المحرك الخلقي الذي يستقل وحده في انتداب المرء للفعل هو الخلق الغريزي البحت، ولا سيما إذا كان رئيسيا؛ كالشهوات الغريزية والانفعالات، فهذه يمكن أن تحرك المرء لأول وهلة للفعل من غير أن ينظر إلى الغاية. فهو يغضب ويقاتل ويخاف ويفر ويجوع ويتلهف للطعام قبل أن يفتكر بالغاية إن كانت سارة أو مؤلمة. فالغاية كافية لتحريك الفعل.
وأما الأخلاق المتفرعة المشتقة من الرئيسية، فلأنها أقل سرعة في عملها، تقيم في الذهن صورة الغاية المرغوبة. وهذه الصورة تشترك معها في تحريك الفعل، وكلما بعد الخلق عن محضية الغريزة اتضحت فيه الغاية، وكانت أكثر شركة في تحريك الفعل. فحب المال والشهرة والشفقة والميل إلى الإحسان إلخ، كل هذه تقيم في الذهن تصور السرور من الحصول على الأمر المرغوب فيه، فتكون الغاية المرغوبة عاملا قويا في تحريك الفعل.
المحرك الغائي إذن هو الذي تكون فيه الغاية المرغوبة من طبيعة الخلق المحرك، أي إن هذا الخلق نفسه يبتغى إرضاء لنفسه لا لقوام الأقنوم الإنساني.
فالشهرة مثلا من جهة واحدة تختلف عن خلق حب الاشتهار في نفس المرء، ومن جهة أخرى تجعل حصول المرء عليها غاية مرغوبة؛ فهي إذن محرك للفعل وغاية له، هي مصدر جاذبيتين: جاذبية النفس لهذا الخلق «خلق حب الشهرة»، وجاذبية الغاية المرغوبة؛ أي الحصول عليها.
إذن كثير من الغايات المرغوبة موجودة في طبيعة الأخلاق الفرعية، وأحيانا في الأخلاق الرئيسية أيضا متى كان التعقل مسيطرا، وبالتالي تكون محركا للفعل؛ فالفخر خلق محرك، والحصول عليه غاية محركة أيضا، والشجاعة خلق محرك، وفوزها غاية محركة أيضا، وهلم جرا، فترى أن الغاية متى كانت محركا للفعل أيضا كان مجرى الفعل في دائرة. (2-2) التعقل كمحرك
المحرك التعقلي هو الذي يدل على الوسيلة المحمودة التي يجب أن تجري فيها حركة المحرك «الفعل» إلى الغاية المرغوبة التي تقيم الشعور برضى ذلك الخلق المحرك. ولما كانت أدبية الفعل منحصرة في وظيفة التعقل كان هذا المحرك التعقلي يتصرف في الفعل كما يشاء إذا لم يسبقه المحرك لإجراء الفعل؛ فقد يوافق المحرك أو قد يعدل حركته أو يخالفها، قد تثور شفقة المرء عند رؤيته شخصا فقيرا وتدفعه للإحسان عليه، ولكن المتعقل قد يقمع الشفقة ويقول لها: دعيه بلا إحسان لئلا يتعود الشحاذة. فهنا كان التعقل محركا للفعل، وهو قبض اليد عن الإحسان، وتوبيخ الشحاذ.
وقد يستقل التعقل وحده بتحريك الفعل، فيحرك الخلق، ويقيم له غاية مرغوبة عن نفسه؛ وحينئذ يكون عمله عقليا بحتا. (2-3) الظرف كمحرك
قد يعرض للمرء مثلا ظرف يستطيع فيه أن يخدم وطنه خدمة جليلة، فيفكر في أسلوب هذه الخدمة، ويثير في نفسه خلق فعل الخير والشهرة، ويقيم فيها تصور لذة هذا الفعل من الناحيتين: ناحية الضمير، وناحية حب الشهرة، فيكون في هذا الأمر مستقلا في تحريك الفعل وتدبر وسيلة إجرائه، كذلك قد يعرض للمرء ظرف يكون فيه زعيما مثلا، فيثير هذا الظرف في نفسه حب الزعامة وقد كانت نفسه قبلا غير طامعة فيها، ويقيم لها رغبة جديدة للحصول على الزعامة، أو قد يعرض له ظرف يكون فيه غنيا أو فنانا أو محسنا أو وجيها، فيثير في نفسه هذا الخلق، ويمرن الأمل على الحصول على هذه الغاية المرغوبة، فيكون هو في الأصل علة تحريك الفعل مستقلا فيها.
فمما تقدم ترى أننا لا نستطيع في معظم الأحوال أن نفصل بين الأخلاق والسجايا المحركة، وبين المرغوب والمتعقل، ولا أن نقصر قوة تحريك الأفعال على الأخلاق والسجايا وحدها.
الفصل الرابع
نامعلوم صفحہ