Claims of the Orientalists About the Holy Quran
مزاعم المستشرقين حول القرآن الكريم
ناشر
مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف
اصناف
تمهيد
يحاول المستشرقون دائما أن يثبتوا أن القرآن من وضع البشر، وبخاصة تأليف محمد ﷺ. وموقفهم هذا من القرآن ليس بشيء جديد، بل هو في الحقيقة لا يختلف عن موقف مشركي مكة الذين بلّغهم الرسول رسالته والوحي القرآني مباشرة. فكانوا قد زعموا أن القرآن ما هو إلا قول البشر، أو أنّ صاحبهم "الأمين" و"الأمي" قد أصبح شاعرا أو ساحرا مجنونا، أو أن بشرًا آخر علمه القرآن، والآيات القرآنية ليست إلا ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ (الفرقان: ٥) .
ويرد القرآن على جميع هذه المزاعم ردا قاطعًا وذلك بطرق سبعة رئيسة، هي:
١- يقول الله تعالى إن القرآن ليس بقول البشر، وما هو بقول شاعر، ولا بقول كاهن ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ﴾ (يس: ٦٩) .
٢- ويكرر الله بكل صراحة في القرآن أنه هو الذي نزل القرآن على عبده ليكون للعلمين نذيرا، وإنه تنزيل من رب العالمين، بلسان عربي مبين (١) .
٣- كما يأمر الله رسوله ﷺ قائلًا ﴿لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ﴾ (القيامة: ١٦) . هذه المجموعة من
_________
(١) انظر القرآن ٢٥: ١، ٢٦: ١٩٢، ١٩٥.
1 / 1
الآيات القرآنية تدل على أن ما يلقى على الرسول ﷺ كان نصا معينا ولم يكن فكرة وتصورا فقط.
٤- كما يقوم الله ﷾ بمواساة نبيه ﷺ مرارا وبتشجيعه على تحمل معارضة الكافرين وإعراضهم عن الحق بالصبر والمصابرة، مذكرا إياه بأنه لم يكن من قبله من نبي مرسل إلا وكذبه قومه وواجهوه بالظلم والاضطهاد.
٥- كما يعلن الله للجميع أنه ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ (الحاقة:٤٦) .
٦- ويخبر الله الناس قائلا: ﴿لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ (النساء: ١٦٦) . كما يأمر الله نبيه أن يقول للناس إن الله هو شاهد بينه وبينهم في أمر الوحي القرآني: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ (الأنعام:١٩) . وهذه المجموعة من الآيات مهمة جدا، فإنها تقرر أن وحي الله أمر خاص بينه وبين نبيه ولا يستطيع أحد آخر الاطلاع عليه.
٧- وفوق كل هذا، يتحدى الله الجميع ويحذرهم قائلا: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ (البقرة: ٢٤) والتحدي مفتوح إلى الأبد.
1 / 2
ومنذ عهد النبي ﷺ لم يزل النقاد من الكفار وغير المسلمين يكررون آراء مشركي مكة حيال القرآن، ومنذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي على الأخص، أخذ بعض علماء الغرب من المستشرقين يعيدون اعتراضات وافتراضات مماثلة حول القرآن، وذلك بحجج وادعاءات متنوعة، ورواد هؤلاء المستشرقين ألوي سبرنجر (Aloy Spernger)، ووليم ميوير (William Muir) وثيودور نولدكة (Theodore Noldeke)، واجناز جولدتسيهر (Ignaz Goldziher)، ودبليو فلهاوسن (W. Wellhausen)، وليون كايتاني (Leon Caetani)، ودافيد سامويل مرجليوث (David Samuel Margoliouth) . وقد قام بتطوير آرائهم وتضخيم استنتاجاتهم آخرون تبعوهم في القرن العشرين الميلادي، وفي مقدمتهم ريتشارد بيل (Ritchard Bell) وتلميذه وليم مونتغمري وات (William Montgomery Watt) . وجميع هؤلاء المسشترقون يسعون بشتى الأساليب إلى الاستنتاج أن القرآن الكريم من تأليف محمد ﷺ.
ولكن في الربع الأخير من القرن العشرين الميلادي بدأ اتجاه جديد بين الجيل الجديد من المستشرقين الذين يقترحون أن القرآن ليس بتأليف محمد ﷺ فحسب، بل إنه اتخذ شكله الحالي تدريجيا عبر تطورات وتعديلات تمت في القرنين الأول والثاني من الهجرة. والجديرون بالذكر من بين هؤلاء المحدثين ج. وانسبرة (J. Wansbourough)، وج. أ. بيلامي (J.A. Bellamy)، وأندرو ريبين (Andrew Rippin) . وقد قام ببسط ادعاءاتهم وترويجها آخرون أمثال باتريشيا كرون (Patricia Crone)، ومايكل كوك (Michael Cook)، وكينيث كراج (Kenneth Cragg)، وتوبي ليستر (Toby Lester) .
إن الذين يذهبون إلى أن القرآن الكريم من تأليف محمد ﷺ يركزون على الادعاءات التالية:
1 / 3
١- إن محمدا ﷺ كان رجلا طموحا واتخذ خطوات مدروسة للدور الذي قام به فيما بعد. (١)
٢- وهو بالأخص كرس نفسه لفن الشعر ليستطيع نظم القرآن. (٢) .
٣- وإنه لم يكن رجلا دون معرفة بالكتابة والقراءة كما يزعم المسلمون، وإن لفظ "الأمي" المنسوب إليه يعني شيئا آخر. (٣)
٤- وإنه اقتبس الأفكار والقصص من اليهودية والنصرانية ثم ضمَّنها القرآن. (٤)
٥- وإن كثيرا من الأخطاء العلمية المعاصرة، خصوصا تلك التي تتصل بالعالم والكون، معكوسة في القرآن، كما يوجد فيه العديد من العبارات والمصطلحات الجارية والمفردات الأجنبية، وكل هذه تدل على أنه من تأليف محمد ﷺ. (٥)
٦- وإن كلمة "الوحي" لا تعني إلقاء النص من الله بل تعني اقتراحا أو إشارة (suggestion) أو "التكلم الذهني" (Intellectual Locution) . (٦)
_________
(١) انظر: W. Muir: Life of Mohamet، ٣rd edition reprinted ١٩٢٣، pp.٢٥-٢٦، D.S. Margoliouth: Mohammed and the Rise of Islam، London، ١٩٠٥، pp.٦٤-٦٥، Montgomery Watt: Muhammad at Mecca، Oxford، ١٩٦٠، p.٣٩، and Muhammad's Mecca، Edinburgh، ١٩٨٨، pp.٥٠-٥١.
(٢) انظر: Margoliouth، op. cit، p.٥٢-٥٣، ٦٠، Muir: op. cit. P.١٥
(٣) انظر: Watt: Muhammad's Mecca، p.٥٢-٥٣
(٤) انظر: Abraham Gelger: Judaism and Islam، Madras، ١٨٩٨; Richard Bell: The Origin of Islam and its Christian Environment، London، ١٩٢٦; C.C. Torrey: The Jewish Foundations of Islam، New York، ١٩٣٣; A.I. Kash: Judaism in Islam، New York ١٩٥٤
(٥) انظر: Watt: Muhammad's Mecca، pp. ٤٥-٤٦; C.C. Torrey: The Commercial Theological Terms of the Koran، Leiden، ١٨٩٢; Arthur Jeffry: The Foreign Vocabulary of the Qur'an، Broda، ١٩٣٨
(٦) انظر: Richard Bell: "Mohammed's Call"، The Moslem World، January ١٩٣٤، pp.١٣-١٩; Mohammed's Vision، ibid; Watt: Muhammad at Mecca، pp.٥٢-٥٨، and "The Islamic Revelation in the Modern World"، Edinburgh، ١٩٦٩.
1 / 4
وأما الذين يدعون أن القرآن قد تطور عبر القرنين الأول والثاني من الهجرة فكلامهم يدور حول المزاعم التالية:
١- إن المصادر التاريخية الإسلامية ليست معاصرة ولا يمكن تصديقها.
٢- إن الحفريات الأثرية في جزيرة العرب خصوصا تلك التي جرت في منطقة نجف كشفت العديد من النقوش القديمة تدل على عدم وجود القرآن في القرن الأول الهجري.
٣- إن المخطوطات القرآنية القديمة التي عثر عليها مؤخرا في صنعاء تشير إلى تطور القرآن خلال فترة طويلة.
٤- وإن نقد النص القرآني بشير إلى أخطاء في نسخ القرآن.
ويتضح مما سبق أن مزاعم المستشرقين لها جوانب متنوعة وأبعاد خطيرة، وأنهم لا يكفون عن محاولات النيل من القرآن.
كما يلاحظ فإن المجموعة الأولى من ادعاءاتهم تتصل بسيرة النبي ﷺ كذلك، وقد عالجت حججهم الرئيسة بالنسبة إلى هذه الادعاءات في كتابي "سيرة النبي ﷺ والمستشرقون" (١) . على أية حال، فإنه لا يمكن استقصاء جميع أقوالهم في حدود بحث واحد. لذا خصصت الصفحات التالية لإلقاء بعض الضوء على نظرياتهم بالنسبة للمجموعة الثانية من الادعاءات.
_________
(١) انظر: M.M. Ali: Sirat al-Nabi and the Orientialists، vol:١A، King Fahd Qur'an Printing Complex، Madina، ١٩٩٧، Chapters: x-xii and xvi-xxii.
1 / 5
٢- ج. وانسبرة (J. Wansborough) وأعوانه
انتكاسهم في الفكرة الخاطئة القديمة
إن إجناس جولدتسيهر (Ignaz Goldziher) هو الذي حاول في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي التشكيك في صحة المصادر التاريخية الإسلامية قائلا بأن معظم الروايات (الأحاديث) إن لم يكن جميعها، برزت في حيز الوجود في القرن الثاني (أو الثالث) الهجري إثر نشوء خلافات سياسية وعقدية وقانونية بين المسلمين، فجاءت كل فرقة منهم بروايات مفتريات تؤيد آراءهم ومواقفهم الخاصة، فلا يمكن الاعتماد عليها. (١)
وقد أخطأ جولدتسيهر في نظريته هذه من عدة نواح، الرئيسة منها أنه تجاهل اهتمام المحدِّثين الشديد بنقد الحديث سندا ومتنا. (٢) وفي الواقع قام بفحص فرضيته مستشرق شهير في الربع الأول من القرن العشرين، وهو هوروفيتس (J. Horovitz) الذي كتب سلسة من رسائل علمية معمقة أثبت فيها أن جمع الأحاديث وتدوينها بدأ بدقة في الربع الثاني من القرن الأول الهجري. (٣) فلم تلق نظرية جولدتسيهر قبولًا من قبل عامة المستشرقين
_________
(١) انظر: Ignaz Goldziher، Mohammedarische Studien (first published ١٨٩٠) vol: ٢، tr. Into English by C.R. Borber and Snt. Sten under title: Muslim Studies، vol:٢، London، P.١٧٠.
(٢) انظر: M.M. Al-Azami: Studies in Early Hadith Literature، Beirut، ١٩٦٨;، محمد لقمان السلفي: اهتمام المحدثين بنقد الحديث سندا ومتنا ودحض مزاعم المستشرقين وأتباعهم، الرياض، ١٩٨٤م، محسن عبد الناظر: دراسات جولدزيهر في السنة ومكانتها العلمية، رسالة دكتوراه، جامعة تونس، ١٤٠٤/١٩٨٤
(٣) انظر: J. Horovitz: “The Earliest Biographies of the Prophet and Their Authors"، translated from the German by Marmaduke Pickthall، Islamic Culture، vol:١، ١٩٢٧، pp.٥٣٥-٥٥٩; vol:٢، ١٩٢٥، pp.٢٢-٥٠، ١٦٤-١٨٢ and ٤٩٥-٥٢٣.
1 / 6
أنفسهم. ولكن في منتصف القرن تأثر يوسف شاخت (Joseph Shacht)، وهو وقتئذ أستاذ بمدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن (School of Oriental and African Studies)، بأفكار جولدتسيهر فضخمها في كتاب بعنوان: (Origins of Muhammadan Jurisprudence) (أصول فلسفة التشريع الإسلامي) . (١) ذهب فيه إلى القول: إن الروايات الإسلامية لا صحة لها على الإطلاق، وحتى الروايات التاريخية لا يمكن الاعتماد عليها إذ إنها وضعت لأغراض تشريعية، وأن الشريعة الإسلامية كانت خارج نطاق الدين الإسلامي وأن القرآن لم يكن مصدرا لها خلال القرنين الأول والثاني من الهجرة.
وبالطبع أثار كتاب شاخت انتقادات حادة لا من قبل العلماء المسلمين فحسب، (٢) بل من قبل علماء الغرب كذلك. فقال ن. ج. كولسون (N.J. Coulson) أستاذ آخر بجامعة لندن: إن فرضية شاخت تؤدي إلى إيجاد فراغ تاريخي لا يمكن قبوله نظرًا للواقع، (٣) وقال وات (W.M. Watt): إن علماء الغرب يقبلون صحة عامةِ ما جاء في كتب السيرة ويكملونها بما يوجد من الإشارات في القرآن، وإن الأسلوب الأفضل هو اتخاذ الروايات والإشارات القرآنية ليُتِمَّ بعضها بعضا. (٤) وقال ماكسيم رودنسون (Maxime Rodinson): إن فترة قرن فاصلة لا تعتبر مفرطة، فإنه يعرف قبيلة سودانية يروي أفرادها ذكريات آبائهم لوقائع تاريخية لهم ترجع إلى وقت قبل ثلاثة قرون، كما أن له
_________
(١) Published at Oxford، ١٩٥٠
(٢) انظر مثلا: M.M. Al-Azami: On Shacht's Origin of Muhammadan Jurisprudence، King Saud University and John Wily & Sons. Inc.، New York، ١٩٨٥
(٣) انظر: N.J. Coulson: A History of Islamic Law، London، ١٩٤٦، pp.٦٤-٦٥
(٤) انظر: M.M. Watt: Muhammad at Mecca، Oxford، ١٩٦٠، p.xv; and his "The Materials used by Ibn Ishaq” in B. Lewis and P.M. Holtfield (ed): Historians of the Middle east، London، ١٩٦٢، pp.٢٣-٢٤
1 / 7
أصدقاء مسنِّين يروون عن آبائهم ذكريات انجلس (Engels) ترجع إلى فترة ما بين ١٨٤٠ و١٨٤٨م، وأن بعض هذه الذكريات قد أدخلت في مجلد نشره معهد الماركسية واللينينية بموسكو (Institute of Marxism-Leninism) . (١) ويضيف رودونسون قائلا: إن هذا النوع من "الإسناد العائلي" قابلٌ للاعتماد عليه وإن شكَّ فيه شاخت. (٢)
وبالرغم من هذه الانتقادات والرفض العام للأفكار الخاطئة المطروحة من قبل جولدتسيهر وشاخت فإن بعض أعضاء هيئة التدريس بمدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن تبنوها في السبعينيات وتجاوزوا جميع الحدود في الغلو والمبالغة. وكان رائدهم جون وانسبرة (John Wansborough) الذي أصدر كتابين متتالين في سنتي ١٩٧٧ و١٩٧٨ وهما: Qur’anic Studies: Sources and Methods of Scriptural Interpretation (الدراسات القرآنية: مصادر ومناهج التفسير للكتاب الديني) وSectarian Milieu: Content and Composition of Islamic Salvation History (البيئة الطائفية: محتويات تاريخ النجاة الإسلامي وتأليفه) . استخدم فيهما وانسبرة ما يسمى بأدوات نقد الكتاب المقدس وأساليب تنقيحه ونقد النص وتاريخ تعديله، وخلص إلى ما يلي:
أ- إن القرآن تطور تدريجيا في القرنين الثامن والتاسع الميلاديين من أصل روايات شفوية عن طريق تعديلات جرت عبر قرنين، ثم أعطيت شكلا رسميًا (Canonical Form)، وصادف ذلك بروز التفاسير القرآنية،
_________
(١) انظر: Souvenires sur Marx et Engels، Russian edition، ١٩٥٦
(٢) me Rodinson: "A Critical Survey of Modern Studies on Muhammad"، in Merlin Swarty (ed)، Studies in Islam، OUP، ١٩٨١، pp.٤٤ and notes ١٢٣ and ١٢٤ at pp.٧٥-٧٦.
1 / 8
وكانت هذه العملية مماثلة لما حدث في تقويم الكتاب المقدس لليهود. (١)
ب- إن الطابع الجدلي لكثير مما جاء في القرآن يدل على أن معارضة يهودية قوية كانت السبب في عملية الترسيم.
ج- إن الروايات الإسلامية مماثلة لما يسميه علماء الكتاب المقدس بـ "تاريخ النجاة" (Salvation History) أي قصة وضعت متأخرة لأغراض دينية ودعوية، ثم نسبت إلى وقت مبكر (projected back in time) .
إن تفسير عدم بقاء أية مواد تاريخية إسلامية من القرن الأول الهجري يعود إلى عدم وجودها، وأنه لا يمكن تصديق معظم الروايات الإسلامية بواسطة مصادر معاصرة غير إسلامية. كما يقول وانسبرة استنادا إلى شاخت: إن القرآن لم يكن مصدرا للشريعة الإسلامية قبل القرن التاسع عشر الميلادي. (٢)
وتزامن صدور كتاب وانسبرة الأول نشر كتاب جدلي آخر بقلم باتريشيا كرون (Patricia Crone) ومايكل كوك (Michael Cook)، وقد كانا بمدرسة الدراسات الشرقية الإفريقية وقتذاك، وعنوان كتابهما: Hagarism: The Making of the Islamic World (الهاجرية: تكوين العالم الإسلامي)، وقد صدر عام ١٩٧٧م. يعترف كوك وكرون أنهما لم يكتبا في كتابهما بشأن القرآن شيئًا ليس له أصل فيما كتبه وانسبرة في كتابه الدراسات القرآنية. (٣)
_________
(١) انظر: J. Wansborough: Qur’anic Studies، etc، Oxford، ١٩٧٧، pp.٤٢-٤٥
(٢) المصدر نفسه، ص ٤٤
(٣) نقل القول توبي ليستر (Toby Lester) في مقالته “What is the Koran”، The Atlantic Monthly، January ١٩٩٩، p.٥٥
1 / 9
وهذا يدل على أنهما كانا على علم بما يكتبه وانسبرة حين كانا يؤلفان كتابهما.
على أي حال، فإن الأمور التي وردت في وانسبرة متشابكة ومشوشة للغاية. وبما أنها مبنية على أفكار جولدتسيهر وشاخت الخاطئة الفاسدة فإن الفرع يعتريه ما يعتري الأصل الباطل. وإضافة إلى ذلك فقد أخطأ وانسبرة في أمور أخرى، منها:
أولا: تأثر وانسبرة بما يعرفه عن تدوين الكتاب المقدس وتنقيحه، فيحاول تطبيق تلك القصة على القرآن، ولكنه يتجاهل تماما أن عملية إصدار كتاب ديني مثل الكتاب المقدس، خلاف لكتاب عادي، تتم دائما بواسطة مجلس أو مؤتمر وتكون وقائع مثل هذا الحدث عامة ذات أهمية كبرى ولا تفوت أنظار الناس فيسجلها المؤرخون والمراقبون. والوقت الذي يشير إليه وانسبرة كان قد شهد خلافات سياسية وعقدية بين المسلمين أنفسهم وكانت الدولة العباسية المترامية الأطراف مشتملة على أجزاء من شبه القارة الهندية في الشرق، وأجزاء من أوروبا في الغرب. فلو جرى إصدار كتاب ديني للمسلمين في تلك الفترة لسجله التاريخ بشكل أو بآخر. لكن وانسبرة وأعوانه لا يستطيعون الإشارة إلى أي حادث مثل هذا، لا من مصادر إسلامية ولا من مصادر يونانية أو فارسية أو هندية، فافتراضه لا أساس له من الصحة.
ثانيا: يزعم وانسبرة أن الروايات القرآنية المتفرقة بقيت شفوية عبر قرنين ثم جمعت في القرن التاسع الميلادي في حين يقول إن الروايات الإسلامية التاريخية لم تكن موجودة من قبل، بل اختلقت في القرن التاسع ونسبت إلى وقت مبكر من بداية القرن الأول الهجري. فنظريته بالنسبة لمجموعة من الروايات حسب
1 / 10
زعمه مناقضة لنظريتيه بالنسبة لمجموعة أخرى من الروايات، وإضافة إلى ذلك فزعمه غير منطقي إذ لا يمكن تصور اختلاق روايات ذات عدد هائل ومتصلة بوقائع وتطورات متنوعة مع فروقها الواسعة في الأزمنة والأماكن والأشخاص.
ثالثا: يخطئ وانسبرة في قوله إن القرآن كان جاريا في روايات شفوية متفرقة. ومعنى هذا القول أن المسلمين كانوا يحفظونه بكامله في صدورهم، ولكن بالإضافة إلى ذلك كان القرآن متداولا أيضا في شكل كتاب كامل، وذلك منذ خلافة عثمان بن عفان ﵁.
رابعا: كما يخطئ في قوله إن القرآن جدلي إلى حد كبير وإن ترسيمه تم في بيئة تسودها معارضة يهودية قوية. إن القرآن ليس جدليا بل إنه ينتقد وينهى عن جميع أنواع الشرك والانحراف عن التوحيد، فيشجب الوثنية والمجوسية والصبئية عبادة النجوم والشمس والقمر وعبادة الأشجار والجبال، كما يدين التثليث وتأليه عيسى ﵇ والاعتقادات اليهودية الخاطئة. وبما أن القرآن يرفض جميع هذه الأنواع من الضلالة، وليس فقط ضلالة اليهودية وقتذاك، ويشير إلى معارضة المشركين والمنافقين واليهود على السواء، فإنه جاء في بيئة تسري فيها هذه الضلالة، وهي بيئة سادت الجزيرة العربية في عصر النبي ﷺ، لا في العصر العباسي. وإذا اعتبرنا معارضة اليهود فقط فهي حدثت في المدينة بعد هجرة النبي ﷺ إليها، لا في العهد العباسي. وإن في القرآن نفسه لدلالات عديدة على معاصرتها للنبي ﷺ. فهو لا يتحدث عن معارضته للمشركين والمنافقين واليهود والمعارك التي خاضها فحسب، بل يعاتبه أحيانا لانصرافه عن الأعمى
1 / 11
الذي جاءه ليزكى (١) أو ينهاه عن طرد الفقراء من قربه (٢) ويأمره بالمصالحة مع زوجاته (٣) . وجميع هذه الآيات تدل على معاصرتها المطلقة للنبي ﷺ.
خامسا: يخطئ وانسبرة في قوله: إنه لم توجد مصادر تاريخية للإسلام قبل القرن التاسع الميلادي (نهاية القرن الثاني الهجري) . فإضافة إلى القرآن الكريم، هناك دلائل عديدة تثبت كتابة أقوال النبي ﷺ إبان حياته (٤) وعلى بدء تدوين الأحاديث والروايات بانتظام في الربع الثاني من القرن الأول الهجري (٥) . وعلاوة على ذلك، فإن وجود المخطوطات القرآنية القديمة والآثار والنقوش التي ترجع إلى القرن الأول الهجري يبطل دعوى وانسبرة، وتجدر الإشارة هنا إلى اكتشاف مجموعة من المخطوطات القرآنية في صنعاء عام ١٩٧٠ والتي بعضها (خصوصا مخطوطة رقم ٢٠-١٠٣٣) ترجع إلى الربع الأخير من القرن الأول الهجري.
وقبل أن نتحدث عن هذه المخطوطات الصنعانية، ينبغي أن نشير إلى بعض مزاعم أخرى للذين تأثروا بأفكار وانسبرة.
_________
(١) القرآن: ٨٠: ١-٤
(٢) القرآن: ٦: ٥٢
(٣) القرآن: ٦٦: ١-٣
(٤) انظر: صحيح البخاري، ح ١١١-١١٢، ومسند أحمد، ج٢، ص: ١٩٢، ٢٠٧، ٢١٥، ٤٠٣
(٥) انظر مقالات هوروفيز المشار إليها سابقا.
1 / 12
٣- يهودا دي نيفو (Yehuda De Nevo)
والمنقحون (The Revisionist)
تأثر بعض المستشرقين الجدد بأفكار وانسبرة، وعلى الأخص الذين يلقَّبون بـ "المنقحين" (Revisionists) ويعتقدون أنه لا بدّ لليهود في العصر الحديث من تنقيح أو نسف تاريخ العصور الوسطى وذلك لإفساح المجال لتمكنيهم من التعايش مع الآخرين على أرضية متساوية. ومن بينهم يهودا دي نيفو وج. كورن اللذان حددا منهجهما في نقطتين هما:
١-إنه لا بد من توثيق أية معلومات تنفرد بها الروايات الإسلامية بشواهد أثرية مادية (Archaeological evidence material)، وفي حالة التناقض بينهما تفضل الثانية.
٢- إن عدم وجود شاهد خارجي لحدث تنفرد به الروايات الإسلامية يعد دليلا إيجابيا على أن الحدث لم يحدث.
وانطلاقا من هذين الأساسين يقول دي نيفو وج. كرون: إن حفريات أجريت في مناطق صحراوية من الأردن قد كشفت عن آثار يونانية ونبطية ورومانية، كما أن حفريات في النقب أظهرت آثارا تدل على وجود الوثنية والحياة الجاهلية هناك في القرن السادس والسابع الميلاديين (القرن الأول الهجري) وهذه الجاهلية مماثلة لما تذكره المصادر الإسلامية بالنسبة للحجاز في ذلك العصر، ولكن الحفريات في الحجاز نفسه لم تكشف عن أية آثار للجاهلية والوثنية، ولا عن آثار تشير إلى وجود اليهود في المدينة أو في خيبر أو
1 / 13
في وادي القرى. وهذا يعني أن المصادر الإسلامية أخذت معلومات عن الجاهلية والوثنية السائدة في النقب ثم نسبتها إلى تاريخ الحجاز ومكة في القرن السادس الميلادي. (١) ومن ناحية أخرى اكتشفت في النقب عدد من النقوش العربية تشير إلى وجود اليهودية والنصرانية هناك جنبا إلى جنب مع فكرة التوحيد بدون ذكر نبي أو رسول، كما تحتوي على عبارات توجد في القرآن ولكنها لا تذكر القرآن ولا الإسلام ولا الرسول، وهذه النقوش ترجع إلى القرنين الأول والثاني الهجريين، وفي الوقت نفسه لم تكتشف في الحجاز أية نقوش تدل على وجود القرآن والإسلام هناك في القرنين الأول والثاني الهجريين. فهذا يعني أن القرآن اقتبس الأفكار من اليهودية والنصرانية ومن فكرة التوحيد النقبي القديمة. تم ترسيم (٢) القرآن بعد أن أدخلت فيه العبارات العربية الموجودة في تلك النقوش الخاصة بالمصطلحات الدينية للمسلمين وذلك في نهاية القرن الثاني الهجري أو بعده (٣) .
من الواضح أن هذه المزاعم خليط مما يقوله المستشرقون القدماء: إن القرآن مقتبس من اليهودية والنصرانية، ومن أقوال جولدتسيهر وشاخت ووانسبرة الذين يزعمون أن المصادر التاريخية الإسلامية مختلقة برمتها في القرن الثاني الهجري، وأن القرآن تم ترسيمه في الوقت نفسه. وقد حاول دي نيفو وأعوانه المنقحون تدعيم هذه الآراء بما يزعمونه شواهد أثرية. ولكن موقفهم
_________
(١) انظر: Koren & Y.D. Nevo: "methodological Approaches to Islamic Studies"، Der Islam، Band ٦٨، Hapt ١، pp.٩١-١٠٢
(٢) المراد به نشر القرآن بصفة رسمية أقرَّها الخليفة.
(٣) انظر: Y.D. Nevo: "Towards a pre-history of Islam"، Jerusalem Studies in Arabic and Islam، vol:١٧، ١٩٩٩، pp.١٢٥-١٢٦
1 / 14
غير معقول إلى حد أنَّ دَحضَه جاء بادئ ذي بدء من قبل المستشرقين غير المنقحين. فقد كتب الأستاذ ف. م. دونار (F.M. Donar) كتابا مستقلا (١) يثبت فيه أن تدوين الروايات والتاريخ الإسلامي بدأ في وقت مبكر من القرن الأول الهجري ويقول: إن عدم وجود أسلوب قرآني في النقوش العربية المكتشفة في النقب مع إشارة فيها إلى التوحيد يمكن اتخاذه شاهدا على جمع القرآن متأخرًا. ولو ثبت أن جمع القرآن حصل أولا في الشام وليس في الحجاز- ولكن هذا ما لم يثبته نيفو ولا وانسبرة - لأمكن استخدام الحجة نفسها لإثبات أن تعاليم القرآن وأساليبه تسربت تدريجيا إلى البلاد المجاورة مثل الشام (٢) .
وتشير المستشرقة استيلا ويلان (Estelle Whelan) إلى ثلاثة شواهد تبطل ادعاءات نيفو ووانسبرة. (٣) أولا: النقشان الطويلان الموجودان على وجهي البواكي في قبة الصخرة بالقدس، واللذان يشتملان على مقتبسات من القرآن الكريم، ولاسيما الآيتان ٥٧: ٢ و٤٦: ١، مع إثبات كلمة الشهادة في كليهما، نصبهما الخليفة الأموي عبد الملك في سنة ٧٢هـ (٦٩١-٦٩٢م) إلا أن الخليفة العباسي المأمون وضع اسمه مكان اسم عبد الملك بدون تغيير التاريخ. وتقول ويلان: إن وجود اختلافات طفيفة في العبارات لا تعني أن المقتبسات ليست من القرآن، كما يزعم كرون وكوك، (٤) بل أدخلت من
_________
(١) انظر: Fred M. Donner: Narratives of Islamic Origins: The Beginnings of Historical Writings، Darwin Press، Inc، Preston، ١٩٩٨
(٢) المصدر نفسه، ص ٦٢.
(٣) انظر: Estelle Whelan: "Forgotten Witness: Evidence for the Early Codification of the Qur'an"، Journal of the American Oriental Society، vol:٤٨، no:١، ١٩٩٨، pp.١-١٤
(٤) انظر: P. Crone & M. Cook، Hagarism etc.، pp.١٨; ١٦٧n.١٨
1 / 15
أجل تنسيق النص مع الموضوع والسياق، وكان المسلمون ولا يزالون يخلطون النصوص القرآنية بعبارات أخرى مناسبة في النقوش والمؤلفات والخطب، وهذا يدل أن القرآن لم يكن نصا مدونًا فحسب، بل كان متداولا ومألوفا لدى عامة المسلمين المثقفين. وإلى جانب هذين النقشين في القبة الخضراء نصوص قرآنية قصيرة مثل ١١٢: ١-٢ و٩: ١٣٣ على عملات الأمويين المضروبة بين سنتي ٧٧هـ و١٣٢هـ (٦٩٧-٧٥٠م) . وكل هذا يدل على وجود القرآن وتداوله بين المسلمين منذ منتصف القرن الأول الهجري خلافا لما يزعم نيفو ووانسبرة.
والشاهد الثاني نقش طويل كان على الجدار الجنوبي (ناحية القبلة) للمسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة وكان يمتد من باب السلام عبر الجدار إلى باب جبريل وكان يشمل سورة الفاتحة والسور ٩١-١١٤. شاهد هذا النقش أبو علي بن رسته في سنة ٢٩٠/٩٠٣م (١) كما شاهده زائر أندلسي وكان قد نصبه عمر بن عبد العزيز في سنة ٨٨/٧٠٦م حينما كان واليا للخليفة الوليد بالمدينة. ويشير ابن رسته إلى أنه كانت هناك نقوش قرآنية أخرى في جدران المسجد التي هدمها الخوارج سنة ١٢٠/٧٤٧م. كما يشير السمهودي، نقلا عن الواقدي وابن زبالة إلى أن نقوشا قرآنية أخرى كانت على الجدران بوجهيها الداخلي والخارجي وفوق أبواب المسجد. (٢) وتقول ويلان "إن وجود ٢٤ سورة متتالية من أواخر القرآن في النقش على الجدار
_________
(١) ابن رسته: كتاب الأعلاق النفيسة، (تحرير دي جيجي (M.J. De Geeje) ليدن، ١٨٩٢، ص. ٧٠
(٢) السمهودي: وفاء الوفى بدار المصطفى، المجلد الأول (تحرير: م. م. عبد الحميد)، القاهرة، ص. ٣٧١.
1 / 16
القبلي لدليل قاطع على أن ترتيب السور القرآنية كان قد تم قبل عهد عمر بن عبد العزيز بكثير. (١)
والشاهد الثالث وجود نساخ للقرآن بالمدينة منذ منتصف القرن الأول الهجري اشتهروا بـ "أصحاب المصاحف". (٢) كما تطورت فيها مدرسة للنحويين المهتمين بالكتابة القرآنية في أواخر القرن الأول الهجري. (٣) ومما لا شك فيه أن المدينة كانت مركزا علميا وثقافيا للمسلمين قبل نشأة المدن في العراق، وأن هؤلاء النساخ كانوا يلبون طلبا متزايدا لنسخ القرآن للدراسات والتدريس في المساجد والمدارس وبيوت الناس. وتجدر الإشارة إلى أن الخلفاء الأمويين، بدءا من معاوية، كانوا ينظمون جميع جوانب الحياة الدينية، فقام معاوية – مثلًا - بتزيين المنبر في المسجد النبوي وأمر ببناء المقاصير في المساجد الجوامع، واستخدم عبد الملك النصوص القرآنية استخداما موزونا مناسبًا في النقوش وعلى العملات، وقام الوليد بتوسيع المسجد النبوي إلى حد كبير. ونظرا لهذا كله، فإن الاحتمال بأن اهتمامهم بهذه الأمور سبق اهتمامهم بجمع القرآن وتوزيعهم بين الناس احتمال بعيد كل البعد.
وبالإضافة إلى هذه الحقائق فإن نيفو يخطئ في وجهة نظره من نواح أخرى. منها:
_________
(١) ويلان: المصدرالسابق، ص. ١٠
(٢) المصدر السابق، ص. ١٠-١٢، نقلا عن الطبري، التاريخ، (ط. ليدن) ٣:٢٣٢٩، انظر أيضا مقالتها:
“Writing the Words of God: Some early Qur’an Copyists and their Milieu”، part ١، Ars Orientalis، ١٩٩٠، pp.١١٣-٤٧
(٣) انظر: R. Talman: "An Eight century Grammatical School in Madina: The Collection and Evaluation of the Available Material"، Bulletin of the School of Oriental and African Studies، vol. ٤٨، ١٩٨٥، pp.٢٢٥-٢٢٨
1 / 17
أولًا: افتراضه أن جميع ما تقوله المصادر والروايات الإسلامية بالنسبة لتأريخ الإسلام للقرنين الأول والثاني ينبغي توثيقهما بمصادر معاصرة غير إسلامية أو بآثار مادية، وإذا لم يمكن توثيقها فإنها تعتبر معدومة. هذا منهج غير معقول وغير مناسب حتى بالنسبة لكثير من وقائع التاريخ الحديث فضلا عن وقائع تاريخ العصور الوسطى والقديمة التي لا محالة من أن تعتمد في كثير من الأحيان على مصدر منفرد ليس بمعاصر.
ثانيا: إن ظنه أن قصة الجاهلية والوثنية بالنسبة للحجاز مختلقة يفترض أن جميع ما ينبغي من الحفريات في تلك المنطقة قد، تم عمله وأنه لم يبق عمل شيء بهذا الصدد. وهذا ليس بصحيح على الإطلاق، فإن كثيرا من الأماكن لا تزال بحاجة إلى مسح ودراسة. كما يتغاضى في هذا القول عن أمر هام وهو أن الأوثان والمعابد الوثنية تم تدميرها وطمسها في الحجاز على نطاق أوسع وأكمل بعد مجيء الإسلام مما كان الحال في البلاد المجاورة التي دخل فيها الإسلام تدريجيا.
ثالثا: يغفل نيفو كذلك عن طبيعة الوثنية في الحجاز، فأنها لم تكن أصيلة هناك بل كانت مستوردة من الشام، ومن ثم لم تكن عميقة الجذور ومتطورة ذات أساطير متشابكة مثلما كانت في اليونان والعراق والهند، وإن كانت منتشرة انتشارًا واسعًا قبيل ظهور الإسلام. وتقول رواية إسلامية: إن عمرو بن لحي زعيم بني خزاعة هو الذي استورد الوثنية من الشام وقدم بصنم هبل فنصبه بمكة وأمر الناس بعبادته وتعظيمه (١) . كما جاء بأصنام ود وسواع
_________
(١) صحيح البخاري: ح ٣٥٢١ و٤٦٢٣-٤٦٢٤، صحيح مسلم، ح ٢٨٥٦، مسند أحمد، ج٢، ص. ٢٧٥-٢٧٦، وج٣، ص. ٣١٨، ٣٥٣-٥٤، وج٥ ص. ١٣٧، وابن هشام: السيرة النبوية (تحرير مصطفى السقا والآخرون)، ج٥، ص.٧٨ -٧٩، الكلبي: كتاب الأصنام (تحرير أحمد زكي باشا)، القاهرة، ١٣٤٣هـ، ص. ٨.
1 / 18
ويغوث ويعوق ونسر، (١) وهي الآلهة التي كان قوم نوح ﵇ يعبدونها، ويتحدث عنها القرآن (٢) . وإذا كان الأمر كذلك، فإن الاكتشافات الأثرية في النقب توثق المصادر الإسلامية من هذه الناحية، بدلا من أن تناقضها، كما يظن نيفو.
رابعا: يخطئ نيفو في تلميحه بأن الإسلام كان ردة فعل للوثنية إذ يقول إن المسلمين اختلفوا قصة الوثنية في الحجاز تمهيدًا لظهور للإسلام. القرآن طبعا يدين الوثنية، ولكنه لا يكتفي بذلك، بل ينتقدها وينهى عن جميع أنواع الانحرافات عن التوحيد وجميع ألوان الشرك التي كانت سائدة لا في الجزيرة العربية فحسب بل في العالم أجمع. فالقرآن يحرم عبادة الشمس والقمر والأجرام الفلكية الأخرى التي كانت سائدة في بعض مناطق الجزيرة العربية ولكنها جاءت من الشرق إلى الغرب، كما يدل على ذلك وجود معبد السماء (The Temple of Heaven) في بكين (Beijing، China) ووجود أهرامات لعبادة الشمس والقمر والأجرام الفلكية في جنوب شرق آسيا وعبر شمال إفريقيا إلى أمريكية الجنوبية (٣) . كذلك ينهى القرآن عن عبادة الجبال والأشجار والأنهار والظواهر الطبيعية مثل السحاب والبرق والرعد. قال تعالى: ﴿لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ﴾ (الصافت: ٣٧) . وقال: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ﴾ (الحج:١٨) . قال: ﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ
_________
(١) ابن حجر: فتح الباري، ج٦، ص. ٦٣٤
(٢) القرآن: ٧١: ٢٣
(٣) Alan F. Alford، Gods of the New Millennium، London، ١٩٩٦.
1 / 19
السَّحَابَ الثِّقَالَ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ﴾ (الرعد: ١٣) . كما ينهى الله في القرآن عن تأليه الملائكة والأنبياء والأشخاص البارزين كما كان الناس في شتى أنحاء العالم يفعلون ولا يزالون. يقول ﷿: ﴿وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا﴾ (آل عمران: ٨٠)، ويقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ (الأعراف: ١٩٤) . كذلك ينهى الله ﷿ في القرآن عن عبادة إلهين، إله للخير وإله للشر، أو إله النور وإله الظلمات، كما كان المجوس يفعلون. يقول ﷿ في القرآن ﴿لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾، (النحل: ٥١) ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ (الأنعام: ١) وفي السياق نفسه يستنكر القرآن تأليه عيسى ﵇ وجعل الأبناء والبنات لله، وفكرة التثليث والتجسد، وغير ذلك من الشرك والانحرافات عن التوحيد، فالقرآن عالمي من ناحيتي المنطلق والرسالة على السواء، فلا داعي للمسلمين لاختلاق قصة للوثنية في الحجاز على غرار ما كان سائدا في النقب، كما يزعم نيفو وأمثاله.؟
وبما أن نيفو لا يدرك طبيعة القرآن هذه يزعم أن القرآن خليط من الأفكار اليهودية والنصرانية والتوحيدية الموجودة في النقب قبيل ظهور الإسلام. إن القرآن لا ينكر وجود اليهودية ولا النصرانية، بل ينتقد ويرفض الانحرافات عن التوحيد وتقاليد الشرك التي طرأت عليهما، كما يقول إنه إنما جاء لإحياء وإكمال رسالة التوحيد التي بلغها النبيون والرسل من قبل، ويقول: ﴿إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾ (الأعلى: ١٨،١٩) .
1 / 20