هل يبتغون المحافظة على حدود مصر الأولى وحمايتها من هجمات السودانيين، ويقفون عند حد المدافعة ولا يذهبون إلى ما وراء ذلك؟! إن كانت بغيتهم، فهي بغية البقاء في مصر ما دامت مصر أو السودان سودانا؛ لأن صيال الثائرين يتوقع في جميع الأطراف من حدود مصر.
وأداموا قائمين بنشر هذه الدعوة، بل كلما طال الزمن اشتد خطرهم وقويت أعضادهم، وكل كرة لهم أو فرة تقوم بها للإنجليز حجة في ملازمة الحدود المصرية للدفاع عنها فلا يكون لحلول الجيش الإنجليزي بأرض مصر أمد ينتهي ولا أجل ينقضي، فما لهم ينسبون على الدول والدولة العثمانية والمصريين بتحديد مدة الحلول إلى ثلاث سنوات ونصف مع سرد الألفاظ المبهمة كتقرير الراحة وحفظ النظام وإعادة الطمأنينة ... إلخ، مما يسمع ولا يفهم؟!
وليس من المبالغة أن نقول: إن حلول الجيش الإنجليزي كان - وسيكون - من أعظم الأسباب لقوة محمد أحمد، ولولا وجود العساكر الإنجليزية في مصر ما تمكن الرجل من الجهر بهذه الدعوة العظيمة، ولقد كان يتبرأ من نسبتها إليه أيام كانت الحكومة المصرية خالصة للمصريين، بل ما كان يجد أحدا يلبي دعوته أو يدخل تحت رايته.
هذه تواريخ الأمم وهذا سير طبيعة الكائنات، ترشد المستبصرين إلى أن مثل هذه الدعوة لا يقوم قائمها في أمة إلا عند اشتداد الخطوب عليها وزحف الأغراب إليها، أي حجة لمحمد أحمد في دعوة الناس إليه وأي نفثة تجمع القلوب عليه أقوى من أن يقول: إن الإنجليز من نيتهم الاستيلاء على أرض مصر، وهي في عداد الأراضي المقدسة وباب الحرمين الشريفين ومهد العلوم الدينية ودعامة القوة الإسلامية، فمن كان يؤمن بالله ورسوله فليجب داعي الله في مدافعتهم، وإنقاذ البلاد من رجسهم، وهذا الكلام مما يزعج قلب كل مسلم ويبعثه على الاتفاق مع صاحب النداء.
هل يتوهم بعد سقوط الخرطوم وجيش الإنجليز حال بأرض مصر أن تقف دعوة محمد أحمد عند تخوم محدودة وهو الزاعم أنه منقذ المسلمين؟ هل يبعد عند العقل أن يمتد لياق شعلته إلى أقطار إسلامية يخشى الإنجليز منها غائلة الفتنة كما يخشونها في الهند؟ قد نرى الحالة أقرب إلى المخافة منها إلى الأمن، وسيعلم الإنجليز أنهم كانوا أحوج الناس إلى السلم وأفقرهم إلى القناعة.
أي قوة تقف هذه الدعوة وتحجبها عن الانتشار، بل تردها على قائلها وتذهب بها كأن لم ينطق بها لسان أو يذعن لها جنان؟ ليس لقوة أن تأتي بهذا الأثر على أحسن وجوهه إلا قوة العثمانيين وأولي العزم من المصريين.
هل تظن دولة بريطانيا أن عقد مؤتمر لتصفية الدين المصري يبطئ سير محمد أحمد، أو يخفف من وطأته، أو يرده على عقبه، فتنال مقصودها وتصبح آمنة مطمئنة في ديار مصر؟ إنها إلى الآن في عجز عن إرضاء الدول بقبول الأصول الابتدائية التي تحب أن تكون موضوعا لبحث المؤتمر.
إن تصفية الدين المصري يهم إنجلترا وحدها ولا نظنه يهم الدول ولا يهم محمد أحمد، وإنا نرى الدول - خصوصا دولة روسيا والنمسا والأمة الفرنسية - مهتمة كل الاهتمام بكشف مقاصد الإنجليز والنبش عن غاياتهم فيما كانوا شرطوه من تخصيص البحث بالمسائل المالية، حتى إن شدة المعارضات، وكثرة المفاوضات، والاشتداد من الدول في طلب تعميم البحث في المؤتمر ليحيط بجميع فروع المسألة المصرية؛ أحدث شكا عند صاحب جريدة التايمس في انعقاد المؤتمر، ودفع بالمسيو جلادستون إلى ربكة شديدة، فهو من أمره في حيرة لا يهتدي إلى ما يسكن به خواطر الدول، بل ولا ما يقنع به أوداءه المخلصين، بل ولا ما يوفق به بين زملائه في الوزارة؛ لتفرق كلمتهم وتباين آرائهم.
أما قائم السودان فهو في إعراض عن كل هذه المجادلات وإغضاء عما يكون في عرضها من المحاولات، سواء عنده انعقد المؤتمر على رغبة الإنجليز أو على وفق الآراء العمومية، وهو مغذ في سيره، ذاهب وراء فكره، ولا يمر يوم من أيامه إلا ونسمع فيه بخبر فتح أو حديث زحف، حتى جاءت الأخبار الأخيرة بدخوله عاصمة السودان «الخرطوم».
وورد في برقية من القاهرة إلى «الديلي تلغراف» بتاريخ 3 يوليه أنه وصلت رسائل من بعض عساكر السودانيين وهم في مدينة الخرطوم إلى أناس يوثق بهم في القاهرة، ذكر فيها أن حامية المدينة ضعفت عن دوام المدافعة، وأعلن محمد أحمد بتأمين جميع السكان على أرواحهم وأموالهم وأخذ على نفسه وقايتهم من كل ضرر يتوقعونه، فبضعف الحامية وثقة الأهالي بوعد الفاتح فتحت المدينة بغاية السهولة في نهاية شهر مايو بدون سفك دم، وأن كثيرا من الإفرنج أسلموا، وأن جوردون مع كونه مستمسكا بدينه ولم يبدل دخل في أمان الفاتحين وسيق إلى محمد أحمد محفوظا لم يمسه سوء.
نامعلوم صفحہ