقية، هيا أضرب الناي لهؤلاء الجنود الشرهين النهمين المتعاوين، ألحانا مما يتغنى به أهلنا في ريفنا، رجاعة بحنين، ملأى بشكاة وأنين، تذكرهم بالوطن وقومه، وأناشيده ونغمه، كل صدى من أصدائها يناغيك كأنه بعض أهلك، ويدعوك دعاء خفيا، وكل لحن من ألحانها يسري رويدا، ويصعد رويدا، كما تصعد ذوائب الدخان وتيجانه من مداخن قرانا وأكواخنا، وأفران دورنا وأعشاشنا، وإن موسيقاها لتقع في أسماعنا موقع غسقونيتنا، ورطانة ديارنا. (يتناول الشيخ الراعي الناي.)
سيرانو :
هذا الناي الذي يؤلمه أن يكون محاربا معنا ... ذكره الساعة وأنت ترقص أناملك على جذعه الرفيع، فيرسل أنغاما مطربة غير مترددة، مثل صدح الطير تغريدا، ذكره بأنه قبل أن يصنع من الأبنوس قد صنع من أنابيب القصب والغاب على ضفاف بلادنا، وشواطئ أنهارنا لتذهله أنغامه، فهيا يا ناي غننا، أو غن بنا، وهيا أعد علينا ذكريات أناشيد مراعينا وحقولنا، وهيا يا ناي استعد عهد شبابك في غياضنا الزاهرة، ومروجنا. (الشيخ يعزف شيئا من ألحان لانجويدوك، وأناشيدها.)
أرهفوا الأسماع إلى العزف والتوقيع معاشر الغساقنة، فليست هذه الأصوات الخداشة التي تسمعها في معسكراتنا، ولكن الناي من تحت أنامل الشيخ ناي الغابات والأجم، إن ألحانه وهو بين شفتيه لا تنادي إلى المعارك أرواحنا، وإنما تسمعنا اللحظة أناشيد الرعاة العذبة خلف خرافنا، وشياهنا، وقطعاننا، هيا يا غساقنة، أرهفوا الآذان لأغاني، ودياننا، وغاباتنا، وآكامنا، وألحان الرعاة، وقد أكسبتهم الشمس سمرة وردية تحت قبعاتهم القرمزية، إنها أغاني المساء المرحة تتردد على ضفاف الدردون الخضراء، إنها غسقونيا بكل ما فيها، فاسمعوا يا غساقنة إلى شدو الغاب، وأرهفوا الآذان. (لا يبقى في الجنود أحد لم يطرق، ولا خلا منهم فرد لم يزفر، ولم يشهق، ولا تلبث أعينهم أن تشرد منها الأبصار واللمحات، كأنهم في حلم عذب تراءى لهم في نوم عميق وسبات، وهم يمسحون الدموع والعبرات، وهم سكوت والناي يتكلم.)
كاربون (لسيرانو همسا) :
لقد هيجت أشجانهم، وأحزنتهم من حيث أردت إبهاجهم، واستثرت الدموع من أعينهم منهلة، وكنت تحاول أن تدخل الفرح على القلوب منهم والأرواح.
سيرانو :
إنه الحنين للوطن، وإن له لألما أشرف وأنبل من عضة الجوع، هو ألم الروح لا وجع المعدة، وعواء البطن، فليتألموا وليتوجعوا؛ فإن وجائع القلوب خير والله من آلام المعد والأمعاء.
كاربون :
ولكنك تضعف من روح الشجاعة في نفوسهم، وتضعضع بذلك بقية قواهم.
سيرانو (يشير إلى جندي من جنود الموسيقى وضاربة الطبول ليدنو منه) :
كلا يا سيدي القائد، إن البطولة الكامنة في قلب الغسقوني ودمه على استعداد في أية لحظة لتستيقظ وتتنبه، بل تكفي دقة واحدة ... (يشير إلى الجندي فيدق طبلا راعدا، فإذا الشباب جميعا يستوون على سوقهم، ويبادرون إلى أسلحتهم متحمسين) .
الجميع :
عجبا! ما هذا؟
سيرانو (إلى قائده مبتسما) :
أفرأيت، لقد كانت دقة واحدة من دقات طبول الحرب كافية عندهم لنسيان كل شيء، فما لبثوا أن نسوا الأحلام، والآلام، والذكريات، والحسرات، وذكروا الوطن والحب، وما أثار فيهم لحن الناي، عدت عليه دقة الطبل فمحته محوا.
فتى (من بعيد يصيح) :
ها هو ذا مسيو دي جيش قادم نحونا. (يصيح الجميع صيحة تأفف وكراهية هوو! هوو!)
سيرانو (مبتسما) :
تذمر الرياء.
آخر :
لقد سئمنا هذا الرجل.
آخر :
إنه يسير بخيلاء، وقد برز طوق رقبته المطرق فوق درع صدره.
آخر :
كمن يلبس فوق الدروع رداء.
الجندي الأول :
كان يجوز له هذا لو أن في رقبته دملا يحرص على إخفائه.
الجندي الثاني :
هو ذا رجل آخر من رجال البلاط!
آخر :
إنه ابن أخي عمه.
كاربون :
ولكنه على كل حال غسقوني.
الجندي الأول :
إنه مزيف فتحاشاه، ألا ترى أن الغساقنة مجانين، ليس ثمة أخطر من غسقوني عاقل.
لوبريه :
إنه شاحب الوجه.
آخر :
إنه جائع كأي شيطان سقيم منا، ولكن لما كانت درعه ملأى بأزرار ذهبية، فإن ألم جوفه يبدو مشعا في ضياء الشمس زاهيا.
سيرانو :
دعونا إذن، لا نتراءى متألمين أمامه ... هلموا أخرجوا أوراق اللعب، وزهر النرد، وغلايينكم. (يبادرون جميعا إلى إبراز أدوات لهوهم وتسلياتهم، يضعونها على الطبول والكراسي، ويدخنون غلايينهم الطويلة) ، ولأتظاهر أنا بقراءة الفيلسوف ديكارت، (يروح ويغدو مطالعا في كتاب يخرجه من جيبه) .
المشهد الرابع (يدخل دي جيش فيبدو الجميع منهمكين في تسلياتهم، ويرى وجهه شاحبا، يتجه إلى كاربون.)
دي جيش (إلى كاربون) :
طاب يومك، (ويقف كلاهما يتفحص الواحد الآخر) .
الكونت (لنفسه بلهجة المتشفي) :
إنه ليبدو مصفرا ...
كاربون (لخاطره) :
لم يبق منه إلا عيناه.
دي جيش (إلى الشباب) :
أهؤلاء هم المتمردون؟ أيها السادة، لقد سمعت من جميع الجهات أنكم تسخرون مني في مجامعكم، وإن صغار الجنود، ونبلاء الجيش من سكان الجبال وفلاحي بيارن، وبارونات بيريجوران يطوون الكشوح على كراهيتي، ويلقبونني بصانع الدسائس، ورجل البلاط الملكي، ويتهامسون عن تأنقي، وحسن سمتي، كأنما عندكم أن الغسقوني لا يكون غسقونيا حقا إلا إذا بدا أشعث أغبر، متصعلكا مفلوكا، عاري الجسد، أو في ثياب خلقة. (سكون، والجميع ماضون في ألعابهم وتدخينهم.)
دي جيش :
أتريدون أن آمر قائدكم بعقابكم؟
كاربون :
لو أنت قد فعلت يا سيدي لما أطعت أمرك.
دي جيش :
ماذا تقول؟
كاربون :
إن الفرقة فرقتي، وأنا الذي يدفع أجور جندها، فلا أخضع إلا للأوامر المتعلقة بالحرب.
دي جيش :
أيصل الأمر إلى هذا الحد؟ لقد والله سمعت ما فيه الكفاية، إن تسخروا مني فإني منكم لساخر، وما بي حاجة إلى من يعرفني قدر نفسي، وحقيقة شأني، وقد عرف الناس من قبل مقدار شجاعتي، وإقدامي، وبأسي، ورأوا بالأمس كيف كانت حميتي وأنا أغير على جيش الكونت دي بيكوا في «يابوم» الليلة البارحة، وكيف جمعت جنودي فانقضضت عليه ثلاث مرات متوالية.
سيرانو (وهو منكب على كتابه) :
وما رأيك في وشاحك الأبيض؟
دي جيش :
أو عرفت حقيقة هذا الحادث وتفصيله، لقد اتفق أنني بينما كنت أجمع رجالي للهجمة الثالثة إذ لقيتني شرذمة من الهاربين، فحملتني معها إلى موضع قريب من صفوف الأعداء، فأدركت أنني قد وقعت في خطر من أسر، أو موت مبادر، وكان الظلام شديد الحلكة؛ فخفت أن ينم وشاحي الأبيض عن درجتي العسكرية، فخطر لي أن أخلعه، وألقي به جانبا، ففعلت، ولم ينتبه الأسبان إلى فعلتي، وعدت إلى مكاني؛ فاستعنت بمدد من جنودي ففرقتهم كل مفرق، فماذا ترون أيها السادة في عمل كهذا، وما منزلته من تقديركم؟ (لا يبدي الجند رغبة في الاستماع، ولكنهم يكفون لحظة عن التدخين، ولعب الورق والنرد، ويخيم السكون في توقع حدوث شيء ما.)
سيرانو (يتقدم منه) :
إن هنري الرابع لم يرتض حين أحدق الخطر به أن ينزع عنه ريشته البيضاء القائمة في جانب من خوذته، على الرغم من كثرة المعارضين. (يتهلل الجميع، ولكنهم يظلون على صمتهم، وألعابهم، وتدخينهم.)
دي جيش :
نعم، ولكن الخدعة نجحت، وهذا يكفي. (يظل الجند على صمتهم ولعبهم.)
سيرانو :
يجوز ... وإنما لا ينبغي للجندي أن يكون هذا هو دأبه في الفرار من شرف الموت من رصاص أعدائه، (تتبادل أوراق اللعب والزهر، ويزيد مرح الجند) : ولو أني كنت حاضر أمرك حين سقط وشاحك لبادرت إليه فالتقطته، وألقيته على بدني، وقلت للموت هيا، إن شجاعتنا يا سيدي من طراز غير طراز شجاعتك.
دي جيش (بسخرية) :
ما هذه إلا ادعاءة غسقونية كإيلافك زهوا وتباهيا.
سيرانو :
أعرنيه الليلة ألتفع به، وأنا أقسم لك أنني به مقتحم صفوف العدو شجاعا أبيا.
دي جيش :
ادعاءة ثانية، إذ أنت تعلم أن الوشاح الآن في أيدي الأعداء، فقد سقط مني على حافة قناة جارية، والرصاص الساعة عليها متكاتف يحصد الأرواح جنيا ... فما إلى الوشاح اليوم من سبيل.
سيرانو (يدس يده في «جيبه»، وإذا هو يخرج الوشاح الأبيض، ويتقدم إلى دي جيش) :
ها هو ذا وشاحك يا سيدي خذه إليك، إني قد حفظته لك مصونا نقيا. (سكون، ولكن الغساقنة يكتمون ضحكاتهم خلف أوراق اللعب التي في أكفهم من سخرية صامتة، يبدأ أحدهم بغير اكتراث يصفر بفمه صفيرا يشبه النغمة التي سمعتها منذ لحظة من الشيخ الراعي صاحب الناي وعزفه) .
دي جيش (يتناول الوشاح) :
شكرا لك، إنه اللحظة يجدي نفعا، فإني سأتخذ منه بيرق إشارة لأعطيها، وقد صميت نفسي من إعطائها حتى الآن. (يصعد هضبة، ويلوح بالوشاح ثلاثا.)
الجميع :
ما هذا الذي تفعله يا سيدي الكونت؟
الحارس (ينادي بأعلى صوته من أعلى الهضبة) :
هناك رجل يجري هربا.
دي جيش (ينزل من الهضبة) :
هذا جاسوس أسباني مزعوم، اصطنعته لنفسي يحمل عني أنباء إلى الأسبان، وأنا الذي أنفذه إليهم، وبذلك تكون خططهم متأثرة بما ندلي إليهم من معلومات.
سيرانو :
يا لك من وغد!
دي جيش (وهو يضع الوشاح عليه بكل برود) :
إنه نافع لنا، ماذا كنا يا ترى قائلين؟ لقد تذكرت، لقد اجتمعنا أمس في حضرة المارشال قائدنا العام للبحث في أمر مجاعتنا، فرأى المارشال أن يشخص خلسة بنفسه إلى «دورلان» حيث تودع مئونة الملك وميرته، ولكي يعود إلى المعسكرات بلا خطر، أو مشقة اصطحب قوة لا بأس بها من جنودنا، وبقينا نحن هنا مرابطين، فمن يردنا بقتال أو غارة ينتفع بهذه الفرصة السانحة له؛ لأن نصف جيشنا عن الخطوط غائب.
كاربون :
ولو عرف الأسبان الحقيقة لكان في ذلك القضاء علينا، ولكن ألا يعرفون شيئا عن هذا الأمر؟
دي جيش :
بل عرفوا، وسوف يهاجموننا.
كاربون :
عجبا!
دي جيش :
لقد جاءني جاسوسي هذا فنبأني النبأ قائلا: «إن في وسعي أن أدلهم على الموضع الذي منه يهجمون على مواقعكم، فمن أي المواضع تريد أنت أن يهاجمونا لأنبئهم أنها أضعف المواقع استحكاما، وأكثرها للهزيمة تعرضا، فليزحفوا نحوها، وهم مطمئنون؟»، فأجبته أن ارقب إشارتي؛ فمن حيث تشهدها فتلكن غارتهم، وها قد رأيتم الإشارة التي أعطيتها إليه.
كاربون (مناديا جنوده) :
إلى السلاح. (ينهضون في خطفة البرق من مجاعتهم إلى أسلحتهم؛ ليكونوا على أتم الأهبة والاستعداد، تسمع صلصلة السيوف، وقعقعة المناطق، وهم يتمنطقون بها.)
دي جيش :
سينقضون علينا بعد ساعة.
أحد الجنود :
بعد ساعة؟ حسنا! (يعود الجنود إلى الجلوس، ومتابعة ألعابهم.)
دي جيش (لكاربون) :
يجب علينا كسب الوقت، فالمرشال في طريقه إلينا.
كاربون :
وكيف نكسب الوقت؟
دي جيش :
بتفضلك بالسماح لهم بقتلك!
سيرانو :
أهذا هو الانتقام إذن؟
دي جيش :
لن أدعي بأني اخترتك وجنودك لفرط حبي لكم، ولكن لما كانت شجاعتكم لا تبارى، فقد اخترتكم خدمة لمليكي، وشفاء لغلتي!
سيرانو :
اسمح لي أن أبدي لك يا سيدي شكري وعرفاني.
دي جيش :
من كان يطرب لقتال مائة فلا يشكو من قتال آحاد؛ الفرصة سانحة لك الآن.
سيرانو :
الآن أيها الشجعان الصناديد، قد آن لكم أن تضيفوا إلى شعاركم في الحرب، ورمز سلاحكم ذي الستة الألوان المزيجة من أزرق وأصفر، لونا آخر كان ينقصه حتى الساعة، وهو اللون الدموي الأخير. (يرى دي جيش في المؤخرة، وهو يتحدث مع كاربون، وتصدر الأوامر بالاستعداد للنزال، يتجه سيرانو نحو كريستيان الذي يقف مكتوف الذارعين في ذهول صامت.)
سيرانو (يضع يده على ذراع كريستيان) :
كريستيان.
كريستيان (يهز رأسه) :
روكسان!
سيرانو (بسخرية) :
وا أسفاه!
كريستيان :
وددت لو أني على الأقل بعثت إليها بكتاب وداع جميل وضعت فيه كل قلبي.
سيرانو :
لقد هتف بنفسي من قبل هاتف أن اليوم هو له فهيأت إليها الكتاب، (ينتزع من طيات صداره كتابا) .
كريستيان (زافرا متأوها) :
أرنيه!
سيرانو :
أو على رؤيته أنت الساعة قادر؟
كريستيان (يتناوله من كفه فينشره، ولكنه لا يكاد يقرأ فيه قليلا حتى يغمغم) :
ما هذا؟
سيرانو :
ماذا؟
كريستيان :
بقعة صغيرة مستديرة.
سيرانو (يأخذ الخطاب بلهفة، ويلقي عليه نظرة ساذجة) :
أو تقول بقعة مستديرة؟
كريستيان :
إنها دمعة!
سيرانو :
نعم، إنها دمعة ... ذلك يا صاح دأب الشعراء، يقعون في سوء تعبير، وفي ذلك سحرهم، ومحرك أخيلتهم.
ولقد جعلت أكتب هذا الوداع فاسترسل معي حزينا، ومضى من قلبي في أسلوب غم واكتئاب، حتى لقد دمعت عيناي فتساقط الدمع مني على صفحة الكتاب.
كريستيان (ينظر إليه) :
أبكيت؟
سيرانو :
أواه، إن الموت في ذاته ليس برهيب، ولكن أن نفارقها، ونحن نحس أننا بعد اليوم لن نملي العين منها، هو لذعة الموت، وأنها من الموت نفسه أبلغ والله في الإيلام، وقد كنت أتخيل أنني لن ... (كريستيان يرمقه بنظرة) : إننا لن ... (ثم يستدرك مسرعا) : إنك لن ...
كريستيان (يختطف الكتاب من يده) :
هاته فإني له لحفيظ. (تسمع جلبة من مكان بعيد، ثم يطرق أذنيهما صوت الحارس.)
الحارس :
يا للشيطان! من القادم هناك؟ (تسمع طلقات النيران، وجلبة وضوضاء، ورنين أجراس.)
كاربون :
وما هذا؟
الحارس (فوق الهضبة) :
إنها مركبة؛ (يندفع الجميع لمشاهدتها) .
صيحات :
ما هذا؟ مركبة في المعسكر؟ إنها داخلة إلى المعسكر، إنها قادمة من معكسر الأعداء، يا للشيطان! أطلقوا النار عليها، لا، انتظروا إن الحوذي يصيح، ماذا يقول؟ إنه يصيح: في خدمة الملك.
دي جيش :
في خدمة الملك، وكيف؟ (ينزلون من الهضبة، ويصطفون في نظام عسكري.)
كاربون :
ارفعوا القبعات تحية!
دي جيش (في الركن) :
في خدمة الملك، تقهقروا إلى الوراء أيها الرعاع، وأفسحوا لها المكان لتدور دورتها في أبهة وجلال. (تظهر مركبة علاها الغبار، وتلطخت بها الأوحال، ولا تزال مسدلة الأستار، ومن خلفها جلس وصيفان، تدخل المعسكر مسرعة، ثم تقف مرة واحدة.)
القائد :
سلام سلاح. (يدوي المكان بصليل السيوف، ودق الطبول، يرفع الجنود قبعاتهم تحية.)
دي جيش :
أنزلوا سلم العربة. (يتقدم رجلان نحو العربة، يفتح الباب، وتنزل روكسان من المركبة متهللة مشرقة المحيا.)
روكسان :
طاب يومكم. (دهشة عامة عند سماع صوت المرأة، ينتصب الجند، وكانوا قد انحنوا للتحية.)
المشهد الخامس
دي جيش :
في خدمة الملك، أنت؟
روكسان (ضاحكة) :
أي نعم ... في خدمة ملك الحب، فهل ثم ملك أدين له سواه؟
سيرانو :
يا إله السموات!
كريستيان (يندفع نحوها) :
ما الذي جاء بك؟
روكسان :
هذا الحصار قد طال عليه المدى.
كريستيان :
ولكن لم جئت؟
روكسان :
سوف أقص عليك ذلك فيما بعد!
سيرانو (وهو يجمد في مكانه كالمأخوذ) :
يا إلهي، لست أجسر على النظر إليها .
دي جيش :
لا ينبغي أن تمكثي هنا؟
روكسان :
بل إني لماكثة، من ذا يقدم طبلته لأقتعدها، (يبادرون إلى تقريب طبلة منها فتجلس فوقها) : شكرا، (وتضحك) : لقد أطلقوا النار على المركبة (بكبرياء)
العسس! يبدو أنها صنعت من قرعة، أليس كذلك؟ كمركبة سندريللا، والخدم فيها جرذان. (ترسل من طرف أناملها قبلة إلى كريستيان) (تدير عينيها في الوجوه) : ما بالكم لا تلوحون فرحين متهللين، ألا تعلمون أن الطريق طويل من باريس إلى أراس هذه؟ (تلمح سيرانو) : أهذا أنت يا ابن العم، ما فرحتي بلقائك، وما أبهج خاطري!
سيرانو (يتقدم للسلام عليها) :
ولكن بالله ... كيف؟!
روكسان :
أتسأل كيف اهتديت إلى السبيل، الأمر بسيط، لقد مررت وسط خراب ضارب بجرانه، وبلقع صفصف، ودمار شمل الأرض يا إلهي! لم أكن لأصدق بوجود هذا الدمار الرهيب لو لم أره بعيني رأسي ... أهذه هي خدمة الملك أيها السادة؟ إني إذن لأوثر أن أخدم ملكي أنا.
سيرانو :
إن هذا لجنون مطبق، ولكن أي طريق شيطاني سلكت؟
روكسان :
أي طريق؟ سقت مركبتي وسط معسكر الأسبان.
أحد الجنود :
لله ما أمكرهن!
دي جيش :
ولكن حين جئت إلى خطوط نيران الأسبان كيف تواتى لك اجتيازها؟
لوبريه :
لا بد أنك لاقيت صعوبات جمة.
روكسان :
في الحق لم أجد عناء، ولم أصادف تعبا، إذ كنت كلما مرت بي المركبة على حارس من حراسهم أفتح نافذتي، وأبتسم له ابتسامتي، والحق أقول لكم أيها السادة في غير غض من أقداركم، إن الأسبان أرق أهل الأرض خاشية، وأظرفهم نفوسا، ولذلك مررت.
كاربون :
هذا صحيح، ومن ذا الذي يرى الابتسامة منك، ويخطر له أن يعترض سبيلك، هذه الابتسامة هي جواز المرور، ولكن لا بد أنهم أوقفوك مرارا ليسألوك يا سيدتي عن وجهتك.
روكسان :
وقد جعلوا يسألونني عن وجهتي، فكنت أجيبهم أنني ذاهبة لأرى حبيبي، فكانت هذه الكلمة وحدها كافية لترد أشرس رجالهم خلقا، وأرهب جندهم ضراوة، هادئا صامتا وتحدوه إلى إيصاد باب المركبة، وإعطاء الإشارة إلى الجنود بخفض فوهات بنادقهم، وبانحناءة حزينة، وحركة وقور رائعة، يرفع القبعة قائلا : دعوا السنيورة تمر في طريقها آمنة.
كريستيان :
ولكن رباه.
روكسان :
معذرة وصفحا عن قولي: حبيبي، ولكن أتحسبهم كانوا مجيزين لي المرور لو أني قلت: إني ذاهبة إلى زوجي العزيز؟
كريستيان :
ولكن!
روكسان :
ماذا بك؟
دي جيش :
حسبك مزاحا، لقد حان أن ترجعي؛ فإن هذا الموضع لا يصح أن يحتويك!
روكسان :
أنا أرجع؟
سيرانو :
لا تردد، ولا ممانعة.
لوبريه :
وبأسرع ما يكون الإسراع!
كريستيان :
نعم، يجب ذلك.
روكسان :
ولكن لماذا تريدني أن أعود ...؟
كريستيان (متحيرا) :
لأن ...
سيرانو (متحيرا أيضا) :
لأن بعد ثلاثة أرباع الساعة ...
دي جيش (متحيرا) :
بل بعد ساعة واحدة ...
كاربون (متحيرا) :
خير لك أن ...
لوبريه (متحيرا) :
قد يكون ...
روكسان :
سأبقى هنا، إنكم ستقاتلون.
الجميع :
كلا! كلا!
روكسان :
إنه زوجي، (ترتمي في أحضان كريستيان) : فلنمت معا!
كريستيان :
ولكن ما هاتان العينان؟
روكسان :
سأقص عليك السبب.
دي جيش (وقد ضاق ذرعا) :
إنها لوظيفة مرعبة.
روكسان (تلتفت إليه) :
تقول مرعبة؟
سيرانو :
ودليل ذلك أنه وكلها لنا!
روكسان (إلى دي جيش) :
ويحك! أتريد أن أصبح أرملة؟
دي جيش :
كلا!
روكسان :
والآن لأكونن مجنونة، ولن أغادر المكان فضلا عن أن المسألة مسلية جدا.
سيرانو :
ماذا، هل انقلبت الأديبة بطلة؟
روكسان :
لا تنس يا مسيو برجراك أنني ابنة عمك.
أحد الجنود :
سوف ندافع عنك ونحميك.
روكسان (متأثرة) :
إني لواثقة من ذلك أيها الأصدقاء.
جندي آخر :
لقد فاح أريج السوسن في جميع أرجاء المعسكر.
روكسان :
ولقد لبست لحسن الحظ قبعة تبدو موائمة جدا لميدان القتال، (تلتفت إلى دي جيش) : ولكن ربما قد حان الوقت لانصراف الكونت، فقد يبدأ القتال في أية لحظة.
دي جيش :
أواه هذا كثير! هذا كثير! إني ذاهب لتفقد المدافع، وسأعود ثانية، وما زال أمامك وقت للتفكير في الأمر.
روكسان :
كلا! لن أغير رأيي، (ينصرف دي جيش) .
المشهد السادس
كريستيان (متوسلا) :
روكسان! ...
روكسان :
كلا.
أحد الجنود (لزملائه) :
سوف تبقى!
الجميع (يتدافعون ويتخاطفون الأشياء) :
أريد مشطا، أين الصابون؟ إن في ثوبي رتقا، فهل من إبرة لكي أرتقه؟ ألا من شريط، أعرني مرآتك يا هذا ؟ أبي أكمامي؟ إلي بمكواة الشارب، أين موسي الحلاقة؟
روكسان (لسيرانو الذي ما زال يتوسل إليها أن ترحل) :
كلا! لن يزحزحني شيء عن هذا المكان!
كاربون (وقد حذا حذو الآخرين، فشد وثاق منطقته، ونفض الغبار عن نفسه وقبعته، وثبت الريشة عليها، وأصلح من كمي سترته، واقترب من روكسان يحدثها بذلاقة) :
ربما كان الأجدر بي أن أقدم لك - ما دمت قائمة بيننا - نفرا من هؤلاء السادة الذين يودون أن يكون لهم شرف الموت تحت راية عينيك؛ (تنحني له روكسان، وتقف وقد اشتبكت ذراعها بذراع كريستيان في انتظار تقديم كاربون لزملائه) : البارون بيرسكو دي كولينياك.
الجندي (محييا) :
سيدتي ...
كاربون (يمضي في تقديمه زملاءه) :
بارون دو كاستراك دو كوزاك، فيدام دوما لجوفر استرساك ليبا ديسكارابيو، شفاليه دانتينياك جوزيه، بارون هيلو دوبلانيان، ساليشان دو كاستل كرابيول.
روكسان :
ولكن بكم اسم يسمى كل منهم؟
بارون هيلو :
أسماء لا عدد لها.
كاربون (لروكسان) :
افتحي يدك التي تقبضين بها على منديلك.
روكسان (تفتح يدها؛ فيسقط المنديل إلى الأرض) :
ولم ذلك؟ (يسارع الجنود مستبقين لكي يفوز أحدهم به.)
كاربون (يفوز به قبلهم) :
إن فرقتي لا راية لها؛ فلتكن لها من منديلك هذا والله أجمل راية خفقت فوقها.
روكسان :
ولكنه صغير جدا.
كاربون (يضع المنديل على رأس حربة الكابتن) :
ولكنه من «الدانتيلا».
أحد الجنود (لزملائه) :
الآن وقد رأيت هذا الوجه الجميل أموت وأنا سعيد قرير العين، لو أن في جوفي من الطعام بقدر حجم الجوزة.
كاربون :
أو تتحدث عن الطعام يا هذا في محضر سيدة جميلة رائعة؟
روكسان :
مالي أراكم في المعسكر متحفظين في تعاليم الجندية كثيرا، ألا من شراب يقدم أو طعام؟ إنني في الحق أحس جوعا، وأجد في نفسي ظمأ، إن قائمة طعامنا حاضرة: فطائر، وكعك، وفواكه مثلجة، ولحوم باردة، ونبيذ معتق، هذا كل ما لدينا؛ فهلموا أحضروه إلينا. (ذهول ودهشة.)
أحد الجنود :
أكل هذا تريدين؟
جندي آخر :
ولكن أمزاحا أردت أم جدا؟ من أين لنا بشيء من هذا ... لست أدري.
روكسان (برفق وتؤدة) :
في مركبتي.
الجميع (مبهوتين ) :
وكيف ذلك؟
روكسان :
أمامنا عمل كثير! فلنقدم الطعام، ونقطع اللحم، وننزع العظم، ألا اقتربوا أيها السادة من سائق المركبة، تتعرفوا عن أنفس الشخصيات، أما الطعام الذي ابترد ففي وسعنا أن نجلبه إلى الموائد ساخنا.
الجميع (يتدافعون نحو المركبة) :
يا عجبا، هذا راجينو ... ليحي راجينو! ليحي راجينو!
روكسان (بتأثر) :
يصفح الله لهم.
سيرانو (يتناول يدها، ويطبع القبلات عليها) :
أيتها الحبيبة الرفيقة الحانية. (يقف راجينو فوق مقعده من المركبة كما يفعل عادة دجالو الأطباء في طريق عام.)
راجينو :
أيها السادة، (عاصف من التصفيق) .
الجنود :
مرحى مرحى!
راجينو :
عندما نظر الأسبان إلى وجه الغادة الحسناء شغلهم حسنها عن النظر إلى الأطعمة التي تحملها المركبة! (هتاف.)
سيرانو (يميل على كريستيان هامسا) :
كريستيان! (بينما يسترسل الحلواني القديم.)
راجينو :
وقد شغلتهم النزعة الغرامية، فلم يلحظوا الصينية ... (يأخذ طبقا من على المقعد) ، وهذه اللحوم الشهية، (تصفيق حاد) . (يتناقلون طبق اللحم بينهم.)
سيرانو (يميل على كريستيان هامسا) :
لي كلمة معك أرجو أن تنصت لي ...
راجينو :
ولقد اجتذبت فينوس ربة الجمال منهم الأبصار في المعركة، حتى لقد عميت أعينهم عما حملت ديانا ربة الصيد من لحمان صيد شهية. (يمد إليهم فخذا من اللحم؛ فيتراقصون بها من الفرح، وقد أمسكت بها عشرون يدا.)
سيرانو (هامسا لكريستيان) :
أريد أن أتحدث إليك.
روكسان (تخاطب الجنود، وهم يقبلون وأيديهم محملة بالطعام) :
ضعوا كل شيء على العشب، (تضع ملاءة على العشب يساعدها خادمان ثابتا الجنان كانا واقفين خلف مركبتها، تنادي كريستيان في اللحظة التي يريد سيرانو أن يختلي به) : كريستيان أقبل، ساعد الرفاق على الوليمة الهنية. (يذهب إليها تاركا سيرانو في حيرة متناهية.)
راجينو :
ديك رومي محشو بالكمأة.
الجندي الأول (منشرح الصدر يقبل على الطعام فيقتطع شريحة من اللحم) :
مرحى! لن نذهب إلى المعركة الأخيرة قبل أن نجلس إلى المائدة، (يرى روكسان مقبلة فيستدرك): عفوا قبل أن نجلس إلى الوليمة.
راجينو (يمد يده إلى وسادات المركبة فيقلبها على ظهرها، ويلقي إلى الجمع بها) :
الوسادات أيضا محشوة بالعصافير. (صيحة مدوية، يمزقون الوسادات، ويطلعون الطعام، وهم في مرح وضحكات ضاجة عالية.)
جندي ثالث :
مرحى!
راجينو (وهو يلقي زجاجات النبيذ إلى الفتيان) :
نبيذ أحمر كالياقوت، ونبيذ أبيض يضرب إلى صفرة الياقوت الأصفر.
روكسان (وهي تطرح غطاء مائدة قد طوي طيا فوق رأس سيرانو) :
انشر هذا الغطاء، وكن خفيف الحركة، هيا.
راجينو (يلوح بأحد مصابيح المركبة) :
كل من المصباحين مخزن طعام، بل نملية. (سيرانو وكريستيان يتعاونان على نشر الغطاء.)
سيرانو (إلى كريستيان) :
يجب أن أتحدث إليك قبل أن تتحدث أنت إليها.
راجينو :
إن مقبض سوطي مصنوع من السجق!
روكسان (وهي تسعى عليهم بالشراب) :
ما دمنا سنموت شهداء، فلندع بقية الجيش تبحث عن حاجتها بنفسها، فإن هذا كله لكم معاشر الغساقنة، وليكن في علمكم جميعا أنه إذا جاء دي جيش فلن يدعى إلى طعامكم أبدا. (تمشي بين الصفوف): على مهلكم، على مهلكم، فإن في الوقت فسحة ومتسعا، (تنتقل بينهم) : إليكم الشراب، ما بالي أرى فيكم بكاة، وأشهد دموعا.
الجندي الأول :
يا لها من وليمة رائعة.
روكسان (وهي تطوف عليهم) :
نبيذا أحمر تشتهي أم الأبيض إليك أحب؟ قليلا من الخبز لمسيو كاربون، سكين هنا، هات صحفتك أيها الفتى، أتفضل قشرة الرغيف؟ دعني أسكب لك خمرا، قطعة أخرى؟ أتريد جناحا؟
سيرانو (يسير في أثرها، وقد حمل الصحاف باليدين معا ليكون لتعاليمها وأوامرها طائعا، وقد أفاض فيض عاطفته، وجاش بالحب جانحته) :
يا لله ... كم أعبدها!
روكسان (لحبيبها) :
وأنت ماذا تشتهي؟
كريستيان :
لا أشتهي شيئا.
روكسان :
كعكا وكأسا من شراب، عزمت عليك إلا ما أخذت من هذا قليلا ...؟ أفلا حسوت من شراب؟
كريستيان (وهو يحاول احتجازها) :
هلا نبأتني ما الذي حدا بك إلى المجيء هنا.
روكسان :
مهلا، بعض هذه اللهفة المتعجلة، حتى أؤدي واجبي الأول نحو هؤلاء الفتية المساكين، ألا تصطبر لحظة واحدة؟
لوبريه (ينتقل في المؤخرة نحو الهضبة، وقد حمل كسرة من الخبز فوق إحدى الحراب) :
دي جيش!
سيرانو :
أسرعوا، أخفوا كل شيء، الأطباق والقوارير والأباريق والصحاف، ولنبد كأن لم يكن شيء من أمامنا، (إلى راجينو) : أما أنت فاقفز إلى مقعدك فوق المركبة ... أأخفيتم كل شيء؟ (يظهر الكونت دي جيش، فما هي إلا ومضة الطرف حتى كان كل شيء على الموائد من شراب، ولحوم، وخبز، وحلوى، قد اختفى في طيات أرديتهم، أو أردان أثوابهم، وتحت الصناديق.) (سكوت.)
المشهد السابع
دي جيش (وقد هبت على أنفه رائحة الطعام) :
أجد للطعام ريحا فما سرها؟
أحد الجنود (يغني وهو ساه) :
تولولو! ...
دي جيش (لفتى اصطبغ وجهه أرجوانا) :
أراك يا هذا شديد الاحمرار؟
الجندي :
لا شيء، وإنما دمي يغلي في شراييني؛ إذ أتصور المعركة القادمة.
جندي آخر (يغني) :
بوم ... بوم ... بوم ...
دي جيش (ملتفتا) :
وما هذا؟
الجندي (مخمورا) :
لا شيء إنها أغنية، أغنية صغيرة.
دي جيش (لآخر) :
وأنت ما بالي أراك مرحا.
الآخر :
إن لقرب القتال نشوة.
دي جيش (يستدعي كاربون دو كاستل جالو ليملي عليه أمرا عسكريا) :
إنني أيها الكابتن ... (تقع عليه عيناه فيقف عن الكلام ثم يتابعه)
يا للطاعون! إنك تبدو مشرق الوجه أيضا.
كاربون (يحمر وجهه وهو يخفي زجاجة خمر خلف ظهره) :
تبا لي!
دي جيش :
لقد تركت أحد المدافع هنا، وكنت قد أصدرت أمري بنقله إلى ذلك الركن (يشير إلى جناح المعسكر)
يستطيع رجالك استخدامه إذا استدعت الضرورة.
أحد الجنود (بخيلاء) :
لفتة كريمة!
جندي آخر (مبتسما) :
مطلب جميل.
دي جيش :
أجن جنونهم؟ (بجفاء)
أما ولم تعتادوا استعمال المدافع، فاحذروا من رجفتها.
الجندي الأول :
أهذا؟ بفتت ... ت ... ت.
دي جيش (يتجه نحوه غاضبا) :
ولكن!
الجندي :
مدافع الغسقونيين لا تتراجع أبدا.
دي جيش (يهزه من ذارعه) :
إنك مخمور، مم؟
الجندي (بخيلاء) :
من رائحة البارود.
دي جيش (يهز كتفيه، ويتجه إلى روكسان) :
أي اعتزام اعتزمت يا سيدتي؟
روكسان :
إنني هنا ماكثة.
دي جيش :
بل يجب أن تفري من هذا الموضع فرارا.
روكسان :
كلا، بل لأبقين هنا.
دي جيش :
ما دام الأمر كذلك آتوني بندقية.
كاربون :
ولماذا؟
دي جيش :
لأنني أنا أيضا معتزم البقاء.
سيرانو :
الآن قلت قولا عظيما ... فهذه هي الشجاعة الحقيقية يا سيدي.
الجندي الأول :
أنت غسقوني على الرغم من مظهرك.
روكسان :
ماذا؟
دي جيش :
ما كنت لأترك امرأة في خطر.
جندي آخر :
اسمع يا صاح، يمكننا أن نعطيه شيئا يأكله. (لا تلبث الأطعمة أن ظهرت كأنما كان ظهورها بسحر ساحر.)
دي جيش (تتقد عيناه عندما يشهد الأطعمة) :
ماذا أرى؟ أطعمة؟
الجندي الثالث :
وسينبعث غيرها من تحت كل رداء.
دي جيش (بكبرياء وأنفة) :
أتحسبون أني آكل مما تركتم، أو أرتضي فضلاتكم؟
سيرانو (محييا) :
لقد تقدمت تقدما كبيرا!
دي جيش (بكبرياء، وقد اتخذ كلامه لهجة غسقونية) :
سوف أقاتل قبل أن آكل.
الجندي الأول (في نشوة الفرح) :
إنه بدأ يتكلم بلهجتنا!
دي جيش (ضاحكا) :
هل فعلت ذلك؟
الجندي :
إنه واحد منا ... (يأخذ الجنود في الرقص والمرح.)
كاربون (يظهر فوق الهضبة، وكان قد اختفى لحظة خلفها) :
لقد عينت لرجالي حاملي الرماح مواقفهم، إنهم ذوو عزم وتصميم. (يريهم صفا من الرماح البارزة فوق الهضبة.)
دي جيش (يميل إلى روكسان) :
أتتفضلين بأخذ ذراعي لاستعراض الجيش؟ (تتأبط ذراعه، فيصعدان معا إلى قمة الهضبة، يخرج الجند من مكامنهم ويتبعونهما.)
كريستيان (يتجه نحو سيرانو بلهفة) :
عجل بما تريد أن تقوله لي. (تظهر روكسان فوق الهضبة، فتتوارى الحراب عن الأعين، وقد نكست للتحية، ويدوي المكان بالصياح، تنحني روكسان.)
حاملو الرماح (يسمع صوتهم من بعيد) :
تعيش! تعيش! تعيش!
كريستيان :
ما هو السر الذي تريد أن تفضي به إلي؟
سيرانو :
إذا تحدثت روكسان إليك ...
كريستيان :
عم؟
سيرانو :
عن الخطابات؟
كريستيان :
نعم الخطابات، أعرف ذلك.
سيرانو :
فلا ترتكب حماقة بإظهار الدهشة، وإبداء العجب.
كريستيان :
مم؟
سيرانو :
ينبغي ألا أكتمك الحق، رباه، إن الأمر ... وقد خطر ببالي اليوم عندما رأيتها، وهو أنك ...
كريستيان :
بالله عجل.
سيرانو :
بأنك ... بأنك كتبت إليها مرارا، أكثر مما تظن.
كريستيان :
عجبا! أفعلت أنا ذلك؟
سيرانو :
رباه! لقد أخذت الأمر على عاتقي، وكنت أعبر عما يجيش في صدرك من عاطفة، فجعلت أحيانا أكتب إليها، ولا أقول لك.
كريستيان :
عجبا.
سيرانو :
فالأمر كما ترى جد يسير.
كريستيان :
عجبا ... ولكن كيف تيسر لك أن تبلغها الرسالات، ونحن هنا محاصرون من كل ناحية؟
سيرانو :
لقد كنت أتسلل مع الفجر فأجتاز خطوط العدو سرا.
كريستيان :
وهل هذا أيضا بسيط للغاية؟ ولكن نبئني يا صاح كم مرة في الأسبوع كنت تكتب إليها ... مرتين ... أثلاثا ... أم أربعا؟
سيرانو :
لا والله بل أكثر من ذلك أيضا.
كريستيان :
أكنت تكتب إليها إذن مرة في كل يوم؟
سيرانو :
نعم ... مرتين في اليوم.
كريستيان :
أو هكذا كنت تسخر من الموت لمجرد أن في ذلك الذي ألححت عليه لذة وفرحا؟
سيرانو (يلمح روكسان قادمة) :
صه؛ لا حديث بينا أمامها، (وينطلق مبتعدا فيدخل خيمته) .
المشهد الثامن (روكسان، كريستيان، مشهد الجنود في المؤخرة يروحون ويجيئون، كاربون ودي جيش يصدرون الأوامر.)
روكسان (تنطلق نحو كريستيان) :
هذا أنت يا كريستيان أخيرا.
كريستيان (يتناولها من يديها) :
الآن نبئيني لماذا جئت إلينا مجتازة كل هذه المخاطر والمهالك القائمة دوننا، لقد تجشمت عظيما، وأردت أمرا شاقا.
روكسان :
كتبك هي التي جاءت بي، وحديث رسالاتك هو الذي اقتادني، فإن كنت قد جازفت فاللائمة لائمتك ... لقد ذهبت كتبك بلبي ... ولقد جاءتني في هذا الشهر منك تترى، وكل كتاب منها أبلغ من سالفه، وأروع سحرا.
كريستيان :
أمن بضعة كتب غرامية لا خطر لها و...
روكسان :
حذار ... لا تتحدث عنها هكذا ... أواه، إنك لا تستطيع لسلطانها تصورا ... فمنذ تلك الليلة التي رحت فيها تحت شرفتي تسكب في مسمعي حديثا عجبا، لم يكن لي بمثله عهد، جعلت كتبك التي بلغتني طيلة هذا الشهر تعيد إلى مسمعي ذلك الصوت الرقيق الحاني الذي فتنتني بسحره ... فالخطأ في مقدمي خطؤك، وأنت عليه الملوم، إن صوت تلك الليلة دعاني فلبيت، ثم لبيت ... ويمينا لو أن «بنيلوب» في الأساطير الأولى تلقت من زوجها «عولص» كتبا في مثل فنون كتبك وبلاغتها لما أطاقت على المقام في نوى عنه صبرا، ولما لبثت مخلدة إلى مغزلها دهرا، بل لذهبت تفتش الأرض عنه كما فعلت هيلانة العاشقة،
1
مجنونة بالحب رغما عن إرادتها وقهرا.
كريستيان :
ولكن ...
روكسان :
لقد جعلت أقرأها ثم أعاودها، حتى ذاب جسمي، وشعرت أني أصبحت ملكا لك، فكأنما كنت أخال كل صفحة منها ورقة منفصلة من كم زهرة، انتزعت من أعماق روحك منتزعا؛ فطارت نحوي طيرا، لقد كان الحب في كل كلمة منها يشعل في القلب نارا، هذا الحب الصادق العميق.
كريستيان :
الصادق العميق؟ وهل أحسسته في الكتاب جليا؟
روكسان :
أجل، لقد أحسسته في كل كلمة منه وسطر، وبيت من بيوته وشطر ...
كريستيان :
وهذا هو الذي من أجله جئت؟
روكسان :
أي حبيبي ومالكي، لقد جئت ولو أني الساعة جثوت عند قدميك لأنهضتني، ولكن روحي هي عند قدميك الجاثية، فما أنت على النهوض بها إلى أفق أرفع مما نهضت بها بقادر، فقد بلغت القمة العالية، أي والله لقد جئت لأسألك صفحا، وأطمع في كلمة غافرة راضية، لقد حان الابتهال، وأتت المغفرة، ما دام الموت قد أصبح دانيا، أستغفرك يا كريستيان فاغفر حماقتي، ونزقي حين أحببتك بادئ الرأي لملاحة وجهك، وحسن مظهرك.
كريستيان :
روكسان!
روكسان :
غير أن الحب ما لبث أن رشد بعد أن غوى، فأمسى كطائر نشر جناحيه، ثم لم يستطع طيرانا، فقد احتجز جمالك حبي، ثم اجتذبت نفسك نفسي، فأحببتك جذابا بالجمال والنفس معا.
كريستيان :
والآن؟
روكسان :
الآن انتصرت نفسك على نفسك، فأصبحت أحبك لنفسك وحدها ...
كريستيان (يتراجع عنها) :
روكسان!
روكسان :
فلتسعد بما كاشفتك الساعة به، فالحب من أجل الجمال فحسب، هذا الثوب المستعار الذي لا تلبث الأيام أن تحيله ناحلا، أو ترده مزقا بالية، هذا النوع من الحب مبعث شقاء للنفس الأبية، ولكن الحب حين تحب النفس وجمالها، والأحاسيس ونبلها، هو الذي على الدهر يظل باقيا، إن ذلك الجمال الجسدي الذي فتنني في البداية، قد تكشف الآن لعيني، فلم يعد عندي منظورا، ولا مرئيا.
كريستيان :
رباه!
روكسان :
أأنت في شك من الانتصار لنفسك؟
كريستيان (متوجعا) :
أواه! روكسان!
روكسان :
أأفهم من ذلك أنك لا تستطيع أن تؤمن بهذا الحب؟
كريستيان :
لست أسألك حبا كهذا الذي تصفين، وإنما أوثر أن تحبيني ل ...
روكسان :
لذلك الذي أحبتك الغانيات واحدة بعد أخرى من أجله، حاشاي، لخير لك أن تكون محبوبا مني أصدق من هذا حبا ...
كريستيان :
لقد كنت أسعد حالا مني الآن.
روكسان :
ما أبعدك من الحق، إن حبي الساعة هو الأفضل الأعز، فلو أن جمالك الباهر انطفأ بريقه، وذهب لمعانه، لظللت أحبك؛ لأن نفسك هي التي أحب.
كريستيان :
حسبك، حسبك ...
روكسان :
بل لا أنفك عن حبك لو انقلبت دميما قبيحا في لحظة.
كريستيان :
لا تقولي قولا كهذا!
روكسان :
بل أقوله.
كريستيان :
ماذا تقولين؟ حتى وإن كنت دميما.
روكسان :
أقسم لأحبنك دميما.
كريستيان :
رباه!
روكسان :
أمسرور أنت الآن سرورا عميقا؟
كريستيان (بصوت مختنق) :
نعم ...
روكسان :
ماذا بك؟
كريستيان (يبعدها بلطف) :
لا شيء، أود أن أقول كلمة فاسمحي لي بدقيقة أو دقيقتين.
روكسان :
ولكن ...؟
كريستيان (يسير إلى جماعة من الجند في المؤخرة) :
إن هؤلاء المساكين الذي يوشك الردى أن يطيح بهم محرومون من مرآك بسبب حبي لك، فاذهبي تحدثي إليهم، وتبسمي لهم قبل أن يدركهم الموت.
روكسان (برقة وحنان) :
كريستيان العزيز. (تنطلق إلى جموع الشباب الذين كانوا وقوفا عن كثب حلقات؛ فيستقبلونها استقبالا كريما، ويلتفون حولها.)
المشهد التاسع (كريستيان، سيرانو، روكسان في المؤخرة تتحدث مع كاربون، وبعض الجنود.)
كريستيان (مناديا) :
سيرانو! (يخرج سيرانو مدججا بالسلاح من فرعه إلى قدمه.)
سيرانو :
ماذا تبغي؟ وما بالك هكذا مسفوع اللون مصفرا؟
كريستيان :
إنها لم تعد تحبني.
سيرانو :
ماذا تعني؟
كريستيان :
إنها تحبك أنت.
سيرانو :
لا!
كريستيان :
إنها لا تحب مني غير الروح.
سيرانو :
لا!
كريستيان :
أجل، وأنت تعلم أن نفسي التي تعني، هي أنت، فهي إذن تحبك، وأنت كذلك تحبها.
سيرانو :
أنا؟
كريستيان :
أعرف ذلك.
سيرانو :
وهذه هي الحقيقة.
كريستيان :
إنك تحبها إلى حد الجنون.
سيرانو :
بل أكثر من ذلك قدرا.
كريستيان :
إذن فلتبح لها.
سيرانو :
كلا.
كريستيان :
ولم؟
سيرانو :
انظر إلى وجهي تجد جواب ما سألت.
كريستيان :
ولكنها صارحتني بأنني لو كنت دميما لظلت تحبني.
سيرانو :
أقالت ذلك حقا؟
كريستيان :
وبكل صراحة.
سيرانو :
إني لمسرور أنها قالت ذلك، ولكن حذار يا بني لا تصدقها، آه كم سرني أنها فكرت في ذلك وقالته، ولكن اذهب، لا تأخذ كلامها على علاته ، ولا تكف عن الظهور أمامها وسيما جميلا، وإلا لامتني عليه، وكنت عندها مسئولا.
كريستيان :
هذا ما أريد أن أتبينه.
سيرانو :
كلا! كلا!
كريستيان :
يجب أن تخبرها بالحقيقة كما هي، ولتختر هي بيننا!
سيرانو :
كلا! كلا! لا أستطيع أن أتحمل هذا الأمر.
كريستيان :
أفلاني الجميل الوجه، الحسن معارف وقدا، أحطم سعادتك، وأبدد هناءتك ... إني إذن لظالم.
سيرانو :
وأنا من أجل أني قد حبيت من الطبيعة في بعض أسرارها، وغرابة أطوارها بموهبة البيان، وملكة الإفصاح عما أحسه، وما أنت كذلك به شاعر، أعدو على سعادتك، وأسلب منك كأسا هنية؟
كريستيان :
اذهب قل لها ذلك كله.
سيرانو :
إنه يصر على إغرائي بذلك، وهذا أمر جلل.
كريستيان :
لقد نئت حملا بهذا المنافس الذي في أعماق نفسي.
كريستيان :
سيرانو، أصغ لي ... لقد كان قراننا سريا لم يحضره شاهد، ومن السهل فسخه إذا عشنا ولم نك في الهالكين.
سيرانو :
يا إلهي، أراك ملحا متشددا!
كريستيان :
إما أن أحب وحدي أو لا أحب مطلقا، وهأنذا منطلق إلى المخافر الأمامية؛ لكي أرى ماذا يفعلون، فتحدث أنت إليها، ودعها تختر من بيننا أحدا.
سيرانو :
إنها ستختار أنت ...
كريستيان :
أدعو الله! (ينادي)
روكسان.
سيرانو :
كلا! لا تفعل.
روكسان (تقبل نحوه) :
ما الخبر؟
كريستيان :
لدى سيرانو كلام خطير يريد أن يسره إليك. (تعدو نحو سيرانو، بينما كريستيان ينصرف.)
المشهد العاشر
روكسان :
كلام خطير؟
سيرانو (مبهوتا) :
لقد ذهب ... (لروكسان)
لا شيء، ألا تعلمين أنه يرى في الشيء التافه شيئا عظيما.
روكسان (متلهفة) :
أو قد شك فيما نبأته به؟ إني رأيت الشك يخامره ...
سيرانو (يتناول يديها) :
أواثقة أنك قلت له الحقيقة كلها؟
روكسان :
نعم، نعم! لقد قلت له إني لأحبنه، وإن كان ... (تبدو مترددة) .
سيرانو (يبتسم ابتسامة مريرة) :
أتشعرين بارتباك من قولك في وجهي يا روكسان ...
روكسان :
ولكن ...
سيرانو :
قولك: «لن يضيرني، وإن كان دميما». (يدوي في الفضاء صوت الرصاص.)
روكسان :
وإن كان دميما! (يدوي في الفضاء صوت الرصاص) ... هذا صوت الرصاص يدوي.
سيرانو (بحماس) :
وإن كان دميم الخلقة مخيفا؟
روكسان :
وإن كان مخيفا!
سيرانو :
وإن كان مشوها؟
روكسان :
ومشوها ...
سيرانو :
وبشعا أيضا.
روكسان :
لن يكون بشعا في نظري!
سيرانو :
إذن لأحببته الحب ذاته.
روكسان :
نعم ذاته، بل لقد أزيد عليه (يكتم نفسه في ذهول) : رباه ليتها الحقيقة، فتتحقق السعادة. (لروكسان) : أصغي إلي ... أنا ... يا روكسان ... (يأتي لوبريه من جهة الأسوار مسرعا.)
سيرانو (ملتفتا نحوه) :
ما الخبر؟
لوبريه :
لا ترفع صوتك (يسر إليه كلاما) .
سيرانو (تفلت يد روكسان من يده، ويصرخ) :
واها!
روكسان :
ماذا ألم بك؟
سيرانو (محدثا نفسه وجلا) :
لقد قضي الأمر، (يسمع ضرب النار) .
روكسان :
ما الخبر؟ ما الذي يجري هنا؟ هل يطلقون النار؟ (تصعد روكسان إلى الهضبة لتنظر.)
سيرانو :
لقد قضي الأمر، لن أستطيع أن أبوح بشيء بعد الآن.
روكسان (مندفعة) :
ما الذي يجري هنا؟!
سيرانو (يحاول منعها) :
لا شيء. (يقبل جمع من شباب الفرقة يحملون على أكفهم بدنا مسجى، وهم يحاولون إخفاءه عن روكسان.)
روكسان :
هؤلاء الرجال ...!
سيرانو (يأخذها بعيدا) :
دعيهم وشأنهم.
روكسان :
ولكن ماذا كنت تريد أن تقول لي منذ لحظة؟
سيرانو :
كنت ... كنت أريد أن أقول ... بالله عليك، لا شيء، أقسم لك يا سيدتي (بحزن وإطراق) : إن روح كريستيان ... وإن نفسه كانتا (يستدرك مرتعبا)
إنهما أعظم ...
روكسان :
تقول كانتا؟ (تصدر عنها صرخة مدوية)
أواه! (تتجه نحو القوم وتدفعهم.)
سيرانو :
لقد قضي الأمر!
روكسان (تشاهد كريستيان طريحا فوق قبائه) :
كريستيان!
لوبريه (لسيرانو) :
لقد كانت أول طلقة من طلقات العدو. (ترتمي روكسان فوق جسده، يعود العدو إلى إطلاق النار، ويسمع صليل السيوف، ودق الطبول.)
كاربون (وقد استل سيفه) :
لقد بدأ الهجوم، فإلى مدافعكم، (يتجه إلى الجانب الآخر من الهضبة يتبعه جنوده) .
روكسان :
كريستيان!
كاربون (يسمع صوته من وراء الهضبة) :
أسرعوا!
روكسان :
كريستيان!
كاربون :
اصطفوا!
روكسان :
كريستيان!
كاربون :
أحكموا الهدف ... أطلقوا النار! (يقبل راجينو مهرولا، يحمل الماء في خوذة.)
كريستيان (يفتح عينيه وهو يحتضر) :
روكسان! (تجثو روكسان عند صدره، وقد مزقت قطعة من ثوبها عند الصدر، وجعلت تبللها بالماء، وتمسح بها جرحه.)
سيرانو (يهمس في أذن كريستيان) :
لقد بحت لها بكل شيء، فإذا هي تختارك أنت.
روكسان :
ماذا يا حبيبي؟
كاربون :
ارفعوا فوهة المدفع عاليا!
روكسان (إلى سيرانو) :
إنه لم يمت.
كاربون :
أطلقوا النيران، واحصدوهم حصدا.
روكسان :
أشعر بخده يبترد إزاء خدي.
كاربون :
سددوا الضرب، وأحكموا الهدف.
روكسان :
هذا كتاب على صدره (تفضه)
إنه لي.
كاربون :
أطلقوا النيران. (يشتعل الفضاء لهيبا، ويتساقط الرصاص، وتحتدم المعركة، ويعلو الصياح.)
سيرانو (يحاول الفكاك من يدها، وكانت قد أمسكت به وهي جاثية) :
روكسان، دعيني أنطلق؛ فقد ابتدأت المعركة.
روكسان (وهي لا تزال متشبثة) :
انتظر فقد مات، وليس يعرفه معي حق المعرفة سواك، لقد كنت أنت الرجل الوحيد الذي عرفته، (ينتحب بهدوء) : ألم يكن مخلوقا رائعا عجيبا؟
سيرانو (يقف حاسر الرأس) :
أجل روكسان.
روكسان :
وكان شاعرا لا يبارى، جديرا بالتبجيل؟
سيرانو :
أجل، روكسان.
روكسان :
وكانت له روح سامية؟
سيرانو :
أجل، روكسان.
روكسان :
ألم يكن ذا قلب كبير، لم يتطرق الفساد إليه، ونفس أبية ساحرة؟
سيرانو (بعزم) :
أجل، روكسان.
روكسان (ترتمي فوق صدر كريستيان) :
ولكنه مات!
سيرانو (يستل سيفه من غمده) :
الآن طاب الموت، فهي الساعة تبكيني في بكائها عليه، وعلى الرغم من أنها لم تعرفه.
دي جيش (يظهر فوق التل، منكوش الشعر، دامي الجبين: ثم يقول بصوت راعد) :
إنها الإشارة الموعودة! هذا صوت الأبواق يعلو، وها هم الفرنسيون يدخلون المعسكر يحملون الأمداد والمؤن، اصمدوا قليلا.
روكسان :
أرى الدم على خطابه، والدموع!
صوت (من الخارج يصيح) :
سلموا!
الجنود :
لن نسلم!
راجينو (يعتلي مكانه من المركبة ليشاهد المعركة منها) :
إن خطر المعركة ليتفاقم!
سيرانو (إلى دي جيش، وهو يشير إلى روكسان) :
ابتعد بها يا سيدي، فإنني مقتحم أبواب الموت لست مباليا. (يحملون الأمداد والمؤن، اصمدوا قليلا.)
روكسان (تقبل الخطاب، وهي خائرة القوى) :
هذا دمه، وهذه دموعه.
راجينو (يقفز من العربة، ويتجه نحوها) :
الله لها، لقد أغمي عليها.
دي جيش (على الهضبة يخاطب الجنود بصوت غاضب) :
اصمدوا.
صوت من الخارج :
ألقوا السلاح.
الجنود :
كلا.
سيرانو (لدي جيش) :
الآن وقد أبت شهامتك، وبسالتك يا سيدي، فانطلق بها ناجية.
دي جيش (يسرع نحو روكسان، ويحملها على ذراعه) :
سأفعل، وسوف ننتصر إذا أنتم كسبتم الوقت، وصمدتم قليلا!
سيرانو :
إننا لفاعلون!
سيرانو (ترى روكسان محمولة على ذراع دي جيش يعاونه راجينو) :
روكسان الوداع. (ويمرق كالسهم ليلقي بنفسه في وسط المعركة الحامية، فيوقفه كاربون.) (ضجيج المعركة، صيحات مدوية، يظهر الجنود مثخنين بالجراح، يهوون على الأرض.)
كاربون :
إننا نتراجع، وقد أصبت بطعنتي رمح!
سيرانو :
أيها الغساقنة لن يولي الأدبار منكم أحد، واثبتوا في أماكنكم إلى النهاية، (إلى كربون) : لا خوف عليك؛ فإن لي اليوم من الموت ثأرين: ثأر لصديقي الذي استشهد، وثأر لنعيمي الذي تبدد.
أطبقوا عليهم واسحقوهم. (وينطلق والسيف في يمينه، وقد علق بذبابته منديل روكسان الذي استحال علما مرفرفا، وبيرقا داميا.)
سيرانو (ينادي العلم في جنة الحرب، وحماستها الهائلة) :
ألا أيها المنديل رفرف؛ فأنت باسم روكسان متجمل مزدان. (يغرس عصا الحربة في الأرض، ويصرخ في الجنود.) (صوت زمر.) (يبدأ الزامر في الزمر، ينهض بعض الجرحى مرة أخرى، يلتف بعض الجنود منحدرين من الجسر حول سيرانو، وحول البيرق الصغير، ولما كانت العربة مكتظة بالجنود من الداخل والخارج، فقد برزت أسنة بنادق الجنود كالشوك، وبدت وكأنها قلعة منيعة.)
أحد الطلبة العسكريين (يظهر على دعامة من دعامات الجسر وهو يقاتل، ثم يصيح) :
إنهم يصعدون المنحدر! (يخر صريعا.)
سيرانو :
إننا سنرحب بهم! (يظهر فجأة فوق الجسر حشد رهيب من الأعداء، وتظهر ألوية الجيش الإمبراطوري العظيمة.)
سيرانو :
أطلقوا النيران! (تطلق النيران من جميع المواقع.)
صيحة (بين صفوف الأعداء) :
أطلقوا النيران! (يجري تبادل إطلاق النار، ويسقط الجنود صرعى من كل جانب.)
ضابط أسباني (يخلع قبعته) :
ما خطب هؤلاء الرجال الذين عقدوا العزم كله على أن يقتلوا جميعهم!
سيرانو (يجأر إذ يقف وسط الطلقات النارية المتطايرة) :
إنهم الجنود الغسقونيون التابعون لكاربون دي كاستل جالو، وهم مقاتلون مشهورون. (يقفز إلى الأمام تتبعه حفنة من الجنود الباقين على قيد الحياة) : إنهم جنود ... (يختفي بقية المشهد في غمار المعركة.)
الفصل الخامس
بعد مضي خمس عشرة سنة 1655، الحديقة التابعة لدير شقيقات الصليب، في باريس.
أشجار ظليلة سامقة، إلى اليسار، البيت الذي له عدة أبواب تنفذ إلى شرفة فسيحة تنتهي بدرج.
في منتصف المسرح ترتفع أشجار ضخمة منفصلة وسط فضاء إهليجي الشكل، إلى اليمين في الجناح الأول، مقعد حجري نصف دائري، تحيط به شجيرات مخضرة.
يظهر على طول المسرح من الخلف طريق تصطف على جانبيه أشجار القسطل، ينحني في اليمين - الجناح الرابع - إلى باب كنيسية ترى من خلال الأشجار. وترى من خلال صفي الأشجار المتشابكة فوق الطريق مساحات من العشب، وطرق مليئة بأشجار أخرى، وأجمات من الأشجار والأطراف البعيدة من الحديقة، ثم قبة السماء، وتصل إلى الكنيسة عن طريق باب جانبي إلى شرفة ذات عمد، تكتنفها كروم قرمزية، تمتد الشرفة إلى الأمام، وتختفي عن الأعين خلف الشجيرات القائمة إلى اليمين.
والوقت خريف، تتطاير أوراق الأشجار على العشب الذي ما زال نضرا، وثمة بقع قائمة من الأوراق الدائمة الخضرة، وأوراق نبات السدر، وتحت كل شجرة بساط من الأوراق الصفراء، تنتثر أوراق الأشجار في جميع أرجاء المسرح، ويسمع لها صوت وهي تتفتت تحت الأقدام، وتنتشر في أرض الشرفة، وعلى المقاعد.
وبين المقعد الذي إلى اليمين، والشجرة القائمة في الوسط إطار للتطريز كبير، يقع أمامه مقعد صغير، وسلال ملأى بالصوف الملفوف في خصل وكرات، وفي الإطار طنفسة لم تكتمل بعد.
وعند رفع الستار ترى الراهبات رائحات غاديات بالحديقة، تجلس قلة منهن على المقعد الحجري حول راهبة مسنة، تتساقط أوراق الأشجار.
المشهد الأول
الراهبة مارتا (وهي تخاطب كبيرتهن الأم مرغريت) :
لقد رأيت كلير تقف أمام المرآة لتصلح من عقصة شعرها.
كلير :
وأنا لقد شهدت الأخت مارتا في هذا الصباح تتناول خوخة من فوق فطيرة كبيرة.
الأم مرغريت :
هذا لا يحسن أيتها الأخت مارتا، ولا يليق.
كلير :
لم تكن سوى لمحة، ولم أزد.
مارتا :
وهل على من تتناول خوخة صغيرة حرج؟
الأم :
سأنبئ مسيو دي برجراك في هذا المساء بما فعلتماه.
كلير :
كلا إنه لذاع السخرية!
مارتا :
إنه ولا ريب قائل إننا نحن الراهبات ككل بنات حواء من ذوات الدلال.
كلير :
بل أكبر الظن أنه سيقول: إن الراهبات لمنهومات!
الأم مرغريت (ضاحكة) :
ولكنه سيقول إنهن حانيات رقيقات.
كلير :
أليس حقا إنه قد ألف الحضور في كل يوم سبت من الأسبوع منذ عشر سنين، لم يتخلف عنها يوما واحدا.
الأم :
بل أكثر من ذلك، ولعلها أربع عشرة سنة من ذلك اليوم الذي جاءت فيه ابنة عمه في ثوب حدادها لتقيم بيننا أبدا، كأنها الطائر الحزين وسط أطيار بيض.
مارتا :
وإنه أبرع من عرف كيف ينقي الحزن عن خاطرها مذ حلت بديرنا، وإن كان حزنها عضالا، لم يخفف الزمن من حرقته!
جميع الراهبات (كل بدورها) :
إنه غريب الأطوار كلما جاء إلى الدير لا يلبث أن يدخل روحا جديدة على أفقه، إنه يطرد الهم من نفوسنا بمجانته اللاذعة، إننا نحبه جدا، ونصنع له الفطائر، إنه يعاكسنا، ما ألطفه!
مارتا :
ولكنه ليس كاثوليكيا طيبا.
كلير :
سنجعله على الدهر مؤمنا، وإلى الصواب سنرده على الأيام.
الراهبات جميعا :
نعم، نعم، سنفعل ذلك.
الأم مرغريت :
أحذركن أن تأتين شيئا كهذا فيقلل من زوراته، أو يمتنع عن روحاته وغدواته.
مارتا :
ولكن يا إلهي!
الأم مرغريت :
لتطمئن عليه نفوسكن، إن الله به عليم خبير.
مارتا :
إنه كلما حضر يوم سبت راح يقول بشمم وإباء: أختاه، لقد أكلت أمس أكلا دسما شهيا!
الأم مرغريت :
رباه، أقال ذلك؟ لقد لبث آخر مرة يومين كاملين لم يذق فيهما طعاما.
الأخت مارتا :
وا أسفا له.
الأم مرغريت :
إنه الفقر!
مارتا :
ومن نبأك بذلك؟
الأم مرغريت :
مسيو لوبريه نبأني.
الأخت مارتا :
أو لا يمدون إليه يد العون؟
الأم مرغريت :
لا يفعلون؛ لأن ذلك يغضبه. (في أحد ممرات الدير في المؤخرة تبدو روكسان في ثوب الحداد، وقد أرخت على وجهها نقابا أسود، ويمشي إلى جانبها بأبهة دي جيش، وقد بدت الشيخوخة عليه، يسيران على مهل، تقف الأم مرغريت عندما تشاهدهما.)
مرغريت :
لقد حان أن ندخل، فإن السيدة مادلين تتمشى في الحديقة مع زائر لها.
الأخت مارتا (تهمس لكلير) :
إنه الكونت دي جيش الذي أصبح يلقب بالمارشال دون دي جرامون؟
الأخت كلير (تنظر نحوهما) :
أظن ذلك.
الأخت مارتا :
لقد فرطت أشهر على آخر زيارة له.
الراهبات (كل بدورها) :
إنها مشاغله، واجبات البلاط الملكي، مسئولياته العسكرية.
الأخت كلير :
مشاغل الحياة. (ينصرفن، أما روكسان ودي جيش فينزلان في سكون، ويقفان أمام إطار للتطريز.)
المشهد الثاني
دي جيش :
أتقيمين هنا، هذا البياض ما فائدته، وأنت في ثياب الحداد أبدا؟
روكسان :
لن أفارق الدير آخر الحياة.
دي جيش :
أولا تزالين على عهده باقية؟
روكسان :
نعم، وسأبقى.
دي جيش (بعد فترة سكون) :
أو عفوت عني؟
روكسان (بكل بساطة وهي تنظر إلى صليب الدير) :
ما دمت هنا فليس في خاطري من آثار الناس شيء من ألم أو موجدة.
دي جيش :
أكان حقا إنسانا ...؟
روكسان :
ليتك عرفته حق معرفته!
دي جيش :
لم أعرف عنه إلا قليلا ... أو لا تزالين محتفظة بآخر رسائله فوق قلبك؟
روكسان :
ألبسه حجابا مقدسا، لا يفارق صدري معلقا بهذا المخمل.
دي جيش :
أو لا تزالين تحبينه، وقد رحل من هذه الدنيا؟
روكسان :
يخيل إلي أحيانا أنه لم يمت، فإن قلبينا لا يزالان يتناجيان كأنما روحه ترفرف علي، وتلفني تحت جناحيها. (سكون.)
دي جيش :
وسيرانو ... أيأتي لزيارتك؟
روكسان :
نعم أحيانا، هذا الصديق القديم هو بمثابة الصحيفة اليومية لي، وهو يزورنا بانتظام، فإذا كان الجو صحوا وضعنا له كرسيا تحت الشجرة التي تجلس أنت الآن تحتها، وأنتظره هنا، وأنا دائبة على شغلي، وتدق الساعة، وفي الدقة الأخيرة أسمع دون أن أتلفت خلفي وقع صوت عصاه على الدرج، فيجلس ويروح يمجن ساخرا من الثوب الذي أنسجه، ولا أنتهي منه آخر الحياة، وينثني يحدثني بأخبار الأسبوع، وما جرى خلال غيبته. (تلمح لوبريه نازلا الدرج) ها هو ذا لوبريه، كيف حال صديقنا؟
لوبريه :
خلفته في حال سوء.
دي جيش :
وا أسفاه.
روكسان :
ويحك، لا تبالغ.
لوبريه :
لقد صدقت فيه نبوءاتي الواحدة إثر الواحدة الفاقة والحرمان، والبؤس، والاستهداف المتصل بالنقد اللاذع للنبلاء والأشراف، والأصدقاء المزيفين، والشعراء الذين يسرقون القصائد، وبالجملة معاداة جميع الناس.
روكسان :
ولكن سيفه لا يزال مرهوبا، فلن يكون يوما لأحد مغلوبا.
دي جيش (يهز رأسه) :
من يدري؟
لوبريه :
إني لأخشى عليه عدوا واحدا، هو أنكى عليه من سائر أعدائه، وما عدوه الألد إلا العزلة والكمد، وها هو ذا الشتاء يدخل عليه المرقد، كأنه الذئب الجائع تسلل للنهش والعض، وكثيرا ما قضى الليالي طاويا، وقد شد على بطنه بمنطقة، متجلدا لأنياب الجوع الحداد، وقد استحال أنفه الذي جلب عليه الوبال على مثل لون العاج القديم، ولم يبق لديه إلا ثوب أسود يستر بدنه!
دي جيش :
هذا آتاه القدر مواهب كثيرة وذكاء، فأضاعها جميعا هباء، ومثله لا يستحق شفقة ولا رثاء.
لوبريه (بضحكة مريرة) :
سيدي المارشال ...
دي جيش :
لا داعي للرثاء له، إنه عاش عمره لم يلتزم بشيء في دنياه، حرا في أفكاره، كما في أعماله.
لوبريه (بابتسامة كسيفة) :
سيدي الدوق!
دي جيش :
نعم، فلست أنكر أن عندي كل شيء، وأنه لا يملك شيئا، ولكني وددت لو تصافحنا، (ينحني بالتحية لروكسان) : الوداع.
روكسان :
سأرافقك إلى الباب، (ينحني دي جيش للوبريه، ويتجه مع روكسان نحو درج الشرفة) .
لوبريه :
أعلى البلاء تراه المحسود؟
دي جيش (يقف على الدرج) :
نعم، أحيانا أراني لفكرة الحسد نهبا، ولا عجب فإن المرء كلما أصاب على الدهر نجاحا مرموقا، لا يلبث فجأة أن يستشعر بالمجد برما وضيقا، دون أن يكون قد ارتكب خطأ جسيما، ولست أعني بهذا أنه يحس في أعماق صدره وخزا وتأنيبا، ولكني أعني ضجرا وملالا عجيبا، وكلما صعد درجات المجد تراكمت على هدب ثوبه العسكري الأوهام والأشجان، كما يحدث وأنت تصعدين هذا الدرج حين يكتنس هدب ردائك الأسود أوراق الخريف الميتة.
روكسان (بتهكم) :
أراك مسترسلا مع الأخيلة العنيفة القاسية.
دي جيش :
هي والله كذلك، والآن فلأنصرف مودعا. (ينحني انحناءة التوديع)
لوبريه! ائذني لي يا روكسان لحظة، (يتجه نحو لوبريه، ويحدثه بصوت منخفض) : حقا يا صاح ليس فينا من أوتي الجرأة على التحرش بصاحبك، فلا عجب إذا أضمر له الناس كراهية وحقدا، حتى لقد قيل لي بالأمس في البلاط: إنه بات يخشى عليه من حادث يقع له.
لوبريه :
ويلاه! ماذا تقول؟
دي جيش :
نعم، فليقلل من خروجه، وليكن على حذر من أعدائه.
لوبريه (يرفع ذراعيه نحو السماء) :
ليكن على حذر!
يالله ... ولكنه سيحضر بعد قليل، وسأنبهه إلى ما يكاد له، أجل سأحذره، ولكن ...
روكسان : (واقفة عند أعلى السلم)
من ذا أرى؟ (تدنو راهبة نحوها)
من هذا يا أختاه؟
الراهبة :
راجينو يريد رؤيتك، يا سيدتي!
روكسان :
دعيه يدخل، (تلتفت إلى دي جيش ولوبريه) : لقد جاء يشكو البؤس، فقد جال في خاطره يوما أن يكون شاعرا، فإذا هو يصبح بدوره مغنيا في الكنيسة.
لوبريه :
وصاحب حمام!
روكسان :
وممثلا.
لوبريه :
وموظفا تافها.
روكسان :
وحلاقا.
لوبريه :
ومعلم موسيقى.
روكسان :
وماذا لعله صائر الآن؟
راجينو (يدخل مسرعا) :
آه ... سيدتي (يلمح لوبريه)
سيدي.
روكسان (تضحك) :
اقصص على لوبريه ماذا صنع الدهر بك، وسأعود حالا.
راجينو :
ولكن ... سيدتي. (روكسان تخرج غير ملتفتة إليه مع دي جيش، ويعود راجينو إلى لوبريه.)
المشهد الثالث
راجينو :
حسنا! ما دمت أنت هنا، فخير لها أن تبقى جاهلة بما حدث، كنت ذاهبا الساعة إليه، فما كدت أدنو ثلاثين قدما من داره حتى رأيته خارجا؛ فأسرعت إليه لألحق به، وأبصرته ينعطف في طريق آخر، وإذا بخادم يلقي فجأة من نافذة كان يعبر تحتها كتلة ضخمة من الخشب عليه، هل كان ذلك قصدا أو مصادفة، لست أدري.
لوبريه :
يا للخونة الأوغاد، وماذا حدث لسيرانو؟
راجينو :
فلما وصلت إليه وجدته ...
لوبريه :
هذا شيء نكر.
راجينو :
وجدته، يا سيدي، وجدت صديقنا وشاعرنا ملقى على الأرض، والدم ينزف من ثقب كبير في رأسه.
لوبريه :
أتراه قضي؟
راجينو :
كلا، ولكني احتملته إلى حجرته، له الله. آه، لو رأيت في أية حجرة يعيش!
لوبريه :
هل يتألم؟
راجينو :
كلا يا سيدي، إنه فاقد الوعي.
لوبريه :
هل التمست له طبيبا؟
راجينو :
لقد التمست أطباء كثيرين فتحللوا ... ولكن طبيبا كريما رضي أن يذهب ليفحصه.
لوبريه :
إن قلبي لمتفجع عليه، ينبغي ألا تنبئ روكسان النبأ وشيكا، وما رأي الطبيب فيه؟
راجينو :
لقد تكلم أخيرا، أبسبب الحمى، أم بسبب التهاب المخ؟ لست أدري، آه لو رأيته، وقد عصب رأسه باللفافات، فلنذهب في الحال إليه؛ لأنه الآن وحده صريع الداء، ليس بجانبه أحد مواسيا، ولا راعيا، إن الخطر من الموت محقق، إذا هو غادر فراشه أو تحرك.
لوبريه (يسحب راجينو إلى جهة اليمين) :
فلنمض من هنا، فتعال بنا، هذا الطريق من الكنيسة أقرب الطرق إليه.
روكسان (تعود من توديع دي جيش فتلمحهما، وهي لا تزال على الدرج، يتواريان خلف أعمدة الكنيسة، فتنادي) :
مسيو لوبريه! (لوبريه وراجينو يسرعان تاركين روكسان تنادي.)
روكسان :
أيذهب حين أناديه، أتراها مشكلة أخرى من مشكلات هذا الرجل الطيب راجينو؟ (تنزل الدرج) .
المشهد الرابع (تجلس روكسان وحيدة ساهمة.)
روكسان :
أواه ... هذا هو اليوم الأخير من شهر سبتمبر، إنه ليوم جميل، وقد بدأت كآبتي تبتسم، هذه الكآبة التي كانت روعة الربيع تغضبها، أصبحت قسوة الخريف تغريها على الابتسام. (تأخذ في شغل الإبرة، وفي هذه اللحظة تدخل أختان تحملان كرسيا فتضعانه تحت الشجرة) : آه ... هذا هو المقعد العتيق الذي يجلس فوقه صديقي القديم!
الأخت مارتا :
تصفينه «بالعتيق»، وهو أحدث كرسي في قاعة الاستقبال!
روكسان :
شكرا يا أختاه، (الراهبتان تبتعدان) : لن يلبث أن يحضر، (تدق الساعة أربعا، فتصغي إلى دقاتها) : الساعة تدق مؤذنة بمقدمه، وهو لم يأت بعد ... يا عجبا! أراه لأول مرة متأخرا ... رباه لا بد أن الراهبة المنوطة بالباب ... أين قمع الخياطة؟ ها قد وجدته، لابد أن هذه الراهبة قد حجزته عند الباب تحضه على التوبة، لا يمكن أن يتأخر أكثر من ذلك ... يا إلهي ... هذه ورقة ذابلة، (تسقط الورقة الذابلة على إطار شغلها فتزيحها عنها) ، ولكني على يقين من أن لا شيء يمكن أن يعوقه عن الحضور، أين مقصي؟ ها هو ذا داخل حقيبتي.
أخت (من فوق السلم) :
مسيو دي برجراك!
المشهد الخامس
روكسان (دون أن تلتفت وراءها) :
ماذا كنت أقول لنفسي اللحظة؟ (تمضي في الخياطة، وقد أوشك الظلام أن يعم ما حولها) . (هنا يبدو سيرانو شاحبا مخيفا، وقد أسدل القبعة على عينيه، تنسحب الراهبة التي كانت تقوده، ثم يأخذ في نزول السلم رويدا بمشقة، معتمدا على عصاه.)
روكسان :
يا لله ... لست أدري كيف أجعل اللون الأصفر في هذا الغطاء متمشيا مع بقية الألوان ... (تتنبه إلى سيرانو، فتقول في شيء من العتاب) : هذه أول مرة تتأخر فيها منذ أربعة عشر عاما.
سيرانو (وقد وصل إلى الكرسي، وجعل يقول بصوت مرح لا يتفق مع معالم وجهه الشاحب) :
أي ورب، إنني أكاد أتميز من الغيظ، لقد أرغمت على التأخير.
روكسان :
وما الذي أرغمك عليه؟
سيرانو :
بزيارة مفاجئة.
روكسان :
آه ... أبعض الثقيلات هي؟
سيرانو :
بل كان يا ابنة العم أحد الثقلاء.
1
روكسان :
وهل استطعت منه خلاصا؟
سيرانو :
نعم، قلت له إنني آسف أشد الأسف، فاليوم يوم السبت، اليوم الذي اعتدت فيه الذهاب إلى مكان طيب، وموضع محبوب، فلن تستطيع قوة في الأرض احتجازي عنه أو تأخيري، فلتأت بعد ساعة أو نحوها.
روكسان :
إذن على هذا الضيف أن ينتظر طويلا؛ فإني غير تاركتك قبل المساء.
سيرانو :
ولكن من يدري، فقد أضطر إلى الرحيل قبله؟ (يغمض عينيه، ويصمت لحظة.) (الأخت مارتا تمر في الحديقة فتلمحها روكسان، وتشير إليها أن تأتي.)
روكسان (لسيرانو) :
ما بالك اليوم لا تعاكس الأخت مارتا كعادتك؟
سيرانو (يصحو من ذهلته) :
آه ... سأفعل بلا شك ... (يتصنع الضحك) : يا أختنا مارتا، اقتربي، (تتقدم فتقف أمامه) : ها ... ها ... ألا تزال العينان الجميلتان تغضان الطرف حياء، وتعبسان تجلدا واستهزاء؟
مارتا (ترفع بصرها ضاحكة) :
ولكن ... (تلمح وجهه الشاحب؛ فيعتريها شيء من الفزع) : رباه ...
سيرانو (يشير إلى روكسان، ويقول لها بصوت محبوس) :
صه، إن هذا الذي رأيته لا يهم، (بصوت مرتفع) : لقد تناولت أمس طعاما دسما، ونعمت بأكل شهي.
مارتا :
أعرف ذلك، (لنفسها) : ولذلك أراه شاحبا مفرط الشحوب، (تخاطبه مسرعة راعشة الصوت) : هلا جئت بعد قليل إلى المطبخ، أتتناول شرابا ساخنا؟ إنك ستأتي، ناشدتك الله أن تجيء.
سيرانو :
نعم، نعم، سأجيء.
مارتا :
آه ... أراك اليوم أكثر تعقلا!
روكسان (وقد سمعتهما أخيرا وهما يتهامسان) :
أتراها تحاول أن تعظك لتتحول بك إلى مذهبها في الدين ونحلتها؟
مارتا :
كلا، فإني متحاشية، محاذرة.
سيرانو :
يا عجبا، ما الذي جرى، لقد كنت يا أختنا مارتا لا تكفين عن الكلام في الدين، واليوم لا أجدك تحاولين إدخال الدين في رأسي، إنه لشيء عجاب حقا، (في شيء من الغضب المصطنع) : ولكني جاعلك تعجبين أنت الأخرى ... سأهاجمك اللحظة بمفاجأة، (يبدو كأنه يبحث عن مداعبة لطيفة يفاجئها بها) : آه ... أتحسبين عجيبا مني أن أطلب إليك الصلاة لأجلي في الكنيسة هذا المساء ... ما قولك يا أخت فيما طلبته؟
روكسان :
عجبا! ...
سيرانو (ضاحكا) :
ما لي أرى الأخت مارتا مبهوتة ذاهلة؟
مارتا (بهدوء) :
لم أكن أتوقع أن تسمح لي بذلك. (تخرج.)
سيرانو (يعود إلى روكسان، وينحني فوق إطار شغل الإبرة) :
يا للشيطان! ألا تزالين حائكة ... أيها الغطاء المغزول متى أرى نهايتك؟
روكسان :
كنت أرتقب هذه النكتة اليوم منك، (في هذه اللحظة تسقط الرياح أوراقا ذابلة من فوق الشجر) .
سيرانو :
الشجر يتساقط علينا أوراقا ... نذير خريف مقبل.
روكسان (ترفع بصرها، ثم تنظر إلى ممرات الحديقة التي غطتها الأوراق المتساقطة) :
إن لها لونا أشقر جميلا، ألا ترى إليها وهي متساقطة.
سيرانو :
لله ما أحلاها في تساقطها! في تلك المسافة القصيرة التي تمتد من الفرع إلى الأرض، تعرف الأوراق كيف تتجمل قبل الوداع الأخير، ومع انزعاجها من العفن فوق الثرى تأبى إلا أن تضفي على سقوطها جمال خفق الطائر.
روكسان :
ما لي أرى سيرانو اليوم حزينا؟
سيرانو (ينتبه لنفسه) :
ما أنا بمحزون يا روكسان مطلقا.
روكسان :
هيا دع الأوراق لشأنها، واقتصص علينا الجديد يا جريدتي.
سيرانو :
ها هي.
روكسان :
أجل؟
سيرانو (يبدو أكثر شحوبا، ويحاول إخفاء ألمه) :
السبت اليوم التاسع عشر من الشهر أصيب الملك بالحمى، من البطنة والتخمة بعد أن ملأ طبقه ثماني مرات من «مربى» العنب والفواكه، وقد اتهم مرضه بالخيانة العظمى، فحكم عليه بالفصد، وهكذا خلا نبضه الملكي من آثار الحمى. أقيمت يوم الأحد حفلة متنكرة في جناح الملكة، فأوقدت سبعمائة شمعة، وثلاثة وستين من الشموع البيض، ويقال: إن قواتنا انتصرت في المعركة على قوات جان النمسوي، أعدم أربعة دجالين شنقا، مرض كلب مدام داتي الصغير ...
روكسان :
مسيو دي برجراك، هلا تكرمت بالسكوت؟
سيرانو (مسترسلا) :
الاثنين؛ لا شيء غير أن مدام ليجدامير اتخذت عشيقا جديدا.
روكسان :
أوه ... أوه.
سيرانو (يستولي عليه الصمت، ويشتد به الألم) :
الثلاثاء؛ انتقل البلاط إلى فونتبلو. الأربعاء؛ تحدثت لامونجلا إلى الكونت دي فيهسك، فقالت له: «لا».
الخميس؛ منسيني ملكة فرنسا، أو تكاد ... وفي الخامس والعشرين تحدثت الحسناء لامونجلا إلى الكونت فيهسك، فقالت له: «نعم»، وفي يوم السبت السادس والعشرين من الشهر ... (يغمض عينيه، ويطرق برأسه.) (سكون.)
روكسان (تعجب لسكوته؛ فتلتفت، وإذ تراه على هذه الحال تنهض مذعورة) :
يا لله، لقد أغمي عليه، (تهرول نحوه صارخة) : سيرانو ... سيرانو.
سيرانو (يفتح عينيه، ويغمغم بصوت شارد) :
ماذا ... (يلمح روكسان جاثية بجانبه، فيصلح من قبعته فوق رأسه، ثم يغوص بخوف في جوف كرسيه) : كلا، كلا، أقسم لك ... لا شيء بي ... دعيني.
روكسان (بهلع) :
ولكنك ...
سيرانو :
إنه جرح أراس ... ذلك الجرح القديم الذي تعرفينه.
روكسان :
واها لك يا صديقي المسكين.
سيرانو :
هذا أمر لا أهمية له، وسيزول وشيكا ألمي، (يضحك مغالبا) : لقد انتهى وزال كل شيء ...
روكسان (وهي واقفة بجانبه) :
كلنا من جرحه متألم، أما أنا فجرحي هنا، جرحي القديم (تشير إلى قلبها)
هنا ... في هذا الموضع تحت الرسالة التي اصفرت صفحتها، ولا أزال أشهد عليها إلى اليوم دمعا ودما ... (الشمس تأخذ في المغيب.)
سيرانو :
رسالته ... لقد كنت قد وعدتني أن تريني كتابه في يوم ما لأقرأه.
روكسان :
أتريد رسالته؟
سيرانو :
نعم ... أريد اليوم ...
روكسان (تعطيه الرسالة المدلاة في سلسلة من عنقها) :
هاكها ...
سيرانو :
أتأذنين لي في فضها؟
روكسان :
افضضها واقرأ، (تعود إلى شغلها فتطويه) .
سيرانو (يقرأ) :
وداعا روكسان، إني لا محالة ميت ...
روكسان (تقف متعجبة) :
أتقرؤها بصوت مسموع؟
سيرانو (مستمرا في القراءة) :
في هذه الليلة بالذات أشعر يا حبيبتي أن روحي قد ناءت بحب مكتوم لم يصب تعبيرا ... روكسان وداعا إني الليلة سأموت، فلا تعود عيناي اللتان أسكرهما الحب ...
روكسان :
كم هي عجيبة قراءتك لرسالته؟
سيرانو (مستمرا في القراءة) :
عيناي اللتان تطربهما قبلة في الهواء لكل حركة تأتينها، أذكر منها حركة ألفيتها حين تلمسين جبينك، فلا يسعني إلا أن أصيح ...
روكسان (مضطربة) :
كم هي عجيبة قراءتك للرسالة! (يخيم الظلام فلا يشعر به.)
سيرانو (متابعا القراءة) :
فأصيح، الوداع!
روكسان :
إنك تقرأها ...
سيرانو :
أي عزيزتي، حبيبتي، كنزي.
روكسان (حالمة) :
إنك تقرأها بصوت ...
سيرانو :
حبيبتي.
روكسان (ترتعش) :
وبصوت لست أسمعه لأول مرة، صوت ليس على سمعي غريبا، (تقترب منه دون أن يشعر فتقف خلفه، وتنظر إلى الرسالة، والظلام مخيم).
سيرانو (يتلو) :
لن يفارقك قلبي لحظة واحدة، وإني لباق في العالم الآخر الرجل الذي تجاوز حبه الحدود. الرجل ...
روكسان (تلمس كتفه بيدها) :
يا عجبا، كيف تواتيك القراءة، والليل أرخى سدوله؟ (يرتعش ويلتفت إليها ليجدها بجانبه؛ فيضطرب، ويطرق برأسه ... سكون طويل.)
روكسان (في حلكة الظلام، تضم يديها، وتتكلم بتؤدة) :
ألا تزال على ديدنك، تؤدي الدور ذاته أربعة عشر عاما، دور الصديق الذي يسلي النفس، ويضحك، ويروح عن الصدر، وإن كان حزينا آسيا؟
سيرانو :
روكسان ...
روكسان :
لقد كنت أنت ...
سيرانو :
كلا، روكسان، كلا.
روكسان :
كان ينبغي أن أفهم حين كان يناديني باسمي.
سيرانو :
كلا، روكسان ... لم أكن أنا ...
روكسان :
بل لقد كنت أنت.
سيرانو :
أقسم لك ...
روكسان :
إني مقدرة موقفك النبيل، كل تلك الكتب كانت كتبك.
سيرانو :
كلا.
روكسان :
والكلمات العزيزة النشوى كانت كلماتك، والصوت الساري في جوف الليل كان صوتك.
سيرانو :
أقسم لك، كلا، كلا.
روكسان :
والروح الشاعرية كانت روحك.
سيرانو :
لم أحببك يوما.
روكسان :
بل أحببتني.
سيرانو :
لقد أحبك هو ...
روكسان :
بل أنت أحببتني ...
سيرانو :
كلا، كلا، (بخفوت) .
روكسان :
أراك تخفض من صوتك.
سيرانو :
كلا يا حبيبتي الغالية.
روكسان :
رباه ... كم من أشياء ماتت، وكم من أشياء جديدة ولدت ... لماذا لزمت الصمت أربع عشرة سنة، وها هي ذي رسالة لم يكتبها هو، وسكبت أنت عليها دموعك؟
سيرانو (يناولها الرسالة) :
وهذا الدم دمه.
روكسان :
إذن لماذا هذا الصمت الجليل ينهار اليوم؟
سيرانو :
تسألينني لماذا ؟ (لوبريه وراجينو يندفعان إلى الموضع مسرعين.)
المشهد السادس
لوبريه :
أي استهتار بالحياة هذا ... آه ... كنت على يقين أني هنا واجده ... ها هو ذا.
سيرانو (يضحك وهو ينهض) :
أنت ... يا لك من عفريت.
لوبريه (لروكسان) :
لقد قضى على نفسه يا سيدتي بمغادرته فراشه.
روكسان :
يا إلهي، أكان ضعفك منذ قليل هو السبب في ...
سيرانو :
نعم، لم أكن قد انتهيت من سرد الحوادث، ففي يوم السبت السادس والعشرين من الشهر، وقبل العشاء بساعة واحدة، مات السيد دي برجراك قتيلا ... (يرفع قبعته، وتظهر الأربطة حول رأسه.)
روكسان (في هلع) :
ويلتا ... ماذا أرى ... سيرانو، رأسه ملفف بأربطة، ويلتا ماذا صنعوا بك ويحهم.
سيرانو :
بضربة سيف مسددة من كف صنديد إلى صميم القلب، كنت أتمنى أن تكون نهايتي، ولكن القدر قد سخر مني، وهأنذا قتيل من كمين، من سقطة كتلة من الخشب تصيبني من الخلف، لا من أثر طعن وضرب، قطعة خشب هوت فوق رأسي من كف خادم مهين، جميل والله، لقد كنت الخاسر حتى في الموت.
راجينو :
أواه سيدي (يبكي) .
سيرانو :
راجينو ... لا تجعل لبكائك شهيقا وزفيرا ... (يمد إليه يده) : قل لي يا صاحبي ماذا تصنع الآن يا أخا الود والعهد؟
راجينو (وهو يبكي بحرارة) :
أنا الآن أطفئ الشموع عند موليير.
سيرانو :
موليير.
راجينو :
ولكني سأترك خدمته غدا؛ لأني محتج متألم، فقد كانوا بالأمس يمثلون على المسرح رواية «سكابان»، وبدا لي أنهم سرقوا منك فيها مشهدا.
لوبريه :
مشهدا كاملا؟
راجينو :
نعم يا سيدي، المشهد الذي فيه تقول: ماذا هو بالله صانع؟
لوبريه :
نعم، لقد انتحله موليير منك انتحالا.
سيرانو :
صه! صه! لقد أحسن عملا (إلى راجينو) ، وهل أصاب المشهد إعجاب الناظرين؟
راجينو :
أجل يا سيدي، لقد ظلوا له ضاحكين.
سيرانو :
وا أسفي، لقد كانت حياتي حياة الملقن الذي يهمس الكلام للغير، ثم هو في النهاية يذهب نسيا منسيا. (لروكسان) : أفتذكرين ليلة جاء كريستيان يتحدث إليك تحت الشرفة والليل بهيم، لقد كانت كل كلمة في ذلك الحديث من صميم حياتي، بل حياتي نفسها، وبينما كنت مختفيا في الحديقة وسط الظلمة البادية، كان آخر يصعد ليقتطف قبلة النصر له دانية، ذلك عد وحق أنا به مقر حتى باب مقبرتي الآتية ... لموليير العبقرية، ولكريستيان الجمال، والصباحة، والصفحة البهية. (تدق أجراس الكنيسة، وتبدو الراهبات من بعيد ذاهبات إلى الصلاة.)
سيرانو :
ليذهبن إلى الصلاة ما دام ناقوسهن يدق.
روكسان (تنهض وتنادي) :
أختاه ... أختاه.
سيرانو (يمسك بها) :
كلا، كلا، لا تنادي أحدا، فلن تجديني حين تعودين؛ لأني سأكون عندئذ قد رحلت. (الراهبات يدخلن الكنيسة، وتسمع عندئذ أنغام الموسيقى الكنسية الشجية.)
سيرانو :
كنت في حاجة إلى شيء من الموسيقى، وها هي ذي تأتيني في الوقت المناسب.
روكسان :
بل لتحي يا سيرانو ولتعش، إني أحبك.
سيرانو :
كلا، تلك أسطورة من الأساطير حيث تقول الفتاة لفارس أحلامها الذي صبغ جبينه الحياء: «أحبك»، لا يلبث أن يحس دمامته تذوب على حرارة كلماتها كأنها الشمس الحامية، ولكني وا أسفاه سأبقى آخر الحياة دميما كما أنا.
روكسان :
يا ويحي ... لقد كنت سبب شقائك.
سيرانو :
أنت، بالعكس، فقد كنت أجهل حنان المرأة، فأمي لم تجدني جميلا، وما كانت لي في هذه الدنيا أخت حانية، ولا شقيقة راعية، بعد ذلك صرت أخشى الخليلة الساخرة الغاوية؛ فابتعدت عن النساء ناجيا.
وأنا لك مدين، لقد وجدت فيك الصديقة الوفية، ولولاك لما مر بحياتي ثوب امرأة.
لوبريه (يريه القمر وهو يبزغ من خلال الشجر) :
وها هو صديقك الآخر، أقبل ليراك.
سيرانو (يضحك للقمر) :
آه ... حقا ... ها هو ذا.
روكسان :
ما أحببت في دهري إلا إنسانا واحدا، وهأنذي أفقده للمرة الثانية.
سيرانو (لصديقه لوبريه) :
سأصعد الليلة إلى منازل القمر بغير حاجة إلى اختراع جهاز يعين على الصعود إليه.
روكسان :
ماذا تقول؟
سيرانو :
أي نعم، هناك عند هذا القمر، سأهتدي إلى فردوسي الجميل الباهر، وألتقي بالأرواح الأثيرة التي أحبها، والصحب الكرام الذين أتوق إلى لقائهم، سألتقي بسقراط، وجاليليو.
لوبريه (ثائرا حزينا) :
كلا، كلا، يا لله ما أقسى النهاية وأمرها! أكذا يكون ختام شاعر، ونهاية قلب كبير؟ أكذا يوافي الموت مثله؟ أكذا تحم المنية الغادرة؟
سيرانو :
ما لي أرى لوبريه متذمرا؟
لوبريه (مختنقا بالعبرات) :
أواه ... يا صديقي الحبيب.
سيرانو (ينهض شارد اللب والنظرات) :
ها هم أولاء شباب غسقونيا وفتيانها، المادة الأساسية ... أي والله هنا العقدة!
لوبريه :
يا للعجب ... حتى في هذيانه لا يكف عن علومه.
سيرانو :
لقد قال كوبرنيكوس.
روكسان :
أواه ...
سيرانو :
ولكن ماذا بربك كان يريد أن يفعل؟ ماذا بربك كان يريد أن يفعل داخل سفينته ... ؟ هذا الفيلسوف والعالم الطبيعي الشاعر، المبارز، الموسيقار، الرحالة إلى الآفاق العليا، المفحم في أجوبته وردوده، العاشق أيضا، وفي العشق بؤسه ... هنا يرقد هرقل سافينيان دي سيرانو دي برجراك، الذي كان كل شيء، والذي لم يكن أي شيء.
ولكني ذاهب ... معذرة لا أستطيع أن أستبقي أحدا في انتظاري، كما ترون جميعا، وتشهدون بأعينكم، ها هو ذا ضياء القمر يقترب ليأخذني، (يسقط، فيعيده بكاء روكسان إلى الحقيقة، ينظر إليها، ويداعب نقابها) .
سيرانو :
لا أريد يا روكسان أن تبكي الآخر أقل مما أنت غدا باكيتي، ذلك الفتى الجميل الناضر الباهر، ولكني أريد شيئا واحدا حين تغمر جسدي الناحل برودة الموت وهدأته، وهو أن تضفي على هذا النقاب الأسود معنى مزدوجا؛ ليكون حدادك عليه حدادا علي، ولو قليلا.
روكسان :
أقسم لك.
سيرانو (تسري فيه قشعريرة، وينهض هائجا) :
كلا، ليس هنا ... كلا أفي جوف كرسي أنت موافي؟ (يمضي مهرولا، فيجرون خلفه) : دعوني ... لا تلمسوني ... (يذهب فيستند إلى جذع الشجرة) : لا سناد لي غير الشجرة. (سكون) ، إنه
2
في طريقه نحوي، أحس كأن حذائي قد استحال ثقيلا كأنه من المرمر، وقفازي من الحديد، (يجهد في مكانه) : آه ... ولكن ما دام دانيا نحوي، فلأنتظره واقفا، (يمسك سيفه) : وسيفي في يدي.
لوبريه :
سيرانو ...
روكسان (منهارة) :
سيرانو. (يتراجعون مذعورين.)
سيرانو :
أراه ينظر إلي ويحدق، ليته يجرؤ على النظر إلى أنفي ... القبيح، (يشهر السيف): ماذا تقول؟ صراع لا نفع منه، أعرف ذلك، ولكن المرء لا يبارز مؤملا في الانتصار، وإنما يجالد مستيئسا مكافحا، أي ورب إن المبارزة لأجمل وأروع حين تكون بغير نفع، ولكن من هم الذين أرى قبالتي ... أأنتم ألف أم مائة؟ آه ... عرفتكم معاشر أعدائي السابقين، أيها النفاق، أهذا أنت؟ (يضرب بسيفه الفضاء) : هاكها إذن هه ... هه ... هه ... وأنتم من تكونون؟ معاشر المرائين، والكاذبين والجبناء، خذوا (يضرب الفضاء) ، أأبرم صلحا معكم؟ كلا! كلا! ... أعرف أنك في النهاية طارحي إلى الأرض، وما أهمية هذا؟ ولكني الساعة مجالدك، ومجالدك، ومجالدك، (يضرب الفضاء بحركات عنيفة، ثم يقف فجأة من الضرب لاهثا مقطع الأنفاس) : لقد سلبتموني أيها الأوغاد كل شيء: الغار، والورد خذوهما كذلك، إن هناك على الرغم من محاولاتكم شيئا واحدا لن تستطيعوا له سلبا، شيئا أنا الليلة معي آخذه في رحلتي إلى الله، تحيتي لبارئي، لأكنس به أعتابه المقدسة ... هناك شيء أنتم أعجز من أن تسلبوه، وسآخذه أنا معي على الرغم منكم، سليما ناصعا لا شية فيه، (يشهر السيف) : ذلكم هو ... (يسقط السيف من يده، فيترنح ويقع في أحضان لوبريه وراجينو) .
روكسان (تنحني عليه، وتطبع قبلة على جبينه) :
وما هو؟
سيرانو :
ذلكم هو ... (في هذه اللحظة يفتح عينيه فيعرفها، ويبتسم لها) ... هو ريش خوذتي! (ستار)
نامعلوم صفحہ