وقد يتبادر إلى الذهن أن الفراسة تتبع الذكاء أو هي نتيجته، والواقع أنها لا تستغني عن الذكاء ولكنها غيره كما يظهر للمتأمل، وإنما هي تحتاج إلى دقة الملاحظة وسرعة الخاطر.
ومما هو حري بالاعتبار أن النساء أقدر من الرجال على هذا الفن؛ لأن للمرأة مقدرة خصوصية على استطلاع أخلاق الناس، وهي تستطيع ذلك بالبداهة بلا برهان ولا تعليل، فإذا رأت رجلا لا تلبث أن تتفرس فيه حتى تحكم في أخلاقه حكما قاطعا كأنها تقرأه في كتاب منزل، ولكنك إذا كلفتها البرهان على قولها لم تجد لها إليه سبيلا، وهي مزية يعترف لها بها علماء العقليات والأخلاق، وهم يميزون بينها وبين الرجل بأنها تحكم بعواطفها وهو يحكم بعقله.
فروع علم الفراسة
قلنا: إن موضوع الفراسة الاستدلال على الخلق الباطن من النظر إلى الخلق الظاهر، ولا يراد بذلك مجرد النظر في ملامح الوجه أو شكل القامة، ولكنهم استدلوا على الأخلاق بالنظر إلى أعمال الجسم، كالمشي والكتابة ونحوهما، ناهيك بما استدلوا به من خطوط الكف وأشكال الجمجمة وغير ذلك، فالفراسة علم واسع، ومن فروعه فراسة الرأس وفراسة الوجه وفراسة الكف وفراسة المشي وفراسة الخط وفراسة المقابلة، وهي الحكم على أخلاق الناس بالنظر إلى ما يشابه وجوههم من وجوه الحيوانات و...
تعليل الفراسة
معلوم أن لكل عاطفة من عواطف الإنسان تأثيرا خاصا في ملامح وجهه، فإذا غضب أحدنا أو حزن أو فرح أو اهتم ظهر أثر كل من هذه العواطف على وجهه، وعندنا علامة للغضب وأخرى للفرح وأخرى للاهتمام، ومعنى هذا التأثير طبيا تغيير يحدث في عضلات الوجه تحت الجلد فتنكمش أو تنقبض أو تنبسط تبعا للتأثير الذي أصابها فتتغير ملامح الوجه، ومن النواميس الطبيعية أن الأجسام الحية تنمو وتكبر بالاستعمال وتضعف وتندثر بالإهمال، ويعللون ذلك النمو بتوارد الدم إلى العضو في أثناء استعماله، وكلما زاد عمله زاد توارد الدم إليه فيزداد نموه، وذلك هو شأن عضلات الوجه أيضا، فإن ما يتكرر استعماله منها يزداد نموه. فلو تعود أحدنا الغضب كل يوم فإن العضلة التي تنقبض للغضب يزداد نموها، وقد يدوم انقباضها حتى تظهر هيئة الغضب على الوجه في غير حال الغضب، وقس على ذلك ما يصيب عضلات العواطف الأخرى.
وإذا أبصرت رجلا طويل القامة عريض المنكبين قلت إنه شجاع، وإذا رأيت آخر عريض المنكبين واسع الصدر حكمت بتأنيه وحزمه وعلو همته، وبعكس ذلك ضيق الصدر فإنه عجول قلق ضعيف العزيمة، ويعللون بذلك أن واسع الصدر يكون كبير الرئتين فيستنشق من الهواء في مرة ما يغنيه عن سرعة التنفس فيكون رزينا صبورا.
وتنطبق هذه الحقيقة على الحيوان أيضا؛ فإن الضعيف من الحيوانات قصير الخطو سريعه، والقوي طويله، فذوات الصدر الضيق تسرع في الركض وواسعة الصدر تتأنى فيه، فالأرنب كثيرة الخوف نحيفة البنية سريعة الحركة وصدرها ضيق، وأما الأسد والفيل فإنهما كبيرا الصدر وكلاهما صبور حازم شجاع، وتعليل ذلك أن التنفس مصدر الحرارة وبانقطاعه تنقطع الحياة، وإليه مرجع القوة والهمة والنشاط، فكلما يساعد على ادخاره يزيد في أسباب الهمة والنشاط. وفيما تقدم مثال لعلاقة الخلق الباطن بالخلق الظاهر وتعليله بالنواميس الطبيعية.
خلاصة تشريحية
ولما كانت الفراسة تبحث في أشكال الأعضاء رأينا أن نبين نسبة تلك الأعضاء بعضها إلى البعض.
نامعلوم صفحہ