إهداء الكتاب
مقدمة
المؤلفات التي استمددت منها روح هذا الكتاب
تمهيد
الباب الأول: مجرى الفعل
1 - محركات الفعل
2 - الإرادة
3 - الغاية
4 - السرور
الباب الثاني: أدبية الفعل
1 - السلوك الحسن
2 - الحكم
3 - الضمير
4 - مستندات الضمير في قضائه
5 - القاعدة الأدبية
6 - الحرية
الباب الثالث: الحياة الأدبية
1 - معنى الحياة الأدبية
2 - النظام الاجتماعي
3 - الحقوق والواجبات الشخصية
4 - الواجبات
5 - الفضائل
6 - الرذائل
الباب الرابع: الرقي الأدبي
1 - سنن التطور الأدبية
2 - في سبيل الارتقاء الأدبي
إهداء الكتاب
مقدمة
المؤلفات التي استمددت منها روح هذا الكتاب
تمهيد
الباب الأول: مجرى الفعل
1 - محركات الفعل
2 - الإرادة
3 - الغاية
4 - السرور
الباب الثاني: أدبية الفعل
1 - السلوك الحسن
2 - الحكم
3 - الضمير
4 - مستندات الضمير في قضائه
5 - القاعدة الأدبية
6 - الحرية
الباب الثالث: الحياة الأدبية
1 - معنى الحياة الأدبية
2 - النظام الاجتماعي
3 - الحقوق والواجبات الشخصية
4 - الواجبات
5 - الفضائل
6 - الرذائل
الباب الرابع: الرقي الأدبي
1 - سنن التطور الأدبية
2 - في سبيل الارتقاء الأدبي
علم أدب النفس
علم أدب النفس
أوليات الفلسفة الأدبية
تأليف
نقولا حداد
إهداء الكتاب
إلى المثل الأعلى في أدب النفس صاحب السعادة الدكتور محمد باشا شاهين الطبيب الخاص لجلالة الملك ووكيل وزارة الداخلية للشئون الصحية.
رمز إعجاب وولاء وشكر.
صاحب السعادة الدكتور محمد باشا شاهين - الطبيب الخاص لجلالة الملك، ووكيل وزارة الداخلية للشئون الصحية.
مقدمة
إن ما لقيه كتابنا «علم الاجتماع» من إقبال القراء واستحسانهم شجعنا على أن نستمر بنشر سلسلة من المواضيع الاجتماعية التي تلم بحياتنا اليومية إلماما شديدا؛ لأننا نعتقد أننا بنشر أحدث الأفكار والآراء بهذه المواضيع نخدم نهضتنا العربية خدمة علمية، ولا سيما لأن لغتنا لا تزال خلوا منها. وقد وفقنا الله إلى أسلوب في الكتابة بسيط، سهل المأخذ، مهما كان الموضوع عويصا.
وقد أجلنا النظر فيما نعلمه من المواضع التي من هذا القبيل، والتي نخدم بها خدمة نافعة، فرأينا بعد صدور كتابي «الحب والزواج» و«ذكرا وأنثى خلقهم»، اللذين لا يخرجان عن دائرة المعارف الاجتماعية، أن أدب النفس هو حلقة نفيسة من حلقات هذا الموضوع، وأن حاجتنا إليه في عهد التجديد الحالي شديدة، وأن خدمتنا فيه للناشئة فعالة؛ لأن لغتنا خالية من هذا الموضوع على النمط العصري، وبالآراء الحديثة، ولكننا تهيبنا الخوض فيه لأنه موضوع عقلي عويص.
ولما كنت مقيما في بوسطن «في أمريكا» سنحت لي فرصة سعيدة للمطالعة، فوقعت يدي على كتاب نفيس بهذا الموضوع للعلامة مكنزي، وهو «متن في أدب النفس»، فطالعته وشاقني بحثه جدا لسمو مواضعيه؛ ولذلك تقدمت للخوض في هذا الموضوع، ولكن بضاعتي فيه قليلة جدا.
ولما عزمت في هذا العام على تقديم الكتاب بهذا الموضوع هدية لقراء مجلة السيدات والرجال، رأيت أن لا بد من درسه من جميع جهاته، واختيار أفضل المؤلفات فيه وأكثرها ملاءمة لغرضي من خدمة نهضتنا لكي أترجمه؛ فانتقيت المؤلفات المذكورة فيما يلي وطالعتها؛ فإذا بي أرى الموضوع كثير الشعاب، مترامي النواحي، وقد طرقه المؤلفون من جهات مختلفة، وتباعدت فيه أفكارهم وآراؤهم، وتضاربت فيه مذاهبهم أي تضارب، حتى كاد يتراءى لي أن كل مؤلف من مؤلفاتهم علم مستقل قائم بذاته.
وقد وجدت في أكثر هذه المؤلفات فصولا طوالا لنقد نظريات كبار الفلاسفة والمؤلفين فيه، وكتاب مرتينو الموسوع في نحو 1100 صفحة يقتصر نصفه الأول كله وبعض نصفه الثاني على النقد.
لذلك لم أجد أن ترجمة كتاب أو كتابين من أفضل الكتب بهذا الموضوع تفي بالغرض، ولم أر بدا من تأليف كتاب خاص يوافق عربيتنا وأحوال شرقنا أكثر من أي كتاب من هذه الكتب؛ بحيث تجمل فيه روح الموضوع، وخلاصة حقائقه، وزبدة آراء الكتاب المختلفين من قدماء ومتأخرين.
فاستخرت الله متكلا ومرشدا في هذا العمل الخطير الشأن، واستعنت بإلهام نيتي الخالصة؛ فتوفقت إلى هذا التأليف كما تراه بأبوابه وفصوله.
ولي الأمل الكبير أن يجده القارئ الكريم موازيا في قيمته لما عانيته في الدرس له وفي تأليفه، ووافيا بغرضي من خدمة الأمة العربية، وإلا فأسأل الله أن يقيض لهذا العلم الجليل من هو أطول باعا فيه، وأحد قريحة؛ فيملأ الفراغ الذي رغبت في ملئه. والله يوفقنا جميعا لحسن الخدمة الخالصة للشرق.
شبرا، مصر
20 / 7 / 1928
نقولا حداد
المؤلفات التي استمددت منها روح هذا الكتاب
(1)
MANUAL OF ETHICS, By John S. Mackenzie M.A.
Wales (2)
The ELEMENTS OF ETHICS, By John H.Muirhead L.L.D.
Birmingham. (3)
TOPICS OF ETHICAL THEORY, By James Martineau D. D, S.T.D, D.E.L.L.L.D.
Late Principal of Manchester New College. London. (4)
THE THEORY OF ETHICS, By Arthur Kenym Rogers. (5)
THE FACTS OF THE MORAL LIFE, By Wilhelm Wandt.
Leipzing. (6)
(7)
THE ETHICS OF PROGRESS, By Charles F. Dole.
تمهيد
ماهية علم أدب النفس
(1) تسمية الكتاب
هذا كتاب يبحث في سلوك الإنسان وتصرفاته من حيث الدوافع التي تدفعه إليها؛ من بواعث داخلية في نفسه، ومن عوامل خارجة عنه، ومن حيث أساليبها وغاياته منها، والذرائع التي يتذرع بها إلى هذه الغايات، ومن حيث تأثير إدارته الصالحة والرديئة، وتأثير أخلاقه وأحواله فيها، ومن حيث أدبياتها صوابا أو خطأ، وحقا أو غير حق، ومن حيث عواقبها على شخصيته من جهة، ومساسها بأشخاص آخرين أو المجتمع من جهة أخرى.
هذا هو موضوع الكتاب، وهو ما يسمى باللغات الأوروبية
Ethics ، وقد حرت في تسميته بلغتنا؛ لأني تحيرت في ترجمة هذه اللفظة.
ربما كانت عبارة «علم السلوك» تقاربها، ولكن عبارة «آداب السلوك» سبقتها في لغتنا الحديثة بمعنى الآداب العمومية؛ كآداب الزيارة، وآداب المائدة، وآداب المخاطبة إلخ، فأخشى أن استعمال عبارة «علم السلوك» يوهم أن المراد من الكتاب هذه الآداب العمومية، وهي غير مقصودة في هذا البحث بتاتا. وقد استعمل الكتاب الإفرنج لهذا الموضوع عبارة «الفلسفة الأدبية» أيضا، وهي لائقة له معظم اللياقة، ولكني أستكبرها لكتابي هذا، وإن كان المراد منه تعليل المواضيع التي تقدم ذكرها بأسلوب فلسفي؛ لأني أتوخى في أبحاثه البساطة ما أمكن؛ لكي يكون ككتاب ابتدائي يصلح للتعليم في المدارس، وكتمهيد لمؤلفات أعلى في هذا العلم إذا تصدى لها من هم أوسع علما، وأعمق تفكيرا، وأبلغ يراعا.
ولأن مباحث هذا العلم مختصة بالأفعال النفسانية من الوجهة الأدبية، رأيت أن أفضل تسمية لهذا الكتاب «علم أدب النفس»، ولا سيما لأن عبارة أدب النفس وردت على أقلام كتابنا القدماء والمحدثين بما يقارب هذا المعنى، فإذا قبلها أئمة اللغة مرادفة للفظة إثكس
Ethics ، وهي قريبة لها أيضا؛ شاع استعمالها بهذا المعنى ورسخت له. (2) علم أدب النفس بين العلوم
الشخصية الإنسانية هي جوهر مباحث هذا الكتاب، ولكن للشخصية الإنسانية جهات مختلفة، أهمها؛ أولا: الجهة الحيوية من حيث نشوء الإنسان وتدرجه في أدوار الحياة، وعلم الحياة «بيولوجيا» كفيل بهذا البحث، ومن حيث تسلسله وتطور السلالات، وعلما الأنثروبولوجيا والأثنولوجيا مختصان بهذا البحث، ثانيا: الوجهة العقلية من حيث نشوء العقل، وتفرع قواه المختلفة وأفعالها في تدريب الإنسان، وعلم النفس أو علم العقل خاص بهذه الجهة، وثالثا: الجهة الاجتماعية من حيث نسبة الفرد إلى الجماعة، وشأنه فيها، وتفاعله معها، وعلم الاجتماع مختص بهذه الجهة.
وموضوعنا الآن متوسط بين هذه العلوم الثلاثة الرئيسية: الحياة، والعقل، والاجتماع؛ فيتناول تارة من هذا، وأخرى من ذاك، كما أنه يمس علوما أخرى تصله بها. فلننظر الآن كيف يتصل علمنا هذا بالعلوم الأخرى. (2-1) علم الحياة
لعلم الحياة «بيولوجيا» وما يتصل به من علمي الفسيولوجيا «علم وظائف الأعضاء» والباثولوجيا «علم الأمراض» شأن في تصرفات الإنسان؛ فلنشوء الإنسان وتطوره وارتقائه تأثير كبير في تطور الأخلاق البشرية والأدبيات الإنسانية؛ لأن نواة الأخلاق والآداب تبتدئ في حياة الحيوانات، والغرائز الخلقية والأدبية ورث الإنسان جرثومتها من السلالة الحيوانية التي ترقى منها، وكلما اكتشفت حقيقة بيولوجية اكتشفت معها نظرية أدبية.
ولما كان للجهاز العصبي شأن عظيم في مزاج الإنسان وأخلاقه وإحساساته، كان لعلم وظائف الأعضاء «فسيولوجيا» دخل في حياة الإنسان الأدبية، وكذلك لعلم الأمراض العقلية صلة بهذا العلم؛ لما لها من التأثير في الحكم على تصرف الإنسان خطأ كان أو صوابا، وبالإجمال نقول: إن شروع الإنسان في الفعل أو العمل، وكيفية تصرفه فيه، وما له والحكم عليه، كل هذه ترجع في كثير من الأحوال إلى طبيعته الحيوية، وحالات جهازه العصبي، وقواه الجسمانية، وسلامتها أو اعتدالها. (2-2) علم العقل
ولعلم العقل اتصال بتصرف الإنسان أكثر من علم الحياة؛ لأن الوجدان والإرادة والتصور والذاكرة أو الحافظة والتخيل تلعب أهم الأدوار في السلوك، وهي من مباحث علم العقل. ناهيك عن الإحساسات والعواطف والانفعالات التي تحرك الإنسان للعمل إنما هي أفعال عقلية، والضمير الذي هو مركز القضاء في أفعال الإنسان والحكم عليها صوابا أو خطأ إنما هو قوة عقلية أيضا. وللمنطق المتفرع من علم العقل شأن أيضا في وزن الأفعال ومقايستها؛ فهو كما يرشد إلى سداد الفكر يرشد أيضا إلى سداد التصرف. فنحن في بحثنا عن الإرادة الحسنة، وعن العاطفة والانفعال، وعن القصد والغاية، إلى غير ذلك من مواضيع هذا العلم نلجأ إلى نظريات الفلسفة العقلية. (2-3) علم الاجتماع
ولا يخفى عليك أن الإنسان مرتبط حتما بالجماعة؛ فجميع تصرفاته تؤثر في الجماعة، كما أن تصرفات الجماعة تؤثر فيه، ولولا هذا الارتباط الاجتماعي لما كان لأدبيات الإنسان وأخلاقه معنى؛ فلو عاش منفردا لانتفت مسئوليته، ولا كان لحريته حد إلا الطبيعة، ولا كان لفعله قيد، ولا للخطأ والصواب والحق معنى إلا تجاه نفسه فقط؛ فلذلك ترى أن علم الاجتماع أشد ارتباطا بتصرفات الإنسان من العلمين السابقين: الحياة والعقل.
فالعائلة والجماعة والأمة تضع على المرء التزامات لا يكون مسئولا بها لو أمكنه أن يعيش منفردا، ثم إن احتكاك الأفراد الآخرين في جميع أعماله وأفعاله اليومية تثير نفسانياته العديدة، وثورتها تحركه للفعل. إذن للوسط الاجتماعي عمل عظيم في تحريك الإنسان للفعل والعمل. (2-4) العلوم الاجتماعية الأخرى
التاريخ:
للتاريخ بعض الشأن في هذا العلم؛ لأنه يمد الباحث الأدبي كما يمد الباحث الاجتماعي بأخبار الحوادث التي تقتبس كشواهد وأمثلة على الحقائق الأدبية. ويمكنك أن تستخرج من التاريخ كثيرا من المبادئ والسنن الأدبية التي تعد كقواعد يتمشى عليها.
علم الاقتصاد:
هذا العلم يرتكز في بعض مباحثه على القواعد الأدبية، وما الشئون الاقتصادية إلا أنواع من تصرفات البشر، وإذا تطوح علم الاقتصاد إلى المباحث الاشتراكية كانت قاعدته «أدبية الإنسان»، فالبحث في فائدة المال، وهل هي حق أو غير حق، وفي قوة المال، وهل هي منتجة أو غير منتجة، وفي قيمة العمل بالنسبة إلى المال، إلى غير ذلك من القضايا الاشتراكية. هذا البحث يستند على الفلسفة الأدبية.
علم السياسة:
كذلك هذا العلم الذي يعد كعلم الاقتصاد فرعا من علم الاجتماع، إذا توسع به يستند أيضا إلى الفلسفة الأدبية؛ لأن نواته العدالة بين الأمم والجماعات والأفراد. والعدالة من خصائص علم أدب النفس. وعلائق الأمم وحقوقها مستمدة من أحكام الفلسفة الأدبية.
الشرائع الأدبية والمدنية:
هذه أيضا مستمدة من أحكام الفلسفة الأدبية. ومهما تقلبت الشرائع وتطورت كان تقريرها مستندا إلى القضايا الأدبية؛ ففلسفتها إنما هي فلسفة أدبية بحتة. (2-5) فلسفة ما وراء الطبيعة
وإذا تمادى الباحث الأدبي في البحث عن علاقة أدبية الإنسان بالطبيعة، وعن تكون عواطفه وإحساساته وانفعالاته، تطرق إلى منزلة فكر الإنسان في حقيقة الوجود، وعن علاقة لذته وألمه بالوجود، وأخيرا عن حقيقة وجود الإنسان نفسه، وما هي نسبتها إلى الوجود العام، وما هي غاية الإنسان العظمى أو غاية وجوده، إلى غير ذلك من المباحث الفلسفية؛ فالتوغل في الفلسفة الأدبية يقود الفيلسوف إلى البحث فيما وراء الطبيعة
Metaphysics . (2-6) وجوه هذا العلم
وقد اختلفت مباحث العلماء في هذا العلم أكثر من اختلافهم في سواه، فطرقوه من جهات مختلفة حتى تباينت فيه أغراضهم، وتضاربت مباحثهم، وكثر فيه نقدهم. وقد تجد في بعض مؤلفاتهم فصولا للنقد والتفنيد أطول من فصولهم التعليمية. ومن ذلك أن لمرتينو كتابا يشغل نحو ألف صفحة أكثر من نصفه نقد وتفنيد لآراء العلماء ونظرياتهم. فكأن هذا العلم لم يستقر على قرار كسائر العلوم.
أما نحن فلا نتعرض لتضارب النظريات، ولتباين الآراء، وإنما نقتصر على البحث العلمي كما استوحيناه من الكتب التي طالعناها بهذا الموضوع، مستخرجين أسد الآراء، وأقرب النظريات إلى الصحة. (3) فحوى الكتاب وتبويبه
لا يتعرض هذا العلم لشخصية الإنسان والطبيعية بتاتا، وإنما موضوعه أفعال الإنسان الصادرة من شخصيته الاجتماعية التي ستتضح لك في فصول الكتاب، وحينئذ ترى أن مباحثه تدور حول أفعال الإنسان لا حول الإنسان نفسه. (3-1) مجرى الفعل
فلذلك نتتبع الفعل الإنساني مهما كان نوعه وشكله من ضحك أو بكاء، أو مشي أو نوم، أو حركة أو سعي أو عمل، وبالإجمال: كل تصرف من تصرفات الإنسان نتتبعه منذ نشوئه إلى أن ينتهي، ولا يخفى عليك أنه لا بد لكل فعل يفعله الإنسان من دافع يدفعه إليه؛ أي أن كل فعل يسبقه محرك يحركه.
فلذلك لا بد أن نلم بمحركات الأفعال من غرائز وعواطف وإحساسات وأهواء وشهوات ومقاصد إلخ. ولأن للإنسان إرادة، فأعماله مدارة بإرادته على الغالب؛ لذلك نبحث في الإرادة وما يتفرع منها من قصد وتصميم إلخ. وبالطبع لا بد لكل فعل من غاية يتجه إليها أيضا، ولا بد أن يكون مآل هذه الغاية السرور، وإلا فلا يريدها الإنسان ولا يوجه فعله إليها. وهذا يستلزم بحثا مستفيضا في السرور. ترى أن كل هذه المباحث تدور حول مجرى الفعل، وهو الباب الأول من الكتاب. (3-2) أدبية الفعل
وإذا تقدمنا خطوة في البحث، رأينا أن مجرى الفعل الإنساني يختلف عن مجرى الفعل الحيواني، بكونه مقترنا بالإرادة الأدبية؛ ولذلك نسميه: سلوكا، فالسلوك هو فعل يجري تحت سيطرة الإرادة والتعقل، ولا بد من قوة عقلية تحكم عليه وتقرر إن كان حسنا أو غير حسن. ولتقرير ذلك لا بد من البحث عن قاعدة أدبية يطبق عليها الفعل ليثبت أنه حسن؛ لذلك يشتمل البحث في أدبية الفعل «وهو الباب الثاني»: البحث في قوة الحكم والضمير، ومستندات الضمير، والقاعدة الأدبية، وأخيرا يفضي بنا الموضوع إلى البحث في الحرية وحدودها. (3-3) الحياة الأدبية
بعد استيفاء التبسط في سنن أدبية الفعل نعود إلى تطبيق الحياة الإنسانية على هذه السنن؛ لنتفهم معنى الحياة الأدبية والغاية القصوى منها، وحينئذ نفهم أن للإنسان شخصية اجتماعية أو أدبية أو إنسانية تختلف عن شخصيته الطبيعية، ناشئة من علاقته الوثيقة بالمجتمع، وأن للحياة غاية قصوى هي المثل الأعلى في الجودة التي هي جمال روحاني. وهذا يحدو بنا إلى التبسط بالنظام الاجتماعي وما يقتضيه من الحقوق والواجبات المتبادلة بين الأفراد والمجتمع، وإلى البحث في نشوء الشرائع وكيفية الاشتراع، وأخيرا يرتقي بنا البحث إلى الفضائل والرذائل، وماهيتها وطبيعتها، وما تستلزمه من ثواب وعقاب. فالحياة الأدبية تشغل الباب الثالث من الكتاب. (3-4) الرقي الأدبي
يبقى بعد ذلك أن نلتفت إلى عملية الحياة الأدبية ومجراها لنرى ما يعتورها من التطور والتغير والتحول. وهذا يستدعي البحث في سنن التطور الأدبى، ثم يحدو بنا الموضوع إلى استعراض التطورات الارتقائية التي مرت عليها الهيئة الاجتماعية من نشوئها إلى الآن، وما هي صائرة إليه في اتجاه رقيها إلى المثل الأعلى. وهذه المباحث تشغل الباب الرابع؛ وهو الرقي الأدبي.
الباب الأول
مجرى الفعل
الفصل الأول
محركات الفعل
(1) مقدمة الفصل - منشأ المحركات (1-1) المصدران الرئيسيان للحركة
قد يتراءى لك أن كل فعل من أفعالك يحدث بملء تعقلك؛ أي بإرشاد عقلك وتدبيره، والحقيقة أن لأخلاقك التأثير الأول في تدريب أفعالك. وهذا التأثير يكثر أو يقل بنسبة معكوسة لترويك، فكلما ترويت قل تأثير الأخلاق، وكثر تأثير العقل في توجيه الفعل أو إدارته، والعكس بالعكس.
مثل ذلك: يبكي الطفل فتتحرك عاطفة الحنو عند الأم، فإذا تسرعت ألقمته ثديها، ولكن إذا تروت قبل ذلك أو تدبرت نصح الطبيب، أو فكرت بمعلوماتها؛ لاح في خاطرها أن إرضاعه وهو مصاب بعلة معوية ضار له، فتمتنع عن إرضاعه؛ ففي حالة تسرعها الأولى يتغلب خلق الحنو على حكم العقل، وفي حالة تدبرها الثانية يتغلب التعقل على الحنو.
ومهما تروى الإنسان وتدبر وتعقل فلا ينتفي بتاتا تأثير أخلاقه في أفعاله؛ إذا رأيت ولدك يتخاصم مع ولد آخر، ثم تحققت نقطة الخصام، فهيهات أن يخلو حكمك على أيهما المحق أو المحقوق من تأثير العاطفة. (1-2) الشخصية الإنسانية الأدبية
فشخصية الإنسان الأدبية مركبة من عنصرين أساسيين، كل عنصر منهما قوة قائمة بذاتها، وحاصل فعل هذه الشخصية إنما هو نتيجة حركات هاتين القوتين؛ وهما: الخلق الفطري والتعقل، فالأول: ينشئ القوة الفاعلة، أو المصدرة المحركة، أو المحرك الأول، والثاني: يدربها؛ فلو ترك الخلق يفعل وحده لبقينا حيوانات غير أدبية، ولو ترك التعقل يفعل وحده لكنا وجدانات غير أدبية؛ فشخصية الإنسان الأدبية إذن مركبة من الخلق الفطري والتعقل. (1-3) الخلق
الخلق: هو كل ميل طبيعي في الإنسان يدفعه إلى الفعل والعمل، فمنه ما هو غريزي بحت قلما تكفيه التربية والعوامل الخارجية والبيئة الاجتماعية كالحب والنبضة التناسلية والجوع، ومنه ما هو شبه غريزي؛ أي هو فطرة طبيعية، وإنما للعوامل والبيئة تأثير فيه، كثيرا أو قليلا؛ كالشجاعة والجبن والإعجاب بالجمال إلخ.
فالأخلاق عموما خواص طبيعية في الإنسان تصدر من الجهاز العصبي، ولا سيما الدماغ، فهي من جملة قوى الوجدان، ولكنها غير خاضعة الخضوع المطلق لحكم الإرادة، ولا هي منقادة الانقياد التام للتعقل، فهي أول ما يبدو في مظاهر الإنسان حين تثيرها العوامل، ومتى بدرت انبرى العقل للسيطرة عليها، فقد يكبحها أو يدربها أو يؤيدها ويسندها، فكأنها قوى عقلية ثانوية. وكونها فطرية طبيعية لا يثلم نسبتها للعقل؛ لأن الوجدان الإنساني لا يخرج من دائرة الفطرة، فالإنسان عاقل متعقل بالفطرة، والعقل نفسه ابن الغريزة؛ أي هو غريزي، وقبوله للنمو وحذق المعرفة والتعلم هو أمر غريزي فيه أيضا. (1-4) الغريزة الحيوانية
ولا يمكننا أن ننتهي من مقدمة هذا الفصل ما لم نفسر معنى الغريزة ونعللها تعليلا يسهل تفهم الأخلاق، وشأنها في تحريك الأفعال. فإذا ألفتنا نظر القارئ مثلا إلى قرص الشهد الذي يبنيه النحل خليات كلها سداسية الأضلاع متصلة بعضها ببعض اتصالا محكما، ولا يمكن أن يخطئ في واحدة، وعلم أن النحلة لا تتعلم هذا البنيان علما، ولا تقتبسه اقتباسا، بل هو طبيعة فطرية تبعثها فيها على العمل من غير تفكير، يفهم حينئذ ما هي الغريزة بأوسع معنى. وقس على ذلك بناء النحلة للشهد، نسج الفراشة للفليجة «الشرنقة»، وبناء العصفور للعش، ونسج الرتيلاء للشبكة، وخزن النمل الحبوب في أهراء تحتفرها تحت الثرى، ومهاجرة الطيور من أوروبا إلى أفريقيا فوق البحر المتوسط في الفصل المعين إلخ.
فهذه الحشرات والحيوانات تفعل هذه الأفعال بقوة ميل طبيعي في بنية أجسامها، كما أنها تنشأ وتنمو إلى أن تنضج في الشكل الذي يعين لنوعها بقوة هذا الميل؛ فالطير يتجنح، والدودة تتحول إلى فراشة، والوعل «يتقرن»؛ أي ينبت قرناه متشعبين إلخ، بقوة هذا الميل الذي في طبيعة بنيته الخاصة.
فالغريزة إنما هي وليدة هذا الميل الذي بطبيعة الحي، وهذا الميل نتيجة فعل البيئة التي حددت للحي شكل بنيته؛ فجعلت للطير جناحين، وللسمكة زعانف، وجردت الحية من قوائمها إلخ. إذن هذا الميل قابل للتغير بتغير البيئة، وبالنتيجة تتغير الغريزة بتغير هذا الميل الطبيعي. والبيئة هي الماء للسمكة، والهواء للطير، وبطن الأرض للحية والنملة، وسطح الأرض للزحافة، وهلم جرا.
ولما كان فعل البيئة لا يؤثر تأثيره الدائم في جيل أو أجيال معدودة، بل في أجيال لا يحصى عددها، كان لا بد من أن ينتقل هذا الميل الذي في طبيعة الحي من جيل إلى جيل رويدا رويدا. وهذا الانتقال هو الوراثة الطبيعية.
فالغريزة إذن هي ميل محتوم في طبيعة كل حي إلى فعل معين الشكل لا بد منه، ونتيجة عامل البيئة وسنة الوراثة.
فإذا كان للحيوان شيء من العقلية كانت عقليته نفسها، مهما كانت ناضجة، ضربا من ضروب الغريزة أيضا، ونتيجة العوامل البيئية أيضا؛ كبناء الطير للعش، ومغازلة الطيور ومهاجرتها، ووثب الغزلان في حالة اللهو والمرح، ودعابة سائر الحيوانات ذكورا وإناثا. (1-5) الغريزة الإنسانية
والإنسان - وهو السلالة الراقية من الحيوان - قد ورث كثيرا من غرائز الحيوان؛ فهو يغازل ويحب، ويخاف ويهرب تجنبا للخطر، ويغضب ويضرب دفعا للأذى، ويعطف ويحنو على وليده إلخ، بحكم هذه الغريزة. ولكن لأن عقليته ارتقت جدا حتى صارت القسم الأعلى من شخصيته؛ قبضت على أزمة غرائزه الأخرى لتدربها إلى مصلحته ونفعه ولذته، وبالإجمال إلى حفظ حياته وحفظ نوعه. ومع ذلك، لم تخرج عقليته خروجا مطلقا عن الدائرة الغريزية؛ فهو يتعلم أن يتكلم ويتأنق في أكله وشربه ولبسه وتصرفه، ويتعلم القراءة، ويتلقى جميع المعارف؛ لأن فيه استعدادا للتعلم؛ فهذا الاستعداد غريزة خاصة به ليست في الحيوان الأعجم، ولولا هذه الغريزة لبقي حيوانا.
فكل غريزة خاصة في الإنسان دون الحيوان، أو هي أرقى فيه منها في الحيوان؛ كالحب، والتعجب من الأمر المجهول، والإجلال للأمر العظيم إلخ، كانت في الأصل عادة اقتضتها العوامل البيئية من جهة، والعوامل الاجتماعية من جهة أخرى. والعادة متى تكررت وانتقلت من جيل إلى جيل أصبحت بعد عديد الأجيال غريزة. (1-6) الأخلاق
الأخلاق البشرية: إنما هي مجموعة غرائز بعضها ورثها الإنسان من الحيوان، ولكنها ترقت فيه وتأنقت، وبعضها كسبها على مرور القرون بفعل العوامل الاجتماعية، فترقت وتأنقت بترقي عقليته، فسميناها أخلاقا تمييزا لها عن غرائز الحيوان التي لا تزال وحشية مقصورة على مطالب الحياة المعدودة.
وسبب ذلك هو أن الأخلاق الإنسانية أول ما ينبري لتحريك المرء للعمل؛ لأنها أسبق من العقل، وهي أول ما ينبض في الإنسان حين يتأثر من مؤثر داخلي كالجوع والنبضة التناسلية ، أو من مؤثر خارجي كالخطر، أو المستهجن، أو المدهش، أو المعجب، أو العظيم، ثم لا يلبث أن ينبري الوجدان العاقل أو العقل لتدبر التأثر، وتدريب الفعل.
ونحن في خوض هذا الموضوع نبحث في السنن الأدبية التي تتقيد بها الأخلاق بحكم الحياة الاجتماعية، نبحث في القواعد والأنظمة التي تتمشى عليها الأخلاق، وتتدرب فيها الأفعال التي تحركها الأخلاق.
الأخلاق طوائف مختلفة، بعضها رئيسية قلما تختلف في الأشخاص، فهي فيهم بعينها، وإنما تختلف في حدتها ومقدار تأثيرها، وبعضها ثانوية تتفرع من تلك، أو تتصل بها، أو تنتسب إليها.
أما الرئيسية فهي الأخلاق الأساسية التي تتصدر لتحريك الإنسان للعمل حين يحدث ما يثيرها، وتسبق التعقل، وهي أربع: (1)
الغرائز الرئيسية. (2)
العواطف. (3)
الانفعالات. (4)
الإحساسات.
وأما الثانوية فهي الأخلاق المتفرعة الرئيسية، والتي تبدو بعدها لتحريك المرء للفعل، ويغلب أن يصحبها التعقل، كما ستراها في مواضعها في هذا الفصل. (2) الغرائز (2-1) الغرائز الرئيسية
هي أميال أو قوى فطرية في الإنسان ضرورية لانفعال الجسد اللازمة لحياته ولبقائه وبقاء سلالته، تصدر من معمل الحياة الداخلية من غير أن تحركها أو تثيرها العوامل الخارجية؛ ولذلك يمكنك أن تسميها نوابض الحياة أو نعرات الطبيعة الحيوانية، وهي ثلاث:
الأولى: «الجوع أو الشهوة للغذاء» الجوع دافع من الداخل لطلب الطعام أو السعي إليه، يتحرك من نفسه من غير أن يوجد الطعام ليحركه، فالدافع فطري أو غريزي؛ لأن القوة الحيوانية تقتضيه لنمو الفرد وبقائه إلى أجل، وليس للعقل سلطان مطلق عليه يمكن أن يكبحه أو يردعه إلى حد محدود؛ ولذلك قيل: «الجوع كافر.» وإذا ردعته الإرادة إلى حد الموت - كما صام مكسويني الأرلندي في سجنه إلى أن مات - كان هذا الردع نتيجة قوة خلق آخر تغلبت عليه؛ كحنق مكسويني الشديد على الحكم الإنكليزي الذي سجنه بلا حق، في يقينه.
فالحنق تغلب على الجوع. وهو أمر شاذ نادر؛ فسعي الإنسان إلى الرزق، بل إلى أطايب العيش وأناقته ونعيم الحياة إنما هو مدين في الدرجة الأولى إلى هذا الدافع. الإنسان يسعى إلى ملء بطنه طعاما، فإذا بقيت عنده فضلة من القوة للسعي إلى الرزق؛ بذلها في السعي إلى طيب العيش وملذاته.
الثانية: «الشهوة الجنسية أو التناسلية» وهي كالأولى دافع داخلي غريزي ينبض من نفسه، أو بالأحرى من القوة الحيوية، وإنما يختلف عن النابض الأول بأن غايته استمرار السلالة أو بقاء النوع - كما يقول علماء البيولوجيا - لإبقاء الفرد. وهو يضارع الجوع في تمرده على التعقل والإرادة، وإنما تمرده المطلق لا يفضي إلى موت الفرد، بل إلى انقطاع خيط السلالة عند ذلك الفرد. وبقوة هذا الدافع يجتذب الفرد فردا آخر مخالفا له في الجنسية النسلية. وجميع مساعي الأفراد في الحصول على هذه الجاذبية مدينة لهذه الغريزة؛ فالفرد يبذل مجهودا في التجمل وجميع ضروب الاستقواء، من جمع مال والتوصل إلى الجاه والنفوذ؛ لكي يجتذب إليه قرينا أو قرينة.
1
الثالثة: «العزيمة أو القوة الذاتية التي تحرك أعصاب الجسم وعضلاته للعمل» هي قوة مدخرة في الجهازين العصبي والعضلي نازعة إلى الخروج منهما بأية السبل؛ فالمرء يشعر من نفسه بالميل إلى الحركة والفعل حتى ولو كان ساكن العقل أو قليله أو مختله. تتضح هذه القوة جيدا في الطفل وهو خلو من الوجدان، فلا يكاد يمل الحركة؛ لأن فيه قوة ميالة للظهور.
ونحن لا نفطن لهذه القوة لأننا نراها دائما مؤتمرة بأمر العقل، فننسب تحريكها للعقل. والحقيقة أنها صادرة من نفس المبدأ الحيوي، كما نراها في الطفل، وإنما للعقل سيطرة عليها فيدربها حسب المشيئة. فالحركة خاصة من خواص المبدأ الحيوي؛ ولذلك نراها في الأحياء الدنيا كما نراها في الحيوانات العليا والإنسان. هي خاصة حتمية للحياة، والسكون نذير بالموت؛ لذلك تعد هذه القوة في مقدمة الغرائز وهي أعظمهن وأقواهن، ومنبثة في جميع الجوارح، وهي تدفع الحي للحركة في السعي والعمل.
2 (2-2) تناسب هذه الغرائز
الشهوتان الأوليان عضويتان؛ أي أنهما تختصان بأعضاء معينة لهما، والثالثة شائعة في جميع الأعضاء، وهي تنجز العمل الذي تدفع إليه تانك الشهوتان.
هذه النوابض والأميال الثلاثة تعمل بواسطة الجهازين العصبي والعضلي، والأولان منهما قلما يخضعان لحكم الوجدان، والثالث كثير الخضوع له.
قلنا فيما تقدم: إن الغريزة الأولى تدفع المرء للسعي إلى الرزق مستعينة بالغريزة الثالثة. ولا يخفى عليك أن رزق الإنسان أوسع دائرة من رزق الحيوان الأعجم؛ فالحيوان لا يسعى إلى أكثر من ملء جوفه طعاما إلى حد الشبع، وما يبقى عنده من قوة العزم لا ينفقه في السعي إلى طعام آخر قبل أن يجوع، بل ينفقه في المغازلة وطلب القرين، ثم في اللهو واللعب.
وأما الإنسان فلا يكتفي برزق اليوم؛ بل يسعى لرزق الغد، ولا يقنع بالرزق البسيط؛ بل يسعى إلى العيش الأنيق، وحالته الاجتماعية وسعت أمامه دائرة الأناقة في المعيشة توسيعا عظيما جدا؛ بحيث أصبحت كفايته من الطعام نقطة في بحر هذه الدائرة، فهو يسعى إلى لذات المعيشة بدعوى الحاجة إلى الطعام.
ثم إن غريزته التناسلية دفعته إلى طلب القرين، وحالته الاجتماعية وسعت أمامه دائرة السعي توسيعا آخر أعظم، فاضطر أن يكدح لكي يرضي شهوة البطن وشهوة الأناقة والتجمل أيضا؛ لذلك تتفرع من الغريزتين الأوليين طوائف أخرى من الأخلاق نحصرها في ثلاث: (1) الرغائب. (2) المطامع. (3) الأدبيات النفسانية الذاتية. (2-3) الرغائب
الرغبة: نزعة نفسانية إلى أمر ترجى منه منفعة سارة، كما لو رغبت في أن تكون ذا شهرة أو ثروة، أو أن تكون بارعا في فن كالشعر أو الموسيقى، أو أن ترتفع إلى درجة الأعيان أو إلى غير ذلك. وتنشأ هذه الرغبة من تأثير العوامل الاجتماعية، والاحتكاك بالأشخاص، وتقلب الأحوال الشخصية. وهي تندرج في ثلاث درجات:
الأولى: «التمني» وهو شوق للحصول على الرغبة مع شعور بالعجز عن الوصول إليها، إما لضعف في الشخص، كما لو تمنى أن يكون زعيما وما فيه شيء من صفات الزعامة، أو لبعدها عنه، كما لو تمنى أن يكون ملكا وما هو بولي عهد، أو لاستحالتها، كما يتمنى الولد أن يكون ذا جناحين ليطير.
فإذا آنس المرء من نفسه مقدرة على نيل الرغبة، كما لو رام الزعامة وهو في ظروف وصفات تؤهله لها، كان تمنيه رجاء. والرجاء يدفعه إلى السعي والعمل.
الثانية: «الأمل» وهو أرقى من الرجاء، ويقرب المرء إلى رغيبته خطوة؛ لأن الأمل يتضمن الثقة بالنفس وأرجحية الحصول على الرغيبة، وينشئ الجد والمثابرة. وهاتان مع الثقة بالنفس من جملة الأخلاق الفرعية التي يختلف فيها الناس. ومتى قوي الرجاء ابتدأت اللذة بتصور الحصول على الرغيبة.
الثالثة: «الطموح» وهو تعاظم الأمل إلى حد تصور الظفر بالحصول على الأمنية، وعنده يندفع المرء في العمل؛ إذ يصبح الحصول على الأمنية أكيدا في يقين المرء. وقد تتجلى له الرغيبة على قيد باع منه. وقد يتصورها أعظم مما ترجى وتمنى. وربما تمادى في طلب رغيبة أعلى من رغيبته التي أمل فيها، وهنا تشتد لذته بتصور الحصول عليها.
وقد يقترن الطموح بالحزم، وهو تعقل الأمر وأخذه بالحكمة، والعزم، وهو الإصرار على العمل بإقدام. والحزم والعزم خلقان فرعيان آخران يختلف فيهما الناس.
ولا بد أن ينتهي الطموح بأحد أمرين: إما أن يحصل المرء على أمنيته، وهناك تنتهي لذته؛ إذ يتجدد عنده أمل آخر برغيبة أخرى وراء الرغيبة التي اتجه إليها أولا، وثمة يتجدد سعيه وعمله؛ إذ ينتقل من حال إلى أخرى، أو أن يفشل ويخيب أملا؛ فيرتد إلى حاله الأولى، فإن بقي عنده في أثناء الخيبة شيء من الرجاء والأمل، حول أمله إلى الرغيبة في طريق آخر، وإلا استولى عليه اليأس، وهو خلق آخر فرعي، واليأس يقعده عن العمل. (2-4) المطامع
المطمع: نزعة في النفس إلى الاستقواء توسلا بالقوة إلى الظفر بالأماني الآيلة إلى التمتع باللذة. ولا يخفى أن قوة المرء مهما عظمت محدودة، ولكن المطماع يحاول بأية الوسائل أن يضم إلى قوته الشخصية ما يمكنه استمداده من قوى الوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه؛ مستعينا بذكائه أو دهائه أو قوة شخصيته الممتازة؛ كالهيبة وقوة الإرادة والثبات والإصرار.
وينشأ الطمع في النفس من جراء الثقة بقوة الشخصية وتوسع الأحوال الاجتماعية التي تفسح السبيل للسعي إلى الأمر المطموع به. والناس متمايزون بالشخصيات؛ ولذلك يتفاوتون بالمطامع تبعا لهذا التمايز؛ فأقواهم شخصية أقدرهم على الأخذ من قوى المحيط وإضافتها إلى قوته، وأضعفهم أكثرهم تعرضا لخسران شيء من قواه. والمطامع أربعة أضرب:
الأول : «المال» فالمال أو الثروة على اختلاف صورها أو أنواعها إنما هي قوة عظمى؛ لأنها حاصل عمل العاملين، فما حصل دينار أو أي متاع أو أي حاصل إنتاج إلا بذل لقاءه تعب وجهاد في عمل، ولكن النظام الحالي الانفرادي أو الفردي لا يخول لكل عامل أن يتمتع بكل حاصل عمله، بل هو يفسح السبيل لذوي الشخصيات القوية الطامعين أن يختلسوا شيئا من حاصل أعمال العاملين، ويستأثروا بها ويستغلوها لتمتعهم؛ لذلك ترى الناس فريقين: فريقا يعمل، وفريقا آخر يستغل عمل غيره. وقد يكون الشخص الواحد من الفريقين معا؛ فيستغل من عمل غيره، وغيره يستغل من استغلاله، وهكذا تمول المليوني وافتقر العامل.
والتمول يستلزم أن يكون الشخص المطماع من عشاق المال، فيسعى بقوة هذا العشق أو الشوق إلى المال للحصول عليه بأية الوسائل. والمليوني جمع أموالا بحذقه وذكائه ودهائه واغتنامه الفرص في حلبة التنازع لقطف الثمار من أتعاب المجتمع. وهكذا أضاف إلى قوته قوة كبيرة من قوى الجماعة، وبهذه القوة المالية يستطيع أن يشتري كثيرا من الأماني ليتمتع بلذاتها. وحبه للمال يدفعه إلى السعي والاحتيال للحصول عليه.
الثاني: «الجاه أو الوجاهة» وهو أن يكون المرء في منزلة سامية بين جماعته أو قومه، وهذه المنزلة تكسبه اعتبار الجماعة وتجمعها حوله لخدمة مآربه. وهو يحصل على الجاه بتفوق شخصيته؛ إما لذكائه ودهائه، أو لغناه، أو لحسبه التالد الموروث، أو لبطولته وعبقريته، إلى غير ذلك من المزايا التي يمتاز بها على الآخرين.
وبهذه المزايا الشخصية يسيطر سيطرة أدبية على جماعته أو قومه أو حزبه، ويجمعهم تحت إمرته؛ فيكون نافذ الكلمة فيهم، فكأنه بهذه المزايا يضم إلى قوته الشخصية قوى الجماعة التي تحف حوله. وهو لقاء هذه القوة التي يستمدها منهم يحمي مصالحهم، ويسبب نفعهم.
يفعل ذلك بالقوة العظمى المتضمنة فيه، والتي استمدها من قواهم؛ فكأن قوة الجماعة تجمعت فيه وتكتلت، وهو القابض على أعنتها يستخدمها حسب مشيئته، وله القسط الأوفر من الانتفاع بها. فزعيم الجماعة أو رئيس الحزب أو شيخ القبيلة الذي إذا استنفر قومه هبوا للأخذ بناصره ومعاضدته هو الوجيه. فالجاه قوة نافذة أو نفوذ، والمطماع بالجاه يدفعه مطمعه هذا إلى السعي والعمل.
الثالث: «السلطة» وهي تعلو على الجاه وتشمله أيضا، وتختلف عنه أو تزيد عليه بأنها قوة شرعية مستمدة من قوة الجماعة، ومؤيدة بالدستور أو القانون أو العرف على الأقل؛ كقوة الحاكم والوزير أو أي موظف ذي سلطة آمرة وناهية. يحصل عليها المرء بأهليته الشخصية غالبا، ولا سيما في هذا العصر النظامي، وأحيانا يحصل عليها بجاهه أو بماله، ويمكنه أن ينتفع بها كثيرا لشخصه، وتقدره على الحصول على كثير من الأماني للتمتع بها. فحسب السلطة قوة تحرك الإنسان للسعي إليها.
الرابع: «الشهرة» وهي أن يكون المرء معروفا بين قومه أو بين سواه من الناس بمزية قل الحاصلون عليها. والشهرة بحد ذاتها لذة للشهير، فضلا عن أنها كثيرا ما تكون ذريعة للاستقواء والانتفاع إلى أماني مختلفة. يحصل عليها المرء باستعمال مواهبه ومزاولتها بالثبات والإصرار والمثابرة.
من هذا القبيل شهرة الفنان؛ كالموسيقي، والمغني، والشاعر، والمصور، والممثل، والخطيب؛ لأن مضمار الشهرة هو على الغالب الفنون الجميلة التي تجتذب الجمهور إلى الفنان، وكل حرفة تتصل بالجمال؛ فالفنان يطمع بالشهرة لما فيها من الفخر من جهة، والفخر لذة، ولما فيها من الانتفاع من جهة أخرى؛ لأنها قوة يتذرع بها إلى الأماني.
ترى أن هذه الطائفة من الأخلاق الفرعية تبتدئ حيث يستفحل الطموح؛ فهي درجة أعلى من الرغائب. (2-5) الأدبيات النفسانية الذاتية
يقترن بالأخلاق التي نحن بصددها طائفة من الأخلاق الفرعية، فتصاحبها أو تمتزج بها وتتركب معها، وهي أدبيات نفسانية تصدر من داخل الشخصية، وقلما تمس الآخرين أو تستلزم الاحتكاك بهم. هي خاصة بالشخص نفسه، وعواقبها تقع عليه وحده، حسنة كانت أو رديئة، وهي ثلاث:
أولا: «القناعة» وهي الرضى أو الاكتفاء بما تيسر من الخير أو النفع، أو كل ما فيه لذة وتمتع. هي خلة الأشخاص القليلي المطامع، القصيري الطموح، حتى وإن كانوا ذوي قوة وأهلية. وربما كان القانع يشعر بالغبطة كالطماع أو الطامح، وقد يكون أكثر غبطة منهما لأنه لا يجاهد كثيرا ولا يجازف أو يغامر، وإنما يبقى متخلفا في حلبة السباق، ربما كان قصير النظر لا يرى الأماني البعيدة، أو يراها كالسراب، أو يراها ودونها خرط القتاد؛ فلا يطمح إليها.
ثانيا: «الاعتدال، والمراد به هنا التوسط بين طرفي القناعة والشراهة» وهي أن لا يرضى المرء بما حصل أو تيسر، بل يطمح إلى ما يجد في نفسه القدرة للحصول عليه ولو بجهاد، ولكن يزن بين مطمعه ومقدرته، فإن كانا متوازنين متعادلين أقدم ورضي بما يمكنه الحصول عليه، وإلا أحجم. يتمادى في طلب الخير لنفسه ما دام قادرا على نيله، فمتى بلغ إلى حد العجز اكتفى بما حصل، وكان راضيا مغتبطا؛ فهو يجاهد ولكنه لا يغامر ولا يجازف ولا يخاطر.
ثالثا: «الشراهة» وهي تجاوز حد الاعتدال، وهي الطرف الثاني المناقض للقناعة. تدفع المرء إلى ما فوق طاقته؛ فيجاهد ويقضي العمر مجاهدا على غير رضى بحال من الأحوال، ولا يغتبط؛ لأن نفسه لا تشبع؛ لذلك تكثر المخاطرة عند الشره، فيكون بين جانبي الفوز أو الفشل يقوم تارة ويقع أخرى.
الأول: لا يجاهد إلا فيما لا بد منه للحصول على شيء من التمتع، والثاني: يجاهد محاذرا على قدر طاقته وهو راض بما يتيسر، والثالث: يجاهد جهادا عنيفا غير راض. (3) العواطف
العاطفة: قوة فينا جاذبة لنا إلى غيرنا تتحرك فينا عند وجود هذا الغير؛ فهي تختلف عن الطائفة السابقة من الأخلاق التي تنبض من أنفسنا من غير محرك خارجي، تتحرك فينا العاطفة بتؤدة تبعا لإرشاد العقل، وتكون في وجداننا شكلا عقليا خاصا بها حتى تكاد تعد قوة من قوانا العقلية.
قلنا: إنها قوة جاذبة، فهي جاذبية بين متشابهين أو طبيعتين من صنف واحد؛ الواحدة جاذبة من الخارج، والأخرى مجذوبة من الداخل؛ فهي على حد قول الشاعر: «شبيه الشكل منجذب إليه.» هذه القوة تستحضر في ذهننا مجمل اختيارنا، أو صورة شخصيتنا، أو الشبيه المرسوم في مخيلتنا. وهي خمس رئيسية: (3-1) العواطف الرئيسية
الأولى: «العاطفة الوالدية أو الحنو الوالدي» فالأب «أو الأم» يعطف على ابنه أولا: لأنه يرى فيه صورة جوهره - جوهر منه، ولكنه مستقل عنه - وثانيا: لأنه يمثل استمرار جوهره؛ جوهر منه قائم بذاته، ولكنه متوقف في وجوده ونموه عليه. فهذه العاطفة تمثل في ذهن العاطف ذاتيته: فلو فرض أن أبا «وأما» شك أو عرف أن هذا الولد ليس ابنه؛ فهذه العاطفة تتلاشى، وقد تتحول إلى شفقة، وربما تلاشت الشفقة أو تحولت إلى إعراض، وقد يتحول الإعراض إلى نفور فحقد. هذه العاطفة غريزة مفهومة السبب عند الإنسان العاقل، ومجهولة عند الحيوان غير العاقل.
هذه العاطفة تعد جاذبية؛ لأن الولد جاذب، والوالدين منجذبان، وهي ترادف الحنو، ولكنها تتضمن معنى الحب أيضا. الحنو عند الوالدين عظيم كالحب، والحب بين الزوجين أعظم من الحنو.
بقوة هذه العاطفة تعكف الأم على حضانة ولدها، ويكدح الأب حرصا على أولاد الأسرة.
الثانية: «عائلية» وهي نوعان: بنوية وأخوية، فالنوع الأول: هو رد فعل العطف الوالدي بمثله، كرد الصدى، فالولد ينعطف إلى أبويه لأنه يجد ريا لشهواته من نتائج حنوهما، ومتى صار يفهم الحياة يعلم أنهما سبب وجوده، ويرى فيهما مثلا لنفسه أيضا، والنوع الثاني: هو التعاطف المتبادل بين الإخوة اقتباسا من تعاطف الوالدين والبنين؛ فالولد حين يرى أن أبويه يعطفان على أخيه وأخته يحاكيهما في هذه العاطفة. ولعطف الأخ على الأخ رجع صدى أيضا للأسباب المتقدمة. ويمتد هذا التعاطف من بين الإخوة إلى ما بين أبناء الأعمام والخالات إلى جميع أعضاء الأسرة بنفس الأسباب المتقدمة؛ فالتجاذب متبادل بين أعضاء الأسرة، وكل منهم جاذب ومنجذب.
الثالثة: «اجتماعية» وهي أن يعطف الإنسان على مشابهيه؛ أي سائر قومه، لأنهم مماثلون بل مساوون له في الشخصية. فما هم حيوانات أحط منه ليترفع عليهم، ولا هم آلهة أرفع منه ليتهيبهم، بل هم مرآته يرى فيهم مجمل شخصيته.
هذا الضرب من العواطف والنزعة الاجتماعية التي تأصلت في الإنسان وصارت طبيعة أو غريزة فيه متفاعلان على الدوام؛ أي إن هذه العاطفة تقوي في الإنسان النزعة الاجتماعية، والنزعة الاجتماعية تقويها. تظهر هذه العاطفة أقل حدة من العاطفة الوالدية، ولكنها ليست أقل منها قيمة؛ لأن الإنسان يذعن بحكمها إلى التضامن والتعاون، ويخضع للقوانين والشرائع والأنظمة الاجتماعية وأحكام السلطة المسيطرة، واثقا أنه يشاطر الجماعة المنفعة والتمتع المشتركين بين أفراد الجماعة، ويفهم أن منفعته ولذته متوقفتان على منفعة الجماعة ولذتها؛ فالعائلة والجماعة متوازنتان قيمة تجاه العاطفة، وإن اختلفت هذه العاطفة تجاههما.
الرابعة: «وطنية» وهي عطف الفرد على مجموع الأمة أو الشعب أو القوم بصفة كونه جسما واحدا هو عضو فيه. وتختلف هذه العاطفة الوطنية عن العاطفة الاجتماعية بكون هذه بين فرد وفرد، وتلك بين فرد وكتلة الجماعة؛ فالمرء يشعر بقوة هذه العاطفة أنه مدين بكيانه وسعادته إلى وجود الجسم الاجتماعي، فإذا كان هذا الجسم متكتلا ملتحما جيدا كانت هذه العاطفة شديدة؛ قد تدفع المرء إلى التضحية لأجل الوطن.
الخامسة: «الشفقة، وهي مبالغة في العاطفة الاجتماعية» هي عاطفة إنسانية أوسع من العاطفة الوطنية، لا ينظر فيها إلى القومية ولا إلى القرابة بل إلى الإنسانية، فيتحرك عطفنا على أي شخص حين نشعر بألمه أو تعسه أو شقائه أو مظلوميته حتى ولو كنا نحن سببها، اللهم إذا كانت لنا نفس راقية في الإنسانية، ولنا طباع دمثة وقلب طاهر. تتحرك فينا هذه العاطفة لأننا نتصور أنفسنا في مكان المتألم أو التعس أو المظلوم أو المصاب بمصيبة. وهذه العاطفة تدفعنا إلى إنقاذه أو إسعافه أو مساعدته في أمره.
ويمكن أن تعد هذه العاطفة في جملة الانفعالات النفسانية التي سنتبسط فيها في الحرف التالي؛ لأنها تكون أحيانا انفعالا نفسانيا من أمر مكروه، بدل أن يثير فينا الخوف أو الغضب يثير الشفقة.
وبالإجمال نقول: إن العواطف أخلاق منجذبة نابضة من داخل النفس كالأميال الغريزية، ولكنها تختلف عنها بأنها لا تنبض إلا عند مؤثر خارجي، وتختلف عن الانفعالات النفسانية التي هي طائفة أخلاق دافعة لا جاذبة كما سترى. (3-2) العاطفة تجاه النفس - التجرد النفساني
للمرء عواطف ثانوية تتفرع من العواطف الرئيسية، فمنها ما يتجه نحو نفسه، ومنها ما يتجه نحو غيره، فالأولى نسميها التجرد النفساني؛ وهي أن يجرد المرء من نفسه شخصية نفسانية خاصة يستقل تصورها له عن ذاتيته العمومية. يجرد من شخصه شخصا آخر عقليا يرفعه أو يحطه حسب ما تفعل فيه العوامل الخارجية؛ فهي عاطفة منه نحو نفسه. وهي ثلاثة أنواع:
الأولى: «عزة النفس أو الشمم أو الكبر» خلق نفساني يستقل به عن الآخرين، كأنه أمر لا يعنيهم، بل يهم نفسه فقط، فلا يكلف الآخرين أن يفعلوه له؛ ولكنه يروم أن يعرفوه فيه، ويود أن يعترفوا له به، يبتغي أن يكون عزيز النفس في خلوته كما يبتغي هذا في حضرة غيره. بهذا الخلق يتنزه عن الدنايا، ويأنف ارتكاب الآثام، ويأبى أن يحط نفسه إلى من هم أدنى منه، أو أن يذلها إلى غيره.
والكبرياء: هي تطرف في الكبر والأنفة إلى حد الاستعلاء على الآخرين واحتقارهم. بها يتعدى المرء من نفسه إلى غيره؛ فهي نقيض العاطفة الذاتية. هي خلق متفرع من هذا الفرع.
الثانية: «احترام النفس» وهو أن يكون الكبر أو الشمم أو الأنفة مساويا لقيمة المرء الشخصية، ومقدرتها على الاحتفاظ بالمنزلة التي وضعها فيها. بهذه العاطفة الشخصية يصون المرء مقامه، ويتحامى أن يتطاول إليه شخص آخر.
الثالثة: «الغرور» وهو أن يكون الكبر أكثر من قيمة المرء الشخصية ومقدرته على الاحتفاظ بمنزلتها، فيرغب في أن يضع نفسه في منزلة أعلى من منزلته، ولكن الآخرين لا يعترفون له بها، بل يستهجنون ادعاءه إياها.
وهنا منشأ الحسد؛ وهو تغيظ المرء من إنكار الآخرين عليه المنزلة التي يتوخاها. والحسد عاطفة فرعية لهذا الفرع أيضا.
الرابعة: «الضعة» وهي أن يضع المرء نفسه في منزلة دون المنزلة التي يستطيع البلوغ إليها. فالمتزلف والدني الغرض والمتذبذب إنما هم حقيرون؛ لأنهم ينزلون أنفسهم عن منزلة احترام النفس، وعن الأنفة والإباء.
التواضع - غير الضعة - وهو احترام المرء منزلة الغير مع حرصه على منزلته؛ بحيث يبقى الغير محترميها مهما بالغ هو في التواضع. والوضيع هو غير المتسفل، عنده احترام لنفسه، ولكنه وضيع بالنسبة إلى من هو أرفع منه. (3-3) العاطفة تجاه الآخرين - الأدبيات المتعدية
الأخلاق الآنفة لازمة غير متعدية؛ أي إنها لا تتجاوز نفسية المرء. وأما العواطف الفرعية، التي نحن بصددها الآن، فمتعدية؛ أي إنها تصدر من المرء نحو الآخرين. وهي ثلاث:
الأولى: «الكرم» وهو أن تفيض النفس الإنسانية في المرء خيرا للآخرين، فيجود بقوة خيرية منه حبا بالإنسانية، غير ملزم بهذا الجود، وإنما هو ملزم به أدبيا واجتماعيا بحكم الإنسانية وسنة التضامن الاجتماعي؛ فالخير الذي يفعله أو الجميل الذي يصنعه إنما هو قوة يبذلها منه مجانا: كالعطاء مالا أو أي شيء ذي قيمة، أو كالمروءة في نجدة، أو إسعاف، أو غوث، أو إنقاذ، أو تسامح، أو مغفرة، أو تساهل. كل هذا كرم خلق، أو خلق كريم.
الثانية: «البخل، وهو عكس الكرم» إذ يحرم البخيل الغير حقا إنسانيا ويمنعه عنهم، كما لو رأى غريقا ولم يخلصه وهو قادر على تخليصه، أو كما لو تقدم إليه محتاج شديد الحاجة ولم يلب حاجته وهو قادر.
الثالثة: «الطمع» وهو الطرف الأخير المضاد للكرم، إذ لا يقتصر المرء على حرمان الآخرين الحق الإنساني، بل يبتغي هضم حقوقهم الشرعية أيضا، واتخاذها لنفسه، والاستئثار بما لا حق له به؛ فالطماع يتحين الفرص لاختلاس حق الضعيف الذي لا يستطيع رده عنه.
رد فعل العاطفة
للعاطفة نحو الآخرين فعل يرتد للعاطف؛ لأنها فعل صادر منه وواقع على الغير، فلا بد أن يرتد هذا الفعل إليه في صور مختلفة حسب جبلة الشخص الذي وقع عليه فعل عطف العاطف؛ كوقوع أشعة النور على شبح ملون، فيرد الأشعة أو تخترقه ملونة بلونه. ولما كانت جبلات الناس أو طباعهم مختلفة الألوان «مجازا»؛ كان ارتداد العطف عنهم ملونا بألوان طباعهم. وهي تنحصر في ثلاثة:
أولا: «الشكر» فإذا كانت جبلة المرء المعطوف عليه طيبة صالحة ردت فعل العاطف شكرا. والشاكر يكافئ الفعل الخيري أو الجميل إما بفعل آخر يساويه، إن كان قادرا على المكافأة، وربما كافأه بأعظم إذا كان عزيز النفس، أو يكافئه بثناء وباعتراف بالجميل إذا كان عاجزا عن المكافأة بالمثل.
يقترن بالشكر: الصدق، والأمانة، والإخلاص، وحسن الظن، وسلامة النية.
ثانيا: «الكنود» وهو عكس الشكر ، وإنكار للجميل أو تغاض عنه، أو تجاهله والتعامي عنه. فهو لا يصدر إلا عن جبلة رديئة قاتمة اللون.
ثالثا: «الخيانة» وهي لا تقتصر على إنكار الجميل، بل هي مكافأة الخير بالشر عمدا. تصدر من جبلة سوداء شريرة ترد الأبيض الطاهر أسود قذرا. والخائن خبيث الطبع لئيم، ميال للغدر مجانا، يتحين الفرص لاقتناص ذوي الجبلات الطيبة السليمي النية. فالغدر والخيانة عاطفتان جاذبتان لا منجذبتان، عاطفتان لحب النفس دون غيرها. في الذات تلتقي نتائج أفعالهما.
الغالب: أن يكون أحد هذه الطباع الثلاثة التي نحن بصددها ملازما للشخص الواحد كل حياته، ولكن بعض الناس يشذون أحيانا عن طبعهم هذا لعوامل وقتية تؤثر فيهم، وربما تعدل الطبع جيدا أو رديئا في أدواره المختلفة السن لتأثير التربية والأحوال الاجتماعية. (4) الانفعالات النفسانية (4-1) النوافر الرئيسية
الانفعالات النفسانية تختلف عن الغرائز النابضة بتاتا، بأنها لا تصدر كقوات داخلية من تلقاء نفسها كأمر حتمي لا بد من صدوره لحاجة في النفس، وإنما هي تصدر عند وجود أمر خارجي مثير للخلق، أو مخالف لميل النفس فيحركها. وهي تشترك مع العواطف بكونها مثلها تصدر عند وجود محرك خارجي، ولكنها تختلف عنها بأنها دافعة لا جاذبة، فلك أن تسميها: نوافر دافعية لا جاذبية، أو عواطف سلبية لا إيجابية. وهي ثلاث:
الأولى: «الكراهة تجاه الأمر الذي لا يروق لنا بحال من الأحوال» كأن يخالف رغبتنا فنصد عنه، أو ينافي ذوقنا فنشمئز منه، كما لو اجتمعنا بثقيل أو ثرثار أو مهزار، أو كما لو قرأنا شعرا تافها، أو رأينا رسما نافرا، أو شاهدنا شخصا يذبح فرخة، أو لامسنا وساخة.
الثانية: «الغضب تجاه الأمر الذي أضرنا أو آذانا أو أساء إلينا» كما لو اعتدى معتد على شرفنا أو حقنا، أو أهاننا أو جرح عواطفنا إلى غير ذلك. كل هذا يثير غضبنا ويحملنا على دفع الأذى والشر عنا بكل ما عندنا من قوة. والغضب يضاعف القوة: فالغاضب يستطيع أن يفعل أكثر جدا مما يفعله الحليم؛ لأنه في ساعة الغضب تثور كل قواه وتجتمع متعاونة للدفاع.
الثالثة : «الخوف تجاه الخطر أو الأمر الذي يهددنا بأذى» كما لو أقبل علينا العدو أو فوجئنا بمصيبة؛ ففي بدء الأمر يبدو فينا الميل إلى الهرب، فإن كان الهرب مستحيلا عمدنا إلى تحامي الخطر بالحيلة، فإن استحالت هذه أيضا نشطنا إلى الدفاع.
هذه الأخلاق النافرة تسبق التعقل في اليقظة، وتدفع العصب والعضل للعمل، لا تنتظر العقل أن يصدر حكما في الأمر أو حيلة لتجنب الخطر أو رفض المكروه، بل تبدو حالا إلى الدفع أو الصد أو الفرار؛ فالمشمئز يعجل في الصد أو التحايل، والغضوب يسرع إلى القتال، والخائف إلى الهرب، ولكن بعد قليل يبرز العقل لتدريب هذه الأفعال.
العليل ينفر في أول الأمر من تجرع الدواء إلى أن يحكم العقل بوجوب تجرعه حرصا على سلامة الجسد، والجمهور في مسرح يهرع إلى الخارج عند شبوب النار فيه قبل أن يحكم الوجدان بوجوب الخروج بتؤدة ونظام؛ لئلا تكون كارثة اندفاع الجمهور وبعضه يدوس بعضا أشر من كارثة الحريق، والمعتدى عليه يغضب إلى أن يحكم العقل بوجوب تلافي تفاقم الشر بالمعالجة والحيلة والحلم، أو بطريقة أخرى.
ترى مما تقدم أن للانفعالات النفسانية وظيفة الوقاية من الخطر والأذى، كما أن للغرائز الشهوانية وظيفة الحرص على البقاء الفردي والسلالي، وللعواطف وظيفة الحرص على الكيان الاجتماعي. (4-2) الانفعالات الفرعية - رد الفعل
رأيت فيما تقدم أن الانفعالات النفسانية تسبق التعقل، وتدفع المرء للفعل قبل أن يتولى العقل الأمر ويشرع بالتدبر، وكأن هذه الانفعالات غرائز، بل هي غرائز في الحيوانات العجماء؛ لأنها حادة فيها كما هي في الإنسان؛ فالقطة حالما ترى الكلب يزبئر صوفها وتنفخ وجلة، وإذا هاجمها غضبت، فإن آنست في نفسها القدرة على الدفاع وثبت عليه، والدجاجة كذلك إذا فاجأها الكلب أو ابن آوي «قاقت» وفرت، وإذا هجم على فراخها انقضت عليه تنقر عينيه.
أما الإنسان إذا خاف أو غضب لخطر أو لشر مفاجئ؛ فلا يلبث أن ينبري العقل للتدبر، وحينئذ تنبري أيضا الأخلاق الفرعية الثانوية لرد الفعل بأساليب مختلفة:
أولها: «الحنق» وهو التحفز لرد الشر بمثله أو بمساو له. والحانق يختلف عن الغاضب بأن عقله يشترك مع أفعاله في تدبر رد الفعل، فإن لم يستطعه عاجلا برد الغضب وذهب الحنق.
ثانيها: «الحقد» وهو أن يبقى الغضب محتدما، ولكنه يكون مكظوما. والحاقد يصر على رد الفعل متريثا إلى أن تسنح الفرصة للانتقام فلا يتردد فيه.
ثالثها: «الحذر» وهو تيقظ الانفعال لأي نذير بالخطر أو الأذى قبل مجيئه أو حدوثه، ففيه مثار للظنون والشكوك والإيجاس شرا؛ ولذلك يقال: «إن سوء الظن من حسن الفطن.» ولأنه سابق لأوانه يئول أحيانا إلى الوقوع في المحذور منه؛ لأنه إذا بدت آثاره أثارت الشك في المشكوك فيه، فيتفاعل الشكان المتقابلان.
وهو تيقظ الانفعال لأي نذير بالخطر أو الأذى قبل مجيئه أو حدوثه، ففيه مثار للظنون والشكوك والإيجاس شرا؛ ولذلك يقال: «إن سوء الظن من حسن الفطن.» ولأنه سابق لأوانه يئول أحيانا إلى الوقوع في المحذور منه؛ لأنه إذا بدت آثاره أثارت الشك في المشكوك فيه، فيتفاعل الشكان المتقابلان.
وتفصيل الإجمال: هو أن سوء الظن يحمل الظنان على تأويل أفعال الغير بغير ظواهرها، حتى إذا بدت منه بوادر سوء ظنه أثارت ظنون الغير وحدث الصدام بينها. ويئول سوء الظن أحيانا إلى سوء التفاهم الذي يسبب التخاصم. وكثيرا ما يتمادى سوء الظن إلى أن يبلغ الغدر؛ فالغدار يتعجل في أذى الغير قبل أن يتثبت من احتمال مجيء الأذى منه إليه، على أن الحذر العميق الذي لا ينم عن سوء الظن يكون أحيانا منقذا من الأذى والخطر. (4-3) مقومات الانفعالات
متى انبرى العقل لتدريب الفعل الذي يحركه الانفعال النفساني استثار أخلاقا فطرية ثانوية أخرى لتقويم الانفعال، ولرد الفعل، بقوة تتراوح بين الشدة والضعف، وهي تتولى حينئذ أمر الفعل المردود بتدبر العقل وإرشاده على قدر ما يستطيع العقل السيطرة عليها؛ فقد يسيطر قليلا أو كثيرا، أو لا يستطيع السيطرة بتاتا؛ وإنما ينتدبها انتدابا للفعل. وهي:
أولا: «الشجاعة» وهي الجرأة على قدر ما تحتمل القدرة والإقدام على الفعل. فالشجاع لا يهاب الأخطار والصعوبات، ينشط للعمل بملء قواه العقلية والجسدية. وتقترن الهيبة بالشجاعة، وهي خاصة عقلية تظهر في ملامح الوجه والسحنة عموما. فبهذا الخلق القوي يستطيع إنسان أن يروض الأسد؛ وبنظرة منه يرده عنه إذا ضرى، وبمثل هذه النظرة يؤثر على خصمه ويوهمه أنه أقوى منه، وبهذه النظرة ونحوها من المظاهر الشجاعية يتفوق شخص على آخر، ويحمله على مهابته.
ثانيا: «التهور» وهو تطرف في الشجاعة أكثر ما تحتمله القدرة. هو شجاعة مقرونة بالطيش والرعونة غرورا بالمقدرة؛ ولهذا قلما يسلم المتهور من الوقوع في الخطر.
ثالثا: «الجبن» وهو الطرف الآخر من جانب الشجاعة، عكس التهور. يرتد الجبان عن الخطر أو درء الأذى بالرغم مما فيه من القدرة على الإقدام؛ ولذلك يلجأ إلى الحيلة، وإذا كان دنيئا نذلا استعان بالصفات الرديئة كالكذب والرياء والمواربة والخبث. (5) الإحساسات (5-1) الشعور
الإحساسات طائفة من الأخلاق انفعالية كالثالثة؛ ولكنها ليست دافعة مثلها، ولا هي جاذبة كالأولى «الشهوات»؛ بل هي منجذبة كالثانية «العواطف»، وإنما تختلف عنها بأنها انفعال بأمور عليا، وانجذاب إليها من غير اندغام بها، بل بتمتع بتأثيراتها. هي شعور بأمور أو أشياء أو حوادث أو شخصيات أعظم أو أعلى من تصوراتنا، وغريبة عن اختبارنا. وهي ثلاث:
الأولى: «التعجب» وهو شعورنا بغرابة شيء أو أمر نجهل سببه؛ كما لو سمع الطفل أو الهمجي الفونوغراف لأول مرة وهو لا يعلم سره، أو كما لو رأى السائح الشرقي جسر بروكلن قبل أن يعلم عنه شيئا؛ فيتعجب لكيفية بنائه. فهذا الشعور انفعال نفساني من سر مجهول، ولا يزول هذا العجب إلا متى فهم السبب؛ لذلك نقضي حياتنا ونحن نتعجب من أسرار الكون إلى أن نفهمها، كذلك نتعجب إذا قيل لنا: إن فلانا أثرى ونحن نعرفه فقيرا، وإن فلانا صار بطلا ونحن نعرفه صعلوكا، ونتعجب إذا أنبئنا بأي حادث مخالف للمألوف؛ كما لو قيل لنا: إن جزيرة جديدة ظهرت في البحر، أو جزيرة غاصت فيه.
تختلف الدهشة عن التعجب بأنها تحدث لمفاجأة أمر غير منتظر، وإن كان مفهوما أمره؛ كما لو أشرف ابن البر على البحر لأول مرة فيندهش لعظمته، أو كما لو أقبل ابن السهل على الجبل.
الثانية: «الاستحسان» وهو الانفعال بالجميل؛ كرؤية الربيع في الجبال المتعالية، وكرؤية الزخارف المصطنعة، وكسمع الموسيقى، وشم الرياحين. وسر هذا الاستحسان فيما يؤثره الجميل في الأجهزة العصبية فتهتز اهتزازا متساوقا ينتقل إلى المراكز الدماغية، فتهتز مثله اهتزازا نظاميا مطابقا لما تأهبت له بفعل الوراثة وتعودته. ويناقض الاستحسان الاستهجان للقبيح؛ لأنه يؤثر في الأجهزة العصبية؛ فيحدث فيها اهتزازات مضطربة غير نظامية، وينتقل هذا الاهتزاز إلى المراكز الدماغية فتضطرب له؛ لأنه مخالف لنظام اهتزازها الوراثي فتمجه وتنفر منه.
وقد يتلاشى الاستحسان قبل التعجب؛ لأن النفس تمل على التمادي نوعا من الجمال، وتتوق إلى نوع آخر، ولكن العقل لا يمل الطموح إلى استطلاع سر الأمر العجيب.
الثالث: «الإجلال» وهو رد الانفعال بالأمر العظيم؛ كالقوة والفخامة والسمو إلخ. بهذا الشعور نعبد الخالق، ونجل الملك والقائد والحاكم والزعيم، ونبجل الكريم، ونحترم الأديب، ونكرم النابغ إلخ.
وبالإجمال يقال: إن التعجب يحملنا على استقصاء السبب، والاستحسان يتجه بنا إلى الجميل، والإجلال يرتفع بنا إلى الصلاح. (5-2) المحبة
يتفرع من هذه الإحساسات، ولا سيما الشعور الثاني؛ أي الاستحسان، إحساسات أخرى تحرك بعض عواطفنا وتعظمها وتفخمها حتى تفوق على الرئيسية منها. وهي ثلاث درجات:
الأولى: «الميل» فما نستحسنه من الجمال نميل إليه ونرغب في التمتع به ما استطعنا إليه سبيلا، فنميل إلى سكنى الأرياف والجبال للتمتع بمناظر الطبيعة، ونميل إلى عشرة الخلان للذة فيها، ونميل إلى سكنى المدن لوفرة أطايب العيشة فيها، ونميل إلى قراءة الروايات لفكاهتها إلخ. ويقتصر الميل على الأمور التي لا تستلزم مشقة للحصول عليها، فكأننا نبتغي الحصول عليها مجانا، فإذا كانت تكلفنا مشقة استغنينا عنها.
الثانية: «الود» فإذا اشتد الميل إلى حد أن نكلف أنفسنا عناء للحصول على الجميل صار ودا، والود يدفعنا إلى طلب الجميل وبذل الجهد للحصول عليه، فإذا لم يتيسر لنا أن نسكن في وسط جمال الطبيعة لنتمتع بمناظرها الربيعية أنشأنا الحديقة، أو أنفقنا المال لأجل النزهة في المتنزهات، وإذا لم يتيسر لنا سمع الموسيقى في البيت دفعنا ثمن جواز الدخول إلى المغنى «مكان الغناء»، وإذا لم يأت إلينا العشير مشينا إليه.
الميل والود يقتصران على نيل الجميل الحاصل، ولكن إذا كان الجمال الذي نتوخاه المثل الأعلى الذي لا يدرك كان توخينا هذا حبا. وهو أعلى درجات المحبة، وهو أبلغ إحساساتنا الانفعالية التي تتجاوز حد الاستحسان مدى بعيدا جدا.
الثالثة: «الحب» وهو أعظم شعور فينا يستغرق معظم عواطفنا ويدمجها فيه، بل يعظم العاطفة تعظيما، يرتفع بها إلى أسمى درجات الخيال. الحب يجمع فيه معظم الأخلاق الجيدة التي مرت بك.
ولقد علمت فيما تقدم أن جرثومته الأولى في الغريزة الشهوانية التي ذكرناها في الحرف الأول، ولكن الإنسان الذي تعددت أخلاقه - كما علمت - وتطورت وترقت إلى أن بلغت حد الإحساس بالأمور العليا؛ كالمعجب والمدهش والجميل والجليل، نمت فيه جرثومة حبه تلك حتى تجاوزت الشهوة الغريزية إلى الشعور النفساني بالمثل الأعلى من الجمال.
فالحب الذي نحن بصدده يتجاوز الغريزة الجسمانية إلى الهوى الشعري، والمحب يتعشق المثل الأعلى من الجمال.
الحب روحاني، والشهوة جسدانية، وبينهما ما بين الروح والجسد من الفرق.
وبقدر ما لهذا الشعور - الحب - من العظمة والقوة في نفس الإنسان له التأثير الأعظم في حياته، وله العمل الأقوى في دفعه للفعل، فيكاد يكون أعظم عامل في تصرفات الإنسان، وإليه يعزى معظم مساعيه وأعماله؛ فهو لا يعمل لأجل شهوته الجسدية والتناسلية عشر معشار ما يعمله لأجل حبه للجمال. (5-3) إجمال
ومجمل القول في طوائف الأخلاق الأربع الرئيسية وفروعها أن الأخلاق الغريزية تدفعنا من أنفسنا إلى هنا وهنالك إلى أن نصيب شبعا للشهوة، والعواطف تجمعنا بالأشياء الموافقة لطبيعتنا، والانفعالات تبعد بيننا وبين الأمور المخالفة لطبيعتنا، والإحساسات ترتقي بأرواحنا إلى أعلى درجة في الجمال والصلاح.
هذا ما استطعنا تبويبه وتفصيله من الأخلاق بأسلوب منطقي، وهناك أخلاق فرعية غير ما ذكرنا تتفرع من الفروع لا يمكن حصرها؛ لتعددها وتدخلها في فروع أخرى، واندماجها فيها، ولاتصالها في صفوف الفضائل والرذائل. وفي وسع القارئ اللبيب أن ينسبها للطائفة التي تنتسب إليها. (5-4) تركب الأخلاق
ولا يخفى عليك أنه ما من فعل من أفعال الإنسان يقتصر على محرك واحد من الأخلاق المحركة، بل يشترك في تحريكه خلقان أو أخلاق على الغالب؛ فالساعي إلى المال مثلا يندفع إليه بالود والطموح والبخل والطمع، والمدافع عن نفسه يندفع بالغضب والشجاعة والحقد، والساعي إلى الزعامة يندفع بالأمل والكرم والشمم والشجاعة والمثابرة إلخ.
فالإنسان مجموعة أخلاق، وأخلاقه قوات متوافقة أحيانا، وأحيانا متضاربة يتغلب بعضها على بعض، وحاصل عمله إنما هو نتيجة فعل هذه القوى المتوافقة والمتضاربة، كما أن المركب الشراعي يسير بحاصل أفعال مجرى النهر وهبوب الريح وحركة الدفة والمجذاف.
الفصل الثاني
الإرادة
(1) إرادة الفعل أو الفعل المراد
علمت فيما تقدم العوامل الأولى التي تحرك المرء وتدفعه إلى الفعل، وعلمت أيضا أن هذه العوامل المحركة متى دفعته إلى الفعل لا يلبث العقل أن ينبري لتدريب الفعل نفسه، فقد انتهينا فيما تقدم من بيان الأخلاق والسجايا المحركة، والآن نبتدئ في بيان القوى العقلية المدربة؛ فرغنا من محدثات الحركة، وجئنا إلى الحركة نفسها؛ جئنا إلى الفعل نفسه. ومجرى الفعل أو سلسلة حوادثه هي التي نسميها السلوك، فالتصرف هو مجموعة الحوادث المرادة التي يجري فيها الفعل أو الحركة التي أحدثتها المحركات؛ فالغضب هو المحرك، والاندفاع في القتال بحكم الإرادة هو التصرف. (1-1) ما هي الإرادة؟
يحدث التصرف أو السلوك بإدارة الإرادة في ظرف معين إلى غاية معينة، ولكل من التصرف والإرادة والظرف والغاية وجوه مختلفة باختلاف المحرك، واختلاف نسبتها بعضها إلى بعض؛ ولذلك يتعين علينا أن نسهب في بيان حقيقة كل من هذه الأمور ووجوهها.
أما التصرف أو السلوك فهو المجرى النسبي بين العوامل والمعمولات، بين المحركات والغاية، هو ما وافق المحرك والمدرب من جهة واحدة، وما وافق الغاية من جهة أخرى. والآن نشرع في بيان أحوال الإرادة المدربة المتصرفة.
سلسلة الحاجة والشهوة والرغبة
إذا توسعنا بمعنى الإرادة أطلقناها على الرغبة أيضا، ولكننا لا نستطيع أن نطلقها هذا الإطلاق في الأحياء الدنيا على غير الإنسان؛ لأنها غير موجودة فيها بالمعنى العقلي الذي نفهمه؛ ولذلك نفصل بينها وبين الرغبة . حتى الرغبة نفسها غير موجودة في الحيوان كما هي في الإنسان، فإذا توسعنا بها أطلقناها على الشهوة الموجودة في الحيوان.
فالشهوة موجودة في الإنسان والحيوان، والرغبة غير موجودة في الحيوان إلا كشهوة ضعيفة. وأما الإرادة فمقصورة على الإنسان، والشهوة نفسها غير موجودة في الأحياء السفلى كالديدان والهوام والمكروبات والنباتات، وإنما توجد في هذه الأحياء الحاجة؛ ولذلك يتعين علينا أن نبين ماهية هذه المذكورات: الإرادة والرغبة والشهوة والحاجة، ونسبتها بعضها إلى بعض.
الحاجة
تغلغل جذور النبات ونمو أصلها في الأرض، وتفرخ فروعها في الهواء، واتجاه أوراقها إلى نور الشمس، كل هذه صادرة بحكم الحاجة إلى الغذاء، فلا يصح القول: إنها فعلت كذلك بحكم الشهوة، وكذلك المكروب والدودة لم يطوفا في الرطوبة ويمتصا الغذاء بفعل الشهوة، بل بفعل الحاجة وبمقتضى النزعة الطبيعية فيهما.
أما الحاجة المجردة من الشهوة في الإنسان والحيوانات العليا فمقصورة على ما ترمي إليه الأفعال الحتمية؛ كالتنفس والنبض والتثاؤب والنوم ونحو ذلك. فالحاجة إذن مجردة عن الإرادة.
الشهوة
وأما الحيوان الحساس فذو شهوة للطعام، وذو شهوة تناسلية، وكلتاهما تدفعانه للأكل والمزاوجة، ولكنه لا يفعل ذلك متعقلا كالإنسان؛ أي إنه لا يفعل بإرشاد عقل، بل بإرشاد الغريزة. وإن كان في الحيوانات العليا شيء من العقل المرشد، فهي لا تدرك أنها تفعل بتعقل كما يدرك الإنسان.
الرغبة
أما الإنسان فيفعل فعله بحث الرغبة أو الشهوة إذا شئت أن تقول، ليس بنزعة عمياء إلى غاية معينة، بل هو يميل للفعل ويفعل تحت سيطرة الوجدان، يفعل وهو عارف أنه يفعل وماذا يفعل؛ فهو إذا طلب الطعام يفهم أنه يطلبه. والحيوان إذا سعى إلى الطعام فقد يفهم الطعام، ولكنه لا يعقل أنه فاهم، والنباتة تتجه إلى الشمس ولا تدري أنها اتجهت إليها؛ فهي محتاجة إلى نور الشمس، وفي طبيعتها ما يميلها إليه.
فالحيوان مشته للطعام، والإنسان راغب فيه، الحيوان يشتهي الطعام حين يجوع، وتهيج شهوته له حين يحضر لديه، ومتى كان شبعانا لا يفهم معنى الجوع ولا يشتهي الطعام. وأما الإنسان فسواء كان جائعا أو شبعان، وسواء كان الطعام حاضرا أو غائبا، فهو راغب في السعي إلى الطعام لادخاره إلى حين الجوع؛ لأنه يفهم الجوع ولو كان شبعان، ويفهم الطعام ولو كان غائبا عنه؛ ولذلك يرغب وإن لم يكن محتاجا في الحال.
الرغبة لأجل اللذة
أظن أنه قد اتضح لك جيدا الفرق بين شهوة الحيوان ورغبة الإنسان. بقي أن تفهم أيضا الفرق بين الرغبة والشهوة في الإنسان وحده، فلا يخفى عليك أن أعظم عنصر في الوجدان - أي إدراك الإنسان أنه مدرك - أو بعبارة أخرى في التعقل، هو الشعور باللذة والألم؛ فالإنسان لا يطلب الطعام لأجل الطعام نفسه، بل لأجل ما يشعر به من اللذة في الشبع.
فهو يدرك معنى اللذة كما يدرك معنى الطعام: فحين يشتهي الطعام يقصد اللذة، وحين يمتنع عن الطعام لغرض يفهم أنه يعاني ألم الجوع، ولكنه يدرك أن غرضه من الصوم يفضي به إلى لذة أعظم من لذة الشبع. فالشهوة ترمي إلى اللذة المباشرة، والرغبة ترمي إلى اللذة البعيدة والمباشرة أيضا.
الرغبة في الأمر الحسن
فالرغبة في شيء لا ترمي فقط إلى التمتع بذلك الشيء، بل إلى ما يؤدي إليه من اللذة إذا لم يكن هو بنفسه لذيذا. وما يؤدي إلى لذة نعده حسنا. فالرغبة ترمي إذن إلى الشيء الحسن: فإذا كان الصوم في نظر المرء حسنا رغب فيه. وفي الحسن نفسه لذة للراغب فيه. يرغب المرء في السعي لأجل الرزق حتى في حالة الشبع، وفي حالة عدم الحاجة إليه، وإنما هو يسعى إليه كغاية حسنة؛ وهي ادخاره.
وبهذا المعنى يختلف الإنسان عن الحيوان، وبه يختلف الإنسان الراقي عن الهمجي، والعاقل عن الجاهل، والكريم عن البخيل؛ فلكل من هؤلاء شهوة ورغبة تختلفان عند الواحد عنهما عند الآخر: الهمجي لا يسعى إلى الطعام إلا لأنه يجوع، فإذا شبع كسل عن العمل، والمتمدن يسعى إلى الثروة لا لأنه يخاف الجوع، بل لأنه يبتغي التأنق؛ ولذلك يستمر في كدحه وكده ولو كان شبعان.
وذاك يسعى لأنه يبتغي لذة الشبع، فمتى شبع لا يكلف نفسه عناء، وهذا يسعى لأنه لا يكتفي بما حصل، بل يطلب مزيدا، ويجد لذة في الحصول على المزيد وإن كان لا يخاف ألم الجوع؛ لأن الطعام ميسور، فالمزيد من الرزق أمر حسن في نظره.
نسبة الرغبة إلى الإرادة
هنا بلغنا إلى نسبة الرغبة إلى الإرادة وبيان الفرق بينهما: في الرغبة ميل للفعل، ولكنها لا تتكفل بالفعل؛ بل تقف عند هذا الميل وتترك الأمر للإرادة. الإرادة تأمر بالفعل أو لا تأمر. يمكنك أن ترغب في شيء، ويمكن أن تشتهي شيئا، ولكنك قد لا تريد أن تقدم عليه: ترغب أن تشرب كأسا من الخمرة ولكنك لا تريد لأنك تكره أذاها، ترغب في قتل فلان ولكنك لا تريد أن تقتله بنفسك، تود أن يقتله أحد غيرك، تشتهي مال جارك ولكنك لا تريد أن تغتصبه، ترغب في معروف من صديقك ولكنك لا تريد أن تسأله إياه.
وبالعكس قد تريد من غير أن ترغب؛ فقد تريد أن تزاحم صديقك في مسترزق، وتزاحمه فعلا، مع أنك لا ترغب في منع الرزق عنه، ترغب أن تسافر إلى بلاد بعيدة لتتعلم في جامعتها، ولكنك لا تريد أن تسافر.
فمما تقدم من الأمثلة تفهم جيدا الفرق بين الرغبة والإرادة؛ فالرغبة مجردة عن الفعل، هي أخت الشهوة في الحيوان مجردة عن الإرادة، والإرادة هي الأمر بالعمل أو النهي عنه، فهي التي توافق الشهوة أو الخلق المحرك للفعل، وتأمر بالفعل، أو تخالفهما وتنهى عنه، أو تأمر بالفعل المخالف. (2) التصميم
مع ذلك لا تنبري الإرادة لمباشرة الفعل مستقلة هكذا وحدها؛ فهناك سلطة أعلى منها لا بد من تدخلها، هناك الفطنة أو الحكمة، فهي تصدر الحكم الذي تبلغه الإرادة للقوى الفاعلة، هناك قوة تقرير الفعل - وهو التصميم على الفعل - فقد تريد ولكنك لا تصمم التنفيذ، فلا تتم الإرادة؛ لأن التصميم مرتبط بالزمان المستقبل، فإن أردت وفعلت كان التصميم مقرونا بالإرادة، وإن أردت وسوفت بقي الفعل متوقفا على التصميم؛ فقد تريد أن تزور صديقك غدا، ولما جاء الغد بدت أحوال أخرى جعلتك في تردد ، فإذا لم ينبر التصميم فلا تحدث الزيارة، ولا تتم الإرادة.
فالإرادة النافذة هي ما اقترنت بالتصميم، أو أن التصميم هو شيء أكثر من الإرادة. قد تنوي «تريد» أن تسافر غدا باكرا، ولكن لما جاء الغد وجدت الطقس رديئا، فإذا لم ينبر التصميم فلا تتم إرادة السفر؛ فالإرادة بلا تصميم نية مؤجلة التنفيذ، والتصميم إرادة نافذة. فالإرادة ذات طرفين: النية والتصميم. (3) الظرف
والإرادة أو الرغبة ترافق الفعل إلى أن تبلغ به إلى الغاية، اللهم إذا بقي الظرف الذي نشأت فيه الرغبة على حالها ولم تتغير، فإذا تغيرت الرغبة تغير الفعل، وقد تتغير الغاية أيضا، وإمكان هذا التغيير يحدو بنا إلى البحث في الظرف وأحواله. (3-1) ما هو الظرف؟
كل رغبة خاصة بالظرف الذي تنشأ فيه؛ فإذا تغير الظرف لسبب من الأسباب فقدت الرغبة معناها أو تغيرت بكليتها. والظرف يختلف اختلافا كليا لاختلاف الطوارئ التي تغير محركات الفعل وبواعثه، ولاختلاف الرغبات والغايات.
لنفرض أنك تساوم شخصا على أمر فيه مصلحة لكليكما، وترغب أن تتفق معه على شروط العقد، وفيما أنت تناقشه ويناقشك بدرت منه عبارة أغضبتك فتستاء وتعدل عن الاتفاق. فودية المساومة ظرف لرغبتك في الاتفاق، فلما استأت من مناقشته تغير الظرف من المودة إلى المغاضبة، وتغيرت الرغبة والغاية. وهب أنك آنست في مناقشته تساهلا يطمعك بمصلحة أخرى أفضل من المصلحة التي ترمي إليها، فهذا التساهل من قبله غير ظرف المساومة وتغيرت معه رغبتك.
مثال آخر: هب أنك شرعت ببناء منزل في أرض لك لكي تسكن هذا المنزل، وفي أثناء ذلك جاءك من يشتري منك الأرض وما تم من البناء بثمن فيه ربح لك، فتبيعه لتشتري منزلا آخر أو أرضا أخرى. فهنا الظرف الثاني نقض الظرف الأول وغير الرغبة، وقد يغريك هذا الربح فتعدل بتاتا عن بناء منزل خاص بك، وتقرر أن تشتري وتبيع طمعا بالربح، فهنا تغير الظرف قضى إلى تغير الرغبة والغاية بتاتا.
مثال ثالث: كان التلميذ يدرس على نية أن يتخرج طبيبا، وفي أثناء ذلك مات أبوه أو أفلس ولم يعد يستطيع الإنفاق عليه، فعدل عن الدرس ونزل إلى مضمار العمل والاسترزاق، فالظرف الأول تغير بتغير حالة الأب، فتغيرت معه رغبة الابن وغايته وعمله.
فالظروف ليست تحت حكم الإنسان، بل هي كالرياح تجري بما لا تشتهي السفن؛ ولذلك تتغير ظروف الإنسان من حين إلى آخر، أو من عام إلى عام، أو من شهر إلى شهر، أو من يوم إلى يوم، أو من ساعة إلى ساعة. ويمكن إجمال هذا التغيير أو حصره في أحوال رئيسية نلم بها فيما يلي: (3-2) تغيرات الظرف الرئيسية
فأولا:
يمكن أن يكون سبب التغيير في المحركات الباعثة للفعل؛ كما لو كنت تطالع رواية فهاجت حادثة الرواية عاطفة الحب فيك، فاندفعت أفكارك في الخيالات الغرامية، وقد يلوح لك أن تنظم قصيدة في الموضوع؛ فتترك الرواية وتشرع في النظم، أو كما لو كنت تشتغل في شغلك ثم سمعت بتظاهرة في الشارع، فتترك شغلك وتشاهد التظاهرة، وقد تخرج لتنضم إلى المتظاهرين.
وثانيا:
يمكن أن يكون السبب قوة الحكم التي فيك؛ إذ يعرض لك ما يغير حكمك، فتعدل عن مجرى فعلك وتوجهه في مجرى آخر؛ كما لو كنت تضارب في السوق وفهمت أن المضاربة تؤدي بك إلى الخسارة والإفلاس، فتعدل عنها إلى التجارة المشروعة بلا مضاربة، أو كما لو كنت تشتغل بحرفة الخياطة ثم رأيت أنك تربح من أثمان الأقمشة ربحا يفوق عناء الخياطة، فتعدل عن الخياطة إلى تجارة الأقمشة.
ثالثا:
قد يكون السبب طارئا خارجيا يطرأ على عملك فيغير مجراه، أو يقطع السبيل عليه؛ كما لو كنت تصطاد طيورا فصادفت غزلانا، فتجنح عن صيد الطيور إلى صيد الغزلان، أو كما لو كنت مسافرا في سيارة فتعطلت السيارة فتتركها وتركب القطار.
رابعا:
قد يكون السبب تغير حالة صحية، فبينما أنت تشتغل أصبت بمرض فتجنح إلى السرير للاستشفاء، وقد يكون المرض عضالا يمنعك عن العودة إلى عملك نفسه، فتضطر أن تعمل عملا آخر، أو أن تسافر للاستشفاء.
خامسا:
العمر أو الزمان يقضي عليك بتغيير مجرى حياتك، فأنت اليوم تلميذ، وغدا مستخدم، وبعد الغد مستقل. واليوم أنت تشتغل، وغدا في عيد، والآن أنت مسرور، وبعد برهة أنت كئيب، والآن أنت وحدك، وبعد برهة بين جماعة، وهلم جرا.
ففي كل حال من هذه الأحوال أنت في ظرف جديد يغير رغباتك وغاياتك ومجاري أفعالك.
سادسا وأخيرا:
تختلف الظروف باختلاف الأشخاص؛ فقد يكون لاثنين رغبة واحدة ولكنهما يختلفان في الغاية، كلاهما يكتتب في مشروع خيري، الواحد بدافع الشفقة، والآخر بدافع الشهرة. فالظرفان مختلفان. وقد يقترع نائبان في برلمان على مشروع، الواحد يقصد به الخير العام، والآخر يقصد مصلحة له في المشروع. فالخير العام ظرف للنائب الأول، ومآل المشروع لمصلحة النائب الثاني ظرف له. والشريكان في عمل يسعيان إلى الربح؛ أحدهما يشتغل في المكتب، والآخر يطوف على الزبائن. (3-3) تضارب الظروف
فيما تقدم فرضنا رغبة واحدة في ظرف واحد لغاية واحدة، ولكن المرء محفوف بالظروف العديدة، وله رغبات متعددة مختلفة في وقت واحد، وكثيرا ما تكون هذه الرغبات والظروف متضاربة أو متباينة، فهل تكون له أفعال متعددة في وقت واحد؟
يمكن أن يجد السياسي نفسه في ثلاثة ظروف معا وهو يفاوض سياسيا آخر في دولة أخرى، فأولا: يريد السلم العام، وثانيا: يريد مصلحة بلاده، وثالثا: يريد أن يرضي ضميره. ولا يندر أن يجد في هذه الظروف تضاربا؛ فإذا أصر على مصلحة بلاده، فقد يعرض السلم للخطر، أو قد لا يرضي ضميره؛ لأن المصلحة الوطنية المطلوبة غير حقة مثلا، وإذا حافظ على السلم بالتساهل فقد يضيع حق وطنه، وقد لا يرضي ضميره إذا كان حق وطنه أكيدا، فأي هذه الظروف يفوز، أو أية هذه الرغبات تنجح؟ البحث هنا فلسفي عقلي بحت، والحكم يتوقف على عقلية السياسي وأدبيته وفطنته في وزن الأمور؛ فالرغبات الثلاث كقوات متضاربة، وأقواها توجه الفعل في جهتها.
وهكذا الإنسان يجد نفسه كل حين، وكل يوم، وكل ساعة في ظروف ورغبات مختلفة يغلب أن تكون متضاربة؛ فهو يريد أن يحسن إلى فقير ولكنه قليل المال، ويريد أن يذهب إلى المعبد ولكنه مضطر أن يلازم عمله، ويريد أن يكون حرا ولكنه في الوقت نفسه يريد أن يحافظ على النظام، ويريد أن يضحي لأجل وطنه، ولكنه ذو عائلة وأطفال وهم أولى بالتضحية.
وهكذا هو ذو رغبات مختلفة، في ظروف مختلفة. وأقوى الظروف برغباتها أرجح وأقرب إلى الفوز. الظرف يعين قوة الرغبة: فقد يبقى المرء متقاعدا عن خدمة وطنه والتضحية له إلى أن يستفزه اعتداء أمة أخرى على بلاده، فيهب للتضحية لأجل وطنه. فتغير الظرف يميل الرغبة. (4) الشخصية: متغيرة ومطلقة
بعد هذا البيان تعلم أن شخصية الإنسان متغيرة أيضا، إذا سلمت بأن الشخصية هي اتحاد الأخلاق المحركة مع التعقل المرشد في إجراء الفعل، فإذا كانت الأخلاق المحركة للفعل متغيرة بتغير الظروف، وإذا كانت الرغبة التي تنتدب الإرادة للأمر والنهي متغيرة أيضا، فالشخصية نفسها إذن متغيرة: فأنت الآن مسالم، وبعد هنيهة مخاصم، وأنت الآن عادل، وبعد هنيهة ظالم، وأنت الآن وطني، ثم أناني، وأنت الآن منهمك، ثم أنت متمتع، مسرور ثم مكتئب، رزين ثم أهوج.
أما الشخصية المطلقة التي يتصف بها المرء ويعرفها له معارفه، فهي المعدل المتوسط لشخصياته المتغيرة، أو هي حاصل تفاعلها، فيقال: هذا كريم لكثرة إحسانه، وإن كان في بعض الأحيان ممسكا، ويقال: هذا أشم أنوف عزيز النفس لتغلب هذه السجايا فيه، وإن كان في بعض الأحيان يتزلف أو يتصاغر، ويقال: هذا المرء جليل؛ لأن الجلال صفة غالبة فيه، وإن كان في بعض الأحيان يتبذل.
انتهينا من تبيان الأساليب التي يجري فيها الفعل بقوة المحركات وحكم الإرادة، فنجمل هذا البيان بهذا الترتيب:
وإليك بيان أحوال الغاية.
الفصل الثالث
الغاية
(1) تنوع الغايات (1-1) الرغبة والغاية
الرغبة ترمي إلى غاية، فلكل فعل تفعله غاية تتجه إليها الرغبة؛ لذلك لا يمكننا أن نبحث في الغاية إلا ونحن نصطحب الغاية في بحثنا؛ لأنها ترافق الفعل إلى أن يبلغ الغاية، إذن الرغبة تتضمن أمرين: الغرض الذي ترمي إليه الرغبة، والقصد الذي يرافق الفعل إلى الغاية.
يتضح لك الفرق بين الأمرين إذا كان اثنان يرميان إلى غرض واحد ولكنهما يختلفان قصدا، كلاهما يبتغيان أن ينقذا غريقا: الواحد يقصد أن يخلصه لأنه ابنه، فهو يبتغي إنقاذه بالذات، والآخر يخلصه وهو غريب عنه؛ لأنه يفعل لأجل الإنسانية. ولهذا تختلف المقاصد والغرض واحد، تختلف باختلاف الظروف، كما علمت، فكأن الظرف يعين المقصد. (1-2) الظروف الرئيسية
إليك أهم الظروف كما ذكرها مكنزي في كتابه «متن علم الآداب»:
أولا: «يختلف القصدان من حيث البعد والقرب» فيكون أحدهما بعيد المرمى والآخر قريبه؛ مثال ذلك أن اثنين يخلصان غريقا: الواحد يخلصه لأجل الإنسانية، والآخر لأن له عنده دينا، فينبغي أن يستوفيه. ففي الحالة الأولى ينتهي قصد الأول في إنقاذ الغريق، وفي الحالة الثانية لا ينتهي إلا بعد أن يستوفي دينه.
ثانيا: «أن يكون أحد القصدين داخليا، والآخر خارجيا» كما لو صنع الواحد جميلا لإرضاء ضميره، والآخر صنعه لأجل الشهرة أو الثواب أو المكافأة.
ثالثا: «أن يكون أحد القصدين مباشرا، والآخر بالواسطة» كما لو رام فوضويان أن يقتلا حاكما: فالواحد يتحين فرصة لقتله وحده، والآخر ينسف قطارا حديديا بالديناميت؛ لأن الحاكم في القطار. فهو يقتل كل من في القطار لأجل غايته مع أنهم ليسوا مقصودين بها.
رابعا: «أن يكون القصد وجدانيا» أي عقليا باطنيا، كما لو خدم المرء وطنه خدمة جليلة وهو يقصد خير أمته، وفي الوقت نفسه ينال فخرا. فقصده للفخر باطني الوجدان، وإن لم يكن مرماه الأول أو لم يشعر به. وفي كثير من الأحوال يتعذر الفرق بين هذين القصدين.
خامسا: «يكون أحد القصدين رسميا، والآخر ماديا» كما لو رام حزبان أو شخصان أن يغيرا الحكومة، فالحزب الواحد يصوت ضدها؛ لأنها تخالفه بالمبدأ، والآخر لأنها تضر بمصالحه.
على أن هذه الأحوال الخمس غير شاملة لجميع ضروب المقاصد وظروفها، ولكنها تساعد على تحليل معقدات المقاصد. (1-3) تسلسل الغايات
وهنا يقف أمامنا سؤال؛ وهو: هل الغاية هي نهاية الفعل أم أن الفعل يستمر؟ وبعبارة أخرى: هل الغاية واحدة أو متعددة؟ والجواب أن الغاية قد تكون تارة واحدة؛ كما لو أكلت لتسد الجوع، فالغاية هنا واحدة والفعل مباشر، ولكن إذا طبخت، فنضوج الطبخ هو الغاية المباشرة ، والأكل من الطبخ هو الغاية الثانية، فالغاية الأولى صارت واسطة للثانية.
وهكذا تسعى لجمع المال، ثم تنفق المال في قنية الحاجايات لإرضاء شهوتك. فهنا تعددت الغايات، وقد تسلسلت فكانت الواحدة واسطة للأخرى، وكذلك تتشعب الغايات بعضها من بعض، فأنت تتاجر وتربح ثم تنفق بعض ربحك في قضاء حاجاتك، وبعضه تضعه إلى رأس مالك لكي توسع متجرك. فاتساع متجرك غاية قائمة بنفسها، ثم ترمي باتساع متجرك إلى جمع الثروة لكي تتزوج زواجا سعيدا، فالزواج غاية أخرى، ثم تجتهد في إسعاد عائلتك، وإسعادها غاية أخرى، وهكذا دواليك الغاية الواحدة واسطة للأخرى. (1-4) الغرض السروري
هنا يقف لدينا سؤال آخر: ما هي الغاية أو ما هو الغرض؟ وهنا اختلف الباحثون فكانوا فريقين؛ فريق يقول: إن الغاية ما سر النفس، وأشبع شهوتها، وأرضى شعورها،
1
وفريق آخر يقول: بل هي ما أفضى إلى نفع، وأما السرور فما هو إلا ما اصطحبه القصد معه. ويمثلون على ذلك بلعب النرد مثلا أو بأي مسابقة؛ فإن اللاعب حين يدخل في اللعب لا يضمن الفوز، ولكنه يلتذ باللعب حين تحتدم المسابقة، ومتى انتهى اللعب فلا يكون سرور الفوز عظيما كسرور اللعب نفسه، وما هو إلا استمرار سرور اللعب.
من أمثلة ذلك أيضا: أن كثيرين يجمعون المال ويدخرونه ولكنهم لا يتمتعون به، فهم يسعون إلى المال نفسه وليس المال المدخر موضوع تمتع ولذة، وإنما هم يسرون ويلتذون بجمعه قبل أن يجمع، أو في أثناء كدحهم لجمعه؛ فالسرور هنا سبق الغاية، والغاية جاءت متأخرة. إذن السرور ليس غاية، بل هو يرافق القصد إلى الغاية، ومتى بلغ المرء غايته انتهى سروره، وشرع يقصد إلى غاية أخرى؛ لذلك بكى إسكندر الكبير حين انتهى من الفتح؛ لأنه لم تبق بلاد لم يفتحها، فكان سروره في الحرب نفسها لأجل الفتح، فلما تم له الفتح انتهت لذته.
ولأقل إنعام نظر في نظرية كل من الفريقين، يرى القارئ أنهما مختلفان في تحديد الغاية:
فالأول:
يعد الغاية كل ما أفضى إلى لذة، سواء كانت اللذة في أثناء الفعل أو في نهايته؛ لأن الغايات مسلسلة، كما تقدم القول، فإذا كنت تبني بيتا فتشعر بلذة حين تنتهي من وضع أساسه؛ لأنك بلغت إلى درجة من الغايات التي تتوسل بها إلى الغاية القصوى، وهي سكنى البيت أو التمتع بأجرته. فمقاصد الإنسان سلسلة لا تنقطع، والسلسلة تشتمل على حلقات، وكل حلقة غاية قائمة بنفسها، وفيها لذة. فإذن كل ما أفضى إلى لذة كان غاية. فاللذة إذن هي الغاية، سواء كانت هذه نهائية أو واسطة.
والفريق الثاني:
يعد الغاية الغرض الذي يتجه إليه الفعل؛ فمتى بلغ الفعل إلى القصد كان بلوغه غاية. وأما السرور أو اللذة فيحدث في أثناء الفعل؛ أي إن السرور يرافق القصد إلى الغاية. وعند بحثنا في السرور نعود إلى هذا الموضوع بأكثر إيضاح.
يعد الغاية الغرض الذي يتجه إليه الفعل؛ فمتى بلغ الفعل إلى القصد كان بلوغه غاية. وأما السرور أو اللذة فيحدث في أثناء الفعل؛ أي إن السرور يرافق القصد إلى الغاية. وعند بحثنا في السرور نعود إلى هذا الموضوع بأكثر إيضاح. (1-5) الغاية القصوى
فنرى مما تقدم أن لكل من الفريقين نظريات وجيهة، والفرق بينهما قليل. وللتوصل إلى الحقيقة الراهنة نبحث في جذور الغاية التي يتجه إليها الفعل، ويرمي إليها القصد. وهذا البحث يستلزم أن نعود إلى المحرك للفعل؛ لأنه سبب وجود الغاية. وهنا نسأل: هل للغاية شركة في تحريك الفعل؟ أي هل تعد الغاية النهائية محركا أيضا للفعل؟
نعود إلى المحرك فنحلله تحليلا أعمق مما فعلنا فيما سبق. مر بك أن الأخلاق والسجايا التي تحرك الفعل منها غرائز بحتة؛ كالشهوات والانفعالات، ومنها نشأت كعادات وصارت غرائز، أو هي مشتقة من غرائز. والغريزة: نبضة حيوية أو عقلية وظيفتها الحرص على الحياة والبقاء - بقاء الفرد وبقاء النوع.
فكل خلق لفعل إنما هو يرمي بحركته إلى هذا الغرض: الحرص على الحياة والبقاء؛ فحين تأكل لإشباع الجوع تفعل ذلك بغريزة الشهوة البطنية لأجل الحياة والبقاء، وحين تهرب تفعل ذلك بغريزة الخوف حرصا على الحياة والبقاء، وحين تغضب تقاتل حرصا على الحياة وهلم جرا، فكأن للغاية شركة في تحريك الفعل؛ لأنها غرض الغريزة، كما سيتضح لك ذلك فيما يلي. (2) الداعي أو الباعث
رأيت فيما تقدم أن الغاية المرغوبة هي التي تصطحب معها سرورا، أو تكون هي نفسها سارة، أو على الأقل يكون السرور مرافقا للفعل المتجه إليها. وستتضح لك هذه الحقيقة أكثر في الفصل التالي؛ ولذلك لا بد أن يكون قد قام في ذهنك أن الغاية المرغوبة هي نفسها محركة للفعل، أو من جملة محركاته، فهل هي كذلك؟ أليست الشهرة غاية ومحركا للفعل المتجه إلى هذه الغاية؟
ولكي نسهل أمر التمييز بين المحرك الخلقي والغاية التي تتراءى لنا محركا أيضا للفعل المتجه إليها، نقيم في ذهن القارئ مبدأ أعم من المحرك؛ وهو الداعي أو الباعث للفعل، فالداعي قد يكون محركا خلقيا، أو غاية مرغوبة، أو تعقلا أيضا، أو قد يكون هذه جميعا، أو اثنين منها. (2-1) الغاية كمحرك للفعل
المحرك الخلقي الذي يستقل وحده في انتداب المرء للفعل هو الخلق الغريزي البحت، ولا سيما إذا كان رئيسيا؛ كالشهوات الغريزية والانفعالات، فهذه يمكن أن تحرك المرء لأول وهلة للفعل من غير أن ينظر إلى الغاية. فهو يغضب ويقاتل ويخاف ويفر ويجوع ويتلهف للطعام قبل أن يفتكر بالغاية إن كانت سارة أو مؤلمة. فالغاية كافية لتحريك الفعل.
وأما الأخلاق المتفرعة المشتقة من الرئيسية، فلأنها أقل سرعة في عملها، تقيم في الذهن صورة الغاية المرغوبة. وهذه الصورة تشترك معها في تحريك الفعل، وكلما بعد الخلق عن محضية الغريزة اتضحت فيه الغاية، وكانت أكثر شركة في تحريك الفعل. فحب المال والشهرة والشفقة والميل إلى الإحسان إلخ، كل هذه تقيم في الذهن تصور السرور من الحصول على الأمر المرغوب فيه، فتكون الغاية المرغوبة عاملا قويا في تحريك الفعل.
المحرك الغائي إذن هو الذي تكون فيه الغاية المرغوبة من طبيعة الخلق المحرك، أي إن هذا الخلق نفسه يبتغى إرضاء لنفسه لا لقوام الأقنوم الإنساني.
فالشهرة مثلا من جهة واحدة تختلف عن خلق حب الاشتهار في نفس المرء، ومن جهة أخرى تجعل حصول المرء عليها غاية مرغوبة؛ فهي إذن محرك للفعل وغاية له، هي مصدر جاذبيتين: جاذبية النفس لهذا الخلق «خلق حب الشهرة»، وجاذبية الغاية المرغوبة؛ أي الحصول عليها.
إذن كثير من الغايات المرغوبة موجودة في طبيعة الأخلاق الفرعية، وأحيانا في الأخلاق الرئيسية أيضا متى كان التعقل مسيطرا، وبالتالي تكون محركا للفعل؛ فالفخر خلق محرك، والحصول عليه غاية محركة أيضا، والشجاعة خلق محرك، وفوزها غاية محركة أيضا، وهلم جرا، فترى أن الغاية متى كانت محركا للفعل أيضا كان مجرى الفعل في دائرة. (2-2) التعقل كمحرك
المحرك التعقلي هو الذي يدل على الوسيلة المحمودة التي يجب أن تجري فيها حركة المحرك «الفعل» إلى الغاية المرغوبة التي تقيم الشعور برضى ذلك الخلق المحرك. ولما كانت أدبية الفعل منحصرة في وظيفة التعقل كان هذا المحرك التعقلي يتصرف في الفعل كما يشاء إذا لم يسبقه المحرك لإجراء الفعل؛ فقد يوافق المحرك أو قد يعدل حركته أو يخالفها، قد تثور شفقة المرء عند رؤيته شخصا فقيرا وتدفعه للإحسان عليه، ولكن المتعقل قد يقمع الشفقة ويقول لها: دعيه بلا إحسان لئلا يتعود الشحاذة. فهنا كان التعقل محركا للفعل، وهو قبض اليد عن الإحسان، وتوبيخ الشحاذ.
وقد يستقل التعقل وحده بتحريك الفعل، فيحرك الخلق، ويقيم له غاية مرغوبة عن نفسه؛ وحينئذ يكون عمله عقليا بحتا. (2-3) الظرف كمحرك
قد يعرض للمرء مثلا ظرف يستطيع فيه أن يخدم وطنه خدمة جليلة، فيفكر في أسلوب هذه الخدمة، ويثير في نفسه خلق فعل الخير والشهرة، ويقيم فيها تصور لذة هذا الفعل من الناحيتين: ناحية الضمير، وناحية حب الشهرة، فيكون في هذا الأمر مستقلا في تحريك الفعل وتدبر وسيلة إجرائه، كذلك قد يعرض للمرء ظرف يكون فيه زعيما مثلا، فيثير هذا الظرف في نفسه حب الزعامة وقد كانت نفسه قبلا غير طامعة فيها، ويقيم لها رغبة جديدة للحصول على الزعامة، أو قد يعرض له ظرف يكون فيه غنيا أو فنانا أو محسنا أو وجيها، فيثير في نفسه هذا الخلق، ويمرن الأمل على الحصول على هذه الغاية المرغوبة، فيكون هو في الأصل علة تحريك الفعل مستقلا فيها.
فمما تقدم ترى أننا لا نستطيع في معظم الأحوال أن نفصل بين الأخلاق والسجايا المحركة، وبين المرغوب والمتعقل، ولا أن نقصر قوة تحريك الأفعال على الأخلاق والسجايا وحدها.
الفصل الرابع
السرور
رأيت فيما تقدم أن السرور مصاحب للغاية وملازم لها، أو هو الغاية بعينها في نظر السروريين، فلا بد من الإسهاب في أحواله وأحكامه؛ لأنه يكاد يكون بيت القصيد في مجرى الفعل. (1) ماهية السرور
السرور:
1
هو شعور جسدي أو عقلي بما أحدثه الفعل من إرضاء للشهوة جسدية أو عقلية؛ فالشبع سرور لأنه سد الجوع، والصدق سرور لأنه أرضى الضمير، والفوز سرور لأنه أرضى الطمع بالشهرة، والربح سرور لأنه أرضى شهوة النفس للمال إلخ. (1-1) اللذة والألم
وللسرور فعل سلبي، وهو الألم أو الكآبة على الأقل. وفي كل ظرف من ظروف الأفعال لا بد من أحد الوجهين: إما اللذة، أو الألم. وحيث لا لذة ولا ألم فلا ظرف، فإنما أنت مسرور أو متألم في الظرف الذي أنت فيه. ولا محل للكلام في الظرف الذي لم تنتقل إليه أو لم توجد فيه.
فإذا كنت جائعا كنت شاعرا بألم الجوع، ومتى أكلت وشبعت حل السرور محل الألم، فالفعل ينتقل بك من حالة الألم إلى حالة اللذة؛ هو فرار من الألم إلى اللذة. والغريزة التي هي مجموعة الأخلاق أو مصدرها إنما هي المحرك الأساسي لهذا الانتقال من الألم إلى اللذة.
وهنا عدنا إلى النقطة الجوهرية التي ألمعنا إليها آنفا؛ وهي: هل اللذة هي نفس الغاية التي يتجه إليها الفعل برفقة القصد؟ (1-2) حالات السرور الظرفية
لنبحث في طبيعة السرور نفسه.
للسرور ثلاث حالات - كما ذكرها روجرس في كتابه «نظرية الآداب»: أولا: السرور الذي منحنا إياه الفعل في الماضي، ثانيا: السرور الذي ننتظر أن يمنحنا إياه الفعل في المستقبل، ثالثا: السرور الذي نتصور في الحاضر توقعه في المستقبل.
فالسرور الأول حدث مع حدوث الغاية، والثاني لم يحدث بعد وإنما نحن ننتظر حدوثه، فهل نشعر به ؟ نعم، نشعر به في الحالة الثالثة؛ أي نشعر به في تصورنا لحدوثه.
فهل الشعور نفسه حين حدوثه يختلف عن الشعور به حين تصوره واقعا أو حين توقعه؟ أجل يختلفان من حيث الحدة، وفي كثير من الظروف يكون السرور بتوقع حدوثه أشد منه حين حدوثه، وفي كثير من الأحوال ينتهي السرور حين تبلغ الغاية. (1-3) السرور غير الغاية طبعا
فمما تقدم يتضح لك أن الغاية ليست السرور بعينه؛ لحدوث السرور قبل حدوثها كما رأيت، وإنما هذه الحقيقة تخفى علينا لأننا ألفنا السرور متفقا مع الغاية، ولو فطنا إلى أن كثيرا من الأفعال نفعلها قبل أن نختبر غايتها لنعلم إن كانت سارة أو لا؛ لاقتنعنا بأن الغاية شيء، والسرور شيء آخر.
الغاية دفعت إليها الغريزة لحاجة الجسد أو النفس إليها؛ فالطفل لم يرضع ثدي أمه لأول مرة بغية لذة الشبع، وإنما الغريزة دفعته إلى رضاعة الثدي؛ لأن وظيفتها دفعه للفعل في سبيل حياته وبقائه، والطفل يبكي لا لأنه جائع ويتألم من الجوع - فقد يكون شبعان - وإنما يبكي لأن الغريزة تدفعه للبكاء لكي يحرض حنو أمه لإرضاعه، والحيوانات لا تتزاوج لأول مرة لأنها تتوقع لذة في المزاوجة، بل الغريزة تدفعها إليها لأجل بقاء النوع.
فبعدما اختبر الإنسان - والحيوان أيضا - أن الاندفاع في العمل بمقتضى تحريك الغريزة يمنحه لذة، صار يندفع هذا الاندفاع توخيا للذة، ولكن الغريزة لم ترم إلى اللذة، بل إلى النفع الحيوي، ترمي إلى نمو الفرد، وبقاء حياته، وبقاء نوعه. وإنما الطبيعة قرنت هذه الغاية بلذة لكي تغريه على الاندفاع في الفعل، فالغاية القصوى من الفعل ليست السرور، وإنما جاء السرور معها ومع الفعل توقعا له، كدليل على أن ما يندفع في فعله إنما هو حسن له، وصالح لبقائه وحياته ونجاحه إلخ، فالسرور حركة نفسانية سيكولوجية، والغاية أو الغرض حركة حيوية بيولوجية. (1-4) هل اللذة هي الغاية القصوى؟
بعد هذا البيان ترى أن نظرية الفريق الثاني القائل بأن الغاية تختلف عن السرور إنما هي نظرية وجيهة، ولكن الفريق الأول؛ أي السروريين، مع ذلك يصرون على أن الغاية القصوى هي السرور بعينه؛ لأنه متى لم يتوقع الإنسان سرورا من فعل فلا يندفع فيه. وإذا كانت الطبيعة قد جعلت اللذة مغريا للإنسان لكي يندفع في الفعل لأن غرضها حفظ الحياة وبقاء النوع؛ فالإنسان لا يكترث بتنفيذ غرض الطبيعة، بل يترك الطبيعة تفعل فعلها وهو يتوخى لذته؛ لذلك هو يرمي في كل أفعاله إلى الحصول على لذة، فهي غايته القصوى.
وهذه النظرية وجيهة أيضا لأدلة عديدة، فالإنسان يسعى إلى ادخار المال لا لأنه في حاجة إليه، بل لأنه يستلذ التنعم به، وقد يكون ترفه مفضيا إلى عكس الغرض الذي ترمي إليه الطبيعة؛ قد يمرض ويموت عاجلا، فكأن الثروة التي أفضت إلى رفاهيته وترفه كانت سيئة العاقبة له. وقد يعلم ذلك جيدا، ويفهم من اختباره بغيره أن الانغماس في شهوته يقصر عمره، فهو يريد الحياة عريضة قصيرة؛ لأنه يبتغي اللذة لنفسها، لا البقاء والحرص على الحياة.
كذلك فاعل الخير وخادم الإنسانية لا يتوخى من وراء فعله خيرا لنفسه، بل تمتعا بسرور الضمير بلذة الشهرة والمجد، كذلك الفنان يستسلم للعمل في الفن الجميل؛ كالشعر أو الموسيقى، وهو يعلم أنه فقير قليل التمتع بأطايب الحياة، وأن الفن لا يغنيه، ولكنه يجد لذة في فنه.
فاللذة هي الغاية القصوى من الفعل الذي يرمي به الإنسان إليها، ولا غاية له سواها، فهي مصاحبة الخلق المحرك للفعل منذ بدء النبضة الغريزية؛ أي استفزاز التعقل للتدبر والتدبير، إلى الاندفاع في الفعل إلى النهاية. وإذا كانت اللذة تنتهي عند الوصول إلى الغرض؛ فلأن الفعل انتهى، وانتهت بنهايته اللذة؛ لأنها كانت مصاحبة له، وإنما هي المقصودة من الفعل؛ ولهذا يعد تصور وقوعها محركا للفعل، أو على الأقل مصاحبا للخلق الغريزي الذي نبض لتحريك الفعل.
مع ذلك يعلل الفريق الثاني هذه الأمثلة المتقدمة وأمثالها بأن غرض الحرص على الحياة، أو تلبية الحاجة التي قضت بها الطبيعية كامن في الفعل؛ فالإنسان مهما كان يتوخى اللذة فلا يغفل عن الحرص على حياته وبقائه كغاية قصوى، بدليل أن المنغمس في شهواته لأجل التمتع باللذات متى ساءت عاقبة انغماسه، وشعر أنه أخطأ ولم يختر الحسن الصالح لنفسه، علم أن اللذة ليست الغرض الأول، بل الحياة والبقاء هما الغرض، وما اللذة إلا أمر مصاحب للفعل. واختيار الفعل الأصوب، ولو كان أقل لذة، إنما هو من وظيفة التعقل، فالتعقل خانه. (1-5) أدبية الفعل فصل الخطاب
على أن هذه الحقيقة تخرجنا من دائرة البحث فيما إذا كانت اللذة غاية أو واسطة للغاية، إلى دائرة الحكم في أدبية الفعل؛ هل هو صواب أو خطأ؟ وهو ما لا محل له في هذا الفصل. وفيما تقدم بيان كاف على ما نظن لتدبر القارئ في المراد باللذة والغاية، وهل هما شيء واحد أو مختلفتان. فإن نظرنا في المسألة من وجهة الفعل بحد ذاته، ومن وجهة المحركات له؛ كانت اللذة غاية الغايات التي يرمي إليها الإنسان في أفعاله على الإطلاق.
إنما إذا نظر إليها من وجهة أدبية الفعل، وهل هو حسن أو صالح، صواب أو خطأ، كانت الغاية شيئا، واللذة شيئا آخر، وكانت الغاية الحرص على الحياة والنجاح في هذا الحرص، وكانت اللذة مغرية على الفعل ودليلا على أنه حسن. وإنما قد تكون دلالتها مضللة؛ ولهذا تلقى المسئولية على التعقل الذي له وظيفة الحكم.
ومما تقدم تفهم سبب الفرق بين الفريقين، وهو أن الأول يغفل أدبية الفعل في حكمه على اللذة والغاية، وفي قوله بأنهما شيء واحد، والآخر لا يرى بدا من اعتبار أدبية الفعل في الحكم على اللذة والغاية؛ لأن الإنسان ليس حيوانا مسيرا بحكم الغريزة وحدها، بل له تعقل ذو سلطان على غريزته، فلا يعمل عملا إلا إذا كان للتعقل يد فيه حتما؛ ولذلك يفكر ليختار بين لذتين، وأيهما أضمن لنجاحه في الحياة. فالحرص على حياته وبقائه ضربة لازب في أفعاله، فلا يمكن أن تكون اللذة غايته القصوى ما دام إنسانا أدبيا لا حيوانا غريزيا فقط. (2) قيمة السرور
إن قيمة السلوك تقاس بالسرور الذي ينتجه؛ ولذلك يعد السلوك حسنا بالنسبة لما ينتجه من السرور، فإذا أنتج سرورا أكثر مما كان ممكنا أن ينتج عد حسنا، وإن أنتج أقل مما كان ممكنا أن ينتج عد سيئا؛ مثال ذلك: أن تصطحب عائلتك إلى متنزه، فإذا أخذتها في سيارة دفعت أجرة أكثر جدا مما لو أخذتها في الترام، وكان ممكنا أن تنفق الفرق بين أجرة السيارة وأجرة الترام في أمر آخر يزيد سرورها؛ فإذن أخذها في الترام أوفر سرورا من أخذها في سيارة، ولذلك يعد السلوك الأول سيئا، والثاني حسنا. (2-1) تعاقب اللذة والألم
لا عبرة في الداعي للسلوك، وهو طلب السرور، بل العبرة في قيمة السرور الذي ينتجه السلوك. ولكل ضرب من السلوك وجهان: سار ومؤلم، فيقال: هذا أحسن من ذاك؛ لأن سروره يزيد على ألمه، والعكس بالعكس.
فالحكم في أي الوجهين أكثر مسرة يستلزم التبصرة في ظروف السلوك وعواقبه من قبيل المبادئ الأدبية، فالشخص الذي ينغمس في الملاهي الجسدية يجد لذة فيها، ثم يجد ألما في عواقب انغماسه، من أمراض وخسارة مال وسوء سمعة، فإذا استبصر في سلوكه ووازن بين ماضيه من لذة وألم، فربما وجد الألم يتفوق على اللذة، وحينئذ يدرك أن سلوكه سيئ فيعدل عنه.
وكذلك الغشاش يجد سرورا في غشه؛ إذ يتمتع بمال لم يتعب فيه، ولكنه يجد أيضا ألما في فقد الثقة به، فضلا عما يشعر به من توبيخ الضمير لاختلاسه حق غيره، فإذا وازن بين سروره وألمه شعر أن سلوكه كان سيئا، فالسلوك الرديء هو الذي ينتج أقل سرورا لا الذي لا ينتج سرورا بتاتا؛ لأن الإنسان لا يسلك سلوكا خلوا من ملذة البتة. ومهما كان السلوك حسنا وأعظم مسرة فلا يخلو من ألم.
ربما كان تحصيل المعرفة أعظم مسرة عندك، فالجهاد في تحصيلها ألم، وإن كنت لا تشعر بألمه في حال شعورك بسروره؛ فقد يضعف صحتك أو يشغلك عن المكسب، فتضطر أن تعيش مقترا، كذلك إذا كنت ولوعا بالكسب فجهادك في الحصول عليه ألم، وإذا كنت ولوعا بادخار المال فبخلك به على نفسك ينتج ألما. (2-2) تفاوت المسرات
وقد اختلف الباحثون في كيفية المسرات وكميتها؛ فقال بعضهم: إنها تختلف كمية فقط، وقال آخرون: تختلف كمية وكيفية أيضا.
المسرات تختلف كيفية باختلاف مواضيعها؛ فلذة العالم تختلف عن لذة الغني، ولذة الفنان تختلف عن لذة الاقتصادي، ولكن القائلين بكمية اللذة فقط يقولون: إن اختلاف المسرات باختلاف مواضيعها يرد كيفياتها إلى كميات ويحملنا على القول: إن مسرة الشاعر بشعره أعظم من مسرة الكاسب المال بكسبه، وإذا شئنا أن نجعل قاعدة لنوعية المسرات كما أو كيفا، فقد لا نجد هذه القاعدة إلا في قيمة المسرات وما يستحقه السلوك منها، وهي تعود بنا إلى الكمية فنقول: إن هذه المسرات أعظم قيمة من تلك، ولا فرق في اختلاف كيفيتها؛ إذ لا عبرة بالكيفية في الشعور بالسرور، فالمسرات تختلف باختلاف الشعور بها، والشعور يكون كثيرا أو قليلا. (2-3) مقايسة المسرات
إذا كان الأمر كذلك، فكيف تقاس المسرات ليعلم أعظمها من أصغرها؟
2
وإذا كانت قيمة المسرة تتوقف على الشعور بها، فكيف تمكن مقايسة المسرات بعضها ببعض ليعلم أعظمها أو أصغرها؟ والشعور خاص بالذاتية الشخصية، ولا يمكن أن تدرك شعور غيرك لتقيس شعورك به. جل ما في الأمر أنك تقيس شعورك بهذا السرور بشعورك بسرور آخر سابق. ومع ذلك، فإن ذاتيتك تتغير كل حين بعد آخر، فما تشعر الآن به سرورا عظيما لا تشعر به في حين آخر كذلك، فالمسألة تتوقف على الذاكرة، وهي خزانة المدركات والمحسوسات لا خزانة الشعور؛ لأن هذه يحتمل أن تضل. إذن تبقى المسألة منحصرة في وزنك العقلي الأدبي للمسرات المنتظرة أيها أعظم، والوزن العقلي حكم على أدبية التصرف لا على مقدار السرور؛ فقد لا تجد سرورا أعظم أو أقل مما كنت تنتظر.
فالحكم لا يتناول الشعور، بل أدبية هذا الشعور؛ فأنت تبتغي السعادة العامة لا السرور بعينه. وهذه تستلزم أن السرور الذي تبتغيه يجب أن تراعي به سرور غيرك، فالسرور الذي يثلم سرور غيرك لا يعد عظيما؛ لأن السرور الذي لا يمس سرور غيرك أعظم منه، وأعظم من هذا السرور الذي يأتي معه سرور غيرك.
إذن السرور الأعظم هو السرور الذي يأتي معه سرور للعدد الأوفر من الآخرين؛ لهذا يعد سرور منشئ المدرسة أو المستشفى مثلا أعظم من سرور الذي يحسن على فقير، لأن سرور ذاك جاء بسرور لعديد من المحتاجين للعلم والشفاء. لا يعد كذلك في نظر منشئ المدرسة ولا في نظر المحسن على الفقير؛ لأن لكل منهما شعوره الخاص، فربما كان شعورهما متساويا، وإنما هو كذلك في نظر الرأي العام؛ ولهذا تتفوق سعادة الأول على سعادة الثاني، ولكن لا مقايسة بينهما.
وهنا لا بد لنا من العودة إلى نظرية السروريين لتبيان قيمة السرور واللذة. (3) نظريات السرور
أخذت «السرورية» شأنا عظيما في مباحث علماء أدب النفس حتى إنها تشعبت وتطورت تطورات مختلفة، فبعض السروريين يقولون: إن الإنسان يبتغي السرور من طبعه، والسرور بغيته القصوى في كل حال. وتسمى هذه: النظرية السرورية السيكولوجية؛ لأن تعليلها فلسفي عقلي، وهي: «نظرية القول بالأمر الواقع».
ويقول آخرون: يجب على الإنسان أن يطلب السرور لأنه هو الغاية القصوى. وهذه النظرية تسمى: السرورية الأدبية؛ لأنها تعلل من وجهة الواجب الأدبي، وهي نظرية القول بقيمة الفعل، أو نظرية القاعدة التي بموجبها يجب أن يفضل شكل من الفعل على الأشكال الأخرى.
وهناك آخرون يقولون: إن ما يبتغيه الإنسان أو ما يجب أن يبتغيه هو سروره، وتسمى هذه النظرية: السرورية الأنانية، وهي قديمة منذ عهد الأبيقوريين، ولكنها أهملت لمناقضتها لتعليم أدبية الشخصية الاجتماعية، كما أن السرورية السيكولوجية تكاد تهمل أيضا، وآخرون يقولون: إن ما يبتغيه الإنسان أو يجب أن يبتغيه هو سرور جميع الناس، أو جميع المخلوقات الحساسة، وتسمى: السرورية العامة أو النفعية
Utilitarianism . (3-1) السرورية الأدبية الأنانية
علمت مما تقدم أن السرورية الأدبية الأنانية مرفوضة لمناقضتها للمبادئ العامة، ولا يستطيع أن يبررها القائلون بها إلا حين يقولون: إن على المرء أن يبتغي سروره الأعظم، اللهم إذا لم يمس سرور الآخرين، أو أنه يطلب سرور الآخرين ما دام يتفق مع سروره الأعظم.
أما ابتغاء السرور الأعظم فيستلزم تقدير قيمة السرور أو المسرات، وقيمة السرور يمكن أن تقدر بأمرين أو بأحدهما: الحدة والمدة، فبعض أنواع السرور تفضل على البعض؛ إما لأنها أشد تحريكا للشعور، أو لأن الشعور بها أدوم. وقد أدخل بعضهم في تقدير القيمة عدد أنواع السرور، ولم يروا بدا أيضا من اعتبار الألم المنافي للسرور؛ ولذلك أصبح تقدير قيمة السرور مسألة رياضية، فتعين لحدته ولمدته قيمة واحدة، وله القيمة الإيجابية، وللألم القيمة السلبية، فتطرح وحدات هذا من وحدات ذاك، والباقي هو السرور الأعظم.
ومع أن «السرورية الأنانية» مناقضة للروح الأدبية العامة، فقد حسبها بعضهم - كالدكتور سيدويك
Dr Sidwick - أمرا لا بد من اعتباره في الأدبيات؛ لأن الغاية التي نقصد إليها لا بد أن تكون غاية تجلب معها إرضاء مطالب طبيعتنا. ومهما قلنا: إن هناك سببا خارجيا يحملنا على أي قصد أو غاية، نجد أن هناك مطلبا أقصى في طبيعتنا يحملنا على قبول هذا السبب الخارجي. وإذ سئلنا: ما هو الذي يرضي مطالب طبيعتنا؟ قلنا: هو السرور. هذا هو تعليل السروريين. (3-2) السرورية الأدبية العامة
علمت أن السرورية الأدبية العامة هي أن تبتغي أعظم سرور ممكن لجميع الناس، ولكن إذا سألت السروريين: لماذا نقول إننا نبتغي أعظم سرور ممكن لجميع الناس، ولا نقول إننا نبتغي أعظم خير لجميع الناس؟ قالوا لك: لأننا نجد سرورنا في هذا الابتغاء، فنحن نقصد سرورنا المشتق من سرور الجمهور لا خير الناس، وما ابتغاء الخير إلا واسطة للحصول على هذا السرور الذي نقصد إليه، ولا أحد يبتغي سرور المجموع إلا تذرعا للحصول على سروره الخاص. (4) السعادة
قد يتراءى لك أن السعادة والسرور لفظان مترادفان لمعنى واحد؛ لأنك تقول: طالما أنا مسرور فأنا سعيد. والحقيقة أن السعادة أعم من السرور؛ فكل سعادة هي سرور ولا يعكس، وبينهما فرق من حيث كيفية السرور لا من حيث مقداره. وقد حددهما «مويرهد» بأن السعادة هي شعور آخر يرافق الشعور بالسرور مع ما فيه من الألم في الجهاد للحصول على السرور، أو ما فيه من فشل السلوك في الحصول عليه بتاتا - أو ناقصا - شعور بأن المرء سلك سلوكا حسنا، فالذي تستفزه المروءة لتخليص غريق إذا لم ينجح تألم لفشله، لكنه يكون سعيدا بأنه لبى داعي المروءة.
نقول إذن: إن السرور هو ما رافق السلوك ونتيجته، والسعادة هي استمرار الشعور بالسرور بعد انتهاء السلوك وانتهاء نتيجته. السرور شعور بإرضاء الرغبة؛ كإشباع الشهوة، أو إرضاء أي خلق، والسعادة شعور النفس بكليتها من غير نظر إلى الخلق الذي أرضي. بعد الفعل الحسن تبقى شاعرا بسرور عام في ذاتيتك كلها. السعادة نتيجة السرور الأعظم الذي تتمتع به الذات من الوجهة الأدبية؛ فمن يعمل عملا وطنيا، أو يجعل الفضائل قاعدة سلوكه؛ يشعر بسرور نفس مستمر. فهي السعادة.
فإذن الحسن يقاس بما ينتجه من السعادة، والأحسن هو الأسعد كما أنه الأسر. وهذه القاعدة تضعف حجة السروريين الذين يقولون بأن السرور هو الغاية القصوى للسلوك؛ لأن السعادة ليست ابتغاء السرور لنفسه، بل السرور واسطة لغاية أفضل. فالذي يتبرع بمال لإنشاء مدرسة مثلا يحرم نفسه لذة التمتع بماله لكي يتمتع بسعادة النفس من جراء تبرعه، فسروره بإنشاء المدرسة لم يكن إلا وسيلة لهذا العمل الإنساني. وهو لم يبتغ السرور لنفسه، بل العمل الإنساني، وإنما هذا العمل جلب سروره.
فهنا التمتع الذاتي يضحي في سبيل الخير العام، النجاح الفردي يضحي لأجل النجاح العمومي. وستعلم أن قاعدة السلوك الأفضل والأتم سعادة هو ما آل إلى الرقي العام نحو المثل الأعلى.
الباب الثاني
أدبية الفعل
الفصل الأول
السلوك الحسن
في الباب الأول السابق بحثنا في كيفية إجراء الفعل منذ نشوء المحرك الذي يحركه إلى الغاية الأخيرة التي يرمي إليها، ولكننا لم نتصد للخطط الأدبية التي يجب أن يختط فيها لكي يعد سلوكا؛ أي إننا بحثنا في مجرى الفعل مجردا عن سنته الأدبية. وإنما في هذا الفصل نبحث في أدبية الفعل؛ أي فيما يقومه من القوى الأدبية العامة.
فالباب الأول بحث عقلي، والباب الذي نحن فيه الآن بحث نفساني أدبي. (1) السلوك (1-1) ماهية السلوك
لا يعد الفعل سلوكا ما لم تسيطر عليه الإرادة، ولا يعد السلوك أدبيا إلا إذا حدث بإرشاد التعقل، وجاز الحكم عليه بأنه خطأ أو صواب.
فالسلوك إذن هو فعل مقيد بالأدبية، أو هو فعل مراد خاضع لحكم العقل، هو حاصل أفعال الشخصية المؤلفة من النفس، والقوى العقلية، والنوابض، والظروف. والشخصية، كما علمتها في فصل سابق، تتغير بتغير الظرف الذي ينشأ بتحرك الفعل بقوة المحرك الخلقي، وبإدارة الإرادة؛ فالشخص يسلك سلوكه مدفوعا بمحرك لقصد راميا إلى غاية معينة مرغوبة.
وبهذا المعنى يختلف الإنسان عن الحيوان؛ فالحيوان يتحرك بفعل الغريزة والشهوة من غير أن يتصور غاية معينة يرمي إليها. فهو يهجم على الطعام من غير أن يرمي إلى غرض الشبع، وإنما الغريزة تدفعه للأكل. يريد أن يأكل، ولكنه لا يريد أن يمتنع عن الأكل. ولكن الإنسان يريد أن يأكل، وقد لا يريد مع أنه جائع، ومتى أراد أن يأكل كان يرمي إلى غاية؛ وهي الشبع. وهو يتصور هذه الغاية قبل حدوثها، ويمكنه أن يتمتع بتصورها.
فكل فعل من أفعال الإنسان إنما هو تحت حكم الإرادة والتعقل، ومقرون بتصور الغاية أيضا، وبالشعور بلذة الغاية، قريبة كانت أو بعيدة، ولكن فعل الحيوان وإن كان يرمي إلى غاية، بيد أنه غير مصحوب برغبة في غرض، ولا بتصور الغاية؛ ولذلك نحدد السلوك بأنه فعل يرمي إلى غاية معينة متصورة قبل حدوثها، ومرادة دون غيرها، وبهذا يتميز العاقل على غير العاقل، والبالغ على الطفل، والعامي على السكران أو المجنون. (1-2) ضرورية الظرف للسلوك
وكما أن الفعل يستلزم وجود الظرف، كذلك السلوك الأدبي يستلزم وجود الظرف أيضا؛ فما من سلوك إلا كان في ظرف خاص به، وطرق السلوك تختلف باختلاف الظروف؛ فأحوال الشخص الذاتية، من علم وجهل، وغنى وفقر، وقوة وضعف، وصحة واعتلال إلخ، تعين له ظروفا مختلفة، وكذلك البيئة التي يوجد فيها وقتيا، أو لزمن تكيف ظروفه أيضا.
فإذا كان في سفينة مثلا فأشرفت السفينة على الغرق، فوجوده في هذه الحالة ومعرفته السباحة أو جهله إياها، أو وجود زوارق للنجاة كافية، إلى غير ذلك، كل هذا يعين ظرفا خاصا لسلوكه غير ظرف سواه، وسلوكه يتوقف على هذا الظرف الذي يحدد شخصيته؛ فشخصيته حينئذ غير شخصيته في حين آخر. قد ينتدب قبطان السفينة أهل المروءة لترك زوارق النجاة للأحداث والنساء واستلامهم هم للقدر؛ لأن الزوارق غير كافية للجميع. فزيد من الناس يستسلم للقدر، ولكن عمرا لا يستسلم. فمروءة زيد أيضا من جملة عناصر ظرفه. (1-3) العادة والاختبار
وبعض عناصر الظرف تكون وقتية عارضة، وبعضها عادية ثابتة، فالعادة تكون جانبا كبيرا من الظرف، وبالأحرى هي القسم الأوفر من شخصية المرء.
فمعرفة السباحة عادة مرافقة للمرء في كل حين، فهي تكون معه في البر والبحر والنهر، وفي حالة السلامة والخطر. وكل معرفة أو اختبار إنما هو عادة ملازمة لها شأنها في الظرف والشخصية.
ومهما تغيرت الظروف كان للمعرفة والاختبار ضلع فيها؛ فكثير الاختبار يسهل عليه أن يكيف نفسه بحسبها، أو أن يكيف بعضها حسب هواه، وقليله يصطدم بالظروف ويتخبط فيها خبط عشواء. وقيمة شخصية المرء تتوقف على سعة اختباراته، فالعادة إذن هي الحالة التي يعيش فيها المرء مكتسبا منها اختبارات خاصة تحدد شخصيته وظروفه.
من الاختبارات العادية تنشأ قوة الحكم والاختيار؛ لأن المرء يتعلم من الاختبار الصواب والخطأ، وتتولد فيه قوة الحكم. والأمر الذي لم نختبره بعد، أو إن لم نعرفه، لا نستطيع الاختيار فيه. فالشخصية الصالحة إذن هي التي تعلمت من الاختبار أن تختار الأصلح والأجود، هي التي تبتدع لنفسها ظرفا أدبيا يسير الفعل في مجرى أدبي يؤدي إلى غاية حميدة، ولا يقال عن شخص إنه صائب أو مخطئ في عمله، أو إنه صالح العمل وجيد السلوك إلا إذا كان عمله ينتج مسرة له ولغيره، أو له على الأقل، ولا ينتج ضررا لا له ولا لسواه.
فالذي يحسن أو يصنع خيرا لغاية دنيئة لا يعد عمله صالحا؛ لأنه لا يجد سروره في الإحسان، بل سروره في تلك الغاية الدنيئة الضارة بغيره. إذن السلوك الأدبي الجيد الفعل والغاية هو ما كان يبتغي السرور فيه من الغاية الجيدة. وهنا يسوقنا البحث إلى موضوع الحسن أو الجيد أو الحميد. ونقتصر هنا على لفظ «الحسن» في التعبير عن كل جيد أو حميد. (2) الحسن (2-1) ما هو الحسن؟
قبل أن نبحث في الحكم على الفعل - أو السلوك أو التصرف - إن كان حسنا أو غير حسن، يجب أن نبحث فيما هو الحسن أو الصالح، أو الجيد أو الحميد. وهي مترادفات. ولكي نفهم ما هو الحسن إلخ، نبحث فيما هو الحسن أو الجودة.
تقول: هذا القلم حسن أو جيد؛ لأن جودته قائمة في كونه يكتب بسهولة كتابة واضحة، وتقول: هذا الكتاب حسن؛ لأن حسنه قائم في كونه يمنحك معرفة مفيدة كنت تجهلها، وتقول: إن هذا المكتب جيد؛ لأن جودته قائمة في كونه واسعا ترتاح في الجلوس إليه وفي استعماله، وتقول: هذا الطعام جيد؛ لأنه شهي الطعم مغذ، وهذه الزهرة حسنة؛ لأن منظرها يشرح نظرك، ورائحتها تنعش نفسك.
فأول ما يتبادر إلى ذهنك في استخراج تعريف الحسن أو الجودة، أو الحسن أو الجيد، أنه هو ما كان مؤديا للغرض الخاص به، ولكن هل يمكن أن يكون هذا التعريف جامعا مانعا؟ إن المكتب الذي عددته حسنا لأنك ارتحت في الجلوس إليه وفي استعماله ليس حسنا لابنك الصغير الذي لا يرتاح لديه، والطعام الذي اشتهيته لأنه لذيذ الطعم لا يوافق معدتك، فما أدى إلى الغاية المرغوبة التي هي صحتك.
إذن ليس كل ما يفضي إلى الغرض الخاص به يعد حسنا؛ فالمدية تعد حسنة لأنها تبري القلم، ولكنها لا تعد حسنة حين تجرح يد الطفل، وهذا الطعام يعد حسنا لأنه يرضي حاسة الذوق، ويعد رديئا لأنه يضر المعدة؛ فلا يكون الشيء حسنا بنفسه لنفسه. إذن لماذا نعد الشيء حسنا أو رديئا؟ (2-2) هل الحسن ما وافق الغاية المرغوبة؟
لعلك تظن وتعود إلى موضوع الغاية المرغوبة وتقول: إن الحسن هو ما أفضى بنا إلى الغاية المرغوبة. فهذا الدواء مع أنه مر هو حسن؛ لأنه نافع للصحة، والصحة هي الغاية المرغوبة. ولكن الغلام مع اقتناعه بأن الدواء نافع له ينفر منه، ويأبى أن يأخذه، فمع كونه مؤديا إلى الغاية المرغوبة لا يستحسن. ألا ترى أنك تعرف أمورا كثيرة تؤدي إلى غايات مرغوبة ولكنك لا تبتغيها؟ فما هي حسنة إذن في نظرك! أنت تعرف أن الاجتهاد يغنيك، والغنى غاية مرغوبة، ولكنك لا تجتهد! وتعرف أن صنع المعروف غاية مرغوبة ولكنك لا تصنعه! تعلم أن المسكرات ضارة، والإقلاع عنها غاية مرغوبة، ولكنك لا تقلع عنها! (2-3) هل الحسن ما أنتج سرورا؟
إذن قد نقول: إن أمر الحسن والجودة لا يتوقف على الشيء الجيد، ولا على تأديته للغاية المرغوبة، بل يتوقف على حكم المرء نفسه فيما إذا كان هذا الشيء حسنا له، فيرغب فيه أو يجعله غايته المرغوبة، وكأنك تقول: إن الحسن أو الجيد هو ما أفضى إلى نتيجة سارة للمرء. فهو يتجرع الدواء المر المذاق لأنه يبتغي سرورا بالصحة الجيدة، والطفل لا يقبل الدواء لأنه لا يدرك سرور الصحة، بل يبتغي لذة الذوق، فيطلب الشكولاتة الضارة بصحته وهو مريض لأنه يجد فيها حلاوة.
إذن هل يمكنك أن تقول: إن الحسن المطلق هو كل ما أفضى إلى لذة، أو هو اللذة بعينها؟ فالشكولاتة حسنة للطفل لأنه يستلذها، والدواء غير حسن له لأنه يعافه، والدواء حسن للرجل لأنه يحسن صحته التي هي غاية سارة له، والسكير لا يقلع عن السكر لأنه يبتغي لذة الثمل؛ فالسكر حسن عنده. (2-4) هل الحسن ما اعتقدت بحسنه لك؟
بالطبع تقول: لا؛ لأنه حالا يبدر لذهنك أنه لا يكفي أن يكون الشيء سارا بحد نفسه، ولا يكفي أن يكون المرء مسرورا به، بل لا بد من أمر آخر؛ وهو أن يكون المرء مقتنعا أنه حسن له بقطع النظر عن كونه سارا. فالسرور بالحسن لا يضمن حسنه، كما أن سرور السكير بالخمرة لا يضمن حسنها.
هنا بلغنا إلى النقطة الجوهرية في موضوعنا؛ وهي أدبية الفعل. هنا لا بد من قوة الحكم في الأمر هل هو حسن حقيقة أو غير حسن، هل يؤدي إلى الغاية المرغوبة، أو هل هو الغاية المرغوبة نفسها. قد يكون الحكم خطأ كما يمكن أن يكون صوابا، فليس هذا موضوعنا الآن، بل سيكون موضوعنا فيما بعد . (2-5) أدبية الحسن
إذن الحسن هو ما كان حسنا بحد نفسه؛ أي مطابقا للغاية التي وجد لها، وكنا نحن نستحسنه أيضا؛ أي نعتقد أنه حسن لنا، فمنه الحسن أو الجودة، ومنا الاستحسان. فاستحساننا سواء كان صوابا أو خطأ هو حكمنا العقلي، وهو يقرر جودته، حتى إذا ظهر لنا بعدئذ أنه غير حسن استقبحناه وغيرنا حكمنا فيه.
فجودة الجيد في نظرنا ليست في صفاته التي اختبرناها به، بل في تأثيره في ذهننا التأثير الذي يحرك قوة الحكم فينا، فنحكم هل هو حسن أو غير حسن. وهذه القوة نعبر عنها بالاستحسان؛ فاستحسان الحسن هو حالة عقلية تحدث في النفس شعورا بالسرور. إذن الحسن ليس سرورا بحد ذاته، بل هو محرك للشعور السار إذا كان الوجدان يحكم بأنه حسن، وإلا فمهما كان حسنا بحد ذاته فلا يعد حسنا للمرء ما لم يستحسنه الوجدان. ليس حسنا لخواص فيه، بل لأنه يوافق حالة عقلية فينا تثير قوة الحكم باستحسانه، وعن يد هذه القوة نشعر بالسرور. (3) الجميل والجمال (3-1) الفرق بين الجميل والجيد
لكيلا يخلط القارئ بين الحسن والجمال، أو بين الحسن والجميل، أو لكيلا يلتبس عليه الأمران؛ نبحث في ماهية الجمال، ولا سيما أن للجمال نصيبا من أدب النفس. ودفعا لهذا الالتباس، نستعمل لفظتي جودة وجيد بدل حسن وحسن؛ لأن لفظ الحسن بلغتنا يستعمل للجيد تارة وللجميل أخرى، والفرق بينهما ظاهر. كذلك بينهما فرق من الوجهة الأدبية التي نحن بصددها؛ فالجيد قد يكون جميلا وقد لا يكون، على أن الجميل جيد على كل حال، وإنما فيه شيء آخر يميزه عن الجيد. ولا بد من البحث فيما يميزه؛ لأن الجمال يلعب دورا عظيم الشأن في الحياة الأدبية.
إذا قلنا: إن هذا الطعام جيد لأنه صحي؛ ولهذا استحسناه، فليس في هذا الاستحسان معنى الجمال، ولكن إذا قلنا: هذه الحديقة تسر الخاطر ولهذا استحسناها؛ فهي إذن جميلة، ولكنا لا نقول: إنها جيدة ما لم نمتع النفس بجمالها، فليس جمالها غايتنا المرغوبة، بل التمتع بها. والغاية المرغوبة هي الدخول إلى هذه الحديقة للتمتع بها، أو اقتناؤها، أو إنشاء حديقة لنا مثلها.
فالفرق بين الجيد والجميل إذن هو أن الجيد لا نقول بجودته ما لم نحكم بها، وأما الجميل فنقول: إنه جميل بلا حكم في جماله؛ فالحكم العقلي يسبق تقرير ابتغاء الجيد، والإعجاب بالشيء يسبق تقرير جماله، فنقول عن هذه الزهرة: إنها جميلة لأننا أعجبنا بشكلها، ونقول: إنها جيدة لأننا ابتغينا اقتطافها للتمتع بنظرها ورسمها. (3-2) الحكم للجمال على الذوق
فجودة الشيء تتوقف على الحكم العقلي بأنه غاية مرغوبة مبتغاة، وجمال الشيء يتوقف على «الذوق العقلي» الذي نبهه الإعجاب بهذا الشيء. الجميل أحدث إعجابنا لأنه صاقب ذوقنا، وقد لا نبتغيه فلا نقول: إنه جيد، بل نكتفي بالقول: إنه جميل؛ لأن الجودة تتوقف على الابتغاء، والجيد لا شأن له في قوة الحكم فينا لنقرر إن كان غاية مرغوبة أو لا.
فقد أعجب بالموسيقى ولكني لا أبتغي التمتع بها؛ لأني لا أريد أن أدفع ثمن تذكرة دخول إلى حفلة الغناء، أو لا أبتغي أن أتعلم الموسيقى لأني أنفر من مشقة تعلمها، كذلك أعجب بالحديقة الغناء ولكني مشغول عن الطواف فيها للتمتع بجمالها. (3-3) تلازم الجمال والجودة
ومع ذلك لا نستطيع أن نجرد الجمال من الجودة كل التجريد؛ لأننا في حين نجتذب إلى الجميل نكون متمتعين بجماله، ولا نجتذب إليه ما لم يقع تحت حواسنا، ومتى وقع تحت حواسنا أصبحنا متمتعين به، وإنما نعجب بذكرى الجميل الذي أعجبنا واجتذب حواسنا، ومع ذلك لا تخلو هذه الذكرى من شيء من التمتع؛ إذن الجميل وإن كان متميزا عن الجيد فهو مصطحب له دائما. (3-4) الحق المطلق والجمال غير المطلق
وهناك فرق آخر بين الجمال والجودة، وهو فرق عقلي بحت؛ فالجيد يحتمل الحكم فيما كان حقا أو صوابا، أو ضلالا أو خطأ، ولكن الجميل لا يحتمل هذا الحكم؛ فقد يمكن أن تبلغ إلى الحق المطلق، وأما إلى الجمال المطلق فلا تبلغ؛ لأن جماله متوقف على حكم الذوق لا على حكم العقل المنطقي: فما يكون جميلا عندك قد لا يكون جميلا في نظر غيرك.
ولكن الحق المطلق واحد للجميع إذا فهمه الجميع؛ فلا ريب عندك وعند غيرك أن الصعود أصعب من النزول، وأن الجوع ألم والشبع لذة، وأن الاعتدال أسلم عاقبة من التهور. ولكن الشرقي يختلف عن الغربي في تذوق الموسيقى؛ فالموسيقى الشرقية لا تلذ للغربي، والعكس بالعكس. وقد تستحسن هذه الصورة وغيرك لا يستحسنها؛ ولهذا قيل: «ما على الذوق جدال.» (3-5) الجودة حيوية والجمال روحاني
وهناك فرق آخر بين الجمال والجودة؛ فالجودة تتوقف على تحريك الغرائز الشهوانية لابتغائها، فهي تجاوب حاجة طبيعية في الشخصية، ولكن الجمال يتوقف على بغية النفس للمثل الأعلى، فهو روحاني أكثر مما هو جسداني، وهو المحور الذي يدور حوله الرقي الإنساني في هذا الموضوع من كتبنا السالفة كلها. انظر أيضا الفصل الرابع حرف (أ). (4) الحسن السار (4-1) هل كل مسرة جيدة؟
بقي أمر آخر لا يحسن بنا أن نتجاوزه إلى المواضيع الأخرى؛ لأنه حلقة جوهرية في سلسلة أبحاثنا، فإذا تجاوزناه انقطعت السلسلة؛ وهو: هل كل مسرة جيدة؟ وأية المسرات أجود؟
نحن في محيط من بواعث الأفعال المؤدية إلى غايات مرغوبة هي سارة - على الغالب - وكثيرا ما نجد أنفسنا في ظرف أو ظروف مختلفة تزين لنا مسرات مختلفة، بعضها قريبة وبعضها بعيدة، سهلة المنال وبعضها صعبة، فأيتها هي المسرة الجيدة؟ لديك الخمرة؛ فاحتساؤها غاية مرغوبة سارة، ولكن الامتناع عنها مخافة إدمانها غاية سارة أيضا، فأيهما الجيدة أو أيهما أجودهما؟ السكير يقول: احتساؤها أجود، والصاحي يقول: بل الامتناع عنها أجود. إذن هنا نحتاج إلى قوة الحكم العقلي للاختيار بين جيدين: جودة الثمل، وجودة سلامة الصحة.
مثال آخر: لدى المتمول مشروعان أو مشروعات مختلفة؛ فأولا: أنه يبتاع أسهما مالية عرضة للصعود والنزول، وهو يرجح الكسب، وثانيا: أنه يشتري عقارا مضمون الربح، ولكن ربحه أقل من ربح الأسهم، وثالثا: أنه يتاجر بأضعاف وافرة الربح وأقل خطرا من المضاربة بالأسهم، ولكنها مع ذلك عرضة للخسارة. وكل هذه غايات مرغوبة سارة، ولكن أيها الجيد أو الأجود. فهنا يستلزم الأمر انتداب العقل للحكم بين التهور والاعتدال والخوف من الخسارة. هنا ثلاثة أخلاق محركة تدفع لثلاثة أفعال مختلفة، وتؤدي إلى ثلاث غايات سارة، وللعقل أن يحكم أيها أجود.
مثال آخر: أنت في مجتمع حافل: فهنا مرقص، وهنا دائرة غناء، وهنا دائرة مقامرة، وكلها سارة، فأيها الجيد الذي تختاره؟
في هذه الأمثلة المختلفة تجد المرء بين مسرات مختلفة بعضها يباين بعضا، وبعضها أكثر إغراء من بعض له لا لغيره، فلا بد له من الاختيار، فما الذي يوجب اختياره لهذا دون ذاك؟ (4-2) هل المسرة العظمى جيدة؟
أول ما يبدر لذهنك أن تقوله هو أنه يختار المسرة العظمى له؛ فهي الجيد المبتغى، أو أنه يختار الغاية التي تصحبها مسرات أكثر من سواها. فالمتهور يختار المضاربة على قنية العقار؛ لأن فيها سلسلة من المسرات العديدة فيما هو يضارب، وحين يربح، حتى حين يخسر.
ولكن المسرة لا قياس لها ولا قدر؛ فالذي يرغب في قنية العقار يفضل السرور بربحه المضمون على السرور المتتابع في المضاربة، والذي يسمع الموسيقى يفضل التمتع بجمالها على السرور المتتابع في الرقص أو في المقامرة. فتعدد المسرات لا يضمن جودتها كغاية مرغوبة، ووفرة الربح السريع لا تضمن جودته عند صاحب العقار الذي يفضل الربح المعتدل المضمون البطيء، إذن ما هي المسرة الجيدة حقيقة؟ (4-3) المسرة الجيدة ما أرضت هوى النفس
هي ما أرضت هوى النفس رضى تاما، فإن كان المضارب يعتقد أن المضاربة تبلغه إلى رضى النفس هذا كانت المضاربة تؤدي إلى غايته الجيدة. فوظيفة الحكم العقلي هنا هي أن يقرر إن كانت المضاربة تؤدي إلى هذه الغاية أو إلى الندم، فإذا أجود الغايات السارة، أو أجود المسرات هو السعادة بعينها.
فتعدد المسرات واختلافها ينقل بحثنا إلى موضوع أدبية الفعل؛ حيث نبحث في كيفية الاختيار بين جيد وجيد، وتقرير الجيد والرديء، وما هي القوة الحاكمة وطبيعتها، وكيف تضل وتصيب. فإلى الفصل التالي.
الفصل الثاني
الحكم
(1) الحكم بالنسبة إلى الفعل (1-1) السلوك القابل الحكم
علمت مما تقدم أن الفعل لا يعد سلوكا أو تصرفا إلا متى أسند إلى الأدبية؛ أي إن السلوك هو فعل أدبي، ولا يعد الفعل أدبيا إلا متى كان مرادا، فالسلوك إذن هو فعل مراد، فإذا لم يكن الفعل مرادا؛ أي تأمر به الإرادة، أو لم تكن هناك إرادة لتأمر به وتنهى عنه فلا وجه للحكم عليه أو فيه؛ لأنه ليس أدبيا، بل هو خارج عن السنن الأدبية.
فهياج البحر وتحطيمه للسفن لا يعد سلوكا يستوجب الحكم عليه إن كان حقا أو غير حق، أو صوابا أو غير صواب؛ لأنه ليس هناك إرادة صادرة من ذاتية بشرية موجهة الفعل في وجهته؛ ولذلك كان زركسيس الآشوري أحمق حين أمر بجلد البحر؛ لأن البحر حطم الأرماث التي كان جيشه مزمعا أن يعبر عليها من آسيا إلى أوروبا في مضيق البوسفور.
وكذلك ليس معنى للحكم بالصواب أو الخطأ فيما لو أمطرت السماء فأنعش المطر الزرع وتلافى المجاعة من جهة، وجرفت سيوله بعض الأراضي وأغرقت الماشية من جهة أخرى؛ لأنه ليس هناك إرادة بشرية أذنت بالفعل. كذلك ليس لنا أن نحكم على سطو الوحوش الضارية على الماشية؛ لأن فعلها هذا صادر عن غريزة بلا إرادة، وكذلك ليس لنا أن نحكم على تصرف الجندي متى صدر إليه أمر القائد بإطلاق الرصاص على العدو؛ لأنه لا ينفذ إرادته الشخصية، بل إرادة القائد، فما هو إلا كآلة للتنفيذ.
وهكذا لا يصح الحكم على أمر القائد؛ لأنه ينفذ أمر حكومته، فإرادة الحكومة هي التي تقع تحت الحكم في قضية قتل العدو، وإنما نحكم على انتظام الجندي في سلك الجندية إذا كان متطوعا؛ فقد أراد، ونحكم على ظرف أمر القائد للجنود بإطلاق الرصاص؛ فقد يكون خطأ من الوجهة الحربية أو قد لا يكون. فمن ذلك تفهم أن الحكم لا يجوز إلا على السلوك الذي هو فعل موجه بإرادة حرة. (1-2) ماهية الحكم
وهنا قد تسأل ما المراد بالحكم؛ هل هو حكم في طبيعة الشيء أو الفعل؟ كأن تقول: هذا العمل شاق أو هين، أو إن هذا الشيء غال أو رخيص، أو إن هذا الفعل عقلي أو جسدي أو نحو ذلك. لا، ليس المراد به الحكم في الشيء كتحليل لطبيعته من وجهة فلسفية أو منطقية، بل المراد به الحكم على الفعل بالنسبة إلى قاعدة أو مبدأ أو سنة: هل هو مطابق لهذه القاعدة أو المبدأ أو السنة أو مخالف لها؟
الحكم الأدبي ليس تقريرا لطبيعة الشيء، بل هو تقرير لمطابقة فعل الشيء للمبدأ الأدبي - الذي تقرر من جراء مقابلة التصرفات والأفعال البشرية ومقارنتها بعضها ببعض لاستخراج ذلك المبدأ أو القاعدة - فنحكم بأن السرقة خطأ، والصدق صواب، ووفاء الدين حق، واختلاسه غبن؛ لأن الخطأ والصواب والعدل والغبن إنما هي مبادئ أدبية يطبق الفعل المراد أو السلوك عليها بقوة الحكم العقلي.
إذن ترى مما تقدم أن للحكم الأدبي عنصرين؛ الأول: الموضوع الذي يحكم فيه، والثاني: المبدأ الذي يستند عليه. العنصر الأول: انفعال من حركة الشيء الذي يحوم الحكم حوله، والثاني: هو رد الفعل من القوة الحاكمة المتكون فيها المبدأ أو القاعدة. وإسناد الحكم إلى الموضوع طبقا للقاعدة أو المبدأ يختلف باختلاف الظروف والأحوال، وبحسب رسوخ القاعدة والمبدأ أو قبولهما التنقيح «التعديل»؛ لأنه إذا كان المبدأ راسخا كسنة طبيعية خالدة انتفى لزوم الحكم، فلا.
ومعنى للحكم في قولك: إن الشمس ستغرب مساء، وتشرق غدا صباحا، وإن الحجر إذا رمي إلى العلا لا بد أن يعود إلى الأرض؛ لأن سنة الجاذبية أبدية ثابتة لا تحتمل الشك، وكذلك إذا كان الظرف أو الحال ثابتا فتطبيق الموضوع على القاعدة، وإسناد الفعل إلى المبدأ أمر مقرر أيضا، فلا معنى للحكم، ولكن إذا كان المبدأ قابلا للتغيير بحسب الزمان والمكان، فلا غنى عن قوة الحكم: فتعمد القتل جريمة؛ لأن المبدأ الأدبي «لا تقتل»، ولكنه ليس جريمة في الحرب، والسرقة إثم؛ لأن المبدأ «لا تسرق»، ولكن السارق الجائع قد يعذر.
فترى مما تقدم، أنه كلما قرب المبدأ أو القاعدة إلى الرسوخ والثبات قل لزوم الحكم فيه، وبالعكس؛ كلما كان المبدأ أو القاعدة محتمل التغيير كان للحكم وجوه وفيه نظر، كما سترى فيما يلي: (1-3) مبادئ الحكم الرئيسية (1)
الجمال والقبح . (2)
الجودة والرداءة. (3)
اللذة والألم. (4)
الصواب والخطأ. (5)
الحق والباطل. (6)
الفضيلة والرذيلة. (1)
الجمال والقبح : وهما يقعان تحت حكم الذوق العقلي أو الإحساس العصبي؛ فالإحساس العصبي يقرر حلاوة الحلو ومرارة المر، والذوق العقلي يقرر جمال النغم والقصيدة والصورة، وقبح النهيق والنقيق وسوء الترتيب إلخ. (2)
الجودة والرداءة : وهما تقعان تحت حكم الشعور الوجداني؛ فهو يقرر أن إغاثة الغريق أمر جيد لأنه مروءة، والمروءة مبدأ جيد، والاعتداء على الضعيف أمر رديء لأنه ظلم، والظلم مبدأ رديء. (3)
اللذة والألم : وهما يقعان تحت حكم الشعور الوجداني تارة؛ فهو يقرر أن الربح والفوز لذيذان، والخسارة والانكسار مؤلمان، وتحت حكم الإحساس العصبي تارة أخرى؛ فهذا يقرر أن الراحة بعد التعب لذيذة، وأن التعب مؤلم. (4)
الصواب والخطأ : وهما يقعان تحت حكم التعقل؛ فهو يقرر أن اقتحام المأسدة خطر لأنه مجازفة، والمجازفة مبدأ خطأ، وأن السير في الطريق المطروق أصوب من السير في الوعر. (5)
الحق والباطل : وهما يقعان تحت حكم الضمير، فهو يقرر أن إيفاء الدين حق، وأن اهتضام مال الغير باطل؛ لأن المبدأ «لا تختلس مال غيرك». (6)
الفضيلة والرذيلة : وهما تقعان تحت حكم الشخصية الإنسانية؛ فهي تقرر أن حب القريب كالنفس فضيلة، وأن البغض رذيلة، والكرم فضيلة، والبخل رذيلة. (1-4) تفاوت أدبية المبادئ
ترى أنه كلما سمت القوة الحاكمة كان الحكم أكثر أدبية وبالعكس؛ ففي الجمال والقبح يكون الحكم للإحساس العصبي أو الذوق العقلي. وهنا يختلف الناس في إحساسهم وأذواقهم، فقلما يعد الحكم أدبيا؛ لأن ما هو مليح لك قد يكون قبيحا لسواك. أنت تستلذ القهوة الحلوة وغيرك يستلذ القهوة المرة.
وفي مسألة الجودة والرداءة شيء من الأدبية؛ لأن في حكم الشعور الوجداني الذي هو أسمى من الإحساس والذوق شيئا من الأدبية، لأنك وأنت تحكم تريد أو لا تريد، وحيث توجد الإرادة يبتدئ الحكم الأدبي. فأنت تعلم أن السكر رديء والصحو جيد، ولكنك تريد ذاك لا هذا.
وكذلك الأمر في اللذة والألم؛ لأنهما تحت حكم الشعور الوجداني والإحساس العصبي.
والفرق بين اللذة والجودة هو أن اللذة نتيجة فعل، والجودة معرفة فقط . فأنت تعرف أن الإحسان أمر جيد، ولكنك لا تستلذه ما لم تفعله.
وأما الصواب والخطأ فأعلى من المبادئ المذكورة؛ لأنهما تحت حكم التعقل، ولذلك هما أدبيان محضان؛ لأن إجراءهما متوقف على الإرادة المحضة بعد الحكم فيهما.
وكذلك أمر الحق والباطل؛ لأنهما تحت حكم الضمير، وهو يتضمن قوة التعقل. والفرق بين الصواب والحق هو أن الحق أمر يتعدى منك إلى سواك، وأما الصواب فأمر مختص بك، فإذا تعدى إلى سواك صار حقا. فأنت تعلم أن القمار خطأ؛ لأنه يعرضك للخسارة، وإذا أغريت غيرك على المقامرة وعرضته للخسارة كان فعلك هذا غير حق؛ أي باطلا.
وأما الفضيلة والرذيلة فأعلى أدبية من سائر المبادئ؛ لأنهما تحت حكم الشخصية الإنسانية التي هي أقرب إلى المثل الأعلى. والفرق بين الفضيلة والحق والصواب هو أن الفضيلة مبتغاة كحلية للشخصية بقطع النظر عن العلاقة مع الغير.
وستتضح لك جميع هذه الرئيسيات في تضاعيف الفصول التالية. (2) الحكم بالنسبة إلى الفاعل (2-1) الحكم على الفعل لا على الفاعل
تقرر في ذهنك، فيما تقدم، أن الحكم يكون على الفعل صوابا أو خطأ، حقا أو باطلا، جيدا أو رديئا، ولكن الفعل صادر عن فاعل، فهل يتناول الفاعل أيضا؟ هل نحكم على فلان أنه مصيب أو مخطئ إذا كان فعله صوابا أو خطأ؟ هب أن زيدا رمى عمرا بتفاحة وهو يريد أن يفقأ عينه بها، ولكن عمرا تلقاها بقبضته وأكلها، فنتيجة الفعل كانت جيدة، ولكن قصد زيد كان سيئا. فالحكم على الفعل اختلف عن الحكم على الفاعل، كذلك الحكم يختلف فيما لو رمى زيد التفاحة إلى عمرو لكي يأكلها فأصابت عينه؛ فالفعل سيئ والفاعل حسن القصد.
إذن إصابة الحكم تتوقف على الفعل وما اقترن به من إرادة وقصد وداع، فإذا كانت الإرادة صالحة، والطريقة التي تنفذ بها الفعل جيدة، والداعي للفعل جيدا؛ كانت النتيجة جيدة، فالحكم على الشخصية تابع للحكم على الإرادة والقصد والداعي الذي رمى إلى الغاية. قد يخيب الفعل فلا يبلغ الغاية المقصودة، فهل نعد الفعل خطأ أو غير جيد؟
قد ينبري زيد لتخليص عمرو من الغرق، ولكنه قد لا ينجح، أو قد يكون فعله سببا آخر لإغراق زيد، أو ربما غرق معه، فلا نعد فعله خطأ؛ لأنه حسن القصد. لا نحكم على النتيجة، بل على القصد والإرادة والداعي، ونقول: إنه فعل حسنا؛ لأن الداعي كان إنقاذ عمرو، وقد أراد إنقاذه وفعل قاصدا الإنقاذ. وأما فشله فلا يعد خطأ، وإنما إذا كان لا يحسن السباحة وقد انبرى للفعل حكمنا على تهوره لا على قصده، وقلنا: إن تهوره كان خطأ، وأما فعله فكان حسنا. (2-2) الحكم يرجع للإرادة الصالحة
ففي رأس عوامل الحكم عامل الإرادة الصالحة؛ فهي تعين الحكم الصالح، والفعل الصادر منها يعد صالحا ولو كانت النتيجة خطأ كما علمت. وإنما لكي تكون الإرادة صالحة يجب أن تكون مقرونة بالحكمة التعقلية السامية؛ فكل إرادة صالحة على هذا النحو تفضي إلى نتيجة صالحة، ولا نتيجة صالحة تنتج عن إرادة رديئة، وإن نتجت عنها النتيجة الصالحة فلا تنسب إلى الإرادة السيئة، بل إلى ظرف عارض حول الفعل إلى نتيجة حسنة رغم الإرادة.
لذلك لا يمكن أن نقول: إن زيدا أصاب، أو هو على حق، أو أحسن الفعل، إذا كانت إرادته رديئة، ولو أدى عمله إلى فعل حسن. فإذا رمى الصياد طعما للسمكة بسنارة، فأكلت السمكة الطعم ولم تعلق في السنارة؛ ففعله سيئ للسمكة؛ لأنه كان ينوي صيدها لا إطعامها، وإذا أقرض زيد عمرا مالا بربى فاحش، فانتفع عمرو بالمال نفعا عظيما ثم رد المال لزيد؛ فلا يعد عمل زيد صالحا وإن كان قد نفع عمرا؛ لأن نيته كانت سيئة، وهي انتهاز فرصة حاجة عمرو للمال لابتزاز ربى فاحش منه. (2-3) الحكم على الفاعل يتوقف على حكم الإرادة الصالحة
على أن المقاصد تختلف، والنيات تختلف من حيث الغاية والداعي إليها، فقد تكون صالحة قليلا أو كثيرا، حسب صلاحية الإرادة وصلاحية الحكمة المتضمنة فيها؛ فقد ينوي زيد أن يساعد عمرا في مشروع، فيشترك معه فيه بغية إنجاحه، ولكن عمرا طائش وجاهل فلم يحسن القيام بالمشروع. فزيد حسن النية، ولكنه قليل الحكمة، فلم يفطن لقلة أهلية عمرو للمشروع، فتعقله غير صالح. وإليك مثلا أبسط: أحسن زيد على فقير بشلن، ولكن الفقير أنفق الشلن على الخمرة فسكر وعربد. فإرادة زيد لم تكن صالحة؛ لأنه كان يعرف أن هذا الفقير سكير، فكان يجب أن يعطيه رغيفا لا شلنا.
إذن يتناول الحكم على الفعل الحكم على الفاعل أيضا بقدر ما للفاعل من الإرادة الصالحة، والتعقل الحسن. والحكم على الشخصيات يتوقف على ما لها من الإرادات الصالحة المقرونة بالحكمة والمواهب التي تحسن الحكم. (2-4) لا حكم على محركات الفعل الغريزية
إذا كان الحكم يتناول الداعي للفعل أيضا، كما علمت، فهل يجوز الحكم على محركات الفعل الغريزية وأشباهها؟ هب أن زيدا فوجئ بأفعى ظهرت بين رجليه فخاف فهرب، فهل نقول: إنه كان يجب عليه أن يقتلها لا أن يخاف وإلا فهو جبان؟ نعم، جبن في تلك اللحظة، ولكن الجبن ليس خلقة فيه؛ فلا نحكم عليه بالجبن؛ لأن هربه لم يكن بإرادته، بل بانفعاله. لو رآها من بعيد لانبرى تعقله وقرر مهاجمتها وقتلها. وهنا يريد فيفعل؛ فالحكم عليه بأنه جبان أو شجاع يجوز حين يكون له وقت للتفكير والإرادة، ولكنه لا يجوز في حالة المفاجأة؛ لأن الهرب كان بلا إرادة، بل بفعل المحرك وحده، وهو الانفعال النفساني؛ أي الخوف.
إذن لا يصح الحكم بالخطأ أو الصواب على المحرك ما لم تنبر الإرادة لتسيير الفعل؛ ولهذا يعذر الغضوب إذا ضرب، والسكران إذا تمادى في الشرب وعربد؛ لأنه أصبح بلا إرادة، وإنما يلام هذا لأنه ابتدأ بالشرب، وذاك لأنه تسرع.
نحكم على الشخص إذا كان يستسلم لغرائزه وعواطفه وانفعالاته ونقول: إنه ضعيف الإرادة، عاجز عن ضبط هواه؛ فالحكم ليس على عمله، بل على شخصيته؛ لأنها غير حسنة، غير صالحة. •••
في كل ما تقدم تكلمنا عن طبيعة الحكم المجرد من غير نظر إلى الحاكم وكيفية الحكم والقواعد التي يستند إليها، فمن هو الحاكم أو الفيصل أو القاضي؟ الضمير. وفيما يلي تبسط كاف فيه.
الفصل الثالث
الضمير
(1) قوة الضمير (1-1) وظائف الضمير
الحكم يستلزم محكمة، والمحكمة في الأدبيات قائمة في نفس الإنسان، في عقليته، في شخصيته العاقلة؛ وهي الضمير. والضمير - بواسع معناه - مشترع وقاض ومنفذ، ويمكن أن يكون زاجرا وشاكيا وشاهدا أيضا.
فالضمير «مشترع» حين يميز بين الصواب والخطأ، والحق والباطل، فيقول: هذا الفعل صواب أو حق، أو خطأ أو باطل، ويكون قاضيا حين يأمر بالفعل الصائب والحق، وينهى عن الفعل الخاطئ أو الباطل، ويكون منفذا حين يسر النفس بنتيجة الفعل الحسن أو الحق، أو يؤلمها بنتيجته السيئة أو الباطلة، ويكون زاجرا حين يقدم الإنسان على الفعل الباطل أو السيئ فيردعه الضمير عن إتيان الفعل، ويتهدده بألم النفس، أو حين يتردد الإنسان في العمل الصالح فيأمره الضمير أن يفعل وإلا تهدده، ويكون شاكيا أو شاهدا بعد وقوع الفعل فيقول له: «لقد فعلت فلا تنكر.» ويعاقبه بالتبكيت والتأنيب.
ولكن هل يكون الضمير مصيبا دائما في قضائه؟ هناك عوامل تعمل في اشتراع الضمير، وفي حكمه: فللعواطف والانفعالات تأثير على الضمير، وللوجدان أو التعقل شأن كبير، وللشرائع والعادات فعل فيه. وهناك مبادئ ونظريات متباينة متضاربة تلعب في الضمير؛ فالضمير إذن عرضة للخطأ والصواب في الحكم، ولذلك نبحث فيما يلي في الأركان التي يستند عليها الضمير في الحكم لكي يمكن أن يكون حكمه صائبا إذا استوفاها. (1-2) المقاصد الحسنة
أول ما يتجلى للعقل - في أي أمر أو فعل - أن للإنسان حقا طبيعيا في أن يرمي بفعله إلى غاية حميدة له؛ لأنه محتاج إليها لحفظ كيانه، فإذا استوفاها سرت نفسه، ولكن تقوم لديه اعتراضات مختلفة؛ أهمها أولا: هل يمس هذا الأمر مصلحة غيره؟ هل تحتك غايته بغاية غيره الحميدة فتنقضها أو تشوهها؟ (2) هل تثلم غايته هذه مصلحة الجماعة أو تنقضها أو تعرقلها؟ (3) هل هذه الغاية التي يرمي إليها هي أفضل غاية حميدة ممكنة له، أو هل هي حميدة حقيقية؟ أو هي الغاية القصوى الحميدة، أم هي مفضية إلى غاية بعدها سيئة؟ (1-3) الضمير تحت تأثير الأخلاق والسجايا
فإذا تدخلت العواطف والانفعالات في الأمر فقد يلتبس الأمر على الضمير، ولا سيما إذا كانت العاطفة شريفة وحسنة. هب أنه التجأ إليك هارب فأخبأته، ثم جاءك مطاردوه وسألوك عنه فأنكرت وجوده عندك إشفاقا عليه، فهل يبرر ضميرك هذا الكذب؟ إذا كان مطاردوه أعداء له فقد يقول ضميرك: «لا بأس من الكذب؛ فقد خلصت حياته بهذه الكذبة.» وإذا كان مطاردوه شرطة يبتغون القبض عليه للمحاكمة، فقد خلصته ولكنك أثمت للعدل، فأيهما هنا أحق في ظنك: إخلاص حياته أو تسليمه للقضاء العادل؟ هنا تدخل العاطفة أفسد على الضمير حكمه.
إذن لكي تكون العواطف والأخلاق على العموم ذات شأن بالتدخل في أحكام الضمير يجب أن تكون مهذبة راقية إلى جهة المثل الأعلى، بحيث يمكن أن تقف عند حد الصواب فلا تطمس التعقل. نعم، إن الأخلاق الشريفة لا ترمي إلا إلى الغايات الشريفة، ولكنها قد تضل عن أشرف الغايات أو أفضلها؛ ولذلك يجب أن يصحبها التعقل دائما لكي يميز بين أفضل الغايات ويرشدها إليها.
الأم التي ترضع طفلها الذي نهاها الطبيب عن إرضاعه تغلبت عليها عاطفتها فابتغت الغاية السارة القريبة؛ وهي إشباع طفلها الذي يتألم من الجوع، حسب ظنها، وتعامت عن الغاية القصوى؛ وهي شفاء ولدها. فضميرها ارتاح حين أرضعته، ولكنه أقلقها حين استفحل مرض ابنها، فضميرها في أول الأمر لم يحكم في أي الغايتين أفضل؛ إشباع الابن وإسكاته عن البكاء الشديد أم شفاؤه؟ لأن العاطفة تغلبت عليها.
للعاطفة فضل في التدخل إذا كان التعقل يوافق عليها ويقول لها: سيري في سبيلك؛ فالذي تدفعه المروءة لإنقاذ آخر من الخطر تكون مروءته قد لبت دعوة ضميره للفعل. والضمير يثيبها مسرة نفس بعد نجاح الفعل. (1-4) الضمير بإزاء الشرائع
الضمير ضعيف بإزاء الشرائع الدينية والمدنية؛ ولذلك تكون وظيفته القضاء فقط، فيقول لك: هذا موافق للشريعة فافعله، أو مخالف لها فلا تفعله، وإن فعلت فدونك عقاب الدنيا أو عقاب الآخرة، وإن كنت تسلم من عقاب الدنيا ولا تخاف عقاب الآخرة، أو لا تعتقد به؛ فيبقى ضميرك مؤنبا لك، لا لأنك خالفت الشريعة فقط، بل لأن مخالفتها قد أضرت مصلحة غيرك أو مصلحة الجماعة؛ وذلك لأن الشرائع على الغالب ترمي إلى إقامة العدل والإنصاف بين الأفراد.
ولكن ليست كل الشرائع ضامنة للحق والصواب؛ ففي كل زمان ومكان يكتشف العقل البشري أغلاطا في الشرائع يضطرب فيها ميزان الحق والصواب، فهل للضمير أن يخضع لهذه الشرائع إذا لم يكن مكرها على الخضوع لها؟ نقول مكرها؛ لأنه في حالة الإكراه يبطل عمل الإرادة؛ وبالتالي لا يعود السلوك ضمن دائرة الآداب؛ لأن السلوك لا يعد أدبيا إلا إذا كان مرادا كما علمت.
كان الصيدونيون يقدمون أطفالهم محرقات على ذراعي تمثال مولوك النحاسي وهو حام كالنار. ونحن نستفظع الآن هذا العمل، فهل كان ضمير الصيدونيين صالحا في ذاك الحين؟ كان صالحا عندهم؛ لأنهم كانوا ينفذون شريعة إلههم الدينية، ولكنه كان شريرا في نظر الإسرائيليين معاصريهم؛ لأن هؤلاء كانوا يعتقدون بألوهية يهوه فقط، وهو شجب هذه الشريعة.
ولا بد أنه كان بين الصيدونيين أفراد كثيرون أو قليلون أسمى عقلا من العامة يفهمون أن مولوك ليس إلها حقيقيا، وإلا لما كان يسن هذه الشريعة الفظيعة؛ لأن الوجدان السليم من شوائب الخرافات يستفظعها، فهؤلاء ينهاهم الضمير عن طاعة هذه الشريعة، وإن أطاعوها أنبهم. (1-5) الضمير منقح الشريعة
وفي التاريخ كثير من الشرائع الدينية التي يستنكرها العقل الآن؛ كشريعة وأد البنات، ودفن الزوجة حية مع زوجها الميت، كذلك في التاريخ شرائع مدنية لا يعتدل فيها ميزان الحق؛ كالنخاسة، والعبودية، والحكم الفردي المطلق، ونفي الحرية الدينية، واستعباد النساء إلخ.
فالضمير المستسلم للشرائع لاعتقاد أنها منزلة، أو أنها إرادة الحاكم المقدسة يعد ضعيفا؛ ولذلك لا يحفل بحكمه وهي - أي الشرائع - مسيطرة عليه، فالشريعة مهما تراءت حسنة فإنما هي محتملة الشك في كونها حقا أو باطلا، أو عدلا أو ظلما؛ ولذلك يبقى للضمير السليم القوي مجال للحكم في صوابها وخطئها؛ لأن الضمير بالحقيقة ليس إلا قوة التعقل، وقد أضيفت إليه قوة الإرادة الآمرة بفعل الصواب والحق؛ فعليه أن ينقح الشريعة لكي تقرب إلى المثل الأعلى. والمثل الأعلى في الشرائع هو أن تكون الشريعة ميزان الحق والعدل بين أفراد الجماعة على التساوي.
فالضمير في كل قضية تعرض عليه ينصب هذا الميزان، فحيث يجد الشريعة منصفة بين الأفراد، ولا تسوغ أرجحية لواحد على آخر أجازها وأمر باتباعها، وحيث وجد أنها مجحفة بأناس ومتحيزة لآخرين إذن بعصيانها، اللهم إلا إذا كان عصيانها يسبب فوضى الجماعة - والفوضى تئول إلى شر أفظع من شر طاعتها - فحينئذ يجيزها تحاميا للشر الأعظم؛ فهو يبتغي الخير الأعظم متى تضاربت المقاصد. فالسلام العام أهم وأفضل من سلامة الفرد أو الأفراد من الغبن والإجحاف.
الاشتراكيون المعتدلون يرون أن النظام الإفرادي الحالي مجحف بالعمال، وممكن للمتمولين من استثمار أتعاب أولئك؛ ولذلك يسوغ لهم ضميرهم قلب هذا النظام واسترداد تلك الحقوق المغصوبة بواسطة نظامهم الذي هيئوه، معتقدين أنه أضمن لحقوق الأفراد عموما، ولكنهم لا يحاولون قلب هذا النظام بثورة؛ لئلا يكون شر الثورة أعظم من شر النظام الحالي، وضميرهم يقول لهم: إن السلام العام أعظم من سلامة العمال من غبن المتمولين لهم، وقلب النظام بالطريقة الانتخابية أفضل عاقبة من الثورة. (1-6) تأثير التقاليد والعادات على الضمير
وهناك عوامل أخرى تؤثر على الضمير في إصدار الحكم وهو يستند إليها أو يستمد الحقيقة منها، وهي: التقاليد والعادات غير المقررة كشرائع دينية أو أدبية، بيد أنها تكون رأيا اجتماعيا. والرأي الاجتماعي لا يعد رأيا عاما مطلقا؛ لأن الرأي العام المطلق غير موجود، بدليل وجود الأحزاب المختلفة في الرأي؛ ولذلك يوجد مجال لحكم الضمير، لأنه لو كان الرأي عاما مطلقا كان كشريعة فيضعف الضمير بإزائه، وكان للرأي العام سلطة عليه فقلما يطمئن لمخالفته.
فحين يقدم المرء على فعل يتساءل الضمير: هل هذا الفعل مطابق لعادات الجماعة وتقاليدها؟ هل إذا حدث هذا الفعل يستنكره الجمهور أو يستحسنه؟ فإن لم يكن الضمير مستسلما للرأي العام؛ أي إذا كان قويا، تساءل على نحو آخر: هل هذا الفعل يضر الجماعة أو لا يضرها؟ هل يوافق مصلحتها أو ينافيها؟
وقد يكون التقليد أو العادة مخالفا للحق، فإذا كان الفعل المخالف لتقليد الجماعة مخالفا للحق كان له حكمان؛ الأول: أنه يستوجب استنكار الجماعة له، وشجبهم فاعله، والثاني: أنه موافق لمصلحة الفرد والجماعة معا. فأي الحكمين يقضي الضمير؟ مثال ذلك أنك ترغب أن تلبس البرنيطة وقومك يلبسون الطربوش، فإن لبستها هزءوا بك، ولكنك تعتقد أن البرنيطة أفضل من الطربوش؛ فكيف تحكم أن البرنيطة أفضل من الطربوش؟ (1-7) التعقل مستشار الضمير
ترى مما تقدم أنه لا الأخلاق ولا الشرائع ولا التقاليد والعادات تعصم الضمير من الخطأ في الحكم، بل لا بد من التعقل في القضاء وإصدار الحكم، التعقل يميز بين الحق والباطل، والصواب والخطأ، إذا كان يضع نصب عينيه قاعدة للحق، فما هذه القاعدة؟ هنا يستلزم الأمر أن نبحث عن منشأ الضمير والتعقل. (2) منشأ الضمير (2-1) الضمير وليد الاجتماعية
الإنسان اجتماعي، ولولا اجتماعيته لما كان للضمير لزوم؛ لأنه وهو فرد مستقل يسعى لأجل بقاء حياته منازعا الطبيعة بلا قيد ولا شرط، ولكنه لأنه اجتماعي مرتبط مع جماعته؛ ولذلك تضيق دائرة حريته وتتسع دائرة مسئوليته بقدر متانة الجماعة، فإذا فعل فعلا مخالفا لمصلحة الجماعة؛ كأن يضر الجماعة أو يضعفها، كان مستوجبا العقاب، وكان الضمير أول ما يحاكمه ويقضي عليه. ترى مثل هذا الضمير حتى عند الحيوانات الاجتماعية؛ فإن الفرد منها يخاف أن يفعل فعلا يخالف نسق حياة جماعته فلا يفعله، هو أطوع من الإنسان لنسق حياة الجماعة؛ لأن ضميره غريزي فيه.
للإنسان وهو اجتماعي ذاتيتان: ذاتية شخصية، وذاتية قومية. وهو يشعر أنه بسلوكه وحده لا يستطيع أن يحفظ حياته، يشعر أنه لا بد أن يكون سلوكه مطابقا لسلوك الجماعة لكي يحفظ حياته، يشعر أن بقاء حياة الجماعة تتضمن بقاء حياته أيضا، فإن تضررت الجماعة تضرر هو أيضا، وإن نجحت الجماعة نجح هو أيضا؛ فإذن لضمانة الحرص على بقاء ذاتيته يشعر أنه ملزم بالحرص على بقاء ذاتية جماعته. فالقاعدة الحقة التي يضعها نصب عينيه هي أن ما يفعله يجب أن يكون موافقا لحياة الجماعة، وإلا فهو مخطئ في فعله. (2-2) غريزية الضمير
قد يمكن للهمجي أن لا يفهم معنى ذاتية الجماعة كما نفهمها، ولكنه يشعر بهذه الذاتية التي لقبيلته؛ فإذا تعرضت لخطر من قبيلة أخرى هب مع رفاقه للدفاع، فقد يترك زوجته وأولاده لكي يقاتل لأجل سلامة قبيلته. فضميره هو الذي حكم عليه بالاندفاع في القتال، فإذا تردد أو راوغ عاقبه ضميره قبل أن يعاقبه قومه، فكأن الضمير غريزة فيه.
وبقوة هذه الغريزة تفوقت قبائل على قبائل، وبها بقيت قبائل وبدونها فنيت قبائل، فالفضل في الانتخاب الطبيعي الاجتماعي هو لهذه الغريزة؛ أي غريزة الضمير، وبفضل هذه الغريزة تضامنت القبائل، وتألفت الشعوب، وتكونت الأمم. ومع التمادي، تقوت هذه الغريزة فربطت الأفراد في جماعات، والجماعات في قبائل فشعوب فأمم. تقوت إلى أن صارت غريزة في الأمم، والأمم تحاسب بعضها بعضا بحكم هذه الغريزة - الضمير. ترقى الضمير حتى صار غريزة الإنسانية. فالإنسانية العليا تفتخر بالضمير.
بقوة هذا الضمير يشعر الفرد الاجتماعي المتمدن أنه ليس فردا مستقلا، بل هو جزء من نظام محكم ذي ذاتية قائمة بنفسها، وبموجب انتظامه في سلك الجماعة يشعر أنه ملزم بأن يوفق حياته مع حياة الجماعة، ويرتاح إلى هذا الالتزام لأنه يشعر أيضا أن سلامته قائمة بسلامة الجماعة. من هنا نشأت بزرة الحكم الأدبي في هل هذا الفعل أو ذاك حق وصواب، فهو حق وصواب إذا كان ينطبق على مصلحة الجماعة أو يخالفها. وميزان المطابقة هو التساوي بين الأفراد والاستحقاق. هذا هو الحق بعينه الذي يستند الضمير إليه في قضائه. (3) سلطة الضمير (3-1) منشأ القوة الأمرية في الضمير
قلنا: إن الضمير مشترع وقاض؛ مشترع لأنه يميز بين الحق والباطل، والخطأ والصواب، على قاعدة الحق العام الموزع على الجماعة. وقد نال هذا المنصب بالوراثة؛ فصار غريزيا على تمادي الزمان، وهو قاض؛ لأنه يحكم ويأمر بتنفيذ الحكم حتى من غير أن يشير إلى سبب، فمن أين جاءته سلطة الأمر هذه وقوة التنفيذ؟ فهل هي سلطة خارجية أم سلطة داخلية؟
إذا قلنا: إنها سلطة داخلية، فهل نعني أن الإنسان يحكم على نفسه؟ وإذا كان الإنسان يحكم على نفسه بمطلق اختياره فلا يتمادى بالحكم إلى أن يعاقب نفسه إذا عصى أمر نفسه، ولكن الضمير يعاقبه ويؤلمه وهو جزء منه، فكيف ذلك؟
هذا ما يبرهن على أن الضمير وإن كان شيئا من ذاتية الإنسان فقد أصبح بغريزته كشيء قائم بنفسه، مستقل بأمره ونهيه، ذي سلطان، كما أن الغريزة في الحيوان ذات سلطان عليه تدفعه إلى الفعل بلا إرادة؛ فهو إذن قوة مستقلة عن سائر القوى العقلية، ذات نفوذ خاص، مسيطرة على سائر الغرائز والأخلاق. وهو يتحكم فيها حتى إذا عصته وخزها وآلمها. هو مركز الذاتية الإنسانية الأدبية، وفيه إدارة حركة السلوك. بهذه القوة يمتاز الإنسان على الحيوان، وبها تتميز ذاتيته عن ذاتية هذا. وبهذه القوة أصبح الإنسان ذاتا أدبية، أما الحيوان فليس كذلك. (3-2) الشعور بالجزاء غريزي
على أن وظيفة الضمير، كما اتضح من هذا البيان، ليست مقتصرة على الحكم البديهي، بل هي مقرونة بشعور بنتيجة السلوك: شعور بالسرور والابتهاج إذا كان الفعل حقا أو حسنا، أو شعور بالكآبة والقلق إذا كان باطلا أو رديئا. وهذا الشعور نفسه غريزي أيضا؛ لأن المرء السليم العقل والنفس لا يستطيع قمع الشعور بالكآبة والقلق. ولولا غريزته هذه لكان الضمير آمرا وناهيا بلا سلطة نافذة، فما هذا الشعور إلا جزاء على الطاعة والعصيان. (3-3) غريزية القوة الأمرية في الضمير
قد يقول زيد من الناس: أنا أعلم أن هذا الفعل خطأ أو غير حق ولكني أفعله، فماذا أو من يمنعني أن أفعله؟ فهل لضميره قوة على ردعه عن أن يفعله؟ قد لا يستطيع أن يردعه، ولكنه يستطيع أن يقلقه بالتأنيب والتوبيخ، فمن أين للضمير هذه القوة التي لا يستطيع المرء أن يتملص منها؟ هي غريزة أيضا نشأت وترعرعت وقويت على تمادي الزمان. قويت عند الأقوام التي ترقت، وكان الفضل في رقيها لهذا الضمير الغريزي.
فالقوم الذي كان أقوى ضميرا، وضميره أنفذ فعلا وتأثيرا في النفس؛ كان أثبت من غيره في مضمار تنازع البقاء، والقوم الذي كان أضعف ضميرا تلاشى وانقرض؛ لأن قاعدة حكم الضمير هي الحرص على الحق الأصح الموزع على الجماعة بالتساوي. وبحكم سنة الانتخاب الطبيعي وبقاء الأفضل أو الأصلح بقيت الجماعات الأقوى ضميرا، وانقرضت الجماعات الأضعف ضميرا، وبحكم هذه السنة نفسها كانت غريزية الضمير تزداد رسوخا في الجماعات الباقية. (3-4) الضمير عامل من عوامل رقي الأمم
فالضمير لا يخرج عن سنة التطور، سنة النشوء والارتقاء، وكيف لا يكون متمشيا على هذه السنة وهو أهم عنصر في عقلية الإنسان الاجتماعية، وعليه يتوقف الحرص على الحياة الاجتماعية وبنائها، كما يتوقف على سائر القوى العقلية الأخرى، بل له النفوذ الأكبر في هذا التطور؟ فلا بدع أن يكون غريزة في النفس كسائر القوى العقلية، يولد مع الإنسان، وينمو فيه، كما تنمو تصوراته وذاكرته وسائر قواه العقلية.
لذلك لا بدع أن يكون الضمير متنبها في كل فرد عند كل فعل ليحكم وليزجر، وإن كان تنبهه وتأثيره يختلفان باختلاف الأشخاص؛ فالأشخاص الذين يكون الضمير فيهم ضعيفا لا يقاسون كثيرا من تأنيبه، ولكنهم لا يسلمون سلامة مطلقة من تأنيبه. ولما كان تأثيره أظهر في الجماعة منه في الأفراد، لكون وظيفته الحرص على مصلحة الجماعة في الدرجة الأولى كما علمت؛ كانت الأقوام الأضعف ضميرا أقل نجاحا، وأكثر عرضة للانحطاط والتقهقر. ومن لا يعلم أن الأمة التي يكثر فيها الكذب والخيانة والسرقة والإجرام يقل بالإجمال فيها الرقي، بل تكون أقرب إلى الانقراض منها إلى البقاء؟! •••
وهنا لا بد أن يلوح في ذهنك هذا السؤال: كيف يستطيع الضمير أن يميز بين الحق والباطل، والصواب والخطأ، والجيد والرديء إلخ، لكي يجوز له أن يستخرج مبدأ أو يشترع شريعة، ولكي يمكنه أن يصدر حكما سديدا ويقضي قضاء عادلا، ولا سيما إذا قامت لديه ظروف مختلفة، وتراءت له نظريات متباينة يحار فيها؟
تجد الجواب في الفصول التالية.
الفصل الرابع
مستندات الضمير في قضائه
قد يلوح للقارئ أن الضمير يعتمد في اشتراعه وقضائه وأحكامه على الإحساس الأدبي العام، كأن في الهيئة الاجتماعية روحا أدبية عامة توحي لكل فرد سليم العقل، وأدبي النفس، قاعدة الحق والصواب. وربما حسب القارئ هذا الإحساس العام الضمير بعينه؛ لذلك يجدر بنا أن نتبسط بهذا الموضوع لكي نتوصل إلى مصدر قوة الحكم. (1) الإحساس الأدبي الخاص (1-1) نقد الإحساس الأدبي
الشرائع المدنية والدينية، التي هي خلاصة روح الاجتماع، حتى الشرائع الطبيعية توحي إلينا مبادئ أدبية؛ إما لأنها توافق وجداننا، أو لأن وجداننا يرتاح إليها، أو لأننا نشعر أن طاعتنا أو مراعاتنا لها تقدرنا على نيل مثل أعلى في ذاتيتنا، فإذن بين عقولنا وبين تلك المبادئ أو السنن الخارجية علاقة أو صلة طبيعية. ولإدراك هذه الصلة، نجد فينا شعورا أو إحساسا يحملنا على استحسان بعض الأمور، واستقباح أو استهجان بعض الأمور الأخرى. وهذا ما نسميه الإحساس الأدبي.
هذا الإحساس الأدبي يقرب ما بين الجميل والجيد، كما أنه يقرب بين الجيد والصواب والحق، حتى نكاد نرى هذه المبادئ الأولية مبدأ واحدا. والحقيقة أنها متفرعة من مبدأ واحد حتى نكاد نحكم أن الجميل مثلا هو الجيد الوحيد، أو أن كل جيد جميل وبالعكس.
والحقيقة أنه مهما قرب الإحساس الأدبي بين الجيد والجميل يبقى بينهما فرق يميز أحدهما عن الآخر؛ فاستحسان الجميل يرجع للذوق، واستحسان الجيد يرجع للحكم الأدبي، فنقول: إن هذه الصورة جميلة لأنها توافق ذوقنا، ونقول: إن صنع هذه الصورة للذكرى أمر جيد؛ لأن وجداننا حكم بجودته؛ ففي الحالة الأولى لا ينتقد ذوقنا إلا أهل الفن، وأما في الحالة الثانية فينتقد حكمنا الرأي العام. استحسان الجميل ذوق عقلي لا يحتاج إلى تعليل ولا يناقش فيه، وأما استحسان الجيد، أو بالأحرى استصوابه، فيستلزم تعليلا وتفسيرا. وكل ما يستلزم التفسير يستلزم الحكم بكونه جيدا أو غير جيد؛ وبالتالي يحتمل النقد.
هذا هو الفرق بين الجيد والجميل؛ ولذلك يوجد فرق بين الإحساس الأدبي والإحساس الفني. وقد تطرف بعض الباحثين - ومنهم شفتسبري وهتشنصون - فتصوروا الإحساس الأدبي ذوقا أدبيا مماثلا للذوق الفني؛ مثلا لو سألك سائل: لماذا تشمئز من كونك عاري الجسد وأنت وحدك في منزلك؟ فقد تستهجن سؤاله، وإن أصر على طلبه الجواب قلت له: لأن لي عينين تريانني نفسي في المرآة فأستقبح نفسي، وإذا قال لك: هب أنك كنت في الظلام، فتقول: مع ذلك أستهجن عريي؛ لأن أدبي يستنكر عري الجسد، وإلا فأنا حيوان لا أحترم نفسي.
ومعنى ذلك أن الذوق الراقي يرشد إلى الجيد، كما أنه يشمئز من المنكر، وأن السنة الذوقية الأدبية غريزة، أو غريزة ثانوية على الأقل تستنكر المنكر حتى ولو كان خفيا كاستنكار العري في الظلام. (1-2) الذوق الأدبي غير كاف للحكم
فبهذا الاعتبار يمكن أن يقال: إن الإحساس الأدبي نوع من الذوق، وإنما لكونه هكذا لا يعتمد عليه كل الاعتماد في إدراك الحق والصواب؛ لأنه كذوق لا يقبل التعليل، وبالتالي لا يقبل النقد ولا يصلح قاعدة للحكم الأدبي؛ لأن الحكم الأدبي محصور في دائرة التعليل والنقد. كذلك الذوق الفني، متى كان يقبل التعليل، وبالتالي يقبل النقد والحكم، خرج من دائرة الإحساس الفني إلى دائرة الإحساس الأدبي.
ومع ذلك، لا يكفي الإحساس الأدبي أساسا للحكم في موضوعه، فإذا قلت للشعراء: هذا الشعر جميل أو غير جميل، فقد يخالفونك ويبرهنون لك الخلاف، وحينئذ تخرج المسألة من دائرة الذوق الفني إلى دائرة الذوق الأدبي؛ ولذلك إذا كان الذوق الأدبي عرضة للتعليل والتفسير كان بطبيعة الحال خاضعا للحكم التعقلي. ومع ذلك، هذا الاعتبار لا يكون قاعدة أدبية كافية، وإنما هو درجة راقية في الشخصية الأدبية تساعد كثيرا في الحكم. هو ظاهرة اجتماعية ترقى بالترويض والتهذيب. ذو الإحساس الأدبي لا يضطر إلى إنعام النظر في المبادئ الأدبية؛ لأن هذه المبادئ مندمجة في ذوقه الراقي المهذب. (1-3) تكون المبادئ العمومية
على أننا في الأدبيات نحتاج إلى مبادئ عمومية غير خاصة بذوي الذوق الراقي فقط، بل بجميع طبقات الناس على السواء، كما أننا نحتاج إلى معرفة ما يكون الذوق الأدبي الراقي في سائر الجنس البشري. وبهذا الاعتبار يختلف الإحساس الأدبي عن الإحساس «أو الذوق» الفني. وإذا كان المرء ضعيف الذوق الفني فلا ينتفي أنه عضو أدبي سليم في جسم المجتمع، ولكن إذا كان ضعيف الإحساس الأدبي كان عضوا مريضا في جسم المجتمع.
وإذا تعمقنا في تحليل الإحساس الأدبي، المشار إليه آنفا، بلغنا إلى الضمير ، وهناك نجد جذوره، وقد نجده متصلا بالبديهة أو قسما منها، إذا لم يكن هو إياها بعينها؛ فالبديهة تعلم أن الأفعال صواب أو خطأ بحسب طبيعتها الداخلية، لا بحسب الغايات الخارجة عنها التي تتجه إلى تحقيقها؛ فالصدق مثلا يعد واجبا لا لأنه أمر جوهري للشخصية الاجتماعية، ولا لأي سبب خارجي، بل لأنه صواب وحق بحد ذاته. فهو صوت في الضمير جازم بالحكم بلا اعتراض ولا تأويل، هو إدراك المرء المطابقة التامة بين أفعاله وقاعدة الحق والصواب القائمة في يقينه، فإن ظهر في هذه القاعدة عيب؛ فلأن العيب في الضمير نفسه أيضا؛ أي إن الضمير عليل.
والمرء الذي لا يفعل بضمير سليم يرتكب الخطأ طبعا، ولكن إن كان المرء حسن الضمير وفعله خطأ؛ فلأن في قاعدته الأدبية عيبا: فتاجر الخمور لا يعد عليل الضمير، وإنما العلة في قاعدته الأدبية؛ وهي «أن التجارة حرفة محللة»، فهو لا يرغم السكير على شراء خمره، وإن لم يبعه هو الخمر باعه إياه سواه.
كذلك الجلاد لا يعد عليل الضمير، وإنما العلة في قاعدته الأدبية؛ وهي أنه ليس إلا آلة لتنفيذ الحكم بالموت على المجرم. ففظاعة تنفيذ هذا الحكم تنسب لقانون الحكومة لا له، فإذا اقتنع يوما ما أن الحكم بالموت أمر فظيع على كل حال، ويجب أن يبطل من العالم؛ أصبح قبوله لوظيفة الجلاد خطأ أو إثما، كذلك تاجر الخمور إذا اقتنع بأن هذه التجارة حرام وبقي متاجرا بها عد أثيما. (2) الإحساس الأدبي العام (2-1) انبثاث المبادئ في المجموع
يستفاد مما تقدم أن القواعد الأدبية تختلف باختلاف الضمائر السليمة في درجة تروضها وتهذبها، فقد تكون قاعدتك الأدبية غير قاعدتي؛ ولهذا نختلف في الحكم بالرغم من أننا كلينا سليما الضمير، وإنما هناك إحساس عام تلجأ إليه الضمائر السليمة، وتستمد منه القواعد الأدبية.
فإدراك الصواب والخطأ في الأفعال قوة كامنة في كل الناس، وإنما هذه القوة متفاوتة فيهم، وهي في بعضهم مروضة أكثر من بعض. وأما المبادئ التي تحوم حولها مدارك الناس فإنما هي قائمة في الإحساس العام الذي يكون المبادئ الأدبية العليا، وإليها تلجأ الضمائر في اتخاذ قواعدها للحكم؛ لأن هذه المبادئ منبثة في المجموع. (2-2) الإحساس العام غير كاف للحكم
ولكن الإحساس العام يختلف أيضا باختلاف الأقوام والأزمان، حتى باختلاف طبقات الناس وأعمارهم؛ لأن مرجعه إلى العقلية، والحقيقة العقلية غير مقررة في العقل الاجتماعي؛ وبالتالي يكون الحق الأدبي المسند إلى العقل الاجتماعي غير مقرر أيضا. فإذا عرض للعقل الإنساني مبدأ أدبي أعمق من مبادئ الإحساس العام حدث ارتباك عند الضمير؛ ولذلك لا يستطيع الضمير أن يستند على الإحساس العام وحده، كما رأينا أنه لا يستطيع أن يستند على الإحساس الأدبي الفردي، الذي رأينا أنه يكاد يتحد بالبديهة كشيء واحد.
وحينئذ يصبح الضمير نفسه عرضة للوقوع تحت الحكم فيما إذا كان صائبا أو مخطئا، وحينئذ ترانا كأننا في حاجة إلى ضمير أعلى يحكم على الضمير المعتاد، فإن كان ثمة لنا ضمير آخر يحكم على الضمير فلا نجده إلا في التعقل. إذن الضمير يحتاج إلى التعقل مع الإحساس العام والإحساس الأدبي الفردي أو البديهة؛ فإذن لا غنى لنا في الارتشاد إلى المبادئ أو القواعد الأدبية عن التعقل. وكما أن لنا تعقلا فكريا يعيننا على استنتاج الحقائق من الظواهر العلمية، كذلك لنا تعقل أدبي يعيننا على استنتاج سنن الحق أو المبادئ الأدبية. (3) الحكم بحسب الشرائع (3-1) هل يمكن أن تكون الشريعة قاعدة للحكم الأدبي؟
الشريعة قرار أجنبي عن الضمير، قرار بصواب الأمر أو بخطئه. ويعني بها أية شريعة؛ دينية أو سياسية أو أدبية، نافذة بحكم التقليد. فحكم الشريعة قد يسكت له الضمير؛ لأنه صادر من سلطة فوق سلطانه، وبهذا الرضى لا يكون السلوك أدبيا؛ لأنه غير مسند إلى حكم الضمير، لخلوه من الإرادة الحرة، ولاحتمال أن يكون بين حكم الشريعة وحكم الضمير تضارب أو تباين؛ فهو إذن طاعة لوصية أو أمر خارجي، لا سلوك أدبي.
وإذا تضاربت الشرائع أو ناقضت بعضها بعضا، كما لو ناقضت الشريعة السياسية الشريعة الدينية، أو الشريعة الأدبية التقليدية؛ كأن تجيز الشريعة السياسية الطلاق، والدين والعرف يحرمانه، أو كأن تحرم الشريعة الدينية الربا، والسياسية تحلله باعتبار أنه مرابحة لا ربا، التجأ الضمير إلى التعقل لتفسير الشريعتين والتوفيق بينهما؛ إذن لا تعد الشريعة حكما أدبيا مقررا للصواب أو الحق.
حتى الشرائع الدينية تتصادم؛ فشريعة المسيح الذي قال: إنه لم يأت لينقض بل ليكمل، مناقضة لشريعة موسى؛ موسى قال: «عين بعين.» والمسيح قال: «من لطمك على خدك الأيمن فحول له الأيسر.» والشريعة المدنية لا تقول هذا ولا ذاك، بل تقول: «قاضه؛ فيعاقب بحبس وغرامة.»
إذن يتعذر عليك أن تجد في الشرائع قواعد عامة تعد قواعد أدبية يستند إليها العقل في الحكم؛ ولهذا كان المشترعون يحاولون أن يضعوا لكل حالة من الأحوال قانونا خاصا بها. ومع تعدد الشرائع وتفرعها وتوسعها، لم يستطيعوا أن يحصروا جميع الأحوال ويحددوا لها شرائع معينة، ولا أمكنهم أن يجعلوا الشرائع جامعة مانعة غير متضاربة ولا متناقضة، بل يستحيل أن تكون الشرائع كذلك، كما أنه يستحيل حفظها في الذاكرة لتكون مستندا في الحكم. وهب أن هذا المستحيل صار ممكنا، فالاستناد على الشريعة ينفي أدبية السلوك نفيا باتا، ويلغي وظيفة الضمير؛ لأنه لا يبقى محل للاختيار حين يقال: هذا حق وهذا باطل، أو هذا صواب وهذا خطأ. (3-2) لا
وإذا شئنا أن نستخرج من الشرائع عموما قاعدة أدبية عامة لنجعلها مستندا للحكم، فلربما انتهينا عند الآية الذهبية: «حب قريبك كنفسك.» فهي قاعدة أدبية لا قانون شرعي. ومع ذلك، هل تعصم من الخطأ وتغني عن حكم الضمير؟ هب أن لي هذه الفضيلة، أي إني أحب خير غيري كخير نفسي، فإذا كان خير غيري يناقض خيري فماذا أفعل؟ هنا يجب أن أزن بين الخيرين وأرى أيهما أرجح فأفعله؛ إذن أراني محتاجا إلى قاعدة أخرى لا تستند إليها، هي الموازنة بين الخيرين للعلم أيهما أرجح؟ وإذن أراني مضطرا للالتجاء إلى «التعقل» وانتداب الضمير ليقوم بوظيفته في إصدار الحكم الأدبي.
فترى مما تقدم أن الشرائع مهما عدلت وكانت محكمة فلا تعد قاعدة للحكم الأدبي، وإنما هي وصايا وأوامر تطاع رضوخا لسلطة نافذة. نعم ، إنها زبدة أحكام أدبية، ولكنها أصبحت خارجة عن دائرة التعقل الأدبي، وبالتالي هي خارجة عن دائرة بحثنا. لا تعد الشريعة حكما أدبيا إلا متى قبلها الضمير وأمر بإجراء الفعل بموجبها؛ لأن الحكم الأدبي هو ما يصدر من داخل النفس لا ما يوجب عليها من خارجها، ولا يقبلها الضمير إلا إذا كانت موافقة لحكمه ومزكية له. (4) البديهة
إذا كان الإحساس الخاص والإحساس العام والذوق الأدبي والشرائع لا تصلح مستندات كافية لقضاء الضمير وسداد حكمه، فإذن أين نجد مستنداته القوية المتينة؟ يقال: في البداهة شيء منها؛ فلنبحث في البداهة أو البديهة. (4-1) استقلال قوة الضمير
وتمهيدا للبحث نستخلص هنا بيان الأستاذ مويرهد عن الضمير: «(1) الضمير شيء بسيط غير مشتق «أي أنه قوة مستقلة». (2) إن أحكامه بديهية في حالة حدوث الأفعال أو في حالة تصورها بالشكل الذي تتهيأ به، فيشجب الكذب والجبن مثلا، ويوافق على الصدق والشجاعة من غير أن يعلل حكمه. (3) لذلك له سلطة خاصة فيأمر من غير نظر إلى الاعتبارات الأخرى كاللذة والنفع. (4) لذلك هو عام؛ أي موجود عند جميع الأشخاص الأصحاء العقل. ولا نعني بعموميته أنه موجود في كل شخص وسلالة راقيا بالتساوي، كما أن قوة تمييز الألوان والأشياء وقوة التعقل غير موجودة بالتساوي عند كل الأشخاص والسلالات، بل نعني أن هذه القوة موجودة في داخل كل شخص كما أن قوة التمييز موجودة أيضا.»
1 (4-2) غريزية البداهة
وبداهة الضمير في أحكامه غريزية كسائر الغرائز، وكونها غريزية جعلها قابلة للتطور كسائر الغرائز، تبعا لتطور عقلية الإنسان واجتماعيته؛ ولهذا تختلف قوة البداهة عند الأفراد والأمم والقبائل؛ فبالبديهة يسارع الهمجي إلى حمل حربته للدفاع مع إخوانه عن قبيلته، وبالبديهة يسارع السياسي المتمدن إلى حل المشكلة السياسية بالمساومة تداركا لنشوب الحرب.
فالضمير في حكمه البديهي لا يعتمد على سبب أو تعليل، بل هو صوت داخلي يصدر على الفور قائلا: إن الكذب إثم والصدق فضيلة مثلا، ولا يستمد رأي التعقل إلا متى اختلط عليه الأمر بين خيرين أو شرين. (4-3) نشوء البديهة
وهنا تسأل: كيف نشأت البديهة وكيف تتطور؟ من أين جاء هذا الصوت على الفور؟ نقول:
أولا:
إن البديهة في الأصل قضاء اجتماعي غرس في الذهن على تمادي الزمان مبادئ الحق والصواب والجودة إلخ؛ فصارت وراثة طبيعية، فهي كسائر القوى العقلية التي اقتضاها الاجتماع الإنساني فأصبحت راسخة، وكسائر النزعات التي اقتضتها الطبيعة فصارت غرائز.
ثانيا:
إن التربية الاجتماعية لا تزال تغرس في الذهن هذه المبادئ، فالإنسان منذ يولد إلى أن يشب لا يرى حوله إلا قدوة السلوك والتمييز بين الجيد والرديء، والحق والباطل، والصواب والخطأ، فلا بدع أن تزداد هذه المبادئ فيه انغراسا. وانغراسها على هذا النحو يقرر بداهتها. هذا برهان آخر على أن البداهة وراثية.
ثالثا:
إن الاختبار الشخصي يزيد هذه المبادئ انغراسا ورسوخا في الذهن؛ فيتعلم المرء بنفسه من مبادئ الحق ما لم يعلمه.
رابعا:
التاريخ يمنح الأمم والأفراد فطنة للحق والصواب.
فجميع هذه العوامل تجعل الحق والصواب والجودة إلخ أمورا بديهية في الذهن؛ بحيث إن الضمير يصدر حكمه من غير تفكير في السبب. (4-4) مزكيات البديهة الضميرية
مع كل ذلك لا يندر أن تصطدم البديهة بالمتناقضات والمتضاربات، فماذا يفعل الضمير حينئذ؟ يلتمس تزكية الشريعة والإحساس العام لترجيح أحد المتناقضات على الآخر أو الأخر. والشريعة تزكي حكم الضمير لما توجبه من العقاب عند مخالفتها، والمزكيات خمس كما ذكرها مويرهد: (1) التزكية الطبيعية: وهي توقع الآلام الجسدية التي تنتج عند مخالفة الشرائع الطبيعية، كما لو أسرف الإنسان في إشباع شهواته. (2) التزكية السياسية: وهي توقع الآلام عند مخالفة القوانين كالسرقة والتزوير إلخ. (3) التزكية الاجتماعية: أي تزكية الرأي العام الذي يقتضي شجب مخالفه، أو الثناء على موافقه. (4) التزكية الدينية: وهي الخوف من عقاب الآخرة أو الرجاء بالثواب. (5) وقد أضاف مويرهد التزكية الأدبية الداخلية: وهي ارتياح النفس أو قلقها في طاعة الضمير أو عصيانه. ونحن نرى أن ارتياح النفس أو قلقها ليسا تزكية للحكم، بل هما تنفيذ للحكم.
ترى مما تقدم آنفا أن البديهة وحدها لا تكفي لإصدار الحكم السديد، وأنه كلما وقع الضمير في حيرة وجب أن يعود إلى التعقل . (5) التعقل الأدبي (5-1) مستند التعقل الأدبي
التعقل الأدبي كالتعقل الفكري يقوم بالمقايسة المنطقية، ويرتكز على قوة الاستدلال مستمدا مقدماته من الحقائق الأدبية، ولما كان يتعذر علينا أن نتعقل كل فعل أدبي أو تصرف بشري، ونجعله مبدأ قائما بذاته - لا يمكن ذلك لتعدد أنواع التصرفات تعددا لا يحصى - لم يكن بد من وضع قاعدة أدبية عامة تطبق عليها جميع الأفعال والتصرفات، بحيث إن المبادئ التي تسير بموجبها تكون مبادئ عامة يمكن أن يسير عليها الآخرون؛ فالمبدأ الأدبي هو ما يمكن تعميمه على سائر الأفراد بحيث يكون لخير الفرد ولا يثلم خير الآخرين؛ وبالتالي يكون لخير المجموع. (5-2) القاعدة الأدبية العامة ونظرية كنت
فالقاعدة الأدبية العامة إذن هي أن تفعل ما يوافق المجتمع أن يفعله الآخرون أيضا، وأن تمتنع عن الفعل الذي يوافق المجتمع أن لا يفعله الآخرون، وبعبارة أخرى: افعل «وامتنع عن فعل» ما ترى أن فعله، «أو الامتناع عن فعله» يصح أن يكون قاعدة عامة لجميع الأفراد على السواء، باعتبار أنك وإياهم شخصيات اجتماعية.
وقد حسب كنت
Kant
هذه القاعدة قائمة بنفسها مضمونة بنفس الفعل؛ أي إن الفعل الذي لا يتمشى عليها يسقط من نفسه أو يقتل نفسه، وقد مثل على ذلك بقوله: إن الإخلاف بالوعد يعد خطأ؛ لأنه لا يمكن أن يكون قاعدة عامة، فلو جعلناه قاعدة عامة بحيث يسوغ لكل فرد أن يخلف وعده حين يشعر بميل إلى ذلك، فلا يعود أحد يثق بوعد، وحينئذ لا يعود أحد يعدا وعدا. بالطبع متى لم يبق وعود فلا يبقى إخلاف بوعد؛ ولذلك يستحيل على الشخص الأدبي أن يخلف وعده إذا كان ممن يحافظون على الأدبية الشخصية، ويريد أن يصدق الناس بوعودهم له كما هو يصدق لهم.
كذلك الامتناع عن مراعاة مصالح الغير لا يمكن أن يكون قاعدة عامة؛ لأنه إذا امتنع كل فرد عن مراعاة مصلحة غيره تتعرض مصالحه هو للخطر كما تتعرض مصالح سواه، ومتى كانت كل المصالح في خطر لا يبقى لأحد مصلحة شخصية، بل تصبح كل مصلحة فردية معلقة بالمجموع ؛ ولذلك يضطر كل فرد أن يراعي مصلحة المجموع ومصلحة غيره حرصا على سلامة مصلحته. (5-3) نقد مكنزي
وقد انتقد مكنزي نظرية كنت هذه القائلة بأن هذه القاعدة مضمونة بنفس الفعل، أي إن الفعل الذي لا يتمشى عليها يسقط، فقال: إن هذه القاعدة تحتمل التفسير على نحوين؛ الأول: أنه يمكن أن تؤخذ كقاعدة للسلوك العام المطلق، والثاني: أنه يمكن أن تؤخذ كقاعدة لكل فعل بحسب الظروف المحيطة به.
والظاهر أن كنت قصد المعنى الأول، ولكن يحتمل أنه يعني بها الأمر الثاني أيضا؛ فبحسب المعنى الأول تعد السرقة أمرا خطأ؛ لأنه لا يصح أن تعد قاعدة عامة، ولكن بحسب المعنى الثاني يجب في كل سرقة أن ينظر فيما إذا كان السارق يريد أن كل إنسان غيره يسرق متى كان في ظروف كظروفه، كجان فلجان في رواية البؤساء لفكتور هيجو، فإنه حلل لنفسه سرقة الرغيف لكي يطعم بني أخته الجياع. فبحسب التفسير الأول يعد الامتناع عن السرقة أمرا واجبا، وبحسب التفسير الثاني نرى هذا الواجب ضعيفا رخوا.
مثال آخر: تلافي المصائب العمومية أو بذل الجهود لتحسين الأحوال الاجتماعية يعد قاعدة عامة؛ لأن كل فرد أدبي يريده، فإذا كان كل فرد يبذل جهده في هذا السبيل تزول المصائب، ويتحسن حال المجتمع، وحينئذ لا تبقى حاجة لبذل الجهد هذا. فالامتناع عن بذل الجهد هذا حين لا يكون ثمة موجب له لا يعد - بحسب نظرية كنت - قاتلا لنفسه، بل بذل الجهد نفسه أفضى إلى عدم ضرورته، وإنما إهمال هذا الجهد عند لزومه يقتل نفسه؛ لأن كل فرد يشعر أن إهماله جعل حال المجتمع سيئة؛ فيعدل عن الإهمال. (5-4) ملاحظاتنا على مكنزي
على أننا لا نرى تعليل مكنزي هذا وجيها جدا فيما تقدم؛ لأنه حيث لا مصائب ولا نقص في المجتمع فلا تتحرك إرادة الفرد الحسنة، ولكن متى كانت ثمة مصائب عمومية ونقص اجتماعي تتحرك إرادة الفرد للجهاد لأجل خير المجموع. وإهمال هذا الواجب يعرض الفرد للكارثة؛ فالإهمال إذن يقتل نفسه، وإنما أصاب مكنزي بأنه قيد القاعدة بالظروف والأحوال المحيطة بالسلوك الأدبي، وإذا كان لا بد للمرء الأدبي أن ينظر في الأحوال اضطر أن يستعين بالإحساس العام؛ لأن قولك: «نفعل ما يريد أن يفعله الآخرون تحت الظروف والأحوال التي نفعل فيها نحن.» هو كقولك: «إننا نفعل ما نستحسن فعله.» إذن نحن مضطرون أن نلجأ إلى الإحساس العام في هذا الاستحسان.
ثم إن هناك أفعالا نريد أن نفعلها ولا غبار علينا أن نفعلها، ولكن لا يصح أن تكون قاعدة عامة، مثال ذلك: أنك تريد التبتل؛ أي الامتناع عن الزواج، وتعده فضيلة. وبامتناعك عنه لا تضر المجموع، ولكن إذا جعلته قاعدة عامة يجب على كل فرد اتباعها عرضت السلالة للانقراض، كذلك الصوم أو الإسراف في العطاء للأعمال الخيرية ونحو ذلك. كل هذه تريدها ولكنك لا تستحسن أن تجعلها قاعدة عامة. وهناك أمور كثيرة تريدها ولا يصح أن تبتغي من غيرك أن يريدها، وهي بحد ذاتها ليست خطأ. (5-5) القاعدة الصحيحة
فالقاعدة صحيحة على الإطلاق، باعتبار أن نأبى ما يصح إباؤه أن يكون قاعدة عامة، وأن نفعل ما نريد أن يفعله الغير، وأن لا نفعل ما نريد أن لا يفعله الغير، اللهم إذا كان لا يضر بالغير ولا بالمجموع.
فصلاحية الفعل إذن ليست قائمة بالفعل نفسه؛ بمعنى أنه إذا لم يكن صالحا يبطل تعميمه من نفسه، بل إن صلاحيته قائمة في موافقته للشخصية الاجتماعية أو عدم مناقضته لها على الأقل.
أما كيف نعرف ما يوافق الشخصية الاجتماعية
2
ويناقضها، وكيف نعرف ما تود أن يكون قاعدة عمومية وما لا نود، يجب أن نتعقل طبيعة مشتهياتنا، ونرى إن كانت تتفق مع طبيعة شخصيتنا الاجتماعية أو تناقضها. يجب أن نحكم على أعمالنا من قبيل الشخصية العامة لا من قبيل ذاتيتنا الخاصة، وثم نفعل أفعالنا بمقتضى طبيعة تلك الشخصية العالية. (5-6) تصادم البديهة والتعقل
إذا كان كلا بداهة الضمير والشعور بنتيجة الفعل غريزيين
3
وكلاهما متلازمين، أفلا يمكن أن يختلفا؟ لنفرض أن الضمير قضى بأحد أمرين بناء على أن التعقل استصوبه دون الآخر، ولكن الشعور الذي صاحب الأمر المستصوب كان كآبة أو قلقا. هب أنك استصوبت أن ترد شحاذا لكي لا يتعود الشحاذة، ولكنك تألمت لرده خائبا، فكيف تفسر هذا التناقض بين الشعور المؤلم والحكم المعقول المستصوب؟ وأي الوجهين أفضل أو أصح؟
يمكننا أن نفسر هذا التناقض بأن الشعور بالشفقة مثلا أمر صادر من أقوى غريزة في النفس؛ ولهذا يستمر ملازما للسلوك المعاكس له بشكل تأنيب حتى بعد تقرير التعقل أن ذاك السلوك أصح أدبيا. هكذا يتألم الأب إذا ردع ابنه عن أمر سار له مع شدة اقتناعه بأن منعه أسلم عاقبة له.
إذن يبقى أمامنا هذا السؤال: أي الوجهين أحق بالتغلب؟ أنتبع الشعور الغريزي أم الحكم المعقول؟ ألا يجب أن نبحث عن سبب لتفضيل قاعدة للحكم في جهة أخرى غير جهة شهادة العقل؟ سنجد الجواب في فصل قاعدة الحق والصواب.
وفيما تقدم علمت أن بداهة الضمير عامة في الأفراد والأمم، ولكن لا يخفى عليك أن أحكام الضمائر تختلف باختلاف الأفراد والأمم، وباختلاف الأزمنة أيضا، فما هو حق وصواب عندك قد لا يكون كذلك عند غيرك، أو لم يكن كذلك في عصر ماض. نعم، إن الحق والصواب يختلفان باختلاف الأشخاص والأمم والأزمنة، ولكن لا يختلف الناس في كل زمان على أنه يوجد شيء حق وشيء باطل، أو صواب وخطأ. وتقرير أحد الوجهين يرجع إلى البداهة والتعقل؛ فهما يقرران القاعدة أو المبدأ، كما سيجيء بيانهما؛ فالبداهة وحدها لا يمكن أن تكون مستندا للحكم، ولا سيما إذا اختلط الأمر على الضمير، ولا بد من شهادة العقل كما تقدم. (6) نضوج التعقل بحكم أغراض الحياة الإنسانية (6-1) غرضية الإنسان تستوجب تعقليته
يتميز الحي عن الجماد بأن حركته داخلية؛ أي إنها تحت سيطرة مركزه الداخلي وما هي خاضعة الخضوع المطلق للسيطرة الخارجية، فهو يستطيع أن يقاوم الجاذبية العامة، يستطيع أن يصعد من السهل إلى الجبل، وماء النهر لا يستطيع، وإذا كانت حركته هكذا؛ أي داخلية وتحت سيطرة مركزه، فلا تصدر ولا تتخذ جهة دون أخرى إلا لأن لها غرضا أو غاية عينها ذلك المركز. فالحي على الإطلاق غرضي؛ أي ذو غرض، وجميع أغراضه أو مجهوداته في سبيل أغراضه تؤدي إلى بقائه بحسب شكله الخاص المعين.
والحيوان يختلف عن النبات من قبيل غرضيته بأنه ذو نزعات متمركزة في الجهاز العصبي، وهي التي تعين الغرض وتوجه الحركة إليه، والإنسان يمتاز على الحيوان من هذا القبيل بأنه يدرك غرضه ويفهمه ويفهم تمركز نزعاته واتجاهها إلى غرضه، وفوق ذلك يدرك أن له مركزا أعلى يسيطر على هذه النزعات وعلى الغرض، والنبات متوقف على ما تقدمه الطبيعة لغرضه. والحيوان ساع إلى غرضه حسبما تهيئه له الطبيعة، ولكن الإنسان يستخرج غرضه من الطبيعة عنوة، فهو يدبر عالمه. وأما الحيوان والنبات فعالمهما يدبرهما.
وحاصل القول أن غرض الإنسان يعينه الإنسان نفسه لنفسه، لا الطبيعة تعينه له، والحيوان منقاد بغرضه، والإنسان منقاد بتصور غرضه، وقد يبتدع غرضه. والغرض ممنوح من قبل الطبيعة حسب سننها، والحيوان خاضع خضوعا أعمى لسنن الطبيعة، والإنسان يتمشى حسب سنن الطبيعة وهو فاهمها؛ ولهذا يتدبرها موفقا بينها وبين غرضه: تارة مجاريا، وأخرى مداريا أو متفاديا، حسبما يتراءى له السبيل الأكفل لغنم غرضه. ذلك هو معنى قولنا: إن الإنسان يتعقل، وإن سلوكه معقول، وإن ضميره استند إلى تعقله، وإن أدبيته متوقفة على تعقليته. (6-2) التعقل والأغراض العليا
مما تقدم تفهم أن التعقل طرأ على الحياة الإنسانية، ووظيفته التكييف والتهيئة للتوفيق بين الواسطة والغاية وحسبان النتيجة؛ أي إنه يدبر السلوك ويوجهه في السبيل المؤدي إلى الغرض، أو الغرض الذي يمكنه أن يجده في الطبيعة، أو يستطيع أن يستخرجه من قلبها. فالإنسان ليس حيوانا مائيا، ولكنه يستطيع أن يعيش في وسط الماء في سفينة أو غواصة، ولا هو عصفور هوائي، ولكنه استطاع أن يستنبط طيارة تطير في الهواء، فالإنسان بقوة تعقله هذه إذن هو أحيل الأحياء.
ولا يخفى أن أغراض الحياة القصوى وجدت فيه كما وجدت في الحيوانات، وهو يتحرك بغرائزه وأهوائه وشهواته إلى تحقيق غاياتها كالحيوان، ولكن وجد فيه، دون الحيوان، تعقل لا تقف وظيفته عند تدبير الوسائل لإرضاء تلك الغرائز والشهوات التي يشترك بها مع الحيوان، بل تتمادى وظيفة هذا التعقل إلى ابتداع أغراض أخرى أجود وأسمى وأمنح لسعادة أعظم، تكبح جماح تلك الغرائز والشهوات أو تقمعها بتاتا.
قد تتراءى هذه الأغراض السامية مناقضة لسنة البقاء التي يتمشى عليها كل حي؛ كالتضحية لأجل الإنسانية، وحب المعرفة لأجل المعرفة نفسها، والمروءة المتهورة إلى غير ذلك، ولكن أقل تأمل في هذه الأغراض السامية يريك أنها مبادئ أساسية لإسعاد المجتمع الذي يتقاسم خيره الأفراد، وللمضحي حصة منه، فضلا عن ابتهاج نفسه بثناء المجتمع.
ولأقل تأمل أيضا، ترى أن هذه الأغراض العليا التي استنبطها التعقل أكثر عددا، وأعظم قيمة، وأوفر إسعادا من الأغراض الجسدية أو الوقتية أو الفردية، بل هي الأغراض التي تتألف منها الحياة الإنسانية على العموم، وحياة الفرد الاجتماعية على الخصوص. وهذه الحياة المتألفة من هذه الأغراض هي ما يسعى الإنسان الآن حرصا على بقائها ويجاهد لأجلها.
على أن هذه الأغراض السامية تختلف عن الأغراض التي تحرك الفعل إليها الشهوات والغرائز الجسدية بأمرين؛ أولا: بأننا نبتغيها دائما ولكننا لا نحصل عليها كاملة، بل نشعر دائما بنقص فيما نحصله منها؛ ولذلك نطمع بأن نحصل على ما هو أتم منها؛ لأنها تشق السبيل إلى ما هو أبعد، فهي إذن بيئة المثل الأعلى. وأما الأغراض الحيوانية أو الجسدية فينتهي حدها عند الحصول عليها، ولا تدفع الحي إلى ما هو أبعد منها.
إذن لأن الأغراض الإنسانية تعقلية هي قابلة الرقي، وأما الأغراض الجسدية فليست هكذا، ثانيا: أن هذه الأغراض العليا تشتمل السيطرة على الأغراض الجسدية وتنظيم الحياة الإنسانية على قواعد أخرى غير قواعد الحياة البهيمية؛ ولذلك هذه الأغراض التعقلية من اختصاص السنن الأدبية، أي هي موضوع هذا العلم. (6-3) سلطان الأغراض التعقلية
ولا يخفى عليك أن إدارة التعقل المخالفة لإدارة الغرائز البهيمية قطعت دائرة الشهوات والأهواء ووسعتها، حتى إذا عجزت الأغراض التعقلية عن ضبطها تهورت في الفساد، أما دائرة الغرائز والشهوات الحيوانية فبقيت في دائرتها الضيقة المرسومة لها؛ إذ لم تطرأ عليها قوة أخرى كالتعقل لكي تمر فيها ، ولهذا لا يعيش الحيوان عيشة فساد كما يعيش الإنسان.
ولأن للإنسان قوة الاختيار؛ أي الحرية في أن يختار أغراضه ويعينها، أصبح تحت خطر سوء الاختيار، فبدلا من أن يدفعه التعقل والحرية في سلم الرقي قد يهبطان به إلى أسفله، وبدلا من أن يرفعاه عن درجة الحيوان فقد يحطانه دون درجته، فلما أفقده تعقله النظام الطبيعي الجسداني أصبح إذا ضل به التعقل لا يستطيع أن يرتفع إلى النظام الروحاني، وبدلا من أن يكون سلوكه حيوانيا غير مسند للتعقل يصبح أحط من الحيواني، ومخالفا للمعقول.
إذن لكي تنجو الحياة الإنسانية من خطر الفساد هذا يجب أن تكون دائما أسمى غرضا، وأن تبتدع هي بنفسها نظاما وتعضده وتقيمه مقام نظام الغرائز. كيف يتسنى لها ذلك؟ لقد فهمت فيما تقدم أن الأغراض العقلية تسيطر على الغرائز والشهوات بمعنى أنها تدربها إلى اللذة الفضلى؛ لأنها تقمعها قمعا، فإذا كانت هذه الشهوات والغرائز تحصل على أغراضها من الطريق الذي ترشدها إليه الأغراض العقلية.
فعلى التمادي تتعود أن تبتغي غايتها من هذا الطريق، وعلى التمادي يصبح الغرض التعقلي مندمجا في الغريزة والشهوة. وأخيرا يصبح أصيلا فيها، وهكذا تتكون في أذهاننا المثل العليا والسجايا الحسنى، وتصبح نواة تحوم حولها شهواتنا، بعد أن كانت شهواتنا مطلقة الحبل على الغارب، وهكذا تبني الحياة الإنسانية نفسها بمبادئها وأغراضها العليا.
وبعبارة أخرى تتأصل فينا هذه الأغراض التعقلية السامية تارة بتذكر اختباراتنا لها التي تشهد على جودتها، وتارة بالقدوة بالذين ينتمون إليها، وتارة باستحسان الرأي العام لها، وتارة بممارستها ومزاولتها ولو عن غير روية، أو بحكم العادة. ومتى تأصلت تصبح عدوة لكل ما يناقضها من الشهوات البهيمية، وأليفة لكل ما يوافقها. هكذا نشأت الفضائل في الناس على تمادي الزمان، وهكذا تميزت الحياة الإنسانية على الحياة الحيوانية.
الفصل الخامس
القاعدة الأدبية
بحثنا في الفصول الثلاثة السابقة في كيفية الحكم على الفعل الأدبي؛ هل هو حسن وصواب وحق أو ليس كذلك، وأسهبنا في بيان أساليبه التي تكفل إصابة الحكم وسداده، وأبنا أن هناك قاعدة أدبية يطبق عليها الحكم، وأشرنا إليها إشارة موجزة. وفي هذا الفصل نبحث في ماهية القاعدة الأدبية العامة وطبيعتها كشريعة من جملة الشرائع تنطوي فيها جميع المبادئ الأدبية. (1) طبيعة القاعدة الأدبية (1-1) استقلال القاعدة الأدبية عن التعقل والأهواء
إن ما بين التعقل والعواطف من التنازع والتباين في تحريك الأفعال جعل لعلم أدب النفس وجهتي نظر، وللبحث فيه موضعين رئيسيين يقابلان وجهتي النظر، وقسم العلماء الأدبيين إلى فريقين اختص كل منهما بأحد الموضوعين. وهكذا تباينت مناهج الفريقين في سياق أبحاثهما، وتباينت تعاليمهما.
ومحصل تعليم أحدهما أن التعقل عبد للأهواء، ولا بد أن يكون كذلك؛ لأنه لا يستطيع إلا أن يقود نوابض النفس أو شهواتها، ويدربها في السبيل المفضي إلى إرضائها وإشباعها. وبحسب هذا التعليم يكون الجيد أو الحسن الرئيسي للحياة منحصرا في إرضاء نوابض الحياة أو شهواتها حين تنبض. وهذا هو مآل تعليم السروريين
Hedonisis .
ومحصل تعليم الفريق الآخر المباين لذلك هو أن للحياة الأدبية سنة يجب أن تخضع لها تلك النوابض لكي تتكيف في شكل نظامي. ومن مباحث هذا الفريق يستنتج أن هذه السنة هي سنة التعقل، وأن حاصل الغاية التي يتجه إليها النابض المدرب هو السرور أو اللذة.
وهناك فريق آخر يتوسط بينهما، ويعد الغاية التي يتجه إليها النابض قوة لا لذة، وأن السنة التي يجب أن يخضع لها النابض ليست التعقل، بل هي السنة الأدبية، ونحن في هذا البحث نتخذ هذه الخطة الوسطى.
إن الصورة الأدبية تتمثل في شكلين رئيسيين؛ وهما: الصواب
1
والحسن، فنحن نتصور الأدبية متمثلة في قاعدة أو مبدأ أو طريقة للسعي إلى غاية، وبعض الباحثين تحوم أفكارهم حول قاعدة رئيسية للأدبيات يعدونها سنة أمرية يعرف بموجبها ما هو الصواب الذي يجب أن يفعل، وآخرون يعتبرون الحسن ما يسدد الناس إليه قصدهم. وبناء على هذا الاعتبار يحكم على أفعالهم محمودة أو مذمومة؛ فعند الأولين القاعدة الأدبية العليا هي سنة الواجب، وعند الآخرين هي سنة السعادة.
وإذا أدمجنا السنتين معا كان الكمال سنة الأدبيات. والمراد بالكمال هنا كمال الشخصية. (1-2) القاعدة الأدبية سجية
تبتدئ كل سنة أدبية بشكل شريعة أمرية تقضي بثواب وعقاب، وعلى التمادي تصبح طاعة الشريعة عادة، ويشعر الناس أنها شيء حسن لما توليه من الخير للأفراد وللمجتمع، وحينئذ تقل الحاجة إلى تنفيذها بالقوة؛ فينفذها الجمهور طوعا واختيارا، ثم على التمادي أيضا تصبح عادة، وطاعتها غريزة موروثة أو سجية، فلا يشعر الناس أنها شيء حسن فقط، بل يشعرون أنها طبيعة أو خلقة فيهم، فلا يبقى لزوم لشرعيتها، ولا لقوة تنفذها. حينئذ تصبح شيئا حقا أو صوابا؛ ولهذا تعد سنة أدبية، سنة الواجب الحق الصواب.
فنحن الآن نكتسي ساترين عورتنا من غير أن تكون لنا شريعة اكتساء منفذة بالقوة؛ لأننا نشعر أن ستر العورة أمر صواب وحق، فضلا عن أنه أمر حسن، ونخجل إذا انكشفت عورتنا حتى ولو كنا في خلوة، ولكن في القديم كان ستر العورة شريعة أمرية؛ لأن الناس لم يكن لهم شعور الخجل بانكشاف العورة. قس على هذا عادة الحجاب وغير ذلك من العادات التي كانت في الأصل شرائع أمرية فأصبحت سنة أدبية متبعة طوعا واختيارا بلا إكراه.
وإلى الآن كلما رامت الهيئة الاجتماعية عادة أدبية جديدة اشترعت لها شريعة أمرية لتنفذها بالقوة ريثما تصبح على التمادي عادة مستحبة، مثال ذلك: البصاق في رصيف الشارع، أو في الترام، أو في أي مجتمع يعد في بعض الممالك مخالفة يغرم عليها المخالف غرامة مالية؛ ففي الولايات المتحدة يغرم مائة جنيه من يبصق في الترام، ومائة ريال من يبصق على الرصيف.
فالسنة الأدبية إذن هي الواجب الذي يفعله الإنسان من تلقاء نفسه؛ لأنه حق وصواب، فهي سجية فيه، ولكي نفهم حقيقة معنى السنة الأدبية نجلو حقيقة سائر السنن الأخرى، ولا سيما لأن لها تأثيرا في الحياة الأدبية. (1-3) السنن العمومية جمعاء (1)
السنن الكونية الطبيعية : كسنن الجاذبية والنور والحرارة والكهرباء إلخ، فهذه سنن عامة ثابتة غير متغيرة بالنسبة لحياتنا المحدودة الأجل، وليس في وسعنا أن نعصاها؛ ولذلك نستنتج الحوادث الطبيعية القادمة مما حدث في الماضي، فنعلم أن الشمس تشرق في الصباح ولا قدرة لنا على منع شروقها، ونعرف أن الربيع يعقب الشتاء، والصيف يعقب الربيع إلخ، وليس في وسعنا أن نبدل الربيع بالخريف. (2)
السنن الاجتماعية المحتومة : وهي ما قضت به روح الاجتماع وعوامله، وهي غير عامة وغير ثابتة، بل هي متغيرة، على أن منها ما لا تمكن مخالفته؛ كسنة العرض والطلب في الأمور الاقتصادية، فهي ثابتة ما دام النظام الاجتماعي إفراديا، ولكن إذا صار النظام اشتراكيا انتفت السنة برمتها؛ إذ لا يبقى لها لزوم.
وما دامت سارية فهي جيدة للحال الاجتماعية الجارية، ولا يمكن أن تخالف أو تعصى؛ لأن تقابل العرض والطلب يحدد السعر، ومن يرم أن يرفع السعر عما حددته هذه السنة لا يستطيع أن يبيع شيئا، ومن يطلب السلعة بثمن أقل من السعر لا يستطيع أن يشتري؛ فسنة العرض والطلب وإن كانت قابلة التغير ليست قابلة المخالفة أو العصيان.
كذلك اللغة وقواعدها هي سنة تختلف باختلاف الأقوام، وقابلة التغير بتقلب الأزمان؛ فلغة اليونان اليوم غير لغتهم في قديم الزمان، ولكنها لا تخالف؛ لأن من يخالفها بتغيير قاعدة فيها، أو بتغيير معاني بعض ألفاظها يعجز عن التعبير بها، ويستحيل عليه التفاهم بواسطتها. فهو لكي يستطيع أن يتفاهم مع غيره بها مضطر أن يحافظ على معاني ألفاظها، وعلى قواعد نحوها وصرفها.
ومن السنن الاجتماعية ما تمكن مخالفته؛ كالزواج والحجاب والعادات العرفية والأزياء إلخ. (3)
السنن المدنية : أي الشرائع الأمرية، فهي غير عامة ولا ثابتة، بل هي في كل بلاد غيرها في الأخرى، وهي اليوم غيرها بالأمس. وهذه أيضا تمكن مخالفتها؛ فقد يعصاها بعض الناس سرا وجهرا إذا رضوا بتحمل العقاب. (4)
الشرائع الدينية : وهي كسابقتها غير عامة وغير ثابتة، وقابلة المخالفة، فلمن هو مستعد لتحمل عقاب الآخرة أن يعصى وصايا الإله. (1-4) طبائع السنن المختلفة
فترى مما تقدم أن السنن مختلفة الطبائع من حيث التغير والمخالفة، فمنها: (1) سنن قابلة التغير وقابلة المخالفة؛ كالسنن المدنية. (2) سنن قابلة التغير ولكنها غير قابلة المخالفة؛ كالسنن الاقتصادية. (3) سنن غير قابلة المخالفة وغير قابلة التغير؛ كالسنن الكونية بالنسبة إلينا. (4) سنن غير قابلة التغير ولكنها قابلة المخالفة؛ كالسنة الأدبية. (1-5) ثبات السنة الأدبية
إذن السنة الأدبية لا تقبل التغير؛ لأنها سنة الحق أو الصواب. والحق أمر عام وثابت في كل زمان ومكان، ولكنها تقبل المخالفة لأنها ليست وراء دائرة الذاتية الشخصية؛ كسنة الجاذبية مثلا، أو كسنة العرض والطلب، أو كسنة اللغة؛ لأن المعاملة بحسب هذه السنن لا تتم إلا بتوافق طرفين؛ أحدهما: الشخص، والآخر: السكون في الأولى، والمجتمع في الثانية، بل هي ضمن دائرة الشخصية. فللشخصية أن تتخلق بها أو أن تتجرد منها؛ ففي حالة تخلقها بها تكون شخصية كاملة متجهة إلى المثل الأعلى في الجودة، وفي حالة تجردها منها لا تبقى شخصية إنسانية أدبية؛ أي إن الذاتية تفقد حينئذ الشخصية الكاملة المشار إليها.
فالسنة الأدبية تختلف عن السنن الاجتماعية المدنية والدينية بكونها غير قابلة التغير كهذه، ولكنها تتفق معها بكونها قابلة المخالفة، على أنها تخالف السنن الدينية والمدنية بكونها غير أمرية، بل هي حتمية طوعية. وهذا القول يستلزم تفسيرا كما سترى فيما يلي: (1-6) السنة الأدبية سجية
الشرائع الدينية والمدنية أمرية؛ لأن الأولى صاغها إله، والأخرى صاغها النظام الاجتماعي بقالب «يجب أن تفعل أو لا تفعل»؛ فإن خالفت الشرائع الدينية عوقبت في الآخرة، أو إن خالفت الشرائع الدينية عوقبت في هذه الدنيا، فهي صادرة من سلطة خارجة عن ذاتية الشخصية، مصحوبة بالوعد أو الوعيد، والشخصية مطالبة بطاعتها، بيد أنها حرة في الاختيار بين الطاعة والعقاب.
وأما الشريعة الأدبية فليست أمرية هكذا؛ لأنها سجية داخلية مندمجة في الشخصية الإنسانية الكاملة، وهي حتمية ما دامت الذاتية محافظة على إنسانيتها وكمالها؛ أي إن حفظ السنة الأدبية أو المحافظة عليها سجية في الشخصية الإنسانية، فهي إذن أمر لا بد منه لقيام الشخصية الإنسانية، وهي طوعية؛ أي اختيارية؛ بمعنى أن المرء حر في أن يحتفظ بشخصيته الإنسانية الكاملة فيتمشى على السنة الأدبية حتما، أو أن ينبذ شخصيته الإنسانية ويقتصر على ذاتيته الحيوانية المسيرة بقوة الغرائز والشهوات فقط من غير تقيد بالشرائع.
كذلك تختلف السنة الأدبية عن السنتين الدينية والمدنية بكونها لا تعرض عقوبة لمخالفتها؛ لأنها ليست أمرية كما تقدم بيانه، وإنما العقوبة تجلبها المخالفة نفسها معها. فكل خطيئة تجلب عقابها. وهذا يستلزم زيادة إيضاح أيضا.
إن ذا الشخصية الإنسانية الكاملة يتمشى على الشريعة الأدبية لا تحاميا للعقاب، بل لأن هذه الشريعة سجية فيه، وإرضاء هذه السجية غايته الحسنى، وسعادته قائمة ببلوغه إلى هذه الغاية وإرضائه هذه السجية، فإذا خالف السنة الأدبية فقد بالطبع هذه الغاية، وانثلمت شخصيته الإنسانية الكاملة، وكان فقد الغاية وانثلام كمال الشخصية كعقوبة له؛ فترى أن العقوبة جاءت عن يد الخطيئة لا عن يد السنة الأدبية؛ لأن هذه السنة ليست أمرية كالشرائع الدينية والمدنية لتكون مقرونة بالوعد والوعيد، بل هي عنصر طبيعي محتوم وجوده في الشخصية الإنسانية، وبدون وجوده فيها لا تكون الشخصية إنسانية، بل تكون حيوانية فقط. (1-7) سنة «لا بد»
فترى مما تقدم أن السنة الأدبية مصوغة بقالب «لا بد»، وأما الشريعة المدنية والدينية فمصوغة بقالب «يجب»؛ فالشريعة تقول: «يجب أن تفعل كذا أو لا تفعل كذا وإلا عوقبت، وليس لك أن تناقش فيما إذا كان هذا حقا أو صوابا.»
وأما السنة الأدبية فتقول لك: «لا بد أن تفعل كذا إذا كنت محتفظا بشخصيتك الإنسانية الكاملة؛ فإن لم تفعل فقدت شخصيتك هذه.»
إذن الواجب الشرعي أمر مفروض على الإنسان، وأما الواجب الأدبي فشيء لا بد منه في طبيعة الإنسان، فإذا عنينا بالواجب والحق كسنة أدبية كنا نعني به أمرا لا بد منه لقوام الشخصية، وإذا عنينا به كشريعة مدنية أو دينية كنا نعني به واجبا مفروضا على الإنسان. (1-8) السنة الأدبية مثل أعلى
ربما لاح في بال القارئ بعد هذا الشرح هذا الاعتراض: إن السواد الأعظم من الناس يريدون أن يكونوا ذوي شخصية إنسانية كاملة، ويودون التمشي على سنة الحق والواجب احتفاظا بشخصيتهم هذه، ولكنهم لاختلاف في عقليتهم وذكائهم وظروفهم قد يختلفون في فهم الحق والصواب. إذن يمكن أن لا تكون السنة الأدبية «سنة الحق والواجب» عامة وثابتة، وأن يختلف الحق والواجب عند الناس والأقوام .
هذا حقيقي، قد يختلف الناس والأقوام في فهم الحق؛ ولذلك قد يتراءى لنا أن الحق ليس واحدا، ولكن مما لا ريب فيه أن جميع الناس المتعقلين وجميع الأمم الراقية متفقون على أن للإنسانية سنة أدبية واحدة ثابتة عامة غير متغيرة؛ هي سنة الحق والواجب، وجميعهم متفقون على أن الحق واحد لا يختلف فيه اثنان؛ أي إنه كالأوليات الرياضية، وإنما إذا اختلفوا في تحديد الحق والواجب فلأن جانبا منهم منثلمو الشخصية الإنسانية الكاملة التي أشرنا إليها آنفا - وقد تمثلت في تضاعيف أبحاثنا الآنفة والآتية شخصية ذكية عارفة متعلقة فطنة فاضلة - أو لم يستطيعوا أن يتمشوا على السنة الأدبية؛ فضلوا السبيل عن الحق والواجب، وادعاه كل منهم كما شاءه لا كما هو. (1-9) السنة الأدبية تكمل الشخصية
فالحق والواجب مثل أعلى يسعى إليه لا وصية تطاع أو تعصى. وما دمت تسعى إلى هذا المثل الأعلى فأنت تمشي على السنة الأدبية؛ سنة الحق والواجب، وأنت محتفظ بشخصيتك الكاملة، فإن أسأت فهم الحق والواجب وأنت حسن الإرادة والقصد، فلا تفقد شخصيتك الإنسانية الكاملة؛ لأنك لا تلبث أن تشعر بانثلامها عند ظهور الخطأ، ومتى ظهر لك الخطأ لا تلبث أن تصححه توخيا لسلامة شخصيتك.
لا بدع أن نضل السبيل عن الحق والواجب لجهل أو لضعف، ولكننا ما دمنا مصرين على السعي إلى المثل الأعلى فنحن في سبيلنا إلى محجة الحق والواجب، ولا بد أن نصل.
ولو كان جميع الناس يستوفون الحكمة والقوة الأدبية والفطانة والتعقل لوجدوا أنفسهم ملتقين عند نقطة واحدة؛ هي نقطة الحق الواحد المطلق العام الثابت، ولا يحتاجون حينئذ لاعتناقه إلا إلى حسن الإرادة والقصد، فإذا كان لهم هذا أيضا صاروا آلهة.
فاختلاف الناس في الحق ليس لأن الحق غير موجود، أو غير مطلق، أو هو نسبي، ولا لأنه ليس سنة ثابتة ولا عامة، بل لأنهم مختلفون في الحكمة والتعقل وحسن الإرادة، فهناك أناس حكماء يفهمون الحق ولكنهم لا يريدونه كما هو، بل كما تريده شهواتهم، وهناك أناس حسنو الإرادة ويبتغون الحق، ولكنهم ضعاف الحكمة سيئو التعقل؛ فيسيئون فهمه. وهناك أنصاف آلهة حكماء حسنو التعقل والإرادة، فيفهمون الحق تماما ويعتنقونه. هكذا يختلف الناس في ادعاء الحق. •••
قبل الانتقال من هذا الموضوع لا بد من ملاحظة لدفع بعض التباسات على القارئ، لم نفرق بين الشرائع الأدبية والدينية والمدنية، باعتبار أنها مستقلة بعضها عن بعض في الحياة العملية، وإنما هي متمايزة من الوجهة الفلسفية، فكل شريعة دينية أو مدنية مشتملة على الحق والصواب إنما هي شريعة أدبية أيضا؛ كالصدق أو الأمانة مثلا، فالشرائع الثلاثة تقول: لا تكذب ولا تسرق.
فإن كان الإنسان لا يكذب خوفا من عقاب الآخرة، ولا يسرق خوفا من السجن؛ كان طائعا الشريعتين الدينية والمدنية، ولكنه لا يعد إنسانا أدبيا، ولا يكون ذا شخصية إنسانية كاملة حين يرتدع لهذا الغرض، وإنما إذا كان يصدق ولا يسرق فلأنه ينفر من الكذب والسرقة، ويستلذ الصدق والأمانة لا لأنه يخاف العقاب؛ فهو إذن إنسان أدبي ذو شخصية أدبية كاملة. (2) قاعدة الحقوق والواجبات القومية (2-1) تعارض الحقوق والواجبات الفردية القومية
رأيت فيما سبق أنه قد يعرض للضمير وجهان في قضية واحدة، أو يتعارض حقان في سلوك واحد، فيختلط على الضمير أمرهما، مثال ذلك: أن فئات العمال الأوروبية تجحد الحرب، وتنشر دعاية لشجب كل حرب، ولكن لما شبت الحرب العظمى تطوع قسم منهم أو انتظموا في سلك الجندية عن رضى، بدعوى أن الدفاع عن الوطن حق، والقسم الآخر بقوا يشجبون الحرب، فهل الصواب واحد، أو متعدد، أو مختلف الوجوه؟ والجواب أن الحق نسبي في الجماعات كما سيتضح لك فيما يلي.
سترى في فصل آخر عن الحياة الإنسانية الأدبية أن قاعدة الحق والصواب هي الحرص على المثل الأعلى؛ فكل سلوك يتجه إلى المثل الأعلى هو صواب. والمثل الأعلى هو هدف الرقي الذي ترمي إليه الحياة الإنسانية. والحياة الإنسانية الصاعدة في سلم الرقي إلى المثل الأعلى - في الجمال والجودة اللذين تقوم بهما السعادة - إنما هي الحياة الاجتماعية لا الحياة الفردية، وما الحياة الفردية إلا جزء منها تنال قسطها من السعادة عن يدها كما سترى في فصل آت؛ لذلك تجد مقر الصواب والحق والجيد إنما هو في الحياة الاجتماعية.
إذن لا معنى للحق والصواب في الفرد وحده إذا استطاع فرد أن يستقل بمعيشته تمام الاستقلال، كما لو عاش في عزلة بعيدا عن الناس، فلا حد لحقه ولصوابه، وله أن ينقاد لغرائزه فقط؛ إذ لا شأن له في الحياة الأدبية، ولا الحياة الأدبية متوقفة على فرد، ولا هي ذات معنى لهذا الفرد، بل هي متوقفة على الجماعة، فحيث وجدت جماعة صار للحق والصواب معنى؛ لأن خطط السلوك حينئذ يحتمل أن تحتك وتصطدم وتتقاطع؛ إذن نبتدئ قاعدة الحق أن تتأسس في الجماعة. (2-2) حقوق الأسرة والقبيلة
إن نواة الجماعة الأولى العائلة، وغرض العائلة الرئيسي الحرص على البقاء، والحرص على كل ما يمكن من السعادة، وهي لا تستطيع البقاء والحصول على السعادة إلا إذا تمتع كل أفرادها بهما، فإذا تعرض أحدهم لخطر ولم يتداركه الآخرون تعرضت العائلة للانفكاك، وبالتالي تعرض سائر الأفراد للخطر نفسه؛ إذن يجب أن يفضي سلوك كل فرد من أفراد العائلة إلى الحرص على بقائها وعلى سعادتها جميعا. وهذا الوجوب يوجب أيضا أن يكون على كل فرد واجبات، وله حقوق متكافئة، بحيث يبقى أفراد العائلة مرتبطين متضامنين.
ثم إذا تناسلت العائلة فأصبحت عدة عائلات في أسرة واحدة نشأ حقل آخر للحقوق والواجبات بين عائلات الأسرة ترتبط فيها العائلات وتتضامن، وبقدر محافظتها على هذه الحقوق والواجبات تضمن بقاءها وسعادتها. وأقل تغرض أو تحيز أو تشيع أو غبن في الحقوق بين العائلات يعرضها للانفكاك، وبالتالي يعرض بقاءها وسعادتها للخطر.
هنا صار عندنا حقلان من الحقوق والواجبات: حقل أدنى؛ وهو حقل العائلة، وحقل أعلى منه، وهو حقل الأسرة. ويحتمل كثيرا أن يتضارب الحقلان، يحتمل جدا أن يصطدم حق العائلة بحق الأسرة. قد يهمل رب العائلة قسما من واجباته عن عائلته لكي يقوم بواجبه نحو الأسرة، كأن يترك زراعته أو ماشيته لينضم إلى رجال الأسرة في الدفاع عن الأسرة كلها، أو قد يضطر أن يقدم بعض مورد رزقه لبيت المال لكي ينفق على مصالح الأسرة، أو العشيرة، أو القبيلة، إذا انضمت بعض أسرات لبعض، وبذلك يكون قد حرم أسرته أو عائلته بعض ذلك الرزق.
فهنا لديه سعادة عائلته وسعادة الأسرة أو العشيرة، فعلى أيهما يجب أن يكون أحرص؟ إذا كانت سعادة عائلته متوقفة على سعادة العشيرة كلها، فبالطبع يجب أن تقدم سعادة العشيرة على سعادة العائلة. هذا إذا كانت روابط العشيرة متينة. وأما إذا كانت هذه الروابط رخوة، والخلاف والنزاع ينتاب العشيرة كل حين بعد آخر، فالمسافة فيها نظر، فللفرد أن يتحمل من الواجب نحو العشيرة بقدر ما فيها من الارتباط والتضامن، وإلا كانت تضحيته الكثيرة لها غبنا لعائلته أو لأسرته.
هكذا الأمر بين الأقوام والأمم والشعوب، فإن مقدار ما في القوم من التضامن والتكافل والتعاون يعين ما على الفرد من الواجب وما له من الحق، أو يقسم حقه وواجبه بين نفسه أو عائلته وبين قومه. والجماعات عشائر أو قبائل أو أقواما أو أمما وشعوبا تسير في سبيل رقيها إلى المثل العليا بقدر ما فيها من التضامن والتعاون، اللذين يعينان ما على أفرادها من الواجبات وما لهم من الحقوق.
وبقدر ما تتوزع الحقوق والواجبات بالتكافؤ حسب الاستحقاق والمقدرة تسرع القبيلة أو الأمة في سبيل الرقي. والأمة التي يختل فيها هذا التوازن بين أفرادها في الحقوق والواجبات، ويكثر فيها الغبن والحيف والاغتصاب - إما لأن القوانين غير عادلة، أو لأنها غير منفذة - تتقهقر وتتعرض للفناء. (2-3) محدودية حق الفرد وواجبه
إذن حق الفرد وواجبه محدودان بحدود دائرة أمته أو قومه، وما وراء هذه الدائرة يباح له كل ما يستطيع الحصول عليه، ولا يجب عليه شيء. على هذه القاعدة تعينت الحقوق والواجبات في الأمم القديمة، وعلى هذه القاعدة كانت القبائل والأمم تغزو بعضها بعضا، وتعد الواحدة ما تنهبه من الأخرى بالسيف حقا لها جزاء لانتصارها؛ أي لأرجيحة قوتها على قوة الأخرى، ولكن إذا كان أحد أفراد هذه الأمة المنتصرة ينهب جاره يعد مجرما ويعاقب.
على هذه القاعدة أوعز موسى لنساء بني إسرائيل أن يستعرن حلي نساء المصريين ليأخذنها معهن حين هربت الأمة الإسرائيلية من مصر، وعلى هذه القاعدة كان موسى يعد بني إسرائيل وهم في برية سيناء بأرض كنعان وبيوت أهلها وإناثهم وماشيتهم كغنيمة لهم، وعلى هذه القاعدة تستبيح دول أوروبا الآن استعمار بلاد الشرق وشمالي أفريقيا، واستثمار أتعاب أهلها.
فهي تقيم قسط الحق بين أفراد شعوبها، ولكنها لا تقيمه بينها وبين أمم الشرق، ولا بين بعضها والبعض، بل تعتمد على القوة في تحديد الحق، فإذا حدث صدام بين حق إنكلترا وحق مصر مثلا كان حق إنكلترا عند الإنكليزي مقدما؛ لأن لها أسطولا يأخذه عنوة، ولكن إذا حدث مثل هذا الصدام بين إنكلترا وكندا أو أستراليا مثلا لا يتحرك الأسطول، بل يتقدم قضاء بريطانيا والمستعمرات للفصل في الخلاف على قاعدة الحق الذي عينه تضامنها وتعاونها. (2-4) نسبية الحق والواجب لقوة التضامن
فترى مما تقدم أن سنة الحق والواجب القوميين نسبيان؛ أي إن الحق والواجب مناسبان لقوة التضامن والتكافل بين الأفراد والجماعات. فالحق في الجماعة أو الأمة الواحدة هو الحق الذي يقضي به الضمير ولو مسندا إلى شريعة تزكيه، ولكنه بين جماعة وأخرى، أو أمة وأخرى، أو طبقة وأخرى؛ كالأعيان والعامة، تعينه القوة بنسبة القوتين المتنازعتين. ولا يخفى عليك أن الحق الذي تعينه القوة ليس حقا أدبيا. (2-5) الحق والواجب المطلقان
قد تقول إذن: لا حق مطلق مستمد من الضمير، وغير مستند على القوة، وإذن لا شأن للسنن الأدبية؛ لأنها لا تعين الحق المطلق مهما اختلف الأفراد والطبقات والجماعات والأمم.
بلى، يوجد حق مطلق لا مصدر له غير الضمير السليم إذا ألغينا القومية والشعبية والدولية، وأقمنا مكانها الإنسانية فقط، وجعلناها رابط الأمم الأسمى، واعتبرنا جميع الناس على اختلاف مللهم ونحلهم أفرادا في مجتمع واحد هو الإنسانية، حينئذ يعين الحق المطلق التضامن المفروض بين جميع الناس، وتعاونهم في السير بالإنسانية إلى المثل الأعلى في السعادة العامة.
ونعتقد أن العالم كله سائر في هذا السبيل تحت راية الإنسانية؛ لأن الأمم بجريها جميعها نحو المثل الأعلى في رقيها الأخلاقي والعلمي والسياسي والاقتصادي أصبحت تشعر بضرورة التضامن العام والتعاون الشائع. وهما يوجبان عليها توحيد الحق والواجب والاتجاه إلى الحق المطلق. فالأمم الآن تتبادل المنافع وتشترك في المصالح؛ ولذلك تعقد المعاهدات وتسن القوانين الدولية. وأخيرا لم تر بدا من إنشاء القضاء الدولي، وتأليف جمعية لهذا الغرض.
نعم، إن هذه المعاهدات والقوانين الدولية ونحوها لا تكفل حتى الآن قيام الحق المطلق؛ لأن ارتباطها بعضها ببعض لا يزال واهنا ضعيفا رخوا، ولهذا لا تزال هذه القوانين متحيزة متشيعة مغرضة. وإنما كلما جرت الأمم في سبيل الرقي انضمت تحت لواء الإنسانية العامة، وتوثقت روابطها، وبالتالي قربت إلى الحق المطلق الذي هو مثل أعلى أيضا.
الفصل السادس
الحرية
إذا كانت القاعدة الأدبية سجية في الإنسان خلافا لسائر السنن والشرائع، فهي قيد لغرائزه وأهوائه أو رادع لها؛ وبهذا الردع تتجرد شخصيته من الشهوات التي تفسد الأدبية. إذن الإنسان بين متنازعين: سجيته الأدبية من جهة، وغرائزه وأهوائه من جهة أخرى.
وإذن يسوقنا البحث إلى موضوع خطير الشأن جدا؛ لأنه يلوح في بال كل إنسان مفكر، وهو موضوع الحرية. فهل الإنسان حر الإرادة وحر الفعل؟ وإن كان حرا، فهل حريته محدودة أو مطلقة؟ وإذن هل هو مسئول؟ وإلى أي حد هو مسئول؟ (1) ماهية الحرية (1-1) هل أنت حر؟
موضوع الحرية معقد جدا؛ ولذلك يكاد يتعذر تعريف الحرية، فإذا جرينا في التمثيل والتحليل والتعليل إلى أن نقيم في الذهن صورة واضحة للحرية أمكن القارئ أن يفهمها من نفسه بلا تعريف.
مما قيل في تعريف حرية الإرادة والفعل: إنه إجراء للفعل بلا تقيد بباعث أو داع له، أي إنك تفعل فعلك من غير أن يوجبه عليك موجب، فأنت اخترته ففعلته، وإلا فإذا كان هناك موجب للفعل خارجي فأنت غير حر، ولكن هل يمكن أن يتجرد المرء من الدواعي والبواعث والموجبات؟
وقد علمت أن شخصيته ليست نفسيته وجسمانيته فقط، بل هاتان مع غرائزه وظروفه أيضا، فلكي يكون الإنسان حر الإرادة والفعل على الإطلاق يجب أن يكون مسيطرا على أخلاقه وعلى ظروفه، وفي وسعه أن يكيفهما حسب هواه، فيفعل ما تمليه إرادته بلا داع ولا موجب، ولكن الإنسان مقيد بأخلاقه وغرائزه؛ ففعله إذن مقيد بظروفه، وبالتالي إرادته مقيدة أيضا، فهل حقيقي أنه غير حر؟
لنفرض أنك موظف في محل تجاري ووظيفتك تحصيل ديون المحل، وقد أنيط بك تدبر عملك كما تقتضيه حكمتك، وافرض أن عميلا للمحل في بلد آخر وعدك وعدا صادقا بدفع دينه في اليوم الفلاني، فلما دنا الميعاد عزمت على السفر، فهل تعد نفسك حر الإرادة هنا؟ أليس لديك أمر واحد فقط، وهو السفر لتحصيل الدين؛ لأن التحصيل أمر مؤكد في يقينك بناء على وعد المدين؟ وإذا كان لديك أمر واحد لا ثاني له، فهل هنا وجه للاختيار؟ الاختيار لا يكون في واحد، بل بين أمرين أو أكثر. إذن أنت غير مخير. الظرف الذي وجدت فيه هو واجبات وظيفتك ووعد المدين وحلول الميعاد. هذا الظرف حتم عليك أن تسافر؛ فما أنت إذن حر.
لنفرض مثلا أبسط من ذلك، وهو أن لديك عسلا وحنظلا، وأنت تعرف أن هذا عسل وهذا حنظل، فأيهما تأكل؟ بالطبع لا تختار الحنظل، بل تختار العسل حتما. فأنت هنا غير حر؛ لأن شهوتك للحلاوة قضت عليك بأكل العسل ونبذ الحنظل المر المذاق الذي تعافه النفس. قد تقول: لا آكل العسل ولا الحنظل. إليك مثلا آخر: لديك طعام دسم وطعام آخر مسمم وأنت جائع ولا تستطيع الصيام طويلا، فماذا تفعل؟ هل لديك غير أمر واحد، وهو أكل الطعام الدسم؟ إذن لست مختارا أحد أمرين ليصح القول: إنك حر في اختيار أحدهما. (1-2) المعرفة قيد
إذن تقول: إن معرفة الإنسان جانية على حريته، فلو كنت أجهل أيهما حلو: العسل أم الحنظل، أو أيهما دسم أو سم، لكنت أتردد في اختيار أحدهما، وأخيرا أختار لأختبر، فأنا حر الاختيار فيما أجهله، وأما فيما أعلمه فما أنا حر؛ ولذلك لم أكن حرا في السفر إلى البلد الفلاني لكي أقبض الدين من فلان؛ لأني عالم أن فلانا وعدني بإيفاء دينه في اليوم الفلاني ووعده صادق.
ولكن هل حقيقي أن الإنسان عالم بالأسباب والنتائج؛ ولذلك لا محل لاختياره، بل هو مسوق إلى فعل هذا دون ذاك؛ لأنه عالم بالنتيجة؟ فهل أنا حر أن أشتغل أو لا أشتغل وأنا عالم أنني إذا لم أشتغل فلا أرتزق؟ وهل أنا حر في أن أقتل فلانا أو لا أقتله وأنا عالم أن الحكم بالموت قصاص القاتل؟
وكأنك تقول: إن الإنسان يتميز عن الحيوان بأن له عقلا يمكنه من معرفة الأسباب والنتائج، وهو يعلم جيدا نتيجة عمله؛ ولذلك لا يعد حرا في الاختيار، بل هو مضطر أن يفعل الأفضل، والأفضل واحد، ولا اختيار في الواحد.
وقد تمادى منكرو الحرية في تقيد الإنسان بالأحوال والظروف بحيث لا يبقى له وجه للاختيار، وزعموا أن الأفعال والحوادث سلسلة، وكل حلقة منها نتيجة لما قبلها، ومرشحة للحلقة التي بعدها؛ ولذلك يستطيع الإنسان بفطنته أن يعلم مآل فعله، وعلمه هذا يقيد إرادته بحيث لا يستطيع أن يختار إلا أمرا واحدا، وهو ما يعلم نتيجته. فهو يشرب الخمرة لأنه عالم أنها تسره، وهو يبتغي سرورها المباشر، أو هو يمتنع عنها لأنها تضر صحته، وهو يبتغي سلامة جسده وعقله. فلا اختيار له في أمر يعلم غايته التي يبتغيها.
فالإنسان ذو ذكاء يستطيع أن يتنبأ عن مصير عمله؛ ولهذا لا يمكن أن يوجه عمله إلا إلى ما يعتقد أن مصيره أفضل خير له. إذن ليس الإنسان حرا، بل هو مقيد بالمصير الذي يعتقده أفضل. هذا هو تعليل نظرية القيديين؛ أي منكري الحرية. (1-3) الاعتقاد غير المعرفة
ولكن هل اعتقاد المرء صائب دائما؟ ألا يمكن أن ما يعتقده أفضل خير له يفضي إلى شر له؟ ألا يمكن أن تخالف النتائج ظنه؟ لنعد إلى المثل الأول.
سافرت إلى بلد المدين وأنت واثق أنك ستقبض الدين لأن المدين صادق الوعد، وقد عينتما الموعد والميعاد، ولكن عرض لك في الطريق صديق فأغراك بكأس من الخمرة، ثم أغراك بمقامرة برهة طويلة؛ ففات الوقت. فلما قصدت إلى المدين وجدته قد استبطأك، فتغيب لظنه أنك أرجأت استيفاء الدين إلى حين آخر. فهنا تغير ظرفك من الصحو إلى السكر والمقامرة، ومن وجود المدين إلى تغيبه، فعلمك تغير إلى جهل، وبالتالي تغيرت النتيجة، وكان فشل بدل تحقيق الأمل؛ فندمت على ما فعلت.
إذن هنا تعود إلى وجدانك وتقول: لو لم أسكر وأقامر لما خبت مؤملا. هنا قام لديك مبدأ الحرية: أما كنت حرا في أن تسكر أو لا تسكر؟ أما عرض لك أمران: إما أن تستمر في سفرك إلى المدين، أو أن تنصاع لصديقك؟ أما كنت مختارا أحد أمرين؟
إن ألم الندم يشهد بسوء اختيار الوجه الواحد، كما أن الفرح بتحقق الأمنية يشهد بحسن اختيار الوجه الآخر. والاختيار إثبات للحرية؛ فالحرية ليست أن تفعل ما تشاء بلا قيد ولا شرط، بل هي أن تختار بتعقل الأمر الذي تعتقد أنه أفضل نتيجة، فإذا ساءت النتيجة لم تكن إرادتك ملومة، بل كان تعقلك ملوما؛ لأنه لم يحسن الإرشاد إلى النتيجة الفضلى، أو أنه كان جاهلا المصير وتقلب الظروف.
إذا كان الإنسان أمام وجهين كل منهما مقرر النتيجة، وأفضلية إحدى النتيجتين على الأخرى مقررة، فهو بالطبع غير مخير؛ وبالتالي ليس حرا، ولكن من حكم له بأفضلية الوجه الواحد على الآخر؟ فهناك أخلاقه من شهوات وعواطف وأميال، وهناك تعقله الذي في يده ميزان الحق والصواب، وهناك ظروفه المتقلبة التي لا سلطة له عليها. كل هذه تتنازع الحكم وتقرير الأصوب والأفضل. والأفضل عند هذه غير الأفضل عند تلك، وغاية هذه غير غاية تلك. إذن مهما كان الأمر مقرر النتيجة فلا بد أن تجد الإرادة نفسها متقلبة بين هذه المتنازعات، ولها أن تختار؛ فهي إذن حرة. (1-4) الأفضل مشكوك فيه
وإذا لم يكن عند المرء تردد في الحكم فقد تجرد من التعقل والإرادة، فهو إذن حيوان أو أبله أو مجنون أو سكران.
الحيوان لا يتردد في الحكم بأن يفترس حيوانا آخر، إن كان من أكلة اللحوم، أو أن يأكل النباتات إن كان من أكلة النبات، فهو لا اختيار عنده ولا حرية.
ولكن الإنسان - وهو حيوان عاقل - لا بد أن يجد في كل أمر وجهين أو وجوها، ويزن هذه الوجوه ليحكم في أفضلها ليختاره، فإن خاب أمله في الغاية التي ينشدها لام نفسه؛ أي تعقله، لأنه ناقص المعرفة فضلله، أو لامه لأنه ضعيف لم يتغلب على شهوته أو على خلقه الذي أفضى به إلى سوء المغبة.
ومهما اتسع اختبار المرء فهنالك أمور لم يختبرها، ولا بد من اختياره فيها ريثما يختبرها، ومهما اتسع علمه فهناك أمور يجهلها، ولا بد من تردده فيها واختيار أحد وجوهها دون الآخر إلى أن يعلمها. ومهما سمت فضيلته فهناك أخلاقه وشهواته تتغلب عليه أيضا، فهو في بحر من المتباينات التي لا بد له من الاختيار فيها. (1-5) المسئولية تقرر الحرية
هيهات أن يجد الإنسان نفسه أمام الأفضل المطلق حتى يقال: إنه ليس حرا ولا بد له من اعتناق هذا الأفضل، ولو كان الأفضل في كل الأمور مقررا لما بقي لزوم للعقل والتعقل والإرادة؛ فالأفضل واحد، وهو وحده يدعو الإنسان للفعل، ولو كان الخير مطلقا وجليا للإنسان لما كان الإنسان يضل عنه، وما كان ثمة خطأ، ولو كان الإنسان بلا أخلاق ولا غرائز لما كان أيضا لزوم للتعقل ليدرب أخلاقه وغرائزه، بل كان الإنسان كالحجر يقع إلى الأرض إذا زال ما يسنده أو يرفعه عن الأرض؛ إذ لا داعي لحركته غير جاذبية الأرض، أو كان كالسيار الذي يدور حول الشمس بلا حرية؛ لأنه مضطر أن يخضع لسنن الجاذبية والدافعية والاستمرار.
وأخيرا إذا كان الإنسان غير حر؛ فما هو مسئول، ولا معنى للإثم والصلاح حينئذ.
إذن يمكننا أن نعرف الحرية بأنها اختيار بين الأفعال التي تتباين فيها المحركات من أخلاق وغرائز وتعقلات، وتختلف فيها الظروف؛ فلدى هذه الأفعال الإنسان حر أن يختار فيما هو في مقدوره.
وإذن - أيضا - الحرية محدودة غير مطلقة، فلا يمكن للإنسان أن يختار بين الطيران وهو بلا جناحين، وبين المشي وهو ذو قدمين، ولا يمكن أن يختار بين الأكل والصوم الدائم إذا كان لا يزال طامعا بالحياة؛ أي إن الحرية لا معنى لها في المستحيلات، فهي محدودة في دائرة الممكنات، كذلك لا حرية عند مفاجأة الخطر؛ إذ لا بد من الهرب، كما لو فوجئت بهجوم أسد وأنت غير مسلح، فليس أمامك إلا التسلق على الشجرة. (2) حدود الحرية
لكي نعلم حقيقة الحرية يجب أن نعلم دوائر حدودها. (2-1) دوائر الحرية
فالدائرة الأولى:
التي تحصر الحرية هي الأحوال الخارجة عن شخصية الإنسان، والتي لا تأثير له فيها بتاتا، ولا قدرة له على تكييفها أو تغيير شيء فيها.
ففي هذه الأحوال ليس الإنسان مسئولا؛ لأنه ليس حرا. لا يمكنك أن تقول له: «يجب عليك»؛ لأنه يقول لك: «لا أقدر»، فحيث لا مقدرة فلا وجوب. لا حق لك أن تلوم فلانا لعدم عبره النهر؛ لأنه لا يحسن السباحة بتاتا، ولا أن تحرج ربان السفينة على السفر والبحر متلاطم الأمواج والعواصف، والأنواء مهددة له بالأخطار، ولا أن تلوم باني البيت إذا هدم الزلزال البيت. إذن الدائرة الأولى هي دائرة المستحيلات.
الدائرة الثانية:
هي كالدائرة الأولى خارجة عن شخصية الإنسان أيضا، وليس له تأثير فيها بتاتا، وإنما يمكنه أن يخرج منها إلى حريته إذا علم بها، فربان السفينة يمكنه أن يعدل عن السفر إذا علم من الأنواء أخطار السفر.
ولا يمكنك أن تلوم الراعي إذا فاجأه وحش ضار وافترس أحد خرافه، وإنما تلومه إذا رعى خرافه في مكان يعلم أنه مسبعة أو مضبعة؛ فهذه الدائرة هي دائرة المجهولات أو الجهل، حيث لا يحق لك أن تقول: «كان يجب» لمن يقول لك: «كنت أجهل».
الدائرة الثالثة:
هي القسم الأسفل من ذاتية الإنسان غير خارجة عنه، ولكنها شديدة النفوذ والتمرد على إرادته؛ وهي غرائزه وأخلاقه الراسخة كشهواته وعواطفه وانفعالاته إلخ، فهذه تضيق دائرة حركته أيضا؛ إذ يجد نفسه في بعض الأحوال مضطرا للفعل، ولو بعض الاضطرار، وله عذر أو بعض العذر. فالجوع كافر؛ ولذلك لم ير المسيح إثما في أن يقطف تلاميذه سنابل القمح ويأكلوها حين جاعوا. وقد يعذر الأب إذا غضب من غريم ابنه فضربه على الفور ؛ لأن عاطفته الأبوية وانفعاله الغضبي لم يمهلا تعقله لكي يؤثر المسامحة على الانتقام.
ولكن لأن هذه الدائرة مرسومة في ذاتية الإنسان فهي قابلة للمط والتوسع؛ بأن يهذب الإنسان أخلاقه ويدمثها، ويتعود قمع غرائزه، بحيث تتسيطر الإرادة عليها، وتكون أكثر حرية في الاختيار؛ ولذلك يتفاوت الناس في الأمة الواحدة من حيث هذه الدائرة تفاوتا عظيما أو قليلا، حسب نمط التربية والتعليم ودرجة البيئة الاجتماعية في الحضارة والرقي التمدني؛ فنجد أفرادا أدمث خلقا، وأضبط للأهواء، وأقمع للشهوات من أفراد، وكذلك نجد تباينا في هذه الدائرة بين الأمم. إذن في هذه الدائرة تتسع حرية الفرد، أي ينبسط أمامه مجال الاختيار، فقلما يقول أو يصح له أن يقول: «كنت مضطرا أو لم أقدر.»
الدائرة الرابعة:
هي القسم الآخر الأعلى من ذاتية الإنسان المقاومة للقسم الأول من ذاتيته، وهي تعقله الذي يناهض ثورة غرائزه، فهذه توسع دائرة حريته بأكثر مما تضيقها تلك. إذن يمكنك أن تقول لمن اتخم من النهم: «ألم تشعر بأنك شبعت؟ فلماذا نهمت؟ أما كنت تعلم أن التخمة تضر المعدة وتسبب المغص؟ أليس لك وجدان يصد شراهتك؟»
وهذه الدائرة قابلة للتوسع أيضا كتلك بفعل التربية والتعليم والبيئة الاجتماعية أيضا، والأفراد والجماعات متفاوتون فيها كما تقدم.
الدائرة الخامسة:
وهي الذاتية الأدبية، هي دائرة الحرية العليا التي تدخل بنا إلى منطقة الواجب والحق. في الدوائر الأربع السالفة كان المخطئ يقول لك: لم أقدر، أو لم أعلم، أو كنت مضطرا، أو لم يخطر لي هكذا وهكذا، وإنما في هذه الدائرة يقول لك: كنت أقدر، وكنت أعلم، ولم أكن مضطرا، ولكني لم أرد.
في الدوائر الأولى اصطاد زيد حمامة عمرو إما لأنه جائع ولم يستطع صبرا على الجوع إلى أن يجد طعاما آخر، أو أنه كان يظنها سائبة، أو يجهل أنها تخص فلانا. وأما في الدائرة الخامسة فيصطاد زيد حمامة عمرو مع علمه أنها لعمرو، ومع أنه غير جائع، وإنما يصطادها إذ ليس من يمنعه عن ذلك غير أدبية نفسه، فإذا كان أدبي النفس فيمتنع عن صيدها مهما كانت هناك مغريات له لصيدها. (2-2) ذاتيات الإنسان الثلاث
فللإنسان إذن ثلاث ذاتيات متفاوتة في الدرجة: ذاتيته الطبيعية المشتملة على غرائزه، وذاتيته العقلية، وذاتيته الأدبية، وسلوكه أو تصرفاته التي هي نتيجة تفاعل هذه الذاتيات فيما بينها وبين الظروف المحيطة به. فكأن هذه الذاتيات والظروف تصدر عوامل مختلفة القوى والاتجاهات، فبعضها أقوى من بعض، وبعضها أكثر استمرارا من بعض، وبعضها يناقض بعضا، وإنما لا بد من حصول فعل كنتيجة لتفاعلها، ولا بد أن يكون هذا الفعل متجها في جهة العامل المتغلب، أو في جهة هي حاصل جهات العوامل المختلفة الاتجاه، حسب سنة الحركة الطبيعية.
ولإيضاح ذلك نفرض أن زيدا من الناس كان في متنزه عمومي يباح فيه شرب الخمرة، وهو يعلم أن شرب الخمرة منكر صحيا وأدبيا. ولزيادة الإيضاح نقيس قوة ذاتياته بالأرقام، فإذا كانت قوة ذاتيته البهيمية الغريزية مثلا 3، وقوة ذاتيته العقلية 3، وقوة ذاتيته الأدبية 3، كان اتجاهه إلى السكر متوسطا بين عقله وأدب نفسه، فيشرب باعتدال ولا يسكر؛ لأن قوتيه العقلية والأدبية ضعفا قوته البهيمية، فتستميلانه إلى الاعتدال في الشرب، وإذا زادت قوته الأدبية نقصت قوته البهيمية بقدر زيادة تلك؛ وبالتالي مال اتجاهه عن الشرب إلى الامتناع بقدر ذلك، وبالعكس إذا اشتدت قوته البهيمية وضعفت قوته الأدبية مال إلى الانغماس في السكر بنفس النسبة.
إذن تصرف الإنسان أو سلوكه إنما هو حاصل تفاعل هذه العوامل، ولولا وجود هذه العوامل المختلفة التي تتنازع وجهة تصرفه لما كان معنى للقول: إنه حر أو غير حر. فوجود الإنسان في هذه الدوائر التي تحيط بشخصيته وتحصرها ضمن حدود معينة أوجد حريته، ولولا هذه الحدود التي نحن بصددها لكان بلا حرية البتة. (2-3) ليست الحرية مطلقة
ولعل بعض القراء يتوهم أنه لولا هذه الحدود لكانت الحرية مطلقة إطلاقا تاما. ولتبيان فساد هذا الوهم نزيل هذه الدوائر الواحدة بعد الأخرى لنرى ماذا يكون، فلو أزلنا الدائرتين الأوليين: دائرة المستحيلات ودائرة المجهولات؛ لأصبح الإنسان قادرا على كل شيء، أي لكان إلها؛ فإما أن يكون إلها شريرا إذا تغلبت غرائزه على أدبية نفسه، أو إلها صالحا إذا كان العكس، وإذا أزلنا الدائرة الثالثة: دائرة الغرائز والأخلاق أيضا، أصبح روحا أدبية لا فعل لها؛ إذ لا قوة لها للفعل، وبالتالي لا يبقى محل للحكم على عملها إن كان حسنا أو سيئا؛ ولذلك لا يبقى محل للقول بحريتها.
وإذا أزلنا الدائرة الرابعة تلاشت الخامسة أيضا؛ لأن القوة الأدبية مرتكزة على القوة العقلية، وحينئذ يصبح الإنسان جمادا لا حياة متحركة، ولا عقلا مدربا له، وبالتالي ينتفي معنى الحرية عنه كانتفائه عن الحجر: يصبح بلا حرية البتة كما أن الحجر ليس حرا في أن يرتفع عن الأرض أو أن يقع عليها؛ لأن ارتفاعه ووقوعه يتوقفان على ناموس الجاذبية والدافعية، فمتى رفعته قوة أجنبية ارتفع من غير أن يريد، ومتى تركته سقط من غير أن يريد. (2-4) دوائر الحرية علة وجود الحرية
فإذن زوال هذه الدوائر المحددة الحرية لا يفضي إلى حرية مطلقة، بل بالعكس يقضي على الحرية بالفناء، وإنما وجود هذه الدوائر المحددة للحرية يؤيد وجودها، وكلما زالت دائرة من دوائر الذاتية العليا سقطت دائرة حرية الفعل نفسه؛ فإذا زالت الدائرة الأدبية أصبح المرء إنسانا شيطانيا جهنميا لا يقدر أن يعمل صالحا، بل يصبح عبد شهواته، وإذا زالت الدائرة التعقلية أصبح المرء حيوانا يضطر أن يفعل بما توجبه غرائزه.
فترى مما تقدم أن دوائر حدود الحرية هي علة وجود الحرية، وتعدد هذه الدوائر جعل مجال الحرية واسعا.
فالحرية المطلقة غير موجودة، والحرية الواسعة العليا هي الحرية المنتشرة في الدوائر الأدبية. (2-5) وجود الحرية شاهد على إنسانية الإنسان
قلنا: إن دائرة الحرية الأدبية هي التي يعرف فيها المرء الحق والصواب والخير ويقدر أن يفعله، ولكنه لأدبية في نفسه صالحة أو طالحة يريد أن يفعله أو لا يريد، فهي الحرية العليا، وبها يتميز الإنسان على الحيوان؛ لأنها صادرة عن ذاتية أدبية: فالأسد حر أن يجول هنا وهناك في البحث عن فريسته، ولكنه ليس حرا أن يأكل الفريسة أو لا يأكلها.
ففي هذه الدائرة تتسع حرية الاختيار ، ولكن تضيق دائرة المختار. هنا يمكنك أن تقول: أريد هذا الخير أو لا أريده، ولكن هذا الخير نفسه الذي أردته أصبح أضيق دائرة، فلا يسوغ لك ما يسوغ للحيوان الأعجم. (3) هل الإنسان مسير أم مخير؟ (3-1) وحدة الحياة الإنسانية
إلى هنا بحثنا في حرية الإنسان، في تصرفاته وسلوكه، من الوجهة الطبيعية من حيث تصرفه نحو نفسه، أو من الوجهة الأدبية من حيث تصرفه فيما يمس الآداب الاجتماعية، وقصرنا البحث في ذلك على أفعاله منفصلة بعضها عن بعض؛ فهو يخطئ هنا ويصيب هناك، ويأثم اليوم، ويحسن عملا غدا، بحسب الظروف التي تتغلب عليه، وبحسب التقلبات التي تطرأ على أخلاقه وعقليته، ولكننا لم نبحث في عمل حياته كوحدة قائمة بذاتها لنعلم هل هو مسير في هذا الإهمال أو هو مخير. هذه مسألة أخرى تختلف عن مسألة الحرية التي تبسطنا فيها كفاية.
قلنا: إن الحرية محدودة؛ لأن الاختيار محدود، فأنت حر أن تأكل هذا أو ذاك، ولكنك لست حرا أن لا تأكل إذا كنت متمسكا بالحياة، وأنت حر أن تنام في منزلك أو في الفندق، وعلى الفراش الوثير أو على الحصير، ولكنك لست حرا أن لا تنام بتاتا، وأنت حر أن تسعى إلى المال عن طريق العمل الشريف، أو بالوسيلة الدنيئة، أو بالتعب، ولكنك لست حرا أن تعف عن جمع المال إذا كانت شهوته شديدة فيك، وأنت حر أن تشم الكوكايين، ولكنك لست حرا أن تمتنع عنه بعد أن تسلطت عادته عليك، وأنت حر أن تحب فلانة دون فلانة، ولكنك لست حرا أن لا تحب. وهكذا تجد أن هناك أحوالا وجدت فيها لا اختيار لك في الوجود فيها أو في الخروج منها. (3-2) لا سيطرة للإنسان على مجرى حياته
إن من ولد زنجيا في وسط أفريقيا ليس ملوما إذا لم يكن متمدنا، وابن الفقر والحاجة غير ملوم إذا لم يتيسر له أن يكون عالما فيلسوفا، وولي العهد مخلوق ليكون ملكا، وشكسبير خلق ليكون شاعرا، والشيخ سلامة حجازي خلق موهوبا جمال الصوت، ومثله أم كلثوم وغيرها ، وتشارلي تشابلن جاء إلى الوجود موهوبا مزية الهزل، والشرير المجرم كان حظه أن يوجد في بيئة إجرام، ووارث الثروة حظه أنه غني.
فجميع هؤلاء وأمثالهم قلما كان لحريتهم تأثير في ظروف حياتهم التي وجدوا فيها، وإذا حللت حياة كل شخص تقريبا وجدت أنها، كوحدة عمومية، هي ألعوبة الأقدار، ولا شأن لحريته في الاختيار إلا في أفعاله منفصلة؛ أي في كل فعل منها وحده، وقلما تجد ارتباطا بين أفعاله بحيث تتسلسل الحرية والمسئولية فيها، وإلا لكان المرء صائب المسعى دائما. (3-3) الإنسان ألعوبة القضاء والقدر
ولأن الإنسان يخطئ مرة ويصيب أخرى، ويأثم الآن ويحسن عملا غدا، تبعا لتقلب أحواله ونفسياته، فلا يمكن أن يكون مسيطرا على مجرى حياته من أول بلوغه إلى مماته، فكأنه ملقى في نهر من حوادث الحياة عريض طويل متعرج، والتيار والأمواج وخوض الآخرين معه. كل هذه تتقاذفه إلى هنا وهناك بالرغم من أنه يجاهد إلى أن يصل إلى البر؛ فقد يصادفه الحظ أن يقذفه التيار نحو الشاطئ، ولكن قد يتفق وجود بالوعة هناك فتغوص به وترده إلى جهة أخرى، فكأن بلوغه إلى الشاطئ متوقف على القدر. مع ذلك هو يشعر أنه لا يستطيع الاتكال على القدر، بل يجاهد متجها إلى الشاطئ متحينا الفرص للاندفاع إليه، فإذا حدث ما قذفه عن الشاطئ كان ذلك من سوء حظه. (3-4) التعقل يتقي القدر
فالإنسان في إجمال حياته مسير غير مخير، بمعنى أنه لا يستطيع أن يجزم بالغاية التي يرمي إليها، وإنما إذا كان يتعرف دائما السنن والنواميس الطبيعية والاجتماعية والأدبية، ويختبرها، ويحسن اختيار الأفضل، فيكون أضمن بلوغا إلى الغاية الفضلى ممن يستسلم لحكم القدر الأعمى، ويتكل على البخت أو التوفيق وحده.
إذن الإنسان مسؤول عن تصرفاته وأفعاله المنفصلة كل واحد منها على حدة، ولكنه غير مسئول عن مجمل حياته ومصيرها؛ لأنه لا يقدر أن يسيطر إلا على حلقات أفعاله منفصلة، وأما سلسلتها المتصلة فلا يقدر أن يسيطر عليها، وإلا لكان كل فرد يصعد في سلم النجاح إلى القمة آمنا السقوط.
تصح هذه النظرية على اعتبار أن الإنسان سليم العقل والجسد، بحيث تتيسر له قوة الحكم، ويتسنى له التمتع بنعمة الحرية، ولكن هناك أفرادا شاذين أعلاء العقل والأخلاق لا يستطيعون الحكم، ولا يحسنون الاختيار، ولا يقدرون أن يروضوا غرائزهم ويقمعوا شهواتهم، ولا تسنت لهم عوامل لتهذيب أخلاقهم وتدميثها، فهؤلاء مسئوليتهم قليلة، والقوانين التي تساوي بينهم وبين أصحاب العقول والأخلاق تجور عليهم.
الباب الثالث
الحياة الأدبية
الفصل الأول
معنى الحياة الأدبية
(1) غاية الحياة القصوى
ما هي الحياة؟ ولماذا نحيا؟ ما الغرض الأقصى من حياتنا؟
لا ننظر إلى الحياة في تحليلها من الوجهة البيولوجية بل من الوجهة الأدبية. (1-1) غرض الحياة
إذا قلنا: إن الغرض من الحياة التمتع بالملذات، وجدنا كثيرا من الملذات تجني على الحياة فتقتل الحياة والملذات معها، فكأن الملذات تقضي على نفسها. وهنا يطرأ علينا هذا السؤال: أي الملذات إذن أفضل لنا؟ طبعا تقول: هي تلك التي لا تقضي على الحياة، فما هي إذن؟ في كل فعل من أفعالنا نرمي إلى غرض يشبع شهوة من شهواتنا، حتى المعقولة، حتى العقلية.
فلكي نهتدي إلى الملذة الفضلى نتمثل شخصيتنا كأنها أمر مجرد عنا، ونرى إن كانت هذه الملذة موافقة أو منافية أو قاتلة لها. السكر ملذة ولكننا نمتنع عنه لأنه قاتل لشخصيتنا. ففي كل فعل من أفعالنا يتمثل لدينا تمثال شخصيتنا، وإدراكنا وجودها يستدعينا للتعقل والتدبر. وهذا الاستدعاء هو التصرف الأدبي الذي نحاول أن نعصمه من الخطأ.
كل الناس يضعون اللذة هدفا لسلوكهم، وربما كان بعضهم يجعلونها قاعدة الحياة أو غرضها الأقصى، ولكن المتعقل يفهم أن الحياة ليست وسيلة لإرضاء الشعور المنبث فيها فقط، بل هناك أمور أخرى تتضمنها الحياة، وترمي إلى تحقيق حركتها الحيوية، لا بحكم التعقل والإرادة فقط، بل بحكم الغريزة الفطرية أيضا، وأهمها:
أولا:
الحرص على بقاء الفرد.
ثانيا:
الحرص على بقاء السلالة.
ثالثا:
إدراك الذاتية الأدبية كمركز دائرة الحركة الحيوية.
رابعا:
النزعة إلى التعاظم. (1-2) الحرص على بقاء الفرد الذاتي
الحرص على بقاء الذات هو النزعة الأولى المتضمنة في الحياة، والبقاء أول مرمى ترمي إليه أفعال الحياة الأدبية، ولكن في سلوك المرء كثيرا من الأفعال التي تضل السبيل إلى هذا الهدف، ولو اقتصر الإنسان على الغريزة الحيوانية العاملة للحرص على البقاء لهلك في يومه الأول؛ لأن عقليته أضعفت هذه الغريزة فيه، بدليل أن الطفل لا يعيش يوما بلا حضانة أمه، خلافا للحيوان الأعجم الذي يتكل في حياته كثيرا على هذه الغريزة.
فعقلية الإنسان تولت قسما كبيرا من هذه المهمة وأخذته عن عاتق الغريزة؛ فلا بد له من عقليته للحرص على بقائه. وهذا الالتزام يعين فضل الأدبية في الحرص على البقاء، فإذن الحياة الأدبية ليست الحياة البيولوجية فقط، بل هي الحياة العقلية أيضا. (1-3) الحرص على بقاء السلالة
الحرص على بقاء السلالة نزعة أخرى للحياة، وبقاء السلالة هو غرض للحياة أعظم من غرض بقاء الفرد؛ فإذا كان الفرد لا يرمي بأفعاله إلى هذه الغاية «بقاء السلالة»، بل إلى مسرة نفسه فقط، فهذه المسرة تفضي إلى تلك الغاية نفسها. إذا كنت تتزوج لتسر نفسك بعائلتك، فهذه المسرة كافلة الحصول على حفظ السلالة الذي هو غاية الحياة، وإذا كانت الطبيعة قد أوجدت هذه المسرة كوسيلة للحرص على بقاء السلالة، فوجود هذه المسرة لهذا الغرض كاف لأن يعين أنها غاية أدبية؛ فالحرص على بقاء السلالة إذن أعظم نزعة من نزعات الحياة الأدبية. (1-4) إدراك الذاتية كمركز الحركة الحيوية
تتميز الحياة الإنسانية عن الحياة الحيوانية بأنها تشتمل على ذاتية متصورة فيها؛ أي إن في عقلية الإنسان صورة لذاتيته، وليس في عقلية الحيوان هذه الصورة على الأرجح: الإنسان يستطيع أن يقيم في مخيلته صورة لذاتيته يجردها عن نفسه، وينظر إليها كشخص مستقل عنه، وهي التي يسميها «أنا»، ولكن الضمير «أنا» قد لا يكفي لتجريد الذاتية العقلية وإقامتها كصورة متمثلة في الذهن، وإنما الضمير «أنت» يجعل هذا التجريد حين يخاطب الإنسان نفسه محاسبا أو معاتبا أو مغريا أو غير ذلك، فيقول لنفسه: لماذا فعلت هكذا يا هذا؟ هل أنت مجنون؟
ففي مخاطبة النفس على هذا النحو يتضح للمرء جيدا أن لذاتيته صورة في ذهنه كشيء قائم بذاته مستقل عنه، ويشعر أن هذه الذاتية هي المركز الذي تصدر منه أفعاله، وترجع إليه نتائجها، هي المركز الذي يقرر الغرض من الفعل، وهي المركز الذي يبتغي نتيجة الفعل، سارة كانت أو مؤلمة.
في هذه الذاتية المتصورة تتجمع جذور الغرائز والسجايا والأخلاق تحت سيطرة التعقل، فهي تحرك الأفعال مترسمة نتائجها قبل الوصول إليها، متمتعة بمسراتها المتصورة قبل الحصول عليها. فتمركزها على هذا النحو إنما هو نزعة أخرى من نزعات الحياة، والحياة تنزع إلى هذا التمركز منذ بدء تكونها.
وتطور الطفل في أثناء نموه إنما هو اتجاه إلى هذا الغرض، فأول ما يبتدئ أن يفهمه الطفل هو أنه شيء آخر مستقل عن الأشياء المحيطة به، ومتى صار يعبر عن نفسه بلفظة «أنا» يشرع يميز ذاتيته عن ذاتيات غيره، والأشياء التي حوله، بل يميز أنه هو «عند نفسه» ذاتية أعلى من الذاتيات التي تحف به، يشعر أنه غاية الوجود القصوى، وأن الكون خلق لأجله، فكأن طبيعة الحياة تربي فيه إدراك الذاتية بهذا الغرور كما تربى الثمرة الزاهية في كم الزهرة، حتى متى استتم وجدانه، وتحقق وجود ذاتيته كما هي، انتفض منه هذا الغرور كانتفاض الزهرة الزاهية عن الثمرة اليانعة بعد نضجها.
مع ذلك لا تخلو الذاتية الناضجة من الغرور، كما أن الثمرة الناضجة لا تخلو من تلون الزهرة؛ لأن هذا الاعتداد بالذاتية أو التباهي بها هو نفسه عملية تجردها التصوري، فالمرء لا يستطيع أن يعجب بنفسه إلا حيث يتمثل ذاتية فخمة في ذهنه، كما تتمثل امرأة طيف جمالها في المرآة.
في هذه الذاتية يختلف الناس بعضهم عن بعض ويتمايزون، وتختلف أفعالهم باختلاف ذاتياتهم؛ ولذلك تعد الذاتية مركز الحياة الأدبية أو نواتها. (1-5) النزعة إلى التعاظم - الرقي
لا نشعر أننا متمايزون عما حولنا فقط، بل نشعر أننا مسيطرون على ما حولنا، ولا نشعر شعورا فقط، بل ندرك أننا ذوو قوة ذاتية مستقلة عن قوة الطبيعة العامة، وبهذه القوة نستطيع أن نؤثر في ظروف الحياة ونكيفها كثيرا وقليلا، ونرى أننا بها نستطيع أن نسيطر على قوى الطبيعة ونخضعها لخدمتنا.
بهذا الشعور - شعورنا بالاستقلال عما حولنا وبالسيطرة على ما حولنا - نشعر أن فينا نزعة إلى الاستعلاء والتعاظم على كل ما حولنا. وهذه النزعة تدفعنا إلى ابتغاء أجود الأحوال التي يقتضيها ذلك التعاظم؛ أي إن توفقنا إلى تحسين أحوالنا الداخلية والخارجية، وبالجملة توفقنا إلى ترقية ذاتيتنا. هذه النزعة هي نزعة الرقي المتمركزة في دائرة النوع الإنساني بين سائر الدوائر الكونية.
فهذه النزعة، نزعة الاستعلاء والتفخم التي يمتاز بها الإنسان على الحيوان وسائر ما حوله من الأشياء، إنما هي نبضة من نبضات الحياة الأولية، والغرض الأعظم من أغراض الحياة، بل إن الطبيعة جعلت هذا الغرض الأعظم في الحياة واسطة لغرض أبعد منه؛ وهو الارتقاء إلى جهة المثل الأعلى في الجودة، فالطبيعة ترمي إلى التمثل بأجود مثال لها، والحياة أجود أمثلتها، ولكنها غير قانعة بهذا المثال، ولا هي واقفة عند هذا الحد، بل تريد أن تبتدع من الحياة مثالا أجود أيضا؛ ولذلك ابتدعت الحياة الأدبية، ومنها ابتدعت الحياة الإنسانية العليا، ومن يدري ماذا تبتدع بعد ذلك؟ (2) المثل الأعلى (2-1) الإنسانية العليا هي المثل الأعلى
إذن ترى أن معنى الحياة أو الغرض الذي ترمي إليه هو الحسن الأحسن، أو الجيد الأجود، أو الجميل الأجمل. وقد علمت أيضا أن الوجهة التي تتجه إليها الطبيعة في حركاتها هي الإنسانية العليا المتكونة من الحياة العقلية الأدبية. فغاية الحياة القصوى كما دربتها الطبيعة إليها هي المثل الأعلى في الإنسانية، وما الإنسانية إلا أجمل جمال عقلي أدبي، واللذة التي تحدث من جراء الحركة الحيوية في اتجاهها إلى هذا المثل الأعلى إنما هي غاية قصوى للفرد، ولكنها ذريعة إغرائية لغاية الحياة القصوى؛ أي الإنسانية العليا.
فنحن نفعل الأمور التي نعتقد أنها أفضل اللذات؛ أي اللذة التي ما نفعله لأجلها يؤدي إلى المثل الأعلى، لماذا؟ لأن هذا الفعل يكفل أولا: بقاء الفرد، وثانيا: بقاء السلالة، وثالثا: السير في الجهة القويمة إلى المثل الأعلى. فترى أن السلوك الأجود المؤدي إلى اللذة الفضلى هو الذي يؤدي إلى غاية الحياة القصوى التي نحن بصددها، لا إلى إرضاء شعورنا بالحسن، ولا إلى إرضاء مشتهياتنا الشخصية. (2-2) المثل الأعلى ميراث الطبيعة للإنسان
إن إرضاء مشتهياتنا هذه هو غاية قصوى لنا، ولكنه ليس غاية قصوى للحياة الأدبية، بل هو لها ذريعة إلى غايتها القصوى التي هي المثل الأعلى في الإنسانية. فسلوكنا الأجود لا يرمي إلى إرضاء شعورنا فقط، بل إلى إرضاء الحياة الأدبية بالأولى.
لو كانت الحياة قد وجدت لإرضاء مشتهيات الذاتية الإنسانية فقط لما كان ثمة مثل أعلى؛ لأن الغاية تقف حينئذ عند حد في الارتقاء، وبالتالي لا يكون ثمة رقي، ولكن وجود الرقي واطراده يثبتان أن معنى الحياة أو نزعتها ليس إرضاء النفس، بل الرقي في سلم المثل الأعلى في الإنسانية الجميلة، وما إرضاء النفس إلا ذريعة لهذا الرقي. فنحن في سعينا إلى الحسن الأفضل نسير نحو المثل الأعلى، سواء أردناه نفسه غاية لنا، أو أردنا لذة السلوك المؤدي إليه غاية لنا، وكلما دنونا من المثل الأعلى رأينا مثلا آخر أبعد منه فنسعى إليه، واطراد سعينا إليه هو الرقي.
فمعنى الحياة الأسمى هو الرقي، والإنسان أو النوع الإنساني مستمر على هذه السنة، فذاتيته وعقليته وإرادته إنما هي أدوات هذا السير، والحياة محركة أو مدربة هذه الأدوات في سيرها، وما الإنسانية العليا إلا المثل الأعلى المضمون في قلب الطبيعة، وقد خصت به الإنسان، فهو تراثها. (2-3) سنة الحياة
إذن سنة الحياة أولا: الحركة؛ أي فعل شيء، ثانيا: كيفية هذه الحركة التي تعينها طبيعة الإنسان النابضة بقوة حركة الحياة، ثالثا: أن ضمانة بقاء الحياة وجزاءها على هذه الحركة هما إرضاء هذه الطبيعة الإنسانية النابضة.
فأنت تفعل أفعالك بقوة حركة الحياة، وتوجه فعلك في الجهة التي تقتضيها نوابض طبيعتك، واللذة التي تنالها من نتيجة فعلك إنما هي جزاء الحياة لك على فعلك، وبالوقت نفسه يكون فعلك ضامنا بقاء الحياة مستمرة في رقيها إلى المثل الأعلى.
يتضح لك مما تقدم أن القاعدة الأدبية الرئيسية؛ أي القاعدة الأساسية للحق والواجب هي أن يكون فعلك متجها إلى غاية الحياة القصوى؛ أي الترقي على سلم المثل الأعلى، فإذا كان فعلك متجها في هذه الجهة كان راميا إلى الحسن الأفضل، وما اللذة التي تنالها من جرائه إلا غاية لك. أما هو فواسطة لقضاء غرض الحياة الأقصى. (3) الشخصية الاجتماعية
رأيت فيما تقدم أن معنى الحياة البشرية أو غايتها القصوى، أو غرض الطبيعة الأقصى منها - الإنسانية العليا - استلزم وجود ذاتية مجردة في الإنسان غير ذاتيته الطبيعية؛ ذاتية أدبية. وهذه الذاتية هي مركز شخصية أخرى له غير شخصيته البيولوجية الحيوية، هي شخصية أدبية اجتماعية؛ ولذلك ينبغي أن نتبسط كفاية في تبيان هذه الشخصية. (3-1) اندماج الذاتية الأدبية بالمجتمع
الشخصية البيولوجية مستقلة بحياتها: هي شخصية الفرد الطبيعية القائمة بنفسها، والمستوفية عدة الحياة في داخلها، فتقوم بأفعالها في نفسها لنفسها. وأما الشخصية الاجتماعية التي تتمركز فيها الذاتية الأدبية فهي مندمجة في جسم المجتمع كعضو من أعضائه، فتفعل أفعالها الأدبية بحسب ما تقتضيه بيئتها، وتتكون أدبياتها وأحكامها الأدبية مما تقرر في هذه البيئة. ولكي نعلم مقدار اندماج الذاتية الأدبية أو الشخصية الاجتماعية بالمجتمع، ونفهم كيفية عضويتها فيه، نبحث في مقدار استقلال الفرد عن المجتمع ومقدار علاقته به؛ أي إلى أي حد هو مستقل عن الجماعة، وإلى أي حد هو مقيد بها. (3-2) الإنسان ابن الاضطرار لا الاختيار
يولد الإنسان ولا يلبث يعي وجوده حتى يرى نفسه مقيدا بقوانين وأنظمة تثلم حريته، وتضيق دائرة استقلاله. فلننظر: هل يمكن للإنسان أن يولد ويشب ويكبر إلى أن يصير إنسانا مسئولا وهو في مطلق حريته؟
فأولا: أنه لا يولد باختياره، وما كانت له أقل إرادة أو اختيار في مجيئه إلى هذا العالم؛ فهو مولود الاضطرار لا الاختيار، ومتى ولد كانت ذاتيته كالشمع تنطبع فيه شخصيته، أو إن شئت أن تقول: إن شخصيته الطبيعية تكون كالشمع تطبع فيه ذاتيته الأدبية، فهل في وسعه أن يرسم لنفسه ذاتية أو شخصية خاصة به، أو أن يطبع نفسه بالشخصية التي يريدها؟
وهل يستطيع أن يبتدع لنفسه شخصية جديدة مختلفة عن شخصيات الناس، أو على الأقل عن شخصيات من هم حوله؟ أليس مضطرا أن ينطبع بالطابع الذي وجد قبله له ولغيره؟ فالولد منذ يولد إلى أن يشب ويكبر إنما هو مدين بشخصيته للعوامل الاجتماعية التي تكونها؛ لأن نفسه مسبوكة بقالب فكرة الاتصال بالأحوال والحوادث الماضية والحاضرة والمستقبلة، فلا غنى له عن الاقتباس من الاختبارات الجارية، فهو يجمل في حياته هذه الاختبارات الماضية والحاضرة، ويصوغ شخصيته منها. يقتبس عاداته من ذويه وقومه كما اقتبسوها هم من أسلافهم، وينهج المناهج التي نهجوها وينهجونها. (3-3) تكون الشخصية من مواد الأنظمة الاجتماعية
فمنذ تتكون في الطفل عقليته يشرع يقتبس تصوراته مما حوله، وأول ما يتناوله هو اللغة. واللغة ليست ملك أبويه، ولا هي ميراث له، بل هي نظام اجتماعي كونته الأجيال السالفة والحاضرة؛ فهو إذن يقتبس نظاما نظمه المجتمع، ومتى انتقل من حجري والديه إلى المدرسة والكلية، وجعل يتلقن العلم على أساتذته، كان يقتبس علم الأجيال الماضية والحاضرة؛ لا علم أولئك الأساتذة؛ لأنهم هم اقتبسوه مثله وأضافوا إليه، حتى الكتاب الذي يدرسه ليس من بنات أفكار مؤلفه وحده، بل هو زبدة اختباراته واختبارات كثيرين كتبوا قبله.
ومتى دخل إلى دائرة السعي والعمل كان في مدرسة أخرى يقتبس منها اختبارات السابقين والحاليين، وإذا عمل كان يسبك في أعماله مجمل اختبارات الآخرين على الأسلوب الذي يتهيأ له، ولكنه مهما تفنن في السبك فلا يستغني عن المواد التي اقتبسها.
كذلك أخلاقه الأدبية التي يصوغ منها شخصيته إنما هي مصوغة من مواد الأنظمة الاجتماعية المختلفة؛ فهو يصوغ نفسيته الأدبية من عادات قومه وتقاليدهم، ومن أنظمة المجتمع المدنية والدينية والأدبية والاقتصادية إلخ.
فنرى مما تقدم أنه مدين بشخصيته ليس لوالديه ولا لأساتذته ولا لذويه الذين يعاملهم، بل للمجتمع برمته؛ لأن كل فرد مثله اقتبس كما اقتبس. فجميع أفكاره وتصوراته قد صيغت في القالب العام الذي أعد من قبل المجتمع لكي تصاغ به شخصية كل فرد، «وتكون هذه الأفكار والتصورات حسنة وصائبة ومناسبة له وللمجتمع بالنسبة: أولا؛ إلى ما بلغت إليه اللغة من درجة الرقي ، وما احتوته من المعارف والصور العقلية، ثانيا: إلى درجة التعليم التي بلغ إليها الوسط الذي يقيم فيه، ثالثا: إلى القوة العقلية التي ورثها من سلالته.»
1 (3-4) تضامن الفرد مع المجتمع
زد على ذلك أن الفرد في سعيه إلى الرزق الذي هو حق طبيعي لا يستطيع أن يتنصل من الارتباط بالجماعة، فلا يستطيع أن يقوم بعمل من غير أن يستعين بأعمال الآخرين؛ فالآلة التي يعمل بها صنعها غيره، واخترعها آخر قبله، والمواد التي يستعملها في صنعه استخرجها آخرون بطرق اكتشفها واخترعها آخرون قبلهم.
والسوق التي يقايض فيها حاصل عمله إنما هي دائرة يشتبك فيها آخرون معه، وكيفما حاول أن يستقل وجد نفسه مشتبكا بمعاملة آخرين على أساليب وأنظمة اتفق عليها المجتمع؛ فهو إذن في سعيه إلى الرزق يتعاون مع الآخرين تحت سيطرة النظام الاجتماعي. حتى الرجال العظماء العبقريون، مهما كانوا مبتكرين ومتفردين إلى حد أن يقال: إنهم صنعوا شخصيتهم بأنفسهم، لم يستغنوا عن اختبارات المجتمع وأنظمته، حتى ولو استطاعوا أن يكيفوا هذه الأنظمة.
وحاصل ما تقدم أن الفرد في المجتمع شخصية غير كاملة، أو هو فيه عضو ناقص؛ فلذلك هو يحتاج إلى حيز أوسع من حيز الفردية ليستتم فيه شخصيته، يحتاج إلى الحيز الاجتماعي. (4) جسمانية المجتمع (4-1) طفولة الاجتماعية
وإذا تقرر فيما تقدم أن الفرد لا يمكن أن تقوم له قائمة بذاته مستقلا عن المجتمع؛ لأنه يستمد كل شخصيته من حياة المجتمع الماضية والحاضرة، بل هو عضو مندمج في المجتمع حتما، تبدو لنا النظرية الاجتماعية، وهي أن المجتمع جسم حي قائم بذاته ذو أعضاء توزعت عليها الوظائف الحيوية القائمة بعملية حياته، وأعضاؤه هم شخصيات الأفراد الأدبية.
وإنما هو لم يبلغ في رقيه الجسماني إلى الدرجة التي ارتقى إليها جسم الإنسان؛ فهو يكاد يعادل في درجته درجة الأحياء المائية الواطئة، التي إذا قطعتها إربا إربا أصبحت كل قطعة منها حيا قائما بذاته؛ ذلك لأن ارتباط أعضائه بعضها ببعض أقل متانة منه في الأحياء العليا؛ ولذلك يمكن تقطيعه كتلك الأحياء الدنيا، فالاجتماعية لم تزل في عهد البساطة أو الطفولة. (4-2) هل جسمانية المجتمع مجاز أم حقيقة؟
وقد يتراءى للناظر في أمر جسمانية المجتمع أنه أمر مجازي لاختلاف بين الطبيعتين؛ ففي الجسم الحي كل طائفة عضوية من خلياته تختلف عن الأخرى بنية كما تختلف عنها وظيفة. والأمر ليس كذلك في جسمانية المجتمع؛ فإن كل فرد كالآخر بنية، ولكنه يختلف عنه وظيفة؛ فالسياسي والعالم والصانع متماثلون بنية، وكان ممكنا أن يكون السياسي صانعا، والصانع عالما.
ولكن إذا انتبهنا إلى أن جسمانية المجتمع ليست مادية، بل هي نفسية عقلية وجدنا أن المشابهة بين جسمانية الحي وجسمانية المجتمع ليست مجازية، بل هي أقرب إلى الحقيقة منها إلى المجاز؛ فإن السياسي سياسي بعقليته لا ببدنه، وكذلك العالم والصانع والتاجر، وما صار الفرد سياسيا أو صانعا أو عالما إلا لأن عقليته معينة لهذه الوظيفة.
2 (4-3) تطور جسمانية المجتمع
وكون المجتمع جسما متطورا يقضي حتما بأن تكون جسمانيته متطورة أيضا حسب سنة الرقي؛ ولذلك نرى أن ارتباط أعضائه آيل إلى المتانة تدريجا، فمع التمادي يصبح هذا الارتباط أشد فأشد إلى أن يصبح بتر أحد أعضائه مفضيا إلى هلاكه، بل نحن نرى الآن أنه إذا أضرب فريق من العمال عن العمل عرض جميع الأمة للتهلكة.
إذن هذا الارتباط الذي جعل المجتمع جسما واحدا متوقفا بعضه على بعض هو علة تضيق دائرة استقلال الفرد، وكلما اشتد هذا الارتباط ضاقت دائرة استقلاله، وإذا تمادى المجتمع في رقيه على هذا النحو قاربت قيمة الاستقلال إلى الصفر. (4-4) نظرية الاثنينية
ترى مما تقدم أن هذه العلاقة الوثيقة بين الفرد والمجتمع جعلت للإنسان شخصيتين؛ الأولى: طبيعية حيوية «بيولوجية» ترمي بأفعالها إلى مصلحة الذات؛ فنبضتها إذن الأنانية، ونزعتها الحرص على بقاء الذات الفردية، والثانية: اجتماعية أدبية ترمي بأفعالها إلى مصلحة المجتمع؛ فنبضتها إذن غيرية، ونزعتها الحرص على بقاء السلالة أو المجتمع.
ولما كان بقاء الذات الفردية متوقفا على بقاء المجتمع كانت الغيرية آيلة إلى مصلحة الأنانية؛ فالغيرية مشتقة من الأنانية بالرغم من أن الشخصية الفردية مشتقة من المجتمع، لأن نتيجة الغيرية القصوى أو غايتها آيلة إلى الذات الفردية. فالإنسان يرى في عمل الخير للآخرين وفي خدمة المجتمع لذة لنفسه، حتى المجرم الذي يعتدي على حقوق المجتمع ويزيغ من وجه القضاء يأبى أن يزول القضاء؛ لأنه يحتاج إليه لحماية حقوقه الشخصية، وفيما هو يختلس من حقوق الأمة يأبى أن تزول أنظمتها التي تكفل له السلامة في الطريق والمنزل، وتسهل له الراحة في الانتقال والمعاملة. (5) مركز القاعدة الأدبية (5-1) نشوء الحق والواجب
رأيت أيضا أن هذه العلاقة الوثيقة بين الفرد والمجتمع، التي جعلت للإنسان شخصيتين متمايزتين، إنما هي نظام محكم يستلزم وجود حقوق وواجبات متبادلة بين الفرد والمجتمع، وإلا فلا تثبت هذه العلاقة ولا تقضي الوطر المبتغى منها؛ وهو حفظ بقاء الفرد نفسه.
لذلك كان على شخصية الفرد الاجتماعية الغيرية واجبات تقلص كثيرا من دائرة حقوق شخصيته الطبيعية الأنانية، تلك الشخصية التي ورثت من الطبيعة الحيوانية حقوقا واسعة. وبالطبع، الحق الذي للفرد هو واجب على المجتمع، والواجب الذي على الفرد هو حق للمجتمع؛ ولذلك كان ثمة حقوق للإنسان وحقوق للمجتمع، وواجبات على كل منهما.
فمن الجهة الواحدة نرى أن الفرد جاء إلى العالم مصطحبا حقوقا طبيعية لا يزال يقرها النظام المدني، وهي كما أقرتها قوانين الدول الأساسية ودساتيرها: حق الحرية الشخصية، وحق الامتلاك، وحق مقاومة الضغط، وحق السعي إلى الرزق. وقد أضافت الأنظمة الاشتراكية إلى هذه الحقوق حق المرأة بالمساواة مع الرجل. ومن جهة أخرى، نرى للنظام المدني حقوقا على الإنسان؛ كالضرائب والسيطرة، في مقابل حمايته لشخصه وحقوقه وما يمتلكه.
ولكن ربما تمايزت حقوق الفرد وحقوق النظام؛ أي الحكومة؛ فقد تلتبس حين يتداخل بعضها ببعض، حتى يكاد يتعذر تحديد كل فريق منها وفصله عن الآخر، وإنما بالإجمال يقال: إنه بقدر ما تتضح حقوق الفرد الطبيعية ولا تتصل بنظام المجتمع وحكومته؛ فليس للحكومة حق التدخل. (5-2) اصطدام حق الفرد بحق المجتمع
حقوق الفرد وحقوق النظام الحكومي تتداخل في كثير من الأحيان بحيث يتعذر التمييز بينهما، مثال ذلك: أن الحرص على الحياة أهم حقوق الفرد؛ ولذلك يعد أمرا حسنا، ولكن إذا تدبرنا حقوق الاجتماع نجد أنها في بعض الأحوال تستغرق حق الفرد حتى حقه بالحياة؛ ففي حالة الخطر على المجتمع برمته تصبح حياة الفرد ثانوية عنده إذا كان متدبرا، ويرى أن اقتصاره على الحرص على حياته وعلى حياة عائلته ليس بالأمر الأحسن، بل هناك حق أعظم وأحسن منه؛ وهو الدفاع عن المجتمع لدرء الخطر عنه، فإذا كان الفرد حينذاك يخلي نفسه من كل علاقة مع المجتمع كان منتحرا؛ لأن سلامته وسلامة أسرته تتوقف على سلامة المجتمع.
وكذلك المبرة، وإن كانت ليست أمرا أنانيا بل هي أمر غيري؛ أي إنها تتجه لمصلحة الغير، فما خلت من كونها لمصلحة الذات أيضا، فحين نرغب في الخير للآخرين يكون فينا شعور بلذة لنا أيضا. فهذا الشعور هو شيء فينا ينشئه ابتغاؤنا للمثل الأعلى الذي نتوخاه في الحياة، كذلك العطف أو الحب الذي يحملنا على إرادة الخير لمن نحبه أو نعطف عليه هو بالحقيقة أمر أناني؛ لأنه ينشئ فينا شعورا بلذة لنا.
وإذا كان الأمر كذلك، فارتباط الأفراد بالجماعة على نحو ما تقدم شرحه يوجب توسيع دائرة حقوق النظام الاجتماعي إلى حد أن تمس الدائرة كل حق طبيعي للفرد كثيرا أو قليلا؛ وبالتالي يجعل الأدبية أمرا جوهريا للحياة الإنسانية - يحتم على الفرد واجبات لغير نفسه - يقضي بتقديم الغيرية على الأنانية. (5-3) غريزية الغيرية
وهذا القضاء الاجتماعي الطبيعي أنشأ على تمادي الأزمان في نفسية الإنسان غريزة الغيرية؛ أي إرادة الخير للغير كما للنفس، وأنشأ هذا الشعور الباطني في الإنسان بلذة العطف على الغير، وبلذة المبرة وعمل الخير للآخرين؛ ولذلك لا يكون ضيق دائرة الحرية الفردية منقصا لسعادته كما نتوهم، لأن اللذة التي يفقدها من نقص أنانيته يجدها في غيريته. واليوم نجد أناسا يستلذون تضحية شهواتهم الشخصية في سبيل خدمة الإنسانية. ورئيس الجامعة الأميركية، الدكتور ضدج، في بيروت، مثل واضح على هذا. (5-4) معنى الحق والواجب
نرى أيضا أن الذاتية الاجتماعية التي لكل فرد في الأمة لا تري الفرد أن أفعال الآخرين مساعدة لأفعاله فقط، بل هي مادة أفعاله أيضا؛ ولذلك ليست شخصيته قائمة بتبادل النسبة بينه وبين الآخرين على قاعدة التعاون، بل هي قائمة بوقف الذات على فعل الخير للآخرين؛ ففي ابتغائه الخير للآخرين يبتغي الخير لنفسه، وحينما يبتغي الخير لنفسه وحده مستقلا يكون منتحرا، وحين يحب نفسه فقط يبغضها، وحين يحرص على ذاتيته يفقدها، وبالعكس حين يعرض نفسه للضياع في مصلحة الجمهور يجدها.
إذن هذا منشأ الواجب والحق، ولولا لزوم هذا التفاني في الحرص على مصلحة المجموع لما كان للحق والواجب معنى؛ إذن موضع الحق والواجب هو في نسبة الجسم الاجتماعي إلى أجزائه، أو في نسبة الفرد إلى المجتمع. ومعنى الواجب هو الضغط الذي قضى به تأثير فعل المجموع على الفرد في الظروف السابقة التي تهيأت له، والحق هو الحرية التي يمنحها المجموع للفرد معترفا له بها، باعتبار أنه من أجزائه الحيوية. هذا هو حق الفرد وواجبه.
وأما حق المجتمع فهو في تصور الفرد أنه جزء من المجتمع، وفي طاعته لأنظمة المجتمع وقوانينه، والحرص على سلامته. وواجب المجتمع هو في اعتبار أن هذا الفرد حيوي منه، وعليه أن يحرص على حيويته. (5-5) معنى القاعدة الأدبية
بعد هذا البيان يتضح لك أن القاعدة الأدبية هي أن تكون جميع أفعال الفرد متجهة إلى خير المجموع، ومتفقة مع حركة المجموع. وبالطبع إذا كانت كذلك كانت مقتصرة عن دائرة حقوق الآخرين، ومتفقة مع أفعال الآخرين الذين يعملون لخير المجموع أيضا.
وهو أمر طبيعي أيضا أنه متى كان الفرد ذو الشخصية الاجتماعية الأدبية يعمل لمصلحة المجموع، وبالمصاقبة لأعمال الآخرين الذين يعملون لمصلحة المجتمع، كانت جميع المبادئ الأدبية؛ كالصدق والأمانة والاستقامة والوفاء، قانون حياته الأدبية، وشريعة ضميره الصالح. وحينئذ قلما يضل السبيل عن كيفية تطبيق أفعاله على هذه المبادئ.
فترى مما تقدم أن مركز القاعدة الأدبية الرئيسية هو في هذه العلاقة بين الفرد والمجتمع. وسينجلي للقارئ هذا الموضوع أكثر في الفصل التالي.
الفصل الثاني
النظام الاجتماعي
(1) الشريعة (1-1) نظام المجتمع
إذا كانت الهيئة الاجتماعية تعد جسما قائما بذاته مؤلفا من أعضاء هي الشخصيات الاجتماعية، كان ولا بد لهذا الجسم عقلية قائمة بذاتها، وله روحانية أيضا، وبالتالي كانت له أدبية ومثال أعلى وواجبات وحقوق وفضائل، كما للفرد. وكلها تقيد سلوكه وتحدد مناهجه، وكما أننا نقيس قيمة سلوك المرء على ما يقوله ويفعله ونقول عنه: إنه حسن أو صواب أو حق، كذلك بقدر ما يكون مجتمع من الناس منظما نقول: إنه مجتمع حسن النظام، عادل القوانين، حقاني القضاء.
ونظام المجتمع الجيد أو العادل هو ما جعل حياة جميع أعضائه الاجتماعية المشتركة سائرة في طريق النجاح ما أمكن. وأما نظامه غير العادل فهو ما خول جانبا صغيرا من أعضائه أن يستعبدوا جانبا آخر أكبر، بحيث لا يستطيع هؤلاء أن يرقوا حياتهم الاجتماعية، ويتمتعوا بنصيبهم من مسرات المجتمع المشتركة وفوائده.
فلذلك من شأن علم أدب النفس أن يبحث في نظام المجتمع الذي يمس واجبات الفرد، كما أنه يلم بواجبات الأفراد الذين يتألف المجتمع منهم. (1-2) منشأ الشريعة
يزعم كثير من الكتبة أن القوانين والشرائع هي خلاصة العادات والتقاليد، وقد فهم من زعمهم هذا أن القانون والشريعة كانا قبلا عادة أو عرفا؛ أي إن العادة
1
والعرف سبقا الشريعة كمصدر لها، وإن الشريعة جاءت بعدهما مستمدة مادتها منهما.
ولكن طبيعة كل من العرف والعادة والشريعة تدل على نقيض هذا الزعم؛ فالعادة والعرف قائمان بين الناس من غير قوة منفذة، بل يجري عليهما الناس اختيارا من تلقاء أنفسهم. وأما الشريعة والقانون فتنفذهما قوة الحكومة، ولمخالفتهما عقاب، فإذا كان القانون مجموعة عادات يعمل بها الناس مختارين، فلماذا القوة المنفذة؟ أو لماذا يكف الناس عن العمل اختيارا، بحسب العادة، متى صارت العادة قانونا؟ أو بعبارة أخرى، لماذا تصبح العادة ثقيلة على الطبع متى صارت قانونا؟ فترى مما تقدم أن ذلك الزعم باطل. وإذا فرضنا أن القوانين والشرائع نشأت من العادات فمم نشأت العادات قبلها؟ ولاستقصاء أصل الشريعة نعود إلى النسبة المستحكمة بين الفرد والمجتمع؛ حيث نجد جذور الشريعة فيها. (1-3) علاقة الفرد بالفرد بواسطة المجتمع
وهنا نحذر القارئ من خلط هذه النسبة بنسبة أخرى بين فرد وفرد وبين الأفراد؛ فإن هذه النسبة ثانوية، ولا عبرة فيها في النظام الاجتماعي، ولا يمكن أن يتوقف هذا النظام أو يترتب عليها. النسبة القائمة بين الفرد والمجتمع هي قاعدة كل نظام اجتماعي، والفرد يتصل بالفرد عن يد هذا النظام، ويتعامل فرد مع فرد بواسطة هذا النظام، وينال فرد من فرد حقا أو يؤدي واجبا بواسطة هذا النظام؛ فالقاتل لا يقاضيه أهل القتيل، بل حكومة المجتمع؛ لأنه يعد مذنبا لها، والمهضوم الحق لا يطلب حقه من هاضمه، بل من المحكمة، والمحكمة تأخذه من هاضمه وترده له.
فلو استرد مهضوم الحق حقه المهضوم عنوة لعوقب؛ لأنه يحسب معتديا على النظام، ولو أبيح لكل شخص أن يسترد بقوته عنوة حقه المهضوم لسادت الفوضى في المجتمع. فترى مما تقدم أن علاقة الفرد الاجتماعية الحقيقية إنما هي بالمجتمع لا بالأفراد. (1-4) الشريعة سبقت العادة
بعد هذا البيان نعود إلى منشأ العادات ثم الشرائع. لا يمكننا أن نتصور أن عادة نشأت في أمة أو قوم أو قبيلة بغتة، لا بد أن تكون قد نشأت أولا في جماعة صغيرة جدا ثم اقتبست، لا بد أن تكون قد نشأت في الأسرة أولا؛ حيث هناك رب أسرة ذو رأي حكيم وسلطة نافذة، رأى مثلا أن أكل جيفة الحيوان الميت ضارة، فحرمه على أسرته، وأجاز أكل الذبيح فقط.
فهذا التحريم في أسرته شريعة ينفذها هو بالقوة، وقد يستحسن أفراد أسرات أخرى هذه الشريعة فيقتبسونها ويعملون بها اختيارا، وقد يقتبسها أرباب أسرات أخرى فيوجبونها؛ فتكون عادة عند بعض، وشريعة عند بعض آخرين، فإذا غلب استحسانها، وأخيرا عمت القوم كلهم وتعودوها، وصاروا يأتونها بلا تكلف؛ صارت عادة فتقليدا، ولم تبق شريعة.
وإنما إذا بقي الناس يأبونها ويشجبونها، وكان بقاؤها يسوء شعائر أولئك جعلتها الهيئة الحاكمة شريعة منفذة القوة. وتبقى شريعة هكذا أمدا طويلا أو قصيرا إلى أن تتعودها الأجيال، وتصبح عادة مستحكمة فيهم يأتونها اختيارا؛ فتقل الحاجة إلى القوة لتنفيذها، وعلى التمادي تتلاشى شرعيتها، وتصبح عادة، وربما صارت على التمادي غريزة .
فالعادة بنت نواة الشريعة أولا. وقد تكون الشريعة في بدء نشوئها حسنة جدا، فلا تلبث أن تنتشر كعادة لا كشريعة؛ لاستحسان الجمهور لها، فإذا بقي أفراد يناقضونها ويخالفونها اضطر المجتمع أن يعود إلى اشتراعها، وتستمر شريعة أمدا طويلا أو قصيرا إلى أن يتعودها الجمهور، ويحسب مخالفتها معرة، فيبطل كونها شريعة، بل تصبح مبدأ أدبيا ينفذه الناس من تلقاء أنفسهم تحاميا للمعرة. هكذا كان ستر العورة في أول الأمر شريعة منفذة بالقوة تحت طائلة العقاب، فلما ترقت أدبية الإنسان المتمدن وصار يستحي من كشف العورة، لم تبق حاجة لهذه الشريعة؛ إذ أصبحت عادة، ثم صارت مبدأ أدبيا.
فترى أن الشريعة نشأت من استحكام هذه النسبة بين الأفراد والمجتمع؛ لأن هذه النسبة تقضي بتبادل الحقوق والواجبات بين الفرد والمجتمع، والشريعة تعين هذه الحقوق والواجبات المتبادلة، والشريعة التي توجب واجبا على الفرد تخوله في الوقت نفسه حقا على الآخرين؛ فحين تحرم السرقة أو النهب على الفرد وتهدده بالعقاب إذا نهب، تكون في الوقت نفسه حامية ماله من نهب الناهبين. هذا هو معنى تبادل الحقوق والواجبات بين الفرد والمجتمع.
والغرض الذي يرمي إليه العقل الاجتماعي من الشريعة هو حفظ كيان المجتمع، وضمانة نمو الحياة الاجتماعية المشتركة بين الأفراد، وتطبيع أعضاء المجتمع في طبيعة واحدة لإمكان سبكهم في قالب واحد. وهذا السبك يسهل اتحادهم في المجتمع، وإحكام ارتباطهم فيه. (1-5) قوة الشريعة
نتقدم الآن إلى موضوع نفوذ الشريعة، فهي، أو الأنظمة الاجتماعية عموما، تستمد قوتها من متانة النسبة بين الأفراد والمجتمع، وبقدر هذه المتانة تكون قوتها ونفوذها. ولما كانت هذه المتانة مختلفة ومحدودة؛ أي غير مطلقة، كان تنفيذ الشريعة محدودا أيضا. فلا نتوقع أن تنفذ كأنها شريعة الجاذبية أو الكهرباء، بل هي مرنة، فتكون في أحوال أقل أو أكثر عنفا منها في أحوال أخرى، وتكون عند أمم أقوى منها عند أمم أخرى.
فالقبائل الرخوة الارتباط قليلة الاحترام للشرائع، والجماعات الفوضوية لا سلطة للنظام فيها، وحيث تكون النسبة متينة، وبعض فئات من المجتمع متمردة على الشريعة تكون الشريعة عنيفة، وحيث يتعود الجمهور النظام، ويتعقل مصالحه بحكمة؛ يطيع الشريعة عن طيب خاطر فتتوارى قوتها.
إذن قوة الشريعة تتوقف على المشادة بين فئة من أفراد المجتمع ونسبة جميع الأفراد للمجتمع. ولما كانت الحياة الاجتماعية كثيرة التقلب والتغير بمقتضى سنن التطور، كان لا بد من نشوء أساليب للحياة مختلفة تستلزم أن يتعودها الجمهور. وهيهات أن يتعودها سريعا؛ لأن الرأي العام ينتشر ببطء كلي؛ ولذلك لا بد من إجراء هذه الأساليب بالقوة، فتنشأ لها شرائع، وتنفذ هذه الشرائع في أول الأمر بعنف لما فيها من مناقضة للمألوف، ومن مقاومة للحرية الفردية، ثم على التمادي يتعود الجمهور الأسلوب الشرعي، فتتحول الشريعة إلى عادة، ثم إلى مبدأ أدبي كما تقدم القول.
فالشريعة وقر على الطبيعة البشرية، ولكنها ضرورة للحياة الاجتماعية، وعلى التمادي يخف وقرها، فما يفعله الإنسان في أول الأمر خوفا من العقاب يصبح مع الزمان يفعله بحكم العادة، وأخيرا يفعله بدافع الإرادة الأدبية؛ فالشريعة تنشأ أولا، ثم تليها العادة، ثم تأتي الفضيلة أخيرا.
هكذا الحشمة كانت في أول الأمر شريعة، ثم صارت عادة، والآن هي فضيلة؛ فإذن حيث تستتب الفضيلة تقل الحاجة إلى الشريعة؛ لأن الفضيلة، وهي سجية في النفس، تقوم مقام الشريعة في الإيجاب والمنع، وهي كنور الهدى للضمير تساعده في تمييز الحقوق والواجبات. فالنفوس الراقية في سلم الأدبية إلى المثل الأعلى تقدس هذه الحقوق والواجبات، وتقوم بها من تلقاء نفسها، والنفوس القليلة الرقي تقوم بها بحكم الشريعة إلى أن تتعودها وتصبح سجايا فيها. (2) الحقوق والواجبات (2-1) الرأي الاجتماعي يعين الحقوق والواجبات
إذا كان الرأي الاجتماعي عاما، أو ندرت فيه المعارضة، أصبح الحق والواجب المعينان عادة، وإن كانت المعارضة فيه كثيرة شديدة، فلا بد أن يحدث أحد أمرين: إما أن تقوى المعارضة فتسقط العادة الجديدة وتتلاشى، وتلاشيها دليل على عدم صلاحيتها في الظروف التي نشأت فيها، وإن كانت المعارضة قليلة والرأي الاجتماعي غالبا، فيسن لذينك الحق والواجب شريعة؛ فإذن الرأي الاجتماعي كبيرا أو صغيرا يعين الحقوق والواجبات، والرأي العام أو الاجتماعي الغالب يسن شريعة الحقوق والواجبات. (2-2) نسبة الحق والواجب
وبين الحق والواجب نسبة متينة لا يمكن نفيها؛ لأنه بنفيها ينتفي كل من الحق والواجب أنفسهما - هي نسبية كنسبة الإيجاب والسلب، أو الدفع والجذب أو الأخذ والعطاء - فإذا كان هناك آخذ فلا بد أن يكون ثمة معط. وليس الأمر هكذا فقط، بل إذا أخذ الآخذ شيئا فلا بد أن يعطي شيئا آخر مكافئا له، فيأخذ المعطي الشيء في مقابل ما أعطى؛ أي إن كل شخص آخذ ومعط، فإذن توجد نسبتان: نسبة بين الشخصين المتبادلين، ونسبة أخرى بين الأمرين المتبادلين؛ ولهذا قلنا: إن هذه النسبة مزدوجة بين الحق والواجب، تجعل ارتباطهما متينا جدا بحيث يستحيل انفكاكهما، وفي الوقت نفسه تضمن التوازن بين الجانبين.
فكل حق يجلب معه واجبا على صاحبه، كما أن كل واجب يخول حقا لمن فرض عليه هذا الواجب.
وطرفا الحق والواجب هما: الفرد والمجتمع؛ لأن النسبة التي بينهما كما عرفتها آنفا هي أساس نسبة الحق والواجب، أي إن المجتمع مسئول عن الحقوق التي للفرد، كما أن الواجبات على الفرد مفروضة عليه من قبل المجتمع. وأما الحقوق والواجبات التي بين الأفراد فثانوية في الأهمية. (2-3) الحقوق والواجبات الشرعية والأدبية
ثم (1) إن من هذه الحقوق والواجبات الثانوية في الأهمية ما هو شرعي؛ أي إنه ينفذ بقوة النظام الاجتماعي «الحكومة»؛ لأنه لم يصبح عادة يأتيها الناس اختيارا، ولا بد من تنفيذه لأنه ضروري لحياة المجتمع ورقيه. ومعظم هذا الضرب من الحقوق والواجبات هو ما يخص العلاقة بين الأفراد، وعليه يتوقف حفظ الأمن، والسلامة من الفوضى، والحرص على جري النظام في مجراه. (2) منها ما هو أدبي يترك أمر تنفيذه لأدبية النفس الراقية، ومعظمه يخص العلاقة بين الفرد والمجتمع؛ ولهذا تسوهل فيه لقلة الخطر من التساهل.
مثال ذلك أن الشريعة تحمي الملكية وتعاقب من يتعدى على ملك غيره، ولكنها لا توجب على صاحب الملك أن يستعمل ملكه بحكمة بحيث يئول لنفع المجتمع؛ فالفرد حر قانونا أن يستعمل ملكه كما يشاء، ولكنه أدبيا ليس حرا في ذلك، بل عليه أن يستعمله بالأسلوب الذي يفيد المجتمع، أو لا يضر به على الأقل.
فليس للغني أن يبدد أمواله في اللهو والبذخ الخليع والفحش ونحو ذلك؛ لأنه يكون حينئذ مرضا في جسم المجتمع، كذلك ليس للتاجر الذي قضت الأحوال بأن يقع في قبضته وحدها صنف من السلع أن يحبس هذا الصنف عن الناس لكي يتسنى له أن يضاعف الثمن، مع أن الموجود منه يزيد على المطلوب، ولا يحق لصاحب القدر الكبير من الأراضي أن يعطل بعضها لكي يتسنى له أن يرفع أجرة البعض الآخر.
إذن حقوق الإنسان تقتصر على الأشياء التي يصح لأجل خير المجموع العام أن يمتلكها. ولأنه يمتلكها على هذا الاعتبار هو ملزم أدبيا أن يستخدمها لأجل الخير العام، فالإنسان بحد ذاته ليس له من حق بتاتا، وإنما لأنه جزء من المجتمع هو ذو حق فقط بما يستطيع أن يستعمله بأسلوب يتفق مع الخير العام. فإذن الحقوق هي منح من المجتمع للفرد؛ ولذلك ليس للفرد مطلقا الحرية في التصرف فيها.
وفيما يلي أهم الحقوق الرئيسية التي تتمثل للذهن قبل الواجبات التي تصحبها أو تلازمها.
الفصل الثالث
الحقوق والواجبات الشخصية
(1) حق الحياة
أول حق من حقوق الإنسان هو أن يعيش. وهو يكتسب هذا الحق من كونه شخصا اجتماعيا محتما عليه أن يكون عضوا في جسم المجتمع. وغاية المجتمع استمرار البقاء، فهو إذن ذو حق بالبقاء في مقابل حتمية عضويته هذه. بهذا الاعتبار يسوغ له أن يضحي بحياته لأجل بقاء المجتمع، وفيما سوى ذلك لا يسوغ؛ ولهذا يعد الانتحار في نظر بعض المفكرين جريمة، فلا يسوغ للإنسان أن ينتحر؛ لأن انتحاره لا يوافق مصلحة المجتمع، وهو لم يعط حق الحياة إلا على اعتبار أنه يستعمله لخير المجتمع العام كما تقدم القول.
ولما كانت غاية المجتمع استمرار البقاء كما علمت، واستمرار رقيه سنة له، وجب على المجتمع أن يكون ضنينا جدا بحياة الأفراد، فلا يسمح بتضحيتها إلا اضطرارا؛ لذلك لا يسوغ للدولة المتمدنة التي تشبعت بروح الأدبية أن تفرط بحياة أفرادها في الحروب، فلا تثير حربا لأي سبب سوى الدفاع عن سلامة المجموع إذا تعرض للخطر. فكل حرب سببها المطامع الاستعمارية ونحوها إنما هي بلا شك جريمة لا تغتفر؛ لأنها تفريط بحق مقدس، وهو حق الحياة، لأجل مطامع غير جائزة ولا هي حلال. ولو كانت الأمم جمعاء تعترف أنها بالحقيقة أعضاء لجسم المجتمع الإنساني الأعلى، لكانت تعترف بأن كل حرب على الإطلاق جريمة.
يبتدئ حق الفرد بالحياة منذ يتكون جنينا، وإن كان لا يعلم هذا الحق ولا يفهمه؛ لأنه منذ تكون طفق يصير عضوا في جسم المجتمع، كما كان غيره قبله، وينتظر أن ينضج ويصبح عضوا عاملا في المجتمع كما نضج غيره، وما تكون المجتمع من أعضاء كانوا ناضجين قبل أن يتألف منهم، بل من أعضاء نضجوا عن يده وبفضله وتحت حمايته؛ ولهذا يعد الإجهاض القهري لغير سبب صحي جريمة.
وربما توسع بعض الأدبيين في هذا الموضوع فجعل الامتناع عن الحمل تداركا لكثرة البنين جريمة أيضا، على أن هناك مبررا لهذا الامتناع، وهو ضيق دائرة الرزق، بحيث لا يتسنى للعدد الأوفر من أعضاء المجتمع أن يعيشوا معا أصحاء أقوياء كما تقتضي الحياة الاجتماعية.
هذا الحق يجلب معه واجبين مقابلين له؛ الأول: الواجب الشرعي، وهو المصوغ صياغة سلبية «لا تقتل»، بل يجب أن تحاذر من أن تقتل شخصا آخر، وأن تعرض حياة آخر للهلاك، وإلا تقاص أو تعاقب، فلا يسوغ لأحد أن يقتل آخر مهما كان الداعي، حتى ولو كان الآخر قاتلا، وإنما يسوغ للمجتمع فقط أن يقضي على القاتل بالموت لاعتبار أنه عضو مريض في جسمه، وقد يخشى أن يعرض حياة الجماعة كلها للخطر، فيبتر منه.
أما الواجب الأدبي: فهو أن يحافظ الفرد على حياته كأنها ليست ملكه وحده، بل هي وديعة عنده من قبل المجتمع، وعليه أن يحرص على نموها وتقدمها في العافية، وسلامتها من الأمراض، وأما تفريطه بحياته وصحته وسلامته فيعد إثما أدبيا، وفي بعض الأحوال يعد أيضا جريمة شرعية يعاقب عليها كما يعاقب شارب الخمرة في أميركا، ومستعمل المخدرات «الكوكايين والمورفين إلخ» في مصر. (2) حق الاسترزاق
ولا يخفى عليك أن واجب الحرص على الحياة وسلامتها وصحتها وعافيتها يستلزم واجب السعي والعمل؛ أي إن كل فرد مكلف أن يعمل لكي يعيش، وإلا فقد حقه بالحياة. وأحيانا طبيعة الاجتماع تحرم الكسول المتقاعد عن العمل حقه أو مركزه في الحياة، وتعزله منه لتحل المجتهد محله.
ولكن المجتمع - لعيوب فاضحة في أنظمته الشرعية - لا يطلق هذه القاعدة ولا يجعلها مطردة، بل يسوغ لفئة من الكسالى أن يعيشوا عالة على المجتهدين، بل يسوغ لهم أن يمصوا دماء هؤلاء. وسبب هذا العيب في الأنظمة الشرعية هو ضعف الروح الأدبية في المجتمع، فإذا لم تكن الشريعة معتمدة على أدب النفس فلا تسلم من التغرض والغبن والحيف وسائر العيوب.
فواجب السعي والعمل للقيام بأود الحياة يستلزم حق الفرد بالاسترزاق، وقد كان هذا الحق غامضا من قديم الزمان، ومنكرا حتى هذا الزمان الحاضر؛ لأن الرزق كان ولا يزال إلى اليوم متنازع الأفراد والأمم، فلا ينال الرزق إلا من يتيسر له تنازعه. ولما احتدم هذا النزاع في عهد تقدم الصناعة الآلية والتفنن المالي صارت وسائل الرزق نفسها متنازع الأفراد أيضا، وصار المتمول مالكا أعنة المسترزقات، فيمنحها لمن يشاء أو يمنعها عمن يشاء، ومتى شاء.
ولذلك تحوم صرخة أصحاب الدعوة الاشتراكية حول نقطة حق الاسترزاق؛ أي أن يكون الاسترزاق حقا لكل فرد على المجتمع، أو على الحكومة التي تدير المجتمع، ولا يتسنى الحصول على الحق إلا بحيازة الحكومة جميع ضروب الأعمال لكي توزعها على العاملين. وهذا هو النظام الاشتراكي بعينه؛ لذلك يعد هذا الحق ضائعا ما دام النظام الفردي مستفحلا.
وأما اهتمام بعض الحكومات أو بعض الجمعيات أو بعض أصحاب الأعمال في إيجاد أعمال للعمال العاطلين في بعض الأحيان، فلا يعد تسليما بهذا الحق للمسترزقين أو تقريرا له كحق شرعي، بل يعد من قبيل الإحسان والرحمة، ولا يعد حق الاسترزاق شرعيا إلا حين يصبح شريعة على نحو ما تقدم. (3) حق الحرية
لقد علمت فيما مضى أن تحقيق المثل الأعلى الأدبي يتوقف على إرادة الفرد الحسنة؛ ولذلك يجب أن يكون الفرد حر الإرادة لكي يسعى ويعمل لأجل المثل الأعلى. وقد بحثنا في فصل سابق عن معنى الحرية وحدودها، فليراجع هناك. وأما هنا، في سياق البحث في الحق والواجب، فنقول: إن حق الحرية الشخصية يجب أن يكون مرافقا للحق بالحياة، ولكنه في تاريخ التمدن جاء متأخرا عنه، فبعد أن امتنعت الأمم عن قتل الأسرى في الحروب كتسليم بحق الحياة للفرد، بقي الرق زمنا طويلا، وما ألغي الرق والنخاسة إلا في القرن الماضي؛ إذ عم الاعتراف بحق الحرية لكل فرد.
ولكن بقي إلى الآن نوع من الرق لا يقل حيفا عن الرق المعروف، وهو رق العامل لصاحب العمل، وتدخل المتمول في حرية العامل في دائرة سلوكه للحرص على حياته. وقد بحثنا مليا في أن الحرية المطلقة مستحيلة؛ إذ لا يستطيع الإنسان أن يفعل كل ما يلذ له أن يفعله، فحق الحرية الذي يجوز للإنسان أن يتمتع به منحصر في دائرة عمله الذي يرمي إلى ترقية نفسه بحسب سنن المجتمع.
وحق الحرية هذا يوجب على الفرد أن يستعمله في الغايات الحسنة المعقولة؛ لكي يكون عمله مطابقا لمصلحة المجتمع، وبشرط ألا يعرقل حرية الآخرين أو ينقضها، إلا إذا كانت هذه العرقلة مساعدة للآخرين في ترقية أنفسهم الأدبية، فيحق لك أن تحول دون انغماس شخص في الفساد، أو أن تمنع استبعاد شخص لشخص آخر، أو أن تقاوم استبداد الظالم، أو أن تتلافى الدعارة أو نحو ذلك. وحاصل القول أنه يجب عليك أن تعامل الأشخاص كأشخاص اجتماعيين لا كأنهم أمتعة وسلع. (4) حق المساواة
هذا الحق يتصل بحق الحرية، وهو ناشئ من نسبة الفرد للمجتمع كعضو فيه، فإذا كان كل فرد جزءا من المجتمع لازما له، فهو كغيره ذو حق بالتمتع بجميع مزايا المجتمع، كما أن عليه واجب الخضوع لأنظمة المجتمع كسائر الأفراد، فكما أنه مساو لهم في هذا الخضوع يجب أن يكون مساويا لهم في التمتع بثمرات المجتمع، لا يختلف عنهم إلا بمقدار ما يستحقه من هذه الثمرات.
لم يكن هذا الحق معترفا به حتى القرن الأخير؛ فقد كان لطبقة الأعيان امتيازات ليست للعامة. وبعد الثورة الفرنسية صرح بحق المساواة - والحرية والإخاء - للجميع. وكان هذا الحق مقصورا على الذكور إلى عهد غير بعيد، وأما الآن فقد أخذت معظم الأمم تجيزه للنساء أيضا. (5) الحق السياسي
حق المساواة جر معه الحق السياسي، وهو أن تكون الآلة السياسية مدارة بإرادة الجمهور لا بإرادة أفراد ممتازين. وقد تأيد هذا الحق في نوع الحكم الديموقراطي المستند على الرأي الاجتماعي الغالب. وبموجب هذا الحق صار لكل فرد حق الانتخاب، ولكنه لا يزال في جانب من الأمم غير مطلق؛ ففي بعضها يحرم منه فريق من العامة كمنتخبين ومنتخبين، وفي بعضها يحرم فريق كمنتخبين فقط، على أنه كحق أدبي يجب أن يعم كل فرد بالغ ذكرا وأنثى. (6) حق التعليم
تأخر ظهور ذينك الحقين السابقين بسبب تأخر تعميم التعليم؛ لأن الأهلية لهما تستلزم المعرفة، فكان يحرم منهما من كان عديم المعرفة أو قليلها؛ ولذلك لكل فرد حق بالتعلم لكي يحصل عليهما، ما دام هو جزءا في ذلك الكل، وعليه من الواجبات والخضوع للنظام كما على غيره. لكل فرد حق أن يتعلم من علم الجماعة بقدر طاقته، وإلا كان مغبونا في تحمله المسئولية، وهو محروم حق التأهل للقيام بها.
ومن الظلم أن يعاقب المذنب عن جهل. نعم، إنه لا يتيسر لكل فرد أن يزكن جميع المعارف، وإنما له الحق بأن يجد جميع وسائل التعليم متيسرة له، فيتناول منها ما يستطيعه؛ لذلك جعلت الأمم الراقية التعلم إجباريا ومجانيا في الدرجات الأولى؛ لأنها اعترفت بهذا الحق العام، وكما أن للفرد حقا بالتعلم، عليه واجب أن يتعلم، فإذا أبى أن يتعلم كان مخلا بواجبه. (7) حق الملكية
ما دام النظام الاجتماعي فرديا لا اشتراكيا، والأفراد مضطرين إلى تنازع الرزق أو للتزاحم في أبوابه، فللفرد حق فيما يحصل عليه من عقار أو مرفق لقاء عمل يعمله، وللنظام الاجتماعي أن يحمي له هذا الحق، وإلا فإذا حرم حق امتلاك ما يحصل عليه، فلا يستطيع أن يكون جزءا صالحا في كل المجتمع، ولا يستطيع أن يسعى ويعمل إلى المثل الأعلى الأدبي الذي عليه أن يوجه مساعيه إليه. وهذا الحق يوجب على الفرد أن يستعمل ملكه بأسلوب يطابق مصلحة المجتمع.
ولكن هذا الحق يسقط إذا كان النظام اشتراكيا؛ إذ يصبح العقار والمرافق مشاعا، والعمل فيها موزعا على الأفراد، ونتيجته توزع الإنتاج حسب استحقاق العاملين. (8) حق التعاقد
كذلك ما دام النظام فرديا فللفرد حق التعاقد مع فرد آخر، وعلى كل منهما واجب تنفيذ العقد للآخر. وإنما يجب أن يكون التعاقد ضمن دائرة الحلال؛ أي إنه لا يجوز التعاقد فيما يناقض الحرية وسائر الحقوق الأخرى، فلا يصح التعاقد بين اثنين بحيث يكون الواحد رقيقا للآخر، أو أن يكون أحدهما مغبونا فيعطي أكثر مما يأخذ، أو أن يكون التعاقد على أمر مما يستحيل أو يتعذر على أحد الفريقين أن ينفذه. فلا يجوز أن تعقد اتفاقا مع عامل على أن يشتغل في النهار ساعات أكثر مما تستطيع القوة البشرية أن تفعل، ولا تصح المعاقدة مع غلام غير بالغ. كل هذه العقود باطلة لا لأنها غير شرعية فقط، بل لأنها غير أدبية لما فيها من الحيف والغبن. (9) حق العقيدة
وهناك حق حرية الفكر والرأي. وهو حق محدود، فيجوز لكل فرد أن يعتقد ما يشاء، والاختبار كفيل بأن يقرر صواب عقيدته أو ضلالها، وله أن ينشر عقيدته، إذا لم يكن في نشرها ما يقلقل نظام المجتمع، ويؤدي به إلى الفوضى، أو إذا كان فيها ما يناقض المبادئ الأدبية التي رسخت وأصبحت من أركان المثل العليا.
لحرية الفكر وبث الرأي شأن في رقي المجتمع؛ لأن التطور الاجتماعي السائر إلى المثل الأعلى إنما هو نتيجة ما يدخل إلى المجتمع من الآراء الجديدة التي تنقح العادات والتقاليد. ولا خطر من إطلاق حرية الرأي ما دام هناك عقل اجتماعي يزن، ورأي عام يؤيد أو ينبذ. وأما قتل حرية الفكر فيبلي المجتمع بالجمود والسكون، والسكون بؤرة للتعفن، فاستعمال الخرافات والأضاليل حول التقاليد المتقادمة عفونة ترد المجتمع إلى الوراء، وتبعده عن المثل الأعلى. (10) حق الطفولة
للأطفال الذين يتأهبون لأن يكونوا أعضاء صالحين في جسم المجتمع حقوق يخولهم إياها هذا التأهب. هم ضعاف قاصرون يحتاجون إلى الحضانة والتربية والتعليم. أما الحضانة ففي عواطف الوالدين ما يكفي لها، وأما التربية والتعليم فهما حق للأطفال على المجتمع برمته؛ لذلك جعل التعليم إجباريا ومجانيا، بحيث لا يعذر الوالدون إذا قصروا عن تعليم أولادهم، ويعاقبون إذا منعوهم عن التعلم.
كذلك للأطفال حق الحماية من الإجهاد قبل النضوج؛ فلا يجوز أن يستخدموا في عمل في وقت القصور؛ لئلا تستنفد قواهم ويتوقف نموهم، ولئلا يحرموا حقهم من العلم. (11) حق الجمهور على المجتمع
للجمهور الذي يخضع لنظام المجتمع، والذي يتعاون في الحرص على حياته، وعلى ترقيته، حقوق عامة على المجتمع لا يمكن الفرد أن يحصل عليها منفردا، كحق حفظ الصحة العمومية مثلا. فعلى حكومة المجتمع أن تقي صحة الجمهور من الأوبئة بالطرق المختلفة، وكحق توفير المتنزهات العمومية، وتنظيم المدينة ونظافتها، إلى غير ذلك مما لا يتسنى للفرد أن يقوم به، وكحق تلافي الحوادث الخطرة والكوارث ونحو ذلك مما لا داعي للتبسط به وهو معروف.
هذه أهم الحقوق والواجبات، فإذا تأملتها فهمت أن مجمل معناها هو أن لنا حقا بالوسائل اللازمة لترقية حياتنا الاجتماعية في أفضل سبيل إلى الخير الأعظم للجماعة التي نحن أعضاء فيها؛ ولذلك نحن ملزمون أن نستخدم هذه الوسائل في أفضل الأساليب التي تؤدي إلى هذه الغاية.
الفصل الرابع
الواجبات
(1) طائفة الواجبات
بحثنا فيما تقدم في رئيسيات الحقوق التي للفرد تجاه المجتمع، وهي الحقوق التي تتمثل للذهن قبل الواجبات التي تصحبها. وفيما يلي نبحث في الواجبات الرئيسية التي تتمثل للذهن قبل الحقوق المرافقة لها. (1-1) شرعية الواجبات
الواجبات الشرعية القديمة مصوغة في وصايا أمرية ونهيية، كما نرى نماذجها في لوحي موسى الحجريين وفي غيرهما من شرائع الأمم القديمة والحديثة مصوغة بصيغة شرطية، وجواب الشرط هو العقاب، كقولك: من يقتل يقتل، فهي شرائع مكتوبة محدودة؛ ولهذا توسعت على تمادي الزمان حتى ملأت مجلدات.
ومع ذلك لا تزال ناقصة وذات عيوب؛ لأنه يتعذر بل يستحيل أن تجد قواعد شرعية أو مبادئ قانونية أو مواد شرائع تشمل كل حادث من الحوادث الاجتماعية، ولا سيما في هذا العصر الذي تعقدت فيه علائق الأفراد والأمم تعقدا شديدا؛ ولذلك لا غنى عن الالتجاء إلى مبادئ أدب النفس أو أولياته لتصحيح الحكم حتى في المحاكم القضائية، كما أنه لا بد من انتداب الضمير لتزكية الحكم.
فواجبات الفرد إنما هي زبدة أوليات أدب النفس وثمرة مبادئه، ومصدر هذه الواجبات كمصدر تلك الحقوق التي تقدم البحث فيها؛ أي النسبة التي بين الفرد والمجتمع. هي واجبات الفرد نحو النظام الاجتماعي، ومنها تشتق الواجبات المتبادلة بين الأفراد بحسب العلائق والنسب المتبادلة بينهم. وبقيام الفرد بهذه الواجبات يتيسر للمجتمع أن يستمر في رقيه مغدقا المسرات والنعم على أعضائه. (1-2) واجب احترام النظام
إن قيمة القوانين القضائية والإدارية وفاعليتها تتوقفان على محافظة الجمهور على نظامه الاجتماعي، فحيث لا يحترم النظام تضعف سلطته، وتخيب فاعليته؛ فإذا كان الجندي لا يخضع لأمر قائده تضعف قوة الجيش حالا، وإذا كان ينفذ أمر قائده ولو كان خطأ كانت كتلة الجيش متينة وقوته عظيمة؛ فاحترام النظام كالحب لا يؤذن بالانتقاد أو الاعتراض أو التدخل، بل يوجب الطاعة عند طلب التنفيذ، وإذا كان ثمة خطأ في نظام، أو أن النظام يقبل نقدا أو اعتراضا؛ فللهيئة الاشتراعية أن تنقح.
لذلك يجب أن نحترم الحاكم حتى ولو كان غير أهل للاحترام؛ لأننا نحترم فيه شخصية المجتمع، وكذلك نحترم الحكام ونحترم القضاء، ونطاوع السلطة التنفيذية كالشرطة ونحوها، وليس ذلك فقط، بل يجب أن ننفذ القوانين الإدارية من تلقاء أنفسنا من غير أن تكون ثمة عين الشرطي مراقبة لنا، وأن ندفع المكوس المفروضة بكل طيب خاطر، وأن نتجنب كل سلوك يعرض الأمن العام للخطر أو الفوضى. يجب أن نفعل كل هذه ونحوها حتى ولو كان في بعض الأنظمة التي توجبها خطأ أو جور أو حيف، نفعلها ما دامت في مقام التنفيذ حرصا على سلامة المجتمع، وإنما لنا أن نسعى لتنقيحها بالأساليب الشرعية القانونية.
هذا الواجب يخولنا حق طلب حماية أشخاصنا وحياتنا وحريتنا وأموالنا من المجتمع، وإيجاد الوسائل العمومية التي تساعدنا على ترقية أنفسنا. (1-3) واجب احترام رأي الأكثرية
كثير من الأنظمة أو القوانين لا توافق مصلحتنا كأفراد، أو قد تضر بنا أو تخالف أميالنا أو أذواقنا على الأقل؛ ولذلك يمكن أن نظنها خطأ أو ضلالا، أو أن فيها غبنا وحيفا، وربما كان ظننا صائبا. وإنما لأن الأنظمة تتقرر بحكم رأي الأكثرية تجب إطاعتها احتراما لرأي الأكثرية، إلا إذا قبضت أقلية على زمام السلطة واستبدت، فيسوغ التمرد عليها.
وأما ما يتقرر بحكم الأكثرية فلا بد من احترامه حرصا على سلامة المجتمع واستمراره في سبيل الرقي والنجاح؛ لأنه لا برهان على حقانية الحق وعدالة العدل أقوى من قرار الأكثرية. وليس في الإمكان تنفيذ حق لم تقرره الأكثرية، فإذن لضمانة سلامة المجتمع يجب احترام رأي الأكثرية.
نرى نتيجة هذا الاحترام في القارة الأميركية؛ ففي الولايات المتحدة أول من يبادر لتهنئة الرئيس الجديد الذي فاز في الانتخاب هو خصمه، دلالة على خضوع جميع حزبه لقرار الأكثرية. وأما في جمهوريات أميركا الوسطى، فكان فوز الرئيس لا يتوقف على الانتخاب السلمي الخالي من الزيف، بل على حرب أهلية بين الحزبين، فالحزب الذي يغلب في الحرب تكون الرئاسة له ولو كان أقل عددا. فهنا لا حرمة للأكثرية؛ ولهذا نرى الفرق في الرقي بين الولايات المتحدة والجمهوريات الوسطى كالفرق بين السماوات والأرض.
وهذا الواجب يخول حق المساواة بين الأكثرية والأقلية في جميع التمتعات التي تنال عن يد السلطة التي في قبضة الأكثرية. (1-4) واجب الحرص على نجاح المجتمع
الفرد يستمد حياته ونموه من حياة المجتمع، ويتمتع بما يغدقه عليه المجتمع من التمتعات، ونجاحه متوقف على نجاح المجتمع، كذلك نجاح المجتمع أو رقيه متوقف على نجاح أفراده وتضامنهم وتعاونهم وتوافقهم في أعمالهم وتصرفاتهم وعلائقهم بعضهم مع بعض؛ فلذلك على الفرد أن يصرف كل ما منح من قوى ومواهب في العمل النافع له ولغيره، وللمجتمع على العموم، وإلا كان مذنبا للمجتمع، وإن كان ينجو بذنبه من عقاب المجتمع في كثير من الأحوال.
فالأغنياء الوارثون الذين قيض لهم نظام الاجتماع الفردي أن يحصلوا على ثروات طائلة بلا بذل تعب في مقابلها إذا لم يستخدموا أموالهم في أعمال ومرافق يسترزق منها آخرون، وفي مشروعات خيرية كما فعل ركفلر وكارنجي، وكما يفعل الآن فورد وأضرابه، بل إذا جعلوا يبددونها في اللهو والبطالة والفساد والدعارة كانوا أعظم المجرمين، وكانوا يستحقون الشنق. إن استفحال هؤلاء ووفرة عددهم تسوغ تفضيل النظام الاشتراكي، وتبرر نشاط الاشتراكيين.
بعرق جبينك تأكل خيرك: أول شريعة دينية ظهرت على الأرض، وكان العمل بموجب هذه الشريعة عبادة؛ لأنها أول مبدأ جيد ارتشد إليه الإنسان بالاختبار الطويل منذ جعل يشط عن طور الحيوانية إلى الإنسانية. فالعمل ضرب من عبادة الحق لثقة بحقانية نجاح المجتمع. وهذا ما يجعل المرء الحسن الإدارة أن يقف نفسه على العمل الصالح. (1-5) واجب الأمانة
كما أن لك حقوقا على المجتمع - تقدم بيانها - هكذا لغيرك حقوق مثلها، فيجب عليك احترامها؛ كحقوق الحياة والحرية والملكية والمساواة إلخ، ذلك لأن النسبة التي بينك وبين المجتمع، والتي سوغت هذه الحقوق، إنما هي محققة بحسن العلائق بينك وبين إخوانك، فإذا كنت تتوقع من المجتمع أن يحمي حقوقك وجب عليك أن لا تعتدي على حقوق سواك، بل بالأحرى أن تحترمها، وإذا كان كل فرد يحترم حقوق الآخرين هكذا، بحيث لا يضطر المجتمع أن يعاني في سبيل حماية حقوق الأفراد، كانت العلائق بين الأفراد جيدة بقدر قلة المعاناة هذه. وبقدر جودة هذه العلائق تكون النسبة بين الفرد والمجتمع متينة، وبالتالي يكون نجاح كل من المجتمع والفرد أعظم.
إن واجب احترام حقوق الغير يستلزم الامتناع عن الغش والتزوير والخيانة والاختلاس والغبن والغدر ونحو ذلك مما يغمط حقوق الغير، فهذا الامتناع هو الأمانة بعينها. (1-6) واجب اعتبار شخصيات الغير
وإذا كانت جودة العلائق بين الأفراد لا تقتصر على الوجوه السلبية؛ أي عدم اعتداء الواحد على حقوق الآخرين، بل تشمل الوجوه الإيجابية أيضا بحيث يتعاون الأفراد في ترقية أمورهم وإنجاحها ، كانت العلائق أجود، والنسبة الاجتماعية أمتن، فإذا كان العالم يكتم علمه لنفسه، وذو الموهبة يخنقها، والمتمول يخزن ماله ولا يثمره، وكل شخص يقول: دعوني لنفسي يكفي أني لا أعتدي على حق أحد، كانت العلائق بين الأفراد رخوة وفاترة، وكان الرقي ضعيفا.
هذا الواجب يقوم برغبة الفرد في أن يشترك مع غيره في المشروعات العمومية المفيدة للجمهور، ولا سيما للعامة؛ كإنشاء الأندية الأدبية والعلمية والفنية والمعاهد والملاجئ، إلى غير ذلك مما يستفيد منه أعضاؤه وغيرهم فوائد عرفانية وغيرها.
إن داعي قيامك بهذا الواجب هو احترامك شخصية الغير، واعتبار أنهم من جبلة كجبلتك، ولهم قيمة اجتماعية كاجتماعيتك، وأنهم أعضاء لازمون للمجتمع كلزومك له؛ لذلك عليك أن تكون شخصا اجتماعيا جيدا، وأن تحترم الآخرين كأنهم أشخاص اجتماعيون جيدون مثلك. (1-7) واجب الصدق
إن صلاحية عضوية الفرد في جسم المجتمع تتوقف على إمكان التحامه في المجتمع واندماجه فيه، ولا يمكن أن يتم هذا الاندماج إلا إذا كان الفرد يقدم شخصيته للمجتمع كما هي من غير ختل؛ أي أن يصدق في قوله وفعله، فيفعل كما يقول، ويقول ما يعني؛ يجعل أفعاله مطابقة لأقواله، وأقواله مطابقة لمقاصده، فالفرد الذي يخاتل ويراوغ وينافق ويماذق لا يلبث أن يجد نفسه منبوذا من جسم المجتمع كنبذ صديد الخراج؛ لأنه لا يوثق بقوله ولا بوعده.
فالصدق يعنى به أن نقول ونفعل بحيث يكون تصرفنا في القول والفعل معربا بأصرح ما يمكن عما نعتقد أنه حق، وأنه صدق، وما نقصد أن نحققه. فإذا تعذر علينا في بعض الأحوال أن نطبق فعلنا على قولنا، أو أن ننجز وعدنا، أو إذا أسيء فهم اعتقادنا لسوء تعبيرنا، إذا حدث كل هذا خلافا لرغبتنا وقصدنا، كان لنا عذر تجاه ضميرنا، وإن كان يتعذر علينا في بعض الأحوال أن نبرئ أنفسنا أمام غيرنا. (2) اعتبارات أخرى في الحقوق والواجبات (2-1) تصادم الحقوق والواجبات
تلك هي المبادئ الرئيسية للحقوق والواجبات، وقد وردت روحها في جميع الوصايا الدينية؛ كوصايا موسى العشر ونحوها، ولكنها لا تستوفي جميع المبادئ الأدبية التي تفرض واجبات على الفرد وتعين له حقوقا، كما أنها لا تسلم من التناقض فيما بينها في كثير من الأحوال، مثال ذلك: أن حق الحرية وواجب احترام النظام كثيرا ما يصطدمان، فيتعذر على المرء أن يقرر أيهما أجدر بأن يضحى، وأيهما أولى بأن يتغلب، كذلك قد يحتك واجب احترام حق الحياة بحق الملكية، فيغمط هذا الحق في سبيل ذاك الواجب، كما لو اغتصبت السكين من يد الشخص المزمع أن يرتكب جريمة القتل. وكذلك قد يتناقض واجب الصدق بواجب الحرص على الحياة، كأن تضلل مطاردي شخص عنه لإنقاذه منهم.
على هذا النحو تجد في حوادث الحياة اليومية كثيرا من الأحوال والظروف التي تتناقض فيها الحقوق والواجبات، ويتعذر تمشيها معا كمبادئ أدبية أولية.
وتناقضها على هذا النحو يفضي إلى ارتباك المرء حين يطرأ عليه حال من تلك الأحوال، فقد لا يدري كيف يفصل بينها، ولا أي المبادئ ينقض ولا أيها يؤيد، وأي الوصايا يعصي وأيها يطيع.
ولذلك تحاول الأنظمة الاجتماعية أن تسن قواعد لمخالفة الوصايا في الظروف الخاصة، وبهذه المحاولة ينفتح حقل واسع للاشتراع لا نهاية له، ومع ذلك لا يمكن أن يستوفى جميع الأحوال وحصرها ضمن قوانين محدودة، فلا بد إذن من العودة إلى العكس، أي إلى توحيد مبادئ الحقوق والواجبات الرئيسية، وردها إلى مبدأ واحد أعلى يرجع إليه المرء في الحكم والفصل بين المبدئين المتناقضين، فما هو المبدأ الأعلى؟ (2-2) المبدأ الأدبي الأعلى
هو المبدأ الأدبي الذي يأمرنا بأن نحقق وجود ذاتيتنا المتعقلة؛ أي نوجدها، وأن نولي شخصيتنا الأدبية المتعقلة الحكم في الأمر؛ فنجرد أنفسنا من الأهواء والأغراض، ونحكم في المسألة كأنها تخص أشخاصا آخرين ونحن قضاة فيها، ونرى إن كان هذا الوجه أفضل من ذلك لحياة المجتمع، أو أن العقل الاجتماعي يوافق عليه، أو هل يطابق الرأي العام.
لعلك تقول: إن التبصرة في الأمر على هذا النحو لا تخلصنا من الارتباك والحيرة؛ ولذلك لا بد لنا من تفريع ذلك المبدأ الأعلى إلى مبادئ فرعية لكي نطبق المسألة على واحد منها، فكأنه لا غنى عن تعدد المبادئ والوصايا والشرائع.
تقول: لو كان تعدد الوصايا والشرائع ينقذنا من الحيرة والارتباك في الحكم حين تتصادم المبادئ الأدبية لكنا نلجأ إليه، ولكننا نرى أنه كلما تفرعت المبادئ الأدبية وتعددت زاد ذلك التصادم واشتد الارتباك، فإذا كان تفرع المبادئ وتعددها ليس حين الارتباك أفضل ملجأ من توحدها في مبدأ واحد أعلى، أفليس تشبع النفس بمبدأ واحد أفضل من خبل العقل بمبادئ متعددة متفرعة بعضها من بعض؟
إن مسألة تصادم المبادئ الأدبية مسألة ضميرية بحتة، فإذا كان الضمير حيا، والإرادة حسنة، والعقل حكيما؛ فالخوف من خطأ الحكم قليل جدا. فالعبرة ليست بصيغة الوصايا والشرائع أدبية وغير أدبية، بل العبرة بالنسبة الأدبية، فحيث تكون النفس متأدبة؛ أي راقية في سلم الأدب النفسي، يكون الضمير صالحا، والعقل حكيما، والإرادة حسنة؛ لذلك يفضل أن يبذل الجهد في تهذيب الأخلاق وتأديب النفوس على أن يبذل في تنقيح الشرائع وتوسيعها.
لأن الشرائع لا تصنع الشخصيات الأدبية، بل الشخصيات الأدبية تصنع الشرائع. (2-3) تفصيل الواجبات
تختلف الواجبات من حيث صيغتها واحتمال القيام بها وضرورته، وهي:
أولا: «الواجبات المحدودة» وهي الواجبات التي يمكن صوغها في صيغة محدودة من غير استثناء فيها، وهي التي تنص عليها الوصايا الشرعية التي يفرض عقاب لمخالفتها؛ كوصايا الدين أو وصايا الحكومة، وهي على الغالب واجبات سلبية؛ أي واجب الامتناع كقولك: لا تقتل، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد زورا.
ثانيا: «الواجبات غير المحدودة» وهي التي يتعذر صوغها في صيغة محدودة كشريعة، ولكنها في الوقت نفسه ينتظر من كل شخص اجتماعي أن يقوم بها بحسب طاقته، كواجبات احترام النظام، واحترام الشخصيات، والحرص على نجاح المجتمع.
ثالثا: «الواجبات المستثنية» وهي واجبات غير محدودة لا يمكن صوغها كشريعة، وفوق ذلك لا ينتظر من كل فرد أن يأتيها، ولا يمكن أن تؤتى في كل ظرف، بل هي تتوقف على طاقة الأشخاص وظروف الزمان والمكان كالمبرات مثلا؛ فهي ليست واجبا على كل شخص، وفي كل ظرف؛ فلا يمكن للفقير أن يحسن، وللضعيف أن ينجد. والطبيب يستطيع أن يسعف الآن، ولكنه إذا كان مريضا فلا يستطيع، والقوي يمكن أن ينجد في البر، ولكنه لا يستطيع النجدة في البحر؛ لأنه لا يحسن السباحة.
على أنه لا يستطاع وضع حدود قاطعة بين أنواع هذه الواجبات لأسباب مختلفة؛ أولا: لأن الشرائع المصوغة صياغة محدودة قابلة للتغير والتبدل والتنقيح بحسب طبائع الأمم الاجتماعية، وبحسب الزمان والمكان، فالربا مثلا جائز عند أمم وممنوع عند أخرى، وثانيا: لاختلاف مقدرة الناس في القيام بالواجبات كما تقدم القول، ولاختلاف الظروف والأحوال التي تستدعيها. (2-4) أدبية الواجبات
ثم إن جميع الواجبات شرعية وغير شرعية تعد واجبات أدبية إذا كان المرء يقوم بها من تلقاء نفسه لاعتبار أنها حسنة، وأنها لازمة لخير المجتمع؛ فإذا كان يقوم بواجب خوفا من عقاب، أو طمعا بثواب؛ لم تعد أدبية، بل تكون إلزامية ولا حرية للإرادة فيها. وحيث لا تكون الإرادة حرة فلا يكون السلوك أدبيا.
وكلما كان فعل الواجب بعيدا عن الاستلزام قرب إلى الفضيلة؛ لأن الفضيلة سجية تدفع الفاعل لعمل الواجب من تلقاء نفسه بلا تغرير ولا إغراء، ولا وعد ولا وعيد؛ لذلك يجب أن يترك تعيين الواجب أو تحديده لتبصرة المرء نفسه، وليس لعلم أدب النفس أن يقرر له واجباته؛ لأن الإنسان لم يترك بلا دليل، بل له مرشد في نفسه، وهو ضميره، وهو كشخص متعقل يجد في الظروف التي وجد فيه منهجه مختطا له بحدوده. وجميع الأفراد معا يجدون أنفسهم في مناهج خاصة تسمح لهم أن يسيروا فيها بحسب نظام حيوي عام.
وواجباتهم الرئيسية مرتبطة بتنفيذ عملهم المطابق لهذا النظام. (2-5) الواجبات العرفية
فيما عدا الواجبات الشرعية والواجبات الأدبية الأخرى نجد صنفا من الواجبات ثانيا من حيث طبيعته، ولكنه يحتم الطاعة؛ وهو الواجبات العرفية، كآداب المجاملة، وآداب المعاملات في الأعمال، وآداب احترام الشعائر والتقاليد المرعية إلخ. فجميع هذه الواجبات غير مفروضة فرضا أدبيا، ولكنها في كثير من الأحوال ضرورية لاستقلال الشخصية، ولا سيما لأن كثيرا منها لم ينشأ عبثا، ولا يندر أن تكون عاصمة من الظلم والخطأ.
من أمثلة ذلك : الاعتراف بلقب الشريف ورتبته، واحترام شعائر دين من يخالفك في دينه، وعقيدة من خالفك في عقيدته، وإنزال كل شخص في منزلته الاجتماعية، واحترام اليمين، وطاعة الابن للأب، واحترام الشاب للشيخ، والامتناع عن التعريض بالعرض إلى غير ذلك.
الفصل الخامس
الفضائل
(1) ماهية الفضيلة (1-1) القيام بالواجب
إذا نظرنا إلى الواجبات من وجهة صدورها وجدنا لها قاعدتين؛ القاعدة الأولى: داخلية، وهي التي ننظر إليها من جهة صفات الشخصية التي تؤدي إلى إدراك الواجب والقيام به، والقاعدة الثانية: خارجية، وهي الأنظمة الاجتماعية التي تهيئ ظرفا أو ظروفا للقيام به.
فلكي يقوم المرء بالواجب ينبغي أن يعرفه ويقصد أن يفعله، وأن تكون الأحوال الاجتماعية موافقة للقيام به بحسب السنن الاجتماعية؛ ففي الشخصية الذاتية غرائز وأميال نفسانية، وفي الشخصية الاجتماعية شعور بإرادة الخير للمجتمع وللقريب أو الجار، فالواجب يقضي بالتوفيق بين الجانبين بحيث لا تفنى مصلحة الفرد ولا تنثلم مصلحة الجماعة.
ولا يتعذر هذا التوفيق على حسن النية؛ لأن الشخصيتين مندمجتان معا ولا تنفكان، ولا يتعذر على ذي النية الصالحة أن يحل القاعدة الأدبية محل المحركات الغريزية للفعل في تصرفه.
فالشخصية التي تستطيع أن تسيطر على نبضاتها الطبيعية، وتخضعها لحكم القاعدة الأدبية لكي تقوم بالواجب تعد شخصية فاضلة. وهذه الاستطاعة تعد فضيلة، أي إن المقدرة على القيام بالواجب على هذا النحو فضيلة، والفضيلة لفظة واسعة المعنى. (1-2) سجية الفضيلة
فالفضيلة إذن هي سجية في الشخصية تستميل الإرادة الحسنة إلى السلوك المنحصر ضمن دائرة فكرة المجتمع والمطابق لإرادته، والرذيلة «المضادة للفضيلة» هي ضد الإرادة الحسنة بتأثير العادة أو الغرائز أو الأميال، التي وإن كانت في بعض الأحوال تئول إلى فعل بعض الحسن، أو إلى فعل الحسن الوقتي، تكون عدوة لخير المجتمع. السلوك بحسب الفضيلة يرضي الشخصيتين الذاتية والاجتماعية، والسلوك بحسب الرذيلة لا يرضي إلا الشخصية الذاتية فقط، ومع ذلك لا يضمن سعادتها القصوى.
ليست الفضيلة فعلا أو سلوكا، وإنما هي قوة مضمرة لتحريك الفعل بمقتضى الواجب؛ فهي إذن أمر حسن بحد ذاته. وحسنها يجعل الفعل حسنا ومرغوبا فيه لنفسه من غير نظر إلى الغاية؛ فالشخصية تتمثل باتصافها بالفضيلة. والسعادة إنما هي السلوك بحسب الفضيلة، والفعل بحسبها يصبح غاية لا واسطة؛ لذلك تستلزم الفضيلة - وهي قوة مضمرة كما قلنا - جهادا للقيام بالواجب. إذن إرادة الخير من غير فعل الخير لا تعد فضيلة. (1-3) تبويب الفضائل
لذلك يتعذر جدا تبويب الفضائل وتفصيلها من جهة الشخصية الذاتية، أو من جهة الشخصية الاجتماعية؛ ولا سيما لأن الفضائل تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والجماعات.
على أن أفلاطون رد الفضائل إلى أربعة أصول رئيسية، وهي: التعفف، والشجاعة، والحكمة، والعدل، الذي هو مبدأ عام يربطها جميعا.
ولا يخفى أن هذه الأصول منغرسة في المجتمع بفعل نظمه التي تربط الأفراد فيه. وقد جرى معظم الكتاب الأدبيين على تفصيل أفلاطون هذا إذا أمكنهم أن يحللوا هذه الأصول إلى سائر الفضائل الأخرى كفروع لها. وبتحليلها يمكن التوصل إلى منشئها، ونسبة بعضها إلى بعض، ووظيفتها في السلوك الإنساني. أما نحن فنضيف إليها المحبة والإيمان ونعدلها كما ترى فيما يلي. (2) الاعتدال (2-1) التعفف والشجاعة إلى جانبي الاعتدال
قلنا آنفا: إن في الشخصية الذاتية أميالا وغرائز وعواطف إلخ، وهي أداة اللذة والألم، فإذا أطلقت للغرائز والأهواء الحبل على الغارب اندفعت في السبيل الأقصر إلى السرور الأقرب من غير نظر إلى العواقب القصوى، ولا سيما لأن غرائز الإنسان ليست كغرائز الحيوان تكفي وحدها لإرشاده في سبيل الحياة الأمين، بل هي متهورة طائشة، ولا بد من إرشاد التعقل لها وتدريبه إياها؛ لذلك كان لا بد من فضيلتي الشجاعة والتعفف لتدربا تلك الأهواء والغرائز في السبيل المؤدي إلى اللذة أو السعادة العظمى. والتعفف في اللغة هو الكف عما لا يحل ولا يجمل قولا أو فعلا والامتناع عنه.
وقد علمت أن السرور والألم نقيضان متعاقبان، بمعنى أن وجود الواحد ينفي الآخر، أو أن انتفاء الواحد وجود للآخر، وعلمت أيضا أن الطريق إلى لذة أعظم قد يستلزم التجاوز عن لذة أقل، أو المرور بألم قليل بالنسبة إلى تلك اللذة. (2-2) وظيفتا الشجاعة والتعفف
في السلوك إلى تلك الغاية القصوى المقرونة باللذة العظمى تكون وظيفة الشجاعة الإقدام على الألم العارض، أو تحمله في السبيل إلى الغاية، ووظيفة التعفف ضد اللذة الصغيرة الحائلة دون الوصول إلى الغاية.
فكلا الشجاعة والتعفف إذن يقضيان بتحايد اللذة وتلقي الألم، في السبيل إلى الغاية الأوفر لذة، فكأنهما فضيلة واحدة هي مقاومة الأهواء والأميال والعواطف والشهوات التي تغر النفس باللذة الوقتية أو القليلة، فتحرمها لذة أعظم وأدوم، ولكنها فضيلة ذات وجهين: الواحد إيجابي أو هجومي، وهو وجه الشجاعة، والآخر سلبي دفاعي، وهو التعفف، وقد مثلها ديوي بقوتين: الواحدة منفذة، وهي الشجاعة، والأخرى منظمة، وهي التعفف. (2-3) هما وجهان لفضيلة واحدة
وأما أنهما وجهان لفضيلة واحدة مختلفا الوظيفة على هذا النحو؛ فلأنهما متصاحبان في كل سلوك إلى غاية معينة. ففي كل فعل تجد داعيا للكثير أو القليل من التعفف؛ أي قمع الشهوة، ومن الشجاعة؛ أي تحمل ألم هذا القمع؛ فالسكير التائب عن الكأس متعفف؛ لأنه قمع شهوته للكأس، وشجاع لأنه تحمل غصص الشوق إلى الكأس، والمحسن الذي جاد بقدر من المال لعمل خيري متعفف؛ لأنه قمع الشهوة للمال، وشجاع لأنه تحمل ألم فراق المال، ومنقذ الغريق متعفف لأنه قمع أنانيته، وشجاع لأنه عرض نفسه للخطر.
وترى من هذين المثالين الأخيرين أن قدر كل من الشجاعة والتعفف فيهما مختلف، فالشجاعة في تخليص الغريق أعظم من الشجاعة في احتمال ألم فراق المال، ولكن التعفف في قمع الأنانية أضعف من التعفف في قمع شهوة المال.
فمن ذلك ترى أن طبيعة الأميال والغرائز والشهوات والعواطف من جهة، والظروف المتضمنة الأفعال من جهة أخرى تعين القدر اللازم من كل من الشجاعة والتعفف، بحيث يتوازنان في الفعل لكي يعتدل في وجهته إلى الغاية الفضلى.
فإذا زاد أحدهما على الآخر انتفى أن يكون فضيلة، كما لو غاص شجاع في الماء وراء قرش رماه آخر فيه، أو كما لو هجم على بيت يحترق لكي يستخلص من متاعه شيئا؛ فشجاعة كهذه إلى حد التهور لا تعد فضيلة، كذلك إذا تعفف الطماع عن ترويح النفس في النزهة والملاهي ضنا بالمال إلى حد أن يعتل جسمه. التعفف كهذا إلى حد البخل لا يعد فضيلة. (2-4) الاعتدال ميزان الفضيلتين
إذن الاعتدال هو ميزان التوازن بين الشجاعة والتعفف، هو الفضيلة المركزية التي يعد الشجاعة والتعفف وجهيها: الواحدة إيجابية منفذة، والآخر سلبي منظم كما سبق القول؛ فهما كالعضلتين إلى جانبي المرفق تحركانه، فترتخي الواحدة بقدر ما تشتد الأخرى لكي تمتد الساعد إلى الجهة المرغوبة.
لذلك يصح القول: إن الاعتدال فضيلة الفضائل، وإنه وسط بين طرفي التفريط والإفراط، وكل منهما رذيلة، فالجسارة فضيلة؛ لأنها وسط بين الجبن والتهور، والكرم فضيلة؛ لأنه وسط بين البخل والإسراف، والشمم فضيلة؛ لأنه وسط بين العفة والكبرياء إلخ. ففي كل هذه الفضائل يشتد التعفف والشجاعة من جانبي الفضيلة بقدرين من القوة متكافئين، بحيث يجعلانها تعتدل في المنهج القويم. (2-5) التعفف اقتصاد بالقوى الأخلاقية
قلنا: إن التعفف باللغة العربية هو الكف عن كل ما لا يحل ولا يجمل لا قولا ولا فعلا، أو الامتناع عنه، وقد أطلقناه هنا على قمع الشهوة والامتناع عن الرغبة وصد الغرائز، وبالإجمال هو مقاومة الميل النفساني ورده إلى نقطة الاعتدال، فهو بهذا المعنى اقتصاد بالقوى الأخلاقية؛ لأنه يحول دون التفريط بها.
فكل الفضائل السلبية التي تضبط بها شهوات النفس؛ كالصبر والحلم والقناعة والتواضع والدعة إلخ، مشتقة من فضيلة التعفف، وإنما تتفاوت قيمتها ويختلف فضلها باختلاف الأحوال التي تتضمنها.
وفي عهد الرقي الأدبي تعد الطهارة في رأس الفضائل التعففية، والمراد بها طهارة النفس من الأدران الآثام، الطهارة القلبية الخالصة التي لا يطلب إثباتها بشهادة شهود غير شهادة الوجدان والضمير. هذه الفضيلة تضمن حسن السلوك؛ لأن النية الحسنة تضمن الفعل الحسن. (2-6) الشجاعة إسراف في القوى الأخلاقية
كما أن التعفف هو الإعراض عن اللذات الكاذبة المغرية ومقاومة التهيجات الغرارة، كذلك الشجاعة هي مقاومة عوامل الألم والخوف، والشجاعة نقيض التعفف من حيث الاقتصاد في القوة؛ فالتعفف يضن بالقوى الأخلاقية فلا يفرط بها. وأما الشجاعة فتبذلها وتسرف فيها.
والشجاعة تظهر في أشكال مختلفة، أهمها التجلد والاحتمال لدى الألم، والمواظبة والمثابرة لدى المصاعب ، والجسارة والإقدام لدى المخاطر والمخاوف، والصراحة بالحق لدى مقيدات الحرية الخارجية، وبالإجمال تعد الشجاعة ولاء للمثل الأعلى رغما من حيلولة الألم أو الخطر دونه. (3) المحبة (3-1) العدل والحكمة في جانبي المحبة
إن التعفف والشجاعة، اللتين ألممنا بهما فيما تقدم، هما فضيلتان مختصتان بالداخلية الشخصية، وقلما يكون لهما تدخل في نظم المجتمع؛ فهما تعنيان الفرد أكثر مما تعنيان الجماعة، إلا متى سلكت الجماعة مسلك الفرد كأمة أو دولة أو جمعية فتنسبان لها.
أما الفضيلتان الأخيرتان اللتان نحن بصددهما فتختصان بعلاقة الفرد مع الجماعة، فالعدل يمنح كل ذي حق حقه، ويمنع التحيز والتغرض والتشيع، وأما الحكمة فترشد إلى الحق، وكلتاهما تجتمعان في المحبة كوجهين لها على نحو اجتماع التعفف والشجاعة كوجهين للاعتدال.
وقد حسب بعض الأدبيين المصلحين المحبة أساس جميع الفضائل، فالمحب لا يكذب على محبوبه ولا يسرقه ولا يخونه ولا يؤذيه إلخ، ولكن لا تعد المحبة فضيلة إلا إن كانت موجهة من الفرد إلى المجتمع. وأما الحب الموجه من فرد إلى فرد آخر معين فلا يعد فضيلة؛ لأنه إذا عصم المحب عن أذية محبوبه فقد لا يعصمه عن أذية غير محبوبه أو أذية المجتمع. فالمحبة - كفضيلة - هي سجية اعتبار الإنسانية حبيبا للمحب كيفما تمثلت له وتجلت؛ ولذلك المحبة تشمل الصدق والأمانة، وهما ركنا العدل.
فإذا كانت محبة الإنسانية سجية للمرء، كانت من الجهة الواحدة حكمة ترشد الضمير إلى الحق، ومن الجهة الأخرى عدلا يوجه الحق إلى صاحبه، فالعدل والحكمة متلازمان في توجيه السلوك إلى خير المجتمع. (3-2) روح المحبة الحكيمة العادلة
فروح هذه الفضيلة المحبة الحكيمة العادلة هي سيطرة فكرة المجتمع أو الرأي العام على فعل الفرد، باعتبار أن طبيعة المجتمع يجب أن تكون الداعي للسلوك وقاعدته الأدبية، لا أن يكون التغرض والتحيز والتشيع ونحو ذلك، مما ينتج عن النوابض النفسية والأهواء الشخصية، محركا للسلوك وقاعدة له.
يكون العدل فضيلة الفرد حيث لا محاكم توجبه، وتكون الحكمة فضيلة حيث لا نظام ولا شريعة تحدد الحق وتعينه، وإنما يعد القضاء العادل والقانون المحق الحق والمزهق الباطل فضيلتي الجماعة أو الأمة، ولا سيما إذا كانت الجماعة تخضع للقضاء والقانون الدوليين. (3-3) تميز العدل الأدبي على العدل القضائي
العدل كفضيلة فردية إنما هو قضاء وتنفيذ معا، خلافا للعدل القضائي، فهو حكم فقط، والتنفيذ منوط بقوة أخرى قد تحسن التنفيذ أو تسيئه، كما أن القضاء نفسه قد يكون حسنا أو سيئا بالرغم من عدالة القانون، كما كان لعهد تركيا العثمانية؛ حيث كان القانون عادلا، ولكن لا القضاء ولا القوة التنفيذية كانا عادلين.
العدل الفردي أنقى من العدل المدني القضائي، وأقرب للصواب، وأضمن للحق منه، فهو مستمد من روح الجماعة على الإطلاق، وصادر من محكمة الرأي العام، ولكن العدل المدني قلما يخلو من التشوه بالتغرض والتحيز والتشيع؛ لانحصار القوة الاشتراعية في طبقة أو فئة خاصة من الناس، فلا بد أن تشذ بهم مطامعهم وأغراضهم النفسانية عن جادة الحق؛ لذلك تجد الشرائع الدينية مهما كانت ديموقراطية الروح لا تخلو من التحيز والتغرض، وهي دائما تحت عملية التنقيح والتعديل.
لاحظت مما تقدم أن العدل ميزان الحقوق، كالاعتدال ميزان الشجاعة، فهو بهذا المعنى: الإنصاف بين خصمين أو مختلفين على حق، هو ضد التغرض الذي هو اضطراب ميزان الحق. (3-4) تحول العدل إلى رحمة
وقد علمت آنفا أن اليد التي ترفع هذا الميزان إنما هي يد الرأي الاجتماعي العام، والرأي العام الذي ينظر إلى الفرد كجزء من الكل الاجتماعي يحمل هذا الفرد أن يحرص على العدل ويحبه ويجريه في حياته. على أن هذا الرأي الاجتماعي إذا كان راقيا كان للعدل عنده صورة أخرى أرقى وأجمل، وهي صورة التسامح مع الضعيف، وتتمة ما فيه من نقص؛ بإعطائه مما في القوي من زيادة؛ لكي يصلح أن يكون جزءا عاملا في ذلك الكل الاجتماعي، فالعدل إذا ارتقى صار رأفة فرحمة، والرحمة تمنح للفرد الذي حال عجزه دون القيام بواجبه للمجتمع، ومن الرحمة يشتق الإحسان والإسعاف أيضا، وهو أعلى صور العدل.
ونقول: إن الرأفة والرحمة والإحسان صور من العدل؛ لأنها واجبة من الواجبات الاجتماعية في المجتمع الراقي الصاعد في سلم الرقي إلى الكمال. وقد حسب معظم الناس الرحمة والإحسان ضد العدل، أو هما شيئين آخرين غير العدل؛ لأنهم غفلوا عن أن الرحمة والإحسان هما سجيتان للإنسانية، فحين يطلب المعدم الإحسان يطلبه «باسم الإنسانية»، وحين يقدم المحسن الإحسان يقدمه لأجل الإنسانية، ومثله الرحمة، وعدالة الإحسان - أو الرحمة - أو حقانيته مؤسسة على تمثيله رغبة المجتمع الخفية أو الكمينة ككل في سعادة الفرد كجزء منه؛ ولذلك قبول الشكر والثناء لأجل الإحسان ينقض الوجه الأدبي في الإحسان، ويخرجه من دائرة الاستحقاق الإنساني، فكأنه أصبح خدمة بأجر أو سلعة بثمن.
فلذلك لكي يكون الإحسان مبدأ أدبيا يجب أن يصنع عن يد المجتمع، وأن يناله الفرد المحتاج إليه من المجتمع؛ لأنه حق للفرد الضعيف على المجتمع، كما أنه حق للمجتمع على الفرد القوي؛ لهذا تطور الإحسان في الأمم الراقية، فمن جهة أنشأ الأغنياء الموسرون الجمعيات الخيرية والمعاهد والملاجئ المجانية لكل ضعيف وبائس ومحتاج، كما أن الحكومة من جهة أخرى حظرت الشحاذة والاستعطاء؛ لأن المعاهد والملاجئ تسد حاجة المحتاجين. وبهذا الأسلوب أصبح الإحسان مبدأ أدبيا كواجب على القوي نحو المجتمع، وكواجب على المجتمع نحو الضعيف. فالقوي يحسن على الضعيف عن يد المجتمع. (3-5) الحكمة هي معرفة النسبة الاجتماعية
وجدنا في مباحثنا الآنفة في الفضيلة على العموم، وفي العدالة على الخصوص، أن جذور الفضيلة منغرسة في النسبة التصورية التي بين الكل والجزء؛ أي بين المجتمع والفرد. أما هذه النسبة فقائمة في مطاوعة سنن الحياة الاجتماعية. والعدالة تتوقف على قوة نظرنا للكل في الجزء، أي نظرنا للمجتمع مثلا في الفرد، أو بعبارة أخرى: إدراك ما يحق للفرد من الحصة في حياة الجماعة. هذه هي نواة الحكمة؛ أي إن الحكمة تجعلنا نفهم هذه الحقيقة، وكلما اتسع علم الإنسان أفضى به علمه إلى إدراك كنه هذه الحقيقة، ولكن كيف يعرف أن للفرد حقه في حياة المجتمع، وكيف تعرف قيمتها.
لا بد من حدة النظر لإدراك النسبة بين الكل والجزء؛ ليعرف نصيب الفرد فيها، وكذلك لا بد من إدراك أن هذه النسبة من أجود الغايات الأدبية التي ينبغي أن يتجه إليها سلوك الإنسان الأدبي؛ فالحكمة المكملة للعدل في فضيلة المحبة إنما هي إدراك أن سنة الحياة هي وجود هذه النسبة بين الكل والجزء - الفرد والمجتمع - وأن هذه النسبة هي أجود الغايات الأدبية. ففي كل مسلك من مسالك الإنسان ينبغي تحقيق وجود هذه النسبة بين الفرد والمجتمع، فإن كانت قائمة على قاعدة إرادة الخير للجماعة، والمطابقة لنظم نجاح المجتمع كانت نسبة جيدة، فإدراك الشخص صاحب السلوك جودة هذه النسبة على هذا النحو هو الحكمة عينها، وقول سقراط: إن الفضيلة معرفة؛ أي أن تعرف الحق فتفعله، مقارب لتعريفنا الحكمة كما تقدم. والقول الأصح هو أن فعلك للحق أفضل أساليب معرفتك إياه.
فإذا كان إدراك هذه النسبة وجودتها عادة في الإنسان أو سجية كانت الحكمة فضيلة له، وكانت قوة الحكم في المواقف الأدبية خلقة فيه، فقلما يشذ عن قاعدة العدل حين يحسن النية، وإذا كانت هذه الفضيلة عادة أصلية فيه تسنى له أن يسرب سائر الفضائل وينقحها ويقومها جيدا. (3-6) توسع معنى الحكمة
وقد عني سقراط وغيره من الفلاسفة القدماء ومن جرى مجراهم بالحكمة أكثر مما تحتمله من المعنى؛ فقد عنوا بها عمق النظر، أو عمق التبصرة وإصابة كبد الحقيقة؛ ولذلك حملوها كثيرا من المسئولية إلى أن قربوها إلى الضمير، وكادوا يقربونها إلى البديهة؛ فالحكيم في نظرهم يكاد يكون معصوما من الخطأ.
ربما كانت الحكمة في العصور القديمة تحتمل هذا المعنى؛ إذ كانت مطالب الحياة أبسط وأقل، وخطط السعي أقصر وأقل تلويا، والنسبة بين الفرد والمجتمع أقل متانة. أما الآن وهذه النسبة أشد توثقا، والعلائق بين الأفراد أكثر تعقدا، ومثيرات العواطف والشهوات والانفعالات أكثر تعددا وتواترا، ناهيك عن تعاظم قوى الوجدان لكثرة تروضها بالمعارف بحيث أصبحت تتدفق في منافذها، وتفاقم ضروب التمتع التي لا يتسنى دائما إشباعها، كل ذلك جعل مهمة الحكمة صعبة جدا؛ لأنه مهما كان النظر بعيدا وحادا، والتبصرة عميقة، فلا يسلم العقل من الضلال عن العدل. (4) الإيمان
بقيت فضيلة لم يشر إليها أحد من علماء الآداب، في سياق بحثهم في الفضائل، وهي فضيلة الإيمان؛ إيمان الفرد بقوة هذه النسبة بينه وبين المجتمع قوة تداني الألوهية، القوة الحاضرة في كل مكان، والقادرة على كل شيء، القوة التي يعتصم بها في جهاد الحياة، ويستند إليها في الملمات، ويستعاذ بها من الكوارث والنكبات ويحتمى بها من غارة الأعداء، القوة التي يلتمس منها العدل والرحمة والعون. وبهذا الإيمان ينبري الفرد للتضحية في سبيل سلامة المجتمع.
فإيمان الفرد بهذه القوة في نسبته إلى المجتمع يقرر أدبية شخصيته، ووجود الفضائل الأخرى فيه، فإذا خلا من هذا الإيمان ضعفت فضيلة العدل فيه، وتضعضعت فضيلة الحكمة منه، ولم تعد الشجاعة ولا التعفف فضيلتين، بل تضحيان سجيتين شخصيتين خلوا من الأدبية.
فلذلك يعد الإيمان أساس جميع الفضائل الأربع، كما تعد المحبة أس فضيلتي العدل والحكمة، ومنه تفرعت الثقة المتبادلة بين الأفراد؛ لأنه متى استتب إيمان الأفراد بمجتمعهم كان كل فرد مطمئنا على حقه، ضامنا حمايته، كما أنه يثق بقيام العدل من تلقاء نفسه بينه وبين جاره. (5) تربية الفضائل
تختلف الفضيلة عن الخلق المحرك للفعل بأنها لا تنتمي كثيرا للغريزة كما ينتمي الخلق إليها، بل هي تنمو وتقوى بالرياضة النفسية والتربية والتعليم؛ الفضيلة تتوقف على القلب الطيب الذي جعل في المرء، لا على النبضة الغريزية التي تكيف الخلق.
فالشجاعة تكون فضيلة حين تكون نبضة قلب، فإذا صدرت كحركة لتلبية غريزة الغضب لا تكون فضيلة، بل تكون خلقا، وربما كانت تهورا.
كذلك الإحسان يعد فضيلة متى كان سمحة نفس بغية تلافي سقم في عضو في المجتمع، ولكنه إذا كان شفقة لتلافي ألم في نفس المشفق لا يكون فضيلة، بل يكون خلقا يتحرك مؤقتا لعامل حركه محرك الفعل.
فالفضيلة ترتكز على الرأي السديد والنظر الصائب في الأمور أكثر مما ترتكز على النبضات الغريزية؛ ولهذا تتغذى من التربية والتعليم والرياضة النفسية، ويحتمل أن تنمو وتقوى كثيرا وقليلا، فالتربية تؤثر في تنقيح الفضائل أكثر وأسرع مما تؤثر في الغرائز.
الفصل السادس
الرذائل
(1) ماهية الرذيلة (1-1) ظل البهيمية في ضوء الإنسانية
ولئن كان الإنسان قد خرج من طور الحيوانية البهيمية إلى طور الإنسانية الأدبية، لم يخرج خروجا نهائيا من معركة التنازع، فهو قد جاء إلى درجة الإنسانية وجلب معه غرائز البهيمية ونبضاتها، ولم يرتق بعد في سلم الأدبية إلى درجة أن يتطهر من هذه النبضات البهمية بتاتا بحيث تبرد حدة تنازعه، فهو قد جاء إلى دائرة الإنسانية بإطماعه وأثرته وحبه لنفسه إلخ؛ لذلك كثيرا ما يستصعب الرضوخ للحق، أو قد يشكل عليه الحق والباطل.
ثم إن الحياة الاجتماعية جعلت ظرف حياة الإنسان الأدبية ضيقا جدا بحيث لا يسع جميع رغائبه، حتى إذا تدفقت هذه الرغائب اصطدمت بما في محيط الدائرة من رغائب المجتمع، وحينئذ لا تسلم أدبيته من الانثلام. فلا يندر أن يهتضم حقا ليس له، وأن يستميل ميزان العدل إلى جهته؛ ففي الإنسان إذن ردة إلى الشر كما فيه نزعة إلى الخير، وكلما تطهر من أدران الحيوانية صفت شخصيته الأدبية وشفت، فإذا وقعت عليها أشعة الفضيلة ألقت أدران حيوانيته من الجهة الثانية ظل الرذيلة.
فبقدر طهارة النفس من أدران البهيمية يسطع فيه نور الفضيلة، ويختفي ظل الرذيلة، والعكس بالعكس؛ فالرذيلة إذن ظل الطبيعة الحيوانية القائمة لدى نور الفضيلة. والإنسان وهو متردد بين الفضيلة والرذيلة إنما هو فوق رجاسة الحيوان ودون قداسة الإله، وبقدر ما ينظف نفسه عن أدران البهيمية يدنو إلى نور الألوهية حيث يسطع في وجهه ضياء الفضيلة. (1-2) الرذيلة مموهة بلذة
لا يبتغي الإنسان الشر كغاية شريرة أو رديئة، وإنما يبتغيه كغاية حسنة في ظروف تحسنه له، وإلا فلا يبتغيه بتاتا، فإذا أتى الشر إرضاء لشهواته ونزعاته وعواطفه؛ فلأنه ابتغى اللذة الوقتية في هذا الإرضاء غير مكترث بالعواقب، فهو آثر اللذة القربى على القصوى، واللذة الحادة القصيرة على المعتدلة الطويلة المدة، وفضل قيد الشهوات الخفيف على حرية النفس العنيفة.
وفي كثير من الأحوال يضأل في نظر الإنسان الخير العام إلى حد أن لا يراه مستحقا تضحية شيء من المشتهيات لأجله، بل إلى حد أن تصبح مناقضة هذا الخير العام غاية مرغوبة؛ كأن يماطل المرء الحكومة في دفع الضريبة، أو يلقي قمامات الأقذار في الشارع حين غفلة البوليس، أو أن يخفي عن دائرة الصحة العمومية خبر إصابة وباء في بيته. فكل هذه وأمثالها يرتكبها الإنسان وهو يعتقد أنها ليست جرائم، ما دامت عين الحكومة لا تقع عليها، وقد يخدع الإنسان نفسه إذ يبررها لظنه أنها لا تضر أحدا، ولكن إذا ارتكبها سواه رأى شرها أعظم مما يراه لو هو ارتكبها.
وسبب ذلك أن الواجبات الاجتماعية تبدو دائما مهددة رغائب الإنسان الذي لم يتعلم، ولم يتحقق جيدا، ولم يفهم أن خير المجتمع وخيره الشخصي واحد؛ ولذلك هو يقابل الواجب نحو المجتمع كوقر ثقيل عليه، وينظر إلى القوانين والأنظمة المدنية كخصوم له. يرى أن هذه الأنظمة والقوانين تضيق دائرة حريته، وأن الواجبات المفروضة عليه نحو المجتمع تضغط على رغائبه.
ولذلك هو يقاوم القوانين ويحاول نفض الواجبات عن عاتقه، ولكنه إذا كان يفهم أن خيره متوقف على خير المجتمع جعل نظام المجتمع نظام نفسه، ووفق سلوكه عليه باختياره. فبقدر ما يفهم المرء هذه الحقيقة ويتشربها ويسلك بموجبها مختارا يكون فاضلا، وبقدر ما يجهلها أو يتجاهلها أو يأباها ويخالفها في سلوكه يكون رذيلا. (1-3) الرذيلة سقم سجية الفضيلة
الرذيلة كالفضيلة سجية، أو هي سقم سجية الفضيلة وضعفها؛ فكلما قويت هذه السجية تمكنت الفضيلة، وكلما ضعفت ظهرت الرذيلة، وبتلاشيها تتلاشى الفضيلة وتقوم الرذيلة مقامها. هي النزعة إلى أحد جانبي الخير والشر؛ فكلما مالت بالإنسان إلى الخير تعدلت الفضيلة، أو إلى الشر تعدلت الرذيلة. واتجاه هذه النزعة إلى الخير أو إلى الشر يتوقف على قوة الشخصية وضعفها، من حيث مقاومة الغرائز والنبضات والعواطف والشهوات البهيمية.
وقوة الشخصية تتفاوت بحسب اختلاف الظروف والأحوال التي تستدعي أقدارا معينة من القوة للمقاومة؛ ولذلك تتلون أعمال الإنسان وتصرفاته بألوان الفضيلة والرذيلة حسب الظروف والأحوال من جهة، وحسب متانة الشخصية الأدبية من جهة أخرى؛ فالشخصية الأمتن أكثر اتجاها إلى الخير، وتطبعا بالفضيلة، والعكس بالعكس.
وقد تقدم القول: إن الرذيلة كظل لما تحجبه الطبيعة الحيوانية من نور الفضيلة؛ فبقدر ما يكون نور الفضيلة ساطعا يكون ظل الرذيلة حالكا، وحيث لا نور فلا يظهر ظل. بهذا المعنى لا يختلف مظهر الرذيلة باختلاف الأشخاص من حيث تطبعهم بسجايا الفضائل، فإثم العاقل أوضح من إثم الجاهل، وخطأ العالم أفظع من خطأ الساذج.
تختلف مظاهر الرذيلة بحسب اختلاف الأحوال المقترنة بها؛ فهي شر أو معصية أو جريمة أو زلة كما ترى فيما يلي: (2) طائفة الرذائل (2-1) الشر
الشر سجية في النفس تلوثها بأدران الشهوات البهيمية، والشرير من كانت له هذه السجية من غير نظر إلى سلوكه؛ فقد لا تؤذن له الظروف بأن يأتي شرا، ولكن متى أذنت له أتى الشر. وقد يأتي من المحامد ما يوهم أنه فاضل، ولكن شرا واحدا خطيرا يأتيه في ظروف حرة لا يدع عندك شكا بأنه شرير؛ ففعل الشر هو أعم مظهر للرذيلة.
إن السجية صفة داخلية للنفس، وهي واسعة المجال في العالم النفساني الخفي؛ ولذلك قلما تظهر للعالم المحسوس، ولا تتمثل دائما كما هي في الأعمال الخارجية الظاهرة، كما أنها لا تختفي كل الاختفاء، بل لا بد أن يظهر ظلها ولو بعض الظهور في الأفعال الخارجية المحسوسة.
ولذلك لا يقف الحكم الأدبي عند الظواهر، بل يتغلغل إلى البواطن حيث تنبض محركات الأفعال، وتسيطر مدرباتها، فلا يحكم على هذا الفعل إن كان حقا وعدلا وصوابا لمجرد ظاهره فقط، بل يحسب محركاته ومدرباته؛ فإذا شبت النار في هشيم من سيكارة رماها شخص في مكان قريب، فقذفتها الريح إلى الهشيم، فلا بد من التحقيق إن كان الشخص قد قصد برميها إلى هذه الغاية أو لم يقصد. قد يفشل المحقق فلا يستطيع إثبات القصد، ولكن رامي السيكارة نفسه يعرف نفسه إن كان قد تعمد إحراق الهشيم أو لم يتعمده.
فثبوت الشر لا يتوقف على التحقيق الخارجي، بل على حكم الفرد الداخلي؛ ولذلك يشترط الناموس الأدبي أن يكون القلب أولا صالحا لكي يكون الفعل صالحا، فإذا كان القلب شريرا فلا عبرة في نجاح التحقيق أو فشله فيما إذا كان الفعل الحاصل متعمدا أو غير متعمد.
فإذا كان حامي القانون ومنفذه لم يجد إثباتا لجريمة ليأمر بالعقاب؛ فالضمير المنفذ للشريعة الأدبية هو الشاهد والقاضي والمعاقب. (2-2) الخطيئة
ظهر لك فيما تقدم أن الشر المضمر خطير الشأن كالشر الظاهر في الأفعال؛ لأن هذا صادر عن ذاك، أو أن ذاك إذا فاض تدفق في الأفعال الظاهرة، فالشر من الوجهة الأدبية، ظهر أو أخفي أو بقي في النية، إنما هو شر على كل حال. ومن قبل عهد موسى كان من يشتهي امرأة غيره أو متاعه يعد أثيما، كان كأنه زنى أو اغتصب.
مع ذلك بين الشر الذي يبقى مضمرا في النفس والشر الذي يظهر في الفعل والسلوك فرق واضح من حيث القيمة، كالفرق بين الفضيلة الكامنة في القصد الصالح والنية الحسنة، والفضيلة التي تبدو في الأفعال الصالحة. قد يتفق اثنان على سرقة منزل ويشرعان في العمل، ولكن أحدهما يتردد خوفا من الوقوع في يد القضاء ثم يعدل، والآخر يستمر في العمل إلى أن يتمكن من السرقة، فالاثنان شريران، ولكن الثاني وحده مجرم؛ لأنه نوى السرقة وارتكبها، وأما الأول فنوى ولم ينفذ.
كذلك الأمر في الفضيلة ظاهرة أو مضمرة، فقد ينوي شخصان في ظروف متماثلة أن يعملا عملين خيريين متماثلين، فأحدهما ينفذ نيته بلا تردد، والآخر يتردد ويسوف تحينا لظرف آخر أفضل. وقد يأتي الظرف الآخر أردأ، فيتعذر عليه التنفيذ. فكلاهما فاضلان؛ لأن كلا منهما نوى عملا صالحا، ولكن الأول عمل والآخر لم يعمل. (2-3) تفاوت القيمات الأدبية
فترى مما تقدم أنه لدينا أربع حالات أدبية مختلفة القيمة: (1)
شخص نوى نية صالحة ولم ينفذها. (2)
شخص نوى نية صالحة ونفذها. (3)
شخص نوى شرا ولم ينفذه. (4)
شخص نوى شرا ونفذه.
فأي هؤلاء الأربعة أفضل وأيهم أشر؟ وكيف يترتبون من حيث القيمة الأدبية؟ لأول نظرة عامة يتبادر إلى الذهن أن القصد الصالح «الحالة الأولى» الذي يظهر في الفعل أفضل من الذي يبقى مضمرا؛ لأن الفعل الصالح يشمل الأمرين معا، أو هو نتيجة النية الصالحة . وبعبارة أخرى: إن النية الصالحة أقل قيمة من العمل الصالح، وكذلك العمل الرديء «الحالة الرابعة» شر من النية الرديئة؛ لأنه يشتمل على النية والفعل معا، ولأنه أعظم ضررا من النية.
ولكن هذه القاعدة لا تطرد لعدم اطراد الظروف، بل كثيرا ما تنعكس في ظروف مختلفة، والأفضل أن لا تحسب قاعدة؛ لأن النية والفعل غير مستقلين، بل هما مقيدان بالظروف والأحوال؛ فإذن الظروف تعين قيمة الشر والصلاح في كل من النية والفعل.
فأولا يمكن أن تكون النية الصالحة التي لم تنفذ أعظم قيمة من الفعل الصالح إذا كان المانع من تنفيذها قوة قاهرة، كأن يموت صاحب النية الصالحة، أو يفقد قوة التنفيذ قبل أن يتمكن من التنفيذ. وتكون قيمة الفعل الصالح أقل من قيمة هذه النية الصالحة إذا كان صاحب الفعل الصالح يتذرع به إلى نفع شخصي، فلم يجعل الفعل غايته القصوى، بل واسطة لغاية أخرى.
هكذا كان فلس الأرملة عند المسيح أعظم قيمة من إحسان الغني، فمرجع قيمة الصلاح سواء في النية أو في الفعل يعود إلى مقدار تطبع النفس فيه كسجية، فالشخص المطبوع على الفضيلة يفعل الصلاح كلما سنحت له الفرصة، والمرء المتكلف الفضيلة يأتي الأفعال الصالحة أقل مما يأتيها ذاك.
كذلك الأمر في الرذيلة؛ فقد يمكن أن يكون الفعل الشرير أقل رداءة من النية الشريرة إذا كان قد أتاه شخص ليس الشر من طبعه، بل أتاه عن طيش أو تهور. فهذا الفعل الشرير قلما يتكرر من قبل الشخص نفسه، أو لا يخشى أن يتكرر. والنية الشريرة تكون أردأ من هذا الفعل الشرير إذا كانت صادرة من شخص مطبوع على الرذيلة؛ فهو يتحين الفرص الملائمة لإتيان الشر، ولا يمنعه عنه تردد أدبي أو زجر الضمير، بل يمنعه خوف العقاب الزمني. مثل هذه النية الشريرة أخطر وأضر؛ لأنها عرضة للبروز إلى حيز الفعل كلما سنحت الفرصة.
وهناك اعتبار آخر يجعلها أشر من الفعل الشرير، وهو أنها خفيفة لا تبلغ إليها يد العقاب، ولا تتقي أذاها عين الحذر. وأما الفعل الشرير فيتلقى عقابه على الأثر، ولأنه ظاهر ينبه عين الحذر من تكرره.
والغالب أن العقاب يقمع الفعل الشرير، ولكنه لا يقمع النية الشريرة للأسباب المتقدمة، كذلك الثواب يشجع الأفعال الصالحة. ولأن النية الصالحة غير ظاهرة فلا يبلغ إليها ثواب. فهذا اعتبار آخر لنظرية أن العمل الصالح الظاهر أفضل من النية الصالحة المضمرة.
بعد هذا البيان يتضح لك أن الشر أعم من الخطيئة أو المعصية؛ لأن هذه تقتصر على العمل الشرير الظاهر، ولا تتناول النية الشريرة المضمرة، فلا نقول: إن زيدا كذب لمجرد أنه نوى الكذب؛ إذ لا حكم لنا على نيته، وإنما نحكم على فعله؛ أي إذا كذب بالفعل.
فالشر يحكم به الضمير، وأما الخطيئة أو المعصية فيحكم بها الرأي العام، فالخطيئة أضيق دائرة عن دائرة الشر، وهي ضمنه، ثم تأتي الجريمة، وهي أضيق دائرة من الخطيئة كما ترى فيما يلي: (2-4) الجريمة
الجريمة هي الشر أو الخطيئة التي يفرض لها قانون الحكومة عقوبة تنفذها السلطة المنفذة، ويستطيع القضاء التثبت منها. إذن يخرج من دائرة الجرائم:
أولا:
الآثام التي يتعذر سن قوانين لها لتعذر تحديد أذى ظاهر منها يقع على آخرين، كالسب والشتم غير العلني، وكالتقصير في النظافة الشخصية، وكمساكنة رجل وامرأة ليسا بزوجين شرعيين - في بعض بلاد دون أخرى - إلى غير ذلك، فيوكل الحكم فيها إلى الرأي العام، وعقوبتها احتقاره لها.
ثانيا:
الآثام التي يكفي تشويه السمعة ومقت الرأي العام عقوبة لها؛ كالبخل إلى حد النكوص عن إسعاف المنكوب، أو الطمع إلى حد انتهاز الفرص لاقتناص المنفعة من تعب الضعيف، عند إمكان تحايد المأخذ القانوني، وكالإخلاف بالوعد وعدم المحافظة على الميعاد، وكإنكار الجميل إلخ مما لا يعاقب القانون عليه، ولكن الرأي العام يستنكره ويزدري مرتكبه.
ثالثا:
الجرائم التي لها قوانين ولكن القضاء لا يستطيع التثبت منها؛ كأن يقرض المرابي مالا بربا فوق الربا القانوني، ويتحاشى ظهوره في العقد بطرحه من القيمة المعينة في العقد حين يدفعها للمقترض؛ وبذلك يفلت من يد القضاء، وكذلك أن يغنم الطماع فرص أزمات بعض الناس المالية لكي يشتري أملاكهم بالبخس بواسطة الاسترهان ونحو ذلك.
رابعا:
الآثام التي كان يجب أن تدخل في عداد الجرائم التي يعاقب عليها القانون، ولكن التغرض في الاشتراع أخرجها من دائرة القانون؛ كمضاعفة الأسعار حين يقل العرض عن الطلب بحجة أن التجارة حرة، وكإنقاص أجرة العامل حين يقل طلب العمال وهم كثيرون، بحجة أنه ما دام يوجد من يقبل أجرا أقل تنقص الأجرة حسب القبول، ولا عبرة بقيمة العمل. ولأقل تبصرة في النظام الاجتماعي التنازعي، نجد كثيرا من أمثال هذه الأحوال قد قصرت عنها يد القانون، بزعم أن الاسترزاق تنازع حر.
فترى مما تقدم أنه ليس كل شر خطيئة أو معصية؛ فالشر يشمل النية والفعل معا، والمعصية مقصورة على الفعل فقط.
وليست كل معصية جريمة؛ فالمعصية تشمل ما يستحق عقوبة قانونية وما لا يستحقها، والجريمة مقصورة على ما يستوجب عقوبة.
وهذا البحث يسوقنا إلى كلمات جوهرية عن العقاب والثواب، وطبيعتهما، وحدودهما، والغرض منهما، وتأثيرهما. (3) العقاب (3-1) الصلاح والشر مصحوبان بثوابهما وعقابهما
الإثم زيغان عن جادة الصواب إلى ناحية الخطأ، ونتائج الخطأ دائما سيئة مؤلمة مؤذية؛ فلذلك يمكن القول كقاعدة مطردة: إن الإثم يصطحب معه شرا؛ أي أذى، كما أن العمل الصالح يصطحب معه خيرا. ولا بد أن يرتد مدى شر الإثم على الآثم بأية طريقة، فيكون الأذى الذي يصيبه منه كعقاب له، كما أن صدى الخير الناجم عن العمل الصالح يرتد إلى عامله كثواب له، فإذا صح هذا القياس كان الآثم يجلب عقابه معه، والصالح يجلب ثوابه معه.
أما أن القياس صحيح فلأن العمل الصالح إنما هو العمل الموافق لرقي المجتمع ونجاح جميع أعضائه، والمرء الفاضل الذي يجاهد في الأعمال الصالحة إنما هو مجاهد إلى جانب المجتمع ومعه وبموافقته، ومتعاون مع سائر أفراده؛ ولذلك ينتظر أن ينجح عمله كنتيجة لنجاح المجتمع العام، ولما يناله من معاونة المجتمع له وموافقته.
وكذلك العمل الطالح «أو الآثم» إنما هو العمل المخالف لرقي المجتمع ونجاح أعضائه. والمرء الشرير الذي يعمل طالحا إنما هو مجاهد ضد المجتمع، ومحارب لرقيه، ومقاوم لنجاحه؛ لذلك لا ينتظر أن ينجح في مساعيه لمقاومة روح المجتمع له، ومناهضة أعضائه إياه، ولأن له نصيبا من الأذى يورثه صلاحه للمجتمع.
إذا تأملت جميع أحوال من تعرفهم جيدا من الناس الصالحين والطالحين، وما تقلبوا عليه من خير وشر، وجدت أن الشواهد على هذه النظرية الآنفة صادقة كثيرا؛ فما من بار إلا تمتع بقدر وافر من الهناء في حياته الزمنية، وكذلك ما من شرير إلا قاسى في حياته كثيرا من رزايا شروره. (3-2) عكس النظرية الآنفة
وهنا لا بد أن يتمثل في ذهن القارئ ما يناقض هذا القول؛ لأنه يرى كثيرين من الأشرار ناجحين يتمتعون، كما أنه يرى كثيرين من الأبرار فاشلين يقاسون، وربما كان الأشرار المتمتعون أكثر من الأبرار المتمتعين، والأبرار المقاسون أكثر من الأشرار المقاسين.
أجل إن الأمر لكذلك، وببالرغم من وجاهة هذا الاعتراض تبقى النظرية التي نحن بصددها صحيحة، أي أن الآثام لا بد أن تنتج شرورا ومصائب، فإن لم يرتد صداها إلى فاعلها في الحال أو في الغد القريب، فلا بد أن يرتد في الغد البعيد، فإن لم تدركه في إبان عجزه أدركته في أواخر أيامه، وإن لم تدركه في شيخوخته أدركت ذريته من بعده.
وإذا اعتبرنا الحياة الإنسانية حياة السلالة لا حياة الفرد، كان عقاب الإثم واقعا على فاعله معجلا. وبهذا الاعتبار يصح القول: «إن الآباء يأكلون الحصرم والبنين يضرسون.» وبهذا الاعتبار ينتفي الحيف الذي يتراءى لنا في الوصية الثانية من وصايا الله العشر عن يد موسى: «افتقد ذنوب الآباء في الأبناء.»
1
كذلك الأمر في الصلاح؛ فإن ثواب المرء البار يدركه معجلا أو مؤجلا، أو يدرك ذريته من بعده، وإذا لم يتمتع في حياته بثمرة نجاح عمله، فلا بد أن يتمتع بلذة نجاح مبدئه الذي يجاهد لأجله. إن غاليلو الذي كان يضطهد لأجل دعايته بنظرية دوران الأرض كان مسرورا عظيم السرور؛ إذ كان يرى أن دعايته ناجحة، وأن أتباعه يزدادون. (3-3) منشأ العقاب
وليس القصد من التعليل السابق أن شر كل شرير يقع على رأسه وحده، ولا أن صلاح كل صالح يعود عليه بالخير وحده، ولا يمكن أن يكون الأمر كذلك ما دامت الهيئة الاجتماعية جسما حيويا مترابط الأعضاء كما علمت؛ فلا بد أن يصيب أذى الشرير كثيرا من أعضاء المجتمع المتصلين به، كما أن اضطراب المعدة يحدث صداعا، وكذلك خير الصالح يشمل كثيرين أيضا؛ ولذلك يتوقف نجاح المجتمع على تغلب أبراره على أشراره، والعكس بالعكس.
وإذا كان ثواب البار غير مضمون له جزاء في حياته القصيرة، وكان الشرير يسلم في الأحوال الكثيرة من شر عمله، وإذا كان شر الشرير يلحق بسائر المجتمع، ويمكن جدا أن يصيب البار؛ فلا بد أن يتمثل لذهن القارئ هذا القول: إذن هذا الارتباط الاجتماعي غير حسن أو غير صالح؛ إذ لا يكفل العدل وإعطاء كل ذي حق حقه، أو هو ذو عيوب، فينبغي البحث في عيوبه، ومعرفة ما إذا كان ممكنا إصلاحها، وإذا كان جزاء الإثم أو الصلاح يحتمل أن يكون مؤجلا، فذيوع هذه الفكرة كاف لأن يقتل روح الصلاح في البشر؛ لأن السواد الأعظم من الناس «سروريون»؛ أي إنهم لا يعملون بحسب الفضيلة حبا بالفضيلة نفسها، بل حبا في اللذة التي يتوقعونها من ورائها.
وهذا قول وجيه أيضا، وما غفل عنه العقل الاجتماعي؛ فقد جعل للآثام عقوبات أخرى - غير صدى شر الإثم الآنف ذكره - لا يستطيع الأثمة أن يتملصوا منها، أولاها: عقوبة تأنيب الضمير، فإن لم يخافوا الضمير فهناك: ثانيا؛ العقوبة الدينية، أي الوعيد بنار جهنم، فإن لم يحسبوا حسابا لهذه ولا لتلك فهناك: ثالثا؛ العقاب الحكومي الذي تفرضه القوانين. وإذا استطاع الآثم أن يتخلص من نوع العقوبة الأخير؛ فلأن في أنظمة المجتمع - لا في جسمانية المجتمع نفسها - عيوبا لا بد أن تنصلح في المستقبل أو تقل على تمادي الزمان، كما أنها كانت في القديم أفظع منها الآن، وقد تصلحت. (3-4) الغرض من العقاب
رأيت فيما تقدم أن شر الآثم أو المجرم وإن كان في بعض الأحوال أو في أكثرها يعود إليه، فلا بد أن يقع أولا على المجتمع، أو على جانب من المجتمع، أو على فرد واحد منه على الأقل؛ ولذلك يعد الإثم أو الجريمة ضد المجتمع في الدرجة الأولى.
وبهذا الاعتبار يبرر للنظام الاجتماعي فرض العقوبات على قدر الجرائم، وإنزالها بالمجرمين عاجلا، فمن ثمة سنت قوانين العقوبات. ولكن لماذا العقاب؟! وما غرض المجتمع منه؟
للمشترعين ثلاث نظريات بهذا الموضوع: (1)
أن يكون العقاب عبرة لغير المجرمين لكيلا يرتكبوا نفس الإثم، ولسان حال القضاء حينئذ: «لم يعاقب فلان لأنه سرق سلعة غيره، بل لكيلا تسرق السلع كلها.» ولكن ليست «العبرة» وحدها مقصودة من العقاب، وإلا لكان العقاب ظلما للمعاقب؛ لأن المراد به نفع الآخرين، أي تحسين أدبيتهم، على حساب غيرهم، أي بإيقاع العقاب على المعاقب. إذن لا بد من غرض آخر من العقوبات. (2)
تأديب المجرم نفسه حتى لا يعود إلى الإجرام. وهو غرض أصح من الغرض السابق، وإنما يعيبه عدم اتفاقه مع قانون الحكم بالموت على القاتل؛ لأن قتل القاتل ليس تأديبا له، بل هو حسم لشره، هو بتر عضو في جسم المجتمع لأنه لم يعد صالحا.
ناهيك عن أن بعض العقوبات لا تؤثر هذا التأثير في بعض المجرمين، كما أن بعض المجرمين يكفي التأنيب اللطيف لكي يتيبهم؛ ولهذا ذاع قانون «برانجه»، أي إيقاف تنفيذ العقوبة فيمن أخلاقه حسنة وليست له سابقة. (3)
جزاء المثل بالمثل؛ أي إيقاع أذى على المجرم يساوي الشر الذي أحدثه جرمه؛ لكي يفهم أن شر إثمه واقع على رأسه معجلا لا مؤجلا.
بهذا المعنى كانت شريعة موسى عين بعين، وسن بسن، وشريعة العرب الجزاء الحق من نفس العمل، والسارق تقطع يده. ولا يخفى ما في هذه الشريعة من القساوة، وما في معناها من روح الانتقام، فهل حقيقي أن المجتمع يبتغي من العقاب الانتقام، وإلا فما هو غرضه منه؟ (3-5) جزاء المثل
كيان المجتمع قائم بنظامه الحسن، ونظامه مؤيد بشريعته الصالحة له التي تنفذها سلطته. والسلطة تحمي النظام من الخلل بمنع التعدي على الشريعة، وإن حدث هذا التعدي تثبت السلطة وجودها، وحسن نظامها، وصلاحية شريعتها، برد ضرر هذا التعدي على من فعله، أو بإيقاع مثله عليه. وتوبة المتعدي بعد ذلك وعدم تكرر الاعتداء - منه أو من غيره - إنما هما برهان على وجود السلطة في المجتمع، وعلى حسن نظام المجتمع وصلاحية شريعته لحفظ كيانه.
فالغرض الرئيسي من العقاب إذن إشعار المعاقب بأن النظام الحسن والشريعة الصالحة هما ركنا حياة المجتمع، وأن الإخلال بالنظام والاعتداء على الشريعة يعرضان المجتمع للخطر، وقلما يرجى أن تقل الجرائم وتصلح أخلاق المجرمين إلا إذا كان سواد الناس يدركون هذا الغرض من العقاب، ويمتنعون عن الإجرام، لا خوفا من العقوبة، بل كرها للجريمة لأنها عدوة المجتمع.
فجزاء المثل بالمثل من قبل سلطة المجتمع ليس انتقاما، بل المقصود منه تأييد وجود السلطة والنظام والشريعة أركانا لحياة المجتمع. بهذا الاعتبار جعل جزاء المثل في قوانين الأمم المتمدنة أقل قساوة وعنفا مما كان في شريعة موسى ومثيلاتها؛ فبدل أن تقلع عين من يقلع عين امرئ آخر تفرض عليه غرامة للمعتدى عليه لإيفاء العدالة حقها، وبدل أن تقطع يد السارق يحبس ويؤخذ منه ما سرقه، وإن كان قد بدده فيحبس أياما تساويه قيمة. وهكذا نرى أن شريعة جزاء المثل بالمثل على هذا النمط لا تعني الانتقام، بل منع التعدي على الشريعة، ومنع الإخلال بالنظام، أو إثبات وجود السلطة والحرص على سلامة المجتمع. (3-6) المعاقبة حق للحكومة وحدها
وكما أنه ليس لسلطة المجتمع في العقاب غرض الانتقام، كذلك ليس لها أن تسامح وأن تتسامح، أو أن تبالغ في الرحمة؛ لئلا ينسى وجودها، وتضعف قوة الشريعة، ويتعرض النظام للخلل، والمجتمع للخطر.
فلو فرضنا أن الشريعة أو السلطة تسامحت واقتصرت في عقوبة السرقة على وجوب رد السرقة للسارق، فإذا استطاع السارق أن يستهلك المسروق وينتفع به قبل أن يسترد منه؛ فليس ما يمنعه عن إعادة الكرة وتكرار السرقة، وحينئذ يتعرض المجتمع ونظامه وشريعته للخطر.
ولأن سلطة المجتمع لا تنتقم لكيلا يقع حيف على المجرم، ولا تتسامح لكيلا يقع خطر على المجتمع نفسه؛ حصر حق المعاقبة فيها، وإن كان أذى المعتدي يقع على المعتدى عليه شخصيا، وعلى المجتمع برمته معنويا.
ولأن الفرد عرضة للانفعال النفساني ولتأثير العواطف في تصرفه، فيحتمل أن يرد للمعتدى عليه مضاعف الأذى الذي أصابه من اعتدائه، أو أن يتسامح معه أو يسامحه؛ فليس من مصلحة المجتمع ولا من الحرص على سلامته أن يسوغ للفرد أن يتولى عقاب من يسيء إليه، فإذا تولى المعتدى عليه معاقبة غريمه عد مجرما وعوقب، وإذا سامح غريمة فالشريعة تصر على عقاب الغريم، فهناك حق المجتمع قبل حق الفرد، وواجب المجتمع قبل واجب الفرد. (3-7) الانتقام
ولكن إذا كان العقاب كما نفهمه الآن يعلل بإشعار المجرم بوجود السلطة وقوة النظام والشريعة، فلا ينتفي أنه كان في الأصل انتقاما، فهو معلوم أن الاعتداء يثير غضب المعتدى عليه وحنقه وحقده، ولا يسكن غضبه حتى يروي غليله بالثأر من غريمه. ولما كان محتملا أن يتجاوز الآخذ بالثأر حقه، ويصبح معتديا بعد أن كان معتدى عليه، وكان إطلاق الآخذ بالثأر بلا حد ولا قيد يعرض الجماعة لخطر الفوضى الهادمة لكيانها، اهتدت سلطة الجماعة بالاختبار إلى صلاحية تقييد الأخذ بالثأر بشريعة تضمن التوازن بين الجريمة والثأر.
وما زالت شريعة الثأر محترمة عند القبائل الهمجية إلى اليوم. ولما شرعت الجماعات تفهم أن تدخل سلطاتها في مسائل الجرائم والثارات حسنة النتائج لها، جعلت تسلم حق الاشتراع هذا للهيئة الممثلة السلطة من شيخ قبيلة أو زعيم أو مجلس شيوخ. ومن ثمة، جعلت السلطة المسيطرة تتولى نفسها الأخذ بثأر المعتدى عليه من غريمه؛ لكيلا يتجاوز المعتدى عليه حقه في الثأر. ومنذ ذلك الحين صار يتلاشى معنى الثأر ويتحول إلى معنى العقاب إلى أن أصبح كما نفهمه اليوم. (3-8) التسامح
والعوامل الارتقائية التي لاشت روح الانتقام أو الأخذ بالثأر من معنى العقاب ومن العقل الاجتماعي، هي نفسها خففت كثيرا من غلواء روح الانتقام من نفسية الفرد، فكان أنه كلما صار الفرد يعتقد أن العقاب من حق سلطة المجتمع، وما هو انتقام، بل هو إشعار بقوة الشريعة وحسن النظام، كان يتسامح مع غريمه إذا كان ذنبه زهيدا ؛ لأنه يفهم أو يعتقد أن الذنب البسيط لا يعد جريمة ضد المجتمع، وليس كل مذنب يعد عدوا للمجتمع.
أضف إلى ذلك أن توثق الرابطة الاجتماعية، الذي هو من نتائج تفاعل العوامل الأدبية والاجتماعية جميعا في عملية التطور، يوطد في ذهنية الفرد أن من أركان نجاحه في مناهج الحياة مسالمته لأخيه الإنسان، وكسب وده وصداقته؛ ولذلك يتذرع إلى هذه الغاية بالتسامح معه، فإذا أذنب ذنبا بسيطا سامحه. (3-9) المسامحة
فمن ذلك ترى أن ارتقاء الأدبية وتدمث الأخلاق الإنسانية أفضيا إلى إضعاف روح الانتقام في الأفراد، واستقواء روح المسامحة، وإذا شاعت هذه الروح وعمت السواد الأعظم من الناس ظهرت في سلطة المجتمع نفسه، وفي الشريعة أيضا. فمع أن النظام الاجتماعي متصلب، قليل الانفعال والعاطفة، بحيث لا تصح نسبة الانتقام والمسامحة له، فلا بد أن يتأثر من الروح التي تعم الأفراد، ويتخلق بأخلاقهم على قدر ما تلين صلابة طبعه.
ولذلك لما كانت روح الانتقام في عهد الهمجية شديدة، كانت شريعة العقاب عنيفة، ولما ضعفت هذه الروح وجعلت روح المسامحة تحل محلها، صارت الشريعة أقل صلابة وعنفا من قبل. فالشريعة الآن تجيز الصلح بين المتخاصمين في الأحوال التي لا يعد ذنب المذنب فيها تجاه المجتمع كبيرا.
وكذلك فسحت الشريعة المجال بين حدود العقوبات، وخولت للقاضي أن يعتمد على وجدانه وضميره في تعيين قدر العقوبة، وأن يميل للرأفة أكثر منه إلى العدل، ثم سوغت الشريعة للقضاء أن يساعد المجرم في إثبات براءته. فكل هذه من مظاهر تسامح سلطة المجتمع وانبثاث روح المسامحة في الشريعة نفسها، تأثرا من روح المسامحة التي نشطها ارتقاء الأدبية الاجتماعية كما تقدم التنويه. (3-10) التوبة
إذا كان الخوف من ألم العقاب رادعا عن الإجرام، فازدراء الجريمة واحترام الشريعة أردع عنه؛ لأن الخوف من العقاب لا يصاحب كل جريمة، فقد يؤمل المجرم أن يرتكب جريمته سرا، أو أن يفلت بأي وسيلة من يد القضاء؛ ولذلك قد لا يقوم الرادع في وجهه، ولكن الاعتقاد بأن الجريمة أمر خسيس مكروه، وأن الشريعة قوة مقدسة، حاضر في الذهن دائما؛ فهو رادع دائم، والضمير حارس له.
وإذا كانت الجماعة قد بلغت هذه الدرجة من النظر إلى الجريمة كشيء خسيس دنيء، وإلى الشريعة كشيء مقدس يجب أن يحترم، وإذا كانت ضمائر أفرادها قد بلغت إلى هذا الحد من الحرص على احتقار الجرائم وتقديس الشرائع، إذا بلغت الجماعة إلى هذه الدرجة من الرقي الأدبي تقل الحاجة إلى العقاب؛ لأن المسامحة تصبح أفعل منه في الردع، أولا: لأن عنف العقاب في النفوس الراقية الأدبية يتمثل كانتقام فيثير الحقد والحنق من مكمنهما، وثانيا: لأن المسامحة التي هي كمكافأة لتبكيت الضمير الذي قام مقام العقاب تزين التوبة للمذنب كطريق جميل إلى دار الفضيلة.
فإذا بلغت الجماعة إلى هذه الدرجة من الرقي الأدبي، بحيث تصبح المسامحة أو العفو أفعل من العقاب في الردع عن الإجرام؛ كانت صاعدة في سلم الرقي الأدبي باطراد، وكان الإجرام يقل من نفسه كلما حلت المسامحة محل العقاب. حينئذ تكون الهيئة الاجتماعية أقرب مسافة إلى المثل الأعلى. (3-11) قدر المسئولية والمعذورية
بقي أمر جوهري من خصائص العقاب لا يمكن إغفاله من هذا الفصل، وهو: هل يكون المرء دائما مسئولا عن سلوكه أو عمله، أم أنه يكون في بعض الأحوال معذورا؟ فما هو الحد الفاصل بين مسئوليته ومعذوريته؟ ومتى يجب أن يقوم العفو مقام العقاب؟
قد علمت فيما سبق أن السلوك هو فعل مراد بتعقل، وفي الإرادة والتعقل معنى الحرية، وحيث يكون الإنسان حرا يكون مسئولا ولا عذر له. فإذن متى تجرد الفعل من الإرادة والتعقل، أو من التعقل وحده؛ ضعفت المسئولية عنه إلى أن تكاد تتلاشى. (1)
فالمجنون غير مسئول عن فعله؛ لأن فعله مجرد من الإرادة والتعقل، أو من ثانيهما على الأقل، ومثله السكران، فسكره جنون وقتي، فهو معذور فيما فعله في أثناء سكره، ولكنه ملوم على سكره لأنه تعمده في حالة صحوه. (2)
كذلك الجاهل يعذر، وإنما يلام إذا كان لإهماله جهل ذنبه؛ ولهذا يعد العقاب في الجماعة الجاهلة بقصد الإرهاب أو الردع جائرا؛ لأنه واقع على أشخاص قليلي المسئولية لجهلهم . فالعامي الذي لا يعرف القراءة لا يلام إذا لم يعلم بقانون جديد لم يذع في الجرائد، أو في الجريدة الرسمية، والسلطة التي تعاقبه أولى بأن تعاقب هي؛ لأنها حرمته المعرفة التي تقيه من ارتكاب الذنب الذي ارتكبه غير دار به. (3)
إذا كان الباعث على الإجرام يثير الانفعال الإنساني بحيث يتغلب الخلق على الإرادة والتعقل؛ فتخف المسئولية وتقوى المعذورية بنسبة هذا الانفعال.
وقد حسب بعض المفكرين الإجرام مرضا جنونيا، وكل جريمة ضربا من الجنون؛ ولذلك خففوا المسئولية إلى الحد الأدنى، واقترحوا أن يعالج المجرمون من هذا الداء، داء الإجرام، بدل أن يعاقبوا. وهم يبنون هذه النظرية على نظرية أن أفعال هؤلاء المجرمين ليست صادرة عن مطلق إرادتهم، بل هي نتيجة تغلب الظروف المحيطة بهم على إرادتهم وتعقلهم؛ ولذلك يعذرون. فإذا صحت هذه النظرية سقطت نظرية حرية الإنسان برمتها، وإذا كانت نظرية الحرية صحيحة، فنظرية هؤلاء في المعذورية المطلقة ساقطة لا محالة. (3-12) قيمة اليمين في الشهادة
إذا لم يخف المجرم عقاب الآخرة، ولا عقاب المجتمع، ولا عقاب الضمير، واستطاع أن يفلت من القضاء، فلا يبقى مهددا له إلا الشاهد. وهو آخر وسيلة من وسائل درء الجرائم، ولكن الشاهد نفسه إنسان كالمجرم يحتمل أن يكون شريرا لا صالحا كما تفترضه الشريعة، لا سيما لأن ضوابط صلاحيته التي عينتها الشريعة لا تكفي ضمانة لكونه شاهدا عادلا، وأعظم ضابط للشهادة هو اليمين. فما هي قيمة اليمين؟
إما أن يكون الشاهد صالح الضمير أو شريره؛ فإن كان صالح الضمير فالشهادة صادقة من غير يمين، وإن كان شرير النفس فاليمين لا تضمن صدق شهادته؛ لأن الشرير يحلف زورا، وإذا كانت يمين الشاهد لا قيمة لها، فبالأحرى يمين المجرم نفسه لا قيمة لها؛ لأن من يجرم وينكر جريمته لا يتردد في أن يحلف زورا.
لليمين قيمة حيث تخيم الخرافات والأوهام، وحيث يعتقد الناس أن المقسم اليمين زورا يعاقب عاجلا في حياته، ولكن حيث لا وجود للخرافات والأوهام والسخافات، أو حيث هي ضعيفة جدا، فلا تأثير لليمين بتاتا لا باسم الله ولا باسم الشرف، فالضمانة الوحيدة لصحة الشهادة في المجتمع الراقي العاري من الخرافات هي ارتقاء أدبية ذلك المجتمع، وارتقاء أخلاق أهله. (4) الثواب (4-1) الثواب نتيجة طبيعية للشريعة الأمرية
اقتصر بحثنا في هذا الفصل على العقاب كأن الثواب لا شأن له فيه؛ وسبب ذلك أن الشريعة على الغالب شريعة النهي عن المحرمات - شريعة ردع الشهوات - فوصايا موسى العشر «ما عدا اثنتين» مصوغة بصيغة النهي: لا يكن لك إله غيري، لا تصنع تمثالا منحوتا، لا تقتل، لا تزن، لا تسرق إلخ، فالامتناع عن هذه المنهيات لا يستحق ثوابا، تكفي النجاة من عقاب مخالفتها ثوابا.
أما الشريعة الأمرية، أي شريعة فعل الخير، فهي شريعة الإرادة الحسنة، شريعة الروح الصالحة، شريعة القلب الطيب، فهي لا تقتصر على ردع الشهوات فقط، بل تقتضي بالتبرع بالعمل الصالح أيضا، وكما أن لاندفاع الشهوات في الطلاح عقابا، كذلك لاندفاع النفس الصالحة في عمل الصلاح ثواب.
فالعقاب لمخالفة الشريعة السلبية، والثواب لطاعة الشريعة الإيجابية.
على أن الحقيقة في الثواب لا تقف عند هذه النظرية فقط، بل تتضح في نظرية أخرى، وهي أن الثواب حاصل كنتيجة طبيعية لطاعة الشريعة أو عمل الخير؛ فإن الذي يطيع الشريعة ويسير حسب الفضيلة يكون مجاهدا في ميدان الحياة بالاتفاق مع إخوانه ونظام المجتمع، فيجد في التعاون ثوابا لصلاحه، وفي النصيب الذي يناله من رقي المجتمع العام أجرا لحسناته. (4-2) الثواب المعجل
وهنا قد تقول: إذا كان الثواب الطبيعي قد يأتي مؤجلا كالعقاب الطبيعي، فلماذا تتعمد سلطة المجتمع تعجيل العقاب ولا تتعمد تعجيل الثواب؟ لماذا لا يكون قانون للمثوبات كما يوجد قانون للعقوبات؟
والجواب: أولا أن ثواب العمل الصالح من تلقاء نفسه معجلا على الغالب، وقلما يأتي مؤجلا؛ لأن المرء وهو يسعى ويعمل ويكد مصاقبا لنظام المجتمع، وموافقا لمساعي إخوانه يكون ساعيا إلى النجاح بالطريق الأقرب؛ فيبلغ إليه عاجلا، وهو الثواب المعد له. ويمكن أن يستحق المرء الصالح ثوابا لمبرات نافلة غير محتمة الوجوب عليه، فإذا لم ينل هذا الثواب إلا آجلا؛ فلأن الثواب نفسه نافلة كالمبرة؛ ولذلك لا يجعل له شريعة، كما أن لا شريعة للمبرة النافلة.
وهناك اعتبار آخر أهم شأنا - وهو لا يخفى عليك - أن الشريعة النظامية الحتمية؛ أي شريعة الحكومة أو الدين، حتى الشريعة الأدبية الاختيارية، إنما هي مضيقة للحرية الشخصية، وكل ما يضيق الحرية يقلل المسئولية؛ وبالتالي يضعف قوة الأدبية.
فالفعل المحتوم بموجب الشريعة يخرج من دائرة الأدبيات؛ فلذلك اقتصرت الشرائع على النهي عن الأفعال الشريرة التي تعرض المجتمع للخطر، وأنذرت فاعليها بالعقوبات العاجلة حرصا على سلامة المجتمع؛ لأنه لو أمهل الأشرار إلى أن يقع العقاب الطبيعي الآجل عليهم، فقد يتقوض نظام المجتمع قبل أن يقع شرهم الخاص على رءوسهم وحدهم؛ فلذلك اقتضي تعجيل إيقاع العقاب عليهم.
وأما الأفعال الصالحة التي تئول إلى رقي المجتمع، فقد ترك الأمر فيها لحرية الناس لكي يأتوها بدافع القوة الأدبية بمطلق اختيارهم، فلم تقيد بثواب، ولا تقيد التقاعد عنها بعقاب.
وبالإجمال يقال: إنه لا ثواب معين للقيام بالواجب حسب مقتضى النظام والشريعة. حسبه النجاح ثوابا له. ولكن لعصيان الشريعة ومخالفة النظام بعكس الواجب عقابا معينا. هكذا اقتضى الرقي الاجتماعي العام الذي تتوزع نعمه على الجمهور.
الباب الرابع
الرقي الأدبي
الفصل الأول
سنن التطور الأدبية
(1) مقتضى التطور (1-1) للإنسان غاية قصوى يرمي إليها
رأينا في غضون مباحثنا الماضية أن الإنسان لا يسلك في عالمه اعتباطا إلى مصير مطلق غير مقيد ولا محدود، ولا هو ملقى في عالمه كريشة في مهب الرياح تحت تصرف العوامل الخارجية المطلق. لا، بل هو يسلك ونصب عينيه دائما غاية يسعى إليها، هو يعقلها ويعينها. وبهذا يمتاز على سائر المخلوقات المسيرة غير المخيرة، وعلى الحيوان الذي وإن كانت فيه نبضات حيوية تتجه إلى غاية محدودة، بيد أنه قلما يعقلها، وقلما يعينها.
وقد علمنا أن الغايات سلاسل متصلة يفضي بعضها إلى بعض كأن هناك غاية قصوى يبتغيها الإنسان، أو يتجه إليها بسلوكه، فهل هناك حقيقة غاية قصوى؟ وما هي؟
أما إن هناك غاية قصوى فيثبته تسلسل الغايات، وتوسل الإنسان بالواحدة إلى الأخرى، ولا بد للسلسلة من نهاية؛ فإذا كان السرور غايته القصوى يقف عند الغاية التي تجلب له أعظم سرور، ويكتفي بها كما يكتفي الحيوان الأعجم بالشبع. على أن تحمل الإنسان ألم المشقات في سبيله إلى غاياته يدلك على أن الشعور بالسرور ليس غايته القصوى، وإلا لسعى إلى سروره من أقل السبل إيلاما. إذن لا بد أن يكون للإنسان غاية قصوى أخرى غير السرور يتجه إليها، فما هي؟ (1-2) الجودة غاية الإنسان القصوى
وقد أشرنا إليها فيما سبق إشارات جلية؛ إذ اتضح من سياق البحث أن النوع الإنساني سائر في خطة تميزه على سائر المخلوقات، وهي أن يسبك شخصيته أو ذاتيته الروحية في قالب الجودة، أو بالأحرى في قالب الجمال النفساني، فاختيار الإنسان دائما الأجود والأحسن إنما هو لنزعة فيه إلى الجودة والحسن، أو بعبارة شعرية «إلى الجمال».
وبتمتعه بالجمال يصوغ شخصيته على مثال جميل، فغايته القصوى هي المثل الأعلى من هذه الصياغة الجميلة. إذن سلوك الإنسان - ونعني النوع الإنساني - متجه دائما إلى تحسين الشخصية على هذا النحو، وغايته القصوى الاقتراب ما أمكن إلى الكمال المطلق - الذي هو مرادف للمثل الأعلى - وما الأدبية إلا توجيه السلوك الإنساني في الطريق السديد المؤدي إلى هذه الغاية القصوى. (1-3) الغاية القصوى تستلزم التطور
فالمستفاد مما تقدم إذن، أن الحياة الأدبية حركة نمو أو عملية رقي؛ ولذلك لا بد أن تكون لها سنن تطور، فيحسن بنا إذن أن نبحث فيها من قبيل نظرية التطور. وهو معلوم أن فكرة التطور لم تنضج في العقل البشري إلى أن صارت علما قائما بذاته إلا في القرن الماضي؛ إذ اكتشف العلماء والفلاسفة أن سنة التطور عامة في جميع الخلائق الكونية من أجرام سماوية وجمادات وأحياء وحيوانات وإنسان، وإنما تختلف أشكالها باختلاف المخلوقات التي تتمشى عليها. ولعل الفيلسوف سبنسر أول من عمم سنن التطور على جميع الخلائق وأشكالها، وطبقها على أدب النفس أيضا. (2) سنة المصاقبة (2-1) رأي سبنسر
وفحوى نظريته هكذا: لكل نوع من أنواع الحياة حركات ندعوها سلوكا في كل حركة من حركاتها ما يقال عنه: إنه جيد أو رديء، وفي رأيه أن عملية الحياة قائمة حتى في أشكالها السفلى باستمرار مصاقبة متناسباتها الداخلية إلى متناسباتها الخارجية؛ أي بمواظبة الجسم الحي على المجاهدة في توفيق ذاته مع أحوال بيئته الخارجية. فكل سلوك من قبل الحياة - أو الجسم الحي - متجه إما إلى إتمام هذه المصاقبة، أو إلى عرقلتها ومنعها.
فما دام السلوك متجها في جهة المصاقبة يعد حسنا، وما دام مناقضا لها يعد سيئا. والسلوك الحسن على هذا النحو يحدث سرورا؛ لأنه يجعل الحي «السالك» على وئام مع بيئته، وبالعكس السلوك السيئ يحدث ألما لانعكاس السبب. وكل سلوك تقريبا يكون بعضه حسنا وبعضه سيئا.
والسلوك التام الجودة هو الذي يحدث سرورا فقط بلا ألم، وإنما يقال عن السلوك: إنه حسن نسبيا إذا كان سروره يربو على ألمه؛ أي حاصل اتجاهه يؤدي إلى أفضل ما يمكن من المصاقبة للبيئة. والغاية الأدبية العليا هي مساعدة الحي في عملية التطور هذه التي تقوم بأتم ما يمكن من مصاقبة التناسبات الداخلية التي في الحي للتناسبات الخارجية في بيئته. (2-2) مصاقبة الذات والبيئة للمثل الأعلى
وقد لاحظ مكنزي على سبنسر ملاحظة وجيهة في تعليل الغاية الأدبية على هذا النحو، وإليك فحوى ملاحظته: «إنه لواضح أن معنى الرقي استمرار عملية المصاقبة بين الحي وبيئته، وتطبيق الحياة على مقتضيات البيئة، فرقي المعرفة إنما هو استمرار تطبيق تصوراتنا على حقائق الطبيعة أكثر فأكثر فأكثر، كذلك تقدم الفنون إنما هو تعلمنا تدريجيا أن نطبق أشكال حياتنا على الضرورات التي تفرضها علينا أحوال عالمنا الخارجي. وهكذا في الأدبيات نزعم أن لنا عادات أجمل، وقوانين أفضل مما كان لأسلافنا، بقدر ما لنا من واسع التصورات فيما هو مطلوب منا، وبقدر ما نحن حسنو الضمير في تلبية هذا المطلوب. ومعنى ذلك أننا نطبق أشكال حياتنا على مقتضيات هذه الحال.
ولكن ماذا يتضمنه هذا التطبيق غير ذلك؟ أليس أنه يتضمن عدا ذلك أن لنا غايات خاصة نضعها نصب أعيننا لكي نسعى إليها؟ ... إن الإنسان يدرك حاجته إلى مصاقبة بيئته لأن له أغراضا محدودة: فالعالم يرى أن أفكاره أو تصوراته غير مطابقة تمام المطابقة لحقائق الطبيعة؛ ولذلك يسعى إلى زيادة المعرفة لكي يتسنى له أن يطبقها أتم تطبيق، فالإنسان العلمي يعلم حاجته إلى هذا التطبيق أو المصاقبة بينه وبين بيئته؛ لأنه يعلم أن له غاية يريد الحصول عليها، وبعبارة أخرى: لأنه يأتي إلى الوجود ومعه مثل أعلى ليس له في الوجود شكل مطابق له، بل هو يجاهد في ابتداعه.
فإذا كان الأمر كذلك انعكست الآية، فلا يقال: إن النقص الذي في الأحياء - والذي يزيله رقي حياتهم التدريجي - أنهم غير مصاقبين لبيئتهم، بل أن بيئتهم غير مصاقبة لهم؛ لأن القاعدة التي عرف بها هذا النقص موجودة فيهم لا في البيئة، فإذا كان الإنسان يبتغي أحيانا أن يغير مجرى الطبيعة، فلأنه يريد أن يكيف البيئة لكي تصاقبه.
أو بالأحرى لأنه يريد أن يكيف البيئة ونفسه معا لكي تصاقبا المثل الأعلى الذي يجب أن تتمثل به حياته، حتى إن الحيوانات العجماء في كثير من الأحوال تجعل البيئة مصاقبة لها كما تجعل نفسها مصاقبة للبيئة. ففي كل حال نرى هناك مثلا أعلى للمصاقبة؛ أي إن هناك غاية يرمي الحي إليها مدركا لها أو غير مدرك. وإذا كان الأمر كذلك؛ فمما لا ريب فيه أن الغاية هي التي تعين نوع عملية المصاقبة التي تنال بها الغاية نفسها.»
ووجه الخلاف بين مكنزي وسبنسر: هو أن سبنسر يجعل سبب عملية المصاقبة في عوامل البيئة الخارجية، ومكنزي يجعله في الغاية التي يرمي إليها الحي بواسطة هذه المصاقبة، على أن مكنزي لم يبسط وجاهة ملاحظته مع أنها من الأهمية بمكان عظيم، بل وقف عند تفنيد نظرية سبنسر كما رأيت. أما وجاهة هذه الملاحظة فهي في «يقيننا» في وضع الغاية القصوى في المكان الأول من الأهمية، وفي جعلها القوة الرئيسية المنبثة في عملية التصاقب. (2-3) العقل يخضع الطبيعة لخدمة المثل الأعلى
ولو كانت الحركة الحيوية مقتصرة على المصاقبة المتبادلة بين الحي والبيئة لكان التطور بطيئا جدا قلما يختلف عن تطورات الجمادات كالتطورات الجيولوجية مثلا، ولو كان التطور مقتصرا على مجرد نتيجة التفاعل الطبيعي بين قوتي الحي والبيئة لقل التنويع فيه، ولرسا الحي على حالة واحدة في بيئة واحدة دهورا طوالا، ولما نشأ من الحياة العالم العقلي، ومن العالم العقلي العالمان الاجتماعي والأدبي؛ لأنه إن كانت الحياة نتيجة تفاعل كيماوي أو شبه كيماوي بين عناصر المادة، فالعقل ليس كذلك؛ بل هو في دوره الأول نتيجة تفاعل بين عمليات الجهاز العصبي وقوى الطبيعة الخارجية من تخيل وذاكرة إلخ، وفي دوره الآخر نتيجة تفاعل القوى العقلية نفسها، من تجريد واستدلال واستنتاج إلخ، مستقلة عن المادة.
فلذلك منذ تم نشوء الحياة وتميزها عن الجماد صار في جوهر الحي نزعة إلى التغلب على الطبيعة والتحكم فيها؛ ليخضع قواها ويستخدمها لرغائبه. ففيما هو يصاقب البيئة الطبيعية لكي يستطيع أن يعيش فيها، كان يحاول أن يجعلها من نواح أخرى مصاقبة له، وكان كلما ارتفع درجة في سلم رقيه ازدادت وسائله لإخضاع الطبيعة له، وجعلها مصاقبة له. (2-4) إبداع الحي العالم العقلي
فإذن منذ شرع الحي يصعد في سلم رقيه نشأت فيه غاية تسيير هذه المصاقبة التي بينه وبين الطبيعة، وهي أن يتفوق على الطبيعة ليس بكيفية قوته المتغلبة فقط، بل بشكل مادتها وأسلوب تركبها، وليس بذلك فقط، بل بإنشاء عالم روحاني لم يكن موجودا في الطبيعة، أو لم يكن فيها منه إلا جوهره، وأما شكله وبنيته فهما من مبتدعات القوة الحيوية ومخترعاتها.
فالعالم العقلي البحت من تخيل وتجريد وتعليل إلخ ليس موجودا في الطبيعة الجامدة، وإنما هو من مبتدعات الطبقة العليا من طبقات الحياة، من مبتدعات الجهاز العصبي الإنساني. وليس ذلك العالم نتيجة تفاعلات هذا الجهاز مع قوى البيئة الطبيعية فقط، بل هو بالأكثر نتيجة تفاعلات الأجهزة العصبية والدماغية المتعددة بعضها ببعض أولا، ثم تفاعلات القوى العقلية الصادرة منها بعضها ببعض ثانيا.
خذ مثلا لغة التفاهم بين الناس والحيوانات العليا، فإنما هي ابتكار الحياة الدماغية، وقد تغلب بها الحي على المسافات بحيث يتصل عقل بعقل عن بعد.
ثم خذ المتون التي تمطيها اللغة كالكتابة والقراءة والطباعة، فقد تغلب بها الإنسان على الزمان، وصار في وسع عقول الخلف أن تتصل بعقول السلف، ثم أضف إلى ذلك ما جد من أدوات النقل والنسخ؛ كالتراسل على أجنحة الأثير، وكحفظ الأصوات على الأقراص الفوتوغرافية، وحفظ الرسوم والصور في الألواح والأوراق، تجد أن العقل البشري الذي هو عالم فوق المادة قد ابتدع عوالم جديدة ليس في العالم الجمادي إلا مادتها فقط، وأما صورها والقوة المنبعثة فيها فإنما هي من ابتكاره.
وإذا عطفت على هذا الفن الجميل وجدت هناك عالما آخر أعجب وأعلى قد ابتدعه العقل البشري ابتداعا، وليس منه في الطبيعة سوى مادته فقط؛ فالموسيقى والمجاز الشعري والتمثيل والرسم التخيلي وجميع أنواع الزخرفة إنما هي عوالم محدثة لم يكن لها أثر في الطبيعة قبل أن ينضج العالم العقلي.
وأغرب من ذلك وأعجب عالم الرياضيات المجردة؛ فقد أصبح هذا النوع من العلوم عالما عظيما واسعا كاتساع الفضاء، وكلما اتسع ظهر أنه غير محدود. فهذا عالم لا أصل له في الطبيعة على الإطلاق، وإنما هو من مستنبطات العقل البشري، ولا وجود له إلا في مخيلاته المجردة. (2-5) نزعة الإنسان إلى المثل الأعلى أعلت مكانته في الطبيعة
فلو كان التطور مجرد تصاقب الحي مع البيئة فقط لبقي الحي المتصاقب مع بيئته إلى الأبد كما هو، ولا يتغير إلا حين تتغير البيئة، ولا يتغير إلا بحسبها، ولكن للحي غاية يرمي إليها في تصاقبه مع البيئة الخارجية - غير لذة الوئام مع البيئة كما يقول سبنسر - وهي التفوق على الطبيعة في تكييف القوة، ورشاقة حركاتها وتنوعها، وفي تكييف الشكل وتركيب أجزائه.
وهو ما يحسبه الحي أفضل أو أجود أو أحسن أو أجمل مما وجده في الطبيعة. وهذه الغاية نتيجة نزعة فيه لا ننكر أنه ورثها من جوهر الطبيعة المادية التي ولدته أو اشتق منها، وإنما استقوت فيه، وبهذه النزعة انفرد عن مادة الطبيعة المادية، وبها يدرب تصاقبه مع البيئة، فتارة يصاقب البيئة، وأخرى يؤثر فيها فيجعلها تصاقبه.
ولولا هذه النزعة لما كان إلا خاضعا للبيئة، ولا تأثير له فيها. وبتدريبه عملية التصاقب هذه على هذا النحو تطور صاعدا في سلم الرقي إلى أن بلغ ما بلغ إليه منه الآن، حتى كاد يسيطر على البيئة سيطرة تامة، وقلما تسيطر هي عليه.
فهذه الغاية، غاية التفوق على الطبيعة في الجمال الشكلي والقوة المتلاعبة إنما هي المثل الأعلى الذي تتجه إليه تلك النزعة التي اقتنصها الحي من الطبيعة الجمادية منذ تميز عنها. (2-6) ابتداع العالم العقلي عوالم أخرى
رأيت فيما تقدم أن العالم العقلي إنما هو درجة تطورية عليا ابتدعها الجهاز العصبي في الحي، ثم أن العالم الاجتماعي الذي تشيد على أساس التفاهم هو درجة تطورية أخرى أعلى ابتداعها العالم العقلي، ثم انضم إليها فتعاونا في ترقية العقلية والاجتماعية معا، ثم إن العالمين الرياضي والفني هما درجة تطورية ثالثة أعلى أيضا ابتدعها العالمان العقلي والاجتماعي معا، فماذا بعد هذه العوالم؟
بعدها نجد العالم الأدبي الذي هو في درجة من الرقي أعلى من العوالم الثلاثة الآنفة الذكر، وقد ابتدعته هي ابتغاء للكمال في الجمال، أو سعيا إلى المثل الأعلى في الجمال. فصوغ الشخصية الإنسانية بقالب الفضيلة وسجية إحقاق الحق إنما هو درجة أعلى من درجة صياغته العقلية بقالب الروح الموسيقية أو الشعرية إلخ؛ لأن هذه الصياغة لا تزال متصلة بالمادة أو قريبة منها. وأما الصياغة الأدبية فقد بعدت عن المادة، فالجمال الأدبي إذن أعلى وأرقى من الجمال الفني؛ إذن إلى الآن الغاية الأدبية هي مثل الإنسان الأعلى في الجمال.
ثم ماذا بعدها؟ الله أعلم. (3) سنة الانتخاب الأدبي (3-1) الانتخاب الطبيعي
إذا كان العالم الأدبي نتيجة تطور العوالم التي سبقته؛ فلا ريب أنه هو متمش على سنن التطور التي تمشت عليها تلك العوالم قبله، وإنما سنن التطور هذه تختلف في كل عالم عنها في الآخر بعض الاختلاف؛ ولذلك لا بد من تنقيح معناها في كل عالم. وهنا لا يهمنا إلا تنقيحه في العالم الأدبي. فلنر ما هي سنة التطور الأدبي؛ أي السنة التطورية التي يتمشى عليها العالم الأدبي .
أول من صاغ هذه السنة دارون أبو علم التطور وفلسفته، ومحصلها أن تطور الأنواع الحيوانية أو تدرجها في مدارج الرقي يحدث بواسطة تنازع البقاء الذي ينجلي عن بقاء الأنسب أو الأكثر مصاقبة للبيئة. وهذه العملية الحيوية تجمل بعبارة الانتخاب الطبيعي بفعل الوراثة؛ أي إن الطبيعة بواسطة ذلك التنازع تنتخب الأفضل أو الأكثر مصاقبة لها.
والانتخاب الطبيعي أصبح تعبيرا عن عملية التطور التي تتنازع فيها الأنواع المختلفة بما لها من بيئة وأعضاء خاصة، تتنازع السيادة إلى أن يتفوق نوع فيها ويطغى، ويبقى مستمرا في الحياة إلى أن يكثر ويتدفق إلى بيئات أخر؛ حيث يضطر إلى مصاقبة تلك البيئة الجديدة، فيتنوع إلى أنواع أخرى بحكم البيئة. وهذه الأنواع الجديدة تستأنف تنازع السيادة، وهكذا دواليك.
فلنر كيف تطبق هذه السنة التطورية على العالم الأدبي، أو كيف تمشي الأدبيات على هذه السنة. (3-2) التنازع العقلي
يحدث التنازع في المملكة الحيوانية في الدرجة الأولى بين الأفراد أو جماعات الأفراد، فبعضها يهلك وبعضها يبقى، ولكن في المملكة الإنسانية قل هذا التنازع الحيوي، أو انتفى بين الأفراد أو الجماعات؛ بسبب نشوء الأنظمة الاجتماعية التي أوجدت الأفراد في جماعات، إلى أن صار التنازع الفردي تمزيقا لوحدة الجماعة، وبالتالي فناء للفرد؛ فانتقل التنازع من بين الأفراد والجماعات المتحدة إلى ما بين الأمم المنفصلة. ولأن تعامل الأمم آيل حتما إلى ترابطها واتحادها؛ فهذا التنازع يقل تدريجيا فيما بينهما. فالتنازع الحيوي الذي رأيناه بين الحيوانات أخذ يتلاشى في المملكة الإنسانية.
وإنما في المملكة الإنسانية تنازع آخر يختلف في شكله عن ذلك، هو تنازع عقلي لا تنازع حيوي؛ فليس هو ضد الأفراد الضعفاء أو غير المصاقبين للبيئة، بل هو ضد الآراء والعادات والأنظمة التي لا توافق المجتمع. فلا يؤذن لأي رأي أو عادة أو نظام أن يتفوق ويبقى إلا إذا كان ملائما لسعادة المجتمع، فإذن هو تنازع بين الأفكار والأنظمة أو بين المثل العليا، لا بين الأشخاص ولا بين جماعات الأشخاص.
نعود إلى سبب هذا التنازع الحيوي في المملكة الحيوانية، وهو أن بعض الأفراد تولد - بسبب عوامل بيئية - ممتازة بمزايا طبيعية خاصة تجعلها أصلح للبقاء من غيرها. وتلك تنازع هذه الرزق أو الحياة. فهذه تهلك، وتلك تبقى وتورث مزاياها لخلائفها، وأما تلك التي هلكت في حلبة النزاع فتنقرض سلالتها. (3-3) التنازع الأدبي
أما في التنازع الأدبي فليس الأمر كذلك. هو تنازع عقلي اجتماعي، هو تنازع بين العقول؛ فإذا امتاز عقل «أو عقول» ببعض المواهب، فمن جراء تفاعله بالعقل الاجتماعي العام، وتأمله في حالة المجتمع، قد يكتشف نمطا للسلوك أصلح لحياة المجتمع، كأن يرى مثلا أن الرق والنخاسة غير صالحين لحياة المجتمع، فيبتغي الحرية الشخصية، أو يرى - كما رأى قاسم بك أمين - أن تحجب المرأة لا يصلح للحياة الشرقية الجديدة، فيبتغي السفور.
وقد يصادف مقاومة عنيفة، وقد لا يجد إلا مظاهرين قليلين له، وربما اضطهده الرأي العام، ولكن إذا كان رأيه أصوب فلا بد أن ينتشر رويدا؛ إذ يصادف قبولا في عقول الأفراد، ومع الزمان يصبح رأيه هذا رأي المجتمع؛ فتفوق فكرة إطلاق الحرية الفردية على الرق وتبقى، وينتفي الرق - وهكذا كان - وتتفوق فكرة السفور ويتلاشى الحجاب - وهكذا سيكون. فترى فيما تقدم أن هذا التنازع لم يصب الأفراد بسوء، وإنما هو قضى على أنظمة قديمة فلاشاها، وأحيا أنظمة جديدة. على هذا النحو يكون الانتخاب الأدبي أو الانتخاب الاجتماعي. (3-4) الجودة والنجاح
على أنه لا بد من إلفات نظر القارئ إلى ملاحظة جوهرية في هذا التنازع، وهي: أن أي نمط من السلوك، أو أي نظام أو عادة لا يعد جيدا لأنه نجح، بل هو جيد لأنه فضل على سواه، وما نجاحه إلا دليل على جودته، ولكن النجاح لا يكون دائما دليلا على الجودة؛ فقد يكون الأمر جيدا، ولكنه لا ينجح، وقد ينجح ولكنه لا يكون جيدا.
فسر نجاح الأسلوب ليس في جودته، بل في أفضليته لحالة المجتمع كما هي؛ لأن فيه خصائص مصاقبة لأحوال المجتمع، بحيث إن المجتمع يصاغ به من غير أن يحدث احتكاك بين الأفراد؛ أي إن الأحوال الاجتماعية التي يدخل إليها هذا الأسلوب الجديد لا تضطرب. والمجتمع نفسه يستطيع أن يحيا من غير أن يعرقل قسم منه حياة الأقسام الأخرى، بل تبقى جميع أقسامه متوازنة فيه.
بهذا المعنى يعد الأسلوب جيدا، فحين كان الأرقاء راضين برقهم كان نظام الرق حسنا، ولما شرع بإلغاء هذا النظام شعر الأرقاء بمثل ظلم في إلغائه؛ لأنهم وجدوا أنفسهم مضطرين أن يسعوا إلى رزقهم بأنفسهم، بمطلق اختيارهم، وبإرشاد عقولهم، بعد أن كانوا يعيشون متكلين على تدبير غيرهم جزاء لعملهم.
كذلك نرى جانبا كبيرا من المتحجبات متمسكات بالحجاب الآن؛ لأنهن تعودنه ويستحين بالسفور، أو لأن رجالهن لا يردنه وهن يأبين الخروج من تحت طاعة رجالهن؛ ولهذا يحدث اضطراب في المجتمع الشرقي بسبب تنازع الحجاب والسفور. فمتى زال هذا الاضطراب وعاد التوازن إلى المجتمع؛ يصبح السفور صالحا للمجتمع، فنقول عنه حينئذ: إنه جيد، ونجاحه دليل على جودته. (3-5) معركة التنازع
قد تقول: إذا كان أي أسلوب جديد في الحياة لا يعد جيدا قبل أن يستتب، وإذا كان يحدث اضطرابا في المجتمع، فلا نقدر أن نقول: إنه جيد؛ لأنه قد لا يستتب. فما الذي يجعلنا أن نتوخاه وأمامنا خطر الاضطراب الاجتماعي، أو فقد توازن الاجتماع؟ وعندنا أن دليل جودة أساليب الحياة هو توازن المجتمع. فهذا التوازن هو جيد بحد نفسه. فما الذي يحملنا على تعريضه للخطر ونحن غير واثقين من رجوعه إلى السلامة؟ ما الذي يقنعنا أن الأسلوب الجديد الذي نتوخى إدخاله إلى أنظمة المجتمع جيد؟
نقول: إن الانتخاب الأدبي الذي أشرنا إليه يعمل عمله من غير أن نريد، فهو سنة. وهذه السنة تقضي بالتنازع كما علمت، والتنازع يحدث اضطرابا، ومتى انتهى ببقاء الأفضل عاد التوازن إلى حاله. فإذا كنا نعمد إلى مقاومة سنة التنازع الأدبي بالحرص على التوازن الاجتماعي كنا نعارض مجرى التطور أو الرقي الأدبي، ونصده في سبيله. فما دام هذا التطور جاريا في مجرى الرقي، فلا بد من اختلال التوازن كلما نزل نظام جديد، أو أسلوب أدبي جديد إلى ميدان النزاع، ولا بد من رجوع التوازن إلى نصابه متى انتهت المعركة.
وهكذا يكون الرقي الأدبي والاجتماعي درجات تنازعية أو سلسلة معارك. ولا بد من التدرج في ميادين النزاع على هذا النحو ما دام أمام الإنسانية «مثل أعلى» تسعى إليه، فكلما أبدلت نظاما جديدا بنظام عتيق ولو بمعركة خطت خطوة إلى المثل الأعلى، ولا بد أن تبتدع أنظمة جديدة ما دامت بما لها من النزعة إلى الرقي تبتدع عقولا متميزة بالمواهب. وهذه المواهب العقلية قوى تحدث حركة، وحركتها في تقليب الأنظمة. (3-6) هل الرقي سعادة؟
هنا يلوح في البال مبدأ السعادة الذي هو من أهم العناصر الأدبية، وهو محور من محاور الحياة الأدبية، فقد نسأل أنفسنا: هل في هذا الرقي القائم على سنة التنازع وبقاء الأفضل سعادة؟ وما هي السعادة المتضمنة في عملية الانتخاب الأدبي على نحو ما رأيناها؟
لقد فسرنا السعادة فيما سبق بأنها إرضاء للرغبة، أو بالأحرى إرضاء لعدد أوفر من الرغائب النفسية، وعلمنا أن السعادة ليست الغاية الأدبية القصوى، وإنما هي مصاقبة لها، أو أنها تأتي معها وبها، وأن الغاية القصوى هي صوغ الشخصية بسجية الرغبة في المثل الأعلى. فإذن السعادة القصوى هي في تنظيم الرغائب وتوجيهها إلى المثل الأعلى، وفي إدراك هذا التنظيم.
وما عملية الانتخاب الأدبي إلا هذا التنظيم؛ تنظيم الرغائب المؤدية إلى المثل الأعلى، والجالبة معها السعادة القصوى، تنظيمها بحيث تجعل أساليب الحياة وأنماطها مصاقبة لأحوال المجتمع. فالسعادة مندمجة في الغاية؛ ولهذا تبدو لنا أنها الغاية نفسها. فنحن نبتغي السعادة، والإنسانية المطلقة تبتغي المثل الأعلى في تحسين الشخصية وتجميلها، متذرعة إلى هذه الغاية بإحداث السعادة في النفس البشرية. (3-7) ماذا يدفعنا أن نسلك إلى المثل الأعلى؟
بقي أن نعلم كيف ينشأ «الواجب» الذي يؤدي بنا إلى المثل الأعلى. ما الذي يوجب علينا السلوك إلى الغاية الأدبية المتضمنة المثل الأعلى؟ لماذا نريد أن نسلك السلوك الأدبي الذي يلائم المجتمع ككل نحن جزء منه؟
بابتغائنا السعادة كغاية نهائية نشعر أن الصوت الذي يدعونا إلى القيام بالواجب هو صادر من ذاتيتنا، وإنما الإنسانية التي هي أعلى طبقة في الوجود، وفي أعلى درجة من الرقي، هي التي تحدث هذا الصوت ولسان حالها يقول: كن شخصية اجتماعية لا ذاتية حيوانية. هي التي أقامت الضمير وسلمته ميزان الدينونة، وهي التي عينت السعادة جزاء للقيام بالواجب، والألم عقابا لمخالفته. فصوت الضمير الديان هو صوت الإنسانية الصادر من الشخصية الاجتماعية الحقيقية؛ ولذلك متى ندم الإنسان على فعل مذموم قد فرط منه يقول مخاطبا نفسه: ماذا فعلت يا هذا؟ لماذا فعلت هذا الفعل؟ كأن شخصيته الإنسانية تعاتب ذاتيته البهيمية، كأنه يقول: «لم أكن أنا نفسي حين فعلت هذا الفعل الشنيع.»
الفصل الثاني
في سبيل الارتقاء الأدبي
(1) سنن التطور الارتقائي (1-1) تنازع الفضيلة والرذيلة
التمدن كما نعرفه الآن وكما عرفنا تاريخه الماضي بعضه نتيجة أفعال الصالحين، وبعضه نتيجة أفعال الطالحين، وبعض أنظمته حقة صالحة وجيدة، وبعضها باطلة وسيئة، فالفضيلة والرذيلة تعملان فيه معا دائما متنازعتين. وهو كما هو الآن مصاقب لكلتيهما، وكلما تغلبت الفضيلة على الرذيلة في معركة تطورية خطا التمدن خطوة في سلم الرقي، والعكس بالعكس، وربما كان التمدن الحالي، كما نعرفه الآن، غير مهيأ لكي يلاشي الرذيلة وشرورها بتاتا، ولا لكي يجعل الفضيلة وحدها سيدته.
على أن ما عرفناه من تاريخه إلى الآن يدلنا على أن فوز الفضيلة على الرذيلة، أو الخير على الشر أغلب، ولكن ليس هذا التغلب مطردا؛ فقد يتغلب الخير اليوم والشر غدا، وقد يتحسن أحد الأنظمة ويصلح لخير المجتمع فيجد ظرفا غير ظرفه، ويحدث نظاما آخر يغلب الشر على الخير، مثال ذلك عصرنا الصناعي الاختراعي هذا؛ فما من أحد يجهل أو ينكر أنه أعظم العصور نعمة لبني الإنسان، فقد نشأ فيه النظام الصناعي الجديد الذي طرح عن عاتق البشر تسعة أعشار الجهاد العضلي، وضاعف المصنوعات أضعافا، فلا ريب أنه بركة للنوع البشري.
ولذلك كان منتظرا أن يزيد رخاء الناس، ويخفف غلواء تنازعهم للرزق، وبالتالي تقل الشرور والجرائم، ولكن النتيجة جاءت بالعكس؛ لأن هذا النظام الصناعي الجديد طوح بالنظام الاقتصادي في بيداء الاستقطاب المالي، فزاد المتمولين غنى، والعمال فقرا، وجدد للحياة حاجيات عديدة تغري النفس بها، فالأغنياء يتمتعون بها، والعمال يتوقون إليها، ولا يستطيعون التمتع لفقرهم؛ فيتذرع بعضهم إليها بالوسائل غير الشريفة.
وكذلك لأن الفقراء ضعفاء، يستغل الأقوياء أتعابهم فلا يبقى لهم حول ولا قوة لترقية أنفسهم في المعرفة والتهذيب والأخلاق، فيتطوحون مكرهين في الفساد، كذلك الأغنياء من الجهة الأخرى، وقد تمكنوا من استثمار أتعاب العمال، لم يبقوا في حاجة إلى الكدح والعمل، فيشغلون أوقاتهم وينفقون أموالهم في الفساد إلا من ندر منهم.
فترى مما تقدم أن النظام الصناعي الذي يفاخر به عصرنا كل العصور الماضية بمحامده قد أفسده النظام الاقتصادي الموروث الذي بني على نظام سياسي إفرادي استبدادي سابق؛ أي غير ديموقراطي.
وفيما يلي نبحث في سنة الارتقاء الأدبي، وكيفية تطور الحياة الأدبية وتقدمها: (1-2) عناصر الحياة الأدبية
تتألف الحياة الأدبية من أربعة عناصر رئيسية: (1)
مبدأ أدبي يسلم به المجتمع كمثل أعلى يمثله شكل من أشكال الحياة العملية، كنموذج يقتبسه الفرد ولو من غير انتباه أو من غير شعور باقتباسه. (2)
أنظمة اجتماعية تتحدد بها أفعال الفرد. (3)
أساليب السلوك حسبما ألفها الفرد واقتبسها بانتباه لاقتباسها أو بغير انتباه، فكانت عادة. (4)
الروحانية الأدبية؛ وهي تشبع النفس بالمبدأ الأدبي الأعلى.
وهذا العنصر الأخير ثابت لا يقبل التغير؛ فإما أن يكون الفرد متشبعا به أو غير متشبع. وأما العناصر الثلاثة الأخرى فقابلة التغير والتجدد؛ فأي عنصر منها إذا تجدد أحدث تنافرا بينه وبين العنصرين الآخرين. (1-3) تنافر عناصر الحياة الأدبية
لكي تتوافق العناصر الثلاثة ويعود التوافق والتوازن فيما بينها، لا بد أن يحدث تطور فيها جميعا؛ لذلك ترى دائما تنافرا بين هذه العناصر لتجدد متوال فيها حينا بعد آخر.
مثال ذلك: أن من المثل العليا أو المبادئ الأدبية التي يتوخاها الإنسان المتمدن المساواة، ومن الأنظمة الاجتماعية ما يؤيد هذه المساواة؛ كالنظام القضائي الذي يجعل جميع الأفراد متساوين أمام القانون، ومنها ما ينافي هذه المساواة؛ كنظام الاقتصاد الذي يؤذن أن يتفاوت الناس في تقاسم حاصلات الأعمال، بعكس النسبة بين تفاوت الناس في الجهاد في العمل. زد على ذلك أن أفعال الناس مخالفة لهذا المثل الأعلى الذي ينشدونه، فيندر أن تجد من يسلك سلوكا يدل على أنه يعامل الناس كمساوين له في الحقوق والواجبات.
إليك مثلا آخر أوضح: السلام رغيبة كل فرد؛ لأنه الضامن الوحيد لاستثمار الفرد ثمرة عمله، والقوانين والأنظمة التي تؤيد السلام تشتمل على قوانين وأنظمة حربية أيضا، كأن الحرب أمنية منشودة أيضا، وبعض أعمال الناس محصورة في الاستعدادات الحربية، ولا ريب أن معظمهم ممن ينشدون السلام ويرغبون فيه.
مثال ثالث أيضا: الحرية الشخصية والقومية، كحق أساسي من حقوق الإنسان، رغيبة تنشدها الأمم المتمدنة، والقوانين الدولية الخصوصية تؤيد هذا المبدأ الأدبي، ولكن القوانين الدولية العمومية تناقضه، وتجيز للأمة القوية أن تستبد بالأمم الضعيفة لتستعمرها. والفرد الأوروبي يؤيد حرية الإنسان كحق طبيعي في دائرة بلاده، ويعمل خلاف هذا المبدأ خارج بلاده.
كذلك الاحتفاظ بكنية الأسرة كمبدأ سام حرصا على سلامتها من مزيج أجنبي لا يضمن نقاوتها من المزج، والترقية في وظائف الحكومة حسب قانون الأقدمية لا يضمن دائما أن يترقى الأكثر أهلية إلى المنصب الأعلى، والدبلوم لا يدل دائما دلالة صادقة على الاستحقاق، كما أن الاستحقاق لا يضمن النجاح دائما.
وعملية التطور في كل أمة وشعب تقوم بالتوفيق بين هذه العناصر: المثل الأعلى والنظام والعادة، كلما تجدد عنصر منها جد تنافر بينها، ومتى كان هذا التطور جاريا على سنة التطور الارتقائي العامة كانت أدبية المجتمع صاعدة في سلم الرقي. وهذا ما يحدونا للبحث في سنة التطور الارتقائي من الوجهة الأدبية، وكيف يتمشى التطور الأدبي عليها. (1-4) ما هو التطور الارتقائي؟
لفظ التطور أو التحول من طور إلى طور، أو من شكل إلى شكل، لا يفيد معنى الارتقاء. التحول يحتمل أن يكون تسفلا لا ارتقاء، فلا بد إذن من وصف التطور بالارتقائي احترازا من التطور التسفلي. مع كل ذلك لا بد من تبيان ماهية الارتقاء وتحديده؛ لئلا يشكل علينا التمييز بين الارتقاء والانحطاط، ونخطئ في بعض الأحوال فنحسب المنحط راقيا؛ فقد نعد أجناس الطيور أرقى من الفئران مثلا، وما هي كذلك في سلم التطور الحيواني.
لذلك أشغل الفيلسوف سبنسر الجانب الأعظم من كتابه المبادئ الأولى، الذي هو كمقدمة لفلسفته، في تعريف التطور الارتقائي معتمدا بالأكثر في ذلك على الحقائق العلمية التي اكتشفها دارون. وقد استخرج من مباحثه الضافية تعريفا للتطور جعله كسنة طبق عليها التطور في العوالم المادية والحيوية والعقلية والاجتماعية والأدبية. ولا تزال أولياته التطورية إلى الآن ذات مقام في الفلسفة، ومستندا لكثير من الباحثين.
فالتطور الارتقائي حسبما حدده سبنسر هو تحول البسائط المنفصلة وغير المحدودة الأشكال إلى مركبات متصلة أو مؤتلفة محدودة الأشكال، وفي أثناء هذا التحول تتجمع المادة وتنطلق منها القوة. فالكون كله آيل من التشتت المضطرب إلى التكتل المنظم الهادئ.
وما تبسط فيه سبنسر في كتابه لشرح هذا التعريف لا يمكن أن يبسط في بعض هذا الفصل، وإنما لكي يفهم القارئ معنى تحول البسائط المنفصلة إلى مركبات مؤتلفة نلفت نظره إلى التطور الإجمالي الذي حدث في العالم الحيوي «البيولوجي»، ونرجو منه أن يقارن بين الدودة والهرة مثلا؛ فيجد أن الدودة قليلة الأعضاء، فما هي إلا أنبوبة تمر فيها المواد الترابية المائعة، وجدرانها الداخلية تمتص منها المادة المغذية، وهناك بعض أنابيب تحتوي على سوائل بسيطة لهضم الغذاء وتحويله إلى مادة الجسم.
ومع ذلك ليست أجزاء الدودة شديدة الارتباط بعضها ببعض؛ فإذا انقطعت الدودة نصفين استغنى كل نصف عن الآخر، وعاش لنفسه ونما دودة كاملة. وأما الهرة فتشتمل على أجهزة مختلفة الوظائف للهضم والامتصاص والتيار الدموي والتنفس والعصب إلخ، وكلها تعمل متوافقة مؤتلفة لغاية واحدة؛ وهي إحياء الجسم كله، ولكن إذا قطع منها جزء فلا يستطيع أن يعيش مستقلا عن الكل، وإذا كان جوهريا للكل فبقطعه يموت الكل.
والدودة والهرة ترقتا من أصل حيوي مكروبي واحد، كما أن سائر الحيوانات ترقت بعضها من بعض، والإنسان من جملتها؛ فحيث تجد الجسم أكثر أجهزة، والأجهزة أكثر تركبا تعلم أن الحيوان أرقى؛ ولهذا الاعتبار يعد الإنسان أرقى جميع الحيوانات؛ ولا سيما لفرق ظاهر بينه وبين أشباه الإنسان في الدماغ والجهاز العصبي.
كذلك نلفت نظر القارئ إلى العقل الإنساني والعقل الحيواني؛ فيجد أن الأول أكثر قوى من الثاني، وقواه أوسع مدى، ونلفت نظره أيضا إلى العالم الاجتماعي؛ فيجد أن الأمة المتمدنة أكثر أنظمة من القبيلة الهمجية، بل يجد أن الأمة الواحدة اليوم أرقى منها أمس، بتعدد أنظمتها وتشعبها وتفرعها، وتخصص فئاتها بها. فالاقتصاديات التي كانت متاجرة بسيطة، ومقتصرة على المقايضة والنقل بين المنتج والمستهلك، أصبحت تشتمل على عمولة ومتجر وصرافة وضمانة خسارة إلى غير ذلك من التشعبات. وكلما تشعبت الأنظمة وتعددت مشتبكة بعضها ببعض زادت المجتمع تكتلا، وزادت تكتله متانة.
هذا هو معنى التطور الارتقائي كما شرحه سبنسر ومثل عليه في جميع عوالم المادة والحياة والعقل والاجتماع وأدب النفس أيضا. وسنة هذا التطور هي كما بسطها دارون واستخلصها في خمس عبارات: «الانتخاب الطبيعي» كنتيجة «لتنازع البقاء» «وبقاء الأصلح» «والوراثة الطبيعية» «ومصاقبة الحي للبيئة». والارتقاء الأدبي الذي نحن بصدده يتمشى على هذه السنة بالمعنى الذي تقدم بيانه. (1-5) العبقرية تنشئ تجديدا في العناصر
ولا يخفى عليك أن القوة الأدبية هي أهم عامل من عوامل التطور الاجتماعي؛ فلا يخطو الاجتماع خطوة في تطوره الاجتماعي إلا لأن مبدأ جديدا أو نموذجا للحياة جديدا نشأ في العقل الاجتماعي، فأحدث في المجتمع تطورا جديدا، فإن كان هذا المبدأ صالحا لحياة المجتمع ولنموه، وكان يزيده تكتلا ومتانة، ويوثق ارتباط أجزائه بعضها ببعض، تمكن فيه، واضطر النظام الموافق له أن يتعدل ويتنقح بمقتضاه، واضطر الأفراد أن يتعودوا السلوك بموجبه: يضطرهم لذلك بما يغريهم به من جودة فوائده لهم. وإن كان غير صالح لحياة المجتمع، ولا هو مفض إلى نموه أحدث اضطرابا في المجتمع، كما يحدث التسمم المكروبي اضطرابا في الجسم، وبعد حين يتقيؤه جسم المجتمع أو يتغوطه، أو يفرزه ويتطهر منه.
ينشأ المبدأ أو النموذج الجديد في الحياة من العبقرية التي ينجبها المجتمع نفسه في دائرة من دوائره الحيوية، مثال ذلك: أن العبقري الصناعي غوتمرغ اخترع الطباعة؛ فسهل نشر المعارف، واتفق أن الكتاب المقدس كان محجوبا عن الجمهور في ذلك الحين ، ومحصورا في دائرة الإكليروس، وكان البحث في العقيدة الدينية محظورا على العلمانيين، فكان عليهم أن يقبلوا قانون الإيمان كما سنته الكنيسة بلا اعتراض.
وقام حينئذ العبقري المصلح لوتيروس بمبدأ الحرية الدينية، واستخدم نظام النشر الجديد؛ أي الطباعة، لنشر مبدئه، ونشر التوراة والإنجيل؛ فوقع النزاع بين الاستعباد والاستقلال الفكريين، وأخيرا نجح الثاني، فهنا تعاون نظام جديد «الطباعة» مع مبدأ جديد «الحرية الفكرية في الدين»، وقلبا مبدأ «الرق الفكري» وغيرا تعود الناس إياه.
فالعبقرية التي تظهر كل حين بعد آخر تنشئ مبادئ وأنظمة جديدة، وتنزلها إلى ميدان تنازع البقاء. فهي كمحدثات الظواهر العضوية في أجسام الأحياء
1
التي تظهر كل حين بعد آخر كشواذ فيها، فإن توافقت مع البيئة وفاز الحي الذي بدت فيه في معركة تنازع البقاء؛ تسلسلت بالوراثة من جيل إلى جيل، وثبت ذلك النوع الجديد في دائرة الحياة وإلا انقرض.
هكذا العبقريون في العلوم والفنون والآداب - والمصلحون هم عبقريون في أدب النفس - يستنبطون مبادئ أدبية، أو نظريات فلسفية، أو اختراعات مادية، أو أنظمة اجتماعية كلها جديدة، فتنازع الموجود من نوعها البقاء؛ ولهذا تجد دائما في المجتمع مبادئ جديدة تنازع مبادئ أدبية قديمة، وأنظمة جديدة تنازع أنظمة قديمة، وعادات حادثة تنازع تقاليد متقادمة، وكذلك تجد تنافرا بين المبادئ ونماذج الحياة، وبين الأنظمة والعادات. ومهمة عملية التطور هي أن تنفي هذا وتثبت هذاك؛ لكي توفق بين العناصر الثلاثة: المبدأ والنظام والعادة.
فإذن كل تطور اجتماعي إنما هو نتيجة تطور أدبي، أو هو مرافق لتطور أدبي يناسبه، أو هو مستلزم تطورا أدبيا. والعبقريون هم أدوات عملية التطور، والمصلحون منهم هم أداة التطور الأدبي الخاص اللازم للتطور الاجتماعي. (1-6) كيف يصلح المصلحون؟
ولا يخفى عليك أن جانبا كبيرا من الناس يعملون وفق المبادئ والأنظمة القائمة في المجتمع، وينسجون على منوال النماذج التقليدية الموجودة في بيئتهم، فهؤلاء يسيرون في التيار، وقلما يفكرون فيما فيه من أمواج التناقضات المضطربة. وهناك فريق آخر يفكرون أكثر مما يفعلون؛ لأن أمواج التناقضات المضطربة تحرض ذكاءهم للتفكير في الأنظمة والمبادئ ونماذج الحياة المتباينة، واستخراج مبادئ وأنظمة ونماذج متوافقة يستتب بها سير المجتمع في طريق قويم، ويزيد تكتله متانة.
يفكرون في أدبيات قومهم وما يختلط فيها من مبادئ قويمة صالحة لتكتل المجتمع واستتبابه على قاعدة الحق الكافلة سلامه وأمنه، ومن مبادئ باطلة تهدد سلامه ومتانته بالاختلال والتحلل. هؤلاء هم طائفة المفكرين الأدبيين من العبقريين، هم الأفراد القلائل الذين تعشقوا الفضائل والحق، والذين يبتغون أن يرفعوا أدبية قومهم درجة أو درجات. يتعشقون الفضيلة والحق إلى حد أن يضحوا بأنفسهم لأجلها.
هم طائفة المصلحين ككنفوشيوس وبوذه وموسى وسقراط وأرسطو والمسيح وبولس ومحمد إلخ. وكل امرئ صالح النية والعمل إنما هو مصلح في بيئته إلى حد، ولكن هؤلاء الذين ذكرناهم كانوا أكثر تماديا في الإصلاح، وكانت مبادئهم أوسع انتشارا وأشد تأثيرا في حياة المجتمعات الأدبية. (1-7) كيف يحدث الإصلاح؟
الإصلاح هو التطور الأدبي الذي نحن بصدده، فمتى كان في المجتمع عناصر حيوية متباينة أو متناقضة كان وجودها كافيا للدلالة على ضرورة إيجاد مبدأ أو نموذج جديد، أو على إيجاد نظام جديد؛ لأن النظام أو المنهج الذي يتعذر تطبيق السلوك عليه يشعر الجمهور، أو على الأقل المفكرين منهم، بأنه غير صالح ويجب أن يلغى، مثال ذلك: نظام الرق؛ فقد وجد أنه جائر لأنه ليس عدلا ولا حقا أن يكون فريقان من ذرية آدم الواحد عبدا والآخر سيدا.
ناهيك عن أنه غير صالح لمتانة المجتمع ورقيه؛ فألغي. وفي بعض الأحوال تكون العادة مخالفة للمبدأ، فتتكيف لكي توافق المبدأ، كما هو حادث الآن في مسألة السفور. وأحيانا يحدث في الحياة الاجتماعية اضطراب بسبب العادات والمبادئ، فيتنازع الفريقان إلى أن تتغير العادات حسب المبادئ، أو المبادئ حسب العادات.
مثال ذلك: الرفق بالحيوانات. إلى أي حد يجب الرفق بها؟ فقد يبالغ البعض بهذا الرفق إلى حد أن يمنع تشريحها حية لفائدة العلم، أو إلى حد أن يمنع صيدها، أو إلى حد أن يمنع أكلها. وقد يعارض فريق آخر بكل ذلك؛ باعتبار أن الحيوانات ليست من جنس الإنسان لكي يعمها المبدأ الأدبي ، وتشترك في نعمه مع الإنسان، بل هي مخلوقة لنفع الإنسان. فوظيفة المصلح أن يجد المبدأ الذي يوجب الرفق بالحيوان لا رفقا بالحيوان نفسه، بل رفقا بشعور الإنسان نفسه تجاه الحيوان.
مثال آخر: معاملة الأطفال. إلى أي حد يجوز تصرف الوالدين بأولادهم، ويجب منعهم من هذا التصرف؟ متى يجوز للأب أن يقسو على ابنه؟ وفي أي سن يجوز أن يشتغل الغلام؟ وإلى أي حد يجب أن يتعلم إجباريا؟
كل هذه المسائل وأمثالها تحدث اضطرابا في حياة المجتمع؛ لوجود التباين بين المبادئ والأنظمة. والتطور المنشود يوفق بين النظام والمبدأ والعادة. (2) تاريخ التطورات الأدبية القومية (2-1) وحدة المبدأ الأدبي
قد يتعذر تفصيل التطورات الأدبية التي تقلب عليها المجتمع الإنساني منذ تكونه متكتلا إلى اليوم: أولا؛ لأن المبادئ الأدبية المتطورة إنما هي بضعة سلاسل ممتدة من بدء تكتل المجتمع إلى الآن جنبا إلى جنب، ومتفرعة في سياق تسلسلها، وفي كثير من المواقع مشتبكة بعضها ببعض، وبعض فروعها مندمج ببعض بحيث يتعذر استقراؤها واستقصاء أصولها، وثانيا: لأن المبادئ الأدبية مهما أمكن تمييز بعضها عن بعض، فإنها ترجع إلى مبدأ رئيسي واحد، ربما تعذر التعبير عنه لاتساع معناه وتفرعه إلى معان مختلفة، بحسب اختلاف الظواهر الاجتماعية التي يظهر فيها.
لقد اتضح لك في الفصول المتقدمة أن المبدأ الأدبي الرئيسي، أو المثل الأعلى في الأدبية هو النموذج الذي إذا ترسمه الفرد في سلوكه، ونسج على منواله، كانت أفعاله متفقة حتما مع سائر أفعال الآخرين الآيلة إلى توثيق عرى المجتمع ونجاحه وتصاعده في سلم الرقي.
وكذلك علمت أن الفرد الأدبي هو الشخص الذي يعتقد ويحس أن كيانه متوقف على كونه جزءا من كل المجتمع، وأنه لذلك هو ذو شخصية أخرى اجتماعية غير ذاتيته الفردية، وشخصيته هذه أعلى من ذاتيته، وأنه لكونه كذلك يتطبع بذلك المثل الأعلى، ويترسم نموذجه في سلوكه لكي تتفق أفعاله مع أفعال الآخرين الآيلة لرقي المجتمع.
فإذا تمثلت لك هاتان الحقيقتان، سهل عليك أن تتصور معنى المبدأ الأدبي الرئيسي المنبث في الجسم الاجتماعي كانبثاث المبدأ الحيوي «البروتوبلاسم» في الجسم الحيواني، والذي هو نواة كل شخصية فيه كنواة «البروتوبلاسم» في كل خلية حيوانية، فإذا تمثل لك معنى المبدأ الرئيسي هكذا، فقلما يهمك اسمه أو اللفظ المعبر عنه، فلك أن تسميه «الجودة» - ولكنها لفظة مبهمة ومطلقة المعنى جدا؛ فقد تضللك - ولك أن تسميه «الفضيلة».
وهذه وإن كانت تطلق على مبادئ أدبية متنوعة مختلفة، فهي محدودة المعنى قد لا تتناول في بعض الأحوال معنى المبدأ الأدبي الأعلى كما فهمته آنفا. وعندي أنه إذا عبرنا عنه بلفظة «المحبة» يقل الالتباس، أو ينتفي تماما في التعبير عنه في مختلف المواقف؛ لأن المحبة مركبة من جميع الفضائل كضياء الشمس المركب من جميع أشعة الألوان، فالمحب يعدل ويصدق ويشفق ويساعد ويضحي إلخ، وإذا بحثت عن القوة التي تربط الفرد بالمجتمع وجدتها المحبة بعينها؛ فلذلك إذا بحثنا عن المثل الأعلى في الأدبية، أو المبدأ الأدبي الرئيسي الذي يصوغ نموذج الحياة الاجتماعية وجدناه في «المحبة».
ولذلك نتتبع تقلبات التطورات الأدبية ونحن ندور في بحثنا حول محور المحبة وما يتفرع منها من المبادئ الأدبية. (2-2) تطور المحبة وارتقاؤها
نجد فعل المحبة الأول في تكوين الحويصلة الاجتماعية «العائلة»؛ فالمحبة العائلية ناشئة من جرثومتين مقترنتين؛ الأولى: حنو الأمومة - الأقدم عهدا من حنو الأبوة - والثانية: الحب الزوجي، ثم تفرعت إلى التعاطف بين أعضاء الأسرة، والصداقة بين أفراد العشيرة، فالقبيلة، فالقوم، فالأمة. ولما صارت سجية اجتماعية صارت عطفا من فرد على مجموع أفراد القوم، ولما تمثل هذا المجموع بجسم اجتماعي صار حب الفرد لهذا الجسم الاجتماعي يسمى «حب الوطن».
ولما أصبح هذا الحب الاجتماعي؛ أي حب المجتمع، مبدأ واحدا بعينه رئيسيا لكل قوم، وكان هو إياه بعينه في جميع الأقوام؛ صار التعاطف بين جميع الأقوام نتيجة طبيعية. وهو ما يعبر عنه ب «الإنسانية» و«حب الإنسانية».
هذا مجمل تطور المبدأ الرئيسي «المحبة» في تاريخ الاجتماع، ولكنه وهو متدرج اعتورته عدة تطورات جانبية وتقهقرية كانت تفضي إلى تفرع مبادئ أدبية مختلفة تستلزم نشوء أنظمة متنوعة أيضا كما ترى فيما يلي: (2-3) تحول المحبة إلى احترام
أول هذه التطورات هو أن جانبا من الحب البنوي، الذي هو رد فعل الحب الوالدي، تكيف أو تزيا بزي «احترام» الابن للأبوين، أو لأعظمهما سلطة. وهذا الاحترام هو رد فعل لهيبة هذه السلطة، وكلما تباعد هذا التفاعل في السلالة ازداد تزيي المحبة بالاحترام. فاحترام الحفيد للجد أكثر من احترام الابن للأب، ولكن حبه أقل. وعلى هذا النحو يجتمع احترام أفراد الأسرة في زعيمها، ثم في زعيم العشيرة إلخ، كما أنه كلما تقادم عهد الجد أو الزعيم؛ أي كلما بعد التفاعل بين الجانبين، عظم مقام الجد الزعيم إلى أن يصبح نصف إله، وكلما تقادم عهده عظمت ألوهيته حتى يصبح أخيرا إلها كاملا. (2-4) تأليه الزعيم
فترى أن أول فرع تفرع من المحبة في أثناء تطورها كان الزعامة، ومن هذه في أول عهدها العريق في القدمية نشأ نظام الألوهية أو التأليه، فكان الطور الأول من الألوهية طور إنصاف الآلهة، أو زعماء القبيلة الأبطال، ثم تلا دهره دهر الآلهة الكاملين، وهم نخبة أولئك الأنصاف. وقد صقل تناقل الروايات أساطيرهم، فجعلها مفعمة بالخوارق التي تليق بعظمة الألوهية وقدرتها، ثم تلا ذلك الدهر دهرنا الحالي الذي توحدت فيه الآلهة، أو بالأحرى استخلص منها العقل البشري المتفلسف فيها إلها واحدا أعظم منها جميعا.
وربما كان موسى أول من قال بالإله الواحد الأعظم، ولكنه لم ينف وجود الآلهة الآخرين نفيا باتا، بل تصورهم ضعفاء جدا بالنسبة إلى يهوه، ثم جعلت فكرة تعدد الآلهة تضعف رويدا إلى أن بقي في العقل الإنساني إله واحد فقط لا يوصف، مع أنه كان لعهد موسى يوصف بأنه رب الجنود ورب الأرباب، وبأنه يغضب ويندم إلخ. (2-5) نشوء الاشتراع
وفيما كان نظام الألوهية يتطور هكذا، كانت المحبة التي هي نواته تتزيا بزي الاحترام حتى صار الاحترام تعبدا وتقى. فالتقوى إنما هي محبة متطورة، هي مبدأ أدبي أعلى، هي نموذج سام للحياة. ونشوء هذا المبدأ استلزم وجود نظام اشتراع الوصايا الدينية وما يقارنها من العقاب والثواب الدنيويين والأخرويين. وزبدة هذه الشرائع في وصايا موسى العشر التي أولها إيجاب عبادة الله، وباقيها العدل في معاملة الغير. وقد ردها جميعها المسيح إلى أصلها بقوله: «حب الله وحب قريبك كنفسك.» فما خفي عليه أن أس الفضائل المحبة.
هنا يتضح للقارئ أن رئيسيات الفضائل التي نص عليها في وصايا موسى العشر: المحافظة على الحياة والصدق والأمانة والعفة والعدل، كلها مشتقة عن المحبة، أو هي موجودة فيها. (2-6) نشوء نظام الحكم
وفيما كان نظام الألوهية وما استلزمه من نظام الاشتراع بمقتضى مبدأ التقوى يتطور كما علمت، كان نظام الحكم إلى جنبه ينمو ويتطور أيضا.
ولقد فهمت فيما تقدم أن أول سلطة ظهرت في المجتمع كانت سلطة الأب في العائلة؛ لأنه لم يكن بد من انحصار قوة العائلة في إرادة واحدة، لكي تستطيع هذه الإرادة أن تدير أفعال أفراد العائلة بأسلوب يجعلها متوافقة لمصلحة المجموع، فانحصرت قوة أفراد العائلة في إرادة الأب - وأحيانا في إرادة الأم
2 - فكانت له السيطرة على شئون الأولاد ثم الأحفاد ما دام حيا، وبعد موته يتولاها كبير الأسرة.
وهكذا كلما عظمت الأسرة عظمت سلطة كبيرها بنسبة قوة الأسرة نفسها، ومتى تضخمت الأسرة إلى عشيرة فقبيلة صار كبيرها زعيما. وقد علمت أنه كلما بعدت النسبة بين الزعيم والأفراد قلت محبة الأفراد للزعيم، وكثر احترامهم له، أو بالأحرى تحولت المحبة إلى احترام، كما أن عطف الزعيم يقل وهيبة سلطته تعظم.
على هذا النحو نشأت سلطة الزعيم وتطورت وتكيفت إلى أن أصبح الزعيم أو شيخ القبيلة ملكا واسع السلطة عظيم النفوذ. وإذا كانت قوة الجماعة متجمعة بحكم النظام الاجتماعي الطبيعي في إرادة الزعيم أو الشيخ أو الملك كما علمت، فمتى عظمت قوة الجماعة الممثلة في إرادته ظهرت إرادته لجانب من أفراد القوم مستبدة. ولكي يستطيع هذا الزعيم أو الملك أن يحافظ على سلطته، يجب أن يحافظ على وحدة جماعته، وتلافي فوضاها التي تمزقها؛ فلذلك يضطر أن يستبد، ومهما كان حكيما فلا بد أن تتدخل شهواته في سلوكه، فتلون استبداده بألوان الظلم والجور. (2-7) نشوء العدل والرحمة
كان النظام اللاهوتي والسياسي دهرا طويلا متحدين أو مؤتلفين؛ فكان الكهنة حكاما؛ ولذلك كانت الشرائع السياسية هي نفس الشرائع الدينية تقريبا، فكانت سلطة الحكم تتأيد بتهديد العقابين الدنيوي والأخروي، وعلى الخصوص بالوعد بالثواب الأخروي. وكان المبدأ الرئيسي الذي تنتظم فيه حلقات الشرائع هو مخافة الله - بدل محبة الله - وطاعة وصاياه، ولكي يبقى الجسم الاجتماعي متكتلا لم يكن بد من أن تكون قاعدة الوصايا الإلهية العدل، ولكن لم يكن العدل نفسه المبدأ الأدبي الذي يبتغيه الفرد، بل كانت طاعة الشريعة «العادلة» هي بغية الفرد؛ لأن هذه الطاعة تقي الفرد من العقاب وتمنيه بالثواب.
نشأ العدل في الشريعة المزدوجة - الدينية والسياسية - كوسيلة أو واسطة لحفظ كيان المجتمع، وتوطيد سلطة الحكم التي تدبر أفعاله وشئونه؛ لأن الاختبار الطويل أثبت أن العدل أساس الملك، والحق أفضل ضامن للسلم. كان العدل واسطة لا غاية، ولكن كلما اتسعت معرفة النوع البشري وعظمت حكمته كان يفهم هذه الحقيقة، ويعظم معنى العدل في يقينه إلى أن صار يتطبع به، وإلى أن صار العدل سجية فيه، فأصبح العدل غاية لا واسطة.
وقد علمت في فصل الفضائل أن الرحمة والشفقة مشتقتان من العدل، أو أن سجية العدل ترقت في الإنسان إلى أن صارت رحمة ورأفة ومسامحة في بعض الأحوال؛ ولذلك كان هذا التطور في المبدأ سببا للتطور في الشريعة. كانت شريعة موسى العدل؛ أي «عين بعين وسن بسن»، فجاءت شريعة المسيح؛ أي التسامح «من لطمك على خدك الأيمن فحول له الأيسر»، أي سامحه ولا تنتقم منه.
وفي الشرائع السياسية الآن كثير من عناصر الرحمة والرأفة. (2-8) انفصال نظامي الدين والسياسة
علمت في بدء هذا الفصل أن المبدأ الأدبي هو الذي يكفل تكتل المجتمع ونموه ورقيه؛ فإذا ارتقى المجتمع إلى حد أن لا يعود المبدأ كافيا لرقيه، اقتضى أن يتغير المبدأ. فلما ارتقى المجتمع في العلم والصناعة، ونضجت الحكمة في العقل البشري، وصار الإنسان يدرك قيمة الشخصية في كيان المجتمع؛ أصبح النظام المزدوج الديني السياسي في كثير من فروعه غير صالح لحياة المجتمع: أولا: لتحجر تقاليده القديمة وتصلبها بحيث لم تعد لائقة للجديد. وثانيا: لأن النظام القديم كان مضيقا دائرة الحرية، ولا سيما الحرية السياسية. والحكمة الناضجة لا تتفق مع تضيق دائرة الحرية. وثالثا: لأن الحكم الفردي المطلق، الذي هو هيكل ذلك النظام، أصبح متقلقلا وهو على مناكب النفوس الحرة المنتقضة تحت عبء الاستبداد. فلذلك انفصل النظامان الديني والسياسي، واستقل ثانيهما بالحكم الزمني، فكان انفراد النظام السياسي مخليا الطريق لتقدم الديموقراطية التي نبتت منذ زمن طويل، ولكنها كانت تختنق بين أشواك الاستبداد.
كان المبدأ الأدبي الرئيسي في عهد ذلك النظام القديم متحجرا، كذلك النظام كان نظرية إيمانية يجب أن تقبل بلا مناقشة ولا جدال؛ لأنها صادرة من سلطة سماوية، ولكن منذ جعل النظام السياسي يحاول الإفلات من النظام الديني صار المبدأ الأدبي الأعلى نظرية عقلية يسلم العقل بها اقتناعا بأنها صالحة لحياة المجتمع ونموه ونجاحه؛ ولهذا صارت يرغب فيها لذاتها، كذلك الحقيقة العلمية والفلسفية كانت بنت الوحي فأصبحت بنت البحث. (2-9) نشوء الديموقراطية
بقيت سلطة الزعيم مسيطرة وعامة مدة ما كان القوم ينظرون إلى الزعيم أو الشيخ أو الملك كشخص ممتاز بتسلسله من جده نصف الإله، أو الإله الكامل، أو أجداده الآلهة، أو أنه يمثل الإله على الأرض، فكان القوم ينظرون إلى القوة التي في يده كأنها مستمدة من الإله أو الآلهة، ولكن لما نضجت المعرفة البشرية، وصار القوم يشعرون أن قوة الزعيم أو الملك إنما هي مستمدة من قوتهم، بدليل أنهم إذا تألبوا عليه استطاعوا خلعه، صاروا ينظرون إلى السلطة الحكومية كشبح ممثل مجموع قوة الجمهور؛ فيمكن أن يظهر هذا الشبح في شكل ملك يرث الملك، أو حاكم ينتخبه الشعب، أو قائد حربي يقود الشعب في حرب ينقذه بها من عدوان أعدائه، فمنذ طفق القوم أو الشعب يخلع ملوكا وينصب ملوكا نبتت جرثومة الديموقراطية.
وقد رأينا نبتها في عهد حكم القضاة الإسرائيليين، وفي بعض أدوار تاريخ العرب، وفي أثينا القديمة وفي رومية أختها، ولكنها بقيت ضعيفة عدة قرون؛ لأن الحكم الفردي ما زال مرافقا لها يخنقها ، وما ترعرعت إلا في أول القرن الماضي حين استطاعت قلب سلطة العرش الإنكليزي في الولايات المتحدة الأميركية وقلب عرش فرنسا، وما زالت تترعرع إلى الآن وتقلب العروش حتى لم يبق منها إلا أقلها. (2-10) المساواة
ففي عهد الحكم الفردي المطلق كان المبدأ الرئيسي أن الناس متفاوتون في القيمة؛ لأن فريقا منهم من سلالات آلهة أو نواب آلهة، فما هم والعامة بمتساوين في الحقوق والواجبات؛ ولذلك كانت الشريعة تسري على العامة فقط. وأما النبلاء فهم فوق الشريعة، أو أن شريعة النبلاء غير شريعة العامة. وهكذا كان العدل مشوها ومثلوما، ولكن بعد تلاشي الحكم الفردي المطلق ونهوض الحكم الشعبي أو الجمهوري؛ فقد أصبح المبدأ الرئيسي «المساواة»، أو هو العدل المطلق من غير اعتبار للفئات والطبقات. كذلك كان الحق السياسي في العهد القديم محصورا في النبلاء؛ لأنهم من سلالة الآلهة أو كالملوك نواب الآلهة، فلما أخذ الحكم الفردي يتلاشى صار عامة الشعب يتقاسمون الحق السياسي لقاء ما يمدون السلطة الحاكمة من قوتهم. (2-11) تحرير المرأة
من التطورات الناشئة التي أخذت دورا مهما في تاريخ المدنية، فكان لها شأن خطير في التطور الأدبي أيضا تطور منزلة المرأة في المجتمع؛ فقد كانت المرأة في دور من أدوار الاجتماعية الأولى سيدة الأسرة أو العشيرة وزعيمتها بالفعل. كانت كذلك حين كان الزوج ينضم إلى عشيرة زوجته مدة غير معينة، حتى إذا هجرها بقي أولاده مع أمهم أولادا للعشيرة يكتنون بكنيتها، وبطبيعة الحال تكون الكنية كنية الأم وسيدة العشيرة أم الأمهات. فهذا الدور يسمى دور الأمومة، ولم يزل منه أثر إلى اليوم في بعض القبائل الأميركية،
3
ثم لما حل دور الأبوة
4
محل دور الأمومة، وصارت الزعامة والسلطة للأب فالجد؛ بدأ شأن المرأة يضعف لتقييدها بواجبات العائلة إلى أن أصبحت منزلتها أخيرا كمنزلة العبدة، وانقضت أدهار طويلة وشأن المرأة يرتفع فيها تارة، وينخفض أخرى، إلى أن بلغت إلى منزلتها المساوية لمنزلة الرجل في جميع البلاد المتمدنة.
بنسبة ارتفاع منزلة المرأة أو انحطاطها كانت العقيدة بجوهرها تتطور؛ ففي بعض أدوار انحطاط منزلتها كان يعتقد أن نفسها دون نفس الإنسان قيمة، وعقلها بين عقل الإنسان والحيوان، حتى في عصور العلم الأخيرة كان فريق من العلماء يحاولون إثبات أن دماغ المرأة يختلف عن دماغ الرجل، وأن مراكزها العقلية أضعف من مراكزه. فتطور العقيدة في قيمة شخصية المرأة كان يقضي بتطور حقوقها وواجباتها ومنزلتها وحريتها. (3) تاريخ التطورات الأدبية الأممية
فيما تقدم قصرنا البحث في التطور الأدبي على ما يحدث منه في دائرة القوم الواحد، أو الأمة الواحدة، ولكن هناك تطورا أدبيا آخر يحدث في دائرة أوسع؛ دائرة الإنسانية التي تشمل عديدا من الأمم أو جميع أمم النوع البشري، فلا ندحة من إعطائه حقه من البحث. (3-1) الحرب
علمت آنفا أن المبدأ الرئيسي الذي هو روح حياة القبيلة والأمة، ومنه تتفرع سائر المبادئ الأدبية، وبه يحيا المجتمع وينمو ويرقى؛ إنما هو المحبة. فالمحبة لازمة لربط أجزاء المجتمع بعضها ببعض كلزوم الجاذبية، أو الألفة الكيماوية؛ لربط عناصر الجسم بعضها ببعض، ولكن المحبة وحدها لا تكفي لحفظ كيان المجتمع، كما أن الجاذبية لا تكفي وحدها لحفظ كيان المركبات، بل لا بد من الدافعية أيضا لرد المركبات الغريبة عنها.
هكذا لا بد للقبيلة أو أي جماعة من نقيض المحبة أو البغض لصد القبائل أو الجماعات الأخرى ما دامت مباينة لها في الدم والأنظمة والعادات؛ لئلا تهتضمها أو تنازعها بقاءها؛ فبقوة البغض هذه كانت القبائل تستطيع أن تدافع عن كيانها ضد منازعاتها بقاءها؛ لذلك كان شبوب الحروب بين القبائل والأمم أمرا طبيعيا لا ندحة منه، ولذلك كانت الشجاعة الحربية فضيلة وكانت الجندية نظاما مقدسا، وكذلك كان السبي واغتنام الغنائم والاسترقاق حلالا.
فمن ذلك ترى أن العدل ينحصر في دائرة القبيلة أو الأمة ولا يتجاوزها إلى سواها، وكان حفظ وصايا موسى العشر محصورا ضمن دائرة الشعب الإسرائيلي، وخارج هذه الدائرة يجوز للإسرائيلي أن يقتل وينهب. هكذا كان نظام جميع الأمم في عهد موسى وقبله يدفعون إتاوات للأعيان، ويتجندون لهم عندما ينفخ بوق الحرب.
ولما كان نظام الرق هذا وافر النفع الاقتصادي للأسياد صار في بعض الأزمنة حرفة رجال الحرب، فكانوا يغزون القبائل المنحطة، ويأسرون أحداثها ويخطفونهم؛ ليبيعوهم عبيدا لمن ينتفعون بعملهم. ومن ثم لعبت النخاسة دورا طويلا، ولا سيما في القرنين السابقين؛ إذ كان النخاسون يصطادون الزنوج من غربي أفريقيا ويبيعونهم في أميركا.
ولا يخفى عليك أن النخاسة على هذا النحو إنما هي شذوذ شرير في نظام الرق؛ لأن الرق الناجم عن الحرب انتهى باندماج الأرقاء مع مسترقيهم في أمة واحدة، ولكن النخاسة كانت استرقاقا مصطنعا مفتعلا في ظهر المدنية، فظهرت جريمة شنيعة. وقد شعر أهل الجيل الماضي بفظاعتها فقاوموها حتى ألغوها وحرموها باتفاقات دولية عامة. (3-2) الإنسانية العامة الشاملة
كان الأمر كذلك لتباين الأمم والأقوام والقبائل في الأخلاق والعادات والتقاليد والعقائد، وسبب هذا التباين قلة الاتصال فيما بينها لأسباب مختلفة: منها صعوبته، ومنها شدة الحذر من أن يكون ذريعة للغارات، ولكن على تمادي الزمان سهل الاتصال بين الأمم تدريجا، وتعددت المعاملات فيما بينها، وقل ذلك الحذر؛ فصار اتصالها يسهل اختلاطها. وهذا يسهل اقتباس بعضها تقاليد وعادات البعض.
وعلى التمادي تقاربت في المبادئ والأخلاق، ولا سيما في عصرنا الحاضر، فكان هذا التقارب قاضيا بتوحيد المبادئ واشتراك الأمم في المبدأ الرئيسي، وتعميم الشرائع فيما بينها. وهكذا صار يتلاشى البغض بين الأمم وتقوى المحبة؛ استعدادا لنشوء جسم اجتماعي أعظم وأعم تشترك جميع الأمم فيه كأجزاء له، حتى إذا تكون هذا الجسم الاجتماعي الأعم حل «حب الإنسانية» محل «حب الوطن».
فالقوانين الدولية العامة والمعاهدات الدولية والاتحادات الدولية؛ كالبوسطة، والمؤتمرات الأممية، والعلائق المالية والتجارية إلى غير ذلك من اشتباك مصالح الأمم واتفاقاتها، كل هذا يكون تدريجيا، ولو ببطء، ذلك الجسم الاجتماعي العام الذي تكون «الإنسانية» مبدأه الرئيسي الأعلى. وتحت لفظ الإنسانية تنطوي كل الفضائل الأممية إذا شئت: الحرية الأممية، والمساواة الدولية، والإخاء القومي، بحيث يكون لجميع الأمم ميزان واحد، وشكل حق واحد. (3-3) الاسترقاق والإقطاع
كان من نتائج البغض الطبيعي القديم بين القبائل ما كان يتلافى هذا البغض نفسه، فكأنه كان قاتلا لنفسه أو محولا نفسه إلى تواد أممي؛ فقد علمت أن الحروب بين القبائل كانت أمرا طبيعيا لا ندحة منه لكيانها. ومن نتائج الحرب أن القبيلة الغالبة تفني القبيلة المغلوبة تنكيلا لكي تحل محلها، وتغنم مقتنياتها.
هكذا كانت نتيجة الحرب في أدوار الهمجية الأولى، ثم لما ترقت العقلية البشرية اكتشفت أمرا أفضل من التنكيل بالأعداء المغلوبين كلهم؛ وهو أن يسبي الغالبون نساء المغلوبين كأنهن من ضمن الغنائم، ثم صاروا يستبقون أولادهن أيضا فيربونهم كعبيد لهم، وينتفعون بتشغيلهم، ثم صاروا يعفون عن الرجال أيضا ويأسرونهم ويستعبدونهم. فالرق حل محل التنكيل بالأعداء المكسورين، وكان من نتائج الاسترقاق اختلاط الغالبين والمغلوبين، واندماجهم على التمادي كشعب واحد في الدم والعادات والأخلاق.
وبعد أن يكون البغض علة علاقة عدائية بين القومين يصبح الوئام علاقة ودادية بينهما. ترى شاهدا واضحا على هذا التطور العجيب في القرون الوسطى حين كان الرق يتحول إلى نظام اقتطاع الأراضي؛ فقد تحول العبيد إلى مزارعين بالمحاصة، ثم تحول هؤلاء المزارعون إلى ملاك أراض. (3-4) ارتقاء الروحانية
هذا مجمل أهم التطورات الرئيسية التي حدثت في تاريخ المجتمع الإنساني، ولا يخفى أن كل تطور اجتماعي إنما هو نتيجة تفاعلات عقلية داخلية وبيئية خارجية؛ ولذلك لا بد أن يصحبه تطور عقلي وتطور جسماني أيضا. والتطور الروحاني إنما هو نتيجة تفاعل العقلية بالنوابض الجسمانية تحت تأثير العوامل الخارجية. إذن هو مصاحب حتما لكل تطور اجتماعي، ففي غضون تلك التطورات التي تقلبت عليها الأنظمة الاجتماعية والمبادئ الأدبية كانت الروحانية البشرية تتطور أيضا وتترقى، متدرجة من القسوة الوحشية والفظاظة الهمجية، إلى المصادقة فالمؤاخاة ضمن القوم الواحد، إلى المسالمة بين الأقوام، إلى المعاملة العادلة بين الإنسان والإنسان من أي سلالة كان، إلى الرفق والرحمة بكل إنسان، إلى الإنسانية العامة المطلقة.
فبين نفسية الإنسان الهمجي القديم الذي كان يستحل دم إنسان آخر من غير قبيلته ومقتناه وعرضه واسترقاق ذريته، ويعد هذه الاستباحة شريعة محترمة فيها ضمانة لبقاء هيئات عشيرته ونفسه، وبين روحانية إنسان اليوم الذي يعتقد أن جميع الناس على اختلاف دمائهم وألوانهم، وتفاوتهم في العقلية والرقي ، هم إخوة متساوون في الحقوق والواجبات والحرية، والذي يتألم لألم أمة إذا نكبت نكبة مهما كانت بعيدة عنه، والذي يضحي بكثير من سروره لأجل خدمة الإنسانية العامة إلخ. بين تلك النفسية الوحشية وهذه الروحانية الصافية فرق عظيم كالفرق بين الثريا والثرى.
فهذا الرقي العظيم الذي تدرجت فيه روحانية الجنس البشري المتمدن إلى أن بلغ إلى هذه الدرجة من الإنسانية التي هي المثل الأعلى، كان دائما مصاحبا للرقي الاجتماعي، وفي كثير من الأحوال قائدا له. وكان لهذه الروحانية تأثير عظيم في ترقية المجتمع الإنساني العام، وربما كانت الآن أعظم فعلا منها في كل زمان.
فمقاومة النخاسة وتحريمها، والرفق بالحيوان، وملاجئ الضعفاء، والمستشفيات الخيرية، ومعاهد العلم التي يتبرع بها الخيرون، والإسعاف المجاني العاجل، والصليب الأحمر والهلال الأحمر والمياتم، إلى غير ذلك مما لا يحصى من المبرات المجانية التي يتبرع بها ذوو تلك الروحانية الملائكية؛ إنما هي نماذج ذلك المبدأ الأدبي الأسمى «الإنسانية».
ففي أثناء ارتقاء المبدأ الأدبي واقترابه إلى مثله الأعلى كانت نفسانية الجنس البشري نفسها تترقى أيضا، كما أن العقلية الإنسانية كانت تترقى مع ترقي الاجتماعية. ومجمل الارتقاء الإنساني إنما هو حاصل تفاعل هذه العناصر الأربعة: الأدبية والروحانية والعقلية والاجتماعية متساوقة. وفي يقيني أن الروحانية في مقدمتها لأنها مادة الجمال الذي هو غرض الطبيعة الأقصى. (3-5) اعتراض على تأثير الروحانية ورده
وهنا قد يلوح في خاطر القارئ المدقق ما لاح في خاطر بعض الباحثين الأدبيين؛ وهو: إذا كان المبدأ الأدبي يتطور ويترقى بمقتضى حاجة المجتمع إلى العوامل التي تحفظ كيانه، فإذا تغير ظرف من ظروف الاجتماع اقتضى تغير المبدأ الأدبي وتغير العادة؛ لكي تتوافق عناصر الحياة الاجتماعية الثلاثة! إذا كان الأمر كذلك؛ فيكون الفضل في تطور الأدبية أو المبدأ الأدبي للظروف البيئية وغيرها، ولا شأن للروحانية الأدبية في هذا التطور، بل إن هذه الروحانية هي نتيجة ذلك التطور.
وقد مثل بعضهم على هذه النظرية بمسألة إلغاء الرق والنخاسة، فقال: إن هذا الإلغاء حدث بعد الاقتناع أن تحرير العبيد أفيد للمجتمع من الرق ، في هذا العصر الذي اتسع فيه مجال الصناعة كل الاتساع، وأصبحت الحاجة إلى العمال أشد منها في كل زمان؛ فالعامل الحر يعمل أكثر جدا مما يعمله العبد، ناهيك عن أن العبد المقيد بسيده لا يذهب إلى المعمل، كذلك يقال: إن تحرير المرأة اقتضته الحالة الاقتصادية أيضا على هذا النحو، فلم يحدث بتأثير الروحانية المتعشقة الإنسانية.
ربما كان هذا التعليل صحيحا فلا ينفي تأثير الروحانية في تقرير هذا العمل الإنساني: إلغاء الرق وتحرير المرأة؛ لأنه إذا لم تتأثر النفس البشرية الراقية من الحيف الواقع على فريق من البشر، ولا تتألم لألم هذا الفريق، فلا يحدث هذا الاقتناع المشار إليه آنفا؛ لأن المنتفعين من الرق لا يقتنعون بسبب كهذا لإلغائه قبل أن يقمعوا شهوة طمعهم بعرق جبين العبيد، ولا يقمعون هذه الشهوة إلا إذا كانت روحانيتهم قد ارتقت إلى حد تعشق الإنسانية، وصار خير المجتمع غرضهم الأقصى.
ثم إن الذين قاموا بمهمة إلغاء النخاسة لم يقوموا بها إلا بدافع الإنسانية، وإذا كانوا قد حاولوا أن يبرهنوا للقوم أن الإلغاء نافع للمجتمع فمن قبيل الدعاية.
فحيث تقتضي الظروف الاجتماعية تغيير مبدأ أدبي، فإذا كان المبدأ الجديد المطلوب إنسانيا انبرت الروحانية، فالذي أيد إلغاء الرق وتحرير المرأة ليس كونهما نافعين للمجتمع من الوجهة الاقتصادية؛ بل لأن الروحانية الإنسانية التي نحن بصددها زكت هذا التعليل ووافقت عليه.
فالروحانية الإنسانية لازمة لترقية المبدأ الأدبي. ولكي يثبت المبدأ الأدبي الجديد لا بد من ابتغائه لنفسه لا كواسطة، وإلا فابتغاؤه كواسطة يدل على مرض الروحانية الأدبية، وبالتالي تتغلب الشهوات والنوابض الجسدية على الروحانية الأدبية، وتقتل فيها المبدأ الأدبي الأعلى. (3-6) الدعاية للمبدأ الأدبي
لم يقتصر الرقي الأدبي على إدراك المبدأ الأعلى وتشبع النفس الصالحة به، بل شمل أيضا الدعاية له، وقد علمت أن الحكمة من الفضائل الرئيسية، ووظيفتها إرسال أشعة الروح الأدبية على السلوك كي يجري في المجرى القويم على هدى. ولا تتشبع النفس بالروح الأدبية إلا عن يد المعرفة، وما لطف أخلاق الناس ودمث طباعهم إلا العلم، وما أشبع نفوس الناس بالعطف وحب الإنسانية إلا المعرفة، وما ترفعت عن الدنايا والخسائس والمخازي والرذائل إلا النفوس المتشربة بالمعرفة والعلم، وما فعلته الشرائع الدينية والسياسية في تدميث الأخلاق وتهذيب النفوس في قرون وأدهار فعلت المعارف أعظم منه في عصور قصيرة.
لذلك كان من خصائص المبدأ الأدبي الذي يجعله الإنسان الراقي نموذجا لحياته، الدعاية لهذا المبدأ ونشره؛ فالدعاية نفسها غاية أدبية تراد لذاتها لا كواسطة لغاية.
كانت المعرفة في أزمان التاريخ القديمة احتكارا لكهنة الدين الذين كانوا رجال السياسة أيضا، وكان اللاهوت والسياسة مندمجين معا، وكان العامة محرومين من الاطلاع على أسرارهما؛ ولهذا كان جانب من علوم الكهنة سحرا وتدجيلا على العامة المغفلين. هكذا كانت المعرفة أسيرة رجال الدين والسياسة عند المصريين القدماء ومعاصريهم البابليين والفرس والماديين، حتى عند الإسرائيليين كانت النبوءات ألغازا.
وعند اليونان والرومان كانت الصراحة أسرارا مقصورة على الكهنة والكاهنات، وفي القرون الوسطى كان اللاهوت احتكارا للإكليروس، والعلم والفلسفة مقيدين بالكنيسة؛ فما تجيزه الكنيسة يجوز، وما تحرمه تعاقب من يقول به أو تضطهده كما اضطهدت غاليلو، وكما اضطهد المسيح وسقراط من قبله.
وهكذا كان تقييد المعرفة وحبسها عن العامة من أسباب بطء الرقي الأدبي، ولكن كما ضعفت السلطة الفردية باستقواء الديموقراطية، واتسعت دائرة حرية الفرد، انطلقت المعرفة من عقالها، وصارت فضيلة مباحة لكل فرد. والآن صار نشرها مبدأ أدبيا أسمى يرام غاية لا واسطة لمن يرومه، فمؤلفو الكتب والوعاظ والخطباء والكتبة على اختلاف أنواعهم إنما هم دعاة المبدأ الأدبي، ومعاهد العلم وأنديته التي ينشئها أهل الفضل من الأميركان وغيرهم في الشرقين وفي بلادهم إنما هي دعاية لنشر المعرفة مجانا؛ بغية ترقية الفضيلة في الجنس البشري. ولعل المسيح أول من قال بالدعاية للفضيلة؛ إذ قال لتلاميذه: «اذهبوا إلى جميع العالم واكرزوا.»
ولا يخفى عليك أن استمرار نشر المعرفة على هذا النحو في جميع أنحاء المعمور يرقي الأمم جميعا إلى مستوى واحد، ويؤهلن إلى اعتناق مبدأ الحق الواحد تحت راية الإنسانية العامة الشاملة، ويعدهن للارتباط في جسم اجتماعي واحد أعلى يكن هن أجزاءه. حينئذ يصبح كيان كل أمة ونجاحها متوقفا على سلامة هذا الجسم الأممي الأعلى، كما أن سلامة الفرد ونجاحه الآن يتوقفان على سلامة المجتمع الذي هو جزء منه.
حينئذ تكون الهيئة الاجتماعية على أقرب مسافة إلى المثل الأعلى. (4) أهم عيوب الأنظمة الأدبية
قد يستدل القارئ من خلال نبذات هذا الفصل أن العالم الإنساني يكاد يقبض على ناصية المثل الأعلى في الفضيلة؛ لأننا وجهنا البحث في وجهة الرقي الأدبي وحده، وقلما التفتنا إلى ما يعتوره من المبادئ والأنظمة التي تثلم أدبية المجتمع وتحطها؛ ولذلك يبقى بحثنا ناقصا إذا وقفنا هنا ولم نلم بثلمات الأدبية الرئيسية. (4-1) العيب الاقتصادي
لقد علمت في طالع هذا الفصل أن من سنن التطور أن نشوء أنظمة جديدة مخالفة للمبدأ الأدبي العام تستلزم إما تنقيح المبدأ لكي يطابق النظام، أو تنقيح النظام لكي يطابق المبدأ، ومن ثم تتنقح العادة في السلوك لكي تطابقهما معا. وقد حدثت في العصر الأخير تطورات علمية وعملية أحدثت نشوء نوعين من الأنظمة رئيسيين.
أما التطور العلمي الذي حدث، فهو اكتشاف كثير من نواميس الطبيعة وأسرارها كنواميس البخار والكهرباء. وهذا الاكتشاف أوجب تطورا عمليا أيضا، وهو اختراع وسائل عديدة لاعتقال قوى الطبيعة واستخدامها في الصناعة والمواصلات. وهذه الاختراعات أوجبت التعديل في ناحيتين نلم في كل منهما على حدة: أولا: أن تقدم الصناعات وتقدم الاقتصاديات إلى جانبها كنتيجة لها أفضيا إلى الاستقطاب المالي؛ أي جعل فريق من الناس يقبضون على ناصية المال، وجعل فريق آخر يعمل تحت أمرة المتمولين وتحت رحمتهم. هذا الاستقطاب لم يكن من قبل، أو أنه كان ضعيفا، ولم يستفحل هذا الاستفحال الهائل إلا في عصر الاختراعات؛ ولذلك اختل التوازن في المجتمع، وانتفى مبدأ المساواة أو مبدأ العدالة في الحقوق والواجبات، تلاشى الرق شكلا أو صورة، ولكنه تجدد جوهرا، وأصبح الرق الاقتصادي أفظع من الرق الشخصي، فالعامل الذي يشتغل الآن وهو حر الإرادة والفعل أصبح عبدا للمتمول القابض على ناصية المشروعات العملية، أصبحت أسباب معيشته تحت رحمة المتمول، أصبح عرضة للهلاك جوعا، مع أن الرقيق الذي كان قبله كان أقل عرضة منه للفناء؛ لأن سيده كان ضامنا معيشته.
كانت الديموقراطية وجهة تطور المجتمع، فلما تلاشت الأريستوقراطية السياسية برسوخ الديموقراطية السياسية نشأت للأسباب المتقدم ذكرها أريستوقراطية أخرى، وهي أريستوقراطية المال: أصبحت السلطة الاقتصادية في يد فريق المتمولين. وهكذا تقلقل المبدأ الأدبي الأعلى، وتداعى مبدأ التساوي أو مبدأ التكافؤ في الحقوق والواجبات، أصبح لفريق حقوق عظيمة جدا وواجبات خفيفة جدا، ولفريق آخر العكس؛ أي حقوق قليلة وواجبات ثقيلة. إذن المثل الأعلى الذي يضمن بقاء المجتمع وسلامته ورقيه انتقض؛ ولذلك مني المجتمع بثورات الاشتراكيين ومشاغباتهم واعتصاباتهم إلى غير ذلك مما يهدد المجتمع بالخراب.
إذن لا بد من تعديل الأنظمة الاقتصادية تعديلا كبيرا؛ لكي يعود المثل الأعلى - التكافؤ بين الحقوق والواجبات - إلى مقامه الأول؛ ولكي يتوطد المجتمع على أساس العدل والإنصاف، يجب أن تستتب الديموقراطية الاقتصادية في المجتمع كما استتبت قبلها الديموقراطية السياسية بعض الاستتباب أو معظمه. هذا هو العيب الرئيسي الأول الذي يعاب به المجتمع الإنساني في الوقت الحاضر؛ فهو عيب في نظامه الاقتصادي بالأكثر، وهو يدل على أن الروحانية الأدبية في الأشخاص لم تزل ضعيفة. يدل على أن هذه الروحانية لم تشمل جميع الأفراد، يدل على أن فريقا كبيرا من الناس لم يزالوا منحطي الأدبية؛ ولا سيما لأن معظمهم يعلمون هذا العيب، ويفهمون أن الحق غير قائم، وأن العدالة مثلومة، ولكنهم لا يريدون أن يضعوا الحق والعدالة في نصابهما. (4-2) فظاعة الاستعمار
ذلك عيب في كل مجتمع في كل أمة تقريبا، هو عيب شعبي داخلي على كل أمة أن تصلحه على حدة. وأما العيب الثاني فهو دولي موجود في علاقات الأمم بعضها مع بعض، هو عيب الأريستوقراطية الدولية؛ وهو أن بعض الأمم تتسلط على أمم أخرى، وبواسطة هذا التسلط تبتز حقوقها، وتستثمر أتعابها. وفي كثير من الأحوال تعاملها بالاستبداد والإرهاق كأنها رقيقة لها. وحجتها في هذا التسلط: أولا؛ أن الحق للقوة، ثانيا: أن هذه الأمم الضعيفة غير متمدنة، وتلك تدعي أنها تمدنها، ثالثا : أن بلادها ضاقت بها، فهي مضطرة أن تستعمر بلادا غيرها لكي تعيش؛ ولا سيما لأن بلادا غيرها واسعة تحتمل زيادة السكان. ونحن نفند هذه الحجج تفنيدا أدبيا. (1)
أما إن الحق للقوة فيناقض المبدأ الأدبي الأعلى؛ لأن الحق حق سواء أيدته القوة أو لم تؤيده، وإلا لكان حق الحياة والبقاء منحصرا في أمة واحدة؛ أي أقوى الأمم، بل لكان هذا الحق منحصرا في شخص واحد أو جماعة واحدة صغيرة على الأكثر. إذن لماذا المعاهدات الدولية؟ وعلى أي أساس أقيمت هذه المعاهدات؟ أليست مبنية على أن الحياة حق لكل فرد ولكل أمة؟ ولماذا الرفق بالحيوان وهو أضعف من الإنسان؟ فالحق للقوة مبدأ فاسد أدبيا، ثم إنه فاسد اجتماعيا؛ لأن الهيئة الاجتماعية الكبرى لا تستتب على مبدأ «الحق للقوة»، فالحروب الدولية المتعاقبة نتيجة هذا المبدأ.
وما دام هذا المبدأ قائما؛ فالسلم مهدد دائما، ولو كان مبدأ «الحق حق» نافذا لأنه المثل الأعلى للمجتمع الإنساني العام؛ لانتفت الحروب. الحق الذي «يعلو ولا يعلى عليه» هو حق كل أمة بالبقاء والحياة على قدر جهادها في العمل على قاعدة العدل، هو العدل بين الأمم. (2)
أما أن الأمم القوية تتسلط على الأمم الضعيفة لكي تمدنها، فهو إفك وبهتان فظيعان؛ لأن الواقع مناقض لهذه الدعوى على خط مستقيم، فما من أمة استعمرت أمة أخرى إلا كبلتها بسلاسل من حديد، ومنعت تقدمها في المعارف والأعمال والمشروعات، وأوجبت عليها أن تبقى متأخرة لكي تستطيع الاستحكام منها، واستثمار أتعابها، ولا نظننا في حاجة إلى ذكر الشواهد وهي ناطقة في جميع بلاد الشرق بلا استثناء، وسلوك الدول المستعمرة سبة لها ولعنة عليها؛ لأنه محض ابتزاز واغتصاب واستعباد، ولا ندري كيف تكون الحرب الأفيونية المشهورة تمدينا.
إذا كان الغرض من الاستعمار هو التمدين - كما يزعمون كذبا بلا خجل - فلا بد له من أمرين؛ الأول: أن يكون صادرا عن نية حسنة من الفريقين؛ أي تريده الأمة القوية المستعمرة والأمة الضعيفة المستعمرة. وهذه الإرادة غير موجودة لا عند هذه ولا عند تلك، ثانيا: وإذا فرضنا أن الأولى حسنة النية، ولكن الثانية ليست حسنتها، فلا بد من وجود سلطة عليا تخول الأولى حق التسلط على الأخرى لكي تمدنها، ولا نعرف سلطة عليا تمنح هذا الحق غير سلطة الله. وأما أن تتفق بعض الدول العظمى على ادعاء هذا الحق لها، وتتقاسم المستعمرات فيما بينها، فلا يبرهن على سلامة نية هذه الدول. والواقع يشهد على أنهن سيئات النية، وإذا كانت نياتهن فيما بينهن سيئة ورديئة، فكيف ينتظر أن يحسن النية نحو الأمم الضعيفة؟! وإذا كانت جمعية الأمم التي اقترحت لكي تكون كمحكمة عدل بين الأمم لم تنصف أمة، فكيف ينتظر أن تكون سلطة الدول المستعمرة عادلة؟! فهذه الحجة فاسدة أيضا. (3)
بقيت حجة الاستعمال المستندة إلى ضيق البلاد بأهلها: بهذا العذر تدعي الأمة حق استعمار بلاد واسعة قليلة السكان لكي تعيش. في هذه الحجة شيء من الحق. إذا كانت مجاهل أفريقيا لا يقطنها إلا قبائل متوحشة قليلة، وهي واسعة جدا تحتمل أضعاف أضعاف ما فيها من السكان؛ فيحق للأمم المتمدنة أن تستعمرها، ولكن على شرط أن لا يبيد هذا الاستعمار أهلها؛ فهم بشر لهم حق البقاء والحياة.
والإنسانية التي هي المثل الأعلى في الأدبية توجب على الأمم المتمدنة أن تحفظ هذا الحق للسكان الأصليين، كما فعلت الأمة الأميركية الحديثة في معاملة سكان أميركا الحمر. وأما استعمار آسيا وشواطئ أفريقيا الشمالية فلا مبرر له؛ لأن سكانها يملئونها وهم في درجة من التمدن تقدرهم على مجاراة سائر الأمم المتمدنة في المدنية، فاستعمار بلادهم إنما هو اغتصاب وانتهاب، ولا رائحة للتمدين فيه البتة.
هذا عيب ثان في الهيئة الاجتماعية، عيب استفحال الأريستوقراطية الدولية، عيب ينقض المثل الأعلى الإنساني، عيب يدل على انحطاط الروحانية الأممية، عيب يهدد الهيئة الاجتماعية كلها بالخراب إذا بقيت هذه الأريستوقراطية الأممية مستفحلة هذا الاستفحال.
هذا العيب يدل على أن الشخصيات المتمدنة - الأوروبية خاصة - لا تزال ناقصة الروحانية الإنسانية؛ لأنها لا تزال تنظر إلى الحق الطبيعي محصورا في قومياتها، كما كان الإسرائيليون لعهد موسى ينظرون إلى أن حق الحياة والبقاء لهم وحدهم، وأنهم هم شعب الله الخالص.
فالعالم الإنساني لا يضمن سلمه، ولا يستتب مجتمعه ما لم يتأيد المبدأ الإنساني الأعلى، وهو أن حق البقاء والحياة والتمتع هو حق كل أمة على الأرض. وهذا يستلزم أن يتعدل النظام الدولي على قاعدة الديموقراطية الدولية.
فإذا استتبت الديموقراطيتان الاقتصادية والدولية في العالم الإنساني قرب العالم إلى المثل الأعلى كثيرا، ولكن هل يقف العالم الإنساني عند هذا الحد في الرقي؟ ألا يمكن أن تحدث تطورات اجتماعية جديدة في العالم تنشئ أنظمة جديدة كهذه الأنظمة تقلقل المثل الأعلى كما فعلت سابقاتها؟ هذا في عالم الغيب، ولكنه محتمل، والله أعلم.
نامعلوم صفحہ