فما أشد انطباق هذا الحديث على هؤلاء الكفار الذين لا يهتمون لآخرتهم، مع علمهم بأمور دنياهم، وفرحهم بما عندهم منه، كما قال تعالى فيهم: {يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون}، وقال سبحانه: {فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم}، فهم يجتهدون في العلم بأمور دنياهم، ويمعنون في تحصيلها، مع جهلهم التام بأشرف العلوم، وهي علوم الآخرة التي هي شرف لازم لا يزول، دائم لا يمل، فجدير بمن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير أن يبغضه الله، ويمقته لشقاوته وإدباره، فالله سبحانه وتعالى كرمهم بنعمة العقل، وميزهم بها على العجماوات، فسخروها أعظم تسخير في كل شيء من أغراض الدنيا الخسيسة؛ كالتأنق في الشهوات والمأكل والملبس والترفه، إلا الشيء الذى خلقوا من أجله، وهو عبادة الله وحده، لا شريك له، واتباع رسله عليهم الصلاة والسلام، ولهذا قال تعالى في حقهم: {ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء، صم بكم عمي فهم لا يعقلون}، وقال سبحانه: {أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا}، وقال -جل وعلا-: {والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم}.
وقال -عز من قائل- في سورة الروم: {وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس} يعني الكفار {لا يعلمون} بحكمته تعالى، في كونه، وأفعاله المحكمة، الجارية علي وفق العدل، لجهلهم وعدم تفكرهم {يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا} وهو ما يوافق شهواتهم وأهواءهم {وهم عن الآخرة} التي هي المطلب الأعلى {هم غافلون} أي: لا يخطرونها ببالهم، فهم جاهلون بها، تاركون لعملها.
وقوله سبحانه: {يعلمون} بدل من قوله: {لا يعلمون} وفي هذا الإبدال من النكتة أنه أبدله منه، وجعله بحيث يقوم مقامه، ويسد مسده، ليعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل، وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا.
{ظاهرا} يفيد أن للدنيا ظاهرا وباطنا، فظاهرها: ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها، والتنعم بملاذها، وباطنها، وحقيقتها: أنها مجاز إلى الآخرة، يتزود منها إليها بالطاعة والأعمال الصالحة، وقيل: {يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا} يعني أمر معايشهم ودنياهم: متى يزرعون؟ ومتى يحصدون؟ وكيف يغرسون؟ وكيف يبنون؟ وحدث ولا حرج عن مظاهر استغراق كفار زماننا وبخاصة الغربيون منهم في علوم الدنيا ودقائقها؛ مع إعراضهم التام عن علوم الآخرة.
صفحہ 74