في تلك الآونة كان القمر هلالا ينفذ أشعته الفضية من بين الأغصان، فتطفو على الساقية ذات المياه الرقراقة وتعيرها لمعان الزجاج عندما تنعكس عليه أشعة الشمس.
لم يكن فريد يحسن الرقص، فكان جالسا على قدم الجدار مع العجز ينظر إلى ابنة أديب تدور إلى ذراع جميل هاني كأنها خيال أبيض يطفو على ظلمة الليل؛ وكان يتبع بنظراته حركاتها الخفيفة العذبة، وقد جمعت إليها مهابة المساء وأسرار القمر، فأكسبتها ملامح جنية ذات جواذب شعرية غميضة، فتمنى لو أتيح له أن يصرف الليل كله في النظر إلى تينك القدمين اللتين تلامسان الأرض بخفة الطائر. حتى إذا انتهت الفتاة من الرقص تحولت إلى فريد وقالت له بغنج: ألا تود أن ترقص يا فريد؟ - لم أتعلم الرقص. - تعال معي أعلمك إياه بسهولة. - لا، أخاف أن يضحكوا مني. - إني ألومك يا فريد، فالرقص جميل! ... ولا يجمل بك أن تبقى إلى جانب هؤلاء العجز بينما الجميع يرقصون ... - لا، ليس من المحزن أن أبقى على ما أنا! ... - أنت دون الثامنة عشرة يا فريد، والذي ينظر إليك يظنك في الأربعين، ثم إني لا أعرف ما يروق لك، ولقد تبين لي أنك تكره كل ما يلذ لغيرك. - ومن قال لك ذلك؟ ... - إذن فأنت تحب الزهو والشمس والأزهار؟ - كثيرا! - إذا كان ذلك فأود أن أسرك وأنور أفكارك.
قالت ذلك ونزعت الأزهار من خصرها وألقتها بين يديه وهي تنشد أغنية جميلة، فتشنجت أصابع الولد المضطربة على الأزهار الملساء التي كانت على وشك الذبول؛ ثم انتصب على قدميه وقد خيل إليه أنه يسمع أصوات شبابه تصرخ في حنايا نفسه. وفجأة ضم الأزهار إلى صدره وانسل بعيدا عن العملة حتى دخل غرفته الصغيرة ليجلس وحيدا مع أفكاره!
في تلك الدقيقة كان القمر يملأ بأشعته الزرقاء الطافحة بالأحلام تلك الغرفة الضيقة، فجلس الولد على حافة السرير وفي يده الأزهار العطرة وأخذ يتسمع إلى نداء عذب يتصاعد من قلبه.
كان ذلك النداء أصوات السعادة!
ثم استسلم للبكاء فتناثرت الدموع على الأزهار العطرة فقال: رب، أهذا هو الحب؟
3
كانت السيدة بطرس مستلقية على كرسي من قش تقص على مسامع جاراتها رواية غرامية قرأتها في جريدة «البرق»، حتى إذا وصلت إلى هذا المقطع: شعر المركيز الشاب بأن فخا سريا قد انفتح تحت قدميه فسقط في هوة عميقة ... قاطعها جميل هاني بقوله: عن أي مركيز تتكلمين يا سيدتي؟ - عن الذي قرأت حوادثه في «البرق». - آه! كنت أظنك تقصين حكاية حقيقية! ...
فرفعت السيدة بطرس نظرات ملؤها الشاعرية إلى نجوم الليل وقالت: إن القصص الحقيقية لا تلذ كغيرها من القصص الخيالية يا سيد هاني، ولكن اصمت! ... فأنا أقول ذلك بصوت خافت؛ لأن زوجي لا يزال يعتقد أنني امرأة خيالية.
فقال نجيب: إن زوجك غائب الآن! - ما الذي اضطره إلى البقاء في المحطة حتى هذه الساعة المتأخرة؟
نامعلوم صفحہ