بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمدُّ للهِ المتفضِّلِ بإنزالِ القرآنِ هدىً للناسِ، وبيِّناتٍ من الهُدى والفُرقان. أنزلَه بأفصحِ لسانٍ، وأوضحِ بيانٍ، وأَسْطَعِ بُرهانٍ، وأقومِ تبيانٍ، وأبلغ حُجَّةٍ، وأبْينِ مَحجَّةٍ. ذا حِكَمٍ بالغةٍ وحُججٍ لامعة. أخبارُه لا تَتعارضُ، وأحكامُه لا تَتَناقضُ، وفوائدُه لا تُعدُّ، وفضائلُه لا تُحدُّ. وجواهرُ بحارهِ لا تُحصَى، ودُرَرُ معانيهِ لا تُستقصَى. عَجزتِ الفُصحاءُ عن معارضتهِ، ونَكصت الألبَّاءُ عن مُناقضتهِ. وكيف لا يكونُ كذلك وهو كلامُ ربِّ العالمين، المنزَّلُ به الروحُ الأمينُ، على قلبِ سيدِ المرسلين، وأفضلِ الأولين والآخرين؛ محمدٍ خاتمِ النبيّين. أرسلَه بآياتهِ، وأيَّدَه بمعجزاتهِ، والكُفرُ قد طَمتْ بحارُه، وزخرَ تيَّارُه. وعُبدتِ الأوثانُ، وأُطيعَ الشيطانُ. فلم يزلْ ﷺ يجاهدُ في اللهِ حقَّ جهاده، ويَدعو إِليه الثَّقَلين من عباده. ويدأبُ في إِيضاحِ السُّبل، ويصبرُ صبرَ أولي العزم من الرسُل، إلى أن أنجزَ اللهُ وعدَه، فعُبد وحدَه، وهزم الشيطانَ وجندَه، وفلَّ شَباتَه وحدَّه، صلى الله عليه، وعلى آلهِ الأطهارِ، وصحابتهِ الأخيارِ، ما تعاقَبَ الليلُ والنهارُ، وسلَّم، وشرَّف، وكرَّم.
أما بعدُ، فإِنَّ علومَ القرآنِ جمَّةٌ، ومعرفتَها مؤكَّدةٌ مهمَّةٌ. ومن جُملتِها المحتاجُ إِليها، والمعوَّلُ في فهمهِ عليها، مدلولاتُ ألفاظهِ الشريفةِ، ومعرفةُ معانيهِ اللطيفة؛ إِذ بذلك يُترقَّى إِلى معرفةِ أحكامهِ، وبَيانِ حلالِه وحرامِه، ومناصي أقوالِه، وإِشارة مواعظهِ وأمثالهِ.
فإنَّه نزلَ بأشرفِ لغةٍ؛ لغة العرب المحتويةِ على كلِّ فنٍّ من العجب.
1 / 37
وقد وضعَ أهلُ العلمِ، رحمهم اللهُ تعالى، في ذلك تصانيفَ حسنةُ، وتآليفَ مُجرَّدةً مُتْقنةً، كـ «غريبِ» الإمام الحَبْر الرّبانيِّ أبي عبيدٍ أحمدَ بنِ الهَرويّ، وكـ «غريبِ» محمدِ بنِ بكر بنِ عُزَيزٍ السِّجستانيّ، وكـ «مفرداتِ الألفاظِ» لأبي القاسم، الراغب الأصبهانيّ. غير أنَّهم لم يُتمُّوا المقصود من ذلك لاختصارِ عباراتِهم، وإيجازِ إِشاراتهم.
على أن الراغبَ، ﵀ قد وسَّعَ مجالَه، وبَسطَ مقالَه بالنسبةِ إِلى مَن تقدَّمَه، وحَذا بهذا الحَذوِ رسمه. غيرَ أنَّه، رحمه اللهُ تعالى، قد أغفلَ في كتابِه ألفاظًا كثيرةً، لم يتكلّمْ عليها، ولا أشارَ في تصنيفِهِ إليها، مع شدَّةِ الحاجة إلى معرفتها، وشرح مَعناها ولُغتِها، مع ذكرِه لبعضِ مواد لم تَردْ في القرآنِ الكريم، أو وَردتْ في قراءةٍ شاذَّةٍ جدًا، كمادَّةِ (ب ظ ر) في قوله تعالى: (واللهُ أخرجَكُم مِن بُظورِ أمَّهاتِكم) [النحل: ٧٨]، وهذه لا يَنْبغي أن يُقرأ بها البتَّةَ.
فممَّا تركَه، معَ الاحتياجِ الكليِّ إِليه، مادةُ (ز ب ن) وهي في قولهِ تعالى: ﴿سَندْعُ الزَّبانيةَ﴾ [العلق: ١٨]. ومادةِ (غ وط) وهي في قوله تعالى: ﴿مِنَ الغائطِ﴾ [المادة: ٦] ومادةِ (ق ر ش) وهي في قولهِ تعالى: ﴿لإيلافِ قريشٍ﴾ [قريش: ١]. ومادة (ك ل ح) وهي في قولهِ تعالى: ﴿كالِحُون﴾ [المؤمنون: ١٠٤]. ومادةِ (هـ ل ع) وهي في قولهِ تعالى: ﴿هلوعًا﴾ [المعارج: ١٩]. ومادة (ل ج أ) وهي في قوله تعالى: ﴿لو يجدونَ مَلجَأً﴾ [التوبة: ٥٧]. ومادةِ (س ر د ق) وهي في قولهِ تعالى: ﴿أحاطَ بِهم سُرادِقُها﴾ [الكهف: ٢٩]. ومادةِ (ح ص ب) وهي في قولهِ تعالى: ﴿حَصَبُ جَهنَّمَ﴾ [الأنبياء: ٩٨]، ﴿حاصبًا﴾ [الإسراء: ٦٨]. ومادةِ (م ر ت) وهي في قولهِ تعالى: ﴿وماروت﴾ [البقرة: ١٠٢]. ومادةِ (س ف ح) وهي في قوله
1 / 38
تعالى: ﴿أو دمًا مسفوحًا﴾ [الأنعام: ١٤٥]. ومادةِ (ن ض خ) وهي في قولهِ تعالى: ﴿عينانِ نضَّاخَتَانِ﴾ [الرحمن: ٦٦]. ومادةِ (ق د و) وهي مذكورةٌ في قولهِ تعالى: ﴿مُقتدون﴾ [الزخرف: ٢٣]، ﴿فَبِهُداهُم اقْتدِه﴾ [الأنعام: ٩٠]. إِلى غير ذلك ممَّا لستُ بصددِهِ الآنَ.
ولم أورِدْ ذلك -عَلِمَ اللهُ- غضًّا منهُ، ولا استقصارًا له؛ فإِنَّ القرآن العظيمَ مُعجِزُ كلِّ بَليغٍ. وإِنما قصدتُ التَّنبيه على ذلكَ، ومعرفةَ ما هنالك.
فلما رأيتُ الأمرَ على ما وُصفَ، والحالَ كما عُرف، ورأيتُ بعضَ المفسِّرين قد يفسِّرُ اللفظةَ بما جُعلتْ كنايةً عنهُ، كقولِهم في قولهِ تعالى: ﴿والشجرةَ الملعونةَ﴾ [الإسراء: ١٧]. هي أبو جهلٍ. أو بغايتها وقُصارَى أمرِها، وكقولهم في قوله تعالى: ﴿والباقياتُ الصالحاتُ﴾ [الكهف: ٤٦] هي كلماتُ: سبحانَ اللهِ، والحمد لله، ولا إِلهَ إَلا اللهُ، إلى غير ذلك مما ليستْ موضوعةً له لغةً. استخرتُ اللهَ القويَّ، الذي ما نَدمَ مُستخيرُهُ، واستجرْتٌ اللهَ بكرمهِ، الذي ما خابَ مستجيرُه، في أن أحذُوا حذْوَ القومِ ليتُمَّ عليَّ بركتَهم، وأُلحقَ بالحشرِ في زُمرتِهم. فأذكرُ المادةَ -كما ستَعرفُ ترتِيبَهُ- مفسِّرًا معناها. وإن عثرتُ على شاهدٍ من نظمٍ أو نثرٍ أتيتُ له تكميلًا للفائدة. وإِن كان في تصريفها بعضُ غموض أوضحته بعبارةٍ سهلة إِن شاءَ الله. وإِن ذكرَ أهلُ التفسيرِ اللفظة وفسَّروها بغيرِ موضوعِها اللغويِّ، كما قدَّمتُه، تعرَّضتُ إليهِ أيضًا، لأنه والحالةُ هذهِ محطُّ الفائدة.
ورتَّبتُ هذا الموضوعَ على حروفِ المعجمِ بترتيبها الموجودة هي عليهِ الآنَ. فأذكرُ الحرفَ الذي هو أولُ الكلمةِ، معَ ما بعدَه من حروفِ المعجم، إِلى أن ينتهي ذلك الحرف مع ما بعده، وهلمّ جرّا إِلى أن تنتهي، إِن شاءَ الله تعالى، حروف المعجم جميعُها.
ولا أعتمدُ إِلا على أصولِ الكلمةِ دونَ زوائدِها؛ فلو صُدِّرتْ بحرفٍ زائدٍ لم أعتبرْهُ، بل أعتبرُ ما بعدَه من الأصولِ مثلَ: «أنعمتَ» تطالُه من بابِ النونِ لا مِن باب الهمزةِ.
1 / 39
ومثل: «نعبدُ» و«نَستعينُ» يُطلبانِ من بابِ العَينِ لا من بابِ النون. ومثل: «مُكرمٍ» يُطلبُ من بابِ الكافِ لا مِن بابِ الميم. وكذلك لو عَرضَ في المادةِ حذفُ أوَّلها فإِنَّني أعتمدُهُ دونَ ما بعدَه مثل: «يعدُهم» يُطلب من بابِ الواوِ لأنه من الوعدِ، لا منَ العينِ. وكذلك لو عَرضَ فيهِ البدلُ، فإِنني أعتبرُ أصلَه مثل: «إِيمان» من بابِ الهمزةِ لا من بابِ الياءِ، لأنَّها فيه عارضةٌ، إِذ أصلُه «إِإِمان» كما ستعرفُه لمن شدّ. . . (١) من علمٍ أسموهُ إِعرابًا وتصريفًا، فهو الذي. . . (٢)
وأما مَن عداهُ فلا ينتفعُ منهُ إلا بمجردِ تفسيرِ لفظٍ نحو مَعرفتهِ أنَّ «الأبَّ» هو المرعَى و«الزَّبانية» هم الأَعوانُ، إِلى نظائرِ ذلك. وإذا كان الحرفُ مُفردًا، وقد جاءَ لمعنى، كهمزةِ الاستفهامِ، وباءِ الجر ولامهِ، أبدأُ بهِ ثم أذكرُهُ مع غيرِه، إلى آخر الحروفِ كما قدَّمتهُ نحوَ: «أب، أبدًا».
وسميتهُ بـ عمدةِ الحفاظِ في تفسيرِ أشرفِ الألفاظ. وعلى اللهِ الكريمِ أعتمدُ، وإليهِ أفوِّضُ أمري وأستندُ. فإِنه نعمَ المولى، ربُّ الآخرة والأُولى.
_________
(١) كلمة غير واضحة في الأصل.
(٢) فراغ في الأصل.
1 / 40
باب الهمزة المفردة
ويطلق عليها الألف
فالألف تارةً تكونُ عبارةً عن الحرفِ الذي هو همزةٌ، وتارةً عن حرفِ المدِّ واللِّينِ، وذلك كوسطِ «قال» ولا غرضَ لنا فيها لأنها لا يُبتدَأُ بها. وإِنما صُورتِ الهمزةُ ألفًا في الخطِّ لأنها لا تقومُ بنفسها لإبدالها واوًا في الضمِّ وألفًا في الفتح وياءً في الكسر، نحو: مُومن، وراس، وبِير. وبعضُهم يصورُه صورةَ عَينٍ صغيرةٍ، نحو «ء»، إِذا عُلم ذلك.
فالهمزةُ تكون للاستفهامِ ولها أخواتٌ، وهي أمُّ الباب. ولذلك تنفردُ بأحكامٍ بيَّنتُها في مواضعِها. ومعناها فيه لطلبِ التصديق نحو: أزيدٌ قائمٌ؟ أو التصوُّرِ نحو: أدبسٌ في الإناءِ أم عسلٌ؟ وقد يقعُ الاستفهامُ بها إنكارًا وتَعريضًا وتَوبيخًا نحو: ﴿أأنتُم أنشأتُم شَجرتَها﴾؟ [الواقعة: ٧٢]. وقولِ عامرٍ: «أغُدَّةٌ كغدَّةِ البعيرِ وموتًا في بيتِ سَلوليَّةٍ».
وقوله: [من الطويل].
١ - أفي السِّلمِ أعيارًا جَفاءً وغِلظةً ... وفي الحربِ أمثالَ النساءِ العوارك
وبعضُهم يقولُ: الهمزةُ للاستخبارِ، ليعمَّ الاستفهامُ والإنكارُ والتَّبكيتُ والنفيُ والتسويةُ، نحو: ﴿أجَزعْنا أم صبَرْنا﴾ [إبراهيم: ٢١]. وإذا دَخلتْ على نفيٍ قرَّرتْه كقوله
1 / 41
تعالى: ﴿أليسَ اللهُ بكافٍ عبدَهُ﴾ [الزمر: ٣٦]. قال الراغبُ: «وهذه الألفُ متى دخلتْ على الإثباتِ تجعلُه نَفيًا. وإذا دخلتْ على النفس تجعلُه إثباتًا، لأنه يصيرُ معه نَفيًا يحصلُ منه إِثباتٌ».
- وتكونُ الهمزةُ للنداءِ لكنْ للقريبِ خاصةً، ومنه عندَ بعضِهم: ﴿أمَّنْ هوَ قانتٌ﴾ [الزمر: ٩]، ولها أخواتٌ.
- وتكون للمضارَعةٍ، وتدلُّ على المتكلم وحدَه نحو: ﴿أسمعُ وأَرَى﴾ [طه: ٤٦].
- وتكونُ للتَّعديةِ نحو: ﴿كما أَخْرَجَك ربُّكَ﴾ [الأنفال: ٥]. فيصيرُ المفعولُ معها فاعلًا.
- وتكونُ ألفَ قطعٍ وألفَ وصلٍ، والفرقُ بينهما أنَّ ألفَ القطعِ تَثبتُ ابتداءً ودَرْجًا نحو: ﴿أَنزِلْ علينا مائدةً﴾ [المائدة: ١١٤]. والأخرى تَثبتُ ابتداءً لا دَرْجًا نحو: ﴿ابْنِ لي عندَكَ بيتًا﴾ [التحريم: ١١].
- ثم إنَّ ألفَ الوصل تدخلُ على الحرفِ والاسمِ والفعلِ، فتدخلُ على حرفٍ واحدٍ، وهو اللامُ للتعريفِ على رأيِ سيبويه. وتتصلُ من الأسماء بعشرةٍ: اسمٍ، واسْتٍ، وابنٍ، وابنةٍ، وابنمٍ، وامرئٍ، وامرأةٍ، واثنين، واثنتينِ، وأيمنٍ، وبكلِّ مصدرٍ لفعلٍ زائدٍ على ثلاثةِ أحرفٍ صُدِّرَ بهمزةٍ نحو: الانطلاق، والاستخراج، وهي في جميعِ ذلك مكسورةٌ، إلا معَ اللامِ وأيمن. ومُتصلٍ من الأفعالِ بكلِّ أمرٍ من ثلاثيٍّ سُكنتْ فاؤهُ بعدَ حرفِ
1 / 42
المضارعةِ، نحو: اقبَلْ، واضرِبْ، واشْرَبْ. فإن ضُمَّ ثالثُه ضمةً لازمةً ضُمتْ. وإن فُتح أو كُسرَ كسرةً لازمةً كُسرتْ، نحو: اغزي يا هندُ، وارمُوا يا زيدون، وبكلِّ ماضٍ زائدٍ على أربعةِ أحرفٍ صُدرَ بهمزةٍ، نحو: انطلقَ واقتدرَ. ولا تكونُ فيه إلا مكسورةً.
وما عدا هذه الأنواعِ فلا تكونُ الهمزةُ فيه إلا همزة قطعٍ.
وقد تُقطعُ ألفُ الوصلِ كقوله: [من الطويل]
٢ - إذا جاوزَ الإثنينِ سِرٌّ فإنَّهُ ... بِنَثٍّ وتكثيرِ الوُشاةِ قَمِينُ
وتوصلُ ألفُ القطع كقولهِ: [من الكامل]
٣ - إِنْ لم أقاتلْ فالسويُّ تَرفَّعا
فصل الألف مع الباء
أب ب:
الأبُّ من قوله تعالى: ﴿وفاكهةً وأَبًّا﴾ [عبس: ٣١] هو المرعَى مُطلقًا. وقالَ شَمِرٌ: مَرعى السَّوائمِ. وأنشدَ: [من المتقارب]
٤ - فأَنْزلْتَ ماءً منَ المُعْصراتِ ... فَأَنْبَتَّ أَبًّا وغُلْبَ الشجَرْ
وقيلَ: هو للبهائم بمنزلة الفاكهةِ للناسِ. هو المرعَى المتهيِّئِ للرعيِ والجزِّ، من: أبَّ لكذا أي تَهيَّأ، أبًّا وأبابةً وأبابًا، وأبَّ إِلى وطنِه أي نَزعَ إِليه وتَهيَّأ لقصدِه. قال الأعشَى: [من الطويل]
1 / 43
٥ - أخٌ قد طوَى كَشْحًا وأبَّ ليذْهَبا
وأبَّ لسيفهِ: تَهيَّأ ليبتَدِرَهُ. وإِبّانُ الشيءِ: زَمنُه المُنْتهي لفِعلهِ، فهو فِعْلانُ منه. وقيلَ: هو التِّبنُ خاصةً، قاله الضحاكُ وأنشدَ [من المتقارب]
٦ - فما لهمُ مرتعٌ للسَّوا ... مِ والأبُّ عندهمُ يُعذَرُ
ويُروى عن ابنِ عباسٍ: وقيلَ: كلُّ نباتٍ على وجهِ الأرض. ومنه قولُ ابنِ عبّاسٍ: «الأبُّ: ما تُنبتُ الأرضُ ممّا تأكلُ الناسُ والأنعامُ». وعلى هذا فيكونُ مِن ذكرِ العام بعدَ الخاص. وقالَ الكلبيُّ: هو كلُّ نباتٍ سوى الفاكهةِ. وقيلَ: الفاكهةُ رَطبُ الثمارِ، والأبُّ يابسها، وقيلَ: ما نأكلُه حَصيدًا، وما تأكلُه البهائمُ أبٌّ. وأنشَد قولَ الشاعرِ يمدحُ سيدَنا رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: [من الطويل]
٧ - لهُ دعوةٌ ميمونةٌ رنَّحها الصَّبا ... بها يُنبتُ اللهُ الحصيدةَ والأبّا
وقيلَ: إِنَّما سُمي أبًّا لأنه يَؤُبُّ.
وعن أبي بكرٍ الصديقِ، ﵁، وقد سُئلَ عن تفسيرِ الأبِّ فقال: «أيُّ سماءٍ تُظلُّني، وأيُّ أرضٍ تُقلُّني، إِذا قلتُ في كتاب اللهِ ما لا أعلمُ؟». وعن عمرَ ﵁ حين تلاها قال: «كلُّ هذا عرفناهُ، فما الأبُّ؟». ثم رَفع عصًا كانت بيده فقال: «هذا لعَمْرُ اللهِ التكلُّفُ، وما عليكَ يا بنَ أمِّ عمرَ أما تعرفُ ما الأبُّ». ثم قالَ: «ما تَبيَّنَ لكم من هذا الكتاب فاتَّبعوهُ، وما لا فدَعوهُ». يعني ﵁ في ما لا يتعلقُ به حكمٌ أو فائدةٌ جليلةٌ. فإنا قد عرَّفْنا الأبَّ: نبتٌ في الجملة. فقالَ عمرُ ﵁: «لا يضرُّ الجهل بمعرفتهِ على التعيين، وهو كما قال ﵁. وهذا بخلاف الكَلالةِ
1 / 44
ونحوِها لتعلُّقِ الأحكامِ بها.
«والأبُّ: لغةٌ في الأبِ الوالدِ. قيل: أبدلوا من الواوِ المحذوفة حَرفًا يجانسُ العينَ. ومن ذلك قولُهم: استأبَبْتُ فلانًا أي اتَّخذتُه أبًا» ومثلُه: أخٌ بتشديدِ الخاءِ.
أب ت:
لم يَرِدْ منه إلا نحو: ﴿يا أَبَتِ﴾ [مريم: ٤٢]. والتاءُ ليستْ بأصلٍ، وإِنما هي عِوضٌ عن ياءِ المتكلِم، والأصلُ: يا أبي. وكذلك: يا أمَّتِ، والأصلُ: يا أمي. ولم تُعوَّضِ التاءُ عن ياءِ المتكلم، إلا في هاتينِ اللفظتين في النداءِ خاصةً. فلو قلتُ: جاءني أَبَتِ وأُمَّتِ لم يجُزْ. فذكري لهذه اللفظةِ من بابِ التجوُّز؛ وإلا فالتاءُ ليست من أصولها في شيءٍ، ولكن لم أجدْ موضعًا أنسبَ لذكرها من هذا.
ويجوزُ فيها الحركات الثلاثُ. وقد قُرئَ بالكسرِ والفتحِ في السبع. وإثباتُ الألفِ معها شاذٌّ أو ضرورةٌ، نحو قولِه: [من الرجز]
٨ - يا أبتا علَّك أو عساكا
ومعَ الياءِ ممتنعٌ في المشهورِ، خلافًا للهَرويِّ، وهي تاءُ تأنيثٍ، ولذلك تُبدلُ في الوقفِ هاءً على اختلافٍ بينَ القراءِ في ذلك، كما أوضحناهُ في «العقد النَّضيد».
1 / 45
والفرّاءُ: «الهاءُ فيها رُخصةٌ، فكثرتْ في الكلام حتى صارتْ كهاءِ التأنيثِ، وأدخَلوا عليها الإضافةَ».
أب د:
الأبدُ: الزمنُ الطويلُ الممتدُّ غيرُ المنجزئِ، فهو أخصُّ منَ الزمانِ. قالوا: ولذلك يقال: زمانُ كذا، ولا يقالُ: أبدُ كذا. ويقالُ: أبَدٌ آبِدٌ وأبيدٌ على المبالغةِ أي دائمٌ؛ قال تعالى: ﴿خالدين فيها أَبدًا﴾ [النساء: ٥٧]. أي زمانًا لا انقضاءَ لآخرهِ. قال النابغةُ الذبيانيُّ: [من البسيط]
٩ - أقْوَتْ وطالَ عليها سالفُ الأبدِ
«وحقُّه ألاّ يُثنَّى ولا يُجمَع لاستغراقهِ الأزمنةَ كلَّها. على أنه قيلَ: آبادٌ، كأنهم قصدوا به أنواعًا كما يقصدُ باسمِ الجنسِ ذلك. وقيلَ: إنَّ آبادَ مُولَّدٌ ليس من لغةِ العرب» ومن معنى الأبدِ قالوا للوحشِ أوابدِ جمع أُبَّدٍ لبقائها دهرًا طويلًا. وتأبّدَ الشيءُ: بقيَ دهرًا طويلًا. وتأبَّدتِ الدارُ: خَلتْ. وذلك أنها لخلوِّها وطولِ بقائها تحلّها الأوابدُ الوحشياتُ. فجعلَ ذلك كناية من خلوِّها. «وتأبَّد البعيرُ: توحَّشَ فصارَ كالأوابدِ»، ومنه الحديثُ: «إنَّ لهذه البهائمِ أوابدَ كأوابدِ الوحشِ». يقال: أبَدَتِ الوحوشُ تأبُدُ، وتأبِدُ، واستُعيرَ من ذلك: الآبدُة، وهي الكلمةُ أو الخَصلةُ التي يُنفَر منها ويُستوحشُ، فيقولون: جاءَ فلانٌ بآبدةٍ، ومن ذلك قولُهم أيضًا: تأبَّد وجهُ فلانٍ، أي توحَّش فصار يُنفَرُ منه، ومعناهُ: أَبَدَ. وقيلَ: أَبِدَ بمعنى غضِبَ، لأن الغضبَ يلازمُه ذلك غالبًا.
1 / 46
أب ر:
إِبراهيمُ: اسمٌ أعجمي، وفيه لغاتٌ: إِبراهيمُ، وهو المشهورُ، وإِبراهامُ، وقُرئَ بهما في السبعِ، وإبرَهَم بحذفِ الألفِ والياءِ.
أب ق:
الإِباقُ: هربُ العبدِ من سيدهِ. ولما كان الخلقُ كلُّهم عبيده قالَ تعالى في حقِّ عبدهِ يونسَ ﷺ: ﴿إِذْ أَبَقَ إِلى الفُلكِ﴾ [الصافات: ١٤٠] إِذْ للهِ أن يقولَ ما يشاءُ. ولا يجوزُ لنا أن نقولَ: أبَقَ نبيٌّ، إنما ذلك للهِ تعالى. يقال: أبِقَ العبدُ يأبَق، بكسرها. وأبَق يأبِق بالعكس فيهما، فهو آبِقٌ، والجمعُ أُبَّاق، والمصدرُ الإِباقُ، وتأبَّق الرجلُ: تشبَّه به في الاسْتِتار. وقالوا في قولِ الشاعرِ: [من البسيط]
١٠ - قد أُحكمتْ حَكماتِ القِدّ والأَبَقا
إِذِ الأبَقُ: القِنَّبُ وقالَ المبرِّدُ: آبَقَ: تباعدَ، ومنه غلامٌ آبِقٌ. وقيلَ: خرجَ سرًّا منَ الناس. وقد قالَ الحكيمُ التِّرمذيُّ ما لا يجوزُ أن يُقالَ في حقِّ نبيٌّ؛ ذكرتهُ للتَّنبيهِ على فسادِه؛ قال: «سمَّاه آبِقًا لأنَّه أبقَ عنِ العبودية، وإِنما العبوديةُ تركُ الهوى وبذلُ النفسِ عن أمورِ الله. فلمّا لم تبذلِ النفسُ عندما اشتدَّتْ عليه العزمةُ من الملكِ وآثرَ هواهُ لزمَه اسمُ الآبقِ، وكانت عزْمةُ المُلكِ في أمرِ اللهِ لا في أمرِ نفسهِ، وبحظِّ حقِّ اللهِ لا بحظِّ حقِّ نفسهِ. فتحرَّى يونسُ بنُ متَّى ﵇ فلم يُصبِ الصوابَ الذي عندَ الله فسمّاهُ آبقًا ومُليمًا انتهى. ولقد أساءَ في هذه العبارةِ جدًا، يغفر الله لنا وله، وهذه زلَّةٌ فاحشةٌ. وأما القصةُ التي يذكرُها المفسرون فقد نبّهتُ عليها في التفسير وذكرتُ هناك ما يَنبغي ذكره.
1 / 47
أب ل:
قال تعالى: ﴿طيرًا أبابيلَ﴾ [الفيل: ٣] هذا من صيغِ التكسيرِ التي لم يُسمعْ مفردُها، ومثلُه عباديدُ، وشماطيطُ، وأساطيرُ. وقيلَ: بل لها واحدٌ من لفظتها، وكأنه قياسٌ لا سَماعٌ. فقيلَ: إِبِّيلٌ، وقيلَ: إِبَّولٌ مثلُ: عجوْل وعَجاجيل. وقيلَ: إِبَّالة.
وظاهرُ كلامِ العُزَيزيِّ أنَّ هذهِ المسألةَ مسموعةٌ؛ فإِنه بعدَ ذكرِه إياها، قالَ: «ويقالُ هذه أجْمعٌ لا واحدَ لها»، والمختارُ قولُ غيرِه، ولذلك يُنسبُ إِليها فيقالُ عبَاديديٌّ وأبابيليٌّ.
وحكى الرُّؤاسيُّ، وكانَ ثقةً، أنه سمعَ إِبّالةَ مُثقَّلًا. وحكى الفرَّاءُ: إِبَالة مخفَّفًا قال: وسمعتُ بعضَ العربِ يقولُ: «ضِغْثٌ على إِبَّالةٍ» أي حَطبٌ على حطبٍ، وهو مشكلٌ من حيثُ ظهورُ الياءَين في الجمع، ولو كان مخفَّفًا لم تردْ في الجمع ياءَين. قال: ولو قالَ إِيبالة كان صوابًا مثلُ دينار ودنانيرٍ. قلتُ: دينارٌ أصلُه دِنّارٌ، ولذلك قيلَ: دَنانيرُ. وإنما أُبدلَ أحدُ المثلين حرفَ علةٍ تخفيفًا. يقولُ: فكذلك هذا، ومثلُه: قيراط وقراريط وديوان ودواوين. ومعنى ﴿طيرًا أبابيل﴾ أي «جماعاتٍ في تَفرِقةٍ حَلْقة، حلْقةً».
قال الراغبُ: «مُتفرقةً كقطعانِ إِبلٍ، واحدُها إِبيلٌ». فرجعَ بها إِلى لفظِ الإِبل.
1 / 48
وقريبٌ من هذا ما حُكي عن إسحاقَ بنِ عبدِالله بنِ نوفل: الأبابيلُ مأخوذٌ من الإبلِ المؤبَّلة، وهي الأقاطيعُ. وعن ابنِ عباسٍ ومجاهد: متتابعةٌ بعضُها في إِثرِ بعضٍ. وقيلَ: أبابيل: متفرقةً تجيءُ من كلِّ ناحيةٍ؛ من هُنا ومن هُنا. قاله ابنُ مسعودٍ وابنُ زيدٍ والأخفشُ. ومن مجيءِ ﴿طيرًا أبابيلَ﴾ قولُه: [من الرجز]
١١ - ولعبت طيرٌ بهمْ أبابيلْ ... فصُيِّروا مثلَ كعصفٍ مأكولْ
وقد وصفَ الأبابيلَ بكونهِ منَ الطيرِ تارةً في قولِ الأعشى: [من الطويل]
١٢ - طريقٌ وجبّارٌ رِواءٌ أصولُهُ ... عليه أبابيلٌ من الطيرِ تَنْعَبُ
وأضيفَ إليه أخرى في قولِ الآخرِ: [من الطويل]
١٣ - تَراهمْ إلى الدَّاعي سِراعًا كأنهمُ ... أبابيلُ طيرٍ تحتَ دَجنٍ تَخرَّقُ
وفي هذين دليلٌ على أن هذه اللفظةَ خاصةٌ بالطير. وقد جاءَ ما يشهد بخلافِ ذلك. قال الشاعرُ: [من البسيط]
١٤ - كادتْ تهزُّ من الأصواتِ راحلتي ... إِذ سالتِ الأرضُ بالجردِ الأبابيلِ
أي بالخيلِ الجردِ المتتابعةِ.
والإبلُ: اسمُ جمعٍ لا واحدَ لهُ من لفظهِ. مفردُه: جملٌ أو ناقةٌ. وقال الراغب: «الإِبلُ يقعُ على البُعرانِ الكثيرةِ». وتقييدُه بالكثرةِ غيرُ مرادٍ، إِذ اسمُ الجمعِ كالجمعِ في
1 / 49
صدقه على ثلاثةٍ فأكثرَ. وقولُه تعالى: ﴿أفلا ينظرُونَ إِلى الإِبِلِ كيفَ خُلِقَتْ﴾ [الغاشية: ١٧]. قيلَ: هي النَّعمُ المعروفةُ. وعن المبرِّد: هي السحائبُ؛ حكاها الماورديُّ وغيرهُ. وإلى ذلك ذهبَ المبردُ. قال الثعلبيُّ: لم أجدْه في كتبِ الأئمةِ. قلتُ: قد حكى ذلك قبلَه الأصمعيُّ. وقال أبو عَمرِو بنُ العلاءِ: مَن قرأ الإِبلَ بالتخفيف عنَى به البعيرَ، ومَن قرأَ بالتَّثقيل عَنى بها السَّحابَ التي تحملُ ماءَ المطرِ. قال الراغبُ: «فإنْ لم يكن ذلك صحيحًا فعلى تشبيهِ السحابِ بالإبلِ وأحوالهِ». وإنما ذكرهم بالإِبل وإِن كان غيرُها من الحيواناتِ أعجبَ منها كالفيل والزرافة، لأن العربَ لم تألفْه، ولأنَّ فيها منافعَ لم تجتمعْ في غيرها، فإنها حلوبةٌ ركوبةٌ حَمولةٌ مأكولةٌ.
وقد سُئل الحسنُ عن ذلك فأجابَ بأن العرب بعيدةُ العهدِ بالفيل، قال: ولأنَّ الفيلَ خنزيرةٌ لا يُؤكل لحمُها، ولا يُركب ظهرُها، ولا يُحلبُ درُّها. وأيضًا إِنَّ أصغر الآدميين يَجُرُّ الأباعرَ الكثيرةَ فتطيعهُ.
ويقالُ: «أبَلَ الوحشيُّ يأبِلُ أبُولًا، وأَبِلَ يأبَلُ أَبلًا: أجزأَ عن الماءِ تشبيهًا بالإِبل في صبرِها عنه». قاله الراغبُ، وقالَ الهرويُّ: أبلَتِ الإِبلُ وتأبَّلتْ اجتزأتْ بالرُّطبِ عن الماء. وتأبَّل الرجلُ عن امرأتهِ: بعُدَ عنها من ذلك لأنه يجزِئُ بصبرِه عنها، وفي الحديثِ: «تأبَّلَ آدمُ ﵇ على حواءَ بعدَ مقتل ابنهِ» أي توحَّش عنها، وتركَ غِشيانَها.
«وأبَّل الرجلُ: كثُرت إِبلُه. ورجلٌ أَبِلٌ وآبِلٌ: حسنُ القيامِ على الإِبل. وإِبلٌ مُؤبَّلةٌ: أي مجتمعةٌ. والإِبالةُ: الحزمةُ من الحطبِ تشبيهًا بذلكَ». ويقالُ في النسب: إِبَليّ بفتح الباء، ويقالُ: إِبْلي بسكون الباء. ولم يجئْ من الأسماءِ على «فِعِل» إلا: إِبلِ، وإِبد،
1 / 50
وإِطِل. وقد زادَ بعضُهم ألفاظًا تحريرُها في غيرِ هذا الموضع.
أب و:
أبٌ: أصلُه أبَوٌ، حُذفت لامُه اعتباطًا. وله أخواتٌ، ويسمى منقوصًا غيرَ قياسيٍّ، والأشهرُ إِعرابُه بالحروفِ، وقد يُقصرُ. ومنه: [من السريع]
١٥ - إِنَّ أباها وأبا أباها
أو يُنقَصُ، ومنه في المَثَل: [من الرجز]
١٦ - بأَبِهِ اقتدَى عديٌّ في الكرمْ ... ومَنْ يشابِهْ أبَهُ فما ظَلَمْ
وقد تُشدَّدُ بَاؤه كما تقدم، ويُكسرُ على آباء، ويصحَّح على أبُونَ وأبِينَ. قال: وأشبهَ فعلُه فعلَ الأنبياءِ. وقُرئ: (وإِلهَ أبيك إِبراهيم. . .) [البقرة: ١٣٣]. والمصدرُ الأبوَّة، وهو أحدُ المصادرِ التي أُخذتْ من الأسماء، ومثلُها النُّبوَّةُ، والفُتوَّةُ، والأخوَّة. والأبوَّة أيضًا جمٌ كالأُبولة.
والأبُ: الوالدُ، وكلُّ مَن نُسبَ اتِّخاذِ شيءٍ، أو إِصلاحهِ، أو ظهورهِ فهو أبٌ له.
1 / 51
ومنه قيلَ في حقّ النبيِّ ﷺ إِنه أبو المؤمنين وفي بعض القراءاتِ: (وأزواجُه أمهاتُهم) [الأحزاب: ٦] «وهو أبٌ لهم». فأما قولُه تعالى: ﴿ما كانَ محمدٌ أَبَا أحدٍ من رجالِكُمْ﴾ فنفيُ الولادةِ وتَنبيهٌ على التَّبنِّي لا يَجري مَجرى البنوَّةِ الحقيقيةِ، وذلك حينَ قالوا: كيفَ تزوَّجَ امرأة زيدٍ وكان يَتبنّاه؟ وقولُه في قولهِ: ﴿اشكُرْ لي ولوالديك﴾ [لقمان: ١٤] قيلَ هما أبو الولادة وأبو التعليم. وفي قوله: ﴿إِنَّا وجَدْنا آباءَنا على أُمةٍ﴾ [الزخرف: ٢٢] قيلَ: مُعلمينا، بدليل ﴿أطَعْنا سادَتَنا وكُبَراءَنا﴾ [الأحزاب: ٦٧]. وفي الحديثِ أنَّه ﵊ قال لعليٍّ: «أنا وأنتَ أبَوَا هذه الأمة» وصدقَ ﷺ. وعليه حُملَ قولُه ﵊: «كلُّ سَببٍ ونَسبٍ مُنقطعٌ يومَ القيامةِ إِلا سَببي ونَسبي».
وأبو الحرب: لمهيِّجها. وأبو عُذْرتِها: لمن افتضَّ بِكارتَها. وأبو الأضياف: لتفقُّدهم والقيام بأمرهم. ويقالُ: أبَوتُ زيدًا أَابوهُ، إِذا كنتَ له بمنزلةِ الأبِ. ومنه: فلانٌ أبو همَّتهِ، أي يتفقَّدُها الأبِ. ويطلقُ على الجدِّ؛ فقيلَ حقيقةً وقيلَ مجازًا وهو الظاهرُ.
وعلى العمِّ والأمِّ والخالةِ، ولكنْ بالتغليب، فيقالُ أبوهُ. وقيلَ في قولهِ تعالى: ﴿ورَفَعَ أبويه على العرشِ﴾ [يوسف: ١٠٠] إِنهما أبوه وخالته، وقيلَ: أخي أمَّه. قال تعالى: ﴿آبائك إِبراهيم وإِسماعيلَ وإِسحاقَ﴾ [البقرة: ١٣٣] وإِبراهيمُ جدٌّ ليعقوبَ وإِسماعيلُ عَمُّهُم.
1 / 52
أب ي:
قال تعالى: ﴿إِلا إِبليسَ أبَى﴾ [البقرة: ٣٤] و﴿وتابَى قلوبُهم﴾ [التوبة: ٨].
والإِباءُ: شدةُ الامتناع، فهو أخصُّ من مُطلقِ الإِباء؛ إِذ كلُّ إِباءٍ امتناعٌ من غيرِ عكسٍ.
وبعضُهم يقولُ: الامتناعُ، ومرادُه ذلك لكونهِ في قوةِ النفيِ ساغَ وقوعُ الاستثناءِ، المفرَّغ بعدَه. قال تعالى: ﴿ويأبى اللهُ إِلا أن يُتمَّ نورَهُ﴾ [التوبة: ٣٢]، لأنه في قوةِ تمنُّعٍ. وشذَّ مجيءُ مضارعِه على يأبَى بالفتح؛ إِذ قياسُه يأبي بالكسر، كأتَى يأتي، ورمَى يرمي.
والذي حسَّن ذلك كونُ الألفِ حرفَ حلقٍ. ومثلُه قَلى يَقلَى، على لُغيَّةٍ. والأفصحُ يقلي بالكسر. . قال: [من الطويل]
١٧ - وتَرمينَني بالطَّرفِ أيْ أنتَ مذنبٌ ... وتَقلينَني، لكنَّ إِياكِ لا أَقلي
ورجلٌ أبيٌّ، من ذلك فعيلٌ من أَبَى يأبَى، أي ممتنعٌ من تحمُّل الضَّيم. قال: [من الطويل]
١٨ - ولسنا إِذا تأبون سِلمًا بمُذْعِني ... لكم، غيرَ أنّا إِنْ نُسالمْ نَسلمِ
أي ممتنعون.
وفي الحديث: «كلُّكم يدخلُ الجنةَ إلا من أبَى بعيرُه»، أي امتنعَ من تَعاطي أسباب الدخولِ. قال الراغبُ: أبتِ العنزُ تأبى إِباءً، وتيسٌ آبى. وعنزٌ أبواءٌ إِذا أخذَه داءٌ من شربِ ماءٍ فيه بَولُ الأَرْوَى، فيمنعُه من شربِ الماءِ، ويَنبغي أن تكونَ الواوُ في «أبو» بدلًا من الياء، لأنَّ المادةَ في ذواتِ الواوِ لا الياءِ.
1 / 53
فصل الألف والتاء
أت ي:
الإِتْيانُ: قيل: هو المجيءُ مطلقًا، وقيل: بسهولةٍ. ومنه قيلَ للسَّيلِ المارِّ على وجهه: أَتيٌّ وأَتاوِيٌّ. وأنشدَ للنابغة: [من البسيط]
١٩ - خَلَّتْ سَبيلَ أَتيٍّ كان يَبسُهُ
وقيلَ: سَيلٌ أتيٌّ جاءَ ولم يَجئْك مطرهُ. ويقالُ: أتَّيتُ الماءَ بالتشديد أي أصلحتُ مَجراهُ حتى يجريَ إِلى مقاصدهِ. وفي حديثِ ظَبْيانَ الوافدِ وقد ذكر ثمودَ وبلادَهم فقالَ: «وأتَّوا جَداولَها» أي سهَّلوا طريقَ الماءِ إليها. وقيلَ للغريبِ: أتاويٌّ، تشبيهًا بذلك، وفي الحديث: «إنَّما هو أَتيٌّ فينا» وفي حديثِ عثمانَ رضي الله تعالى عنه: «إِنّا رجلانِ أتاويّان» ويعبَّرُ به عن الإِعطاءِ، قال تعالى: ﴿آتيناهُم مُلكًا﴾ [النساء: ٥٤] ﴿وآتَينا داودَ زَبورًا﴾ [النساء: ١٦٣]. وقُرئَ: ﴿آتوني زُبَرَ الحَديدِ﴾ [الكهف: ٩٦]. بالمدّ والقصرِ، أي أعطوني أو جيئوني. الإِيتاء: خُصَّ بدفْعِ الصَّدقةِ في القرآن دونَ الإِعطاءِ. قال تعالى: ﴿ويُؤتُون الزَّكاةَ﴾ [الأعراف: ١٥٦]. ويقالُ: أرضٌ كثيرةُ الإِتاءِ، أي الرَّيعِ. والإتاوةُ: الخراجُ. ويُسندُ الإِتيانُ للباري تعالى، كما أُسندَ إِليه المجيءُ على معنىً يليقُ بجلالهِ، أو على حذفِ مضافٍ، كقولهِ: ﴿أو يأتيَ أمرُ ربِّكَ﴾ [النحل: ٣٣] كما صرَّح به في قولهِ: أتى أمرُ اللهِ﴾ [النحل: ١]. وكذا ﴿فأتَى اللهُ بُنيانَهُم﴾
1 / 54
[النحل: ٢٦]. أي بأمرِه.
وقولُه: «أتى»، بصيغة الماضي ليخصَّ الوقوعَ، فكأنَّه قد أتى ووقعَ. وقال نِفْطويه: تقولُ: أتاكَ الأمرُ، وهو متوقَعٌ بعدُ، أي أتى أمرُ الله وعدًا فلا تستعجلوه وقوعًا. وقال ابنُ الأنباريِّ في قوله: ﴿فأتى اللهُ بنيانَهم﴾: فأتى اللهُ مكرَهُم من أجلهِ، أي عادَ ضررُ المكرِ عليهم. وهل هذا مجازٌ أو حقيقةٌ؟ والمرادُ به نمرودُ وصَرْحُه خلافٌ.
ويعبَّر بالإتيانِ عنِ الهلاكِ؛ قال تعالى: ﴿فأتاهُمُ اللهُ من حيثُ لم يُحتَسبِوا﴾ [الحشر: ٢]. ويقال: أُتِيَ فلانٌ من مَأمنهِ، أي جاءَه الهلاكُ من جهةِ أمْنه. وقولهُ: ﴿فآتَتْ أُكُلَها﴾ [البقرة: ٢٦٥]. أي أعطتْ، والمعنى: أثمرتْ ضِعْفَيْ ما يُثمرُ غيرُها من الجنان.
وقوله: ﴿وآتاهُم تَقْواهَم﴾ [محمد: ١٧]. أي أعطاهم جزءَ اتِّقائهم. وقولُه: ﴿إلى الهُدى ائْتِنَا﴾ [الأنعام: ٧١] أي بايعْنا على ملَّتنا. وقوله: ﴿بأتِ بصيرًا﴾ [يوسف: ٩٣]. أي بَعد، كقولهِ: ﴿فارتَدَّ بَصيرًا﴾ [يوسف: ٩٦].
والمِيتاءُ من قولهم: طريقٌ ميتاءٌ من ذلك، فهو مِفعال من الإِتْيان. وفي الحديث: «لولا أنه طريقٌ ميتاءٌ لحزنَّا عليكَ يا إِبراهيمُ»، أي أن الموتَ طريقٌ مسلوكٌ. وما أحسنَ هذهِ الاستعارةَ وأرشقَ هذه الإشارةَ وقال شمرٌ: ميتاءُ الطريقِ ومبدؤهُ: مَحجَّتُه. وفي الحديثِ أيضًا: «ما وجدتَ في طريقٍ ميتاءٍ فعرِّفْهُ سَنَةً». والإِتيانُ: يقالُ للمجيءِ بالذاتِ وبالأمرِ والتدبيرِ، وفي الخيرِ والشرِّ. ومن الأولِ قولُه: [من المتقارب]
1 / 55
٢٠ - أَتَيتَ المروءةَ من بابِها
وقولُه: ﴿يأتينَ الفاحِشةَ﴾ [النساء: ١٥]. أي يتلبَّسون بها. فاستعمالُ الإتيانِ هنا كاستعمالِ المجيءِ في قولهِ: ﴿لقد جئتِ شَيئًا فَرِيًّا﴾ [مريم: ٢٧]. ويُكنى بالإِتيانِ عن الوطْءِ. ومنه: أتَى امرأته. وقولُه: ﴿أتأتُون الذُّكْرَانَ﴾ [الشعراء: ١٦٥] ﴿أئِنَّكُم لتأتونَ الرِّجالَ﴾ [النمل: ٥٥]. من ذلك، وهو من أحسنِ الكنايات.
ويقالُ: «أتَيتُه وأَتَوْتُه. ومنه يقالُ للسِّقاء إذا مُخِضَ وجاءَ زُبْدُه: قد جاءَ أَتْوُهُ.
وحقيقتُه: جاءَ ما مِن شأنِه أن يأتيَ منهُ، فهو مصدرُ معنى». قالوا: «وكلُّ موضعٍ ذُكرَ في وصفِ الكتاب «آتَينا» فهو أبلغُ من كلِّ موضعٍ ذُكير في وصفهِ «أوتوا»، لأنَّ «أُوتوا» قد يقالُ في مَن أُوتيَ، وإِن لم يكن معَه قَبولٌ. و«آتَينا» يقالُ في مَن كانَ معَه قبول».
وقولُه: ﴿فلنأتيَّنهُم بجنُود﴾ [النمل: ٣٧]: فلنجيئنَّهم. وقولُه: ﴿كانَ وَعْدُهُ مأتيًّا﴾ [مريم: ٦١] بمعنى آتٍ كَسيلٍ مُفعَمٍ بمعنى مُفعِم، وحجابًا ساترًا. والثاني أنه على بابهِ، لأنه يقالُ: أتاني الأمرُ وأتَيتُه. فهذا من قولهم: أتيتُ الأمرَ، قالَه الراغبُ. وقال الهرويُّ: يقال: أتاني خبرُه وأتيتُ خَبرَه.
وقولُه: ﴿يؤتونَ ما آتَوْا﴾ [المؤمنون: ٦٠] أي يتصدَّقون بأيِّ صدقةٍ قليلةً
1 / 56