عِقد الْجَوَاهِر الثمينة
فِي مَذْهَب عَالم الْمَدِينَة
تأليف
جَلال الدّين عَبد الله بن نجم بن شَاس المتوفي سنة ٦١٦ هـ
دراسة وَتَحْقِيق
أ. الدكتور حَميد بن مُحَمَّد لَحْمَر
جَامِعَة سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله - فاس
دَار الغرب الإسلامي
نامعلوم صفحہ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليمًا
[مقدمة]
قال الإمام الأكمل جلال الدين أبو محمد عبد الله بن نجم بن شاس وفقه الله وسدده وغفر له ولجميع المسلمين:
الحمد لله الذي فضل العقلاء بالعلم على سائر مخلوقاته، وجعل منازلهم في الفضل بحسب تفاوتهم في درجاته، وشرف على سائر أنواعه ما بعث به رسله وأنبياءه، وأعظم على من جعل ذلك كسبه نعمه وآلاءه، ورفع بعض العلماء على بعض، وفي فهم ما تضمنه آي الكتاب العزيز وصحيح الروايات، من الحث على القربات، والزجر عن الموبقات، والإذن في المباحات، والصلاة [والسلام] على أفضل رسله، محمد وعلى [آله] وأصحابه، أولي الرتب السنية والدرجات.
أما بعد، فهذا: تاب بعثني على جمعه - في مذهب عالم المدينة إمام دار الهجرة أبي عبد الله [مالك] بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارثي بن غيمان بن خثيل بن عمرو بن الحارث، وهو ذو أصبح بن حمير بن سبأ، رضوان الله عليه - ما رأيت عليه كثيرا من المنتسبين إليه في زماننا، من ترك الاشتغال به والإقبال على غيره، حتى لقد صار ذلك دأب كثير ممن يرى نفسه، أو يرى، من المتميزين، وجل من يعد من حذاق المتفقهين، ولم [أسمع] من أحد منهم، ولا بلغني [عنه] أنه كره منه سوى تكريره وعدم ترتيبه، حتى اعتقد بعضهم أنه لا] مكن ترتيبه، بل يشق ويتعذر، ولا تنحصر مسائله تحت ضوابط، بل تتباين وتتبتر، فصرفهم عدم اعتناء أئمة المذهب بترتيبه عن استفادة ما اشتمل عليه من تحقيق المعاني
1 / 3
النفيسة الدقيقة، واستنباط الأحكام الجارية على سنن السلف الصلاح بأحسن طريقة، واستثارة الأسباب والحكم التي هي على التحقيق عين الحقيقة، فكانوا كالمعرض عن المعاني النفيسة لمشقة فهمها، والمضرب عن الجواهر الثمينة لتكلف نظمها.
وقد استخرت الله تعالى، وشرعت في نظم المذهب (بأسلوب) يوافق (مقاصدهم) ورغباتهم، ويخالف ظنونهم فيه ومعتقداتهم، فحذفت التكرار الذي عيبوا أئمة المذهب إذ لم يحذفوه، وحللت النظام الذي كرهوه، ثم نظمته على ما جنحوا إليه وألفوه. ولم يترك أئمة المذهب سلوك هذا الطريق لاستهجانه لديهم، ولا لتعذره عليهم، بل لأنهم قصدوا بتصانيفهم محاذاة سؤالات المدونة (إذ كانت) ما بين شرح وتلخيص وتنكيت وشبه ذلك على الكتاب المذكور، وهو كما قد علم سؤالات لم يعتن موردها بترتيبها، وحيث قصد الترتيب بعض المتأخرين منهم، أتى فيه بما لم يسبق إليه.
ولما كان كتاب الوجيز، لأبي حامد الغزالي ﵀، من آخر ما حرر مما حرره غيره من متقدمي الأئمة ومتأخريهم، فكان غاية منتهى التحرير، لخصت المذهب في هذا المجموع على القرب من محاذاته، فنظمت فيه فرائد درر أحكامه المكنونة، وأظهرت جواهر معانيه النفيسة المصونة، واستخرجت بالفحص والتأمل خفايا حكمه الدفينة، وسميته لانتظامه وكماله: عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة، تنبيها على مقصد الكتاب وإرشادا إليه، وتعريفا لصاحب المذهب بما عرفه به صاحب الشريعة صلوات الله عليه، إذ قال:
" يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم، فلا يجدون عالما أعلم من عالم
1 / 4
المدينة "، رواه أبو عمر بن عبد البر ن بإسناده عن سفيان بن عيينة، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن رسول الله ﷺ، ثم قال بعقب روايته: رواته أئمة كلهم، سفيان بن عيينة إمام، وابن جريج إمام مثله وأجل منه، وأبو الزبير حافظ متقن، وأبو صالح السمان أحد ثقات التابعين، وكان أبو هريرة بقول فيه إذا نظر إليه: ما يضر هذا أن لا يكون من بني عبد مناف، ثم رواه من عدة طرق عن أبي هريرة، ورواه أيضا عن أبي موسى الأشعري.
وكذلك رواه (أبو عيسى) الترمذي أيضا من عدة طرق، واستحسنه وصححه ثم قال: " قال عبد الرزاق وابن عيينة: هو مالك بن أنس، وأما العمري عبد العزيز بن عبد الله فلم يكن بعلام، وإنما كان متزهدا. وقال سفيان بن عيينة أيضا: " كانوا يرونه مالكا ".
قال عبد الرحمن بن مهدي: يعني من أدرك، وقد أدرك التابعين ".
1 / 5
وتأول ذلك فيه أيضا ابن مهدي، وعبد الملك بن جريج، ووكيع وغيرهم من يكثر تعدادهم.
والله المسئول أن يجعل السعي في تأليف هذا الكتاب خالصا لوجهه برحمته، وينفع به من قصد الانتفاع بتحصيله [وقراءته]، ويكتبه من صالح العمل، ويجنب فيه الزيع والزلل والخطأ والخطل، فالصواب أردت، ووجه الله الكريم قصدت، وهو سبحانه يسعف بالإجابة ويسدد [للإصابة]، فإنه منعم كريم.
1 / 6
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
[وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليمًا]
كتاب الطهارة
وفيه أحد عشر بابا:
الباب الأول: في أحكام المياه وأقسامها
قال الله (تبارك) وتعالى: ﴿وأنزلنا من السماء ماء طهورا﴾. وقال تعالى: ﴿وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به﴾. فالمطهر للحدث والخبث هو الماء (وحده) من بين سائر المائعات. ثم المياه ثلاثة أقسام:
الأول: المطلق، الباقي على أوصاف خلقته من غير مخالط له، فهو طهور، ومنه ماء البحر وماء البئر، وكل ماء نبع من الأرض أو نزل من السماء على أي صفة كان من أصل
1 / 7
الخلقة. ويلحق بهذا القسم المتغير بطول المكث، وبالتراب أو الزرنيخ لجريه عليهما، وبالطحلب، وكل ما كان من قراره أو متولدا عنه، أو لا ينفك عنه غالبا.
القسم الثاني: ما خالطه ما لم يغير أحدا أوصافه، فهو باق على حكمه في الطهورية. وأطلق ابن القاسم القول بترك استعمال القليل المخالط بالنجاسة وإن (كان) لم يتغير، والعدول إلى التيمم. وقال أيضا: إن توضأ به وصلى، أعاد ما دام في الوقت. فحمل قوله بالترك على الكراهية لتقييده الإعادة بالوقت، وحمل على التنجيس لإطلاقه القول بترك استعماله والعدول إلى التيمم. ورواية المدنيين أنه طهور، لكن كرهوه للخلاف فيه.
وقيل: هو مشكوك فيه، فيجمع بنيه وبين التيمم. ثم اختلف في (البداية) بالوضوء (به) قبل التيمم، أو بالتيمم [قبل الوضوء] على قولين:
أحدهما: أنه يتوضأ به ثم يتمم ويصلي صلاة واحدة، إذ الماء طهور والتيمم مراعاة للخلاف.
والثاني: أنه يتيمم ويصلي، ثم يتوضأ (به) ويصلي، لئلا يلقي الأعضاء بذلك الماء، وهذا قول من قوي عنده تنجيسه، لكن أمرا بالوضوء به مراعاة للخلاف.
فرع: فإن أحدث بعد وليس إلا ذلك الماء، فإنه يتوضأ به ويتيمم ويصلي صلاة واحدة على القولين جميعا، لأن ملاقاة الأعضاء قد حصلت، قال ذلك أبو الحسن اللخمي وغيره.
ووقع للشيخ أبي الحسن علي بن محمد بن خلف المعافري القابسي في القليل إذا
1 / 8
خالطه طاهر أنه يسلبه التطهير وإن لم يغيره.
فرع: الماء المستعمل في طهارة الحدث طاهر مطهر إذا كان الاستعمال لم يغيره، لكنه مكروه مع وجود غيره مراعاة للخلاف. وقال أصبغ: طاهر غير مطهر، ونزله القاضي أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب الباجي على قول الشيخ أبي الحسن. وقيل: إنه طاهر مشكوك في تطهيره فيتوضأ به ويتيمم ويصلي صلاة واحدة.
القسم الثالث: ما خرج عن وصف خلقته لمخالط غير أحد أوصافه، لونه أو طعمه أو (ريحه)، مما ينفك عنه غالبا وليس بقرار له، ولا متولد عنه، فيسلبه ما خالفه فيه من أصل الطاهرة أو صف الطهورية.
ولم يعتبر عبد الملك بن الماجشون تغير الريح. قال الشيخ أبو الطاهر إبراهيم بن عبد الصمد بن بشير التتوخي: " ورأى بعض أشياخي أن هذا القول منزل على التغير.
1 / 9
بالمجاورة لا بالحلول.
فرعان:
الأول: المتغير بالتراب المطروح قصدا، فيه قولان:
المشهور أنه طهور، إلحاقا للطارئ بالأصلي. ورأى في الشاذ عدم الانفكاك وتعذر الاحتراز في الأصلي قاطعا للإلحاق.
وفي تنزيل الملح منزلة التراب أو الأطعمة قولان للشيخين، أبي محمد عبد الله بن أبي زيد، وأبي الحسن. وفرق ثالث، فجعل المعدني كالتراب، والمصنوع كالطعام.
الفرع الثاني: إذا كان عدم الانفكاك عن مخالط (ما) تختص ببعض المياه، فهل يؤثر فيما يختص به لأنه لا يعم أو لا يؤثر إذ لا ينفك الماء عنه؟ في ذلك قولان.
الباب الثاني: في أحكام النجاسات
وفيه فصول:
الفصل الأول: في تمييز الأعيان الطاهرة عن النجسة
والجمادات كلها على الطهارة إلا الخمر، وفي [معناها] كل نبيذ مسكر. ونعني بالجماد ما ليس (بذي) روح، ولا منفصل من ذي روح.
والحيوانات كلها على الطهارة، وأطلق ابن (الماجشون) وسحنون على الكلب لفظ التنجيس. قال الشيخ أبو الطاهر: " ويحتمل هذا القول البقاء على ظاهره، فيكون نجس العين
1 / 10
كما قاله المخالف، أو يكون المراد به أنه مما يستعمل النجاسات، فينجس سؤره لا عينه ".
والميتات كلها على النجاسة إلا دواب البحر، وما (ليس له نفس) له سائلة من دواب البر، وكذا الآدمي على أحد القولين.
وكذلك دود الطعام طاهر ولا يحرم أكله مع الطعام، وكل ما ليس له نفس سائلة لا ينجس بالموت، ولا ينجس ما مات فيه من ماء أو مائع.
أما أجزاء الحيوان، فاللحم حكمه ما تقدم، والعظم والقرن والظلف والسن كاللحم.
وقال ابن وهب: لا ينجس شيء منه بالموت.
وحكى الشيخ أبو الطاهر قولين في إلحاق أطراف القرون والأظلاف التي لا تحلها الحياة بأصولها أو بالشعور.
والشعور طاهرة من كل حيوان، وقيل: باستثناء شعر الخنزير. والأصواف والأوبار في معنى الشعور.
1 / 11
فرعان:
الأول: حكم ناب الفيل، وقد اختلف فيه على ثلاثة أقوال:
إلحاقه بالعظام، والحكم بطهارته، وهما على ما تقدم في أطراف القرون والأظلاف.
والقول الثالث: التفرقة بين أن يصلق فيكون طاهرا، أو لا يصلق فيكون نجسا.
الفرع الثاني: حكم الريش، وهو الطهارة في شبيه الشعر منه.
وأما ما فيه من شبيه العظم، (فما) حله الدم والرطوبة (من ذلك)، كالعظم، وما بعد فهو على القولين المتقدمين.
وأما الجلد فهو كاللحم أيضا، لكن أجازوا تذكية السباع لأخذ جلودها. قال الشيخ أبو الطاهر: " وهذا على القول بأنها مكروهة اللحم ".
قال: " وأيضا فإن الدباغ يعمل في جلد الميتة فينقله عن النجاسة، فقد صار الجلد أخف من اللحم ".
هذا حكم الأجزاء بعد الموت. فأما ما أبين منها في حال الحياة، فهو ميت إلا الشعور وما في معناها.
[و] أما الأجزاء المنفصلة عن باطن الحيوان، فهي قسمان:
الأول: كل مترشح ليس له مقر يستحيل فيه، كالدمع والعرق واللعاب وما في معنى ذلك، فهو طاهر من كل حيوان.
فرع: ما ذكرناه من طهارة اللعاب يقتضي طهارة أسآر جميع الحيوان، وقد انفرد سؤر الكلب بحكم أثبته له الحديث الصحيح، وهو غسل الإناء من ولوغه سبعا.
1 / 12
والنظر في سبب هذا الغسل وحكمه وما يتعلق به سوى ذلك ينحصر في ثمانية أحكام:
الأول: سببه هل هو الاستقذار والنهي عن مخالطته، أو التعبد؟ وظاهر إطلاق عبد الملك وسحنون يقتضي أنه النجاسة.
وإذا فرعنا على أن الغسل لغير النجاسة، فهل هو على الندب أو الوجوب؟ وهو الحكم الثاني، (و) فيه روايتان.
وكذلك في إلحاق الخنزير به، وهو الحكم الثالث، ويتخرجان على تحقيق العلة.
ويتخرج عليه أيضا، الخلاف في اختصاص ذلك بالمنهي عن اتخاذه، أو تعميمه في جنس الكلاب، وهو الرابع.
الخامس: أنه في الماء خاصة، في رواية ابن القاسم. وروى ابن وهب أن إناء الطعام بمنزلته في ذلك.
السادس: إراقة الماء والطعام، وفيه ثلاثة أقوال: إراقتهما، وترك الإراقة فيهما، وتخصيصها بالماء دون الطعام.
الحكم السابع: وفي غسل الإناء بالماء الذي ولغ فيه. وقد قال القزويني من علمائنا: لا أعلم لأصحابنا فيه نصا.
وحكى الشيخ أبو الطاهر عن بعض أشياخه: " أنه ذكر أن المذهب على قولين في ذلك، وهما خارجان على تحقيق العلة أيضا ".
1 / 13
الحكم الثامن: أنه يغسل لجماعة الكلاب سبعا، وللكلب الواحد إذا تكرر الفعل منه سبعا. وقيل: (يغسل) سبعا سبعا.
وسبب الخلاف: هل الألف واللام للجنس أو إشارة إلى الكلب الواحد، ويعتضد المشهور بأن الأسباب إذا تساوت موجباتها اكتفى فيها حبكم أحدها.
فرع مرتب: قال الإمام أبو عبد الله محمد بن علي المازري: " وحيث قلنا يغسل الإناء، فإنما ذلك عند إرادة الاستعمال، هذا مذهب الجمهور. قال: وذهب بعض المتأخرين إلى غسله وإن لم يرد استعماله ".
القسم الثاني: من الأجزاء المنفصلة عن باطن الحيوان ما له مقر يستحيل فيه، وهو نوعان:
الأول: ما يستحيل إلى فساد، فأصله على النجاسة إلا المسك وفارته، وذلك: كالدم، والمسفوح منه متفق على نجاسته، وغير المسفوح غير نجس، وفيه خلاف شاذ، تبعا للخلاف في جواز أكله، ودم الحوت كغيره من الدماء. وقال الشيخ أبو الحسن: هو طاهر.
وقال القاضي أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي: " لمالك فيه وفي دم الذباب والقراد قولان. قال: والصحيح أنه طاهر، لأنه لو كان دم السمك نجسا لشرعت ذكاته ".
وفي معنى الدم المسفوح القيح والصديد وما في معناهما. وكالبول والعذرة وهما نجسان من بين آدم. وقيل بتخصيص من لم يأكل الطعام من الآدميين بطهارة بوله. وقيل: ذلك في الذكر دون الأنثى. وطاهران من كل حيوان مباح الأكل، نجسان من كل محرم الأكل، مكروهان من المكروه أكله، وقيل: بل نجسان منه أيضا. وكالمذي وهو نجس بإجماع، وفي معناه الودي.
1 / 14
والمذهب أن المني نجس وأصله دم، وهو يمر في ممر البول، فاختلف في سبب التنجيس، هل هو رده إلى أصله، أو مروره في مجرى البول؟ وعلى تحقيقه يخرج حكم طهارة مني ما بوله طاهر من الحيوان.
النوع الثاني: ما يستحيل إلى صلاح، وذلك كالألبان والبيض.
فأما الألبان فإنها تتنوع إلى لبن الآدميات، وما يؤكل لحمه من الحيوانات، ولا خلاف في طهارته، وإلى لبن الخنزيرة، ولا خلاف في نجاسته، وإلى لبن سائر الحيوانات وفيه ثلاثة أقوال:
الأول: الطهارة قياسا على لبن بنات آدم.
الثاني: أنها تابعة للحومها، لأنها فضلاتها.
الثالث: أنها مكروهة من المحرم الأكل.
وأما البيض، فقال الشيخ أبو الطاهر: " هو في معنى الألبان، ولا تفصيل عندنا فيه لأنه من الطير وهو مباح، قال: ولا نريد بذلك ما يحكى من بيض الحشرات، لأنه من الخبائث ". قال: " ويأتي بيان حكمها على أصل المذهب في كتاب الذبائح ".
فروع:
الأول: استعمال الحيوان النجاسة، هل ينجس ما يكون منه؟ كعرق السكران والنصراني ولبن الجلالة ولبن المرأة إذا شربت الخمر، وبيض ما يأكل النجاسة أو يشربها.
حكى الشيخ أبو الطاهر عن المذهب في ذلك قولين، قال: " وهما جاريان في كل نجاسة تغيرت أعراضها، كرماد الميتة، وما تحجر في أواني الخمر، وما في معنى ذلك ".
وجعل مثار الخلاف النظر إلى الأصل وهو نجس، أو إلى الانتقال وقد تغيرت الأعراض.
وقال أبو محمد عبد الحق: " الصواب طهارة جميع الأعراق، إذ ليس العرق نفس ما
1 / 15
يؤكل ويشرب من النجاسة، قال: وعلى هذا حذاق أهل المذهب ". واختار طهارتها أيضا الإمام أبو عبد الله.
الفرع الثاني: ما عادته استعمال النجاسة في الغالب ولا يمكن الانفكاك عنه غالبا كالهر للحاجة إليه، وتلحق به الفأرة في تعذر الاحتراز منها، فلا أثر لشربه إلا أن تعلم نجاسة فمه عند الشرب، فيكون حكمه حكم ما حلته نجاسة.
الفرع الثالث: ما يمكن الاحتراز منه، كالطير (التي) تأكل النتن، فإن قطع بنجاسة أفواهها أو طهارتها، عمل عليه، وإن لم يقطع بإحداهما، ففي الحكم لها بالأصل أو بالغالب ثلاثة أقوال، يفرق في الثالث فيحكم بالأصل في الطعام لحرمته، وبالغالب في الماء ليسارته.
الفرع الرابع: من غالب حاله استعمال النجاسة، كأهل الذمة وشاربي الخمر، فسؤره ملحق بسؤر ما عادته استعمالها.
وحكم ما لبس هؤلاء من الثياب أن لا يصلي فيها حتى تغسل، لان الغالب نجاستها.
فإما ثياب غيرهم، فإن كانوا غير مصلين، فحكمها حكم ثيابهم، إلا فيما كان على الرأس. وإن كانوا يصلون، صلى بثيابهم وإن لم تغسل، إلا ما كان يشد في الوسط، فإنه يغسل على الإطلاق، لقلة من يعرف الاستبراء من غير العلماء، وفي معناه، ما يحاذي الفرج من غير حائل.
1 / 16
الفصل الثاني: في إزالة النجاسة، والنظر في حكمها ومقصودها وكيفيتها
النظر الأول في حكمها: وقد اختلف المتأخرون من العراقيين وأهل المغرب في تقرير المذهب، فالقاضيان أبو الحسن علي بن عمر بن القصار، وأبو محمد عبد الوهاب في تلقينه، يريان أن المذهب كله على وجوب الإزالة، وإنما الخلاف في إعادة من صلى بنجاسة خلاف في كون إزالتها شرطا في صحة الصلاة أم لا؟ وغير هذين والقاضي أبو محمد أيضا في شرح الرسالة، يقولون: المذهب كله على أن الإزالة سنة، وإنما الخلاف في الإعادة خلاف في إعادة تارك السنن متعمدا.
وأبو الحسن اللخمي وغيره من متأخري المغاربة، يرون أن المذهب على ثلاثة أقوال:
وجوب الإزالة مطلقا، وهو مقتضى رواية ابن وهب، إذ فيها الإعادة، وإن خرج الوقت، عمدا، صلى بها، أو نسيانا.
ونفي الوجوب مطلقا، نو هو مقتضى قول أشهب، لأنه استحب الإعادة في الوقت، عمدا، صلى بها، أو نسيانا.
1 / 17
والوجوب مع الذكر والقدرة دون النسيان والعجز، وهو مقتضى الكتاب؛ لأنه أوجب الإعادة على غير المعذور وإن خرج الوقت، وأمر بها المعذور في الوقت خاصة.
وقال الإمام أبو عبد الله: " اضطرب الحذاق من أهل المذهب في العابة عن ذلك، فالجاري على ألسنتهم في المذاكرات والإطلاقات أن المذهب على قولين:
أحدهما: أن غسل النجاسة فرض.
والآخر: أنه سنة، إطلاقا لهذا القول من غير تقييد، ثم قال ومن أشياخي من يعبر عن هذا، فيقول، المذهب على ثلاثة أقوال: وأشار إلى ما تقدم عن أبي الحسن اللخمي ".
النظر الثاني: في مقصودها، وهو إذهاب العين والأثر، لكن خفف الشرع عن المكلف فعفا عنهما في بعض [أقسامها]، وعن بعض العين في قسم آخر، وعن الأثر دون العين في ثالث، فلا جرم انقسمت النجاسة في حكم الإزالة أربعة أقسام:
القسم الأول: يعفى عن قليله وكثيره ولا تجب إزالته إلا أن يتفاحش جدا، فيؤمر بها.
وهذا القسم هو كل نجاسة لا يمكن الاحتراز عنها، أو يمكن بمشقة كبرى، كالجرح يمصل، والدمل يسيل، والمرأة ترضع، والأحداث تستنكح، والغازي يفتقر إلى إمساك فرسه، وخص مالك هذا ببلد الحرب، وترجح في بلد
الإسلام.
القسم الثاني: يعفى عن اليسير منه إذا رآه في الصلاة، ويؤمر بغسله قبل الدخول فيها.
وقيل: لا يؤمر بذلك، وهو الدم، وهل يلحق به، في العفو قليل القيح وقليل الصديد؟ أو يلحقان بقليل البول؟ في ذلك قولان.
فرعان الأول: أن الدماء (كلها في ذلك سواء)، ودم الحيضة ودم الميتة كغيرهما على المشهور.
وقال ابن وهب وابن الماجشون: أن يسير دم الحيض وكثيره سواء، ورواه ابن وهب وابن أشرس. وقال ابن وهب أيضا: لا يعفى عن قليل دم الميتة، كدم الحيض.
1 / 18
الفرع الثاني: حيث قلنا بالعفو عن اليسير، فما حده؟
قال أبو بكر بن س ابق: لا خلاف عندنا أن ما فوق الدرهم كثير، وأن ما دون الدرهم قليل. وحكى في قدر الدرهم روايتين لعلي بن زياد، وابن حبيب، بالقلة والكثرة.
وحكى الشيخ أبو الطاهر أن اليسير هو مقدار الخنصر، وأن الخلاف فيما بين الدرهم إلى الخنصر.
القسم الثالث: يعفي عن أثره دون عينه، وهو الإحداث على المخرجين، والدم على السيف الصقيل، وفي معنى ذلك الخف يمشي به على أبوال الدواب وأرواثها، وفيه قول: أنه يغسل، كما لو مشى به على الدم والعذرة.
فروع أربعة:
الأول: لو مشى ماسح خفه على نجاسة ولا ماء معه، فليخلعه ويتيمم، لان التيمم بدل عن الوضوء، والنجاسة لا بدل لها.
الثاني: إلحاق النعل بالخف، فقال مالك: يدلكه ويصلي به. وقال ابن حبيب: لا يجزئه ذلك لخفة النزع. وقال القاضي أبو بكر: " والأول أصح ".
1 / 19
الثالث: الرجل يمشى بها على النجاسة، هل يجب غسلها لخفته أو تلحق بالنعل لتكرر ذلك؟ وفيه قولان أيضا. وقال القاضي أبو بكر: " إن كان عن عذر فهو كالخف ".
الرابع: إن المرأة لما كانت مأمورة بإطالة الذيل للستر كعادة العرب، جعل الشارع ما بعده مطهرا له كما جاء في الحديث. ولا خلاف في ذلك عندنا إذا كان جافا، ومعناه أنه بنشره لجفافه، فإن كان رطبا فلا بد من غسله كسائر النجاسات، وفيل: بل يطهره ما بعده لعموم الحديث.
وألحق الأصحاب بذلك من مشى برجل مبلولة على نجاسة، ثم على موضع جاف.
(وأما) طين المطر فمعفو عنه، قال الشيخ أبو محمد: ما لم تكن النجاسة غالبا أو عينها قائمة. قال الشيخ أبو الطاهر: " قال المتأخرون: ولو كانت كذلك وغلبت وافتقر إلى المشي، لم يجب غسله، قياسا على الأم ترضع ".
القسم الرابع: ما عدا ما ذكرناه، وهذا القسم يزال كثيره وقليله، وعينه وأثره.
النظر الثالث: في كيفية إزالتها.
ولا يكفي مرور الماء على المحل، بل لا بد من إزالتها عنه بإذهاب العين والأثر. ويتم الغرض من الإحاطة بالمقصود برسم فروع.
الأول: لو بقي الطعم بعد زال الجرم في رأي العين، فالمحل نجس؛ لان بقاءه دليل على بقائه. وكذلك لو بقي اللون أو الريح، وقلعه متيسر بالماء، فإن تعسر قلعه عفي عنه، وكان المحل طاهرا.
الفرع الثاني: إذا انفصلت الغسالة عن المحل متغيرة، فهي نجسة وهو نجس، وإن انفصلت غير متغيرة فهما طاهران.
الثالث: أنه لا يشترط الاستقصاء في إزالة الغسالة عن محل النجاسة بعد انفصال الماء
1 / 20
غير متغير بل يطهر وإن لم يعصر الثوب، ولا استقصي في إزالة الرطوبة عن الإناء، لأن المنفصل من الماء عن المحل جزء من المتصل، والمنفصل طاهر، فالمتصل مثله، فيستوي انفصال الكل والبعض.
الرابع: إن إزالة جرم النجاسة عن المحل بغير الماء لا يطهره، بل يبقي حكم النجاسة.
الخامس: إذا تدمى فمه فمجه بريقه حتى ذهب، ففي افتقاره إلى غسله أو طهارته بريقه، قولان لعلمائنا، حكاهما القاضي أبو بكر، ثم قال: " والصحيح طهارته بالماء، وإن كان كثيرا، وإن كان يسيرا عفي عنه، ولا يطهر الريق بحال ".
السادس: قال القاضي أبو بكر: " إذا مسح الجسم الصقيل من النجاسة كالصارم والمدية ونحوه، فإن مسحه يجزي عن غسله لأنه يفسده، وقيل: لأنه (لا يبقى من النجاسة فيه) شيء ".
فأما لو مسح موضع النجاسة من البدن أو الثوب مسحا بالغا فلم يبق منها شيء، يعني في رأي العين، فقال القاضي أبو بكر: " اختلف المتأخرون فيه، هل يلزم غسله أم لا؟ ثم قال: والصحيح وجوب الغسل لأنه لا بد من بقاء جزء منها (ملتصق) بالمحل وإن خفي ".
واعلم أن مفهوم هذا التعليل يشير إلى أنه لو تحقق زوال جميع أجزائها لطهر المحل، وإن لم يستعمل فيه الماء. وهذا إنما يستمر مع البناء على تعليل المسألة السالفة بالعلة الثانية، فإما على العلة الأولى، والمشهور الاعتماد عليها، فلا يطهر المحل بحال.
وأما لو مسح موضع المحاجم ولم يغسله، فيعيد إن صلى ما دام في الوقت. وقال ابن حبيب: لا إعادة عليه. قال القاضي أبو بكر: " والصحيح أنه لا إعادة عليه، لأن ما بقي في محل المحجمة دم يسير في حد المعفو عنه، قال: والفرق بين هذا وبين ما تقدم، أن هذا الدم الباقي من نفس المحل دعت الحاجة إليه، والأول طرأ عليه من غير حاجة، فتضادا فافترقا.
فرع: هذا حكم تحقق النجاسة وتحقق إصابتها للثوب أو (للجسد)، ويختص
1 / 21