وبالعكس قد تريد من غير أن ترغب؛ فقد تريد أن تزاحم صديقك في مسترزق، وتزاحمه فعلا، مع أنك لا ترغب في منع الرزق عنه، ترغب أن تسافر إلى بلاد بعيدة لتتعلم في جامعتها، ولكنك لا تريد أن تسافر.
فمما تقدم من الأمثلة تفهم جيدا الفرق بين الرغبة والإرادة؛ فالرغبة مجردة عن الفعل، هي أخت الشهوة في الحيوان مجردة عن الإرادة، والإرادة هي الأمر بالعمل أو النهي عنه، فهي التي توافق الشهوة أو الخلق المحرك للفعل، وتأمر بالفعل، أو تخالفهما وتنهى عنه، أو تأمر بالفعل المخالف. (2) التصميم
مع ذلك لا تنبري الإرادة لمباشرة الفعل مستقلة هكذا وحدها؛ فهناك سلطة أعلى منها لا بد من تدخلها، هناك الفطنة أو الحكمة، فهي تصدر الحكم الذي تبلغه الإرادة للقوى الفاعلة، هناك قوة تقرير الفعل - وهو التصميم على الفعل - فقد تريد ولكنك لا تصمم التنفيذ، فلا تتم الإرادة؛ لأن التصميم مرتبط بالزمان المستقبل، فإن أردت وفعلت كان التصميم مقرونا بالإرادة، وإن أردت وسوفت بقي الفعل متوقفا على التصميم؛ فقد تريد أن تزور صديقك غدا، ولما جاء الغد بدت أحوال أخرى جعلتك في تردد ، فإذا لم ينبر التصميم فلا تحدث الزيارة، ولا تتم الإرادة.
فالإرادة النافذة هي ما اقترنت بالتصميم، أو أن التصميم هو شيء أكثر من الإرادة. قد تنوي «تريد» أن تسافر غدا باكرا، ولكن لما جاء الغد وجدت الطقس رديئا، فإذا لم ينبر التصميم فلا تتم إرادة السفر؛ فالإرادة بلا تصميم نية مؤجلة التنفيذ، والتصميم إرادة نافذة. فالإرادة ذات طرفين: النية والتصميم. (3) الظرف
والإرادة أو الرغبة ترافق الفعل إلى أن تبلغ به إلى الغاية، اللهم إذا بقي الظرف الذي نشأت فيه الرغبة على حالها ولم تتغير، فإذا تغيرت الرغبة تغير الفعل، وقد تتغير الغاية أيضا، وإمكان هذا التغيير يحدو بنا إلى البحث في الظرف وأحواله. (3-1) ما هو الظرف؟
كل رغبة خاصة بالظرف الذي تنشأ فيه؛ فإذا تغير الظرف لسبب من الأسباب فقدت الرغبة معناها أو تغيرت بكليتها. والظرف يختلف اختلافا كليا لاختلاف الطوارئ التي تغير محركات الفعل وبواعثه، ولاختلاف الرغبات والغايات.
لنفرض أنك تساوم شخصا على أمر فيه مصلحة لكليكما، وترغب أن تتفق معه على شروط العقد، وفيما أنت تناقشه ويناقشك بدرت منه عبارة أغضبتك فتستاء وتعدل عن الاتفاق. فودية المساومة ظرف لرغبتك في الاتفاق، فلما استأت من مناقشته تغير الظرف من المودة إلى المغاضبة، وتغيرت الرغبة والغاية. وهب أنك آنست في مناقشته تساهلا يطمعك بمصلحة أخرى أفضل من المصلحة التي ترمي إليها، فهذا التساهل من قبله غير ظرف المساومة وتغيرت معه رغبتك.
مثال آخر: هب أنك شرعت ببناء منزل في أرض لك لكي تسكن هذا المنزل، وفي أثناء ذلك جاءك من يشتري منك الأرض وما تم من البناء بثمن فيه ربح لك، فتبيعه لتشتري منزلا آخر أو أرضا أخرى. فهنا الظرف الثاني نقض الظرف الأول وغير الرغبة، وقد يغريك هذا الربح فتعدل بتاتا عن بناء منزل خاص بك، وتقرر أن تشتري وتبيع طمعا بالربح، فهنا تغير الظرف قضى إلى تغير الرغبة والغاية بتاتا.
مثال ثالث: كان التلميذ يدرس على نية أن يتخرج طبيبا، وفي أثناء ذلك مات أبوه أو أفلس ولم يعد يستطيع الإنفاق عليه، فعدل عن الدرس ونزل إلى مضمار العمل والاسترزاق، فالظرف الأول تغير بتغير حالة الأب، فتغيرت معه رغبة الابن وغايته وعمله.
فالظروف ليست تحت حكم الإنسان، بل هي كالرياح تجري بما لا تشتهي السفن؛ ولذلك تتغير ظروف الإنسان من حين إلى آخر، أو من عام إلى عام، أو من شهر إلى شهر، أو من يوم إلى يوم، أو من ساعة إلى ساعة. ويمكن إجمال هذا التغيير أو حصره في أحوال رئيسية نلم بها فيما يلي: (3-2) تغيرات الظرف الرئيسية
نامعلوم صفحہ