إذن لكي تنجو الحياة الإنسانية من خطر الفساد هذا يجب أن تكون دائما أسمى غرضا، وأن تبتدع هي بنفسها نظاما وتعضده وتقيمه مقام نظام الغرائز. كيف يتسنى لها ذلك؟ لقد فهمت فيما تقدم أن الأغراض العقلية تسيطر على الغرائز والشهوات بمعنى أنها تدربها إلى اللذة الفضلى؛ لأنها تقمعها قمعا، فإذا كانت هذه الشهوات والغرائز تحصل على أغراضها من الطريق الذي ترشدها إليه الأغراض العقلية.
فعلى التمادي تتعود أن تبتغي غايتها من هذا الطريق، وعلى التمادي يصبح الغرض التعقلي مندمجا في الغريزة والشهوة. وأخيرا يصبح أصيلا فيها، وهكذا تتكون في أذهاننا المثل العليا والسجايا الحسنى، وتصبح نواة تحوم حولها شهواتنا، بعد أن كانت شهواتنا مطلقة الحبل على الغارب، وهكذا تبني الحياة الإنسانية نفسها بمبادئها وأغراضها العليا.
وبعبارة أخرى تتأصل فينا هذه الأغراض التعقلية السامية تارة بتذكر اختباراتنا لها التي تشهد على جودتها، وتارة بالقدوة بالذين ينتمون إليها، وتارة باستحسان الرأي العام لها، وتارة بممارستها ومزاولتها ولو عن غير روية، أو بحكم العادة. ومتى تأصلت تصبح عدوة لكل ما يناقضها من الشهوات البهيمية، وأليفة لكل ما يوافقها. هكذا نشأت الفضائل في الناس على تمادي الزمان، وهكذا تميزت الحياة الإنسانية على الحياة الحيوانية.
الفصل الخامس
القاعدة الأدبية
بحثنا في الفصول الثلاثة السابقة في كيفية الحكم على الفعل الأدبي؛ هل هو حسن وصواب وحق أو ليس كذلك، وأسهبنا في بيان أساليبه التي تكفل إصابة الحكم وسداده، وأبنا أن هناك قاعدة أدبية يطبق عليها الحكم، وأشرنا إليها إشارة موجزة. وفي هذا الفصل نبحث في ماهية القاعدة الأدبية العامة وطبيعتها كشريعة من جملة الشرائع تنطوي فيها جميع المبادئ الأدبية. (1) طبيعة القاعدة الأدبية (1-1) استقلال القاعدة الأدبية عن التعقل والأهواء
إن ما بين التعقل والعواطف من التنازع والتباين في تحريك الأفعال جعل لعلم أدب النفس وجهتي نظر، وللبحث فيه موضعين رئيسيين يقابلان وجهتي النظر، وقسم العلماء الأدبيين إلى فريقين اختص كل منهما بأحد الموضوعين. وهكذا تباينت مناهج الفريقين في سياق أبحاثهما، وتباينت تعاليمهما.
ومحصل تعليم أحدهما أن التعقل عبد للأهواء، ولا بد أن يكون كذلك؛ لأنه لا يستطيع إلا أن يقود نوابض النفس أو شهواتها، ويدربها في السبيل المفضي إلى إرضائها وإشباعها. وبحسب هذا التعليم يكون الجيد أو الحسن الرئيسي للحياة منحصرا في إرضاء نوابض الحياة أو شهواتها حين تنبض. وهذا هو مآل تعليم السروريين
Hedonisis .
ومحصل تعليم الفريق الآخر المباين لذلك هو أن للحياة الأدبية سنة يجب أن تخضع لها تلك النوابض لكي تتكيف في شكل نظامي. ومن مباحث هذا الفريق يستنتج أن هذه السنة هي سنة التعقل، وأن حاصل الغاية التي يتجه إليها النابض المدرب هو السرور أو اللذة.
نامعلوم صفحہ