وحين بدأت سناء تقبل الدور وتستمع وتعي ما يقول، أحست مرة أخرى بتلك الدوامة تجتاح عقلها ووعيها وكل كيانها ... ذلك الكيان الذي صنعته حياة قوامها اثنان وعشرون عاما من الخبرة والتعليم والمعاناة. ما إن بدأت تنصت إليه لم تكن أشياء غريبة على أذنيها فقط، ولكنها معان عاصفة مهولة كانت تهب من فم الرجل الطيب وتكاد تقتلع كل ما صنعته لنفسها من كيان، وكأنها كانت طوال حياتها لا تعيش ولا ترى الدنيا أو تحيا فيها، لكأن حياتها بكل ما كان فيها من صعوبات وقلاقل كانت لا حياة بجوار ما راحت تسمعه وتعيه، أو لكأن حياتها هي الحياة وما يقال لها إن هو إلا وصف لا يعقل لحياة شاذة منحرفة لا تمت بصلة إلى عالم الأحياء.
سألها صفوت أفندي الباشكاتب أول ما سألها عن رأيها فيه، أهو سيئ؟ أفي ملامحه أو تصرفاته معها ما يوحي بالجريمة والإجرام؟ أجابت سناء بالنفي، فالباشكاتب قد بدا لها طوال عملها معه وخوفه من الله والحساب والميزان لا يقل عن خوف عالم متبحر في الدين، ما الذي يدفع رجلا هذا شأنه إذن إلى أن يكون شريكا في عمل قذر تأباه النفوس؟ - الدنيا يا سناء يا بنتي، العيشة ... أنا ماهيتي كلها بعد الخصومات 19 جنيها و230 مليما ومصاريف بيتي في الشهر ما تقلش عن 50 أو ستين، عندي ولدان في الجامعة، وبنتان وولد في الثانوية، وبنت في المعهد، وعيلين صغيرين في ابتدائي، ولي أخت مطلقة وقاعدة معايا هي وولادها ثلاثة، منهم واحد طلعناه من المدارس وبيشتغل في مصنع، ساكن في بيت الناس بيحسدونا عليه، ومع كده إيجاره ثمانية جنيه ونص، بند الأدوية بس بياخد منا بالميت خمسة جنيه في الشهر غير الدكاترة، لو في مكاني تعملي إيه يا بنتي؟ - أعمل أي حاجة إلا كده، أعلم ولادي بفلوس حرام؟ أطلعهم من المدارس أحسن وأشغلهم.
قهقه الباشكاتب بسخرية مريرة ربما لسذاجة الاقتراح: لو رضيت أنا أمهم ح ترضى؟ ولو رضيت أنا وأمهم ح يرضوا هم؟ ولو اشتغلوا حتى ح يشتغلوا إيه؟ ح يكسبوا إيه؟ - بس دي جريمة يا عم شكري ... سرقة، دانت راجل طيب، دا كأنك بتمد إيدك في جيب واحد لا مؤاخذة يعني ... وبتنشل منه فلوس، إزاي ترضى تعمل كده؟ - يا بنتي الأخلاق الكويسة حاجة، وأكل العيش حاجة تانية. - أكل العيش حتى بالسرقة؟ - يا بنتي إنتي لسه صغيرة ع البر ما شيلتيش هم المسئولية، لما تكوني مسئولة عن جيش زي اللي أنا مسئول عنه، وكل يوم لازم تسدي 20 بق مفتوحين لك، مش ح تسميها سرقة أبدا، أنا باسرق مين؟ - المواطنين. - دول أغنيا ... وأنا ما بخدش غصب عنهم هم اللي بيدفعوا من نفسهم. - يبقى الحكومة. - الحكومة خسرانة إيه؟ هو أنا بختلس من أموالها؟ حق الحكومة محفوظ ما حدش بيقدر يمد إيده عليه. - يعني رأيك ما فيهاش حاجة أبدا أنك تعمل كده؟ - معاك إن فيها حاجات كتير ... فيها وفيها وفيها ... إنما حطي نفسك في موقفي تعملي إيه؟ - أنا شخصيا لا يمكن ... لما أموت أنا وأهلي م الجوع ما أقدرش أمد إيدي على حاجة حرام. - إنت ما تقدريش ... إحنا غصب عنا لازم نقدر ولازم نمد إيدينا فإيه رأيك فينا؟ ح تتصرفي معانا زي ما قلتي للجندي؟ - أنا قلت له كده عشان هو ... هو مش محتاج زيك وأخلاقه وحشة و...
وهم الجندي أن يعترض وقد احتقن وجهه بالغضب، ولكن الباشكاتب أشار إليه أن يسكت ومضى يقول: بس إحنا معاه. - يبقى انتو أحرار. - أحرار إزاي؟ مش فاهم. - يعني انتو في سكتكم وأنا في سكتي ... أنا ماليش دعوة بيكم، إنتم كبار ومسئولين عن نفسكم قدام ربنا وقدام الناس. - وليه ما تكونيش ويانا؟ - أنا؟ والله لما يتقطع دراعي. - وليه يا بنتي التزمت ده؟ احنا عارفين برضه وعارفين أزمتك وعارفين أخوكي عايز على الأقل عشرة جنيه عشان يمتحن، وادي إنت شايفة أهه ... يعني مش ح تكوني متمسكة بالأخلاق الكريمة والدين والذمة أكثر من واحد زيي، ما تخلينا سوى سوى تفكي أزمتك ونفك أزمتنا وأهي ماشية. - يا عم شكري أفندي ... أرجوك ... أي كلام بالشكل ده بينرفزني وح يخليني أتهور، انتو في طريقكم وأنا في طريقي. - وهو كذلك، بس على شرط ... ما حدش منا يتدخل في طريق التاني. - عني أنا ... خدها مني كلمة شرف. - وعننا احنا ... أعدك بشرفي، الفاتحة على كده.
ورد الجميع قائلين: الفاتحة.
وتململت سناء قليلا، واستغربت، ماذا حدث للدنيا؟ أيقرءون الفاتحة لتكريس اتفاق شائن كهذا؟ ماذا حدث للناس؟
ولكنها، تحت إلحاح العيون المنتظرة، هزت كتفيها ومضت تتمتم بالفاتحة، وحين وصلت إلى منتصفها تقريبا خيل إليها أنها أخطأت في التلاوة، فأعادت القراءة من جديد، وكالخاطر العابر تذكرت أنها لم تقرأ الفاتحة من زمن بعيد منذ أن كانت طفلة تصلي، وتذكرت أيضا إلحاح أمها عليها بالصلاة وتأجيلها التنفيذ دائما، ماذا تقول أمها إذن وهي تسمع هؤلاء يقرءون الفاتحة صحيحة سليمة، ويقرءونها في اليوم مرات ويصلون ويحجون ويسمون الرشوة أكل عيش، ترى ماذا تقول؟
ولكن الحادث على أية حال لم يمر ببساطة ولا مر الاتفاق، فلقد ظلت سناء محط الشكوك لفترة، وكلماتها وكل حركة من حركاتها ظلت محل دراسة وافية ونقاش، والجميع يميلون إلى افتراض أنها تخدعهم أو في الطريق إلى خداعهم، والباشكاتب وحده يقف في صفها ويؤكد أنها لن تفعل، وأن عهد البنت وكلمتها على عكس ما يقال، كلمة واحدة متى قالتها لا تتراجع عنها، ومن ناحية أخرى لم يعد الأمر يزاول بالبساطة الأولى ... مجرد علمهم أن سناء زميلتهم الموجودة معهم في مكتب واحد تعرف وتسكت، ولكنها لا تشاركهم «اللعبة»، مجرد علمهم هذا أحاطهم بجو من عدم ارتياح غامض، كانت مزاولتهم لأعمال المكتب الثاني كجماعة قد أضفت على العمل نوعا من القانونية، ومحا عنهم كل أثر للإحساس بالذنب، سناء بوجودها واشمئزازها ونظراتها جعلت إحساسا جديدا يبدأ يزحف ... إحساسا بخرق القانون، بارتكاب معصية! وقد تجسد هذا على هيئة ضيق شديد بسناء ووجودها ورغبة ملحة في التخلص منها، حتى الجندي دفعته تلك الأحاسيس المتضاربة إلى الكف عن الإحساس بها كفتاة، فلم يعد أبدأ يختلس النظر إلى شفتيها ويزدرد ريقه كلما توقف بصره عند شفتها السفلى، وهو الذي كان لا يتصور أو يقبل أن يحاول أحد إبعاد سناء عن المكتب وحرمانهم منها بدأ يتمنى في أحيان لو ذهبت ... وبدأت رغبته في وجودها تتعادل ككفة الميزان مع رغبته في ذهابها.
إن المذنب لا يحسد البريء، إنه يكرهه، ويحس به كأنه ضميره، وكأن الضمير هو الجزء البريء في قلب المذنب، وسناء ذلك الجزء ، ذلك الركن الخامس البريء في المكتب كانت قد أصبحت كالضمير المقيم الذي لا يتحرك، والذي لا تخفى عليه خافية، والذي يقابل كل ما يدور أمامه بالصمت والسكون، ليتها كانت تتكلم أو تنصح أو حتى تشتم، ليتها تفعل أي شيء إلا أن تسكت، والكارثة أنها ضمير مؤنث، إن الرجل لا يخجله كثيرا أن يرتكب الخطأ أو الحماقة أمام زميله الرجل، أي رجل ... ولكنه يخجل ببشاعة أمام الأنثى، أي أنثى.
وكان طبيعيا جدا في مثل ذلك الجو أن تحدث ارتباكات في مزاولة العملية، فمحاولات كل منهم للتخفي واستدراج الزبون بأقل ما يمكن من الضجة وبسرعة لا تثير الانتباه، وبالذات انتباه سناء، هذه المحاولات كانت غالبا ما تفشل، وكثيرا ما تصدر عن الزبون كلمة أو إشارة تفضح فيفقد الموظف أعصابه ويعدل عن الصفقة نهائيا بين عجب الزبون ودهشته، ويصر على أن يأخذ القانون مجراه، وفي إصراره ذاك يرفع صوته ويعظ ويحاضر، ويكاد يشهد الجدران والمكاتب والأثاث على ما يقول، ثم بدأت تحدث منافسات، وبدا كأن كلا منهم يريد أن يبدو أكثر من الآخر غيرة على القانون، وفي مقابل هذا بدأت تحدث اتفاقات خاصة وبينما الواحد منهم يرفض في العلن ويصر على الرفض إذا به يتفق سرا مع الزبون ويتقاضى الثمن وحده، بعيدا عن أعين الزملاء، بعيدا عن الركن الخامس. ••• - خفاجة! إنت يا هباب إنت ياللي اسمك خفاجة. - يا فتاح يا عليم ... نعم يا محمد أفندي؟ - شيل القهوة دي. - ليه؟ مالها يا محمد أفندي؟ - زفت ... قطران ... قرف شيلها لحسن وديني أرميها في وشك.
نامعلوم صفحہ