مقدمة
إهداء الرواية
شيء عن المهدى إليه1
تمهيد
1 - كوبريلي أحمد باشا
2 - الديت
3 - البولاندية الحسناء
4 - كامنياك
5 - جوقزين ولمبرج
6 - زراونو ومعاهدتها
7 - في وارسو
8 - الانتخاب (سعادة الأمة بعدل الأمير)
التقسيم الأخير
مقدمة
إهداء الرواية
شيء عن المهدى إليه1
تمهيد
1 - كوبريلي أحمد باشا
2 - الديت
3 - البولاندية الحسناء
4 - كامنياك
5 - جوقزين ولمبرج
6 - زراونو ومعاهدتها
7 - في وارسو
8 - الانتخاب (سعادة الأمة بعدل الأمير)
التقسيم الأخير
عبرة التاريخ
عبرة التاريخ
تأليف
أحمد زكي أبو شادي
مقدمة
إلى عشاق العدل والوطنية، ومحبي الإنصاف والمساواة، إلى الباكين على مصائب الأمم، وكارثات الشعوب، أزف روايتي الأولى التي تبحث في أحوال بولاندا في القرن السابع عشر، وكيف قام أبراشياؤها بها فدافع وانتصر، بل كيف يكون الاتحاد ومبلغه، والتآزر وقوته.
ومن ثم؛ كيف قسمت تلك المملكة المسكينة بين روسيا وألمانيا والنمسا؟ وكيف يتعدى الإنسان على أخيه الإنسان فيسلبه أغلى شيء لديه وهو حريته؟!
تلك روايتي، أول ما أخرجته فكرتي، تركتها بلا تهذيب لتكون تذكارا لي من أيام صغري إذا ما بلغت يوما ما مبلغ الرجال، وهو جل ما أريده وتتمناه نفسي.
فعذرا أيها القوم الكرام إن مرت عليكم بعض الغلطات، والعذر عند كرام الناس مقبول.
المؤلف
إهداء الرواية
إلى روح مؤلف حماة الإسلام، وأحلام الأحلام، أهدي روايتي وأول ما أخرجته فكرتي.
إلى تلك الروح التي اختفت خلف ستار الأبدية أقدمها - فإذا ما نظرت إلي فهذه أفكاري دليلي على نفسي، وأنا ما تعودت إلا أن أكتب ما أعتقد.
المؤلف
مصطفى نجيب بك (الكاتب المشهور)
تبدو عليك مخايل العظماء
وتلوح فوقك صورة الحكماء
لله درك والهدى بك مغرم
كيف اصطبرت على هوى وعناء
أحمد زكي أبو شادي
شيء عن المهدى إليه1
لا أصعب وأقسى على نفس الأديب من أن ينعى إليه إمام من أئمة العلم وأستاذ من أساتذة الإنشاء واللغة، سيما إذا كان المنعي ممن نصبوا فكرهم على إيضاح الحقيقة وتجليتها في أجلى المظاهر، واقفا قلبه على البحث واستقراء مصادر العلل الاجتماعية ومداواتها بأنجع الوسائل، ومعدا ما هو معد من الخير الجزيل والنصح الغالي لأمته في طيات أسفاره التي ينتظر من المستقبل أن يعاونه في إخراجها إلى أيدي المطالعين فتنشب فيه المنية أظفارها، وتغدو صروح آماله كأنها بنيت على شفير هار.
هكذا كان شأن فقيد النثر والنظم المغفور له مصطفى نجيب بك فلقد ألف ثمانية مؤلفات نفيسة، وأخذ يشتغل في تأليف غيرها، وكان عاقدا نيته على أن يتولى طبعها بعد انقضاء سنتين من ذلك الحين، ولكن حل به القدر المحتوم؛ فترك تلك الآثار يعبث بها الدهر بعد أن كان يضن بها، وقد بيع بعد وفاته كل ما كان في مكتبته من كتب نافعة، ومؤلفات غزيرة بالمواد العلمية النادرة، فوصل إلى أهل النبل والفضل؛ أمثال أحمد تيمور بك من علماء القاهرة قليل منها، ولا سيما ما أنشأه وألفه، وانتهت جلها إلى أيدي أفراد تهاونوا بها، ولم يراعوا حرمة الأدب؛ فنشروا بعضها - كما بلغني - ونسب إليهم.
ولم أقف في أوراقي على شيء دبجته يراعته سوى بعض ملاحظات استعان بها على تأليف كتاب يبحث في تاريخ الآثار بمصر، واسمه: «الخرائب والأطلال المصرية»، وآخر في «حسنات المدنية الإسلامية» غير أنها متفرقة وإن تكن تدل على قدرة الكاتب وليست سهلة التناول أو قريبة المأخذ، بل يعسر عليك ترتيبها ومعرفة قصد الكاتب من بعضها والعلاقة التي تربطها بما يسبقها أو يليها.
هذا ما لحق بمصنفات ذلك المنشئ المبدع بعد أن سكن القبر وجاور الترب، ولقد كان شاعرا ضليعا وأديبا قادرا على خلب الألباب والعقول بسحر مقاله؛ يجيد الشعر ولا يكثر منه، وإذا حرك قلمه بين أنامله فما يكتب إلا حكمة كهلة، ولا يسطر غير الحق الصريح.
وإذا رمت أن أصف لك خلقه ذكرت لك الكرم والمروءة والغيرة على الشرف والوطنية الصادقة والولاء الخالص والوفاء بأكمل المعاني، غير أنه كان متلافا للمال، لا يحسب غالبا حساب العواقب، ولذلك ما كان ليبقي لخلفه شيئا من الثروة مع أنه كان يتناول من عرق جبينه ما يسد هذه الثلمة دون عناء أو مشقة.
وإني أقتصر للقارئ في هذا الموضع على ما ذكرته الصحف يوم وفاته بمدينة الإسكندرية ، وأنقل من بينها ما نشره اللواء الأغر يوم الثلاثاء 18 جمادى الأولى سنة 1319 هجرية.
امتدت يد المنون إلى عرش الفضل، فانتزعت منه أميرا من أمراء الكلام، ومليكا من ملوك الكتابة، ملك رق النفوس بعبارة بيانه، وتصرف فيها ببراعة بنانه، حتى كأن قلمه إذا جرى على الطرس جرى بقدر مقدور لا تتعدى محتومة في مآخذها ومتاركها، فكنت تراها إن صر استمعت وأنصتت، فإن وعظ اتعظت، وإن زجر ازدجرت، وإن استفزها لمكرمة فزت، وإن هزها لمحمدة اهتزت، هو كاتب تلك الرسائل التي كان ينشرها «اللواء» تارة بتوقيع «الواعظ» وطورا بتوقيع «حاذق»، هو المرحوم مصطفى بك نجيب وكيل قسم الإدارة بنظارة الداخلية.
فقدنا منه طبيبا من أطباء أمراض الأمم، وآسيا من أساة كلومها، كان - رحمه الله - يرى أن خير الدواء لأعضل الأدواء تذكير النفوس بجلال ماضيها لتنتعش أرواحها، وتفكيرها بشرف أصولها وطول منابتها وكرم أعراقها؛ ليجري دم الخير في عروقها، فتتماثل من خمولها، وإيقافها على مجد أسلافها وشرفهم لترفع رأسها، وإحاطتها بما كان لآبائها وأجدادها من نفوس للمعالي عاشقة، وهمم في السمو راغبة، وعزائم في طلب السعادة والسيادة ماضية؛ لتحمي حميتها، وتهم همتها، فتنشط من عقالها وإرشادها إلى الصراط السوي الذي نهجوه، ونقتفي آثارهم فيه؛ فتبلغ من الغاية ما بلغوه؛ هو المؤلف في هذا المقام لكتاب «حماة الإسلام».
عدمنا منه عالما من كبار علماء الأخلاق، عارفا بما يصلحها من فسادها، ويقومها من اعوجاجها، عاملا لما يؤصل فيها الفضائل، ويستأصل منها الرذائل، هو الذي شغله انحراف أخلاق المصريين حتى في المنام، واشتغل بتدبير ما يقومها حتى في الأحلام، ووضع في ذلك «أحلام الأحلام».
فقدنا منه مؤرخا عليما بتقلبات الدهور على الأجيال، وتصرفات الأيام وحسناتها وسيئاتها على الأنام، وله في ذلك أثر حفظه صدر (اللواء) وصانته حوافظ القراء عنوانه: «وداع القرن التاسع عشر واستقبال القرن العشرين»، ولقد كان - رحمه الله - مشتغلا بتأليف كتاب في تاريخ محمد علي باشا؛ يتوج به قرنا مضى على حكم مصر وإحيائه لما اندرس من معالمها، وكان عهد إلى بعض إخوانه مهمة الحصول على بعض أمور تتعلق بعمله هذا في غير هذه البلاد، وعين له مواضعها ومظان وجودها من «الكتبخانات»، ولقد قام له هذا الصديق بهذه المهمة، وعثر بجميع ما كلفه بالحصول عليه، وترجمه، وأراد تقديمه إليه؛ فوجده يودع الحياة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فبقيت تلك الآثار في ظرفها المختوم.
وافته المنون - رضوان الله عليه - وهو بين دفتر يناجيه، وقلم يسيره، وطرس يحبره؛ فلقد بعث إلينا بعض رسائل قبل وفاته بيومين اثنين بقصد نشرها، ومنها رسالة عنوانها: «نظرة في بلاد العرب» سننشرها غدا إن شاء الله.
توفي - رحمة الله عليه - عقب علة في الفؤاد لازمته الزمن المديد، ولم ينجح فيها طب الطبيب، فمات في سن الخامسة والأربعين، وله من الخلف الصالح ولدان؛ أكبرهما في السادسة من العمر، وفيه من مخايل أبيه الذكاء النادر، والفطنة الباهرة.
منتخبات من قلمه
قال يصف حاكي الصدى:
مثال القوة الناطقة، من غير إرادة سابقة، يقتطف الألفاظ اقتطافا، ويختطف الصوت اختطافا، مطبعة الأصوات، ومرآة الكلمات، ينقل الكلام من ناحية إلى ناحية، نقل كلام عمر - رضي الله عنه - إلى سارية، أشد من الصدى في فعله، في إعادة الصوت على أصله، كأنه الحرف عن يد الطابع، والوتر عن يد الضارب، والقصب عن فم القاصب، يحفظ الكلام ولا يبيده، ومتى استعدته منه يعيده من غير أن يبقي لفظا في صدره، أو يكتم شيئا من أمره، كأنما حفظ الوديعة، في نفس طبيعة، فلو تقدم له الوجود في مرتبة الزمن لما احتجنا في الأخبار إلى عنعنة، ولا في الدعاوى إلى بينة، بل كان يسمعنا كلام السيد المسيح في المهد، وصوت عازر من اللحد، وكانت استودعته الفلاسفة حكمتهم، وأنشدوه كلمتهم، فرأينا به غرائب اليونان وبدائع الرومان، وربما سمعنا خطب سحبان، وشعر سيدنا حسان؛ بذلك اللسان، وأصبح وجود الإنسان غير محدود بزمن من الأزمان، لله دره من تلميذ يستوعب ما عند المعلم ويستخلصه في لحظة، معيدا لقوله، ناقلا صوته ولفظه.
لقد وجدت مكان القول ذا سعة
فإن وجدت لسانا قائلا فقل
نديم ليس فيه هفوة النديم ، وسمير لا ينسب إليه تقصير، تسكته وتستعيده، وتذمه وتستجيده، وتنقصه وتستزيده، وهو في كل هذه الأحوال راض بما يقال، لا يكل من تحديث، ولا يمل من حديث، نمام كما ينم لك ينم عليك، وينقل لغيرك كما ينقل إليك، فهو المصور لكل فن، المتكلم بكل لغة، المحدث عن كل إنسان، المؤرخ لكل زمان، الشاعر الناثر، المغني العازف؛ لا تعجزه العبارة، ولا يجهده الأداء، ولا يضره اختلاف شكل ولا تباين أصل، بل تعدت شدة حفظه البشرية من اللغات إلى حفظ أصوات العجماوات، إلى حركة اصطكاك الجمادات.
فيا لله من أيهما نعجب! ولأيهما نطرب! أمن حاكى الصدى وقد نقل صوتنا كما نطقنا؟ أم من شقيقه المصور الشمسي إذ ينقل صورتنا كما خلقنا فنرى من في أقصى أقطار الأرض وكلانا عن مكانه لم يتحول؟! ويسمعنا حديثه المعنعن ونسمعه حديثنا المسلسل.
وله من رسالة يصف نظاره ويشكر من أهداها:
ورد الكتاب المطرز بحلي الكرم، المحلى بجميل النعم، واستلمت الهدية؛ فسلمت يد أهدتها، وحفظت السجايا التي لمحاسن الأعمال هدتها، ودامت رحاب لمثل هذه الحسنات فيها مجال، وللمحسنات بهاء وجمال، وللآمال محط ورحال، وللمقاصد كعبة إقبال، وطابت نفس تعالى الله أن تماثلها نفس عصام؛
2
فإنها نسخت آية الكرم والإقدام
3
بآية الجود والإكرام، وفعلت في القلوب بالعطاء والنوال
4
ما قصرت عنه الرماح الطوال، وتأملتها فأرتني ما لا عين رأت، رأت وأظهرت من محاسن المناظر ما أعمرت، وقربت كل منظور بعيد، وتلت:
فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد
وصفا وقتي بصفائها، فلم أشته شيئا إلا جمعت بينه وبيني، وصح علينا قول القائل: (رأيت بعينها ورأت بعيني) ثم سرحت نظري في الإطلاق والرسوم، حتى نظرت نظرة في النجوم، فلم تخف عني شجرا ولا مدرا ولا نجما ولا قمرا:
يزيدك وجهها حسنا
إذا ما زدته نظرا
ببهاء يخيل لي أنها صيغت من ضياء، فلا عيب فيها غير أني نظرت بها في سماء فضلك الباهر، وافق شرفك الطاهر. فلم ينكشف لي بها لجودك آخر، لا زال كرمك بعيدا حده على كل ناظر وباصر، وفضل مناهلك غاية تقصدها الأوائل والأواخر.
وكتب يرثي صديقه عبده الحمولي، وكان مشهورا بكرمه ووفائه ورقة شمائله، وعن ذلك يروي المتأدبون قصصا لطيفة تدل على شهامة النفس التي كانت لذلك الرجل، قال الفقيد:
مني على عهد السرور سلام
فقد انطوت بجماله الأيام
وتقطعت أسباب كل لذاذة
وانحل من عقد الصفاء نظام
نعي أتى شق المرائر بأسه
وتحيرت في هوله الأحلام
جنت المنية في الذي نختاره
فالشجو باد والهموم لزام
أودى الزمان بمفرد قد كان في
مهج الأنام له هوى وهيام
وإذا المنية أجهزت أجنادها
مضت الضريبة والحتوف قيام
لهفي على نفس يقصر كفها
عن كف كأس الموت وهو زؤام
وأراك في أمل كرقدة حالم
حسن اليقين تعودك الأوهام
لهفي عليك مؤملا قد خانه
أمل وغير حاله استسلام
وثويت في لحد وقبل حلوله
لم تلق ليلا قد عراه قتام
يا طالما ناديت دعوة واله (يا ليل) من كيد بها إضرام
لو أحسن الليل المكافأة ازدهى
بالبدر وهو بضوئه بسام
فنخال أن الليل قد سمع الندا
وقد استطال على الصباح ظلام
فإذا شدا بالأوج خلق ساميا
وغدا له فوق السماك مقام
نغماته مقرونة بصوابها
سيان فيها مبدأ وختام
تحيي المويسيقى الفؤاد لأنها
لغة النفوس حروفها الأنغام
وأدق من وزن القريض وزانها
أبدا فلا قطع ولا إصلام
إذ ربما قد كان ملك قيادها
بيديه وهو بأمرها قوام
إن أفهم الأرواح سر خطابها
تتنعم الأرواح والأفهام
يبكي الشجي ويقدم البطل الكم
ي على القتال وحبذا الإقدام
قد ضم شتى من أغانيك التي
في أسرها الأفكار والأوهام
ذياكم الحاكي الذي حفظ الصدى
كالصك إذ حفظت به الأقلام
خليته جدثا عليك وأنت في
جنبيه حي لم يرعك حمام
أودى فأودع كل شاد حسرة
لما ترحل ظاعنا وأقاموا
كدرت في عيني السرور فصار لي
في كل مشهد بهجة إيلام
فاعجب لحزن في مقام مسرة
واعجب لحرب والزمان سلام
أيقنت أن الدهر بعدك قد عفا
والدار خلو والزمان عقام
ولقد أسنت مصر بعد شبابها
ونتاجها وأصابها الإعقام
مني على تلك الليالي لوعة
فسلوهن على المحب حرام
من كان يدرك أنسها ونعيمها
وبكى لها أسفا فليس يلام
كانت مدينة «مصر» ربعا آهلا
بك حيث تمرح والزمان غلام
في دولة خدم السعود ركابها
وله عليها ذمة وذمام
كانت شموسا للهناء منيرة
فيها معالم للسرور تقام
أفلت وكنت سنا شعاع سرورها
دوما وأنى للشعاع دوام
وطوت نضارتك المنية مثل ما
يطوى بأيدي القاصرات لثام
عبثت بك الأيام حتى أنها
لو أدركت لرثت لك الأيام
إن التي فتكت بروحك قسوة
قدما شكاها بلبل وحمام
لم يستمع فيك البكاء بمصرنا
إلا بكاك عراقها والشام
من للدفين بأن يفرج لحده
ويرى الذي فعلت بنا الآلام
ويرى الديار ومن بها في أنسهم
سهر النواظر والعقول نيام
وكتب:
إن الحكيم الذي ينصب نفسه لتربية الأمة يجب عليه أن يدخل بها في كثير من أبواب الرياضات ويريضها على صنوف من مكارم الأخلاق ليتحقق من استعدادها الفطري ويظهر له الوجه الذي تصبو إليه، والموطن الذي تألفه، والمقصد الذي تتوجه إليه، حتى إذا دعاها الولوج معه من ذلك الباب الذي رآه صالحا لها لبته لأنه أصبح هو وشوقها عليها.
وقد رأينا أن الذين نصبوا أنفسهم لوعظ أمتنا هذه ونصيحتها قد قلبوها على أوجه كثيرة من التربية والتهذيب فأخذوها بالرفق والدعوة للخير، ثم واجهوها بالزجر والإعنات وضربوا لها الأمثال، وحذروها عواقب ما هي فيه، ودعوها إلى محاذاة الأمم ومجاراتها، وأهاجوا فيها نار الغيرة، وقدحوا لها زند الشوق لكل فضيلة، ثم رأينا ورأوا أنهم على طول هذا الزمان لم يصلوا إلى كل ما أرادوا، بل قصرت بهم النتائج عن كثير من المبادئ الشريفة التي نهجوها وأرادوها.
تحقق لهم أنهم كلما اجتهدوا فسدوا عليها بابا من أبواب الشر فتح أهل الشر عليها أبوابا من المفاسد ولم يأمن فيها العثور، ومزلة القدم، والحيد عن جادة الصدق، إلا قليلهم.
ظهر لهم أن الأمة لم يكن لها نقطة وسط ترتكز عليها، بل هي في مهب ريح الأغراض سائرة مع كل قائد ، وعلى الخصوص لو عزز الداعي لها دعوته بالبهتان الذي أصبح منطليا على أكثرها، فما أسرع أن تلبيه إذا دعاها، وتضافره إذا سألها.
ثبت لهم أن في الأمة عددا عظيما نسوا ملتهم ودينهم ووطنهم، بل نسوا الله فأنساهم أنفسهم، فلا بد لهم من مذكر يقرع أسماعهم بصوت آخر يكون له في القلوب رنة، وفي النفوس صدى يبعث فيها ميت الهمة.
تبين لهم أن في حواس الأمة خدرا جعلها لا تتأثر لمصابها، كصاحب العاهة الذي تعيره الصبيان بها فيتألم منهم في أول أمره حتى يضرب قريبهم، ويشتم بعيدهم، ريثما يعرف أن الناس تسامعت بعاهته واشتهر بها فيسكن ويضحك على نفسه كما تضحك الناس منه.
ولا عجب في هذا؛ لأن فقدان الفضائل وارتكاب أضدادها وسلوك الطرق المبتدعة، وانتقاض الأخلاق، ونسيان العوائد الجميلة، والإفراط في أسباب الحضارة من الرياش والترف، والتناهي في عدم القناعة، بدل الخلق من أصله، وحول العالم بأسره، وكأنما خلق جديد، ونشأة مستأنفة وعالم محدث.
نعم يجب على الناصح أن ينادي في الأمة بذلك الصوت من غير أن يدعوه حالها لليأس، أو يسد عليه باب الأمل، أو يقطع عنه طريق الخير، أو يمانعه في وصول النفع، فإن أبواب الصلاة لا تحصى ولا تستقصى يعرفها الناصح الأمين، والواعظ المشفق يرجو بها تحقيق الخير والنفع إن شاء الله.
وإن من أبواب التربية التي لم تقرع، وطرقها الجسيمة التي لم تسلك، وشرعها الغزيرة التي لم تقصد، دعوة الأمة للنظر في ماضي أمرها وأولية شأنها؛ لتعلم من هي، عساها تخجل من أن تكون خاتمة سوء لذلك المفتتح الشريف، عساها تأسف على حالها من كونها أصبحت بمنزلة السفيه ولي ملكا فلم يحسن سياسته، ورزق سعة من المال فلم يدبر أمر تنميته.
هذا الباب من أحسن الأبواب التي تثقف أفكار الأمة، وأقرب ما تتربى على خيرة طباعها، فإن تذكارها بمجدها القديم، وتمثيل عزها السالف لها، وتشخيص مجدها الشامخ أمام عيونها يدعوها - بلا شك - للتنافس بخلالها الحميدة السابقة.
أحسن رادع للإنسان عن شهواته أن يلتفت وراءه؛ فيرى في أمته وملته العلماء والحكماء والعظماء والحكام والقواد عاشوا ولا شغل لهم إلا مجدا أقاموه، وعزا شادوه، وشرفا حفظوه وأكبر مسهل له لاحتماله الضيم والذل: جهله بحالة نفسه، ونسيانه مجد آبائه وأجداده، حتى تسترت عنه كرامة أخلاقهم، وتحجب عنه جميل طباعهم، ولم يذكره مذكر بسابق أعمالهم الشريفة: أنه لا يأنف أبدا من إتيان الدنيئة، وعمل كل ما يخالف تلك الطباع الجميلة والأخلاق الطاهرة.
لذلك ترى الدهاة من الفاتحين - خصوصا رجال الممالك الغربية الآن الذين لا يغفلون عن تجربة ولا يغضون عن فرصة - إذا فتحوا بلدة إسلامية أو احتلوها تسلطوا على أهلها فأنسوهم دينهم وعوائدهم ولغتهم وتاريخ حياتهم ومجدهم، واستبدلوهم بذلك شيئا آخر، فتراهم إذا نسوا تاريخ حياتهم وأشربوا في قلوبهم تاريخ حياة غيرهم، ذهب كل فريق منهم بما اشتهى، وشبت النفوس على ما سبقت إليه، وبدت على الأمة أخلاق منكرة مبتكرة بعوائد غربية لا تنسب بالمرة لسوابق عوائدها، وتقربوا من تلك الأمم الطارئين بكل طريقة، وابتعدوا عن ذلك الأصل الشريف الذي هم منه.
ثم يتبع ذلك تقلص ظل الدولة الحاكمة، وفل حدها، ووهن سلطانها، وتتداعى للتلاشي والاضمحلال، وينتقص من عمرانها، ويندرس من سبلها ومعالمها، بمقدار انحراف رعيتها عن عوائدها الشريفة.
ثم تتناهى الأمة في الفجور، وتتفانى في البغي والضلال حتى تعود باللائمة على أصل دينها وعوائدها وأخلاقها، تقول - وهي لا تستحي من الله ولا من الخلق ولا من نفسها - إنها ما أخذت إلا من جهة تقصير دينها وتقاليده عن مقتضيات الحياة المدنية ومستلزماتها، وأفرادها يجهلون غاياته البعيدة في المآخذ والمتارك، يودون من صميم أفئدتهم أن لو استبدلوا بطباعهم وعوائدهم شيئا آخر ليخرجوا من ذلك الجنس، كما هو واقع الآن من بعض أهالي هذه البلاد المصرية، ووقع من قبلها في كثير من بلاد الإسلام كالأندلس وغيرها.
عذر أولئك أنهم يغدون ويروحون بين رجلين: إما عدو لهذه الملة يدعي عدم ملاءمة دينها للمدنية الجديدة (كبعض فلاسفة هذا الزمان)، وإما جاهل تاريخ حياتها؛ فلا يعرف منها شيئا لا خيرا ولا ضرا (كأغلب شبان هذا العصر).
لذلك هم يفرون من النسبة لهذا الدين، ويتجنبون القرابة لأمته وملته؛ لأنهم أقل الناس دراية به ومعرفة بفضائله، لا يعلمون - وهم أهله - مكرمة له يعدها المنتسب منهم إليه مفخرة إذا نازعه منازع في الانتساب إليه.
ينبغي لهم أن يتألموا من أن يكونوا مسلمين؛ لأنهم لا يدركون للمسلمين فتحا أبلوا فيه بلاء حسنا، ولا يعرفون لهم حربا ولا ضربا، ولا يتحققون في أي بقاع الأرض نشأ المسلمون وفي أي جهة كانوا شرقا أم غربا، ولا يحصون لهم عددا ليعلموا أنهم - وهم على قلتهم - فاجأوا حصون الممالك البعيدة ومعاقل العواصم النازحة؛ فأنزلوا حماتها من عروشهم، وبثوا فيها معالم دينهم، وصيروها حنيفية بعد أن كانت جاهلية.
كيف لا يأنفون من المسلمين وهم يعتقدون أنهم قوم نشأوا وسط البداوة، لا يعرفون غير جوب القفار وقطع الأودية، عاشوا في جهالة وماتوا في جهالة؟
لا يعقلون أن جميع مكارم الأخلاق إنما هي منتزعة منهم مأخوذة عنهم، وأن ما يدعيه المدعي من الخلال الحميدة - كالدعة والرحمة والشفقة والعدل والإنصاف والإحسان - إنما هو مجاز بالنسبة له حقيقة بالنسبة إليهم، وأن هذه الأمة جاهلية كانت وحنيفية لم تفارقها مكارم الأخلاق كحفظ الجار والجوار ومراعاة الشرف والذمة، وإحقاق الحق وقول الصدق، ومحاسن الأعمال وجميل الخصال.
من يعلمهم أن ملتهم هذه هي أول من تنافس أهلها في الخير، وتحدوا غيرهم بخلال الكرم كالعفو عن الزلات، والاحتمال من غير القادر، والقري للضيوف، وحمل الكل، وكسب المعدم، والصبر على المكاره، والوفاء بالعهد، وبذل الأموال في صون الأعراض، وتعظيم الشريعة، وإجلال العلماء الحاملين لها والوقوف عندما يحددون لهم من فعل أو ترك، وكرامة أهل الدين، والحياء من الأكابر وتوقيرهم وإجلالهم، والانقياد إلى الحق مع الداعي إليه، وإنصاف المستضعفين ومنع التبذل في أموالهم، والتواضع للمساكين، واستماع شكوى المستغيثين، والتجافي عن الغدر، والمكر والخديعة ونقض العهد.
من لهم بأن يتحققوا أن ملتهم هذه نشأت على هذه الفضائل التي هي أجمل وأكمل خلق السياسة حتى استحقوا بها أن يكونوا ساسة الأمم التي تحت أيديهم، ولم يوجد ذلك فيهم سدى ولا عبثا، وأن الله قد تأذن بوجوده فيهم لوجود علاماته في قبيلهم.
من يدلهم أن رجال الدين الإسلامي كانوا خير مجتمع لتأسيس قواعد الحرية والإخاء والمساواة، وأن أهله هم الذين جابوا القفار وقطعوا الأودية وركبوا ثبج البحر لفتح باب العلم والانتفاع به، وأنه لم يزهر في دولة إزهاره في دولتهم، ولم يعتز كعزته في سلطانهم، حتى تقوت حجته، وانتصر لواؤه، وأذعن الناس لقوته، وأشرقت عقولهم بنور برهانه؟
لا بد لهم من مذكر بذلك كله، ليعلم المتوسدون سرير الملك والحالمون للواء الدولة والمباشرون للأمر أنهم لم يتطاولوا لهذه المراتب عن تطفل ولم يرثوها عن كلالة، وليتحققوا أنهم أهلها، وأن الفضائل التي أخذت في الذهاب عنهم، والملك الذي صارت الأعداء ترتقب زواله من بين أيديهم إنما سببه جهلهم بتاريخ حياة قادتهم وسادتهم، وعدم علمهم بفضيلة أصولهم وعشيرتهم، ورضوخهم لمن لا يناهضهم في الشرف والنسب، وتجاذبهم حبل الفخر والمجد مع من لا يدانيهم وحبهم تقليد سواهم، واستبدالهم عوائد أممهم وأجيالهم بعوائد غيرهم.
تمهيد
خذ بيدي - أيها القارئ الكريم - شرقيا كنت أو غربيا، ولنخط خطوة واسعة في عالم الخيال، نترك في أثناءها مصر وطني وبلادي العزيزة، واهبط بنا في صميم أوروبا، ثم اصعد معي حسبما شاءت إرادتك في (بالون) أو طيارة هوائية.
دع مطيتنا ترتفع ارتفاعا هائلا في الجو حتى نتمكن من استعراض القارة الأوربية كلما نتمثلها على الخرائط الجغرافية إذا تيسر لنا كل ذلك، فالق بنظرك على ذلك العالم الشرير الذي يطلقون عليه اسم المدنية والحضارة، وابحث في مخيلتك عن اسم (بولاندا)، تلك المملكة التي كانت تتقلب في نعيم الحرية والاستقلال، فقلب لها الدهر ظهر المجن، وتركها سليبة السعادة والهناء.
أتعرف بماذا ابتليت؟
انقض عليها الدب الروسي، وفغر فاه، وازدرد ثلثها بجشعه الاستعماري، فنكل بها وجرعها كؤوس الظلم والاستعباد الأشعبي ووحشيته المتناهية.
ومن ثم انحط عليها النسر الألماني؛ فانتشل بمخالبه الحادة نصف ما تركه سابقه.
وبعد ذلك، أتعرف ماذا جرى؟ تجرأت النمسا؛ فمدت يدها الأثيمة فسلبت ما بقي من ذلك الهيكل المقدس، وراحت بولاندا التعسة ضحية أعداء الإنسانية.
محيت بولاندا من خريطة العالم السياسي، وعفت آثارها، ولكنها لم تمح من قلوب أبنائها المخلصين العاملين لاسترداد وحدتها.
إيه أيها الإنسان! ما أشد كفرك وجحدانك! ماذا؟ أهل ضاقت بك بلادك الرحبة وأراضيك الواسعة؛ فصوبت سهام انتقامك إلى أخيك الإنسان لتسلبه ما له؟ وتسرقه حياته حتى زهد الحياة ورغب في الموت؟ وأخذ يردد قول الحكيم: «ما أجمل الحياة لولا لؤم الإنسان!»
فيا أيها القارئ الكريم الصاعد معي ليرى ما فعلته يد الإنسان بأخيه الإنسان، بل ليرى ما اجترمته يد الظلم والعدوان، لا، أستغفر الله، بل ليرى فظائع الجشع الاستعماري ومنتهى سفالته.
إذا ذكرت الممالك المسكينة التي قضت عليها أحكام الدهر ومشيئة الزمن أن تموت وتعدم فاذكر بولاندا في أولها.
اللهم رفقا أنك تنزل الخلق من رحم أمهاتهم أحرارا، فيأتي من فسد من عبيدك ويستبد بهم ويريهم الموت عيانا، ويكيل لهم بصاع الظلم حتى يزهق أرواحهم.
فاهدهم يا رب العالمين، إنهم كانوا من الضالين.
الفصل الأول
كوبريلي أحمد باشا
كانت سنة 1656 ميلادية سنة ويل وثبور، بل سنة ظلام ومصائب على الدولة العثمانية، فإن القائمين بالأمر فيها كانوا من ذوي الآراء الضعيفة والأفكار الواهية، بل على كل حال كانوا ضعاف الإرادة.
في تلك السنة أظلم جو السياسة، واكفهرت سماؤها؛ فهاجم أسطول البندقية (فنيستا) جزيرتي لمنوس وتنيدوس، واحتلتا احتلالا انتهى بالقبض على أزمة الأمور فيها.
ومن ثم جر الطمع أولئك المشاغبين السفلة؛ فهاجموا الدردنيل واحتلوه رغما من مناعته، فهددوا القسطنطينية أمل الإسلام وقوته.
ولكن أبى الله إلا نصرة الإسلام على أعدائه، فقيض له من أبنائه عائلة كوبريلي الألبانية؛ فنجتها من خطر محدق بها كادت تركيا تضيع بسببه.
وكان رأس تلك العائلة كوبريلي محمد باشا، وهو رجل ولا كل الرجال له حنكة الشيوخ وهمة الشبان، ألف الدهر وعاركه.
كان في الثمانين من عمره حين قبض على أزمة الرئاسة؛ فأبدى من سياسة المحافظة على المملكة خير سياسة، فكان خير حاكم أخرج للناس في ذلك العهد، كان عادلا محبا لخير الأمة العثمانية ، ناشرا العدل والمساواة في أنحاء البلاد، متخذا الحرية قاعدة له، يسير على منهج الخلفاء الراشدين، متبعا قاعدة الشرع الشريف، يسير على طريقها القويم.
بدأ هذا الشهم حياته السياسية بتغير سياسة الدولة؛ فبدلا من اتباع سياسة سليمان القانوني والرجوع إليها في صداقة فرنسا وغيرها ابتدأ بتغير دفتها، وسار ميمما سياسة الوحدة، أي اتباع تركيا طريقا تكون فيه بعيدة عن التأثر بسياسة أي دولة من دول أوروبا.
أما سياسته الداخلية فكانت مقصورة على: تنظيم المديريات والمقاطعات، وإقامة حكام يراعون العدل في نظامهم، والتؤدة في سياستهم، والحنكة في أمورهم.
وقد باشر طرد الأسطول الفنيسي عن لمنوس وتنيدوس، فانجلوا في أقرب وقت تاركين الأوطان لأهلها، والبلاد لسكانها.
وبهمته المعهودة ضرب بيد من حديد على ثورة كان للانكشارية يد فيها؛ فأسكتهم وأمن اضطراباتهم.
وعلى كل حال؛ فإنه أحيا تركيا حياه طيبة، وألبسها ثوبا قشيبا خاطته يد الحنكة السياسية، والتدبير والعدل والروية.
ولكن هو الدهر لا يؤتمن
وفي قوسه منزع للسهام
فإن المنية فاجأت هذا البطل سنة 1661.
تولى بعده الصدارة كوبريلي أحمد باشا ابنه الأكبر، فكان خير شبل لخير أسد.
هو ذلك الرجل الذي توجنا باسمه الجليل (الفصل الأول)، وهو أيضا قد اتبع سياسة الوحدة، فكان لا يحيد عنها قيد شبر.
ابتدأ في جهاده لرفعة المملكة العثمانية بتجريد جيش يبلغ عدده نيفا ومائتي ألف مقاتل وهاجم النمسا والمجر.
وما بلغ هذا الخبر مسامع فرنسا حليفة الأتراك بالأمس حتى أرسل لويس الرابع عشر ثلاثين ألف مقاتل ليساعدوا النمسا بالنسبة لما أبداه كوبريلي محمد باشا من قطع العلائق معه واتباع ابنه سياسته.
كان قائد النمساويين في ذلك الوقت منثكوكولي الإيطالي، فانتصر على الأتراك بعد واقعة شابت لهولها ناصيته، وتلك هي واقعة سان جوتار على نهر الراب.
ولكن رغما عن هذا الانتصار فإن الفوز الحقيقي كان في جانب الأتراك.
فقد خاف الإمبراطور ليوبولد إمبراطور النمسا وقتئذ سطوة لويس وتداخله؛ فعقد صلحا أبرمه مع أحمد باشا في مدينة فاسفار سنة 1664.
فنال أحمد في هذا الصلح حصنا في المجر، واحتلال ترانسلفانيا أدار بعد ذلك هذا البطل وجهه فوجد أن الأتراك أراقوا دماءهم الزكية في جزيرة كريت، وأن فنسيا قد احتلتها. فجرد جيشا، وحاصرها سنة 1669، وهاجم القائد الفنيسي مروسيني واضطره للتسليم وعمل صلح.
انتهى من تلك الحرب، فذهب إلى القسطنطينية ليستريح من وعثائها، فلم يستقر حتى هبت في وسط أوروبا ريح تحمل صراخ قوازق الأكرين، وتبلغ آلامهم إلى جميع ممالك أوروبا.
وقد استغاث أولئك الأقوام بأحمد باشا؛ فاستعد ليحارب بولاندا، وينصف أقوامها.
ونحن إنما جئنا بتاريخ ذلك البطل هنا ليكون منسجما مع بقية الحديث.
ندع الآن تلك الوقائع والمعاهدات، والحروب والإغارات، ونرجع إلى القسطنطينية محط رحال آل عثمان بهجة الإسلام وقرة عينه.
سر أيها القارئ في ناحية بيوكدرة، تلك الناحية المشهورة بجمال موقعها، وطيب هوائها، وحسن أخلاق سكانها، جل بنظرك في أنحائها تجد في الشرق على شاطئ البحر قصرا شامخ البنيان عالي الأركان مرمري العمد، فخم الأثاث، حافلا بآله، عامرا بصحبه، ادخل إليه تجده ملآن بالخدم والحشم، ولا عجب فهذا هو قصر الصدر الأعظم ثاني رجل في الإسلام.
ودعنا الآن من وصف داخل القصر، وسر بنا إلى أوسع قاعات الدور الأسفل، تجد غرفة مفروشة على النمط الغربي المحض.
جلس في صدرها رجل، وخط الشيب ناصيته، بشوش الوجه، ربع القامة، كبير الشاربين، ينبعث الذكاء من عينيه، تدل ملامحه على التؤدة والروية، وهو رجل الدولة ومصباحها، وقائدها وهاديها، هو أحمد باشا كوبريلي.
وأمام ذلك الوزير جلس رجل يدل لباسه على أن قوزاقي، من سكان الأكرين، ابتدأ الحديث بينهما، فكان كما يأتي:
قال القوازقي: إنا لم نلجأ لجناب الوزير الكبير إلا ونحن على علم تام بأنا سنلاقي عضدا قويا، وكنفا نحتمي به، فننجوا من مصائب كادت تقضي على حياتنا لسوء معاملات النبلاء لنا واستعبادهم إيانا كأنا خلقنا لنكون لهم خدما وعبيدا. - وهل هناك أيها الرجل فرق كبير بين الشعب وما يسمونهم النبلاء؟ - نعم يا مولاي فإني أصرح بذلك، والأسف يقطع نياط ذلك القلب المسكين، الذي إنما يبكي على دولته التي سوف يمحيها حكم الدهر، بل حكم حكامها السفلة الذين ينقادون إلى ما يفعلون بطمعهم الأشعبي، واستبدادهم المميت.
أصرح يا مولاي أن نبلاء بولاندا يرون في أنفسهم حكام المملكة وأصحابها، يستعبدون الشعب، ويجرونه بيد من حديد سوف تقذفنا وإياهم في هاوية التعاسة والشقاء، إنهم يا مولاي يقودون الشعب للعمل بلا أجر، يكممون من يقول الحق، يقتلون من يعارضهم، يسوقوننا للموت كالأغنام للذبح. - ولكن أهل فقدت العدالة؟ وساد الظلم؟ وعدمتم محاكم تنجيكم مما أنتم فيه؟ أليس في الأمة من رجل بمعنى الكلمة يقودها حيث ترقى وتعتز؟! - إن لبولاندا يا سيدي الوزير مجلسا يطلق عليه اسم «الديت» وهناك تنفذ القوانين ويصدق عليها، هناك يحكمون على الشعب حكمهم الذي لا يقبل النقض والإبرام، ولكن الغريب المزري بشرف الأمة البولاندية، هو أنه إذا تغيب نبيل وقت التصديق على قانون، بل كان حاضرا وعارض، فإن ذلك القانون يعد لاغيا، فهم والحالة هذه يصدقون على قوانين في صالحهم أكثر مما هي في صالحنا، فهم في نعمة ورفاهية، ونحن في نقمة وبلاء. - يا للفظاعة! هل الإنسان يفعل ذلك بأخيه في الإنسانية وشريكه في المرافق الحيوية؟!! ولكن على كل حال إنكم استعنتم بتركيا، وهي ستعينكم، وهي في غنى أيضا عن أية مساعدة حربية كانت أو مالية.
ولكن الإنسان بطبيعته ميال إلى صالح نفسه، فجلالة السلطان إذا رأى مثلا أن فتح بولاندا لا يكلفه إلا القليل من المال والرجال ما دمتم أنتم مساعديه؛ ليخلصكم من رق واستعباد فهو لا يرفض ذلك أبدا، ونحن إن هاجمنا فإنما نهاجم لصالحكم؛ فلا يصح أن ننصب ونتعب وأنتم على مهاد من الراحة نائمين.
فأفصح لي عن مواضع الضعف فيكم، عن حصونكم وأحوالها، عن عدد جنودكم، عن قوادكم المشاهير، حتى ندبر للأمر عدته ونحارب على بينة.
وهنا لو دخل عليهما ثالث، وحقق النظر إلى وجهه القوزاقي لعجب من منظره، فإنه كان أحمر الوجه بدرجة غير محدودة، وذلك إنما لأنه كان يخون وطنه، ويلقى بأسراره إلى غريب لا يحق له أن يطلع عليها، ولكنه في هذه الحالة يبوح مضطرا بحكم المعاملة التي يلقاها في بلاده.
وبعد دقائق معدودات رفع القوزاقي رأسه وقد ألقى إلى الوزير الكبير كل ما أراده، ثم تابع حديثه، وقال: وإني أحذر سيدي الوزير من نائب حر اسمه سوبيسكي، شديد الغيرة على مصالح بلاده، يتنبأ له الكثيرون بأنه سوف يكون عضدا قويا لبولاندا، وينجيها من عدو سوف يقضمها بين أشداقه خضمة الإبل نبتة الربيع. - إنا سنكون على حذر أكثر من اللازم، وبعد شهر أو أقل سترى ملائكة الرحمة متقدمة جيش أمير المؤمنين الظافر، وسترون كيف ينتصر آل عثمان للعدل والحق والإنسانية.
انتهى الحديث بينهما على هذه الصفة، فقام مندوب القوزاق متمهلا إلى أن خرج، وهنا خلا الجو لذلك الرجل الكبير الذي تعلق عليه الدولة آمالها، فجلس يمعن الفكر فيما هو قادم عليه، وجعل يحدث نفسه قائلا:
أي أحمد، ألم يزل علم السعد خفاقا، وما برحت من الفائزين، وأنت يا أبي نم في قبرك مستريحا، وأنت أيتها الروح استقري في قبرك مطمئنة، واعلمي أني متبع وصيتك لا أحيد عنها أبدا، تلك الوصية التي تقول لي فيها: «إياك والركون إلى أعداء الدين، وطع في الدنيا اثنين ربك وملكك، واسع لخير أمتك ودولتك.» فأنا بإذن الله منجز وعدي، ومبلغ بدولتي مقرها الذي ينبغي أن تكون فيه.
وبولاندا لا بد من افتتاحها، وأني أرى الطريق تنفتح أمامي؛ إذ لا أسهل من افتتاح مملكة تنافر عنصراها، وانطبق عليها قول السياسي: «فرق تسد»، مملكة ضاعت أواصر المحبة والاتحاد بين أفرادها، مملكة نصرت الظلم، وطمست العدل، مملكة قبض على أزمة أمورها أمير ضعيف ونبلاء أقوياء يديرونه كما يشاءون.
وهنا دخل عليه خادم غرفته الخصوصي سعيدا منبئا أن هناك حاجبا من يلدز يستدعيه لمقابلة خليفة المسلمين؛ فقام توا ملبيا الأمر، فلندعه سائرا حيث المهابة والجلال، والخلافة الإسلامية بأسمى معانيها، ولنسر إلى بولاندا لنرى حال مملكة ضاعت وانمحت.
الفصل الثاني
الديت
الديت اسم أطلق على ذلك المجلس النيابي الذي أخذه البولانديون بعد شق الأنفس، بل بعد ما جاهدوا جهاد الأتراك سنة 1908، ولا غرو؛ فإنهم ما كانوا يحاربون عبد الحميد واحدا، بل كانوا يحاربون ما يفوق ألف نبيل يماثل كل واحد منهم طاغية كهذا الطاغية المستبد.
أخذوا ذلك المجلس الذي ليس له من المجالس النيابية إلا اسمها، وإنما أعطاه سالبهم إياه ليسد أفواها ملأ صراخها آذان العالم المتحضر، وأزعج أنينها قلوب المتمدنين من ممالك أوروبا، بل أيقظ من كان نائما لم يسمع أن بولندا لا تزال تحت أثقال من الظلم راسخة.
كان أعضاء ذلك المجلس كلهم من النبلاء، لا يصدقون على قانون يكون مخالفا لمصلحتهم، ولو قامت ثورة كثورة الفرنسيس تنتهي بقتل زعماء الحكام، كما انتهت بقتل لويس وماري.
فهم إنما كانوا يلبسون لكل حادثة لباسها، ويمثلون على مرسح الأطماع رواية هم الفائزون فيها.
كان أولئك الذين ليس لهم من النبل إلا اسمه لا يصدقون إلا على قوانين توافق مشاربهم وتلائم مصالحهم، فقضوا على الشعب المسكين وأضاعوه.
فأصبح عدوا لهم، وهكذا غدا من السهل اقتناص بولاندا وضربها ضربة قاضية في حريتها واستقلالها، ما دام التنافر أخذ محلا في قلوبهم، متمكنا في أفئدتهم، فالنبلاء يستعبدون الشعب استبعاد العبيد، ويجرونه، بل يسوقونه كما تساق الشاه للذبح، بل كما كان فرعون يسوق المصريين للعمل في بناء الأهرام بدون أجر؛ فكافؤوه بعدم دفنه فيها.
وهكذا يتملك المستبد الرقاب، ويتحكم بالعباد إلى أن تحين لهم فرصة فيهجمون عليه هجوم الذئاب الجائعة على معتقليها، فيزلزلون عرشه، ويجعلونه مزعزع القوائم.
ندع الآن النصح لذلك المستبد السافل الذي لا يجد عبرة في هدم عرش شارل الأول وسفك دمه، وبتر رأسه بسيف الجلاد.
بل لا يجد عبرة بانتصار الشعب على لويس السادس عشر وقتله إياه مع عقيلته ماري أنطوانيت التي شربت الكأس نفسها.
بل لا ينتصح بالقريب الذي ملأ آذان العالم المتمدين من قلب عرش المستبد إلى مجلس شورى وإنزال طاغية القسطنطينية من عرشه ونفيه إلى سالونيك.
ندع كل ذلك ونسير بالقارئ خطوة كبيرة، نترك بها دار السعادة، ونحط برحالنا في وارسو عاصمة بولاندا وحاضرتها.
هناك بعد أن نستقبل المدينة من الجهة الشرقية شارع يقال له شارع جونسكي، إذا توسطته وجدت به بنيانا فخما، يكاد يسد منافذ القبة الزرقاء، وقد أطلق عليه ذلك الاسم الذي صدرنا به الفصل الثاني.
الديت
ففي الخامس من شهر (آب) سنة 1672 كان السائر في هذا الطريق يلفت أنظاره كثرة الازدحام حول باب الديت؛ وذلك لأن اليوم موعد انعقاد جلسة للمباحثة في تقرير ضريبة جديدة، والمناقشة فيما يتعلق بقانون جديد سينشئونه ضد قوازق الأكرين.
أما الضريبة؛ فسنعلم قريبا من أي نوع هي.
أما القانون فكان يقضي على كل قوزاقي وجد في منزله اجتماع واشتبه فيه أن يجازى بدفع غرامة لا تقل عن خمسماية روبل، وإن توانى عن الدفع فأمامه خمسة أشهر يقضيها بعيدا عن أعين إخوانه مسجونا.
وهذا هو ما كان يخرجه أولئك المستبدون من القوانين القتالة للحرية الشخصية والعمومية.
خذ بيدي - أيها القارئ الكريم - وادخل بنا إلى ذلك المجلس لترى فظائع تعصب النفس للنفس، بل لترى الأنانية، وكيف يكون مبلغها، بل لتنظر مبلغ احتقار الإنسان لأخيه الإنسان.
هناك بين أوسع قاعات المجلس قاعة تسمى قاعة الجلسات، فما وافت الساعة التاسعة صباحا حتى توافد نبلاء القوم ليقرروا القوانين ويصدقوا على المواد، ويضربوا الضرائب على شعب آن من الظلم، وبلغت شكايته عنان السماء.
انتصفت الساعة التاسعة فنادى مناد بالانتظام، فسكن الجميع وانتظروا أقوال رئيس المجلس الكونت سمولنسكي حيال هذه القوانين والضرائب.
قرع جرس، فقام الرئيس خطيبا، فقال:
أيها الإخوان، هنا اجتمعنا اليوم لنقرر ما يدفع عنا صرخات ذلك الشعب الثقيل الذي لا يريد إلا أن يكون صاحب الأمر والنهي، لا يلوي على أي سيد كان.
ونحن إنما نسينا ذلك المثل العربي القائل: «لا تطعم العبد الكراع فيطمع في نيل الذراع.»
فنحن بيدنا زعزعنا مراكزنا، وآثرنا عليها ذلك الحيوان الممقوت، فقد أعطيناه ما أراد، فظن أننا طوع أمره، فطلب الزيادة، وجب إذن أيها الإخوان إيقافه عند حده خيفة أن يمتد لهيبه المحرق، فيزعزع الملكية والنبلاء، ويهدم ما شيده أجدادنا (تصفيق حاد من الشمال).
فكرت في ذلك أنا ورفاقي - أولو الأمر وأصحاب السيادة في وطننا العزيز - فوجدنا أن خير قانون هو معاقبة أي قوزاقي اشتبه فيه محرضا لاجتماع أن يسجن خمسة شهور، وإن أراد أن يفدي نفسه فيدفع خمسمائة روبل لحكومة جلالة الملك، فهل أنتم موافقون؟
نعم موافقون، نعم موافقون (حزب الشمال).
كلا، إن ذلك قاتل مجحف (بعض حزب اليمين).
وهنا قام أحد أعضاء حزب اليمين جون سوبيسكي فقال: أيها الرئيس، أيها الإخوان، إن ذلك القانون الذي أخرجه جناب الرئيس وزملاؤه ووافقتهم أنتم عليه لأنه موافق لمصلحتكم قاتل لغيركم، قاتل للشعب، قاتل لذلك الملك الذي ينقلب بالإرهاق شيطانا.
فهل فكرتم كلكم في أن مراكزكم التي أنتم فيها لم تحفظ وأن أموالكم لم تبق، وأن حياتكم لم تسلم، إلا لأن الشعب هادئ لا يحرك ساكنا؟ ألا وشرف بولاندا إن نفخة واحدة في تلك النار المدفونة لكافية أن تكشف عنها الرماد؛ فنرى رجلا ككروميل يمثل على مرسح البلاد البولاندية رواية شارل الثاني (ضجيج تافف).
اسكت، اسكت، لا نريد أن تتكلم (حزب الشمال). (سوبسيكي في وسط الصخب) دعوني أتكلم أيها الإخوان؛ فتروا صحة كلامي حتى إذا مت يوما ما وذكرتم اسمي ترحمتم على فرد يسوؤه انحلال بولاندا.
فيا أيها الرئيس ويا أيها الإخوان، أفيقوا واعلموا أن تلك القوانين تثير الشعب، وإنكم إنما تحفرون قبوركم بأيديكم، أنتم تثيرون النار بنفخ الرماد، رفقا بأنفسكم، ورفقا بشعب تقودونه، بل بشعب أنابكم ووكلكم أموره. (حزب الشمال وبعض حزب اليمين) اسكت يا نصير الشعب، ها ها ها، لا نريد أن تتكلم، كفى هذيانا. (الرئيس) سنأخذ أغلبية الأصوات بطريقة سرية، فليكتب كل عضو رأيه في ورقة وليلقها في هذا الصندوق. وأشار إلى صندوق وضعه على طاولة أمام المصوتين.
وهنا تمتم سوبيسكي قائلا: الآن تمت الغلبة للظلمة، وصار النصر في جانب العسف، وضاع العدل بين أولئك الذين ليس لهم من النبل إلا اسمه، فيا ويح أمة أنتم نوابها!
وبعد ردهة من الزمان سكتت الجلبة على صوت الرئيس؛ إذ قال: أيها الإخوان سيسري القانون بأغلبية الأصوات.
والآن فإن أمامنا ضريبة نريد أن نقررها؛ لأن المالية في حاجة إلى المال لتحسين الحالة الإدارية في المملكة.
وما انتهى الرئيس من كلامه حتى قام جون سوبيسكي وقال: إنك يا جناب الرئيس ويا حضرات النبلاء لو كنتم تخالطون الشعب لأدركتم حالته المالية، فلا بد أنكم كنتم بدلا من ضرب الضرائب تخففونها عنه؛ لأنها أصبحت حملا ثقيلا على كاهله يئن تحتها، فرفقا بالأمة يا قادتها، ورفقا بالشعب يا نوابه، ورفقا بالمملكة يا رؤساءها.
الرئيس: ذلك أمر جلالة الملك، ومع كل فسنرى بأغلبية الأصوات، فيا حضرات النواب هل توافقون على ضرب ضريبة جديدة؟ (من اليمين ومن الشمال) نعم، نعم، ذلك من حق جلالة الملك وحقنا. وبعد قليل وافقت أغلبية المجلس على ضرب ضريبة جديدة.
وما هي تلك الضريبة؟
إنها كانت على قطع الأخشاب من الغابات، إذ قرر أن كل طن من الخشب يؤخذ عليه ثلث ثمنه رسما.
وهكذا كان ذلك المجلس يضيق على أنفاس الشعب ويذيقه كؤوسا يضيق لها صدر الحليم.
انفض الاجتماع أخيرا، فكان أول المجتمعين خروجا جون سوبيسكي الذي دافع بكل قواه عن الشعب، وبذل كل مجهوده للذود عن حوضه.
فما ظهر أمام الجمع المحتشد أمام باب المجلس حتى هتفوا هتافا بلغ عنان السماء كان يتخلله قولهم: «ليحي النائب الحر» «ليحي سوبيسكي» «ليسقط الظلم» «ليسقط الاستبداد»، وهكذا كان الشعب يحيي قائده والمدافع عنه، ويظهر له ما يمكن أن يعبر به عن سروره واحتفائه به.
وبالجملة فإن جون سوبيسكي لم يمكنه أن ينسرق من هؤلاء الذين يودون الموت فداءه إلا بكل عناء، فذهب توا إلى قصره واستراح، وبعد أن تناول غذاءه ركب عربته وسار متنزها، فما توسطت عربته طريق ميخائيل حتى تقدم إلى العربة رجل لابس لباس الخدم البولانديين وبيده رسالة، وما لبث سوبيسكي أن رآه حتى أوقف العربة وقال: خيرا يا سرجيوس. - إن شاء الله يا سيدي، ولكن سيدتي أرسلتني لأقابلك وأعطيك هذه الرسالة.
فأخذ سوبيسكي الرسالة وأمر سائقه بالمسير، وفضها فوجد بها سطرا واحدا هو: «قابلني الليلة بغار السعادة» والإمضاء صوفيا.
فقال: يا ترى أي أمر جد ؟ وأي حادث حدث وأنا تاركها بالأمس قريرة العين؟ ولكن على كل حال سأراها اليوم.
وقف السائق أخيرا أمام قصر سيده، فنزل سوبيسكي من المركبة وصعد القصر.
فلنتركه الآن، ولنسر بالقارئ حيث يلتقي العاشقان.
الفصل الثالث
البولاندية الحسناء
صوفيا جاركوف غادة بولاندية تسكن وارسو عاصمة بولاندا وحاضرتها، وهي معروفة فيها بحبها للخير والإحسان ومد يد المعونة لفقراء وارسو وعائلاتها، وطالما رأوها سائرة متبرقعة بقناع كثيف حاملة بيدها مؤونة أو مالا تريد أن تحسن به مخترقة أزقة ضيقة وأماكن قذرة لا يسكنها إلا الشعب الفقير الذي صار في النزع الأخير من حياته؛ لما أصابه من تضييق في الحرية، وسلب في الأموال، وضياع في القوى.
تسير تلك الغادة الحسناء حتى تقف ببيت خيم عليه الفقر، فصارت أيام ساكنيه أشد سوادا من حظ المنكود؛ فتنقلب تعاستهم سرورا وأحزانهم حبورا، ولا غرو؛ فقد كانت كملائكة الرحمة، لا تنزل في مكان إلا وتترك به أثرا من آثار النعمة، تواسي المرضى فتسقيهم، وتساعد الفقراء فتنجيهم، وتطعم الأطفال فيفترون عن ثغر باسم شاكرين لها تلك اليد.
ومن ثم تخرج محفوفة بدعوات خارجة من قلوب مخلصة، تود لها الخير من صميمها، تخرج ووراءها ألسنة منطلقة بشكرها والثناء عليها.
تسير في الطرقات فيشيرون إليها قائلين: «هذه ملاك وارسو صوفيا جاركوف ذاهبة إلى منزلها بعد أن ساعدت عائلات فقيرات خيم البؤس على منازلهن، فما خرجت منها حتى صيرتها جنة.» «إن الطيور على أشكالها تقع» ذلك مثل عربي طالما ساعد الدهر على إثباته ولا غرو؛ فإن صوفيا جاركوف ملاك وارسو - كما يلقبونها - كانت حبيبة ذلك النائب الحر والبولاندي الطاهر المدافع عن الحق، الذائد عن المروءة «جون سوبيسكي».
رآها ذات يوم جالسة في حديقتها تخيط ثيابا لا شك في أنها كانت لعائلة فقيرة، وكان قلب ذلك البطل الذي صار فيما بعد أشجع قائد في زمانه خلوا من الهوى، فما رآها وصادفت عيناه عينيها حتى امتزجت روحاهما، ومالا إلى بعض كل الميل، ولم يمض يوم أو يومان حتى تقابلا، وتلك سنة الغرام الطاهر والحب الشريف.
نظرة فابتسامة فسلام
فكلام فموعد فلقاء
تلاقيا بعد ذلك مرارا، وإنما كانا يتلاقيان في غار بعيد عن المدينة، يطلق عليه اسم «غار السعادة».
كان ذلك لأن أبا صوفيا الكونت سمولنسكي رئيس «الديت» يكره أن تتلاقى ابنته مع رجل كسوبسيكي يساعد الشعب على النبلاء، مع أنك لو سألت ذلك الرجل بشرفه ونبله عن رأيه في سوبيسكي لصاغ لك المدح عقودا وأعجب به أيما إعجاب، ولكنه لا يمكنه أن يصرح بذلك خيفة أن ينتزعوه من مركزه عنوة واقتدارا ويبدلوه بغيره.
وإن مركز رئيس الديت لمركز تتوق إليه نبلاء بولاندا، فكلمة شك تبدر من فم الكونت سمولنسكي تودي به، وتنزله من حالق مجده.
وكان لصوفيا خادم أمين، تربى في بيت أبيها من صغره، فكان هو الوحيد المطلع على غرامها الطاهر، بل كان الرسول بين الروحين، المقل للرسائل بينهما بأمانة قلما يشاركه فيها آخر من بني آدم.
تقابلا ذات يوم في غار السعادة، ولم يلبث سوبسيكي قليلا حتى استأذن حبيبته بالانصراف؛ وذلك لأنه قد ورد له خطاب من الديت يفيده بأن موعد الانعقاد باكر، وأنه لا بد من حضوره لحصول أمور ذات أهمية وتقرير قرارات كبيرة.
وإنما كان ذلك اليوم هو الخامس من شهر (آب) الذي دافع فيه جون سوبيسكي عن الشعب دفاع المستميت، بل هو اليوم الذي قابله فيه خادمها سرجيوس بخطابها الذي تدعوه فيه.
وذلك لأن ميخائيل ملك بولاندا استدعى الكونت سمولنسكي أباها بعد اجتماع المجلس وتقريره تلك القوانين.
فلما عاد استفسرته ابنته عما دار بينه وبين الملك أجابها قائلا: اطمئني يا ابنتي، فإنه لم يدعني إلا ليخبرني أن الأتراك برئاسة أحمد باشا كوبريلي صدرهم الأعظم قد احتلوا كامنياك احتلالا نهائيا، وأنهم يتقدمون بانتظام نحو العاصمة، وقد خيرني في انتخاب قائد لهم فأشرت عليه بانتخاب جون سوبيسكي. - ماذا يا أبي؟ هل ضاع حب الوطن من أفئدتكم؟ فإنك تروي لي خبر احتلال الأتراك لبادوليا وكامنياك بكل سهولة وبساطة، ثم تفاجئني بتعيين سوبيسكي أهل تريدون بهذا التعيين أن تبعدوا عن المجلس خيرة نوابه وأرقى منتخبيه؟! - ألا فاسكتي فإنه تقرر نهائيا ولا مرد لأمر جلالة الملك ونبلائه.
خرجت صوفيا من غرفة أبيها، وقد غص ريقها، وصار تعيين ذلك الحبيب قائدا لجيوش بولاندا قذى في عينيها، وشجى في حلقها، ولا ريب فإنهما ما يكادا يرتشفان كؤوس الحب الطاهر والغرام العذري حتى وافى نبأ الفراق، وحتم عليهما أن لا يتلاقيا بعد، وربما وافى حبيبها أجله المحتوم في تلك الحرب التي ولا ريب سيقاتل فيها مقاتلة الشجاع المستميت.
فكتبت تلك الرسالة ونادت سرجيوس، وقالت له:
سرجيوس، عليك بمقابلة جون، وإعطائه هذه الرسالة يدا بيد، ولا بد من إيجاده، وإن كان في المجلس فانتظره، وإياك أن تأتيني إلا بخبر يسرني، وما هو إلا إيجاده وإعطاؤه الرسالة. - سترين كل ما يسرك يا سيدتي.
غاب سرجيوس ورجع، فكان أول من قابله صوفيا؛ إذ كانت جالسة في حديقتها فسألته: أقابلته؟ - نعم يا سيدتي، وقد أخذ الرسالة، واستفسر من صحتك.
إذن فاستعد يا سرجيوس الليلة - في منتصف الليل - لأننا سنذهب إلى غار السعادة، فقد بلغ الأمر من الأهمية أكبرها. - سمعا وطاعة يا سيدتي.
انتصف الليل، ونامت وارسو، وساد عليها السكون، حتى الطبيعة فإنها شاركتها في ذلك السكون؛ فلم تكن تسمع غير حفيف الأشجار، وخرير نهر الفستيولا، فلم يكن هناك من انتبهت عيونهم ولم يشاركوا ذلك المجموع الآخر في نومه إلا ثلاثة، هم: جون سوبيسكي، وحبيبته صوفيا، وسرجيوس ملاكهما الحارس.
فلو سار القارئ في ذلك الوقت قاصدا ذلك الغار ملتقى العاشقين لوجد سرجيوس واقفا على بابه حارسا، وهما في الداخل يتشاكيان الغرام، ويتبادلان كؤوس المحبة.
فلنتخذ من الظلام سترا لنكون على مقربة منهما، فنسمع آيات الحب يفوه بها ذلك الفم اللطيف الطاهر.
ابتدأ سوبيسكي الحديث؛ فقال:
أي صوفيا، خيرا إن شاء الله، فإني تركتك أمس قريرة العين، جذلة الفؤاد، فما الذي دعاك إلى إرسال هذا الخطاب؟
ما هذا الكلام أيها الحبيب؟ ألا تريد أن نكون على مقربة من بعض؟ ألا فاعلم أنا عن قريب سنفترق، فإن الأتراك هاجموا بولاندا، وقد عينوك قائدا لجيوشنا .
فتجهم وجه جون وصاح: ماذا أيتها الحبيبة؟ إن ذلك لخبر لم أسمع به حتى الساعة إلا منك! وإذا كان خبر كهذا له من الأهمية ما له، ولا أسمع به حتى الساعة، بينا الأتراك يتقدمون ممتلكين بلادنا ونحن نسكت حتى الآن؟ ألا إنه خير لبولاندا أن تنحل من أن تكون في مركز كهذا، أما أنا؛ فإني أتقدم لا لأكون قائدا، بل لأتطوع كجندي بسيط أحارب أعداء وطني، وما أعداؤه في الحقيقة إلا مليكه ونبلاؤه، والآن كيف يتسنى لهم جمع الجيش وصد هجمات أولئك الأتراك الذين طالما سمعنا عن خبر انتصاراتهم العديدة؟!
فيا رب كن مساعدي، وقو ساعدي؛ حتى أرد غارات قوم سوف يبتلعون وطني العزيز فيذهب ضحية أولئك السفلة القابضين على أزمة الأمر فيه، أما أنت أيتها الحبيبة ففراق - إن شاء الله - يعقبه تلاق بانتصار وخير، ودعيني - أيتها الحبيبة - التي إن مت فليس أمامي إلا شبحان يهيجان قلبي وضميري؛ أولهما بولاندا، والثانية أنت يا صوفيا.
فصلي وادعي لي في صلواتك بالنصر، عساني انتصر؛ فأكون ممن جاهدوا في سبيل أوطانهم.
وأنت - أيتها الحبيبة - ألا ترين ذلك الضعيف ميخائيل؟ وكيف لم يصل إلينا خبر الحرب ونحن أعضاء مجلس الشورى لبولاندا؟ بل لولاك لم يصل إلي إلا ربما حينما يكون الأتراك على أبواب وارسو، والآن - أيتها الحبيبة - ودعيني، قبليني، دعيني أتملى من حسنك الفتان، فآخذ لي منه زادا أتزود في غمار تلك الحرب الشعواء. - أواه - أيها الحبيب - أتفارقني ولم يكبر للآن غرامنا ويشب؟! ما هذا يا رباه؟ أهل قدر علي التعاسة والشقاء؟ أيها الحبيب، استحلفك بغرامنا الطاهر أن تبقى بجانبي، ولا تقدم على حرب سوف تنتهي بانخذالنا.
رفقا يا صوفيا فنحن لسنا في موقف غرام، بل في موقف وطن وإقدام، فشخصك لا يبرح مخيلتي، ولكن وطني، وطني الذي إن مات متنا، وإن عاش عشنا، لا بد من إنقاذه، وإلا ذقنا من يد الأتراك كأس الموت، وصرنا سبة الدهر، وعار التاريخ، والآن وداعا أيتها الحبيبة، وسأترك بجانبك سرجيوس، فهو ملاكك الحارس.
وهنا كانت الساعة المؤلمة ساعة الوداع؛ فغص ريقهما، وبللت دموعهما خديهما، وودا لو أن الساعة تقوم، فيموتان معا ويحشران معا.
ولكن سوبيسكي قاوم نفسه، وهرب مودعا إياها.
فلنتركهما الآن، ولندع مواقف الغرام وراءنا، ولنستقبل ساحة الحرب ومواقف الطعان لنرى حب الوطن، وكيف يكون مبلغه.
الفصل الرابع
كامنياك
نسير الآن زحفا إلى بدوليا، قاصدين كامنياك، حصنها الحصين، بل تلك القلعة التي حصنتها أيدي الطبيعة، ودبجتها يد العناية الإلهية؛ فكانت كالأسد الرابض المنيع الجانب.
فلا مرتفعات واترلو التي تحصن بها ولنجتون، فقهر نابليون، وأطفأ بيده نجم سعوده، وقهره بيد القادر المتمكن، وأنزل ذلك الجبار الذي أطلق عليه لقب الرجل الذي لا يغلب من سماء مجده إلى أسفل سافلين.
بل ولا مضيق ملونا الذي تحصن به اليونان في حربهم الأخيرة وقهرهم فيه أدهم باشا بهمته المعروفة وحيلته الهائلة.
ولا غرو؛ فقد كان كامنياك حصنا حصينا قائما في وسط سهل كبير، لا يمكن لأحد أن يحمي نفسه بأي شيء تحت نيران مدافعه وبنادقه، فالذي يتعرض للهجوم عليه كمتعرض لأسد بلا سلاح، أما ارتفاعه فقد كان هائلا، ولكن حكومة بولاندا أهملته إهمالا فظيعا، ونبذته نبذ النواة، فلم تعد دفاعه كما كان المطلوب.
فصار من السهل افتتاحه واحتلاله على قوم كالأتراك يقول عنهم نابليون «لو كان لي جيش من الأتراك لفتحت العالم بأسره.»
فقد كان، وسار أحمد كوبريلي باشا بجيش يزيد عن ربع مليون جندي مدرب يحمل عدة كاملة، وكلهم ذوو عزيمة حادة قوية، طالما حببتهم إلى الحربيين من كل مملكة.
فقد كان الجندي العثماني يقاتل بشجاعة واطمئنان قتال الحافظ للمثل القائل: «من مات في سبيل وطنه مات شهيدا»، فهو شجاع يعلم أن الموت موت واحد، ولكن عدوه جبان يموت مائة مرة قبل أن يدخل في غمار الحرب. وزيادة على ذلك فهو صبور لدرجة لا تطاق يكتفي بالقليل من الطعام.
تقدم كوبريلي أحمد باشا بهذا الجم الغفير، وكلهم قلب واحد يودون النصر، وكلهم مشتاقون لذلك.
ففي التاسع من شهر نوفمبر سنة 1672 ظهرت طلائع جيش أحمد باشا، فرأتها الحامية التي في الحصن، ولم تكن تزيد عن خمسة آلاف جندي، ليس عندهم من المؤونة إلا ما يكفيهم أياما قلائل.
رأى أولئك الجنود ذلك الجيش الذي سوف يهاجمهم عن قريب، فعولوا على الدفاع إلى آخر نقطة من حياتهم، والموت شرفاء يذكرهم التاريخ بأنهم لم يسلموا وفيهم نقطة دم، بل يذكرهم بأنهم ماتوا دفاعا عن أوطانهم.
فعسكرت جنود أحمد في السهل على مقربة من الحصن، وعولوا على المهاجمة بعد قليل.
وقد باشروا الهجوم على الحصن في صباح العاشر من شهر نوفمبر، فكانت قذائف الأعداء تنهال عليهم كالوابل الهتون، فيثب عزرائيل قابضا روح هذا مستمهلا ذاك، والحي منهم يجعل الميت ترسا يحمي عنه رصاص الحامية وقذائفها، فلم ينتصف النهار حتى كان الأتراك على قاب قوسين أو أدنى من الحصن.
ومن ثم صرخ أولئك الشجعان صياحهم المعروف وقت النصر: «الله أكبر» «الله أكبر» فاهتز الوادي والحصن معا لهذا الصياح المخيف من فم ربع مليون جندي، كل له صوت يدك معقلا.
فكان صياحهم كالقذائف أصابت قلوب البولانديين؛ فهلعوا وصاروا كالجرذان لحقتها السنانير فسكنت أصوات الحامية، ولا غرو؛ فإنهم دافعوا عن الحصن إلى أن خلصت المؤونة.
كان لكل جندي عثماني فأس في حزامه، فأخرجها وتحطمت الأبواب، ودخل الأتراك منتصرين، ثملين بخمرة الفوز عادتهم في كل موقعة.
أما البولانديون فإنهم عمدوا إلى السيوف فأخرجوها من أغمادها واستعدوا للموت.
وقلدهم الأتراك، فكانت مذبحة انتهت بقتل جميع البولانديين حامية الحصن عن آخرهم، حتى قائدهم؛ فإنه أسلم الروح من يد ضابط انكشاري، ضربه ضربة فصل بها رأسه عن جسده.
وهكذا بر البولانديون بوعدهم، وقاوموا إلى النهاية؛ فذهبوا ضحية حبهم لوطنهم، يحفظ لهم التاريخ ذكرا حسنا ما كر الجديدان.
دخل أحمد كوبريلي الحصن، وأمر كشافي الجيش بالذهاب ليروا جيوش البولانديين، وهل تقدمت أم لا.
هبت ريح نقلت أنباء الحرب إلى جميع أنحاء بولاندا؛ فعلم القاصي والداني، الصغير والكبير بما آلت إليه حال مملكته، وكيف هزم الأتراك جيوشها، بل كيف يتهاون ملك بولاندا ونبلاؤها في الدفاع عن وطنهم ضد عدو مخيف كالأتراك.
فلم تصل أخبار الانتصار إلى قوزاق الأكرين حتى هبوا ثائرين سائلين الإصلاح، طالبين العدل والإنصاف، ولا غرو؛ فقد جاءت الفرصة وحان وقتها، والزمن فرص؛ إن تركت عادت غصصا.
ولغاية ذلك الوقت لم يهتم نبلاء بولاندا - بل ولا مليكها الذي كان يجب عليه أن يخاف على عرشه من الاضمحلال - أي اهتمام.
بل ولم يعقدوا مجلسا ليبحثوا عن أحسن الطرق لرد ذلك العدو الذي يتقدم باطمئنان.
ولكنهم بهذيان المحموم أمروا أن يولى على الجيش جون سوبيسكي، وأن يجمع الجيش بسرعة زائدة.
وعلى هذا الدرب سار أولو الأمر في بولاندا، فولوا جون سوبيسكي قيادة الجيش؛ لأنه رجل يحبه الشعب، ويود لو يفديه بأرواحه.
فلم يكد يصل نبأ هذا التعيين إلى المدن والقرى المجاورة حتى توافدت الجنود المنظمة، والأهالي المتطوعة، زرافات ووحدانا؛ ليكونوا تحت إمرة قائد يحبونه ويجلونه.
فلم تمض أربعة أيام حتى استعد الجيش للمسير ليحارب عدوا هائلا وأسدا رابضا، سار الجيش وصراخه يصم الآذان؛ قائلا: لتحي بولاندا، ليحي الوطن، ليسقط الأتراك، ليعش جون سوبيسكي.
وهكذا نسي الشعب في ذلك الوقت أضغانه السابقة، لأولئك الذين جعلوا همهم قتله، والتضييق على حريته.
تناسوا الأضغان، وإنما لأن الوطن في ضيق يجب عليهم أن يساعدوه بكل قواهم، وأن يبذلوا جهدهم لينقذوه من مركزه الحرج، وبعد ذلك يولون وجوههم شطر أولي الأمر؛ فيحاسبونهم على غلطاتهم الماضية، على استبدادهم وتعسفهم على قوانينهم القتالة.
وعلى هذا النمط سار ذلك الجيش تحت أمر قائد مدرب خبير وكلهم قلب واحد، يطيعون أمره إطاعة الرضيع لوالدته.
فلنسر معه خطوة خطوة حتى نلتقي بالأتراك في جوقزين؛ فنرى كيف يكون الغلط أصل التقهقر بل كيف ينتصر الجيش ما دام متحدا قويا يقوده رجل محنك وطني كسوبيسكي.
الفصل الخامس
جوقزين ولمبرج
جوقزين ولمبرج هما اسما تلك الواقعتين اللتين حارب فيهما سوبيسكي محاربة الضعيف اليائس، ولكن بعزيمة لا تفل، وقوة لا تمل، فقد استعمل قواه وأجهد فكرته في إيجاد طريقة لهزيمة عدوه.
وقد كلل عمله بالنجاح وظفر أخيرا على الأتراك وهزمهم شر هزيمة في الواقعة الأولى «جوقزين»، ومن ثم سار متبعا إياهم إلى أن لحقهم في «لمبرج» وبقوة المنتصر ألحق بهم خسارة عظيمة وهزمهم.
تحققت نبوءته يوم قال لصوفيا: «تلاق يعقبه انتصار وفرح» فانقلب يأسه شجاعة، وود لو قابل الأتراك ليقهرهم ثالثة، ولكن هي الدنيا «يوم لك ويوم عليك».
والآن فلنصف قدر الإمكان جوقزين، ومن ثم لمبرج ليعلم كل كيف يريق الناس دماءهم دفاعا عن وطنهم بل كيف يستميتون في الدفاع عن حقوقه.
قلنا: إن الأتراك دخلوا كامنياك بانتصار كبير، وأرسل أحمد كوبريلي باشا كشافة الجيش ليروا كيف يتقدم الجيش البولاندي الذي خرج من وارسو قاصدا كامنياك ليخلصه من أعداء الوطن.
فلم يزل متقدما سائرا ببطء حتى وصل جوقزين، وهي قرية في منتصف المسافة بين كامنياك ووارسو، فعسكروا خارجها بأمر من سوبيسكي.
منتظرين جديدا من قائدهم الباسل.
وقد عسكر سوبيسكي خارج هذه القرية، وإنما كان غرضه الوحيد في هذا العمل هو أن يسحب الأتراك إلى ناحية ليقاتلهم في واقعة منظمة يكونون فيها أمامه.
وذلك لأنه فكر وهو في الطريق إلى كامنياك فوجد أن الحصن منيع، والأتراك قد زودوه بما معهم من مدافع وذخيرة فصار أمنع، وعلى هذا فإنه يلقي بنفسه فى أتون من نار إذا تقدم يريد الدخول إلى الحصن وأخذه.
بل هو يلقي بنفسه في فم الليث بدون أن يتخذ له درعا أو شيئا يدفع عنه الضرر الذي سوف يلحق به.
وقد ساعده الحظ على إتمام مراده، فإن أحمد سار قاصدا إياه، وذلك لأن الكشافة بعد أن تنسموا الأخبار وعلموا علم اليقين أن البولانديين معسكرون خارج قرية جوقزين ساروا قاصدين كامنياك، فأخبروا أحمد بحقيقة الأمر.
وأخيرا بأمل الانتصار كما انتصر قبلا عول على الزحف ليلاقي عدوه.
فأمر أركان حربه باتخاذ معدات السير ولزوم السكون والتؤدة.
وفي اليوم الثاني نادى مناد بالرحيل، فتحرك ذلك الجيش الجم الكثير، تاركا القلعة لحامية غير قليلة، وترك معها مؤونة كافية، وسار الكل قاصدين جوقزين، وكل يمني نفسه بانتصار كبير على سوبيسكي وجنوده.
وهكذا يمني المنتصر دائما نفسه بالانتصار حتى إذا غلب وكان من ذوي النفوس الضعيفة اليائسة رجع القهقرى، أما إذا كان من ذوي النفوس الكبيرة والهمم العالية علل نفسه بالانتصار؛ منشدا قول الشاعر:
على المرء أن يسعى لما فيه نفعه
وليس عليه أن تتم المقاصد
ومن هذا الصنف الأخير كان كوبريلي أحمد باشا؛ فقد كان رجلا قوي الهمة على الآمال، لا تعجزه أية عقبة، ولا يقف في طريقه أي مانع، يسير إلى مرمى فكره ولبه، ولم يغب عن العالم ما فعله هذا الرجل العظيم، بل لا يجهل المؤرخون تلك المواقع التي كتبها بحد حسامه، وإن هزم أولا فإنه انتصر أخيرا، والعبرة بالآخر لا بالأول.
سار أحمد يقوده جيشه العرمرم، وكله آمال بالانتصار، فوصل إلى ضواحي جوقزين في سهل هناك وعسكر.
وصل خبر الأتراك إلى البولانديين؛ فأحدث هرجا بين الجنود الذين لم يلبثوا أن سمعوا نفيرا يأمرهم بالاجتماع، فاصطفوا، وخرج سوبيسكي من خيمته ممتطيا مركبه الأدهم الجميل إلى أن توسط الجيش فوقف، ووجد في هذه الساعة أن خير مشجع هو أن يلقي على جنوده خطابة صغيرة، تبث فيهم روح الإقدام، ولو أنهم كانوا في غنى عن أي مشجع.
ساد السكون، فلم تكن تسمع وقتئذ إلا ضربات القلوب التي لم تلبث أن هدأت حينما أدار سوبيسكي رأسه، ونظر نظرة المرتاح إلى جنوده، وابتسم، وقال مقلدا هنيبال في خطابه إلى جنوده:
أيها الجنود الشجعان
أدير رأسي وأوجه نظري فلا أرى أي ثغور باسمة، ولاوجوه نضرة دلالة على أنكم جنود بمعنى الكلمة تريدون النصر، وسيكون إن شاء الله حليفكم.
إنكم اليوم ستقاتلون عدوا مخيفا، قاهرا، طالما سمعتم عن انتصاراته العديدة، ولكن ذلك لا يمنعكم عن الانتصار، انتصارا باهرا يذكره التاريخ وكتبه، ويفتخر به أبناؤنا من بعد.
كونوا متحدين قلبا وقالبا، تغلبون أعداءكم، وتسعدون وطنكم الذي هو في حاجة كبيرة إلى الانتصار؛ إذ إنه يتوقف عليه سعادتكم أو ذلكم.
قاتلوا جنبا إلى جنب، ولا تجبنوا يتم لكم النصر، واعلموا أن العالم كله سينظر إلى هذه الموقعة؛ إذ تهزمون قوما يقول عنهم بقية إخوانكم الأوربيون إنهم لا يغلبون.
والآن هيا إلى الحرب، هيا إلى الأتراك.
فأجابه أصوات الجند التي تحركت وقتئذ للأمام؛ قائلة: «إلى الأتراك.» «إلى الانتصار.»
فكان يجيبهم كصدى على صياحهم قول الأتراك: «الله أكبر»، «الله أكبر»، الذين تقدموا باطمئنان نحو عدوهم. تلاقى الجيشان في سهل يطلق عليه الآن سهل تيرونوفتش، فأطلقت القذائف، ولمعت السيوف، واحتلت السهل جنود عزرائيل، واكفهرت السماء، واغبر وجه الجو.
وفي أحرج أوقات المعركة بينما كانت ميمنة العثمانين زاحفة بانتصار، أمر أحمد كوبريلي باشا أحد أركان حربه بالذهاب إلى بعض فرق الميمنة يأمرها بالانضمام إلى الميسرة؛ لأنها كانت على وشك الانهزام لضعفها.
فبدلا من أن يطيع الأمر اختلط عليه الأمر؛ فذهب إلى الميسرة فأمر بعض فرقها بالذهاب إلى الميمنة.
وبهذه الحالة أمكن البولانديون من التغلب على ميسرة الأتراك، ومن ثم تقدموا إلى القلب فهزموه أيضا.
وفي هذا الوقت تم النصر للبولانديين؛ فتعقبوا الأتراك الذين التجئوا إلى قرية لمبرج فدخلوها وعسكر الباقي هناك، وتوافدت الجنود العثمانية إلى لمبرج يتبعها قائدها أحمد كوبريلي باشا الذي عول على القتال إلى النهاية.
أما سوبيسكي وجنوده فانتظروا إلى أن هجم الليل بجيوشه وساروا قاصدين لمبرج بآمال المنتصر ليجهزوا على العثمانيين الباقين.
فوصل إلى المعسكر منتصف الليل فدوت أبواق الحراس، وقام الأتراك إلى سلاحهم، ولكن التعب الذي لاقوه والنصب الذي قاسوه أثر عليهم، فلم يلبثوا أن انهزموا بانتظام تحت أستار الظلام، وكلهم يردد قائلا: «إلى سهل كلاستكي.»
وهو أمر تلقوه من قائدهم الأكبر، فساروا جميعا إلى ذلك السهل الذي يشرف عليه «كاميناك».
فلم ينبلج الصباح حتى كنت ترى معسكر الأتراك وخيمه في ذلك السهل مبعثرة هنا وهناك، والجميع تحت سلطان النوم؛ فلم يؤذن مؤذن بالصلاة حتى كنت تراهم بملابسهم الحمراء كزهور أرجوانية نابتة في سهل من الحنطة.
وأحمد باشا كوبريلي في خيمته يفكر في طريقة يهزم بها جون سوبيسكي؛ فأرسل العيون والكشافين من القوزاق.
فلم يلبثوا أن أتوه بالخبر اليقين، وهو أن سوبيسكي معسكر في زراونو، فعول على مهاجمته في مقره.
فجمع أركان حربه، وقسم جيشه قسمين، أمر الأول بالمسير تحت إمرة أحد كبار قواده سيف الدين باشا، ولا يعلم أحد وجهته إلا قائده.
أما هو فإنه بعد يومين شد رحاله إلى زراونو وسار ميمما إياها.
الفصل السادس
زراونو ومعاهدتها
يقول المؤرخون: إن «أحمد باشا كوبريلي» حاصر «جون سوبيسكي» في زراونو محاصرة عنيفة، ولكن كان اسم سوبيسكي كافيا لأن يدع أحمد باشا وجيشه يسلم بعمل معاهدة مع البولانديين أهم فقراتها أن يأخذ الأتراك بادوليا، والبولانديون الأكرين.
ولكن جميع من لهم ذرة من العقل والفكر يحكمون بأن هذه الحقيقة وهم كاذب لا نصيب له من الصحة.
إذ كيف يعقل أن يحصر «أحمد باشا كوبريلي» «سوبيسكي» بفئة أكبر وأكثر من فئته ثم يسلم على زعم أن اسم «سوبيسكي» كان كافيا لأن يدع الأتراك يسلمون؟
رباه، إنهم كلما جاؤوا إلى حقيقة في جانب الإسلام قلبوها كذبا، فهم يحاربوننا في بلادنا، في أموالنا، في نسلنا، في علومنا، بل وفي تاريخنا.
إن جيش أحمد باشا لو كان سنانير لكانت كافية لأن تسحق قوة سوبيسكي وفئته التي لا حول لها ولا قوة، بل محصورة تحت رحمة الله ويد أحمد باشا، فالحقيقة المرة التي تصيب قلوب أولئك المؤرخين هو أن أحمد باشا كوبريلي إما أنه سلم بعمل معاهدة حسما للنزاع، أو أنه وجد أنه خير له أن يباشر هذه المعاهدة من أن يطيل أمد الحرب.
فقلبوا الآية، وقالوا: إن اسم سوبيسكي كان له رعب كاف لأن يجعل الأتراك يبرمون معاهدة.
نرجع الآن إلى سياق الحديث، إذ تركنا أحمد باشا كوبريلي سائرا بنصف جيشه بعد أن أمر النصف الثاني بالمسير قبل يومين تحت قيادة سيف الدين باشا.
وزراونو قرية محاطة بتلال عالية، احتلها جماعات البولانديين، وجعلوها كدرع يحمي المدينة غوائل عدوهم المبين.
ففي السادس من شهر دسمبر سنة 1675 بانت طلائع الأتراك من الجهة الشرقية للمدينة فأصلتها الحامية نارا من مدافعها جعلتها تقهقر للوراء، ومن ثم عسكرت بعيدا عن مرمى قذائف العدو.
نسير الآن حيث سيف الدين باشا قائد النصف الآخر بأمر رتبه كوبريلي باشا، فقد ذهب هذا البطل وقبلته زراونو، فسار قاصدا إياها، ولكن من طريق يقتضي زمنا كثيرا، وحدد له كوبريلي باشا أن يهجم على المدينة من الجنوب نصف الليل تماما في ليلة 7 دسمبر سنة 1675، حيث يهجم هو من جهة الشمال، وعلى هذا يمكنهما القضاء على سوبيسكي وآماله.
هجم الليل والسكون ضارب أطنابه مخيم على زراونو وضواحيها، والقمر يشرق آنا ويحتجب آخر، والظلام سادل سترا على الجيش، فلم تكن تسمع إلا خطوات الحراس المنتظمة، ولكن في الساعة الحادية عشرة أي قبل منتصف الليل بساعة كان المار بقرب معسكر الأتراك يرى حركة غير عادية والكل في يقظة كأنهم على قرب أن يلتحموا مع عدوهم في موقعه.
وقبيل نصف الليل بقليل تحرك الكل بسكون حتى إذا كانوا على قاب قوسين أو أدنى من المعاقل البولاندية احتجب القمر وراء السحاب، فزحفوا على بطونهم، ومن ثم أصدر كوبريلي باشا أمره؛ فهللت تلك الجموع وكبرت، وهجمت هجمة الآساد على معتقليها.
التحم الجيشان، ولمعت السيوف، وكنت تسمع صفير الرصاص يمر كالوابل الهتون، فتقدم الشجاع، وفر الجبان.
كانت هجمة الأتراك شديدة جدا بدرجة أن البولانديين تقهقروا قليلا بانتظام، ومن ثم أعادوا الهجوم فكانوا على قاب قوسين أو أدنى من الفوز لو لم يحدث ما حدث.
وإليك أيها القارئ ما حصل: فإن سيف الدين باشا هجم بجيشه على البولانديين من الجنوب، بينما كان الأتراك مبتدئين بالهجوم من الشمال.
ففازوا فوزا مبينا، وقهروا البولانديين، ودخل الأتراك فائزين، واتجهت منهم قوة كبيرة إلى الشمال؛ لينجدوا كوبريلي باشا وجنوده؛ فجاؤوا في الوقت الملائم.
جاؤوا وقت أن بدأ البولانديون بتجديد الهجوم فحوصروا بين قوتين قويتين؛ فسلم من سلم وقتل من حارب.
فلنقف هناك بعد الساعة الرابعة؛ حيث ابتدأ النهار أن ينبلج والصبح أن يتنفس؛ لنرى الأوصال الممزقة؛ والجسوم المفرقة.
لنقف هناك حيث ضاق رحب الفضاء، بآكام الأشلاء، لنقف ولا تنقل قدما، فإن على الأرض أجساما لم ينضب ماؤها، وقلوبا لم تجف دماؤها، ووجوها لم يزايلها حياؤها.
لنقف وتذكر قول أبي العلاء:
سر إن اسطعت في الهواء رويدا
لا اختيالا على رفات العباد
اللهم إن القلم ليقف بين الأنامل مشدود الوثاق، والقلب لينعصر من الجزع والإشفاق، ليسطر نكبات الحرب ومصائبها ودواهيها وكربها، بل وما تجلبه على الأهلين من موت وخراب ديار، وتبديد عائلات وضياع آثار، بل وما يجنيه العالم من رزاياها السافلة، فالمقهور يقاسي آلام الانكسار، والمنتصر يتلذذ بنعمة الانتصار، ولكن كلاهما أضاع نفوسا زكية، وبدد أموالا، وأسال دماء بريئة.
فالحرب داهية شعواء، فهي كغراب البين، ما وجدت في بلد إلا دمرته، وما الانتصار إلا غطاء خفيف، إذا ما انكشفت ظهرت آثار الجرح التي لم تندمل، وبقايا المصائب التي لم تذهب آثارها.
دخل أحمد كوبريلي باشا زراونو ظافرا منتصرا بعد أن سلمت له الحامية بأجمعها.
ولكن ذلك المنتصر الظافر أمر عند تسليم المدينة كف القتال، وعامل جيوش بولاندا الباقية وقائدها جون سوبيسكي معاملة الخدن للخدن، فلم يتعسف ويستبد بهم، بل فاق في تلك الحالة في الرحمة أولئك المتمدنين أبناء أوروبا في القرن العشرين، الذين يدعون أنهم ملائكة الإنسانية.
وإنا لا نضرب مثلا بالبعيد الماضي، بل بالقريب الحاضر، بإيطاليا التي فتكت بالطرابلسيين شر فتك، ومثلت بأسرى الحرب أشنع تمثيل، وفتكت بالأيامى والأطفال والأرامل، فكانت طرابلس مدينة النجيع حقا؛ فالدماء تدفع، ورؤوس الأبرياء تقطع وقلب المدنية عليهم يتوجع.
اجترمت إيطاليا ذلك الجرم في رابعة النهار على رؤوس الأشهاد، وأوروبا واقفة ناظرة بعين وضع عليها حجاب ولسان أخرس لا ينطق، خرقت المعاهدات والمحالفات، ولم تحرك أوروبا ساكنا كأن لم يحدث هناك حادث.
نرجع إلى زراونو لنرى الرحمة، وكيف تكون، والرأفة وكيف يصير مبلغها؟ وذلك في وسط القرن السابع عشر، أي حينما كانت أوروبا لا تزال، ومحكمة التفتيش راسخة الأقدام بها، والاضطهاد الديني منتشر بها، والخزعبلات قائمة على ركن متين.
ذهب أحمد باشا إلى سوبيسكي في قصره، وقد كان يبكي آسفا على انتصار أعقبه خذلان، ولكنه عزى نفسه بجوقزين ولمبرج، تقابلا فأنست سوبيسكي رؤية أحمد باشا كل ما كان يقاسيه من آلام، وما يعانيه من متاعب.
وقد كانت نتيجة تلك المقابلة عقد معاهدة أطلق عليها اسم زراونو، وكانت هي التي يقول عنها المتخرصون الساسة الاستعماريون، والمؤرخون الذين يراعون في تاريخهم حب النفس والأنانية: إنها نتجت عن خوف الأتراك من سوبيسكي، كانت نتيجة المعاهدة وأهم فقراتها: أن تأخذ تركيا بادوليا وأن تأخذ بولاندا الأكرين على شرط أن تدفع لهم كل سنة جزية مخصوصة.
انتهت الحرب على خير، فسار أحمد كوبريلي باشا ووجهته القسطنطينية، فكان هذا آخر عهدنا به، أما جون سوبيسكي فإنه توجه وقبلته وارسو محط رحاله وآماله.
سار إلى حيث يدعوه غرامه الطاهر، وحبه الشريف، سار إلى حيث يلاقي صوفيا، تلك التي كان خيالها لا يبرح ذهنه طول هذه الحرب الشعواء.
فسار حيث يلاقي غرامه ومجده، فإنه بلا شك كان منتظرا من الأمة والحكومة أن يكافئاه على ما قام به لهما من خدمات جليلة، لولاه لكان قضي الأمر، وصارت بولاندا مستعمرة تركية.
فلنسر معه حتى نرى كيف تكافئ الأمم الحية قادتها، بل كيف تفرح الشعوب بمنقذيها، وكيف ينال العاملون من خير رغما عن سعي أعدائهم وكيدهم، والله يجازي كلا على قدر عمله، إنه خير المحسنين.
الفصل السابع
في وارسو
سار سوبيسكي خارجا من وارسو في أول الحرب قاصدا ميدانها وبلاده تنظر إليه بعينين تائهتين كفتاة عذراء هجم عليها عدو ليغتصبها أو كاد؛ فبرز إليه من حيث لا يعلم قرن يناجزه فتناطحا وتبارزا.
هلعت الفتاة فاحتبست أنفاسها، ووقفت دقات قلبها، وسرى الدم باردا في عروقها، منتظرة نتيجة الكفاح لترى هل ينصر الله منقذها أم يرديه فتموت معه.
هكذا كان شأن وارسو مع الأتراك وسوبيسكي؛ فإنها كانت ساكنة هادئة، والأهلون لا ينبسون ببنت شفة، كأنما على رؤوسهم الطير، منتظرين وصول الأتراك بخوف وقلق.
حتى إذا ما بلغهم خبر جوقزين وانتصار سوبيسكي فيها هبوا كأنهم كانوا في قيود وانطلقوا، فكانت أصواتهم بالغة عنان السماء، ولا غرو فإنهم انتصروا على الأتراك خير أمة حربية أخرجت للناس.
ومن ثم وصلهم خبر لمبرج فزادهم سرورا على سرور، وصار ليل بولاندا نهارا، والاحتفالات آخذة مجراها، والشعب قد نسى إساءات نبلائه فاحتفل معهم بالانتصار.
وكيف لا ينسى في ذلك الوقت وهو زمن الفرح، زمن سرور الأمة.
ولكن في وسط تلك الاحتفالات اعتلت صحة ميخائيل مليك بولاندا وأميرها، وكانت صحته كل يوم تنتقل من سيئ إلى أسوأ، وكان الأمل في شفائه قليلا جدا.
فكان البلاط مقر النبلاء كل يوم، والأطباء من كل جانب، كل يسعى جهده ليخفف آلامه.
والمقربون منه يقولون: «أفي ساعة السرور والنصر تعتل صحة المليك؟» ولكن الشعب كان لا يهمه؛ مات الملك أو عاش، فإنه لم ينس أنه الرأس المدبرة، وأن النبلاء إنما كانوا اليد المحركة لإساءته؛ فلم يعبؤوا بمرضه أو موته.
بخلاف ذلك: إذا كان الملك مراعيا خير شعبه ودولته؛ فإنه إذا اعتل لبست الأمة عليه ثياب الحداد، وتكدرت من طفلها إلى شيخها، ولا غرو فإن الرأس الصالحة إن مرضت مرض باقي الجسم.
أصيب ميخائيل بفالج عجز نطسة الأطباء عن مداواته، فكان هناك سؤال يدور في خلد جميع النبلاء، «وهو» من سيخلفه على عرش بولاندا ولا وريث له؟ إن الديت إذا اجتمع فلا بد أنهم ينتخبون سوبيسكي.
وهكذا أتى اليوم السادس من شهر فبراير سنة 1676، ومات ميخائيل، فاحتفلت بجنازته؛ حيث دفن باحتفال لائق لمليك مثله.
ولكن تلك الحفلات التي قامت كان الشعب لا يشاركه فيها، فكانت حفلات خالية من الروح الوطنية، والأسف العام.
وفي عصر ذلك اليوم عينه وصل وارسو جندي بولاندا يحمل رسالة إلى الكونت سمولنسكي رئيس الديت من جون سوبيسكي، فاجتمع النبلاء في الحال، ولما انتظم عقد المجلس قام الكونت رئيس المجلس خطيبا، فقال:
أيها الإخوان
إنكم بلا ريب تعلمون خبر انتصار جنودنا الظافرة على الأتراك في واقعتي جوقزين ولمبرج، وإنه لانتصار سيذكره التاريخ، ويتحدث به الحربيون في كل آن.
وقد حوصر قائدنا الهمام جون سوبيسكي في قرية زراونو وهاجمهم الأتراك، ولكنهم أوقعوا على عمل معاهدة هي في جانبنا أكثر مما هي في جانبهم.
تلك المعاهدة تقضي أن يأخذ الأتراك بادوليا، ونأخذ نحن الأكرين مع دفع جزية معلومة.
وهي نتيجة لو تعلمون باهرة، كان الساعي في تحقيقها جون سوبيسكي، الذي كد واجتهد لينتصر ذلك الانتصار الباهر.
والآن فقد مات الملك بلا وريث؛ فوجب على المجلس أن ينتخب رجلا يقوم مكانه، فلنؤجل اجتماعنا إلى الغد؛ لأن المسألة في غاية من الأهمية، وإن غدا لناظره قريب.
انتشر خبر رجوع سوبيسكي إلى وارسو؛ فعم الفرح أرجاءها، ورقصت القلوب طربا، وكان أشدها فرحا قلب صوفيا، تلك الحبيبة التي كانت تقضي وقتها مصلية له داعية بالنصر والفوز، حتى إذا وصلها خبر رجوعه كاد يثبت قلبها من الفرح، وقبلت سرجيوس خادمها الأمين بين عينيه جزاء لتلك البشرى التي لا يعادلها شيء.
لو عمر أحد البولانديين الأمناء إلى أبريل سنة 1908 وشاهد دخول شوكت باشا ظافرا، بل ولو رأى بعينيه احتفالات الأتراك ومعالمهم لقال: «حقا إن التاريخ يعيد نفسه.»
ولا ريب فقد كانت وارسو بعملها هذا تكافئ من أنقذها من الموت وهيأها لأن تكون مملكة قائمة مستقلة.
وصل الجيش وعلى رأسه جون سوبيسكي قبيل الغروب، فكانت وارسو شعلة من نار، بل كما قال أحدهم: لم يعرف لها في ذلك اليوم ليل.
فقد كان في كل منزل احتفال، وفي كل طريق أعلام وسرادق، كل ذلك ليظهر البولانديون بمظهر العارفين للجميل، المقدرين الرجال حق قدرهم.
وفي منتصف الليل بينا كان الاحتفال بالغ أشده، والقوم لاهين غير محتفلين إلا بما هو أمامهم، انسل جون سوبيسكي من بين إخوانه النبلاء إلى الخارج؛ حيث سار ميمما غار السعادة ليلقى من يحب بعد أن غاب عنها زمنا مديدا.
فكان قلبه يكاد يثب من بين جنبيه في الطريق حتى إذا وصل إلى الغار وجد صوفيا واقفة فاتحة له ذراعيها.
فكانت مقابلة تجلى فيها الحب الطاهر بأسمى معانيه، وشوهد فيه مغرمان فرقتهما أيدي الدهر، ومن ثم سمحت لهما بالتلاقي، جلسا وكل ينظر إلى وجه الآخر ليشبع منه النظر إلى أن قالت صوفيا: إيه أيها الحبيب، تلك فرص سمح بها الدهر فتلاقينا بعد أن كنت سائرا في مواطن الخطر، ورجعت بحمد الله سالما، إن فرح وارسو وأهلها لا يعادل شيئا من فرحي أنا التي كنت أهتز كالسنبلة حركتها الريح فرحا بانتصاراتك على أمة كالأتراك.
وساعة وصلنا خبر حصار زراونو كاد قلبي تقف دقاته، ودمي يجف مع عروقي، وتجلى أمامي شبحا للموت يريد أن يخطف روحي، وما أحلاه! فإن الموت يحلو إذا عيش السرور مضى، وكيف تحلو الحياة وأنت بعيد عني؟!
وكانت صوفيا تتكلم وسوبيسكي سكران بخمرة الانتصار والحب، إلى أن انتبه وقد قبلته صوفيا، فقال: الآن أيتها الحبيبة زالت الأشجان، وولت الأحزان، وابتسم ثغر الدهر بعد عبوسه، ونجا الوطن المفدى، وأديت واجبي، فلنبادل بعضنا غراما شريفا طاهرا، وحبا عذريا.
فآه أيتها المحبوبة! كم كنت أفكر في تلاقينا بعد تلك الحرب الشعواء، وهل نلتقي؟
ولكن هي العناية الإلهية تساعد المخلص وتقوي مركزه، وأنا قسما بحبنا الطاهر، والسماء اللازوردية، والشمس والقمر، لا يتأثر مثلي على هذا الوطن الأسيف الذي سوف يلاقي حتفه إن لم يلاق قائدا رشيدا، ولا يغرك ظواهر النبل التي على وجوههم، فإن بين تلك الجوانب قلوبا كقلوب الذئاب وأشر، وتحت تلك الثياب شراهة النمر وفتكه، وبين تلك الرؤوس عقول أشد حلكا من السواد.
فأنا أسأل الله أن يبقي هذا الوطن، وأن يقيض له من أبنائه من يقوده في دجى المشاكل، وغوامض المسائل بيد رشيدة، تعرف الصالح من الطالح، وذلك بعد موتي، وأما غرامي أيتها الحبيبة؛ غرامي الذي أقدسه وأعبده، أنت تعرفين ذلك، وبرهاني عيناي وقلبي، حركاتي وإخلاصي، وأنت على علم من ذلك كله.
والآن فاعلمي أن الانتخاب سيكون باكرا، فبعيده سأقدم لأبيك طلبي لأكون زوجك، فإني على ما أرى صرت كفؤا لأن أخطب إلى نفسي ملاك وارسو الحارس، وأجمل غادة في الوجود، والآن أيتها الحبيبة آن الصبح أن ينبلج، فهيا بنا، وموعدنا بعد غد في منزلكم؛ حيث أتقدم طالبا يدك. - ساعدك الله أيها الحبيب في انتخابك وقرانك. دعوة صادرة من قلب يحبك ويهواك، والآن إلى الملتقى.
افترقا، فسار سوبيسكي إلى منزله مخترقا طريق جونسكي، فوجد جماهير الشعب ترد زرافات ووحدانا، فعلم أن الانتخاب أيقظ الشعب، وأن ذلك الحيوان - كما يلقبه إخوانه النبلاء - قام ليطالب بحقوقه المهضومة.
الفصل الثامن
الانتخاب (سعادة الأمة بعدل الأمير)
أشرق فجر يوم الثامن من شهر فبراير سنة 1676 وسكان وارسو لم يغمض لهم جفن، فقد قضوا ليلهم في احتفالاتهم بانتصار سوبيسكي على الأتراك، وإنهاء الحرب بسلام، كما كان يود كل محب لوطنه.
وقد زادهم يقظة على يقظة: أن في الغد سينعقد الديت لانتخاب ملك على بولاندا ليبتدئوا حياة جديدة غير حياتهم الأولى.
حياة متعلقة بذلك الذي سينتخبونه، فإن كان من أولئك النبلاء المتشبثين بعاداتهم القديمة كميخائيل ذلك الملك الضعيف الإرادة، المسلم أموره إلى نبلاء أضعف منه رأيا وأقل عقلا؛ فإنهم ولا شك ملاقون حياة تبدأ بالاستبداد وتنتهي بالموت، حياة يقضونها تحت نير الظلم، يستغيثون ولا من مغيث.
أما إذا انتخب رجل من رجال الأمة المحبين لخيرها، الساعين لمصالح الشعب، الساعين في تقويض أركان الظلم، وإقامة معالم العدل؛ فإنهم بلا شك سيحيون حياة طيبة يكون لبولاندا منها الشطر الأوفر.
وعلى هذا؛ فقد كان أمر الانتخاب مهما جدا؛ لدرجة أن وارسو ازدحمت بالوافدين من القرى والضواحي ليشاهدوا انتخاب مليكهم الذي عليه تتوقف سعادتهم أو مصيبتهم.
سار الشعب كالسيل المنهمر، فكان طريق جونسكي يتموج بذلك البحر الزاخر المنتظر نتيجة الانتخاب بفروغ صبر.
وكان النواب يفدون كل بعربته، فيفتح له منفذ في ذلك البنيان المتماسك إلى باب المجلس، فيصعد.
دقت الساعة النصف بعد الثامنة، فأقبلت عربة كان الراكب فيها ذلك الرجل العظيم «جون سوبيسكي».
فما رآه الشعب حتى افتر عن ثغر باسم وصاح قائلا: «ليحي سوبيسكي»، «ليحي مليك اليوم»، «ليحي منقذ الوطن»، «ليسقط الظلمة» وهكذا صار جون سوبيسكي كالعروس يزفها الشعب إلى أن وصل إلى باب المجلس، فصعد وهو يقول: (مليك اليوم يا ليتها تحقق فأقوم بأمتي) ومن ثم اكتمل نظام الجلسة فنادى مناد بالانتظام.
وقف الكونت سمولنسكي، فقال:
أيها الإخوان
إن قضيتنا اليوم قضية أمة، بل قضية شعب يصيح طالبا ملكا يضع ذلك التاج على رأسه، فليكن التروي قائدنا، والاطمئنان رائدنا.
مستقبل الأمة بيدكم، فانتخبوا من ترون فيه الكفاءة لأن يتولى قيادتنا، وليضع كل منكم رأيه في ورقة ويقذفها داخل هذا الصندوق.
وما انتهى الكونت من خطابه حتى فتح باب القاعة عنوة، ودخل رجل لابس لباسا يدل على أنه أحد العمال من الشعب، فأدار وجهه، ثم استقر نظره أخيرا على رئيس المجلس الكونت سمولنسكي، فقال له:
أيها الكونت، ويا أيها النواب
أنا إن تصديت للكلام هنا في هذا المكان؛ أي حيث لا يدخل إلا النبلاء والنواب؛ فإنما أنساق إليه بقوة الواجب؛ لأن أطهر سمعة الشعب وشرف الأمة التي أنا منها.
وإن هذا المجموع الواقف تحت نوافذ المجلس منتظر بفروغ صبر أن ينتخبوا ما قد انتخبه هو أيضا.
أتعرفون يا حضرات النبلاء من هو؟ إنه أوفدني لأقول لكم إنه انتخب ذلك الذي أنقذ بولاندا، ونجاها من عدوها المخيف، وكان في كل وقت نظير صداقته للشعب والأمة، إنه جون سوبيسكي أيها السادة.
وفي الوقت نفسه سمع من تحت نوافذ المجلس أصوات كهدير الأمواج وهي تصيح «ليحي جون سوبيسكي» «ليحي مليك بولاندا».
وكان العامل يتكلم ويعلن هذه الأقوال، والشمم ظاهر على وجهه مشوب بالحياء والشرف، وهو يتكلم ببساطة، إلى أن قال: والجيش أيها السادة مقر على انتخاب سوبيسكي؛ إذ كيف لا ينتخبه وهو قائده الذي كان له الفضل الأكبر في انتصاراته الأخيرة؟!
وأنا أتنحى تاركا لضميركم الحر أن تساعدوني، أنا مندوب الشعب الذي به حياة الأمة في تحقيق فكرته.
وهنا قام الكونت رئيس المجلس، فقال:
أيها الرجل، بل يا مندوب الشعب
اعلم أن الانتخاب سيكون سريا، وسينتخب بأغلبية الأصوات، فقل للشعب أن يطمئن فإن الحق سيجري مجراه.
والآن أيها الإخوان ابتدئوا في الانتخاب؛ فإن الوقت قد حان لأن يجلس على عرش بولاندا أمير يقودها؛ لأن تكون مملكة حرة عاملة، وقد نطق الكونت بكلامه هذا وهو مطمئن على مركزه؛ فإنه علم أن الشعب في جانب سوبيسكي، والعاقل من اتخذ الكفة الراجحة.
كتب كل نبيل ما يريد في ورقة وقذفها في الصندوق، وابتدأ الرئيس يفتح الأوراق.
فنال الأغلبية جون سوبيسكي إذ نال 123 صوتا، ونال الكونت تيروفسكي أغنى أغنياء بولاندا 92 صوتا، أما الخمسة والأربعون الباقون فكانوا متفرقين بين النبلاء الآخرين.
وفي الحال أطل الكونت سمولنسكي من شرفة المجلس، ونادى الشعب قائلا: «تم الانتخاب وصار سوبيسكي ملكا على بولاندا.»
وفي هذا الوقت انتشر الخبر في وارسو انتشار الهباء، فقامت لهذا الخبر وقعدت، والبولانديون يصيحون صياح الجذل الفرح المستبشر بالمستقبل، كأن الله ضمن لهم السعادة، ولم يدروا ما خبأ لهم الحظ في صفحات كتابه.
تم الأمر كما أراد الشعب، وتوج سوبيسكي ملكا على بولاندا، ولم يلبث أن أعلن رغبته في اتخاذ قرينة له تشاركه سعادة الحياة، وأن يتقدم له الكونت سمونسكي ليخطب ابنته صوفيا.
فكان فرح الشعب في هذا الوقت مضاعفا؛ فقد اقترن سوبيسكي بصوفيا ملاك وارسو التي يحبها الشعب من كل قلبه، ويريد لها الخير.
أما عن يوم اقترانهما فلا تسل عن فرح الشعب وحبوره بهما.
وعلى كل حال فإن سوبيسكي نال ما تمنى واقترن بصوفيا، فابتدأ يكد لسعادة مملكته. وكيف لا وهو مدين لها بحياته وعزه وشرفه، ونجاحه في غرامه؟
كيف لا يكد ليرقيها وسعادتها مرتبطة بسعادته؟ إذا سقطت سقط، وإن ارتقت ارتقى، والملوك بأممهم، فكان سوبيسكي في حياته مثالا للملك العادل المحب لرعيته، المتفاني في إحيائها، المرخص حياته وكل ذلك في سبيل ارتقائها.
أما الشعب فقد كان في مدة حكمه غارقا في الرفاهية والعز، لا يقاسي آلاما كالتي كان يقاسيها في الزمن الماضي، فقلل الضرائب والجبايات، وسعى سعيه المشكور في إقامة جيش يدافع عن المملكة وحدودها.
وأقام على ولايات مملكته ولاة ممن على مشربه، اتخذوا العدل ديدنا لهم، فسعدت العباد، واستراح الشعب، وكنت إذا جلت في بولاندا لا تسمع إلا آيات المدح تنظم عقودها في ذلك المليك الذي لم يترك لحظة تمضي من حياته دون أن يسعى ليريح أمته، ويهيئها لأن تكون مملكة قائمة برجالها.
وإنا إذا كنا نريد مثالا للحياة الطيبة فإن حياة سوبيسكي كانت خير مثال.
فقد كانت حياته المنزلية مثال الدعة والسكون، وإنه ليغبط على ما هو فيه، كما قال «قاسم أمين»:
إذا كان هناك إنسان جدير بالحسد فهو الزوج المحبوب.
أما حياته الخارجية: فكانت نعم الحياة؛ إذ لا خير من ملك ارتكز عرشه على القلوب، وسوبيسكي ذو عرش ثابت يحبه شعبه وجنده، وعلى هذه الحالة استمرت بولاندا ترتقي تحت إمرة تلك العائلة الكبيرة؛ فكانت بين الممالك التي يخاف جانبها، إلى أن وقعت تلك الحروب الكبيرة بين تركيا وروسيا فكانت بولاندا مرسحا للخراب؛ إذ لا ويل أكبر من الحرب.
فكان لا بد من التهامها، وحيث إن كاترين كانت ترى الممالك الأوروبية فاتحة عيونها فشاركت معها النمسا وألمانيا.
وهكذا تعاون الثلاثة على ابتلاع بولاندا ومحو اسمها من عالم الوجود، وإضاعة آثارها من الدنيا.
ولم ذلك؟
لأنها وقفت في سبيل إحداهن فضربتها الضربة القاضية، وإنما كان ذلك لأن القائمين بالأمر فيها كانوا من أمثال ميخائيل ضعاف الإرادة فوقعوا، ولم يكن هناك رجل كسوبيسكي يقود جيشا كجيشه سنة 1676.
وعلى هذا كانت نهاية بولاندا، فعفت آثارها، وراحت ضحية الجشع الاستعماري، والطمع الإنساني، وتألبت عليها ثلاث دول من خيرة الدول التي تتمشدق بإدعاء المدنية والبر بالإنسانية فأماتتها.
إيه بولاندا، تأكدي أن لك في قلوب المحبين الحقيقيين للإنسانية أثرا لا يمحى، وذكرا لا يبلى ما كر الجديدان وما هبت الصبا.
التقسيم الأخير
ماريا وكاترين وفريدريك
أتى على بولاندا حين من الدهر بعيد حديثنا الأول عنها، فما لبث أن اختل نظام الأمور فيها، وقام كل نبيل في قصره كأنه ملك متوج يدبر أرضه كأنه سيد العالم المطلق.
أما سكان مقاطعته فكانوا كالعبيد يمثل بهم تمثيلا؛ كأنه خالقهم أو أكثر، وعلى هذه الحالة صارت بولاندا إلى القهقرى خطوة كبيرة، ورجعت إلى الوراء شوطا كبيرا.
أما ملكها فقد ألقى مقاليد أموره إلى وزراء لا هم لهم إلا الحصول على الوظيفة، حتى إذا تم ذلك لهم تمسكوا بأهداب التزلف والتملق للملك، محبذين كل عمل، مقرظين لكل مشروع، سواء أردى البلاد أو أماتها.
وهم يكنزون الذهب أكواما، فكانت الحالة تشبه تلك التي كانت تركيا عليها أيام رب القسطنطينية، مشبع الحوت من لحوم البرايا، نزيل سلانيك عبد الحميد خان.
وفي هذه الآونة كانت دول أوروبا واقفة لها كالسنانير تنتظر وقوع الجرذ لتقتسمه.
قال جمال الدين الأفغاني للسلطان عبد الحميد يوما: «يا أمير المؤمنين، إن الحيوانات التي تأكل لا تؤكل.»
ويا لها من كلمة جمعت فأوعت من صحيح الحكم ما لو فقه له عبد الحميد بقي للآن متربعا على عرش الخلافة!
وعلى هذا النسق وقعت بولاندا، فإن الدول لما علمت أنها ضعيفة الجانب، ذليلة القدر، لا يمكنها حماية نفسها بجيش يدافع عنها ويذود عن حوضها، اجتمعت ثلاث منها؛ فقسمتها بينها كقطعة اللحم تنهشها ثلاثة كلاب كلية.
أما هذه الدول فقد كانت روسيا وعلى رأسها كاترين الثانية التي يقول عنها المؤرخون: إنها روح نابليون تجسمت في جسم امرأة.
وألمانيا وملكها فريدريك الأكبر خير من تولى إدارة الأمر فيها، بل أعظم ملك تربع على دست أمورها.
والنمسا ومليكتها ماريا تريزا التي كانت من خير الأميرات يذكرها التاريخ بكل خير لدفاعها أمام فريدريك في الحروب السياسية.
وقد استوزرت كاترين وزيرها تومكين الذي كان أول من أيقظ في فكرتها محاربة الدولة العلية.
فأخذت كاترين في حربها هذه جميع الولايات التي في شمال البلقان حتى إنها كادت تغص من كثرة ابتلاعها الولاية إثر الولاية.
فوجب إذن عليها أن تشركها تلك الممالك الأخرى الواقفة لها بالمرصاد ليمكنها أن تنال مآربها في جهة أخرى: «أطعم الفم تستح العين».
فعقدت لذلك محالفة ثلاثية سرية؛ ضمت وإياها النمسا وألمانيا، فقسمت بولاندا التقسيم الذي انتهى بابتلاعها وضياعها.
إن ألعن تلك المحالفات التي يعقدها أولئك الأوغاد السفلة المستعبدين للإنسان، المقرين على استبداده، الذين يشيدون دولا للظلم على جدار من دماء الإنسان وعظامه.
بأي حق أكون أنا في منزلي، ويكون حالي مختلا، ونظامي معتلا، فيدخل الغريب بجراءته مدعيا أنه يريد إصلاح ذات البين.
ماله ومالي؟ لم لا يدعني مستريحا بعيدا عنه وعن سفالته وتعديه أن يقول إن ذلك باسم الإنسانية والمدنية، ورعاية الحقوق؟
ألا لعمري إن الإنسانية لبريئة من قوم أدنياء؛ يدخلون بيوت غيرهم بدعوى أنهم يريدون إصلاحها .
خير لهم أن يتركوا البيت لصاحبه، والبلاد لأهلها، والأوطان لسكانها، ولا يدخلوها فيعكرو عليهم صفو الحياة ولذة المعيشة، يدخلونها وكأنهم رسل عزرائيل يتقدمهم الموت، ويسير بين أيديهم الردى.
مالك أنت أيها الأجنبي النازح ليصلح وطنا غير وطنه، المتطلع لبلاد غير بلاده؟ ألا خير لك أن تهتم ببلادك قبل أن ترحل إلى أخرى لتسلب أهلها الراحة أو تحتلها باسم الإنسانية وهي براء منها؟
لنرجع إلى حديثنا الأول إذ تركنا بولاندا تقسم كأنها سقط المتاع.
قام من وسط البولانديين جورج كوسكيوسكي، ذلك الرجل الذي يلقبه التاريخ بالبولاندي الوطني الحر.
وإنه لجدير بهذا اللقب وأكثر؛ فإنه قام في وجه ثلاث دول كبار تعتبر من أعظم دول الأرض مكانة، واستمر يجاهد ويناضل لا يعرف اليأس إلى قلبه سبيلا، فكأنه كان متحققا أن الله ناصره؛ فلم تتزعزع ثقته بنفسه وبجيوشه.
ولكن الذي أسقطه ودك عزيمته هو مقاومته لثلاث دول مرة واحدة، فكان كناطح صخرة ليوهنها.
وعدا ذلك فإن سعي روسيا المتواصل في ضم القطعة التي أصابتها من التقسيم كان قاطعا لآمال جورج وأمانيه.
فقد انتشر العمال الإداريون الروسيون في أنحاء المملكة، وزاد استبدادهم وعم، حتى ضج الآهلون لذلك، وقاموا كلهم يتألمون لحريتهم المفقودة، ولكن اليد الاستبدادية كانت شديدة الوطء، فضربتهم بيد من حديد، أخمدت بها أنفاس تلك الوطنية المستعرة، وأطفأت بحر أنفاسها ذاك اللهيب المتقد.
ولكن الوطنية الحقة لا تمحى أبدا ولو عاكسها الدهر، وناوأها الزمن، ولا ريب في ذلك؛ فإنه واجب محتم، يجب على الإنسان حفظه وكتابته بحروف من نار، خصوصا إذا كان وطنه مهانا ضاعت حقوقه.
ومن هذا الصنف كان وطنية كوسكيوسكي، فإنه لبث يناضل حتى قبض عليه في مؤامرة، فقتل برصاص الروس، وراح ضحية حب الوطن.
ولا زال البولانديون يقاومون إلى اليوم حكم أولئك الممالك الثلاث، ويجتهدون في التخلص من استبدادهم، ولكن لم يحن الوقت الذي تستقل فيه بولاندا المعدومة الذكر، والتي سوف تسمع عن قريب بأنها نهضت فزعزعت القيصر في سان بطرسبرج، والإمبراطورين في برلين وفينا.
فيا أيها البلد الأمين الذي قضى عليه الإنسان بالزوال، وحكمت عليه سنة الجشع الاستعماري بالضياع؛ فذهب ضحية لسفالة الإنسان ودناءته، تيقن أن ذكراك لا ينساها إنسان، ولا يخطر لك أن تلك الحوادث التي انتهت بانمحائك يطويها عالم النسيان، وأن البلاد المستعبدة إذا ذكرت مصيبتك هانت مصائبها.
وأنت يا روح جورج كوسكيوسكي خير وطني مثل على مرسح الفضيلة دوره بإتقان، تأكد أن حبك وذكراك راسخة في الأذهان، لا تبلى ما كر الجديدان.
وكيف تفنى وأنت قدمت نفسك قربانا لوطنك المقدس، وفدى لبلادك المحبوبة، فكنت خير مثال يتبع في الوطنية، وصار الكل يلهج باسمك والشكر قرينه، والمدح خدنه.
أي كوسكيوسكي نم في قبرك واسترح، فقد صنعت الواجب وزيادة، جاهدت إلى أن قتلت في سبيل حب الوطن.
فإن ذكر الوطنيون فإنك في مقدمتهم. وإن عد الشهداء فأنت في أولهم، فيا أيها القائمون في وجوه الأعداء، المتقدين حمية لإنقاذ أوطانكم من البلاء، إذا أردتم مثالا صادقا تتخذوه لكم في أعمالكم آية وشعارا؛ فخذوا حياة جورج كوسكيوسكي، فإنها ذخيرة من خيرة الآثار، ولقنوها أبناءكم من بعدكم، وذروهم يحفظونها في قلوبهم، لتعلمهم حب الوطن وكيف يكون، بل كيف يسهل فيه شرب كأس المنون.
ودانتون يقول: «إذا أردت أن تتغلب فأقدم ثم أقدم ثم أقدم.» ومصطفى كامل كان ينادي: «لا معنى للحياة مع اليأس ولا معنى لليأس مع الحياة.» فجاهدوا في سبيل بلادكم، فإن مصر تناديكم أن اعملوا على خيرها، وكونوا يدا واحدة حتى يمكنها أن ترتجي منكم خيرا فتستقل استقلالا مشهودا يذكره العالم والتاريخ، والله يجازي كلا على قدر عمله إنه خير المحسنين.
نامعلوم صفحہ