ذهب الإنجليز إلى الهند في قوى مجتمعة وتسابقوا مع فرنسا وهولندا والبرتغال في ميدان الأراضي الهندية الواسعة، فحازوا في هذه المباراة قصب السبق بما امتازوا به من الدهاء والمكر، وبما ساعدهم على ذلك من غفلة الهنديين لذاك العهد أو طيب قلوبهم، فمالت النفوس إلى الإنجليز اغترارا، وتغلبوا على تلك البلاد واستقلوا بأمرها شيئا فشيئا، وما أبقوا لغيرهم من الدول إلا مضائق من الأرض لا تذكر، وأول ما استمالوا به القلوب السالمة قولهم: إننا نريد تخليصكم من هذه الدول الظالمة (فرنسا، وهولندا والبرتغال) فإنها تريد التسلط على ممالككم، أما نحن - الإنجليز - فلا نريد إلا تحريركم واستقلالكم.
ثم إنا نرى للإنجليز الآن في الهند والهند الصينية وبورما سلطة على نحو مائتين وخمسين مليونا من النفوس جميعها كاره لتلك السلطة الإنجليزية، طالب للتخلص منها، يفضل أية سلطة سواها، ظالمة كانت أو عادلة، كأنما يتصور كل واحد من أفراد تلك الأمم أنه لا توجد حكومة في العالم تبلغ في ظلمها مبلغ الإنجليز، ولا تصل إلى ما وصل إليه الإنجليز في الكبرياء والجبروت، ولكن مع هذه البغضاء الآخذة بقلوب أولئك الرعايا، ومع سعة ديارهم وتباعد أرجائها، وشدة ميلهم للتملص من تلك السلطة الظالمة؛ لا يوجد فيهم قوة تقهرهم على الخضوع لتلك الحكومة المبغوضة إلا خمسون ألف جندي إنجليزي، مع أنه يوجد من الممالك الصغيرة التي لها نوع من الاستقلال وتخشى زوال ما بقي لها، ما لو جمعت قواها لبلغت أكثر من ثلاثمائة ألف جندي، هذا فضلا عمن يمكنه حمل السلاح من أهالي البلاد التي دخلت في الحكومة الإنجليزية وزال استقلالها بالمرة.
فلولا الوهم الذي استولى على المشاعر والحواس حتى أذهلها عما بين يديها، بل عما هو موجود فيها؛ ما بقيت هذه النفوس الكثيرة العدد الفائقة القوة في قبضة قوم ضعاف يسومونهم عذاب الذل والهوان، ولو لمح أولئك المساكين أنفسهم لمحة اعتبار، وأدركوا ما آتاهم الله من القوة الطبيعية، ونظروا إلى ضعف الإنجليز في الحالة الحاضرة؛ لرأوا موئل الخلاص بين أيديهم، وملجأ النجاة تحت أرجلهم، وعلموا أن استقلالهم لأنفسهم وبلادهم لا يحتاج إلى تجشم تعب ولا تكلف مشقة، ولا يدعو إلى بذل أموال وافرة، ولا سفك دماء غزيرة.
يوجد في الدول الأوروبية من يهاب دولة الإنجليز اعتبارا لما في سلطتها من الممالك الواسعة والأمم العظيمة مما لم يبلغ عدده رعية دولة من الدول، ويقيس شأنها وقوتها في تلك الأطراف القاصية بما يراه في جزائر بريطانيا، ويظن أن لها قدرة على الدفاع عن تلك الممالك تساوي قدرتها عليه في بريطانيا أو تقرب منها، ولم يلتفت إلى أن جسم الإنجليز قد مد في الطول والعرض إلى حد لو حصلت فيه أدنى هزة لتقطعت أوصاله (رق حتى انقطع).
تفرقت قواهم في بسيط الأرض حتى لم تبق لهم في موضع قوة، ورعاياهم في كل صقع في ضجر لا مزيد عليه يترقبون في كل آن زحفا من خارج يعينهم على ما يقصدون من النكاية بحكامهم الظالمين.
لو التفتت تلك الدولة التي تهاب إنجلترا إلى حقيقة الأمر لما احتاجت في معارضتها ومنازلتها إلى تدبر ولا مشورة، فقد وصل الأمر من الظهور إلى حد لا يحتاج إلى دقة الفكر لولا حجاب الوهم، قاتل الله الوهم!
إن العثمانيين ينظرون إلى دولة الإنجليز كما ينظرون إلى دولة الروس، مع ملاحظة أن دولة إنجلترا تحكم على مائتين وخمسين مليونا من النفوس، فيظنون، لهذا النظر، أن معارضة هذه الدولة ربما تجلب الضرر، وليتهم مدوا أنظارهم إلى ما وراء ذلك؛ ليتبين لهم قوتها العسكرية، وماذا يمكنها أن تسوق من الجنود إلى ميادين القتال، ويتضح لهم أن هذه الملايين الكثيرة لا اعتداد بها في قوة دولة إنجلترا، فإنما هي في الحقيقة قوة لأعدائها عليها، وهي في ارتقاب الفرص لخلع طاعتها، فمتى ارتكبت دولة إنجلترا بالحرب مع دولة أخرى رأيت مائتين وخمسين مليونا تقاتل عساكر الإنجليز، خصوصا خمسين مليونا من المسلمين في حكومة إنجلترا يعدون الدولة العثمانية قبلة لهم وملاذا يلجئون إليه، وهم أول قوم حربيين في البلاد الهندية.
ليت العثمانيين يعلمون أن دولة إنجلترا إنما تستميل المسلمين في الهند بكونها حليفة الدولة العثمانية ونصيرة لها ومدافعة عن حقوقها، أما والله لو علم العثمانيون ما لهم من السلطة المعنوية على رعايا الإنجليز، واستعملوا تلك السلطة استعمال العقلاء؛ لما تجرعوا مرارة الصبر على تحكمات الإنجليز وحيفهم في أعمالهم، وتعديهم على حقوق السلطان في مثل المسألة المصرية، التي هي في الحقيقة أهم مسألة عثمانية أو إسلامية.
إن سكنة مصر كانوا أيام عرابي على قسمين، قسم يروم حفظ الحالة القديمة والوقوف عند ما يرسم به توفيق باشا، وقسم كان يميل بأحد جانبيه إلى عرابي، ويهاب بالجانب الآخر سلطة الرسم القديم، فكان هذا القسم الثاني في ريبة من أمره، ولا عزيمة من الريب، والقسم الأول مخلد إلى الفشل، فدخل الإنجليز بلا حرب حقيقية وإنما بنوع من الترهيب وقليل من الترغيب وخفيف من الدسائس، صادف قلوبا مستعدة فأخذ منها مقاما، فانحلت الرابطة وتفرق الناس عن عرابي بزوال جانب الميل إليه من قلوبهم، ومع ذلك ما كان يعتقد واحد منهم أن الإنجليز يبتغون من البلاد شيئا سوى أنهم يؤيدون توفيق باشا وينقذونه من الثائرين عليه.
فتساهل المصريون في الأمر بحسن ظنهم في حكومة الإنجليز مع ما جاءهم من الحجة القوية القائمة على أن صاحب السيادة الشرعية في رضاء عن تصرفها، بهذا فاز الإنجليز واستقرت أقدامهم. أما وقد مضى الزمان الكافي لظهور غدرهم، وسوء نيتهم، فلا يوجد من الأهالي المصريين من يميل إليهم، بل لا يوجد إلا من يبغضهم ويتمنى فناءهم، ويود لو يعمل عملا لهلاكهم، ولكن الوهم يجسم المخافة ويكبح العزيمة.
نامعلوم صفحہ