وهكذا ما كادت تنجح في دفع هذا البلاء ويحتسب اليوم من إجازتها المرضية وتتنفس الصعداء، حتى أدركت أنها في خضم ما حدث نسيت اليوم المؤلم تماما وأصبحت أقل حساسية لذكره، بل الحق أفاقت لتجد نوعا من عدم المبالاة قد أصبح يصبغ تفكيرها وآراءها وتصرفاتها، وكانت اللحظة الصاعقة التي عانت فيها من الشعور بأنها مبعدة منبوذة قد جعلتها هي الأخرى تبدأ تنبذ الناس في تفكيرها وتصرفاتها ... لم يعد مهما أن تحظى برضائهم عنها، وبين يوم وليلة ملأها الشعور بأنها لا تملك في هذه الدنيا، ولا يجب عليها أن تراعي سوى نفسها، شعور لم يك عميقا خافيا ... لقد ظهر حتى لزميلاتها وزملائها ولاحظوه واتخذوه مادة لتعليقاتهم.
وكل هذا شيء قد يستطيع العقل هضمه وقبوله، أما الذي لا يمكن أن يستوعب العقل وقوعه فهو ما حدث في ذلك اليوم الثالث حين فوجئت سناء بمحمد الجندي - وقد خفت في الآونة الأخيرة نوبات هياجه وثوراته - ينظر لها نظرات باسمة لا تصدر على هيئة شعاعات مبتسمة وإنما كأنها تسيل من عينيه لتختلط صفراويتها ولزاجتها بملامحه الشاحبة المفرطحة التكوين، نظرات ذكرتها بأيام العمل الأولى وبمحمد الجندي حين كان يتراءى لها أثقل دم خلق الله أجمعين، وأكثرهم استثارة للاشمئزاز والغثيان، ولكنها، وهذا هو الغريب، لم تجدها هذه المرة كذلك، لا لأن محمد الجندي كان قد تغير في نظرها أو تبدل، ولكن لأنها هي نفسها كانت قد تغيرت، إلى أين وكيف؟ لم تكن تدري، كل ما تعرفه أنها لم تشمئز من نظرات محمد الجندي لها، وربما هذا ما شجعه إلى أن يرفع الدوسيه بعد قليل ويبدأ يهمس لها من خلفه: ازيك يا حلو ... والنبي شفايفك دول مجننيني ووحشيني ... وحشيني موت حتى وأنا جنبهم طول النهار وحشيني.
لا بد أن هذا الرجل مصاب بخلل في قواه العقلية ، ذلك ما فكرت فيه سناء، لكنه لم يكن حكمها النهائي، فلسبب ما حين اختلطت صورته الحاضرة مع صورته وهو ثائر غاضب يهدر الرجل الكلب الذي فيه وينبح ويرعبها، ما لبث حكمها الأول أن أصيب بهزة تبعثرت على أثرها كلماته وحروفه وتطايرت، وبقي الأمر في حاجة إلى رأي جديد وحكم جديد، لا تعرف بعد كيف تصوغه أو حتى تحدد قبل صياغتها معالمه ... لقد أخذ هذا الرجل من تفكيرها ما لم يأخذه أي إنسان عرفته ... تفكير حقيقة كان معظمه اشمئزازا واجترارا للاشمئزاز، ولكنه تفكير فيه والسلام، ورغم كل هذا لم تستطع إلى الآن أن تخرج من تفكيرها بنتيجة.
كل الفرق أن سناء لم تجزع ولم تجفل هذه المرة من كلماته، ولم ترغم أذنيها وعينيها على صمم وعمى إجباريين حتى تنفي لنفسها نفيا باتا أنها سمعت أصلا أو رأت، هذه المرة لم تطرف عيناها ومضت تحدق فيه غير هيابة أو خجلة، وأغرب ما لاحظته - الشيء الذي كاد يفقدها الوعي - أنه كان لا يكذب، وأن في نظراته ونبراته صدقا قد يستبشعه العقل ويأبى رصده، ولكنه موجود، وقد تخطئ سناء في حكمها على عشرات الأشياء، ولكنها أبدا لا يمكن أن تخطئ رنة الصدق وهو يقول: حتى وأنا قاعد جنبك ودين النبي وحشاني.
ولنفرض جدلا أنها أخطأت الحكم، فأي تفسير آخر تستطيع أن تفسر به آخر شيء كان باستطاعة محمد الجندي أن يفعله حين واجهته بنظرتها المحدقة الفاحصة، فإذا به حين أكمل الجملة وحاول أن يبدأ غيرها يتلجلج وتفشل محاولته؟ ثم لا يلبث تحت وقع نظراتها أن يرتبك ولا يقوى على مواجهتها ويخفض عينيه، ثم بحركة غريزية، وزيادة في حجب نظراتها عنه يلصق الدوسيه بوجهه ويخفيه.
كادت سناء من أعماقها تنفجر ضاحكة، محمد الجندي يخجل؟ وممن؟ منها؟ بل فقط من نظراتها؟ لا بد أن شيئا خطيرا مهولا قد حدث للدنيا.
ولكنها كتمت الرغبة في الضحك وإن كانت قد حلت محلها رغبة في الكلام ... في كلام تقوله لمحمد الجندي، وأيضا لم تتكلم مؤثرة أن تفعل حين تلوح الفرصة .
ولاحت الفرصة قرب الظهر حين خلا المكتب إلا منه ومنها، فجأة وجدت نفسها تقول للجندي: إنت إيه حكايتك بقى يا سي محمد يا جندي؟
حملق فيها بعينين اتسعتا فجأة، فلم يكن يتوقع أبدا أن تحادثه وأن تكون البادئة، وبالكاد استطاع عقله أن يستوعب السؤال، وحين بدأ يجيب كان عليه أن ينظر إليها - ولأنه كان لا بد له حينئذ ألا يظهر ارتباكه وخجله - فقد استمر يواجهها بعينيه، ولكنه في الحقيقة لم يكن يراها ... كان فقط يواجهها بعينين عطل الخجل وظيفتهما، قال: حكايتي إيه؟ مش عارفة حكايتي؟ طبعا إيه يهمك إنت مني ومن حكايتي؟ - لا ... أنا عارفاها كويس واشتكيتك مرة واتنين عشانها، وعملت البدع عشان تبطلها وكنت بطلتها وخلاص، إيه اللي رجعك تاني تبص وتقول الكلام السخيف بتاعك ده؟ - إذا كان ع التبطيل أنا من ناحيتي ما بطلتش ولا يوم ولا ساعة ولا ثانية، أما سكوتي المدة اللي فاتت فده كان عشان حضرتك أهنتي كرامتي، وأنا قولي في اللي قاله مالك في الخمر، إنما كرامتي دي أهم حاجة في الدنيا!
وضمت سناء نفسها وتماسكت بقوة، فضحكة واحدة كانت كفيلة بأن يفلت منها الموقف إلى الأبد.
نامعلوم صفحہ