وقد ذكرنا هذا بقصة أحد القواد الأفغانيين؛ حيث عرض نفسه لخدمة الإنجليز في الحرب الأفغانية الأخيرة، فأمدوه بمبالغ وافرة لإعانته على العمل، فأخذ ما أخذ ونثره في قومه وهيأهم به للكر على الإنجليز والنكاية بهم ونال منهم ما نال، وبعدما ذاقوا منه الوبال أخذوا في نشر المنشورات وتحرير الإعلانات بأن هذا الرجل قليل الوفاء خائن العهود لا يثبت على قوله ولا يفي بوعده، مع أن الوفاء هو أداء حق الوطن والمدافعة عنه والقيام بذمامه، وكل عهد يخالفه فالذمة تنكره والصدق يأباه كائنا ما كان.
هذه أسطورة أمر الجنرال جراهام، وأما الجنرال جوردون فقد أخبرت بعض الجرائد الإنجليزية أنه في خطر وأنه يوجد قلق عظيم في مصر من جهته، ويثبت هذا الخبر امتناع وزير الحربية في إنجلترا من عرض المخابرات التي جرت بينه وبين الجنرال خوفا من تأثيرها في الأذهان.
وروت جريدة الديلي نيوز، بناء على تلغراف ورد إليها: أن زبير باشا صرح باستعداده لأن يخلف جوردون باشا في السودان، وهو يظن أنه لا يمكن إعادة الأمن إلى تلك البلاد إلا بطرق سلمية، ولا يستطيع أن يبدي فكره في شأن المهدي قبل أن يخابره وهو في ريب من اعتقاد السودانيين بنبوته (كذا)، ومما قال: إن تجارة الرقيق يمكن إلغاؤها بالتدريج عندما يشرع سكان السودان في معرفة فوائد التمدن ومنافعه، ثم كذب ما أشيع عنه من البغض للجنرال جوردون.
نعم إن زبير باشا لا يبغض الجنرال في هذه الأوقات ما دام في القاهرة، أما إذا وصل إلى السودان فيمكن أن تعود إليه الضغينة التي مازجت قلبه سنين عديدة.
الفصل التاسع
صدى دعوة السودان
وردت برقية من تاشكند إلى جريدة الساندر الإنجليزية مفادها أنه حصل اضطراب عظيم في أفكار المسلمين سكنة بخارى عندما سمعوا بانتصار أعراب السودان وظفرهم الأول، وظهر فيهم داع جديد يحث على الحرب ومقاتلة الذين ينتهبون الأراضي الإسلامية لتوسيع ممالكهم، ويهدد صاحب السلطة العامة بين المسلمين بخلعه من مغرسه إذا لم ينشر اللواء الأخضر (المغالبة ومصادمة المعتدى عليهم).
هذا برهان جلي على ما أنذر به سابقا من أن دعوى المهدوية في السودان لهذه الأوقات التي صدم المسلمين فيها أشباه الحوادث الماضية في القرن الخامس والسادس من الهجرة، ستدعو إلى حركة عامة يصيح فيها الشرقي بالغربي، ويصعب على الإنجليز وهو في مجراها أن يتنكب عنها دون أن تعروه هزة من مفزعاتها، خصوصا والمظاهرة الدينية في البلاد المحكومة بسلطة أقوى وأظهر.
إن بلاد بخارى بينها وبين السودان مسافات متطاولة وأبعاد متنائية، ويظن الناظر في لوح الجغرافيا أن المواصلات بينها منقطعة، ومع ذلك سرى التنافس بين القطرين في الغيرة بغاية السرعة، فما ظنك ببلاد هي أقرب إلى مبعث الدعوى وأدنى منها منالا؟! يغلب على الظن أن الروح هبطت إليها ولكن تتحرك بحركة العقل وتنمو على القوانين الطبيعية والشرائع السياسية والاعتقادية، فلا يشعر الأقوياء إلا وقد بات بحلاقمهم المستضعفون، والأرض أرض الله يورثها من يشاء من عباده الصالحين.
إذا سهلت الحوادث ظهور الكوامن ومهدت بروز المغيبات ماذا يمكن أن يؤخذ به من الوسائل لوقاية العد القليل من غيلة الجمهور الأغلب الذي لا يقاوم، وما أمكنت مقاومته في الأزمان الخالية؟!
نامعلوم صفحہ