وهو بالضبط ما فعلته سناء وهو بالضبط ما كاد يقتل الجندي ويدفعه إلى الجنون، إنها هي نفسها لم تكن تعتقد أن باستطاعتها أن تتجاهل وجود إنسان على مبعدة منها إلى تلك الدرجة، فما بالك برجل يزاملها ثماني ساعات كل يوم، ومكتبه يكاد يلمس مكتبها؟ ولكن يا لقدرة النساء الكامنة فيهن على التجاهل! لكأنما أصبحت الحجرة في نظرها بمكاتب أربعة لا خامس لها بالمرة، لكأنما مات الجندي أو ما ولد قط. ويا للروعة التي سار بها كل شيء وعلى أتم ما تريده من مرام! إلى ذلك اليوم ... ليت ذلك اليوم لم يأت قط، ليتها قطعت لسانها بيدها قبل أن يزلف وتخبر روحية زميلتها بالمشكلة! ولكنه درس تعلمته وستوصي أحفاد أحفادها بتفاديه، المشكلة عادية وبسيطة ومن النوع الذي تقرأ عنه في الجرائد ويرد أحيانا في السينما، وتلوكه صباح مساء تمثيليات الإذاعة: مشكلة المصاريف التي لم تدفع وحلول موعد دفعها، وتوقف حضور الامتحان على هذا الدفع، والمصاريف مصاريف أخيها، القسط الثاني وقدره عشرة جنيهات، كان اشتغالها قد اقتطع من المعاش الذي كانوا يتقاضونه قيمة نصيبها فيه، وكان تراكم مطالبها قبل تسلم العمل وبعده قد أثر في ميزانيتهم الصغيرة وأنهكها حتى أصبحت أعجز من أن تسدد القسط الثاني، أمر لولا اشتغال سناء ما كان يمكن أن يحدث، فالنقود كانت توزن ... تزنها مدبرة بيتهم ومدبرة حياتهم - أمها - وتوزعها بالمليم، ولم يحدث يوما أي ارتباك، ولقد ظلت سناء تعاني من ضغط الموقف الذي لم ينقلب إلى مشكلة إلا بعد أن طرقت الأبواب جميعا، فلم تلن أو تستجب حتى عمها الناصح الأمين ما أكثر ما سهل عليهم المأمورية لدى عرضها أمامه، وما أكثر ما تحجج حين تأزم الوضع واقترب موعد الامتحان.
في تلك الآونة الخانقة وفي ساعة ضعف، عرضت سناء المشكلة على روحية عرضا لا طائل من ورائه إلا لمجرد الشكوى والتفريج عن النفس، ومن تلك اللحظة أصبحت الكلمة الدائمة على لسان روحية: هيه، عملتم إيه في مصاريف أسامة؟ ورغم أن استجابة سناء الدائمة كانت هز كتفيها علامة اللاحل، إلا أن ضيقها كان يتعاظم في كل مرة تسألها وكل مرة تصمم أن تصارحها بما يعتمل في صدرها لمجرد السؤال، ولكنها تعود وتلتمس لها العذر وتسكت، غير أنها لا يمكن أبدا أن تعذرها لما فعلته ذلك الصباح حين جاءت لتمر عليها بالمكتب، وجلست وتحدثت قليلا، ورحب بها الجندي ترحيبا ملحا مبالغا فيه، وطلب على حسابه مشروبات وألح وأقسم، وانشغل عن كل شيء إلا حديثه إليها وبطريقة لم تجد معه روحية فرصة تتبادل فيها كلمة واحدة مع سناء، وأول كلمة تبادلتها معها كانت حين سألتها كالعادة: هيه عملتم إيه في مصاريف أخوكي؟
صمتت سناء كالمصعوقة لا تجيب، بينما وجد فيها الجندي فرصة فتحت له فيها أبواب السماء وأبواب الحديث، وبكل ما يمكنه اصطناعه من نخوة سأل: ما هي المشكلة؟ وببساطة وبرغم نارية النظرات الخارجية من عيني سناء مضت روحية تحكي بكل براءة مقصودة، حكاية القسط الثاني والحرمان، يا عيني، من الامتحان.
وربما كانت تلك أول كلمات تقال في الحجرة وتشير إلى حقيقة ما عن حياة سناء الخاصة التي عمدت منذ تسلمها العمل إلى إخفائها بنفس الطريقة التي تخفي بها ذيل «الكومبليزون» تحت الفستان، أو «ركبتها» التي أحكمت إخفاءها عن العيون النهمة بأن سدت فتحة المكتب الأمامية بقطعة من الورق المقوى، حقيقة ألقتها روحية بسذاجة أو بخبث، ولكنها جعلت سناء تذوب خجلا وتتمنى لو اختفت بكلها خلف ورق المكتب المقوى، حقيقة قيلت وارتفع لها رأس الجندي من طيات الورق وطقطقت لها أذناه في تنصت مشدود متحفز هائل، وما كاد يفطن إلى المقصود حتى هم بأن يلقي بنفسه في الحديث كعادته، ولكنه للوهلة الثانية انداحت في وجهه ابتسامة صفراوية ما، وخنس وسكت.
لقد قضى أياما تعسة طويلة يبحث في أثنائها عن نقطة ضعف ولا يجد، أيكون ما قالته روحية هو النقطة التي فاتته؟ وحتى إذا لم يكن كذلك فهو لا يدري لماذا أحس بتغيير أو باقتراب تغيير، كالليل حين يلونه الفجر، كاليأس الكامل حين تسقط في قلبه قطرة، مجرد قطرة واحدة، من طعم مخالف اسمه الأمل، كان كل مناه أن يعرف عنها شيئا واحدا تحرص على إخفائه والباقي في رأيه بسيط، ولم يكن أبدا يتصور أن تهديه الأقدار بهذا الشيء غير العادي الذي عرفه ... إن حكمته الخالدة المشهورة عنه أن الفلوس يا حبيبي
is the master key ... هي كل شيء ... مفتاح السعادة، ومفتاح الدنيا، وبالذات مفتاح قلب كل امرأة على سطح الأرض ... حتى لو كانت المرأة سناء.
ورد الفعل الساحق الذي حدث، والذي لم تكن سناء تعتقد أبدا أن باستطاعتها أن تنساه أو تشفى منه - لدهشتها الشديدة - كان مفعوله بعد ساعات قد زال أو كاد، وكانت قد عادت تتمالك نفسها وتنظر إلى ما حدث وتطمئن النفس بقولها ... وربما فاتت الكلمة دون أن يسمعها أحد، والجندي بالذات يدعي أن سمعه ثقيل، ثم هو لم يتدخل ولم يعلق، خاصة وليس من عادته أن يفلت فرصة كهذه دون تدخل أو تعليق.
ولكنها كانت واهمة، فلو قد أتيح لها أن تنظر - مجرد أن تصوب واحدة من تلك النظرات النافذة التي تقتحم صدور الناس وكيانهم وتظهر كالأشعة السينية ما تخفيه - نظرة كانت غير قادرة عليها بالمرة، لا بالنسبة للجندي ولا بالنسبة لأي رجل ربما لمجرد كونه رجلا ... لو أتيح لها أن تلقي نظرة لوجدت الجندي في حالة ما بعد النشوة، حالة قل أن يوجد عليها إنسان إذ هي إحدى البقية من أحاسيس الحيوان الذي تفصله عنا ملايين من السنين ... حالة الإحساس بالفريسة رهن الإشارة وعلى مدى انقضاضه، حالة السعادة البدائية الجامحة التي تدعو القط وبه من الجوع أن يصبر على صرخاته ويتجاهلها ليستمتع بما هو أكثر إمتاعا من إشباع أية غريزة بمفردها، ليستمتع بنفسه والفأر قد أصبح حبيس إرادته ونظراته، يرى ارتباكه الأعظم، ورهبته ورغبته العارمة في النجاة، وتحفزه الهائل للهرب، وعجزه الهائل عن الفرار، الحالة التي تشبع في بعض الناس غريزة الغرائز وتنتشي بها حيوانية الإنسان ...
أجل ... من أين آكلك يا سناء؟ •••
كان العمل قد أصبح أمره بالنسبة لسناء وزميلاتها عادة سهلة، ولكن المشكلة لم تكن أبدا في العمل ولا في كتابة بضعة سطور وتنفيذ بعض تأشيرات، المشكلة كانت فيما هو خارج نطاق العمل في المصلحة، في الموظفين، في الأسرار التي لم تتوقف عن التشكيك يوما واحدا، لا يكاد يوم يمضي حين يكون قد انتهى باكتشاف أمر من أمور المصلحة جديد عليهن كل الجدة، لاكتشافه فرحة العثور على السر المنيع، والأسرار تبدو كثيرة وكأن لا نهاية لها، وكأن أسفل البناء الضخم الذي أنفق الرجال عشرات السنين في إقامته سراديب خفية، حفروها وجعلوا لها أبوابا محصنة سرية لا يمكن أن يفطن لها غريب، ولا تفتح إلا على كلمات سر معينة تقال ... عشرات السنين من العمل الدائب لبناء الهيكل من الخارج والدنيا الخفية من الداخل، والعمليتان ماضيتان معا، وكل ارتفاع في البنيان تقابله وعورة في الممرات وفي السراديب السرية، والسرية جدا، السرية جدا جدا.
نامعلوم صفحہ