Corrections in Understanding Some Verses
تصويبات في فهم بعض الآيات
ناشر
دار القلم
ایڈیشن نمبر
الأولى
اشاعت کا سال
١٤٠٧ هـ - ١٩٨٧ م
پبلشر کا مقام
دمشق
اصناف
ـ[تصويبات في فهم بعض الآيات]ـ
المؤلف: د صلاح عبد الفتاح الخالدي
الناشر: دار القلم - دمشق
الطبعة: الأولى، ١٤٠٧ هـ - ١٩٨٧ م
عدد الأجزاء: ١
أعده للشاملة/ أبو إبراهيم حسانين
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مقابل]
1 / 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه.
أما بعد
فنقدم للقراء الكرام كتابنا الرابع من هذه السلسلة التي خصصناها للقرآن وموضوعاته ومصطلحاته، وعلومه وكنوزه: " من كنوز القرآن ".
وقد اخترنا أن يكون موضوع هذا الكتاب هو تصحيح أفهام بعض المسلمين لآياتٍ من القرآن، فهموها فهمًا خاطئًا، وفسروها تفسيرًا مرفوضًا، واستدلوا بها على أشياء خاطئة باطلة، واستخرجوا منها دلالات غير مقبولة، فحرَّفوا بذلك معانيها، وعطَّلوا وظيفتها، وجعلنا عنوان الكتاب " تصويبات في فهم بعض الآيات".
القرآن الكريم كتاب هداية، وهو روحٌ وحياة، وهو نورٌ وضياء، وهو شفاءٌ ودواء، وهو دستورٌ ومنهاج، إنه كتاب العقيدة والِإيمان، وكتاب العبادة والطاعة، وكتاب الفقه والأحكام، وكتاب الدعوة والحركة، وكتاب الجهاد والمواجهة.
إنه كتاب المسلمين الأول والأخير، إنه دستورهم ومنهاجهم وقائدهم
1 / 5
ورائدهم، وإن له مهمةً عمليةً حركيةً واقعيةً في حياة المسلمين، وهو قادرٌ بإذن الله على أدائها وتحقيقها، إذا أقبل المسلمون عليه بصدقٍ وجدِّيةٍ وعزيمة، وتربوا عليه بإخلاصٍ ومجاهدة، وتحركوا به بثباتٍ ووعي، وجاهدوا الجاهلية به بجرأةٍ وشجاعة، لقد أقبل الصحابة الكرام عليه هذا الإقبال، فأدَّى مهمته خير أداء.
وآيات القرآن الكريم تعرض حقائق منوعة، وتقرر بدهيات مختلفة، وتقدم مفاهيم قرآنية أصيلة صادقة. ما أكثر المفاهيم القرآنية التي تقدمها الآيات، وما أصدقها وأوفاها وأشملها وأعظمها.
وقد ظهرت في هذا الزمان ظواهر غريبةٌ في حياة المسلمين وبلادهم، حيث انتشر الجهل في طبقاتٍ من المسلمين، وهو عميقٌ مُطْبِقٌ مركب، الجهل بالإسلام وتشريعاته، وبالقرآن ومفاهيمه ومبادئه وحقائقه. كثيرٌ من المسلمين يجهلون معاني آيات القرآن ولا يعرفون الدلالات الصائبة التي تؤخذ منها، فإذا فسرْتَ لهم آية أو آيات، وعرضتَ عليهم مفاهيمها ودلالاتها استغربوا مما يسمعون، وانقسموا ما بين مصدقٍ وهو مصفق، ومكذبٍ وهو معرض.
ويا ليت بعض هؤلاء اكتفوا بعدم معرفتهم بمعاني الآيات، وطلبوا تفسيرها بهمَّةٍ وموضوعيةٍ وأصالة، إذن لاستفادوا وأفادوا. لكنهم حملوا جهلهم بالقرآن ومفاهيمه، واتجهوا صوب آياته، يفسرونها على أمزجتهم وأهوائهم وميولهم وثقافاتهم. فجاء تفسيرهم لها وعَرْضهم لمفاهيمها وبيانهم لمعانيها، ثمرة جهلهم المركب، ومزاجيتهم المرفوضة.
كم سمعنا، وقرأنا، ونُقل لنا، من كلام هؤلاء حول الآيات، وتحريفهم لمعانيها، وتغييرهم لمفاهيمها، واستنتاجهم الباطل منها.
ولقد ساءنا - عَلِمَ الله - هذا التهجم على كتاب الله، والقول فيه بدون
1 / 6
علمٍ ولا معرفةٍ ولا اتزان، والتطاول على مفاهيمه وحقائقه، وسوء الاستشهاد والاستنباط من آياته.
كم من معاني القرآن أصبحت خافية في هذا الزمان، وكم من حقائق القرآن أصبحت غائمة، وكم من مفاهيم القرآن أصبحت مشوَّشة محرَّفة.
لذلك خصصنا هذا الكتاب لتطاول بعضهم على كتاب الله، وتشويههم لمفاهيمه، وهدفنا منه هو أن نصوِّب لهؤلاء - ولمن يتأثر بهم - فهمهم للآيات، ونصحح لهم تفسيرهم لها، ونبين لهم المعاني الحقيقية التي توحي بها.
بدأنا الكتاب بإشاراتٍ سريعةٍ إلى: وجوب تدبُّر القرآن، وكونه مُيَسرٌ للفهم والتدبر، والتحذير من القول في تفسيره بغير علم، وأقسام القرآن من حيث تفسيره.
وتحدثنا عن أهم العلوم التي يحتاجها الناظر في القرآن والمتدبر لآياته، وأهم الآداب التي تلزمه مراعاتها أثناء ذلك. كما تحدثنا عن المعوقات التي تعيق الناظر في القرآن عن حسن فهمه وتدبره، والوقوف على معانيه ومفاهيمه وحقائقه.
وانتقلنا بعد ذلك إلى عهد رسول الله ﷺ، باعتباره أمينًا على حسن الفهم للقرآن، وموضِّحًا للصحابة ما غمض عليهم من معانيه، ومصوِّبًا له بعض أخطاءٍ وقعوا فيها - بدون قصد - مقدِّمًا المعاني الصحيحة لها، وأوردنا ستة نماذج من تصويباته في ذلك، كما نقلتها كتب الحديث.
ثم وقفنا مع صحابة رسول الله ﵊، باعتبارهم أُمناء على حسن فهم القرآن، وأوردنا اثني عشر مثالًا لتصويباتهم في معاني الآيات، أو تصحيحاتهم لأخطاء وقع بها آخرون، وهم ينظرون في الآيات.
1 / 7
وكان هدفنا من إيراد هذه الأمثلة من حياة الرسول ﵊ وأصحابه، أن نُبين وجوب التصحيح والتصويب لكل فهمٍ خاطئٍ للقرآن، وتفسيرٍ مرفوضٍ لآياته، والرد على كل من قام بذلك، والإنكار عل كل من فعله.
وخصصنا باقي الكتاب لتصحيح تفسير بعض المسلمين المعاصرين لآياتٍ من القرآن، ولتصويب فهمهم لها، واستدلالهم بها، واستشهادهم منها.
لقد أوردنا ثلاثين آية ضلت أفهام بعضهم فيها، بحيث لم يفهموها فهمًا صائبًا، ولم يفسِّروها تفسيرًا سليمًا، فشوهوا مفاهيمها، وحرَّفوا معانيها، وضيَّعوا حقائقها، وأبطلوا دلالاتها، وخرجوا منها بعكس ما ألقته وقررته وأوحت به.
وكانت موضوعات هذه الآيات مختلفة، ومفاهيمها متنوعة. فمنها آياتٌ في الإيمان والعقيدة، ومنها آياتٌ في الجهاد والمجاهدة، ومنها آياتٌ في الدعوة والعمل والحركة، ومنها آياتٌ في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والتاريخ والأحوال الشخصية.
ويجمع بين هذه الآيات: أنها كلها لها أبعادٌ واقعية، ومفاهيم حياتية، وقيمٌ مُعاشة، نعيشها في عصرنا عمليًا.
وحتى يكون فهمنا عن هذه الآيات صائبًا، وتفسيرنا لها صحيحًا، وتصويبنا لكلام الآخرين عنها مقبولًا، اعتمدنا منهجًا محقِّقًا لكل هذا - بإذن الله -:
١ - وقفنا أمام هذه الآيات وقفةً متجردة، ودخلنا عالمها بدون مقرراتٍ سابقة، وتلقينا منها مفاهيمها وحقائقها ومقرراتها.
٢ - أَطَلْنا النظر في الآيات، والوقفة أمامها، لتلقِّي ما تلقيه وتوحي به، وفعلنا ذلك من أجل دقة النظر وصحة الاستنتاج.
1 / 8
٣ - حرصنا أن ننظر في آياتٍ أخرى بنفس موضوع الآية التي نقف أمامها، وجعلناها أمامنا بجانبها، واستخرجنا الدلالات من الآيات مجتمعة، وقدَّمنا مفاهيمها متكاملة، وهذا من باب تفسير القرآن بالقرآن الذي هو واجب على كل ناظرٍ في آياته.
٤ - اعتمدنا ما قاله الرسول ﷺ في معنى الآية - إن وُجد - كما اعتمدنا أقوالًا للصحابة والتابعين في معناها كذلك.
٥ - نظرنا في أقوال مفسِّرين سابقين للآية، وأوردنا بعض كلامهم أحيانًا، ليظهر لنا وللآخرين خطأ الأفهام المغلوطة للآية، ومخالفتها لكلام العلماء والثقات والمفسرين السابقين.
٦ - قررنا الفهم الذي نقضناه، والتفسير الذي رددناه، قررناه بصورةٍ أمينةٍ ودقيقةٍ وصحيحة، ولم نتقوَّل على أصحابه، ولم ننسب لهم ما لم يقولوه. واعتمدنا في هذا على ما قرأناه، أو سمعناه، أو نقله لنا ثقاتٌ صادقون.
ولم نذكر القائلين بأعيانهم أو أسمائهم، حتى لا يكون اتهامًا للأشخاص، أو تجريحًا للأفراد، وحتى لا يتحول تصويبنا إلى خلافاتٍ شخصية، ولأنه لا يعنينا القائل، بل يعنينا القول ذاته، وإذا تم إبطال القول، حققنا الهدف وقمنا بالواجب إن شاء الله.
فهذه التصويبات نقدمها للقراء الكرام، وقد نُتبعها بكتابٍ آخر، نقدِّم فيه مجموعاتٍ أخرى من التصويبات، وقد نوسِّع هذا الكتاب نفسه في طبعة تالية، فنضيف له آياتٍ حُرِّفت معانيها، ومفاهيم شوهت صورتها.
ونرجو الله أن يكون تصحيحنا صحيحًا، وتصويبنا صائبًا، وكلامنا مقبولًا، وتفسيرنا صادقًا. ونسأل الله أن يجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا، ونور
1 / 9
صدورنا، وذهاب همومنا، وجلاء أحزاننا، وأن يعلِّمنا منه ما جهلنا، ويذكَرنا منه ما نُسِّينا، وأن يجعله حجة وشافعًا لنا يوم القيامة.
وصلى الله على سيدنا محمد.
صويلح: الاثنين ١/ ٤ / ١٤٠٧ هـ
١/ ١٢ / ١٩٨٦ م
الدكتور
صلاح عبد الفتاح الخالدي
1 / 10
وجوب تدبر القرآن
أوجب الله على المسلمين تدبُر القرآن الكريم، وإمعان النظر في آياته، وإطالة الوقفة أمامها، والتزود بالعلوم الضرورية من أجل دقة النظر، وصوابية الفهم، وصحة النتائج والدلالات التي يخرج بها من القرآن.
قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾.
وقال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾.
وبيَّن لنا أنه أنزل الكتاب لنتدبر آياته، ونخرج من هذا بالفهم والعلم والذكر، وأن هذا التدبُّر وسيلة تكوين اللب الحي، والعلم النافع، والعقلية العلمية المنهجية الواعية، وأنه هو الذي يُنشِّط العقل وُيمرِّنه، وُيريِّضه الرياضة العلمية النافعة فقال: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾.
وتدبُّر القرآن لا ينتهي، فلو توافرت عليه كل العقول - المختلفة في ثقافاتها واهتماماتها - حتى قيام الساعة ما استَنفدَت علومَه ومعانيه ودلالاته
1 / 11
ولفتاته وإشاراته ولطائفه. وهذه الآية توحي بذلك، فالقرآن كتابٌ مبارك، والبركة هي النماء والزيادة، وبركة القرآن شاملة لكل الجوانب والمجالات، فهو مباركٌ في مصدره، وفي حامله، وفي من نزل عليه، ومبارك في مهمته ورسالته ووظيفته، ومباركٌ في حجمه، وفي معانيه ودلالاته، وفي علومه ومعارفه. مباركٌ بركةً دائمةً شاملةً حتى قيام الساعة.
ولا ينشِّط العقل إلا تدبر القرآن، ولا يحافظ على حضوره وحيويته ونباهته إلا تدبر القرآن، ولا يقوي التفكير إلا تدبُر القرآن، لأن التدبر - كما يقول الإمام الراغب في المفردات " هو التفكير في دُبُرِ الأمور "، أي عواقبها.
***
1 / 12
تيسير القرآن للفهم
أخبرنا الله بأن كتابه الكريم - الذي أوجب علينا تدبره - ليس ألغازًا ولا طلاسم، وأن تدبره ليس عملية مستحيلة، بل هو على العكس من ذلك، أنه ميسرٌ للذكر والفهم واْلتدبر، ميسرٌ للحفظ والمراجعة، ميسرٌ للتلاوة والنظر، ميسرٌ للعمل والتطبيق ..
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾.
ومما تجدر الإشارة إليه أن هذه الآية ذُكرت في سورة القمر أربع مرات، وجاءت في التعقيب على بعض قصص السابقين الواردة في السورة، وهي قصص قوم نوحٍ وهودٍ وصالحٍ ولوطٍ ﵈.
وتتسائل الآيات الأربعة عن الذين يُقبلون على هذا القرآن الميسر للذكر والفهم: فأين هم المتذكرون؟ أين المستفيدون من هذا التيسير؟ ولماذا لا يتعامل المسلمون والناس الآخرون معه، ولا يخرجون منه بنتائج نافعة ومفاهيم هادية؟.
والعجيب أن كلمة " مُدَّكِرٍ " - التي هي مأخوذة من كلمة " متذكر " اسم فاعل من تذكر - لم تذكر إلا في سورة القمر.
1 / 13
فسورة القمر نصت أربع مرات على أن الله قد يسر القرآن للذكر والفهم.
وسورة القمر أوردت كلمة " مُدَّكِرٍ " ست مرات، وكلها وردت في سياق الاستفهام الإنكاري ﴿فهل من مُدَّكِرٍ﴾ وكلها فيها إنكارٌ على الذين لا يتذكرون القرآن ولا آياته، الذين لا يستفيدون من هذا التيسير القرآني للذكر والفهم. وكأنها تريد أن تقول لهم: إن القرآن ميسرٌ للذكر والفهم والحفظ، وإنه إذا لم يستفد الناس من هذه المزية القرآنية الفريدة فإنهم هم الخاسرون والمسؤولون عن هذا.
إنهم لم يتذكروا، ولو تذكروا لاستفادوا. إن التذكر هو وحده سبيل الاستفادة من تيسير القرآن لذلك، فأين المتذكرون؟ وهل من مُدَّكِرٍ؟.
***
1 / 14
رفض الفهم الخاطئ للقرآن
وتيسير القرآن للذكر والفهم لا يعني أن يكون القول في معانيه ومفاهيمه بدون ضوابط، ولا أن يكون الباب مفتوحًا لكل من هبَّ ودبَّ، ولكل صاحب هوىً مغرض، أو نفسٍ خبيثة، أو جهلٍ قاتل. إنه لا بد من ضوابط وقواعد للقول في معاني القرآن، ولا بد من آدابٍ وشروط لتفسيره، والحديث عن مفاهيمه.
إنه لا يجوز أن يُقال في الآيات بدون علم، ولا أن يخرج أحد منها بغير ما توحي به، وتدل عليه، وتشير إليه، فلا يمكن أن يقع التناقض بين آيات القرآن، ولا التعارض بين معانيه وأحكامه.
لقد ذم القرآن الكريم الذين يُقبلون عليه بالتحريف والتشويه، فيُجزِّئونه ويُقسِّمونه.
قال تعالى: ﴿كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ﴾، ومعنى جعلوا القرآن عضين أي " مفرقًا ". فقالوا كهانة، وقالوا أساطير الأولين، إلى غير ذلك مما وصفوه به.
وقيل: معنى عضين: ما قال الله: ﴿أَفَتؤمِنونَ بِبَعْضِ الكِتابِ وَتَكْفُرونَ
1 / 15
بِبَعْضٍ﴾ خلاف من قال فيه ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ﴾.
ونحن نختار المعنى الثاني لأنه هو الأنسب للسياق، والأكثر اتفاقًا مع فهم القرآن والتعامل معه.
بل هذا القول هو المتفق مع فهم الصحابة للآية، فقد روى البخاري وجماعةٌ عن ابن عباس ﵄ قال: الذين جعلوا القرآن عضين: هم أهل الكتاب، جَزَّأوه أجزاء، فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه ".
فإذا كانت الآية تنكر على أهل الكتاب تجزئتهم للقرآن، حيث آمنوا ببعض وكفروا ببعض، وترفض منهم هذا التقسيم المرفوض، فإنها تتوجه إلى كل من فعل ذلك، لتنكر عليه فهمه الخاطئ لآيات القرآن، وتحريفه لمفاهيمها، وتشويهه لمعانيها، وتوظيفه لهذه الآيات كي تشهد لرأيه الفاسد، وتنصر فكره الباطل، وتدعم تلاعبه بدين الله وأحكامه وتشريعاته.
***
1 / 16
التحذير من القول في معاني القرآن بدون علم
ورد التحذير من القول في معاني القرآن بدون علم، وفهم آياته وتفسيرها ممن لم يكن أهلًا لذلك، ولم يتزود بالوسائل التي تعينه على حسن الفهم، وصوابية التفسير، وصحة الاستنباط.
وقد أورد الإمام ابن كثير في مقدمة تفسيره طائفةً من الأقوال عن الصحابة والتابعين في التحذير من ذلك. نختار بعضها فيما يلي:
قال: " أما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام:
لما رُوي عن ابن عباسٍ ﵄ عن النبي ﷺ قال: " من قال في القرآن برأيه، أو بما لا يعلم، فليتبوأ مقعده من النار ". أخرجه الترمذي والنسائي وأبو داود مرفوعًا، ورواه بعضهم موقوفًا عن ابن عباس، والله أعلم.
وروى أبو عمران الجوني عن جندبٍ أن رسول الله ﷺ قال: " من قال في القرآن برأيه فقد أخطأ ". وفي رواية أخرى: " من قال في كتاب الله برأيه فأصاب فقد أخطأ ". رواه أبو داود والترمذي والنسائي وقال - الترمذي: غريب. وقد تكلم بعض أهل العلم في سهيل - يعني سهيلًا القطيعي أحد رجال السند - ومعنى قوله: من قال في كتاب الله برأيه فأصاب فقد أخطأ، كما قال ابن كثير: " أي أخطأ لأنه قد تكلف ما لا علم له به، وسلك غير ما أُمر به،
1 / 17
فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر، لكنه قد أخطأ لأنه لم يأت الأمر من بابه، كمن حكم بين الناس على جهلٍ، فهو في النار، وإن وافق حكمه الصواب في نفس الأمر ".
وقال أبو بكر الصديق ﵁: أي أرضٍ تقلني، وأي سماءٍ تظلني، إذا قلتُ في كتاب الله ما لا أعلم.
وقال ابن أبي مُلَيكة: سُئل ابن عباسٍ عن آية، لو سُئل عنها بعضكم لقال فيها، فأبى أن يقول فيها.
وجاء طَلْق بن حبيبٍ إلى جندب بن عبد الله، فسأله عن آيةٍ من القرآن فقال له: أُحَرِّجُ عليك إن كنتَ مسلمًا لما قمت عني.
وقال يزيد بن أبي يزيد: كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحلال والحرام، وكان أعلم الناس، فإذا سألناه عن تفسير آيةٍ سكت كأن لم يسمع.
وقال عبيد الله بن عمر: لقد أدركت فقهاء المدينة، وإنهم ليعظمون القول في التفسير. منهم: سالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب، ونافع.
وقال محمد بن سيرين: سألت عبيدة السَّلْماني عن آية من كتاب الله فقال: ذهب الذين كانوا يعلمون فيم أُنزل القرآن. فاتق الله وعليك بالسداد.
وقال مسلم بن يسار: إذا حَدثتَ عن الله حديثًا، فقف حتى تنظر ما قبله وما بعده.
وعن إبراهيم النخعي قال: كان أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه.
وقال الشعبي: والله ما من آية إلا وقد سألت عنها. ولكنها الرواية عن الله.
1 / 18
وقال مسروق: اتقوا التفسير فإنما هو الرواية عن الله.
ونأخذ من هذه الأقوال التحذير من القول في التفسير بدون علم، ولذلك نوجهها للذين يدخلون هذا الباب، ولا يملكون الوسائل التي تعينهم على حسن الفهم عن الله.
ولا تدل هذه الأقوال على النهي عن التفسير مطلقًا، ومنع النظر في آيات القرآن، وفهمها وعرض مفاهيمها. لأن هذا واجبٌ على كل من كان مؤهلًا لذلك. ولذلك قال ابن كثير - بعد إيراده تلك الأقوال -: فهذه الآثار الصحيحة، وما شاكلها عن أئمة السلف، محمولةٌ على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم فيه. فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغةً وشرعًا، فلا حرج عليه. ولهذا رُويت عن هؤلاء وغيرهم أقوالٌ في التفسير، ولا منافاة لأنهم تكلموا فيما علموه، وسكتوا عما جهلوه، وهذا هو الواجب على كل أحد، فإنه كما يجب السكوت عما لا علم له به، فكذلك يجب القول فيما سئل عنه مما يعلمه، لقول الله سبحانه: ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ﴾، ولما جاء في الحديث الذي رُوي من طرق " من سئل عن علمٍ فكتمه أُلجم يوم القيامة بلجامٍ من نار ".
وهذا الحديث الذي ذكره ابن كثير أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده والترمذي والنسائي وأبو داود والحاكم عن أبي هريرة، ورمز له السيوطي في الجامع الصغير بالصحة، وقال المناوي في فيض القدير: " قال الترمذي:
1 / 19
حسن. وقال الحاكم: على شرطهما، وقال المنذري: في طرقه كلها مقال، إلا أن طريق أبي داود حسن.
وللحديث عن أبي هريرة طرقٌ عشرة، سردها ابن الجوزي ووهَّاها.
قال الذهبي في الكبائر: إسناده صحيح، رواه عطاء عن أبي هريرة، وأشار بذلك إلى أن رجاله ثقات، لكن فيه انقطاعًا ".
***
1 / 20
أقسام القرآن من حيث تفسيره
ليس القرآن من حيث تفسيره على درجةٍ واحدة، وليست آياته على مستوًى واحدٍ في هذا المجال، وقد تكلم العلماء قديمًا عن هذا.
روى ابن جرير الطبري في تفسيره عن ابن عباسٍ ﵄ قال: التفسير على أربعة أوجه:
١ - وجهٌ تعرفه العرب من كلامها.
٢ - تفسيرٌ لا يُعذر أحد بجهالته.
٣ - تفسيرٌ يعلمه العلماء.
٤ - تفسير لا يعلمه إلا الله تعالى.
وقد أعاد الإِمام الطبري ترتيب أقسام القرآن من حيث تفسيره، وأشار إلى أنها على ثلاثة أوجه:
١ - قسمٌ لا سبيل إلى الوصول إليه: وهو ما استأثر الله بعلمه، وهو ما سوف يأتي في آخر الزمان. مثل وقت خروج الدابة، ووقت طلوع الشمس من مغربها، ووقت نزول عيسى ﵇، ووقت قيام الساعة، وغير ذلك.
٢ - قسمٌ خص الله نبيَّه ﵇ بعلم تأويله، ووجب على الأمة جميعًا الأخذ بهذا التفسير النبوي الكريم، وذلك مثل بيانه العملي للمقصود
1 / 21
من آيات الصلاة والصيام والزكاة والحج، وتوضيحه للصحابة ما خفي عليهم من معاني القرآن وأحكامه.
٣ - ما كان علمه عند أهل اللسان الذي نزل به القرآن، وهم العرب الفصحاء، وهو بيان معاني القرآن ووجوه إعرابه.
فإذا أدرك الناظر في القرآن هذه الأقسام، عرف ما يمكن أن يقوم به في فهم معاني القرآن، وما تُرك من مجالاتٍ فسيحةٍ شاسعةٍ لتدبر آياته، وعرْض مفاهيمه، والإشارة إلى معانيه ولطائفه وأحكامه ودلالاته، بحيث لو أمضى كل عمره في هذا، فلن يقف منه إلا على قليلٍ لا يكاد يُذكر، فيبذل أقصى جهده وغاية وسعه.
***
1 / 22
العلوم التي يحتاجها الناظر في القرآن
منع العلماء الذين لا يملكون المؤهلات الخاصة، من القول في التفسير وبيان معاني القرآن، ولذلك اشترطوا للذي يريد أن يفسر آياتٍ من القرآن شروطًا لا بد من تحققها فيه، وحددوا له علومًا لا بد أن تتوفَّر عنده، وبيَّنوا له أدواتٍ لا بد أن تكون بين يديه، حتى يكون نظره صوابًا، واستنباطه صحيحًا، وفهمه سليمًا، وتفسيره مقبولًا.
وقد ذكر المرحوم الشهيد محمد حسين الذهبي في " التفسير والمفسرون " أهم هذه العلوم، سنلخص كلامه عنها، ثم نضيف علومًا أخرى نراها ضرورية:
١ - علم اللغة: لأنه به يمكن أن يشرح مفردات الألفاظ ومدلولاتها، ويستطيع أن يعرف معاني الكلمات الغريبة في القرآن، ويكون في هذه المعرفة ملتزمًا باللغة ومقاييسها وفقهها.
٢ - علم النحو والصرف: لأن المعنى يختلف بحسب اشتقاق الكلمة القرآنية أو وجوه تصريفها، كما يختلف باختلاف وجوه الإعراب وتوجيه تلك الوجوه.
٣ - علوم البلاغة: حتى يقف على طرفٍ من بلاغة القرآن ووجوه إعجازه، ومظاهر بيانه وجماله، وأساليب أدائه، وألوان تأثيره.
٤ - علم القراءات: لأن القراءات توقيفيةٌ وهي كلام الله، ومنها يعرف وجوه
1 / 23