Clarification of the Truth of Tawhid Brought by the Messengers and Refutation of the Misconceptions Raised About It
بيان حقيقة التوحيد الذي جاءت به الرسل ودحض الشبهات التي أثيرت حوله
ناشر
الجامعة الإسلامية
پبلشر کا مقام
المدينة المنورة
اصناف
بيان حقيقة التوحيد الذي جاءت به الرّسل ودحض الشبهات التي أثيرت حوله
تأليف: صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلّى الله وسلّم على نبيّنا محمد خاتم الرّسل ومن تمسَّك بسنّته وسار على نهجه إلى يوم الدين.
أمّا بعد:
فإن العقيدة هي الأساس الذي يقوم عليه بنيان الأمم، فصلاح كل أمّة ورقيّها مربوط بسلامة عقيدتها وسلامة أفكارها، ومن ثمّ جاءت رسالات الأنبياء - عليهم الصلاة والسّلام - تنادي بإصلاح العقيدة. فكل رسول يقول لقومه أوّل ما يدعوهم: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ ١، ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ ٢.
وذلك لأنّ الله - سبحانه - خلق الخلق لعبادته وحده لا شريك له كما قال تعالى:
_________
١ سورة الأعراف، الآية: ٥٩.
٢ سورة النّحل، الآية: ٣٦.
1 / 3
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ﴾ ١.
والعبادة حق الله على عباده، كما قال النّبيّ ﷺ لمعاذ بن جبل ﵁: "أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ "قال: "حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. وحق العباد على الله: أن لا يعذّب من لا يشرك به شيئا" ٢.
وهذا الحق هو أوّل الحقوق على الإطلاق لا يسبقه شيء ولا يتقدمه حق أحد. قال تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ ٣ الآية.
وقال تعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ ٤ الآيات.
ولأسبقية هذا الحق وأولويته على سائر الحقوق، وكونه الأساس الذي ينبني عليه سائر أحكام الدين؛ نرى النّبيّ لبث في مكّة ثلاث عشرة سنة يدعو
_________
١ سورة الذاريات، الآية: ٥٦.
٢ الحديث رواه البخاري "١٣/٣٠٠" في التّوحيد ومسلم برقم ٣٠ في الإيمان.
٣ سورة الإسراء، الآية: ٢٣.
٤ سورة الأنعام، الآية: ١٥١.
1 / 4
النّاس إلى القيام به ونفي الإشراك عنه. وجاء القرآن الكريم في معظم آياته بتقريره ونفى الشُّبَه عنه، وكل مصلٍّ فرضا أو نفلًا يعاهد الله على القيام به في قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ ١.
وهذا الحق العظيم يسمّى توحيد العبادة أو توحيد الإلهيّة، أو توحيد الطلب والقصد - أسماء لمسمّى واحد، وهذا التّوحيد مركوز في الفطر: "كل مولود يولد على الفطرة"، وإنّما يطرأ الانحراف عنه بسبب التربية الفاسدة: "فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه" ٢.
وهذا التّوحيد أصيل في العالم والشرك طارئ عليه ودخيل فيه، قال تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ ٣، وقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا﴾ ٤.
_________
١ سورة الفاتحة، الآية: ٥.
٢ من حديث رواه مسلم في صحيحه برقم "/٢٠٤٧".
٣ سورة البقرة، الآية: ٢١٣.
٤ سورة يونس، الآية: ١٩.
1 / 5
قال ابن عبّاس ﵄: "كان بين آدم ونوح عليهما الصّلاة والسّلام عشرة قرون كلّهم على الإسلام"١. قال العلاّمة ابن القيّم: "هذا هو القول الصّحيح في الآية وذكر ما يعضده من القرآن٢. وصحّحه - أيضا - الحافظ ابن كثير في تفسيره.
وأوّل ما حدث الشرك في قوم نوح، حين غلوا في الصالحين واستكبروا عن دعوة نبيّهم: ﴿وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾ ٣.
قال البخاري ﵀ في صحيحه٤ عن ابن عبّاس ﵄: "هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجالسون فيها أنصابا وسمّوها بأسمائهم. ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسى
_________
١ انظر تفسير ابن كثير "١/٢٥٠".
٢ انظر إغاثة اللهفان "٢/٢٠١".
٣ سورة نوح، الآية: ٢٣.
٤ انظر صحيح البخاري "٦/١٣٣".
1 / 6
العلم عُبدت" قال الإمام ابن القيّم١ ﵀: "قال غير واحد من السّلف: لمّا ماتوا عكفوا على قبورهم، ثمّ صوّروا تماثيلهم، ثمّ طال عليهم الأمد فعبدوهم". ثمّ قال٢ ﵀: "وقد تلاعب الشّيطان بالمشركين في عبادة الأصنام بكل قومٍ على قدر عقولهم، فطائفة دعاهم إلى عبادتها من جهة تعظيم الموتى الذين صوّروا تلك الأصنام على صورهم، كما في قوم نوح، وهذا السبب هو الغالب على عوام المشركين. وأمّا خواصّهم فاتخذوا الأصنام على صور الكواكب المؤثرة في العالم بزعمهم، وجعلوا لهم بيوتا وسدنةً وحجّابا وقربانا. ولم يزل هذا في الدنيا قديما وحديثا.
وأصل هذا المذهب من مشركي الصابئة، وهم قوم إبراهيم ﵇، الذين ناظرهم في بطلان الشّرك وكسر حجّتهم بعلمه وآلهتهم بيده، فطلبوا تحريقه.
وطائفةً أخرى اتخذت للقمر صنما، وزعموا أنّه يستحق العبادة، وإليه تدبير هذا العالم السفلي.
وطائفةً تعبد النّار وهم المجوس، فيبنون لها بيوتا كثيرةً، ويتخذون لها الوقوف والسّدنة والحجّاب، فلا
_________
١ انظر إغاثة اللهفان "٢/٢٠٢".
٢ انظر إغاثة اللهفان "٢/٢١٨، ٢١٩، ٢٢٩، ٢٣٠، ٢٣١، ٢٣٣".
1 / 7
يدعونها تخمد لحظةً واحدةً.
وطائفةً تعبد الماء، تزعم أنّ الماء أصل كلّ شيء وبه كلّ ولادةٍ ونمو ونشوء وطهارة وعمارة.
وطائفةً تعبد الحيوانات: فطائفة عبدت الخيل، وطائفة عبدت البقر، وطائفة عبدت البشر الأحياء والأموات، وطائفة تعبد الجنّ، وطائفة تعبد الشجر، وطائفة تعبد الملائكة" انتهى كلام ابن القيّم ﵀.
ومن الأثر الذي مرّ من رواية البخاري عن ابن عبّاس في بيان سبب حدوث الشرك في قوم نوح..
ندرك أولًا: خطورة تعليق الصور على الجدران ونصب التماثيل في المجالس والميادين، وأنّ ذلك يؤول بالنّاس إلى الشرك، بحيث يتطور تعظيم تلك الصور والتماثيل إلى عبادتها واعتقاد جلب الخير ودفع الشّر منها، كما حدث لقوم نوح.
ندرك ثانيا: مدى حرص الشّيطان على إضلال بني آدم ومكره بهم، وأنّه قد يأتيهم من ناحية استغلال العواطف ودعوى الترغيب في الخير، فإنه لمّا رأى في قوم نوح ولوعهم في الصالحين ومحبّتهم لهم دعاهم إلى الغلو في هذه المحبّة، بحيث أمرهم بنصب صورهم على
1 / 8
المجالس، وهدفه من هذا الخروج بهم عن جادة الصّواب.
ندرك ثالثا: أنّ الشيطان لا يقصر نظره على إغواء الأجيال الحاضرة، بل يمتد إلى الأجيال المستقبلة، فإنّه لمّا لم يتمكّن من إيقاع الشرك في الجيل الحاضر من قوم نوح طمع في الجيل المقبل ونصب له الأحبولة.
ندرك رابعا: أنّه لا يجوز التساهل في وسائل الشّر، بل يجب قطعها وسد بابها.
ندرك خامسا: فضل العلماء العاملين، وأنّ وجودهم في النّاس خير، وفقدانهم شر، فإنّ الشيطان لم يتمكن من إغواء القوم حتى فقدوا.
أنواع التوحيد:
إنّ التّوحيد نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات، وهو توحيد الربوبيّة، المتمثّل بالإقرار بالخالق، وانفراده بالخلق والتّدبير والإحياء والإماتة وجلب الخير ودفع الشّر. وهذا النّوع لا يكاد ينازع فيه أحد من الخلق، حتى أنّ المشركين كانوا يقرّون به مع شركهم ولا ينكرونه، كما ذكر الله - تعالى - عنهم في قوله:
1 / 9
﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ﴾ ١. وأمثالها من الآيات كثير.
وفيها البيان الواضح بأنّ المشركين كانوا يقرّون بهذا النّوع من التّوحيد، وإنّما كانوا يجحدون النوع الثاني منه، وهو توحيد العبادة، المتمثّل في إفراد الله ﷾ في الطّلب والقصد في كل ما يصدر من العبد من أنواع العبادة، كما تدل عليه وتعبّر عنه كلمة "لا إله إلاّ الله"، إنّ هذه الكلمة تثبت العبادة بجميع أنواعها لله وحده وتنفيها عمّا سواه، ولهذا لمّا طلب النّبيّ ﷺ من المشركين أن يقولوها امتنعوا وقالوا: ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ ٢ لعلمهم أنّ من قالها فقد اعترف ببطلان عبادة كل ما سوى الله وأثبت العبادة لله وحده، فإنّ الإله معناه: المعبود، "والعبادة اسم جامع لكل ما يحبّه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة"، فمن نطق بهذه
_________
١ سورة يونس، الآية: ٣١.
٢ سورة ص، الآية: ٥.
1 / 10
الكلمة وهو مع هذا يدعو غير الله فقد تناقض مع نفسه.
والعلاقة بين توحيد الربوبيّة وتوحيد الإلهيّة هي التلازم، بمعنى: أنّ الإقرار بتوحيد الربوبيّة يوجب الإقرار بتوحيد الإلهيّة، والقيام به ظاهرًا وباطنا. ولهذا كان الرّسل - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - يطالبون أممهم بذلك، ويحتجّون عليهم بما يعترفون به من توحيد الربوبيّة، كما قال تعالى: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ ١، ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِه﴾ ٢.
فالإقرار بتوحيد الربوبيّة مركوز في الفطر، لا يكاد ينازع فيه أحد من المشركين، ولم يعرف عن أحد من طوائف العالم إنكار هذا النّوع إلاّ الدهرية الذين
_________
١ سورة الأنعام، الآية: ١٠٢.
٢ سورة الزمر، الآية: ٣٨.
1 / 11
يجحدون الخالق، ويزعمون أنّ العالم يسير بنفسه من غير مدبّر له، كما قال الله عنهم: ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاّ الدَّهْرُ﴾ ١، فردّ الله عليهم بقوله: ﴿وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ﴾ ١.
فهم لم يبنوا إنكارهم هذا على برهان دلّهم عليه بل على مجرّد ظن، والظّن لا يغني من الحق شيئا، كما لم يستطيعوا الإجابة عن قوله تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ﴾ ٢، ولا عن قوله تعالى: ﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ﴾ ٣، ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ﴾ ٤.
_________
١ سورة الجاثية، الآية: ٢٤.
٢ سورة الطور، الآيتان: ٣٥ - ٣٦.
٣ سورة لقمان، الآية: ١١.
٤ سورة الأحقاف، الآية: ٤.
1 / 12
ومن تظاهر بجحد هذا النّوع من التّوحيد كفرعون فهو مقرٌّ به في الباطن، كما قال الله - تعالى - عنه: ﴿قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلاّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ﴾ ١، وقال عنه وعن قومه: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ ٢.
وقال تعالى عن الأمم الأولى: ﴿وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ﴾ ٣.
وهذا النوع من التّوحيد كما لم يذهب إلى جحده طائفةٌ معروفةٌ من بني آدم، كذلك في الغالب لم يقع فيه شرك، فالكل مقرون بأنّ الله هو المنفرد بالخلق والتّدبير، ولم يثبت عن أحد من طوائف العالم إثبات خالقين متساويين في الصّفات والأفعال، فالثانوية من المجوس الذين يجعلون للعالم خالقين: خالقا للخير وهو النّور،
_________
١ سورة الإسراء، الآية: ١٠٢.
٢ سورة النّمل، الآية: ١٤.
٣ سورة العنكبوت، الآية: ٣٨.
1 / 13
وخالقا للشّر وهو الظلمة، لا يسوون الظلمة بالنّور، فالنّور عندهم هو الأصل، والظلمة حادثة، وهم متفقون على أنّ النّور خيرٌ من الظلمة. وكذلك النّصارى القائلون بالتثليث، لم يثبتوا للعالم ثلاثة أرباب منفصل بعضهم عن بعض، بل هم متفقون على أنّ خالق العالم واحد، ويقولون: إنّ الأب هو الإله الأكبر.
والحاصل أنّ إثبات توحيد الربوبيّة محلّ وفاق، والشرك فيه قليل، ولكن الإقرار به وحده لا يكفي العبد في حصول الإسلام، بل لا بدّ مع ذلك أن يأتي بلازمه، وهو: توحيد الإلهيّة، فإنّ الأمم الكفرية كانت تقرّ بتوحيد الربوبيّة، خصوصا مشركي العرب الذين بعث فيهم خاتم الرّسل ﷺ، ولم يكونوا بهذا مسلمين لمّا لم يأتوا بتوحيد الإلهيّة، والمستقرئ لآيات القرآن الكريم يجد أنّها تطالب بتوحيد الإلهيّة، وتستدل عليه بتوحيد الربوبيّة، فهي تطالب المشركين بما جحدوه وتستدل عليه بما أثبتوه. فهي تأمر بتوحيد العبادة، وتخبر عن إقرارهم بتوحيد الربوبيّة، فتذكر توحيد العبادة في سياق الطلب، وتوحيد الربوبيّة في سياق الخبر.
وأوّل أمرٍ جاء في المصحف هو قوله تعالى:
1 / 14
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ١.
وكثيرًا ما نجد في القرآن الكريم الدعوة إلى توحيد العبادة، والأمر به، والجواب عن الشُّبه الموجّهة إليه، وكلّ سورة في القرآن بل كلّ آية في القرآن فهي داعيةً إلى هذا التّوحيد، لأنّ القرآن إمّا خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، وهذا هو توحيد الربوبيّة. وإمّا دعاء إلى عبادته وحده لا شريك له وترك ما يعبد من دونه، وهذا هو توحيد الإلهيّة. وإمّا خبر عن إكرامه لأهل توحيده وطاعته في الدنيا والآخرة، وهذا جزاء توحيده. وإمّا خبر عن أهل الشرك وعن جزائهم في الدنيا والآخرة، وهذا جزاء من خرج عن حكم التّوحيد. وإمّا أحكام وتشريع، وهذا من حقوق التّوحيد، فإنّ التّشريع حق لله وحده.
وهذا التّوحيد بجميع أنواعه وحقوقه تضمّنته كلمةٌ واحدةٌ هي: "لا إله إلاّ الله"، فإنّها تتضمّن نفيا وإثباتا.
_________
١ سورة البقرة، الآيتان: ٢١ - ٢٢.
1 / 15
نفي الإلهيّة الحقّة عن كل ما سوى الله وإثباتها لله وحده. كما تتضمّن: ولاءً وبراءً؛ ولاء لله وبراء مما سواه.
ودين التّوحيد قائمٌ على هذين الأساسين، كما قال تعالى عن خليله إبراهيم ﵊ إنّه قال لقومه: ﴿نَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾ ١. وهذا منهاج كلّ رسول يبعثه الله، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ ٢، وقال تعالى: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا﴾ ٣.
فمن قال: "لا إله إلاّ الله" فقد أعلن البراءة من عبادة كل ما سوى الله، والتزم القيام بعبادة الله، وذلك عهد يقطعه الإنسان على نفسه:
_________
١ سورة الزخرف، الآيتان: ٢٦ - ٢٧.
٢ سورة النّحل، الآية: ٣٦.
٣ سورة البقرة، الآية: ٢٥٦.
1 / 16
﴿فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ ١.
فلا إله إلاّ الله: إعلان لتوحيد العبادة، لأنّ الإله معناه: المعبود، فمعناها: لا معبود بحق إلاّ الله.
فمن قال هذه الكلمة عارفا لمعناها، عاملًا بمقتضاها من نفي الشرك وإثبات الوحدانيّة لله، مع اعتقاد ذلك والعمل به فهو المسلم حقا.
ومن قالها وعمل بمقتضاها ظاهرًا من غير اعتقاد في القلب فهو المنافق.
ومن قالها بلسانه وعمل بخلافها من الشرك المنافي لمدلولها فهو الكافر، ولو قالها مرارًا وتكرارًا، كحال عُبّاد القبور اليوم، الذين ينطقون بهذه الكلمة ولا يفقهون معناها، ولا يكون لها أثر في تعديل سلوكهم وتصحيح أعمالهم، فتراه يقول: لا اله إلاّ الله، ثمّ يقول: المدد يا عبد القادر، يا بدوي، يا فلان يا فلان، يستنجد بالأموات، ويستغيث بهم في الملمات.
إنّ المشركين الأوّلين عرفوا من معنى هذه الكلمة ما لم يعرفه هؤلاء، حيث أدركوا أن الرّسول ﷺ
_________
١ سورة الفتح، الآية: ١٠.
1 / 17
حينما قال لهم: "قولوا: لا إله إلاّ الله"فقد طلب منهم ترك عبادة الأصنام وعبادة الله وحده، ولهذا قالوا: ﴿أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا﴾ ١.
وقال قوم هود: ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ ٢.
وقال قوم صالح له: ﴿أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ ٣.
وقال قوم نوح له من قبل: ﴿وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾ ٤.
هذا ما فهمه الكفّار من معنى: لا إله إلاّ الله؛ أنّه ترك لعبادة الأصنام، وإقبالٌ على عبادة الله وحده، فلهذا أَبَوا النّطق بها، لأنّه لا يجتمع مع عبادة اللات والعزّى
_________
١ سورة ص، الآية: ٥.
٢ سورة الأعراف، الآية: ٧٠.
٣ سورة هود، الآية: ٦٢.
٤ سورة نوح، الآية: ٢٣.
1 / 18
ومناة.
وعُبّاد القبور اليوم لا يدركون هذا التناقض، فهم ينطقون بها مع بقائهم على عبادة الأموات.
وبعضهم يفسّر الإله بأنّه: القادر على الاختراع والخلق والإيجاد١، فيكون معنى "لا إله إلاّ الله" عنده: لا قادر على الاختراع إلاّ الله. وهذا من أفحش الخطأ، فإنّ من فسّرها بذلك لم يزد على ما أقرّ به الكفّار، فإنّهم كانوا يقرّون بأنه: لا يقدر على الاختراع والخلق والرّزق والإحياء والإماتة إلاّ الله، كما ذكر الله - تعالى - ذلك عنهم ولم يصيروا به مسلمين.
نعم، هذا المعنى الذي يذكرونه داخل في معنى لا إله إلاّ الله، لكن ليس هو المقصود من هذه الكلمة.
الشرك في توحيد العبادة:
والشرك في العبادة هو صرفها أو صرف شيء منها لغير الله. وقد ألمحنا فيما سبق إلى مبدأ حدوثه في الأرض، ولا زال مستمرًا في الخلق إلاّ من رحم الله.
وهذا الشرك نوعان:
شرك أكبر يُخرج من الملّة، كالذّبح لغير الله ودعاء
_________
١ كما هو مذكور في كتب العقائد المؤلفة على طريقة علماء الكلام، وانظر مثلًا: "رسالة التّوحيد" لمحمد عبده.
1 / 19
غير الله، أو صرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله.
وشرك أصغر لا يخرج من الملّة، لكنه ينقص التّوحيد، وقد يتمادى بصاحبه حتى يقع في الشرك الأكبر، وذلك كالحلف بغير الله، وكثير الرياء، وقول: ما شاء الله وشئت، ولولا الله وأنت. وما أشبه ذلك من الألفاظ التي تجري على اللسان ولا يقصد معناها.
وقد كثر الشرك في هذه الأمّة، واستشرى أمره بسبب ابتعاد أكثر الناس عن الكتاب والسنّة، وتقليدهم للآباء والأجداد على غير هدى، وبسبب الغلو في تعظيم الموتى والبناء على قبورهم، وبسبب الجهل بحقيقة دين الإسلام الذي بعث الله به رسوله ﷺ، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب ﵁: "إنّما تنقض عرى الإسلام عروةً عروةً إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية"، وبسبب رواج الشُّبه والحكايات التي ضلّ بها أكثر النّاس واعتبروها أدلّةً يستندون إليها في تبرير ما هم عليه.
وهذه الشُّبه منها ما أدلى به مشركو الأمم السابقة، ومنها ما أدلى به مشركو هذه الأمّة.
ومن هذه الشُّبه:
أولًا: شبهة تكاد تكون مشتركة بين طوائف المشركين في مختلف الأمم قديما وحديثا، وهي: شبهة الاحتجاج بما عليه الآباء والأجداد، وأنّهم ورثوا هذه
1 / 20
العقيدة عنهم، كما قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ ١.
وهذه حجّة يلجأ إليها كل من يعجز عن إقامة الدليل على دعواه، وهي حجّةٌ داحضةٌ لا يقام لها وزن في سوق المناظرة، فإنّ هؤلاء الآباء الذين قلّدوهم ليسوا على هدى، ومن كان كذلك لا تجوز متابعته والاقتداء به، قال تعالى: ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ﴾ ٢.
وقال تعالى: ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ﴾ ٣.
وإنّما يكون الإقتداء بالآباء محمودًا إذا كانوا على حق، قال تعالى عن يوسف ﵇: ﴿وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ﴾ ٤.
_________
١ سورة الزخرف، الآية: ٢٣.
٢ سورة المائدة، الآية: ١٠٤.
٣ سورة البقرة، الآية: ١٧٠.
٤ سورة يوسف، الآية: ٣٨.
1 / 21
وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ ١.
وهذه الشُّبهة متغلغلة في نفوس المشركين، يقابلون بها دعوات الأنبياء - عليهم الصّلاة والسّلام -.
فقوم نوح لمّا قال لهم نوح: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأوَّلِينَ﴾ ٢.
فجعلوا ما عليه آباؤهم حجّة يعارضون بها ما جاءهم به نبيّهم نوح ﵇.
وقوم صالح يقولون له: ﴿أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ ٣.
وقوم شعيب يقولون له: ﴿أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ ٤.
وقوم إبراهيم يقولون له لمّا أفحمهم بالحجّة وقال لهم:
_________
١ سورة الطور، الآية: ٢١.
٢ سورة المؤمنون، الآيتان: ٢٣ - ٢٤.
٣ سورة هود، الآية: ٦٢.
٤ سورة هود، الآية: ٨٧.
1 / 22