هذه الأخلاق النافرة تسبق التعقل في اليقظة، وتدفع العصب والعضل للعمل، لا تنتظر العقل أن يصدر حكما في الأمر أو حيلة لتجنب الخطر أو رفض المكروه، بل تبدو حالا إلى الدفع أو الصد أو الفرار؛ فالمشمئز يعجل في الصد أو التحايل، والغضوب يسرع إلى القتال، والخائف إلى الهرب، ولكن بعد قليل يبرز العقل لتدريب هذه الأفعال.
العليل ينفر في أول الأمر من تجرع الدواء إلى أن يحكم العقل بوجوب تجرعه حرصا على سلامة الجسد، والجمهور في مسرح يهرع إلى الخارج عند شبوب النار فيه قبل أن يحكم الوجدان بوجوب الخروج بتؤدة ونظام؛ لئلا تكون كارثة اندفاع الجمهور وبعضه يدوس بعضا أشر من كارثة الحريق، والمعتدى عليه يغضب إلى أن يحكم العقل بوجوب تلافي تفاقم الشر بالمعالجة والحيلة والحلم، أو بطريقة أخرى.
ترى مما تقدم أن للانفعالات النفسانية وظيفة الوقاية من الخطر والأذى، كما أن للغرائز الشهوانية وظيفة الحرص على البقاء الفردي والسلالي، وللعواطف وظيفة الحرص على الكيان الاجتماعي. (4-2) الانفعالات الفرعية - رد الفعل
رأيت فيما تقدم أن الانفعالات النفسانية تسبق التعقل، وتدفع المرء للفعل قبل أن يتولى العقل الأمر ويشرع بالتدبر، وكأن هذه الانفعالات غرائز، بل هي غرائز في الحيوانات العجماء؛ لأنها حادة فيها كما هي في الإنسان؛ فالقطة حالما ترى الكلب يزبئر صوفها وتنفخ وجلة، وإذا هاجمها غضبت، فإن آنست في نفسها القدرة على الدفاع وثبت عليه، والدجاجة كذلك إذا فاجأها الكلب أو ابن آوي «قاقت» وفرت، وإذا هجم على فراخها انقضت عليه تنقر عينيه.
أما الإنسان إذا خاف أو غضب لخطر أو لشر مفاجئ؛ فلا يلبث أن ينبري العقل للتدبر، وحينئذ تنبري أيضا الأخلاق الفرعية الثانوية لرد الفعل بأساليب مختلفة:
أولها: «الحنق» وهو التحفز لرد الشر بمثله أو بمساو له. والحانق يختلف عن الغاضب بأن عقله يشترك مع أفعاله في تدبر رد الفعل، فإن لم يستطعه عاجلا برد الغضب وذهب الحنق.
ثانيها: «الحقد» وهو أن يبقى الغضب محتدما، ولكنه يكون مكظوما. والحاقد يصر على رد الفعل متريثا إلى أن تسنح الفرصة للانتقام فلا يتردد فيه.
ثالثها: «الحذر» وهو تيقظ الانفعال لأي نذير بالخطر أو الأذى قبل مجيئه أو حدوثه، ففيه مثار للظنون والشكوك والإيجاس شرا؛ ولذلك يقال: «إن سوء الظن من حسن الفطن.» ولأنه سابق لأوانه يئول أحيانا إلى الوقوع في المحذور منه؛ لأنه إذا بدت آثاره أثارت الشك في المشكوك فيه، فيتفاعل الشكان المتقابلان.
وهو تيقظ الانفعال لأي نذير بالخطر أو الأذى قبل مجيئه أو حدوثه، ففيه مثار للظنون والشكوك والإيجاس شرا؛ ولذلك يقال: «إن سوء الظن من حسن الفطن.» ولأنه سابق لأوانه يئول أحيانا إلى الوقوع في المحذور منه؛ لأنه إذا بدت آثاره أثارت الشك في المشكوك فيه، فيتفاعل الشكان المتقابلان.
وتفصيل الإجمال: هو أن سوء الظن يحمل الظنان على تأويل أفعال الغير بغير ظواهرها، حتى إذا بدت منه بوادر سوء ظنه أثارت ظنون الغير وحدث الصدام بينها. ويئول سوء الظن أحيانا إلى سوء التفاهم الذي يسبب التخاصم. وكثيرا ما يتمادى سوء الظن إلى أن يبلغ الغدر؛ فالغدار يتعجل في أذى الغير قبل أن يتثبت من احتمال مجيء الأذى منه إليه، على أن الحذر العميق الذي لا ينم عن سوء الظن يكون أحيانا منقذا من الأذى والخطر. (4-3) مقومات الانفعالات
نامعلوم صفحہ