Criterion Between the Allies of the Merciful and the Allies of the Devil 1
الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ١
اصناف
عرض الكشف والإلهام على الكتاب والسنة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: (قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فـ عمر منهم).
وروى الترمذي وغيره عن النبي ﷺ أنه قال: (لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر).
وفي حديث آخر: (إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه) ﵁.
وفيه: (لو كان نبي بعدي لكان عمر).
وكان علي بن أبي طالب ﵁ يقول: ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر].
يعني: أن الله أنزل سكينة في قلبه جعلها تظهر على لسانه، وثبت هذا عنه من رواية الشعبي.
[وقال ابن عمر: ما كان عمر يقول في شيء: إني لأراه كذا إلا كان كما يقول.
وعن قيس بن طارق قال: كنا نتحدث أن عمر ينطق على لسانه ملك] أي: ملك يسدده.
[وكان عمر يقول: اقتربوا من أفواه المطيعين، واسمعوا منهم ما يقولون، فإنه تنجلي لهم أمور صادقة.
وهذه الأمور الصادقة التي أخبر بها عمر بن الخطاب ﵁ أنها تتجلي للمطيعين: هي الأمور التي يكشفها الله ﷿ لهم، فقد ثبت أن لأولياء الله مخاطبات ومكاشفات، فأفضل هؤلاء في هذه الأمة بعد أبي بكر عمر بن الخطاب ﵄؛ فإن خير هذا الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ﵄.
وقد ثبت في الصحيح تعيين عمر بأنه محدث في هذه الأمة، فأي محدث ومخاطب فرض في أمة محمد ﷺ فـ عمر أفضل منه، ومع هذا فكان عمر ﵁ يفعل ما هو الواجب عليه، فيعرض ما يقع له على ما جاء به الرسول ﵌، فتارة يوافقه فيكون ذلك من فضائل عمر؛ كما نزل القرآن بموافقته في غير مرة، وتارة يخالفه فيرجع عمر عن ذلك؛ كما رجع يوم الحديبية لما كان قد رأى محاربة المشركين، والحديث معروف في البخاري وغيره؛ فإن النبي ﵌ قد اعتمر سنة ست من الهجرة، ومعه المسلمون نحو ألف وأربعمائة، وهم الذين بايعوه تحت الشجرة، وكان قد صالح المشركين بعد مراجعة جرت بينه وبينهم على أن يرجع في ذلك العام ويعتمر من العام القادم، وشرط لهم شروطًا فيها نوع غضاضة على المسلمين في الظاهر، فشق ذلك على كثير من المسلمين، وكان الله ورسوله ﷺ أعلم وأحكم بما في ذلك من المصلحة، وكان عمر فيمن كره ذلك حتى قال للنبي ﵌: (يا رسول الله! ﷺ ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قال: أفليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟! فقال له النبي ﷺ: إني رسول الله وهو ناصري ولست أعصيه، ثم قال: أفلم تكن تحدثنا أنا نأتي البيت ونطوف به، أو نطوف به؟ قال: بلى، قال: أقلت لك: أنك تأتيه العام؟ قال: لا، قال: إنك آتيه ومطوف به) فذهب عمر إلى أبي بكر ﵄ فقال له مثل ما قال للنبي ﷺ، ورد عليه أبو بكر مثل جواب النبي ﷺ، ولم يكن أبو بكر قد سمع جواب النبي ﷺ، فكان أبو بكر ﵁ أكمل موافقة لله وللنبي ﷺ من عمر، وعمر ﵁ رجع عن ذلك، وقال: فعملت بذلك أعمالًا.
كذلك لما مات النبي ﷺ أنكر عمر موته أولًا، فلما قال أبو بكر: إنه مات رجع عمر عن ذلك.
وكذلك في مانعي الزكاة قال عمر لـ أبي بكر: كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله ﷺ: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها؟ فقال له أبو بكر ﵁: ألم يقل: إلا بحقها؟ فإن الزكاة من حقها، والله! لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله ﷺ لقاتلتهم على منعها، قال عمر: فوالله! ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنه حق)].
يقصد من ذلك أن عمر ﵁ كان يرجع عما يقع في قلبه من أمور امتثالًا لما ورد في الشرع، فهذا هو الواجب على كل أحد.
وعندما مات النبي كان يظن أنه أغمي عليه وسوف يرجع مرة أخرى، فأسكته أبو بكر فلم يسكت، فجاء أبو بكر فقال: من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات.
فبمجرد ما إن قرأ أبو بكر الآية قعد عمر على الأرض وهدأ.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولهذا نظائر تبين تقدم أبي بكر على عمر ﵄، مع أن عمر ﵁ محدَّث؛ فإن مرتبة الصديق فوق مرتبة المحدث]، ومعنى محدث أي: تحدثه الملائكة، وتقذف في قلبه شيئًا، وهناك واعظ من الله ﷿ في قلب كل مؤمن، والمحدثون ربما يسمعون الخطاب مباشرة أو يلقى في قلوبهم، وهذا التحديث أرفع من عامة المؤمنين، وأرفع من مرتبة التحديث مرتبة الصديق.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [لأن الصديق يتلقى عن الرسول المعصوم ﷺ كل ما يقوله ويفعله، والمحدث يأخذ عن قلبه أشياء وقلبه ليس بمعصوم، فيحتاج أن يعرضه على ما جاء به النبي ﷺ]، ومن هنا نعرف أن إثبات كرامة الإلهام والكشف والتحديث ليس معناه إثبات أنها من مصادر التشريع؛ لأنها قابلة للخطأ والصواب، فلا بد أن تعرض على الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، وهي في الحقيقة يستأنس بها ولا يستدل بها -كما ذكرنا- بل القياس يقدم على التحديث والإلهام ونحو ذلك؛ لأن القياس الصحيح مرده إلى الوحي، وغلبة الظن في صحته أقوى من غلبة الظن في صحة الإلهام أو الكشف.
والكشف: أن يكشف الله ﷿ له أمورًا غابت عن غيره.
كما وقع لـ عمر بقوله: يا سارية الجبل! فقد انكشف له أنهم لو لجئوا إلى الجبل لنجاهم الله ﷿.
وأعظم من درجات الكشف الكشف عن الحق، وانشراح صدر أبي بكر للقتال كان كشفًا، فهو كشف عن الحق بأدلته الظاهرة بأن يقع في قلبه أن الأمر سيكون كذلك.
وقد يكون منه الاستخارة، فقد يكون فيها انشراح الصدر لأمره، ولكن هذه يستأنس بها ولا يستدل بها، فمثلًا: كان شيخ الإسلام يجزم في بعض الوقائع مع التتار أن المسلمين ينتصرون في هذه الواقعة، وأنهم يردون التتار؛ وذلك للصفات الموجودة في المسلمين التي تغيرت عما كانت عليه فتوقع لهم النصر، بل كان يجزم بذلك وكانوا يقولوا له: قل: إن شاء الله، ويقول: إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا، ولا بد أن يعلق الأمر بمشيئة الله؛ لأن ظن الإنسان قابل للخطأ والصواب.
والكشف والإلهام باب واحد، فكلاهما من أنواع العلوم التي تقع في القلوب.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [والمحدث يأخذ عن قلبه أشياء وقلبه ليس بمعصوم فيحتاج أن يعرضه على ما جاء به النبي ﷺ؛ ولهذا كان عمر ﵁ يشاور الصحابة ﵃ ويناظرهم، ويرجع إليهم في بعض الأمور، وينازعونه في أشياء فيحتج عليهم ويحتجون عليه بالكتاب والسنة، ويقررهم على منازعته] كما حصل مثلًا مع عمار عندما أنكر عمر التيمم للمحدث حدثًا أكبر فذكره عمار يوم حصلت له الجنابة فتمرغ عمار في التراب، وقال له النبي ﷺ: (إنما يكفيك أن تضرب بكفيك الأرض ثم تمسح بوجهك وكفيك) فـ عمر ﵁ لم يكن يتذكر هذه الواقعة وترك عمار يحدث بذلك، لكنه حذره من الخطأ ونحو ذلك.
والمقصود أن عمر ﵁ أقرهم على مناظرته وعلى كونهم ينازعونه ويناظرونه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولا يقول لهم: أنا محدَّث، ملهم، مخاطب؛ فينبغي لكم أن تقبلوا مني ولا تعارضوني].
وهذا هو الفرق في الإلهام عند أهل السنة وعند الصوفية، فالصوفية يقولون: كن بين يدي الشيخ كالميت بين يدي الغاسل، ومن اعترض يطرد ونحو ذلك، فلا يوجد عندهم احتمال أصلًا لمناقشة الشيخ ولو أتى بالمنكرات، ويعد فعل الشيخ مهما كان هذا الفعل من المنكرات لسر بينه وبين الله ﷿، فيكون هذا من الطاعات العمياء التي قد تصل بصاحبها إلى الكفر والعياذ بالله.
4 / 8