الرجل في تمام صحته، قصير القامة، في الخامسة والستين يبدو نشط الحركة، ليس سمينا أو زائد الوزن كما قالوا، ولا يمشي على عكاز كما زعموا، أشيب الشعر يضع منظارا، على وجهه آيات ترحيب صادقة، ترحيب متواضع أشد ما يكون التواضع.
ولم يكن دورنمات أول كاتب ملأت شهرته الآفاق أقابله، فمن قبله لقيت سارتر وإيليا أهرنبورج في النمسا، وآرثر ميللر وجون إيدابك وسول بيللو من أمريكا، وكل منهم كنت أحس لديه بكم ما من الشعور المغتربة للذات وبالذات، إلا هذا الرجل الذي بدا لي شيخا صغيرا طيبا، فيه من ملامح الطفولة أكثر مما فيه من ملامح الشيوخ.
كان حائط بأكمله من حجرته مصنوعا من الزجاج ويطل من عل على بحيرة نيوشاتل والجبل المنحدر إليها، مكان عمل جميل جدا لفنان رسام وكاتب معا.
رحت أتأمل الرجل، هذا هو دورنمات إذن، الذي خلبت أفكاره لبي وجعلتني أتساءل عن كنه ذلك الكاتب المسرحي الذي «يخترع» تلك الأفكار. - أستاذ دورنمات، أنا شديد الإعجاب بمسرحك لسبب قد يخالفني فيه الكثير من نقادك، فنقادك يشيدون بك لأنك أحللت الصدفة محل القدر الإغريقي القديم، وجعلت التفكير العقلاني في أحيان كثيرة موجات من العبثية واللامفهومية، وفي مثل هذا الجو غير المعقول لا يمكن وجود الأبطال، ويقولون: إنك حطمت النظرة المنمقة المرئية للعالم المتمدين بما أدخلته عليها من النظرة النسبية للحقائق، وفي مكان البناء السليم المتكامل والقوانين الأخلاقية المطلقة، في مكان هذا حلت بيروقراطية المجتمع الحديث لتضع رؤية عينية للكون؛ حيث يستحيل فيها الإنسان ومأساته إلى سخرة (فارس) اجتماعية، نقادك يقدرونك لهذا، ولكني معجب بك لسبب آخر تماما.
أجاب دورنمات بابتسامة ماكرة: أي سبب؟
قلت: لأنك كمسرحي، خالق لما أسميه الأسطورة الحديثة، فالواقع كما هو، أنت تعرف وأنا أعرف لا يصلح بذاته كمادة مسرحية، لا بد من حيلة مسرحية يلجأ إليها كاتب المسرح ليجعل هذا الواقع إما أن ينقلب رأسا على عقب، وإما أن يعتدل إذا كان مقلوبا؛ لنستطيع أن نراه في ضوء جديد تماما وبرؤية جديدة تماما، فمثلا في مسرحية «زيارة السيدة العجوز» أنت تريد أن تتحدث عما يحدثه العامل المادي في النفوس البشرية، وكيف يتسلط عليها ويغيرها، غيرك كان يلجأ لعرض هذا الموضوع في قالب درامي مهما بلغت درجة إتقانه فسوف يكون مباشرا، أنت اخترعت قصة السيدة التي غادرت القرية منبوذة من حبيبها، والتي عادت إليها بعد أن أصبحت غنية جدا ورصدت مليون دولار لمن يقتل لها حبيبها السابق، هذه «الاختراعة» المسرحية جعلتنا نرى الموضوع بطريقة مسرحية مثلى، وجعلتنا نراه وكأننا لم نره من قبل مع أننا نراه كل يوم. أردت لقاءك إذن، ومناقشتك؛ لأننا في العالم العربي نعاني ككتاب مسرح (وأنا منهم) لخلق هذه الاختراعات المسرحية المصرية والعربية الحديثة لنرى واقعنا وواقع العالم اليوم على ضوئها.
قال: إنه لشيء غريب، ولكننا في خلقنا للأسطورة الحديثة، كما تسميها نجد أنفسنا في النهاية وقد عدنا إلى أساطير الأقدمين، إلى الميثولوجيا الإغريقية مثلا، إن النظرة الكونية الشاملة الكاملة كانت منذ خمسين عاما مضت لا يمكن الوصول إليها على وجه الدقة، ولكننا الآن نستطيع أن نقول: إننا نقف على أرضية نظرة كونية ثابتة، نحن لدينا اليوم فكرة شبه يقينية عن ماهية المادة.
قلت: إنني سعيد بسماع هذا، فأنا أحتاج وأنا أكتب مسرحياتي إلى أن أقف على أرضية كونية ثابتة، وحين كنت أكتب مسرحية لي اسمها «الفرافير» احتجت أن أعثر على قانون واحد يشمل كل مادة الكون من أصغر ذراتها وإلكتروناتها إلى أكبر مجراتها.
قال: وهل وصلت إليه؟
قلت: وصلت إلى ما تفضلت وأسميته أنت: «شبه اليقين» فبإمعان التفكير وصلت إلى أن المادة في حالة نبض مستمر، تتجاذب مكوناتها، من مكونات الذرة، إلى مكونات المجرة، وتظل تتجاذب إلى أن تصل إلى ما أسميته المسافة الحرجة لتبدأ قوى التجاذب تتحول فجأة إلى قوى تنافر منفجر هائل، وهذا القانون يشمل حتى العلاقات البشرية من تقارب وحب ثم تنافر وتباعد، ومن العلاقات داخل المجتمعات، وبين الدول، وهكذا.
نامعلوم صفحہ