لكي أكون صادقا أحب أن أقول هنا إن أفكارا كهذه وبمثل هذا الوضوح والتجريد لم تخطر لسناء ، هي فقط أحست رغم طول جلوسها للتفكير أنها كان يجب عليها أن تراعي أخاها أسامة وتضعه في اعتبارها وهي تحدد ما يجب عليها سلوكه، وربما الفارق بينها وبين محمد الجندي أن الأخير وضع أولاده وزوجاته في اعتباره، وربما لهذا تلوث هو بينما بقيت هي في نظافة الصيني والكريستال.
أردت فقط بإيراد تلك الأفكار أن أتعمق قليلا في الحيرة التي تملكتها وفي الإحساس العام الذي سيطر عليها وخلخل من إيمانها الراسخ في الصباح، آنذاك كانت تؤمن أنها على حق لا شك فيه، ومحمد الجندي على باطل لا شك فيه أيضا، الآن وفي المساء بعد أن احتضنت أسامة وشعرت بجسده الصغير الدافئ كتلة حية مجسدة وملموسة، بدأ الشك يتسرب إلى إيمانها ذاك، ولم تعد واثقة كل الثقة أنها الأحسن والأنظف والأكثر شرفا وسموا.
والشك، هذا الشعاع الخفي الذي لا يمكن - إذا تسلط - أن تصمد له أقوى الحقائق وأكثرها صلابة ورسوخا، ذلك الشك الذي بدأ على هيئة تساؤل خطر لسناء بعد ظهر ذلك اليوم، لم يلبث بمضي بضعة أيام أن اجتاح كل آراء سناء ومعتقداتها وحقائقها الصلبة الراسخة، إلى درجة أنها في ساعات كانت تفقد القدرة تماما على التمييز بين الخطأ والصواب، ففي كل صواب أكيد تفكر فيه كانت تجد خطأ واحتمالات خطأ، وفي كل خطأ كانت لا تعدم أن تجد صوابا، تبلبلت تماما، وكأنما بفعل فاعل انفكت كل مكونات حياتها وشخصيتها إلى آلاف الأشياء الصغيرة والمواقف الصغيرة والقضايا الصغيرة، والعيب أصبح بقدرتها أن تحلله إلى عشرات الأشياء التي تجد فيها العيب، وعشرات الأشياء التي تجد فيها اللاعيب، وفي الحرام أجزاء كثيرة من الحلال، وفي الحلال مناطق بأسرها حرام.
وضع ما كان باستطاعتها أن تواجهه لفترة طويلة، فالعقل فيه لا يحتمل وقد ينقصم في أية لحظة لثقل ما يحمله، وهي مثلها مثل كل الناس تواجه في كل لحظة ودقيقة بموقف يتطلب منها أن تختار فيه جانبا، فأي جانب تختار وميزانها نفسه مفكك تماما، الكفة في ناحية والأوزان متناثرة هنا وهناك، والمؤشر يعطي القراءات على مزاجه؟
في تلك اللحظة كانت تلجأ مستنجدة إلى أمها لا لتسألها النصح والمشورة، وإنما وهي الخبيرة العليمة بها كانت كلما ووجهت بموقف سألت نفسها ترى ماذا كانت تفعله أمي لو وجدت في مكاني؟ وقياسا على تصرفها تتصرف تصرفات كانت أشياء في نفسها تضيق بها، ولكنها لم تملك سواها.
في تلك الأيام أيضا كان واضحا أن الحظ خدمها حين جعل محمد الجندي يتصرف كما لو كان يحافظ بدقة على الوعد الذي قطعه على نفسه، كانت تحس أنها فرصة من السماء أتيحت لها كي تستطيع أن تجمع شتات نفسها المبعثرة وتعود كاملة متكاملة كالعهد بها مرة أخرى. حادثة أخيرة وقعت، ولكنها حمدت الله أيضا على أنها مرت بها بسرعة خاطفة ودون أن توقعها في مأزق يحتاج إلى إعمال فكر وقيم: كانت قد خرجت إلى التواليت لإصلاح ما أفسده اليوم والعمل من زينتها استعدادا لمغادرة المصلحة والسير في الطريق، وحين عادت من زينتها استعدادا لمغادرة المصلحة والسير في الطريق، وحين عادت وهمت أن تغلق الدوسيه وجدت ورقة صغيرة استرعت انتباهها بلونها الوردي ... ورقة صغيرة في حجم علبة السجائر وعليها هذه الكلمات: أنا متأكد أن حبي لك حب يائس من طرف واحد لا أمل عندي فيه، ولا أطمع ولا أطلب من الله أي شيء منك، ولكنك تسببت لي من أول لحظة رأيتك فيها في ارتباك شديد حدث لي في حياتي وقاربت أن أنتحر لأجله، صدقيني قبل أن تضيع الفرصة وتتحملي الذنب ... لهذا كل ما أرجوه منك أن تقبلي أن أقابلك بالخارج في أحد الكازينوهات المطلة على النيل لأفضفض لك عن نفسي، فأنا أشعر بالراحة التامة حين أتكلم معك حتى وإن لم تتكلمي أنت، أرجوك وحياة أخوكي العزيز ألا ترفضي رجائي الأول والأخير، ولن أضايقك أبدا بعد هذا، وأتسبب لك في شيء، عبدك ... محمد الجندي.
قرأت الورقة بلا اضطراب أو تردد، وقبل أن تنتهي منها كانت وكأن شيئا لم يحدث لها أو تفككت للحظة أجزاء عقلها وموازينه، إذ قررت القرار في الحال، وغادرت مكتبها في حضور الجميع وذهبت إلى مكتب الجندي ومالت عليه وقالت بهمس حاسم لا راد له: اسمع يا محمد أفندي! إنت يا إما عاوز تودي نفسك في داهية ... وأنا بانذرك أهه، دي آخر مرة أسمح لك فيها أنك تفكر في بالشكل ده، واعمل حسابك المسألة دي مش بالعافية، دانت لما تتسخط قدامي قرد ولا تموت نفسك مليون مرة ولا ح يهمني، أنا لا حبيتك ولا بحبك ولا باقبلك، وإذا كنت جدع صحيح نفذ كلامك وانتحر، وده آخر كلام لك.
وبمنتهى الهدوء عادت إلى مكتبها - وكأن شيئا لم يحدث - وأدخلت الأوراق المهمة في الدرج وأغلقت عليها، وعلقت حقيبتها في كتفها وغادرت الحجرة.
ولم تراجع نفسها لما قالته أبدا ولا صدرت من ضميرها كلمة تأنيب، فإذا كان ثمة شخص في العالم كله هي متأكدة من رأيها فيه وموقفها منه فهو الجندي، وهو الكلام الذي قالته له والذي عبرت فيه بصراحة كاملة عن رأيها فيه وفي «عواطفه».
يومان مضيا على هذه الحادثة أو ثلاثة، لا تذكر، ولكن المؤكد أنها أيام قليلة جدا مضت، وكاد اليوم نفسه يمضي ... يوم كانت سعيدة فيه بلا شك ... إذ كان الزملاء الأربعة غائبين، سليمان لمرضه، وأحمد الطويل لانتدابه للعمل لمدة يومين خارج المصلحة وصفوت أفندي منذ العاشرة ذهب إلى مراقبة المستخدمين في لجنة لم تحفل سناء بمعرفة اسمها ونوع عملها، وخرج معه محمد الجندي الذي لم تلتق عيناه بعينيها منذ الورقة الوردية على أن ينجز شيئا ما ويعود، وقد خرج وهي منقبضة النفس لفكرة عودته وقضائهما بقية اليوم وحيدين في مكتب خال، غير أنه لفرحتها لم يلبث أن أرسل خفاجة الساعي ليدخل أوراقه في أدراجه ويحمل له علبة سجائره ومفاتيحه وولاعته، علامة أكيدة أنه قرر «التزويغ».
نامعلوم صفحہ