كانت تلك الليلة شديدة العواصف والأمطار حتى إنها حالت دون رقاد المزارعين في جونية. ولما كان غد أبكر أديب فقطر جواده على العجلة وذهب مع امرأته لزيارة أراضيه والوقوف على الأتلاف.
كانت الشمس تنير بأشعتها المتلألئة بين الغيوم المنهزمة طرق المجاري والأودية التي تخللتها الأوراق والأغصان المتكسرة والأدواح المستأصلة من منابتها؛ وعندما اجتاز أديب بعض كيلومترات بلغ سهوله الواسعة فرأى أن العواصف والسقيط قد أشفقت على مزروعاته فأبقتها ولم يمس الهواء العاصف إلا أسلاك الحديد، حيث اتكأت رءوس الأغراس الخضراء؛ فهتف مسرورا ورفع نظره إلى الله وقال: أحمدك اللهم! لقد أبعدت الضرر عني وكفيتني مئونة الخسائر! ثم ربط جواده إلى شجرة وأخذ يعيد مع امرأته أسلاك الحديد إلى ما كانت عليه ويسندان إليها رءوس الأغراس المنطرحة على الأرض.
كان في طرف الحقل منحدر يرتفع على مقربة من السلك الحديدي؛ فبعد أن صرف أديب بعض الساعات في العمل جلس على حافة العجلة؛ ليأخذ شيئا من الزاد فخيل إليه أنه يرى عمادا «تلغرافيا» على خط القطار، فأسرع ليتحقق ما رآه فتبين أن زوبعة الليل قد حطمت العماد الكبير فاضطرب اضطرابا شديدا ورجع إلى امرأته وقال لها: يستحيل علينا أن نرفع ذلك الثقل الهائل عن الخط؛ بيد أن الخطر قريب؛ لأن القطار أصبح على وشك الوصول، فما العمل؟ يجب أن ننقذ القطار من الداهية! ...
فقالت المرأة ببسالة قليلا ما تتفق للنساء: يجب أن نجد وسيلة قريبة، يجب أن نوقف القطار. أتعرف بأية واسطة نتمكن من إيقافه؟ - بوضع علم أحمر في وسط الطريق. ولكن أين يتفق لنا أن نجد علما أحمر؟ عند هذا خطر له خاطر فجائي فصرخ قائلا: تنورتك الصغيرة!
فلم يكد يتلفظ بهاتين الكلمتين حتى سقطت التنورة الحمراء على قدميها، فأخذها أديب وربطها بقدر ما استطاع إلى مذراة ذات أسنان مستطيلة وركض فاجتاز الحقل حتى بلغ المنحدر فتسلقه إلى الخط حيث ركز علمه الأحمر!
بعد مرور خمس دقائق أبصر سائق القطار العلامة الحمراء فأوقف الآلة تجاه حقل أديب. عند هذا شرع الزوج وامرأته يقصان على مسمع السائق كيفية الحادثة، فنزل أحد المفتشين من القطار وبعد أن استجلى الحقيقة شكر الزوجين على صنيعهما الحميد قائلا لهما: لقد أنقذتما القطار من خطر عظيم أيها الباسلان! فلولا علمكما الأحمر لما نجت مئات من الأرواح! فسأطلع الشركة على جميلكما هذا!
في تلك الآونة كانت رءوس المسافرين تطل من نوافذ القطار وقد ظهرت على محياها أمارات السرور وخرجت من أفواهها عبارات الشكر والثناء.
أما القروية فلم تتردد أن نزعت قماشتها الحمراء عن أسنان المذراة ورفعت على مرأى من الجميع وهي تبتسم ابتسامة جذابة تلك التنورة المرقعة، تنورة القروية اللبنانية التي أنقذت القطار.
أقام سكان منزل العملة حفلة جميلة لعائلة أديب في المساء نفسه، وبعد ثمانية أيام جاء السيد راغب إلى أديب وقال له: إن الشركة مقرة بجميلك وهي تتوسل إليك أن تقبل منها جائزة قدرها خمسون فرنكا. فغضب بطرس عندما شعر بزهادة المبلغ وقال: خمسون فرنكا! خمسون فرنكا فقط لقاء تضحية كهذه! إن كفاء الشركة لكفاء زهيد!
فعارضه أديب قائلا: لم أفعل ما فعلت في سبيل المال يا سيدي المدير، ولكني لا أرفض مكافأة الشركة؛ لأنها غنية ... بشرط أن يصرف هذا المبلغ في إقامة مأدبة لعمال السكة تتصدرها أنت يا سيدي المدير؛ لكي يتم فرحنا بك.
نامعلوم صفحہ