تمهيد
مقدمة
1 - مولد سفاح
2 - الموت الأسود يعبر القنال الإنجليزي
3 - ما بعد الموت الأسود: حلقة الوصل الفرنسية
4 - مجسات الطاعون
5 - إنجلترا تحت الحصار
6 - صورة وباء
7 - طاعون لندن العظيم
8 - آلية عمل البكتيريا والجراثيم
9 - تحديد ملامح السفاح
10 - كشف التاريخ
11 - بيولوجيا الطاعون الدبلي: تناول الخرافة من منظور مختلف
12 - تحليل الدي إن إيه: صرف الانتباه عن القضية الأساسية
13 - القصة الحقيقية لقرية عظيمة
14 - الصلة المدهشة بين الإيدز والموت الأسود
15 - الصورة الكلية
16 - استتار الموت الأسود في مكمنه
17 - لماذا اختفى الطاعون النزفي فجأة؟
18 - مخاطر الأمراض الناشئة
19 - عودة الموت الأسود
20 - هل هناك ما هو أبشع من الموت الأسود؟
قراءات إضافية
تمهيد
مقدمة
1 - مولد سفاح
2 - الموت الأسود يعبر القنال الإنجليزي
3 - ما بعد الموت الأسود: حلقة الوصل الفرنسية
4 - مجسات الطاعون
5 - إنجلترا تحت الحصار
6 - صورة وباء
7 - طاعون لندن العظيم
8 - آلية عمل البكتيريا والجراثيم
9 - تحديد ملامح السفاح
10 - كشف التاريخ
11 - بيولوجيا الطاعون الدبلي: تناول الخرافة من منظور مختلف
12 - تحليل الدي إن إيه: صرف الانتباه عن القضية الأساسية
13 - القصة الحقيقية لقرية عظيمة
14 - الصلة المدهشة بين الإيدز والموت الأسود
15 - الصورة الكلية
16 - استتار الموت الأسود في مكمنه
17 - لماذا اختفى الطاعون النزفي فجأة؟
18 - مخاطر الأمراض الناشئة
19 - عودة الموت الأسود
20 - هل هناك ما هو أبشع من الموت الأسود؟
قراءات إضافية
عودة الموت الأسود
عودة الموت الأسود
أخطر قاتل على مر
العصور
تأليف
سوزان سكوت وكريستوفر دنكان
ترجمة
فايقة جرجس حنا
مراجعة
هاني فتحي سليمان
سارة عادل
لوحة «الموت والبائع المتجول» التي تنتمي إلى النوع الفني «رقصة الموت» للرسام هانس هولباين. أعيد نشرها بتصريح من مكتبة بريدجمان للفنون.
تمهيد
لعبت الصدفة دورا كبيرا في ظهور هذا الكتاب إلى النور؛ فمنذ ثلاثة عشر عاما، كانت سو سكوت تبحث عن أبرشية مناسبة تجري فيها دراسة ديموغرافية متعمقة، واستقرت على بلدة بنريث بمقاطعة كمبريا. ولدى تحليلها سجلات الأبرشية، توصلت إلى أن هذا المجتمع كان يعاني من أحد الطواعين التي انتشرت نهاية القرن السادس عشر. إن نظرة واحدة إلى الحقائق كانت كافية لأن يدرك أي عالم بيولوجيا أن هذا لم يكن نوبة تفش لطاعون دبلي (طاعون الغدد الليمفاوية) بحسب الرأي التقليدي السائد عن سبب الطواعين في أوروبا. بيد أنه كان لدينا برامج بحثية أخرى تحتاج إلى التعامل معها، ولم نعد إلى سؤال «ما سبب الطواعين؟» لسنوات عديدة. هكذا بدأ التعاون بين باحثة في علم السكان وعالم حيوان بارز، كل بخبرته الخاصة. وقد أذهلنا ما اكتشفناه ونحن نسبر الأغوار أكثر فأكثر؛ إذ تأكدت بقوة معتقداتنا الأولية، وكانت أصداؤها واسعة التأثير.
كتبنا دراسة أكاديمية مفصلة باسم «بيولوجيا الطواعين» غطت جوانب كثيرة خاصة بالموضوع، ولكم أذهلنا رد فعل وسائل الإعلام لدى نشر هذه الدراسة؛ فقد نشرت التقارير في الصحف في كل أنحاء العالم، ودعينا إلى لقاءات في محطات إذاعية في الكثير من البلدان المختلفة، وهاتفتنا محطات التلفاز للاستفسار عن إمكانية تصوير فيلم، وانهالت علينا المكالمات الهاتفية ورسائل البريد الإلكتروني التي تطرح أسئلة وتقدم اقتراحات. وكان من ضمن مراسلينا فتاة في الثانية عشرة من العمر، قالت إن أمها اقترحت عليها أن تراسلنا لتتأكد من أن الموت الأسود لن يعاود الظهور. اتصل أحد المحاربين القدامى من الشرق الأقصى ليقول إن كتيبته قد ضربت بحمى نزفية فيروسية ولم ينج سواه. يا لها من رواية مذهلة لتجربة شخصية مع هذا المرض اللعين! ووصف مراسل من مقاطعة كنت انهيار الطريق الرئيسي على موقع مدفن الموت الأسود في بلدة بلاكهيث، فما كان من الشرطة المسلحة إلا أن أخلت في عجالة المنازل المجاورة من قاطنيها بعد أن أعلنت عن وجود خطر بيولوجي في المنطقة المتاخمة مباشرة. وكان لنا مراسلات مطولة مع كاتب سيناريو يعد سيناريو لفيلم روائي طويل يتناول فيروسا تخيليا يطيح بمعظم البشرية. وقد رأى أن الطاعون النزفي «سيكون المرض الأمثل لموضوع قصته»، وأراد الحصول على توقعات مفصلة لكيفية انتشار مثل هذا الوباء.
كل هذا كان في غاية الإثارة، وحفز قناعتنا بأن ثمة اهتماما عاما هائلا على مستوى العالم بموضوع الطواعين. وهذا الكتاب هو محاولتنا لسرد القصة وإشباع هذا التعطش للتعرف على أشهر أمراض الماضي وأكثرها بشاعة، وعن أصدائه المحتملة في المستقبل.
نعترف بكل امتنان بالدعم والتشجيع اللذين نلناهما من أشخاص كثيرين جدا.
ونوجه التحية لدكتور جراهام تويج، أول من تعرف على أن الموت الأسود لم يكن طاعونا دبليا؛ فقد كان دكتور جراهام صديقا وفيا لسنوات عديدة.
دعمت الدكتورة ديبورا ماكنزي، المحرر الأوروبي لمجلة نيو ساينتيست، فكرتنا بأن الطواعين كان سببها من البداية في الواقع فيروسا نزفيا، وقد ساعدتنا على أن نظل على علم بالتطورات الحديثة.
نوجه الشكر لحشد غفير من المراسلين في أنحاء العالم بعثوا إلينا برسائل عبر البريد الإلكتروني وخطابات ثمينة تحتوي على أخبار وتقارير وتعليقات وبيانات غير منشورة واقتراحات.
أطلعنا دكتور ستيفن دنكان بجامعة أكسفورد على تعقيدات (ومباهج) تحليل المتسلسلات الزمنية ثم أعد كافة النماذج الرياضية في عملنا، ودون هذه المساعدة الجوهرية، ما كان ليخرج أي برنامج بحثي إلى النور.
قدمت السيدة جنيفر دنكان مساعدة لا تقدر بثمن في قراءة وثائق مكتوبة بأسلوب للكتابة بخط اليد كان مستخدما في القرنين السادس عشر والسابع عشر في أوروبا وفي ترجمة مقالات أصلية.
نكن تقديرا خاصا لسالي سميث، محرر نشر أول بمؤسسة وايلي للنشر، لدعمها هذا المشروع بكل إخلاص وحماس. نتقدم بالشكر أيضا إلى كل من نيكي ماكجير، وجوليا لامبام، وجيل جيفريز لدعمهن المتقد بالحماس.
مقدمة
على مدار أكثر من 600 عام، وكلمة «طاعون» تبث الرعب في قلوب الرجال والنساء؛ فهي تثير سيناريو مرعبا لمرض شديد العدوى لا يمكن ردعه، ولا علاج له، ولا مفر من أن يموت صاحبه ميتة مؤلمة. بالنسبة لقاطني أوروبا في العصور الوسطى الذين عاشوا يوميا تحت تهديد هجوم الوباء على مجتمعهم، كان هذا الخوف مبررا تماما. ومنذ اختفائه من المشهد في منتصف القرن السابع عشر، استمر هذا العهد من الرعب في تشويق الأفراد وإثارة ما هو أكثر من مجرد مشاعر خوف، حتى أقل أطفال المدارس تركيزا يستمتعون بشدة بدروس «طاعون لندن العظيم»، حيث الحرق والدمار في عامي 1665 و1666 المحفوفين بالمخاطر.
والآن في القرن الحادي والعشرين، صار لدينا معرفة أكبر من أي وقت مضى بالمرض، وعدد من اللقاحات والعلاجات الفعالة، وخبراء متمرسون في علم الأوبئة والبيولوجيا الجزيئية، ومجموعة من الاختبارات التشخيصية والتقنيات الحديثة التي من شأنها تحديد تسلسل جينوم أي فيروس جديد في خلال أشهر من ظهوره الأول. ومع ذلك يظل الرعب من أن يظهر مرض جديد - ربما طاعون آخر - يهدد بقاءنا، بنفس القوة التي كان عليها فيما مضى.
إن ظهور سارس (المتلازمة التنفسية الحادة الشديدة) عام 2003 أثبت بجدارة الدمار الذي يمكن أن يحدثه مرض جديد. وردت أنباء عن ظهوره في آسيا في يناير من نفس العام، وتصدر عناوين الأخبار على مدار الأشهر القليلة التالية. أكان يمكن أن يصبح سارس الطاعون الفتاك الجديد؟ عم الذعر على نطاق واسع وفر الأفراد من المناطق المصابة؛ مما ساهم في نشر المرض إلى مسافات أبعد. ولم يمض وقت طويل حتى وردت أنباء عن ظهور حالات في أوروبا وبالمثل في الأمريكتين الشمالية والجنوبية. مقارنة بأوبئة طاعون الماضي، كان إجمالي الوفيات التي تسبب فيها سارس قليلا نسبيا، فإجمالي عدد المصابين به 8000 حالة في 27 دولة، لم يمت منهم سوى 780 شخصا. وبالرغم من ذلك بذلت الهيئات المعنية بالصحة قصارى جهدها للتعامل بفعالية مع المرض، فمنع السفر من بلاد بأكملها لغير الضرورة، وتعرضت شركات الطيران للإفلاس، وانهارت اقتصادات محلية، وكان هناك خوف حقيقي من انهيار الأسواق المالية العالمية. وارتفعت مبيعات أقنعة الوجه الورقية في الولايات المتحدة الأمريكية، مع أنه لم يكن هناك سوى 192 حالة إصابة بسارس تماثلوا جميعهم للشفاء.
ترى لماذا أثارت هذه المشكلة الصحية التافهة نسبيا الذعر والفزع العالميين، حتى في البلاد التي لم يكن بها أي حالات سارس أو كان بها حالات قليلة؟ في أبريل من عام 2003، كتب دكتور ستيوارت دربيشير أننا نعيش وسط «أفراد متعطشين إلى الشعور بالهلع، ومتلهفين إلى سماع رسالة الدمار التي تستدعي مثل هذه التحذيرات، فهذه التحذيرات من شأنها أن تمتزج بتوقعاتنا المفرطة في الخوف والحذر بشأن خراب هذا الكوكب، بل حتى كبار الأساتذة الذين يبدون متزنين لا يسعون إلا إلى صرف المشتتات عن الشيء الحقيقي المتوقع وحسب. لا يرعبني أي من عائلتي «سارس الكامنتين » الفيروسيتين مثلما يرعبني فيروس إنفلونزا جديد خبيث.»
في أبريل عام 2003، كتب ديكلن ماكولا؛ وهو مراسل سياسي يقطن واشنطن:
سارس هو أول فيروس يتفشى في عصر الإنترنت، فانتفع من حقيقة أنه فيما أصبحت المعلومات أكثر قابلية للانتقال، تصبح الشائعات أكثر قابلية للانتشار أيضا. أثارت خدعة أحد المراهقين على الإنترنت التي ادعى فيها أنه سيتم غلق حدود هونج كونج هرع المواطنين لشراء الأطعمة المعلبة والمناديل الورقية. قضى صاحب متجر بقالة في ساكرامنتو أسبوعين في محاولة إثبات أنه وعائلته ليسوا مصابين بسارس، وأن متاجره آمنة تماما على عكس ما أثير من شائعات. وفي يوم الثلاثاء، حاول أحد العاملين بالمجلس المحلي لمدينة ساكرامنتو تبديد الهلع حيث تناول بكل شجاعة تفاحة خضراء من قسم المنتجات أمام المراسلين الصحفيين.
لكن بالنسبة لبعض الناس، قد ينذر خطر يتهدد الصحة على الصعيد العالمي بسيناريو «نهاية العالم الآن»، أو ظهور «الوباء الكبير» التالي، عندما يتسبب وباء كبير لمرض معد فتاك لا علاج ولا لقاح له في كارثة عالمية ويهدد وجود البشرية. (1) ماذا نعرف عن الطواعين؟
هذا الخوف من مرض غير معروف له أساس راسخ في التاريخ، ولعل أقدم إشارة إلى الطواعين ظهرت في الكتاب المقدس في سفر صموئيل الأول؛ فنحو عام 1320 قبل الميلاد سرق الفلسطينيون «تابوت العهد» من الإسرائيليين وعادوا به إلى أرضهم:
فثقلت يد الرب على الأشدوديين، وأخربهم وضربهم بالبواسير في أشدود وتخومها. وانتشرت الفئران في أرضهم ... وكان بعدما نقلوه أن يد الرب كانت على المدينة باضطراب عظيم جدا، وضرب أهل المدينة من الصغير إلى الكبير ونفرت لهم البواسير.
تعلم كل منا في المدرسة وقرأ في الكتب عن أشهر مرض على مر العصور - الموت الأسود - ذاك المرض الفتاك الذي ظهر من العدم، وانتشر سريعا، ومحا قرابة نصف الأوروبيين في العصور الوسطى من على وجه البسيطة. لقد سمعنا أغنية الأطفال التالية التي يقال إنها تحيي ذكرى الطواعين المريعة:
هيا نرقص في دائرة من الورود،
وبصحبتنا باقات الزهور،
نعطس كثيرا،
فنسقط جميعا.
يصور البيت الأول من الأغنية الطفح الجلدي المحمر المستدير الذي كان يظهر على جلد ضحية الطاعون. كانت باقات الزهور حلوة الرائحة هي ما يشتمه الأفراد لدرء العدوى، وأما العطس فهو أحد الأعراض المبكرة للمرض؛ الأمر الذي كان يتبعه على الفور «السقوط» أو الموت المفاجئ.
في منتصف القرن السابع عشر، ضرب طاعون عظيم لندن وأودى بحياة ما يصل إلى خمس السكان. سجل صموئيل بيبس الأحداث في يومياته، ويمكننا أن نتتبع هذا التفشي عن كثب ونتوحد مع الضحايا بسبب رواياته الواقعية للأحداث.
قد يعرف بعضنا أيضا أشهر قصة طاعون على الإطلاق: توغل الوباء في قرية تلية صغيرة تدعى إيم بمقاطعة ديربيشير التي تقع على حافة منطقة التلال بيك ديستريكت في شمال إنجلترا؛ حيث قدم الكاهن وشعب كنيسته تضحية بطولية حين اتفقوا على رسم نطاق للحجر الصحي حول القرية وأخضعوا أنفسهم بمحض إرادتهم للحجر الصحي؛ فلم يكن مسموحا لأي شخص أن يهرب من العدوى والموت المحقق. بهذه الطريقة كان لديهم أمل في منع استشراء المرض والحيلولة دون وصوله إلى المجتمعات المجاورة. وطيلة محنتهم، كانوا يحصلون على الطعام من خلال القرويين القريبين الذين كانوا يحضرونه إلى حدود أبرشيتهم، ولم يكن في مقدورهم في محبسهم سوى الانتظار ومشاهدة أنفسهم وهم يموتون، ببطء في البداية، في حين أنه في ذروة توغل الوباء كان الكاهن يدفن عددا كبيرا من شعبه كل يوم. استمر الوباء اللعين فترة بشعة وصلت إلى خمسة عشر شهرا حتى صارت إيم في النهاية أشبه بقرية أشباح. إلا أن تضحيتهم لم تذهب سدى؛ إذ لم تنتقل العدوى إلى مجتمع آخر وتنتشر فيه.
ولكن، هل هذا هو مقدار ما لدينا من معرفة عن الطواعين؟ على سبيل المثال، كم منا يستطيع أن يحدد بدقة متى وقعت هذه الأحداث الكارثية؟ هل بمقدورنا أن نحدد ما إذا كانت أوبئة انفجارية لنفس المرض أم لا؟ الأرجح أننا نستطيع القول إن طاعون لندن العظيم كان نتيجة للطاعون الدبلي، وهو مرض تنشره براغيث الفئران المصابة، وإن لم يكن بمقدورنا أن نحدد السبب وراء اعتقادنا ذلك، باستثناء أننا نتذكر أنهم أخبرونا في المدرسة أن «حريق لندن الكبير» الذي شب عام 1666 قتل كل الفئران وأنقذ إنجلترا من المزيد من نوبات استشراء الطاعون. (2) رحلة بحثنا
في عام 1990 كان هذا أيضا هو كل ما نعرفه عن الطواعين التي كان لها أثر بالغ في التاريخ. لم نكن نعرف الكثير مثل جميع الناس إلى أن عثرنا - بمحض المصادفة - على سجل مختصر لوباء كارثي استشرى في بلدة إنجليزية صغيرة يقام فيها سوق مركزية نحو نهاية العصر الإليزابيثي. كانت هذه هي المرة الأولى التي نصادف فيها الطاعون في أبحاثنا حول تاريخ السكان، وقد أثارت اهتماما سرعان ما تحول إلى افتنان وعزم على اكتشاف أكبر قدر يمكن أن تطوله أيدينا عن هذا المرض الذي يخشاه الناس بشدة.
في بداية رحلة بحثنا لم نكن ندرك جيدا أن هذا سوف يؤدي في نهاية المطاف إلى فضح خطأ التصورات الشائعة حول هذا الرعب القديم. كنا على مشارف قلب التاريخ رأسا على عقب، فلدهشتنا، بل الأكثر أهمية، أننا أمطنا اللثام عن رسالة مرعبة لنا اليوم: قد يكون مرض القرون الوسطى راقدا في مهجعه منتظرا اللحظة المواتية ليضرب من جديد.
هذه هي قصتنا. (3) البدايات
كانت سو سكوت تجري دراسة تاريخية متعمقة عن المجتمع في بنريث بداية من القرن السادس عشر حتى القرن التاسع عشر. تقع هذه البلدة الصغيرة في وادي آيدن بمقاطعة كمبريا في شمال إنجلترا، بالقرب من الحدود الاسكتلندية. وكان أهلها معزولين عن بقية إنجلترا؛ إذ إنها محاطة بجبال بحيرة ديستريكت الخلابة غربا، وسلسلة جبال بيناينز الوعرة شرقا، وجبال ويستمورلاند الأقل وعورة جنوبا. إلا أن الطريق المؤدي إلى اسكتلندا كان يقطع مركز بنريث مباشرة، وطيلة قرون كان المسافرون والتجار ورعاة الماشية يتنقلون عبره. كان من الممكن أن يجلب كل هؤلاء من بعيد أمراضا معدية تؤدي إلى الموت، كالطاعون والجدري، حتى من لندن التي كانت تبعد نحو 280 ميلا (450كم) من جهة الجنوب الشرقي، تلك المسيرة التي تستغرق عدة أيام بالجياد.
عرفنا من دراسات سو أنه في نهاية القرن السادس عشر كانت أرض وادي آيدن تعتبر بعيدة عن المراكز الصناعية والتجارية الكبيرة؛ فقد كان الغرباء ينفرون منها؛ إذ كان المسافرون يجدون صعوبة في الوصول إليها، وملاك الأراضي غائبين باستمرار، وقطاع الطرق يجولون بلا رادع. في قلب هذه المنطقة كانت تقع بلدة السوق الصغيرة بنريث التي كانت - كما يتضح من خريطة نشرت بعدها بمائتي عام - مقسمة إلى تجمعات حول كنيسة القديس أندراوس، ومتاخمة لأطلال إحدى القلاع المهجورة منذ زمن طويل، التي بنيت لدرء غارات المخربين الاسكتلنديين المتكررة. كانت الحياة صعبة على قاطني بنريث، وكثيرا ما اضطروا إلى العيش في ظل ظروف أشبه بالمجاعة. ونتيجة لذلك، كانت الخصوبة ضعيفة، وعادة ما كان يولد أربعة أطفال في الأسرة، لا يبلغ منهم سوى طفلين فحسب سن الخامسة عشرة.
وهكذا بدأت الرحلة، حيث سو جالسة إلى واحدة من الطاولات الكبيرة المصنوعة من خشب الماهوجني في مكتب السجلات بمدينة كارلايل. يتمتع هذا المكتب بموقع مميز؛ إذ تطل بنايته المصنوعة من الطوب والمكونة من طابقين على أحد جوانب ساحة قلعة كارلايل حيث كانت ماري ملكة اسكتلندا معتقلة، كما يضم المكتب كافة السجلات التي تخص مقاطعة كمبرلاند القديمة، التي أصبحت جزءا من كمبريا الآن. كانت سو تدرس سجلات أصلية للأبرشية، الوثائق الرسمية لكنيسة إنجلترا، التي يعود بعضها إلى عام 1538، والتي كانت تودع للحفظ عموما في مكاتب سجلات المقاطعة المختلفة المتناثرة في أنحاء البلاد. وبالإضافة إلى كون هذه الوثائق الخاصة بالمعمودية والزواج والدفن، والمحفوظة بعناية، مصدرا لأخصائيي علم الأنساب ومؤرخي العائلات، فإنها تقدم أيضا بيانات قيمة للباحثين المحترفين؛ لما تقدمه من فهم عميق فريد عن تاريخ العائلة والمجتمع على مدار ثلاثة قرون.
مع أن أهل بنريث ظنوا أنهم في مأمن لكونهم معزولين عن بقية البلاد؛ فقد اكتشفت سو أنه لم يكن هناك مخبأ من الطاعون. تقول سجلات الأبرشية:
طاعون عنيف في ريتشموند، وكيندال، وبنريث، وكارلايل، وأبلبي وأماكن أخرى بمنطقة ويستمورلاند وكمبرلاند في سنة 1598 بعد الميلاد.
حفظت سجلات الأبرشية بالكامل أثناء هذه الفترة، وبالفعل عندما توصلت سو إلى المدخلات المناسبة وجدت:
سجلات مدافن بنريث، 1597
سبتمبر
22
أندرو هوجسون، غريب (ها هنا بدأ الطاعون (عقاب الله) في بنريث) (أولئك المشار إليهم بحرف بي
لقوا حتفهم بفعل المرض، وأولئك المشار إليهم بحرف إف
F (اختصارا لكلمة
fell
بمعنى منحدر) دفنوا أعلى منحدر جبلي.)
آنذاك، تعين على الكهنة بموجب القانون تمييز وثائق دفن ضحايا الطاعون من خلال إضافة كلمة
(اختصارا لكلمة
pestilence ، الاسم الشائع للطاعون) أو مجرد إضافة حرف
إلى أسمائهم.
من الواضح أن العدوى وصلت المجتمع الصغير عن طريق أحد الغرباء الذي يفترض أنه أتى عبر الطريق الرئيسي الذي يقطع المدينة. وكانت النتيجة كارثية: فقد تبع قيد أندرو هوجسون موجة مريعة من وثائق الدفن المضاف إليها حرف
. دام هذا الوباء العنيف 15 شهرا، لكن مع أن الوقت كان عصيبا بلا شك بالنسبة لكاهن المنطقة (إذ فقد زوجته وابنه الصغير)، فإنه سجل الأحداث التي وقعت إبان هذا الابتلاء المرعب بكل إخلاص في سجلات الأبرشية. وكما جرت العادة، أخبر الكاهن شعبه أن هذا كان عقاب الله لهم على خطاياهم.
واحد من الألغاز التي سبرنا غورها في التو لدى دراسة السجلات: أنه عقب موت أندرو هوجسون، لم يكن هناك حالات موت بسبب الطاعون لمدة 22 يوما. أليست هذه فترة كمون طويلة للغاية بالنسبة لعدوى عادية؟
في لحظة ما، عند توقف توغل الوباء أخيرا، نقش على جدران الكنيسة ببنريث أعداد الأفراد الذين ماتوا في وادي آيدن:
بنريث
2260
كيندال
2500
ريتشموند
2200
كارلايل
1196
ثم نقل هذا الإهداء إلى جدار محراب الكنيسة عند إعادة بنائها عام 1720، لكن على ما يبدو طمست معالمها أثناء الترميم؛ فقد حل محلها طبقة نحاسية، وقد تحققت سو من الأرقام إبان زياراتها إلى بنريث. وكانت سو تعرف من دراساتها السابقة تقديرا مؤكدا بأن بنريث لم يكن يقطنها سوى 1350 شخصا قبل بدء تفشي الطاعون مباشرة، وعليه فمن الواضح أن رقم 2260 حالة وفاة، المذكور في النقش على جدار الكنيسة، كان رقما غير دقيق بالمرة، فعدنا إلى السجلات وأحصينا 606 وثيقة دفن مضافا إليها حرف
، إلا أنه كانت هناك فجوة في سجلات الدفن بلغت 11 يوما عندما كان الوباء في ذروته، وقدرنا أن تعداد الوفيات النهائي بلغ نحو 640 حالة وفاة في الغالب. ومع أن هذا الرقم كان يمثل نحو 50٪ من تعداد سكان هذا المجتمع الصغير - كثافة مرعبة للموت بالنسبة لفترة مدتها 15 شهرا - فقد كان من الواضح أنه أقل كثيرا من الرقم المنقوش على جدار الكنيسة. إذن ما الخطب هنا؟ أثار هذا حيرتنا، وقررنا أن نمعن البحث أكثر في الموضوع.
كان واضحا من النقش الموجود على جدار الكنيسة أن هذا الوباء الغريب والمخيف لم يكن قاصرا على بنريث، وإنما كان منتشرا على نطاق أوسع في وادي آيدن. كشف بحث سجلات ومحفوظات أبرشيات المنطقة أن العدوى انتقلت من نقطة تمركزها الأساسية في بنريث إلى كارلايل التي تبعد 20 ميلا (32كم) شمالا، وكيندال التي تبعد 32 ميلا (51كم) جنوبا. الأمر المثير هو أن أولى حالات الوفاة في كلتا المدينتين وقعت في اليوم نفسه، بعد مرور 11 يوما على أول حالة وفاة في بنريث. ذهلنا من اكتشافاتنا واندهشنا لدى معرفة أن هذا المرض كان بمقدوره أن ينتقل لمسافة بعيدة وبسرعة كبيرة. بيد أننا لم نندهش لدى علمنا بتسجيل معدل وفيات مروع مرة أخرى في كل من كيندال وكارلايل.
إن اكتشاف هذا الوباء غير المعروف على نطاق واسع، الذي ضرب ثلاثا من البلدات التي كانت تعقد فيها سوق مركزية في شمال غرب إنجلترا في نهاية القرن السادس عشر، حملنا على التفكير. في التو اعتبر الكاهن وأبناء البلدة هذا الوباء نوعا من الطاعون أو الوباء اللعين؛ لقد كانت لديهم خبرة عن هذا المرض، من المفترض أنها خبرة شخصية مباشرة. لكن كان هناك عدد من السمات المحيرة في هذا الوباء: هل كانت نوبة تفشي بنريث عادية؟ هل كان هذا المرض هو نفس نوبات تفشي الطاعون الأخرى في أنحاء أوروبا؟ هل كان هو الموت الأسود؟ وعليه عقدنا العزم على تقصي الأمر. (4) الخيوط الأولى
كما سيخبرك أحد المخبرين السريين الأكفاء، يتطلب التعرف على قاتل ما فحصا شاملا لمسرح الجريمة، ومعرفة تفصيلية بكافة الأدلة. اليوم لدى علماء الأوبئة الذين يدرسون مرضا ظهر حديثا مجموعة من الأساليب العلمية الحديثة. في الواقع هم بمقدورهم أن يفحصوا مرضاهم ويسجلوا ملاحظات مباشرة. بيد أن مؤرخي علم الأوبئة مهمتهم أصعب بكثير؛ لأنه لا يكاد توجد معلومات بمقدورهم الاعتماد عليها للتشخيص. الأمر صعب لأنه مر زمن طويل على الأحداث؛ ومن ثم لا بد أن يستخدموا كل ما في جعبتهم من فطنة للتمييز بين الحقيقة والخيال.
وهكذا، تمثلت مهمتنا الأولى في تلخيص ما عرفناه حتى الآن عن هذا المرض الغامض في بنريث:
مرض فتاك؛ إذ لم نعثر على أية أدلة تشير إلى أي شخص أصيب بالعدوى وعاش.
مرض معد جدا؛ فقد انتشر المرض انتشار النار في الهشيم، وبالأخص في صيف عام 1598.
وصول العدوى إلى المجتمع حدث عن طريق مسافر غريب.
بعد أول حالة وفاة، كانت هناك فترة كمون مدتها 22 يوما قبل دفن ثاني ضحية، وبالتأكيد كان هذا أمرا لافتا للنظر.
سرعان ما قطع الوباء مسافات كبيرة ليصل إلى كارلايل وكيندال؛ حيث مات أول ضحيتين هناك في ذات الوقت بعد مرور 11 يوما على دفن هوجسون.
تمثلت الخطوة التالية على طريق البحث في الرجوع إلى الروايات الأصلية عن الطاعون الذي اجتاح أوروبا التي تطيح بكل التأويلات والروايات الزائفة التي أضيفت خلال المائة عام الأخيرة، وفي البحث عن المزيد من الخيوط. نستهل رحلتنا بالسنة المشئومة سنة 1347 عندما ظهر الطاعون أول ما ظهر دون سابق إنذار وضرب الحضارة الأوروبية تاركا آثارا كارثية.
الفصل الأول
مولد سفاح
«ثم كانت تظهر بثرة على أفخاذهم أو على أعضادهم ... كانت هذه تصيب الجسم بأكمله، فكان المريض يتقيأ دما بشدة. كان هذا التقيؤ للدم يستمر بلا انقطاع طيلة ثلاثة أيام، ولم توجد وسيلة لعلاجه، ثم يلقى المريض حتفه.» هكذا وصف الراهب الفرنسيسكاني مايكل من بلدية بياتسا كرب أولى ضحايا الموت الأسود.
في أكتوبر عام 1347، كان كل ما يعرفه الأشخاص الذين عاشوا في هذا الزمن هو أن مرضا معديا فتاكا وغير معروف من قبل قد ظهر من العدم في جزيرة صقلية. ولم يكن بمقدورهم أن يجدوا سبيلا لفهم طبيعة خصمهم .
كان حجم الكارثة غير مسبوق؛ إذ لم يكن يوجد أي علاج، وكان كل شخص يصاب بالعدوى يموت ميتة شنيعة بحق. كان هذا أول ظهور لطاعون من شأنه أن يدمر أوروبا على مدار الثلاثمائة عام التالية، ويحصد أرواح ملايين لا حصر لها من الضحايا؛ أكبر سفاح على مر العصور وأكبر حادث مأساوي في تاريخ البشرية. (1) قصة الضحايا الأوائل
إن الروايات المعاصرة عن أول ظهور للطاعون تتحدث إلينا عبر القرون، ناقلة شيئا من الرعب والإحباط المطلقين اللذين ابتليت بهما شعوب بأكملها. وصف الراهب مايكل من بلدية بياتسا كيف أن 12 سفينة قادمة من مدينة جنوة الإيطالية، قيل إنها خرجت من القرم، قد دخلت ميناء مسينة في صقلية، وأطقمها الذين حملوا مثل هذا المرض المعدي «في عظامهم حتى إن كل شخص تحدث إليهم فحسب كان يصاب بمرض مهلك يستحيل معه الفرار من الموت. انتقلت العدوى إلى كل شخص تعامل مع المريض بأي شكل، وقد شعر المصابون بألم يخترق كل أنحاء جسدهم.»
يبدو أن أطقم السفن كانوا أصحاء ولم تظهر عليهم أية أعراض، ومع ذلك خر أهل مسينة صرعى سريعا. عندما أشارت السلطات بأصابع الاتهام إلى السفن، باعتبارها المسئولة عن جلب هذا المرض المخيف، طردوها من الميناء وأجبروا أطقمها على الإبحار مرة أخرى. أما أطقم البحارة، الذين كانوا لا يزالون يتمتعون بوافر الصحة، فلا بد أنهم كانوا في حيرة وسخط.
قيل إنهم أبحروا من هناك إلى جنوة، ولدى وصولهم بدأت نوبة تفش جديدة للوباء المميت، حيث انتشر المرض سريعا، تقريبا في نفس الوقت الذي رست فيه السفينة. مرة أخرى، تشير التقارير إلى أن أفراد الأطقم نجوا من الطاعون، ومع ذلك:
ظهرت العدوى في جنوة في أبشع صورها بعد يوم أو يومين من وصول السفن، «مع أنه لم يكن أي من أولئك الموجودين على متنها يعاني من الطاعون» لأننا نعلم أنه لم تكن توجد حالات طاعون على متن السفن، مع أن هواء أو رائحة القادمين الجدد بدت كافية لتلويث هواء جنوة ونقل الموت إلى كل جزء في المدينة في غضون أيام قلائل.
من الواضح أن هذه التقارير انطوت على مبالغة كبيرة، وقد خلصنا إلى أن الوباء كان قد تفشى بالفعل بحلول الوقت الذي وصلت فيه السفن إلى مسينة. ونظرا لأن أطقم السفن كانوا يتمتعون بوافر الصحة بعد رحلة دامت على الأقل شهرا، بالإضافة إلى الرحلة الأبعد إلى جنوة، فمن المستحيل أنهم كانوا يحملون العدوى. ومجرد وصولهم في الوقت الذي أدرك فيه أهل مسينة أنهم يتعرضون لوباء كان حتما مجرد صدفة بحتة. ونخلص من هذا إلى أنه كان يوجد في الغالب ضحايا لم يتعرف عليهم ماتوا من الطاعون في مسينة على مدار بضعة أسابيع قبل وصول السفن.
في غمرة آلام الوباء الناتج، رأى أهل مسينة أن أدنى اتصال مع المصاب يضمن سرعة حدوث العدوى. كتب الراهب مايكل قائلا:
سرعان ما مقت الناس بعضهم بعضا بشدة؛ لدرجة أنه إذا ما هاجم المرض ابنا، فإن أباه ما كان ليعتني به، وإذا حدث - وبالرغم من كل المخاطر - وتجرأ ودنا منه، فإنه كان يصاب بالعدوى في الحال، ولا مفر من الموت في غضون ثلاثة أيام. لم تكن هذه نهاية المطاف؛ فكل أولئك الذين يخصونه أو يقيمون في المنزل نفسه، حتى القطط والحيوانات الداجنة الأخرى، كانوا يتبعونه إلى القبر. وفيما تزايدت أعداد الموتى في مسينة، تمنى كثيرون أن يعترفوا بخطاياهم للكهنة، وأن يحرروا وصاياهم وشهاداتهم الأخيرة، إلا أن القساوسة والمحامين والوكلاء القانونيين رفضوا الدخول إلى منازل المرضى، فإذا ما وطئ أحدهم بقدمه مثل هذا المنزل ليحرر وصية أو لأية أغراض أخرى، حكم عليه بالموت المفاجئ. الرهبان المنتمون إلى رهبنة الإخوة الأصاغر (الفرنسيسكان) والرهبان الدومنيكان وأعضاء الرتب الدينية الأخرى الذين استمعوا إلى اعترافات المحتضرين، كان يقعون فريسة للموت في الحال، بل إن البعض ظلوا في غرف المحتضرين.
وسرعان ما كانت الجثث ترقد مهملة في المنازل، فلا قس ولا ابن ولا أب ولا أي ذي صلة قرابة كان يجرؤ على أن يقترب منها، لكنهم كانوا يدفعون أجورا كبيرة للخدام لدفن الموتى. وظلت منازل المرضى مفتوحة بكل مقتنياتها الثمينة والذهب والمجوهرات؛ فمتى قرر أحد الدخول لم يكن يوجد من يمنعه؛ لأن الطاعون شن هجمة شرسة لدرجة أنه سرعان ما حدث نقص في أعداد الخدم، ولم يتبق أحد في نهاية المطاف.
قد يكون بعض أجزاء هذه الرواية مبالغا فيه، إلا أنها تنقل بصورة حية الرعب والفزع الذي انتاب كل شخص عندما ضرب هذا الطاعون الجديد أول ما ضرب. لقد رزحوا تحت وطأة ضراوة هذا المرض الغامض الذي كان يفوق تماما نطاق خبرتهم في الحياة. ثمة شيء واضح وضوح الشمس - وهو خيط مهم - ألا وهو أنهم أدركوا في الحال أن انتقال العدوى يحدث مباشرة من شخص لآخر.
مع موت المئات وحدوث العدوى المؤكدة مع أضعف احتكاك بالمرضى، تملك الذعر أهل مسينة المتبقين وفروا. لكن فيما ظنوا أنهم يتمتعون بوافر الصحة، فإنهم لم يكونوا على دراية بأنهم يحملون الطاعون معهم دون أن يدروا.
استقرت مجموعة من اللاجئين في حقول وكروم جنوبي صقلية، إلا أن كثيرين منهم خروا صرعى في الطريق ولقوا حتفهم. التمس آخرون اللجوء إلى الميناء المجاور، ويدعى كاتانيا، حيث جرت رعايتهم في المستشفى إلى أن صرعهم الموت، إلا أن أهل كاتانيا سرعان ما أدركوا الخطأ الذي وقعوا فيه؛ فما كان يجدر بهم أن يستقبلوا هذه العدوى المروعة في بلدتهم، وسرعان ما طرحت الجثث في خنادق خارج الأسوار، وجرى فرض القيود الصارمة على الهجرة إليهم.
يروي الراهب مايكل أن «أهل كاتانيا كانوا أشرارا وكان يتملكهم الخوف لدرجة أنه لم يكن أحد منهم يتعامل مع اللاجئين أو يتحدث إليهم، إنما كل كان يفر سريعا لدى اقتراب هؤلاء اللاجئين». سواء أكانت هذه علامة على «الشر» أم تصرفا بدهيا محضا، فقد سبق السيف العذل واجتاح الموت الأسود البلدة: «فقدت بلدة كاتانيا جميع قاطنيها ليطويها النسيان في نهاية المطاف.» على الأرجح كان الراهب مايكل يغالي مرة أخرى، إلا أن الصورة واضحة.
لقد فر أهل مسينة في هلع جنوني، ناشرين الطاعون في كل أنحاء صقلية. كان تعداد الوفيات كبيرا في سيراقوسة، ويقال إن ميناء تراباني أصبح خاليا من السكان. (2) أعراض الطاعون
كيف كانت أعراض الإصابة بالموت الأسود؟ فيما يلي وصف الراهب مايكل لأعراض الطاعون، وهذا وصف لا يصلح لضعاف القلوب:
ظهرت «تقرحات حارقة»، وتكونت البثور في أجزاء مختلفة من الجسم: عند البعض على الأعضاء التناسلية، وعند آخرين على الأفخاذ أو الأذرع، وعند فريق ثالث على الرقبة. في البداية كانت هذه البثور في حجم البندقة وكان المريض تستبد به نوبات رعشة عنيفة، سرعان ما تتركه في حالة هزال شديد حتى إنه لم يكن يقوى على الوقوف، إنما كان يضطر إلى الاستلقاء في الفراش، تنهشه حمى عنيفة ويرزح تحت وطأة الكرب الشديد الذي أصابه. بعد قليل تكبر البثور لتصير في حجم ثمرة الجوز، ثم في حجم بيضة الدجاجة أو بيضة الإوزة، وهي مؤلمة للغاية وتؤدي إلى تهيج الجسم؛ فيتقيأ دما من خلال إتلاف العصارات. كان الدم يرتفع من الرئة المصابة إلى الحلق فيحدث تعفنا، وفي نهاية المطاف تأثيرا تحليليا في الجسم بأكمله. كان المرض يدوم ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع - على أقصى تقدير - يموت المريض.
ربما يكون ممكنا تكملة هذه الرواية بالوصف الآتي الذي قدمه عالم الإنسانيات الفلورنسي جيوفاني بوكاتشيو عندما اجتاح الطاعون فلورنسا:
على عكس ما شوهد في الشرق حيث النزف من الأنف نذير للموت، شهدنا نحن هنا أوراما في منطقة أعلى الفخذ أو منطقة الإبط، بعضها في حجم التفاحة الصغيرة وبعضها في حجم البيضة، بعدها تغطي بقع أرجوانية معظم أجزاء الجسم: في بعض الحالات تكون كبيرة وقليلة العدد، وفي حالات أخرى تكون صغيرة وكثيرة العدد، وكان كلا النوعين نذيرين معتادين للموت. لم يكن لكل من المعرفة الطبية وقوة العقاقير أي تأثير في علاج هذا المرض ... جميع المصابين تقريبا لقوا حتفهم في اليوم الثالث من بدء ظهور الأعراض، كان البعض يموت أسرع من البعض الآخر، وكان ذلك يحدث دون الإصابة بأي نوع من أنواع الحمى أو أية أعراض ثانوية أخرى. ما جعل هذا الطاعون فتاكا، أنه لما كان ينتقل من المرضى إلى الأصحاء ، فإنه كان ينتشر بصفة يومية ... ليس فقط من خلال مجرد التحدث إلى المريض أو الاقتراب منه، لكن حتى من خلال لمس ملابسه.
سرعان ما أصبح جليا أنه لم يكن يوجد علاج: فما إن تظهر الأعراض المخيفة، حتى كانت النهاية المؤلمة تبدو حتمية، فعندما كانت «أمارات الرب» - بقع نزفية ناتجة عن تسرب الدم من الأوعية التالفة تحت الجلد - تظهر على الجسم، فإنها كانت بمنزلة شهادة الموت وبداية أربعة أو خمسة أيام من الآلام المبرحة والهياج والهذيان. وكان عطش الضحايا لا يروى حتى إن بعضهم كان يجري عاريا في الشوارع وهو يصرخ ثم يلقي بنفسه في صهاريج المياه. آخرون كانوا يفقدون صوابهم بالكامل من الألم، بل كانوا يلقون بأنفسهم من النوافذ. كان يحدث نزيف داخلي، وفي الأيام الأخيرة كانت أعضاء الجسم الحيوية تبدأ في الذوبان. كان الموت عتقا رحيما لهم بحق. (3) انتشار الذعر في أنحاء إيطاليا
منذ بداية الطاعون وهو ينتقل إلى الخارج من خلال وسيلتين: السفن، حيث يمكنه أن يقطع أميالا عديدة ليظهر في ميناء جديد تماما، وسيرا على الأقدام حيث يزحف ببطء لكن بشكل مؤكد على الأرض.
وصول الموت الأسود إلى مسينة في جزيرة صقلية وانتشاره بعدها في أنحاء مدن البحر المتوسط عن طريق السفن.
تحتل جزيرة صقلية موقعا محوريا في البحر المتوسط، وكان كل من مينائي مسينة وكاتانيا محطة توقف مهمة للتجارة البحرية. كانت التجارة هي السبب في انتشار الطاعون، ومن صقلية انتشر المرض إلى شمال أفريقيا عن طريق تونس، وإلى جزر البليار وقبرص، وإلى كورسيكا وسردينيا. لو أن الطاعون اقتصر على هذه المناطق، فلربما اندثر بل لربما أغفله التاريخ، إلا أن الطاعون شن بعض الضربات الحرجة في الوقت نفسه تقريبا.
وصل الطاعون إلى جنوة، ميناء إيطاليا الشمالي، في يناير عام 1348 (بعد مرور نحو ثلاثة أشهر على رسو السفن في مسينة). كما أنه قفز قفزة قصيرة عبر المضيق إلى جنوبي إيطاليا.
في يناير عام 1348 وصل المرض البندقية أيضا ربما عن طريق البحر من صقلية. يفيد أحد التقديرات المعاصرة أن تعداد الوفيات كان 100 ألف نسمة، مع أن هذا رقم مبالغ فيه على الأرجح. كتب أحد أهل البندقية قائلا:
أجرى شخص معين عملية فصد لدمي، فانفجر الدم في وجهه. في اليوم نفسه سقط مريضا، وفي اليوم التالي وافته المنية؛ وبنعمة الله نجوت أنا. أسجل هذا لأن مجرد التواصل مع المريض كان ينقل الطاعون المميت إلى الشخص السليم ... من أجل ذلك كان الأصحاء يحرصون بشدة على تجنب المرضى. حتى الكهنة والأطباء كانوا يفرون من المرضى في خوف، والجميع كانوا يتحاشون الموتى. وفي أماكن ومنازل كثيرة، عندما كان يموت أحد قاطنيها، سرعان ما يلحق به الباقون واحدا تلو الآخر. وكانت أعداد الموتى هائلة بحق، حتى إنه تعين تخصيص مدافن جديدة في كل مكان.
هل يمكن أن يستوقفنا شيء هنا؟ أكان الرجل الذي فصدت دماؤه يعاني من الطاعون ومع ذلك شفي؟
يعتقد أن شخصا غريبا (على ما يبدو هو شخص مصاب فعليا بالعدوى) قد جلب المرض إلى بادوفا، وكان الدمار الناتج هائلا؛ فقد مات ثلثا السكان، وهو عدد صاعق؛ فكان إذا مرض أحد أفراد الأسرة، سرعان ما تلحق به الأسرة بأكملها. أكان هذا خيطا مهما لفهم طبيعة المرض؟
ضرب الطاعون بيزا، في الغالب عن طريق ميناء ليجهورن، في مارس عام 1348. من هناك انتشر الطاعون شمالا إلى توسكانا وجنوبا إلى روما. لقد كانت إيطاليا مدمرة بحق.
في تلك الآونة كانت أوروبا فعليا تخوض حربا مع الطاعون، وعلى ما يبدو كان هذا الصراع ميئوسا منه؛ إذ كان هذا المرض يفوق قدرة الأفراد بالكامل على الاستيعاب أو تجاربهم في الحياة. كان العدو خفيا ولم يكن أحد يدري متى وأين سيظهر بعد ذلك. وعندما كان يوجه ضربته، لم يكن بمقدور الناس الدفاع عن أنفسهم وكان الكثيرون يسقطون أمامه، وكلما انتابهم الهلع وهربوا، ازداد انتشار المرض. كانت الغلبة للطاعون دائما.
من جنوة انتقل الطاعون إلى بياتشنزا التي تبعد نحو 60 ميلا (100 كيلومتر) إلى الشمال الشرقي، كتب جابرييل دي موسي، أحد قاطني بياتشنزا، الذي كان يعمل كاتب عدل:
لكن بصفتي أحد قاطني بياتشنزا طلب مني أن أكتب المزيد عنها، لعله يتضح ما حدث هناك عام 1348. بعض من أهل جنوة الذين فروا من الطاعون المتفشي في مدينتهم ارتحلوا شمالا وسكنوا في بوبيو، وهناك باعوا السلع التي جلبوها معهم. وسرعان ما كان المرض يضرب الشاري هو وكل أفراد عائلته وكثير من جيرانه ليموتوا جميعا. تمنى أحد هؤلاء أن يحرر وصيته؛ فاستدعى كاتب عدل والكاهن الذي يعترف له بخطاياه والشهود اللازمين، وفي اليوم التالي دفن كل هؤلاء معا. اشتدت البلية لدرجة أنه سرعان ما سقط كل سكان بوبيو تقريبا ضحايا للمرض، ولم يتبق في المدينة سوى الأموات.
في ربيع عام 1348 قدم فرد آخر من أبناء جنوة المصابين بالطاعون إلى بياتشنزا. لقد قصد صديقه فولتشينو ديلا كروتشا الذي استضافه في منزله، بيد أنه مات بعدها مباشرة، وسرعان ما مات فولتشينو أيضا هو وكامل عائلته وكثيرون من جيرانه. رأى جابرييل دي موسي بوضوح أن هذا المرض ينتقل مباشرة من إنسان إلى آخر. استطرد جابرييل قائلا:
كان الطاعون قد انتشر في كل أنحاء المدينة خلال فترة زمنية قصيرة. لا أعرف من أين أبدأ: النحيب والعويل في كل مكان، معدل الوفيات كان هائلا جدا؛ ومن ثم تملك الناس رعب شديد. أعداد الموتى أصبحت لا حصر لها، والأحياء حسبوا أنفسهم في تعداد الهالكين واستعدوا للقبر.
توضح روايته لنا حجم الكارثة المرعب:
عجزت المدافن عن أن تسع جثثا أكثر من ذلك، فتعين حفر الخنادق لدفن الموتى. كثيرا ما كان يلقى بعائلات بأكملها معا في نفس الحفرة. لم يختلف الحال عن المدن والقرى المجاورة. استدعى شخص يدعى أوبيرتو دي ساسو - الذي كان قد وفد من أحد الأماكن المصابة إلى كنيسة رهبنة الإخوة الأصاغر (الفرنسيسكان) ليحرر وصيته - كاتب عدل، وشهودا، وجيرانا. كل هؤلاء ومعهم ستون آخرون ماتوا في غضون فترة زمنية قصيرة.
كانت فلورنسا، التي تبعد 40 ميلا (60 كيلومترا) من بيزا، واحدة من أعظم المدن في أوروبا، ومركزا ديمقراطيا للثقافة والفنون والتعلم، ومن ضمن كنوزها أعمال دانتي وجوتو. لم تفلت فلورنسا؛ إذ ضربها الموت الأسود ضربة قاسية ، على الرغم من اتخاذ كل الاحتياطات الحكيمة والتوسلات إلى الله. كتب بوكاتشيو في كتابه «ديكاميرون» رواية مهمة عن فلورنسا إبان هذه الفترة:
عزل البعض نفسه تماما عن الناس وتجنب أشكال التواصل الاجتماعي كافة وجميع أنواع الترف، في حين احتسى البعض الآخر الخمر وغنى وعربد بحرية معتقدا أن هذه الطريقة في العيش هي العلاج القوي والفعال لمثل هذه الكارثة الهائلة.
تجنب المواطن أخاه المواطن، وقليلون هم من أبدوا أي مشاعر تعاطف مع غيرهم، وعزل الناس أنفسهم عن الآخرين؛ فلم يلتقوا أقاربهم قط، بل «الأدهى من ذلك، الذي يكاد لا يصدقه عقل، أن الآباء والأمهات هجروا أطفالهم تاركين إياهم بلا عناية ليواجهوا مصيرهم، كما لو كانوا غرباء.»
ما من امرأة مهما، كانت جميلة أو حسنة المنظر أو عريقة النسب، كانت تعزف عن تلبية كل ما يطلبه من يحاول علاجها لدى إصابتها بالمرض، ولا يهم إذا كان من يعالجها شابا أم كهلا، كما أنها لم تكن تتورع عن كشف كل جزء من جسدها له دون أن يعتريها الخجل، كما لو كانت تتعرى أمام امرأة؛ من شدة ما تعانيه من مرض.
كثيرون لقوا حتفهم أثناء النهار أو الليل في الشوارع العامة، أما رحيل الكثيرين الذين ماتوا في منازلهم فلم يكن الجيران يدرون به غالبا إلى أن تنتشر الرائحة النتنة للجثث المتعفنة، ونتيجة للجثث المنتشرة في كل الأرجاء صار المكان بأكمله بمنزلة قبر.
كان من عادة معظم الجيران، الذين كان يحركهم الخوف من التلوث الناجم عن الجثث المتعفنة أكثر من الإحسان إلى المتوفين، أن يجروا الجثث إلى خارج المنازل ويلقوها أمامها، ثم كانوا يحضرون النعوش أو الألواح الخشبية التي يسجى عليها الموتى، حين يكون هناك نقص في النعوش.
كان حاملو الجثث، أو ما يطلق عليهم عاملو المقابر، يؤدون خدماتهم بالأجرة، وكانوا يحملون النعوش بسرعة إلى المدافن. كانوا يحفرون خنادق هائلة «يلقون فيها الجثث بمجرد وصولهم، مئات الجثث في المرة الواحدة، مكدسين إياهم بنفس الطريقة التي تحفظ بها البضائع في مخازن السفن ، طبقة فوق الأخرى، وكل جثة مغطاة بقليل من التراب، إلى أن يصبح الخندق غير قادر على تحمل المزيد من الجثث.»
ولم يكن عاملو المقابر بأناس لطفاء، فعلى ما يبدو أنهم كانوا وحوشا مجردة من الإنسانية يقومون أيضا بدور أكثر شرا؛ مما ساعد في استفحال البؤس العام؛ إذ كانوا يقتحمون منازل الأشخاص الذين لا يزالون على قيد الأحياء ويجرونهم لينضموا إلى صفوف الموتى ما لم يدفع الرجال لهم أموالا من أجل سلامتهم وما لم تدفع النساء من عفتهن.
بلغت الوفيات في فلورنسا ما بين نحو 45 ألف نسمة و65 ألف نسمة، وهي نسبة تعادل على الأرجح 50 بالمائة من وفيات مدن وبلدات إيطاليا. مرة أخرى تكررت الرواية من جديد؛ فإبان طاعون سيينا، وصف أنيولو دي تورا (الذي دفن خمسة من أبنائه) كيف كان الأب يهجر أبناءه، وهكذا يموتون واحدا تلو الآخر. لم يكن ممكنا العثور على شخص ليدفن أكوام الموتى الضخمة في الحفر العميقة، إنما كان ينثر التراب عليها لدرجة أن الكلاب كانت تجرهم إلى الخارج وتنهش أجسامهم. يا لها من صورة مرعبة.
واجه الشاعر بترارك الطاعون في بارما ووصفه في خطاباته. حاول السكان إقامة حجر صحي حول أنفسهم لمنع أي تواصل مع البلدان التي كانت مصابة بالفعل، ولم يصل الطاعون إلى هناك حتى يونيو عام 1348. لكن عندما وصل، وقعت نفس الأحداث المقيتة؛ بلغت الوفيات نحو 40 ألف نسمة في غضون ستة أشهر.
استشرى الوباء في إيطاليا لمدة بلغت نحو عام قبل أن يبدأ في الانحسار. كتب بترارك في أسى شديد إلى أخيه، الناجي الوحيد من بين خمسة وثلاثين شخصا بأحد الأديرة بمونريو:
خيم الحزن على كل الأرجاء، وكان الخوف في كل مكان. ليتني لم أولد قط يا أخي، أو على الأقل ليتني مت قبل أن أرى هذه الأيام. كيف ستصدق ذريتنا أنه أتى زمان أصبح العالم بأكمله تقريبا غير مأهول بالسكان؟
متى سمع أو شوهد أي شيء مثل هذا؛ في أي حوليات قرئ قط عن أن المنازل تركت غير مأهولة، والمدن مقفرة، والبلاد مهملة، والحقول صغيرة للغاية عن أن تسع الموتى، وسادت عزلة مخيفة وعامة في كل أنحاء الأرض؟
هل ستصدق الأجيال القادمة هذه الأمور، في الوقت الذي يصعب علينا نحن الذين شهدناها أن نصدقها؟ كنا سنظن أننا كنا نحلم لو أننا لم نر بأم أعيننا المدينة وهي في حداد جنائزي عند خروجنا من المنزل، ونجدها خاوية لدى عودتنا؛ فنعلم أن ما نتحسر عليه واقع فعلي.
لعلنا اكتشفنا خيطا مهما هنا: أخو الشاعر بترارك كان الناجي الوحيد في مجتمع رهبنة مغلق، ومع ذلك فلا بد أنه كان على مقربة كبيرة من زملائه الرهبان، فكيف تحاشى العدوى؟ هل هذا دليل على أن بعض الأشخاص في أوروبا أظهروا نوعا من المقاومة لهذا المرض اللعين؟ (4) اجتياح فرنسا
بعد أن ضرب الطاعون فرنسا في أواخر عام 1347 أو مطلع عام 1348، ربما يكون تقدير الوفيات بنحو 57 ألف نسمة في مارسيليا وما حولها مبالغا فيه، إلا أن أحداث الرعب والوفيات هناك هي ما توقعناه تماما. دون سيمون دو كوفينو، وهو طبيب من باريس، ذكرياته عام 1350، وهي تقدم قراءة باعثة على الانقباض:
صارت الوجوه شاحبة، والهلاك الذي يهدد الناس كان موصوما على جباههم. كان يكفي أن تنظر في وجوه الرجال والنساء لتقرأ فيها أن البلية أوشكت أن تحدث؛ إذ كانت تعلوها صفرة مميزة تنبئ بدنو العدو، وقبل يوم الهلاك، كان حكم الإعدام يكتب بوضوح على وجه الضحية. لم يبد أن أي مناخ له أدنى تأثير في هذا المرض الغريب؛ فما من حرارة أو برودة أمكنها أن تردعه، فالبيئات الصحية المرتفعة عرضة له مثلها مثل البيئات الرطبة المنخفضة. كان ينتشر في برد الشتاء بنفس القدر من السرعة التي ينتشر بها في حرارة الصيف.
يمكننا معرفة بعض الأمور المهمة عن طبيعة هذا المرض من هذه الرواية القيمة. لاحظ كوفينو أيضا أن الطاعون بدا معديا للغاية لدرجة أن نفسا واحدا من المصاب، أو قطعة من ملابسه، كافية لنقل المرض.
انتشر الطاعون غربا من مارسيليا إلى مونبلييه، ونربونة، وبيربينيا، وقرقشونة التي وصلها في مايو عام 1348، ومن هناك انتقل إلى تولوز ، ومونتوبان، وهكذا وصل إلى ميناء بوردو على الساحل الأطلسي في الفترة ما بين يونيو وأغسطس عام 1348. كان متوسط معدل انتشاره بين ميل وخمسة أميال (2-8 كيلومترات) في اليوم؛ مما يوحي أنه كان ينتقل في المقام الأول عن طريق الأفراد المصابين المسافرين سيرا على الأقدام وليس على صهوة الجياد.
انتشر الموت الأسود شمالا أيضا من مارسيليا، ووصل أفينيون في مارس 1348، حيث ضربها بوحشية. عدد الوفيات المسجل، مع أنه رقم مبالغ فيه بكل تأكيد، هو عدد صاعق: 1800 نسمة خلال ثلاثة الأيام الأولى، وإجمالي 150 ألف نسمة في المدينة وضواحيها الريفية. فر كثيرون من المدينة، إلا أن البابا كليمنت السادس ظل في عزلة على مقربة، محيطا نفسه بألسنة النيران الهائلة التي كان من المفترض أنها تنقي الهواء.
كتب أحد الكهنة المجهولين خطابا إلى أصدقائه يروي فيه القصة الكاملة للطاعون في أفينيون. استهل الكاهن خطابه بتقديم وصف قيم لمسار تطور المرض ومجريات التحقيقات التي أمر بها البابا:
يمكن أن يظهر المرض في ثلاثة أشكال مختلفة: في الشكل الأول، يعاني الأفراد من آلام في الرئة وصعوبة في التنفس، ولا ينجو هؤلاء الضحايا حتى لو كان المرض قد هاجمهم هجوما طفيفا، ولا يعيشون بأي حال من الأحوال أكثر من يومين. أجرى الأبحاث أطباء من مدن كثيرة بإيطاليا، وأيضا في أفينيون، بناء على أمر من البابا للوقوف على منشأ هذا المرض. فتح الأطباء الكثير من الجثث وشرحوها، ووجدوا أن جميع الذين قضوا نحبهم فجأة بهذه الطريقة قد أصيبت رئاتهم وكانوا يبصقون دما. الطبيعة المعدية للمرض هي حقا الأكثر بشاعة؛ لأنه فيما يموت أي مصاب، فإن كل من رآه في مرضه، أو زاره، أو دخل معه في أية تعاملات تجارية، أو حتى حمله إلى القبر، سرعان ما يلحق به إلى هناك، ولم تكن توجد سبل معروفة للوقاية منه.
ثمة شكل آخر من أشكال المرض، يستكمل دورته بالتزامن مع الشكل الأول؛ بمعنى أن أوراما معينة تظهر في الإبطين، وسرعان ما يموت الأفراد نتيجة لذلك. الشكل الثالث للمرض - على غرار الشكلين السابقين - يصيب الأفراد من كلا الجنسين بأورام أعلى منطقة الفخذ، وهذا النوع يفضي سريعا إلى الموت أيضا.
افترض الكاهن، كالجميع، أن هذا المرض معد عن طريق الاتصال المباشر وكرر ما كتبه الآخرون:
تفاقم الوباء بالفعل لدرجة أن الطبيب كان لا يزور المريض خوفا من العدوى، حتى لو أعطاه المريض كل ما يملك عن طيب خاطر، ولم يكن الأب يزور ابنه ولا الأم ابنتها. في الحقيقة لم يكن أحد يزور أحدا مهما كانت صلة قرابتهما إلا إذا كان مستعدا للموت معه، أو اللحاق به سريعا.
على ما يبدو فإن التجنب التام حتى لأقرب الأقربين كان السلوك السائد، وما من أحد شكك في فكرة أن المرض كان معديا نتيجة الاتصال المباشر. استطرد الكاهن قائلا:
قضى نصف أو أكثر من نصف سكان أفينيون نحبهم بالفعل. يوجد الآن أكثر من 7 آلاف منزل مغلق بداخل جدران المدينة، لا أحد يقطن هذه المنازل، فكل قاطنيها رحلوا، والضواحي شبه خاوية من السكان. اشترى البابا حقلا قريبا من كنيسة «سيدتنا العذراء مريم صانعة المعجزات» ودشنه لدفن الموتى، فدفن فيه 11 ألف جثة. هذا بخلاف أولئك الذين دفنوا في مدافن مستشفى سانت أنطوني، والمدافن التابعة للهيئات الدينية، والمدافن الأخرى الكثيرة الكائنة في أفينيون. وفيما يتعلق بالمناطق المجاورة، أود أن أشير إلى أن كل بوابات مارسيليا، باستثناء بوابتين صغيرتين، مغلقة الآن؛ لأن أربعة أخماس السكان لقوا حتفهم.
من الواضح أن تعداد الوفيات كان مرتفعا في فرنسا مثلما كان مرتفعا في إيطاليا.
لا يختلف الحال في مدن وبلدات منطقة بروفنس. لقد عبر المرض بالفعل نهر الرون، واجتاح كثيرا من المدن والقرى البعيدة التي تماثل في بعدها تولوز. إنه يزداد ضراوة وهو يتقدم. يوجد خوف كبير من الموت لدرجة أن الناس لا يجرءون على التحدث حتى إلى أي شخص مات له قريب؛ لأنه كثيرا ما لوحظ أن العائلة التي يموت فيها فرد، يلحق به كل أقاربه تقريبا بلا استثناء. هذا اعتقاد شائع بين الناس. لا يقوم على رعاية المرضى الآن أقاربهم. يعامل المرضى معاملة الكلاب؛ إذ يوضع الطعام لهم بالقرب من الفراش ليأكلوا ويشربوا، وبعد ذلك يسرع الأصحاء إلى مغادرة المنزل. وعندما يقضي رجل نحبه يحضر بعض الرجال الأفظاظ - الذين يطلق عليهم عاملو القبور - إلى المنزل، وبعد تقاضي مكافأة كبيرة بما يكفي يحملون الجثة إلى القبر. لا يزور الأقارب ولا الأصدقاء المريض، بل لا يستمع الكهنة إلى اعترافاتهم ولا يناولونهم القربان المقدس، إنما كل شخص لا يزال سليما يعتني بنفسه. من المشاهد المتكررة يوميا أن يحمل هؤلاء الأوغاد ثريا يحتضر إلى القبر دون مصابيح، ودون أن يتبعه أحد سوى هؤلاء النادبين المأجورين. عند حمل جثة في الشوارع يهرع الجميع إلى منازلهم. حتى «عاملو القبور» المذكورون قبلا، بالرغم من كونهم أقوياء، فلم ينجوا من المرض؛ فقد أصيب معظمهم بالعدوى بعد فترة من الزمن وماتوا.
من الظاهر أن الأفراد بحثوا عن كباش فداء للطاعون؛ لأن الكاهن يقول:
بعض البؤساء قبض عليهم وبحوزتهم نوع معين من المساحيق، ووجهت إليهم تهمة تسميم المياه، ووحده الله الذي يعلم هل كانت هذه التهم عادلة أم جائرة، وامتنع الناس في خوف عن شرب المياه من الآبار، فكثيرون أحرقوا من أجل هذه الجريمة، وتوالى حرق المتهمين بصفة يومية.
كان ذلك بحق ظلما للأبرياء. ويختتم الكاهن كلامه ببعض النصائح البدهية:
أكتب إليكم يا أصدقائي لعلكم تعرفون المخاطر التي نعيش فيها. وإن كانت لكم رغبة في حماية أنفسكم، فإن أفضل نصيحة هي أن تعتدلوا في المأكل والمشرب، وإياكم والبرد. عليكم أن تتجنبوا الإفراط في أي نوع، وفوق كل شيء عليكم أن تقللوا من الحديث مع الآخرين ولا سيما في هذه الآونة، باستثناء القلة القليلة ذات النفس الحلو. وإن كان من الأفضل أن تلزموا منازلكم إلى أن يزول هذا الوباء.
استمرت الهجمة الشرسة للطاعون على أفينيون طوال صيف عام 1348 الطويل حتى الشتاء. تبعثرت الأجساد في الشوارع، وامتلأت المدافن عن آخرها؛ لدرجة اضطر معها البابا كليمنت السادس إلى خلع القدسية على نهر الرون وألقيت الجثث فيه. لا يمكن تخيل مدى بشاعة الروائح النتنة التي كانت تنبعث من الجثث وحجم التلوث الناشئ عن تحللها. وإليكم ما هو أسوأ: كثيرون من المرضى، الذين أصبح مؤكدا أنهم سيموتون لا محالة، دفنوا أحياء.
في تلك الأثناء، واصل الطاعون قبضته المرعبة وزحف شمالا حيث وصل ليون في مطلع الصيف، ثم باريس. يصف جيوم دو ناجي في سرده التاريخي وباء باريس قائلا:
كانت أعداد الوفيات هائلة من كلا الجنسين، وكان الموت يحصد أرواح الصغار أكثر من الكبار. لم يكن يتوافر في كثير من الأحيان أماكن لدفن الموتى من فرط عددهم. علاوة على أنهم غالبا ما كانوا ليمرضوا أكثر من يومين أو ثلاثة، وكثيرا ما كان بعضهم يموت على حين غرة؛ لدرجة أن الرجل الموفور الصحة اليوم، يحمل إلى القبر جثة هامدة في اليوم التالي ... جموع الناس التي ماتت في غضون عامي 1348 و1349 كانت كبيرة للغاية، على نحو لم يسمع بمثله أو ير أو يقرأ عنه في العصور الماضية. وغالبا كان نفس هذا الموت أو المرض ينبع من الخيال، أو من المجتمع والعدوى من الآخر؛ لأنه غالبا ما كان لينجو رجل سليم يزور مريضا من الموت. وهكذا في بلدان كثيرة، الصغير منها والكبير، ترك الكهنة رتبهم الكهنوتية من الخوف، تاركين مهمة تقديم القربان المقدس للمرضى لكهنة أكثر جراءة. باختصار، في بقاع كثيرة، كان بالكاد يعيش شخصان من بين كل عشرين شخصا (أي معدل الوفيات كان يصل لنسبة صاعقة تبلغ 90 بالمائة). كان معدل الوفيات هائلا في فندق أوتيل ديو في باريس، حتى إنه لفترة ليست بالقصيرة كان يحمل كل يوم أكثر من خمسين جثة على عربات إلى الخارج لتدفن ... دام الطاعون في فرنسا معظم عامي 1348 و1349، وبعد ذلك ظلت منازل في العديد من البلدات الصغيرة والمناطق الريفية والمدن الكبيرة غير مأهولة بالسكان.
يدعم هذا التسجيل التاريخي الرأي القائل بأن حجم الكارثة كان غير مسبوق؛ لم ير شخص شيئا مثله من قبل قط. سرعان ما كان الموت يعقب ظهور الأعراض.
كتب رئيس دير سانت مارتن الذي يقع في بلدة تورناي عن بلدات الأشباح التي بقيت بعد انحسار الوباء:
يستحيل أن تصدق معدل الوفيات في كل أنحاء البلاد بأكملها. يصف المسافرون والتجار والحجاج وغيرهم ممن مروا بها كيف وجدوا الماشية تجول بلا رعاة في الحقول، والبلدة مهجورة، والأرض بلا زراع، والمنازل خاوية من السكان، ولا يوجد سوى عدد محدود من الناس. كانت أعداد الوفيات هائلة؛ لدرجة أن مدنا وبلدات وقرى كثيرة كان يبلغ تعداد سكانها من قبل 20 ألف نسمة، أصبح لا يتجاوز تعداد سكانها ألفي نسمة، ومدنا ومناطق ريفية كثيرة كان تعداد سكانها من قبل 1500 نسمة، لم يتبق فيها غالبا سوى 100 نسمة. وفي مناطق كثيرة مختلفة، بارت الأراضي والحقول.
واستطرد يقول إن العصور اللاحقة سيصعب عليها أن تصدق الرعب الذي سببه الطاعون.
تحرك الموت الأسود من باريس نحو الشمال الغربي حيث الساحل الذي وصله في أغسطس عام 1348. مرة أخرى أبطأ الشتاء عنف العدوى (هل حصلنا على خيط جديد هنا؟)، إلا أنه عاد إلى كامل شراسته وعنفوانه. قدر شاهد عيان في مدينة روان معدل الوفيات بنحو مائة ألف نسمة - مرة أخرى قد يكون هذا الرقم مبالغا فيه - ووهب دوق نورماندي أرضا لاستخدامها كمدافن جديدة.
في بلدية لاجريفري، التي تبعد أربعة أميال (ستة كيلومترات) من بلدية فير، «تحللت جثث الموتى وتعفنت على النقالات حيث لفظوا أنفاسهم الأخيرة». حلق علم أسود فوق الكنيسة كما حدث في كافة قرى نورماندي الأكثر تضررا. (5) سقوط إسبانيا
في تلك الأثناء، ضمنت السفن التجارية نشر المرض في كل أنحاء البحر المتوسط. كان معدل الوفيات في الموانئ هائلا جدا حتى إن الجثث كانت تلقى في البحر مباشرة. ضرب الطاعون قبرص بشراسة مدمرة. ولما وجد القبرصيون أنفسهم في مواجهة مباشرة مع الفاجعة، جمعوا كافة العبيد والسجناء المسلمين، وخصصوا فترة ظهيرة كاملة حتى مغيب الشمس لذبحهم؛ خشية أن يحكم المسلمون قبضتهم على الجزيرة، حيث كان مسيحيون كثر يموتون أو يولون الأدبار في هلع.
أثار الموت الأسود ذعر الملك بيدرو الرابع ملك منطقة أراجون عندما وصل الطاعون جزيرة ميورقة في أبريل عام 1348. أصدر بيدرو أوامره للحكومة باتخاذ الخطوات اللازمة لوقف زحف المرض، إلا أن قادة الجزيرة كانوا لا حول لهم ولا قوة، وبلغت الخسائر في الأرواح نحو 15 ألف نسمة في شهر واحد، وهو رقم مهول. قيل إن 80٪ من سكان الجزيرة قضوا نحبهم، وسرعان ما صارت الحكومة تشكو من أن الناس أوهنها المرض بشدة؛ لدرجة أنهم لم يعودوا قادرين على حماية أنفسهم من هجمات القراصنة وهجمات والي تونس الملقب بلقب باي تونس. بل أمر حاكم ميورقة في يونيو عام 1349 أن يرسل قوات إلى جزيرة منورقة المجاورة، حيث كان الخراب أعظم؛ لمساعدتها في درء هجمات الأعداء.
غزا الطاعون شبه الجزيرة الإيبيرية عبر موانئ برشلونة وفالنسيا في البحر المتوسط، حيث وصل إلى هناك في مايو عام 1348. في البداية انتشر المرض ببطء إبان الخريف والربيع موديا بحياة نحو 70 فردا في اليوم الواحد. زحف المرض جنوبا إلى العرب الذين كانوا يهاجمون ألفونسو الحادي عشر ملك قشتالة؛ مما روع صفوفهم، وقد دون فيليب زيجلر في كتابه «الموت الأسود» أن خيبة الأمل أصابت كثيرين منهم لدرجة أنهم فكروا في اعتناق المسيحية كنوع من العلاج الوقائي، لكن سرعان ما تفشى المرض في صفوف قوات قشتالة، وعندما «علموا أن الطاعون طال المسيحيين حينئذ، تلاشت نواياهم الحسنة وعدلوا عن رأيهم.»
نجا جيش قشتالة سالما في منطقة جبل طارق ثم بعدها ضربه الطاعون في مارس عام 1350. اقترح ضباط الجيش أن يترك الملك ألفونسو القوات ويسعى إلى السلامة في العزلة، إلا أنه رفض أن يترك مكانه، وهكذا مات إبان تفشي الوباء. وقد كان الملك الحاكم الوحيد الذي يلقى حتفه إبان الموت الأسود، وإن كان الملك بيدرو قد فقد زوجته وابنته الصغرى وابنة أخيه.
وفي آخر المطاف جرى خرق القانون في إسبانيا، وجالت عصابات قطاع الطرق في أنحاء الريف، ونشر مرسوم يأمر بإنزال أشد العقاب بكل من يقبض عليه أثناء قيامه بنهب منازل ضحايا الطاعون. (6) ثلاث سنوات من الدمار
اندفع الموت الأسود بلا هوادة شمالا في أنحاء أوروبا كموجة عملاقة. استغرق الأمر ثمانية أشهر من الضربة الأولى كي يبيد الوباء كل مدينة يدخلها ، ولم يرخ قبضته قط. وكان تقدمه أكثر سرعة في المراحل الأولى من ديسمبر 1347 إلى يونيو 1348، وهو الوقت الذي انتشر فيه في إيطاليا وجزء كبير من فرنسا، وإسبانيا والبلقان. وبعد أن عبر جبال الألب وجبال البرانس، واصل زحفه شمالا حيث وصل في آخر المطاف إلى السويد والنرويج ودول البلطيق بحلول ديسمبر عام 1350.
الغريب أن بضعة أماكن نجت تماما من المرض، منها مدينة ميلانو ومدينة لييج ومدينة نورنبرج الألمانية، ومنطقة صغيرة شرق بلدة كاليه الفرنسية، ومنطقة كبيرة في شمال فيينا، ومنطقة صغيرة في الطرف الشمالي الغربي من جبال البرانس (على الرغم من أن المرض كان موجودا في أنحاء بقية السلسلة الجبلية).
انتشار الموت الأسود الأشبه بالموجة في أنحاء أوروبا جهة الشمال من عام 1347 إلى عام 1350.
ساد الهلع في كل أنحاء أوروبا لأن الطاعون غطى مساحة واسعة، مهلكا كل شيء في طريقه. لم يعرف أحد طريقة لتجنب الطاعون سوى الفرار. لا بد أن الفرار أمامه بدا استراتيجية دفاعية واضحة، إلا أنها لم تجلب معها كثير نفع، بل أدت في الغالب إلى استفحال الجائحة. الشيء المأساوي أنه لو أن كل شخص مكث مكانه فلربما اقتصر الطاعون على إيطاليا وجنوبي فرنسا ولربما جرى التخلص منه.
حان الآن دور البلدان المنخفضة (بلجيكا ولوكسمبورج وهولندا) لتذوق كأس المعاناة، وكما هو متوقع تماما، تسبب الموت الأسود في حالة من الهلع والدمار كعادته. كتب جيل لي ميوسي:
يكاد يستحيل تصديق معدل الوفيات في كل أنحاء البلاد بأكملها. يفيد المسافرون والتجار والحجاج وغيرهم ممن مروا بها بأنهم وجدوا الماشية تجول بلا رعاة في الحقول، والبلدة مهجورة، والأرض بلا زراع، والمنازل خاوية من السكان، ولا يوجد سوى عدد محدود من الناس ... وفي مناطق كثيرة مختلفة، بارت الأراضي والحقول.
وصل الموت الأسود تورناي، الكائنة في بلجيكا حاليا، في صيف عام 1349، وكان الأسقف من أوائل الذين سقطوا صرعى، ثم سادت فترة سكون قبل أن يكشر الوباء عن أنيابه.
في كل يوم كانت تحمل أجساد الموتى إلى الكنائس، خمس جثث، ثم عشر جثث، ثم خمس عشرة جثة، وفي أبرشية سانت برايس في بعض الأحيان، كان يسقط عشرون أو ثلاثون جثة في المرة الواحدة. وفي كل كنائس الأبرشية، يقرع الخوريون والخدام العلمانيون وخدام الكنيسة الأجراس الجنائزية صباحا ومساء وليلا كي يحصلوا على أجورهم، فما كان من سكان المدينة بأكملهم رجالا ونساء على حد سواء إلا أن يتملكهم الرعب.
تصرف مجلس المدينة بصرامة لاسترداد ثقة الجمهور؛ فمنع قرع الأجراس في الجنازات، وحظر لبس الملابس السوداء، وكذلك منع التجمعات في منازل الموتى، وخصصت مدافن جديدة خارج جدران المدينة كان يدفن فيها كل الموتى مهما كانت مكانتهم في المدينة.
وهكذا واصل الطاعون زحفه بلا هوادة شمالا في أنحاء ألمانيا؛ فكان يجلب معه خسائر فادحة في الأرواح على نفس المنوال، وكان يتسبب في بعض الأحيان في انهيار القانون والنظام والمسئوليات المدنية. تضمنت الخسائر المريعة في الأرواح 2000 نسمة خلال 72 يوما في فرانكفورت إم ماين: ما يزيد على 50 بالمائة من سكان هامبورج، و6000 نسمة في ماينتس، و11 ألف نسمة في مونستر. لقي نحو 12 ألف نسمة حتفهم في إرفورت ونحو 7000 في بريمن، ربما ما يعادل 70 بالمائة من السكان. علاوة على أنه قيل إن 200 ألف بلدة ريفية صغيرة في ألمانيا محا الطاعون كل سكانها. وكان رعب وفزع أولئك الذين واجهوا الموت المحقق يفوق الخيال.
يقول السجل التاريخي لبلدية نويبرج المدون في نوفمبر من عام 1348:
منذ أن استشرى هذا الوباء الفتاك في كل الأنحاء، صارت المدن التي كانت عامرة بالسكان حتى هذه اللحظة خربة. محا الطاعون سكانها بأعداد مهولة؛ لدرجة أن أولئك الذين ظلوا على قيد الحياة، أوصدوا أبوابهم، وراقبوا في حماس لئلا يسرق أحد ممتلكات من قضوا ... وصل الوباء اللعين إلى كارينثيا، ثم أحكم قبضته على ستيريا تماما؛ لدرجة أن أهلها لما استسلموا لليأس هاموا على وجوههم كما لو كانوا قد فقدوا صوابهم.
تأكدت الطبيعة المعدية والمرعبة للطاعون من جديد:
انبعثت الروائح الوبائية من عدد كبير جدا من المرضى، فكانوا ينقلون العدوى إلى من يزورونهم أو يخدمونهم، وكثيرا ما كان يموت أحد أفراد العائلة فيلحق به كل أفرادها واحدا تلو الآخر ... ونتيجة لهذا البلاء الهائل، تركت الماشية تهيم على وجهها في الحقول دون حراس؛ لأنه لم يكن أحد ليفكر في المستقبل، وهكذا قدمت الذئاب من الجبال لتهاجمها. تحاشى الجميع بحذر بالغ الممتلكات، سواء المنقولة أو غير المنقولة التي تركها المرضى في وصيتهم كما لو كانت موبوءة هي الأخرى.
ضرب الموت الأسود فيينا في ربيع عام 1349، ويقال إنه في كل يوم من أيام الصيف الطويل كان يموت ما بين 500 إلى 600 ضحية، وفي أحد الأيام المرعبة لقي قرابة الألف شخص حتفهم. وإجمالا توفي نحو نصف السكان - على الأرجح - بسبب الوباء.
كالعادة، دفنت الجثث خارج المدينة في حفر عميقة احتوى كل منها على 6000 جثة، وبسبب رائحة الجثث وحالة الفزع الشديد التي أثارتها، منعت الكنيسة الدفن في مدافن الكنيسة، فحالما يموت أحد الأفراد يحمل جسده إلى خارج المدينة ليدفن في أحد المدافن العامة التي يطلق عليها «مدافن الله». كانت الحفر الواسعة العميقة هناك سرعان ما تمتلئ عن آخرها بالموتى. (7) أراضي الفايكينج
ثمة رأي سائد يرى أن الطاعون انتقل إلى النرويج في صيف عام 1349 على متن قارب قادم من لندن، لكن الأرجح أنه صنع تلك القفزة القصيرة عبر المضيق من كوبنهاجن، ثم سرعان ما انتشر المرض «في كل أنحاء النرويج»، ووردت أنباء عن وصوله إلى أرخانجلسك، وهو ميناء على البحر الأبيض في شمال غرب روسيا جنوب الدائرة القطبية الشمالية مباشرة. والمذهل أنه يقال إن ثلثي سكان النرويج قضوا نحبهم؛ حيث أصبحت قرى كثيرة خاوية من السكان واختفت.
يروي فيليب زيجلر في كتابه «الموت الأسود» الرواية القديمة التي تقول إنه عندما وصل الطاعون إلى برجن فر الكثير من العائلات البارزة إلى تيوسديدال (يوستيدال) على سفح الجبال، حيث شرعوا في بناء مدينة على أمل أن يكونوا في مأمن، لكن لم يقدر لهم هذا؛ ففي الغالب كان أحدهم مصابا بالفعل؛ ما أدى إلى تفشي الوباء وموت المجتمع بأكمله باستثناء فتاة واحدة. اكتشفت الفتاة بعدها بسنوات وهي لا تزال تعيش في المنطقة، إلا أنها كانت تتصرف بوحشية وتعرض عن رفقة البشر. ومع ذلك، عادت في آخر المطاف إلى المجتمع وتزوجت في سعادة، وآلت إليها جميع الأراضي التي كانت قد استحوذت عليها جماعتها، وصارت عائلتها من بين كبار ملاك الأراضي في الجوار لقرون عديدة.
عندما اكتشفنا هذه القصة أصابتنا الحيرة من السؤال الذي طرح نفسه: لماذا نجت هذه الفتاة من العدوى؟ حتما كانت هذه الفتاة تحتك احتكاكا مباشرا بعائلتها وأفراد المجتمع الآخرين وهم يموتون فردا تلو الآخر، وغالبا تعين عليها أن تدفن بعضهم. لقد رأينا هذا من قبل وتعجبنا إن كان هذا مثالا آخر على شخص كان مقاوما للمرض.
في الغالب وصل الطاعون السويد عام 1350 عن طريق العبور من الدنمارك، وأيضا عن طريق رحلة بحرية عبر بحر البلطيق من ميناء جدانسك حيث كان الوباء متفشيا. أعلن الملك ماجنوس الثاني ملك السويد أن الله ضرب العالم بعقاب عظيم في شكل موت مفاجئ، وأن معظم الناس القاطنين غرب بلاده لقوا حتفهم: «هو يخرب الآن النرويج وهولندا ويقترب من مملكتنا السويد.» وقد أمر شعبه في أيام الجمعة بالإمساك عن الطعام عدا الخبز والماء، وأن يسيروا إلى كنائسهم حفاة، وأن يطوفوا حول المدافن حاملين الرفات المقدس لتهدئة الغضب الإلهي. مرة أخرى، لم يحقق ذلك نفعا؛ فعندما وصل الوباء العاصمة، كانت الجثث مبعثرة في الشوارع من جديد، وأصبح كل من هاكون وكنوت، شقيقي الملك، من بين الضحايا.
لقد انتشر الموت الأسود في أنحاء أوروبا القارية في غضون فترة لم تتجاوز ثلاث سنوات مرعبة. لسوء حظ هؤلاء الرجال والنساء التعساء، كانت أوروبا في طريقها لأن تصبح موطن الوباء ومرتعه على مدار القرون الثلاثة التالية. ومع ذلك، كان هناك المزيد من الأراضي التي لا تزال أمامه ليقهرها.
الفصل الثاني
الموت الأسود يعبر القنال الإنجليزي
لطالما أنقذ القنال الإنجليزي بريطانيا من الغزو على مر التاريخ، بدءا من أسطول الأرمادا الإسباني ووصولا إلى الحرب العالمية الثانية. وهناك داء الكلب، ذلك المرض المستوطن في البر القاري الرئيسي، لكن حتى مع وجود نفق للقنال، فإنه لا يزال نادرا في إنجلترا، إلا أن القنال الإنجليزي لم يحل دون وصول الموت الأسود.
في عام 1348، عاش شعب إنجلترا في ظل مجتمع إقطاعي، حيث عمل الفلاحون في أراضي علية القوم. كانت القرى تتكون من أكواخ ذات أسقف مصنوعة من الأغصان ومغطاة بالجص، وكانت تتألف من طابق واحد وغرفة واحدة. وكانت هذه الأكواخ رطبة وباردة ومظلمة حيث لم تكن توجد مداخن أو نوافذ، وكانت الأرضيات مغطاة بالقش والطين، أما الأثاث فمنضدة مزدوجة الأرجل، وزوج من المقاعد الطويلة ثلاثية الأرجل، وفراش من القش أو أوراق الشجر.
وكان النظام الغذائي للأفراد مكونا في الأساس من الثريد والجبن والخبز الأسود، وبعض الخضراوات المزروعة في المنزل. إلا أن صيف هذا العام كان رطبا على نحو غير طبيعي، وتعفن الشوفان والقمح والتبن والقش في الحقول بسبب الأمطار التي كادت لا تنقطع. انتشرت المخاوف من أن يكون المحصول ضعيفا، ومن أن يكون في انتظارهم شتاء من القحط والجوع، لكنهم كانوا يجهلون أن عدوا أسوأ بكثير وشيك الظهور.
أغلب الظن أن الطاعون دخل بريطانيا من بلدة مالكوم ريجيس (يطلق عليها الآن وايمث) بمقاطعة دورست، التي كانت آنذاك بلدة وميناء مهما على الساحل الجنوبي، وإن كان يعتقد أيضا أن مدينتي بريستول وساوثهامبتون هما نقطة الدخول. وربما يكون قد أتى من جزر القناة، التي كانت مضطربة بالفعل، وكان الصيادون غير قادرين على دفع الضرائب لأنهم كانوا جميعا قد أصيبوا بالطاعون. جرى تأريخ وصوله في أيام مختلفة في الفترة ما بين يونيو ومطلع أغسطس عام 1348.
حركة الموت الأسود في أنحاء إنجلترا عقب وصوله إلى وايمث بمقاطعة دورست عام 1348.
مع أن ثمة قليلا من الروايات المعاصرة عن الطاعون في بريطانيا (على عكس أوروبا القارية)، فإن الشعور السائد بالكرب واليأس يتضح جليا في هذا السرد التاريخي لما وقع من أحداث:
سطرت أنا الراهب جون كلاين من رهبنة الإخوة الأصاغر ومن دير كيلكني في هذا الكتاب الأحداث البارزة التي وقعت في زماني، والتي شهدتها بعيني أو علمت بها من أشخاص موثوق فيهم. وخشية أن تندثر أمور جديرة بالتذكر مع الزمن، وتسقط من ذاكرة الأجيال الآتية بعدنا، أنا شاهد على هذه الشرور الكثيرة عندما أصبح العالم كله في قبضة إبليس، وسط الموتى منتظرا قدوم الموت. بناء على ما سمعت وتحريت بحق، اختصرت كل هذه الأمور في كلمات. وخشية أن تفنى الكلمات مع كاتبها، والعمل مع صانعه، أترك هذه المخطوطة كي يستكمل العمل الذي قمت به، إذا حدث وتصادف أن نجا أي إنسان، وفر أي شخص من نسل آدم من براثن هذا الوباء اللعين، وأكمل العمل الذي بدأته.
يمكن تحديد المسار العام لانتشار الموت الأسود من السجلات الكنسية التي تصف مدى السرعة التي تعين بها على الأساقفة في كل أسقفية أن يعينوا كهنة جددا ليحلوا محل أولئك الذين لقوا حتفهم. اجتاح الطاعون أول ما اجتاح دورست ثم صوب حرابه غربا نحو مقاطعتي ديفون وكورنوال مسفرا عن عدد الوفيات المعتاد المرتفع، ثم شرقا نحو مدينة ساوثهامبتون والمقاطعات الجنوبية. أما الصفعة التي تلقاها الشمال فقد كانت بمنزلة الضربة القاضية؛ إذ شق الطاعون طريقه في مقاطعة سومرست (حيث أصيبت معظم البلدات) إلى ميناء بريستول حيث «قضى الأفراد نحبهم كما لو كان الموت المفاجئ قد اختطف كامل قوة المدينة». «استشرى الطاعون هنا في بريستول عام 1348 إلى الدرجة التي لم يستطع معها الأحياء في الغالب دفن موتاهم.» ثم واصل الوباء انتشاره إلى مدينة جلوستر حيث حاول السكان عزل أنفسهم بلا طائل؛ فقد وصل عدد الوفيات إلى نسبة صاعقة؛ حوالي 90 بالمائة من السكان.
واصلت موجة الهجوم المدمرة زحفها إلى أكسفوردشير ومنها انتقلت عبر وادي نهر التيمز إلى لندن، حيث وصلها الطاعون في نوفمبر عام 1348. في يناير التالي، أجل الملك البرلمان بسبب أن «وباء فتاكا استشرى فجأة في المكان المشار إليه ومناطق الجوار، وكان قد ازداد حدة بصفة يومية؛ من ثم أخذت المخاوف الشديدة في الاعتبار في سبيل سلامة أولئك الوافدين إلى هناك آنذاك.»
أورد روبرت من آفيزبيري أنه كان يجري دفن أكثر من 200 جثة كل يوم في مدفن واحد في لندن، حيث كان قائما نصب تذكاري على شكل صليب مكتوب عليه أن أكثر من 50 ألف جثة دفنت هناك، مع أن هذا في الغالب هو على الأرجح مبالغة أخرى في الأرقام بعد انقضاء الحدث. وهكذا استمر عدد الوفيات الهائل، وسرعان ما اكتظت المدافن الموجودة بالجثث وجرى تخصيص وتدشين أراض جديدة للدفن في منطقتي سميثفيلد وسبيتل كروفت.
رفض سائقو عربات النقل من الريف المحيط بلندن نقل المؤن الغذائية إليها خشية أن يصابوا هم أنفسهم بالمرض، ونتيجة لذلك غادر كثيرون المدينة بحثا عن الطعام، حاملين المرض معهم. كتب ويليام دين، وهو راهب يقطن مدينة روتشستر بمقاطعة كنت، عندما توغل الطاعون هناك:
اجتاح طاعون لم يسمع بمثله من قبل إنجلترا في هذا العام ... يا للحسرة على مصابنا الجلل! قضى هذا الموت على جمع هائل من كلا الجنسين حتى إنه لم يتبق أحد ليحمل الجثث إلى القبور. كان كل من الرجال والنساء يحملون أولادهم على أكتافهم إلى الكنيسة ثم يلقون بهم في حفرة جماعية. كانت تنبعث من هذه الحفر روائح نتنة للغاية حتى إنه لم يكن أحد يجرؤ على المرور بالقبور.
للأسف كانت هذه هي القصة المألوفة للموت؛ معاناة وحسرة.
يختلف المؤرخون حول إجمالي عدد الأفراد الذين لقوا حتفهم جراء الطاعون في لندن؛ فقد أشار البعض إلى أن عدد الوفيات بلغ 100 ألف نسمة، إلا أن التقدير الأكثر منطقية يتراوح في الغالب ما بين 20 و30 ألف نسمة من الوفيات، من إجمالي عدد سكان تراوح ما بين 60 و70 ألف نسمة، وهو ما يتناغم مع معدلات الوفيات في المدن الإنجليزية الأخرى.
آنذاك انتشر الموت الأسود شمالا على جبهتين رئيسيتين، الجانبين الشرقي والغربي من إنجلترا، وقد تلاقت الجبهتان وسط إنجلترا التي عانت خسائر فادحة في الأرواح.
اتسع نطاق الجبهة الغربية ليصل إلى جنوبي ويلز. في مدينة كارديجان كان معدل الوفيات هائلا والخوف من العدوى عظيما، حتى إنه كاد يستحيل أن تجد أشخاصا يشغلون وظائف معينة مثل شماس، أو موظف إداري (حاجب المحكمة أو مراقب) أو عريف. من إجمالي 104 مستأجرين، مات 97 فردا أو فروا قبل منتصف الصيف. تحرك الموت الأسود أيضا إلى أعلى الحدود بين إنجلترا وويلز ومنها إلى منطقة سنودونيا، وفي آخر المطاف وصل إلى جزيرة أنجلسي. في تلك الأثناء ساعدت الجبهة الشرقية - التي تبدأ على الأرجح من مدينة كامبريدج، ومنطقة إيست أنجليا التي ضربها الطاعون ودخول المزيد من الأوبئة عبر الموانئ التي تقع على الساحل الشرقي - في استفحال الطاعون هناك. انتقل أيضا الطاعون عبر طريق جريت نورث رود إلى مدن يورك ودرم ونيوكاسل. وفي الغالب عبر الوباء جبال بيناينز سالكا الطريق الروماني بمحاذاة سور هادريان، وهكذا وصل كارلايل.
حارب السير ويليام دو ويكبريدج إلى جانب الملك إدوارد الثالث في حرب المائة عام مع فرنسا، وقد ورث ضيعة كريتش (المعروفة باسم كارديل في المسلسل التلفزيوني «بيك براكتيس») بمقاطعة دربيشير. بعدما حل الموت الأسود، كان هذا الرجل قد فقد خلال ثلاثة أشهر والده وزوجته وثلاثة إخوة وأختين وأخت زوجته. ما إن رحل الطاعون، حتى أصبح ثمن الأرض بخسا للغاية، واستطاع السير ويليام أن يبرم مجموعة من الصفقات الناجحة، حيث استفاد من هذا في وهب مذبحين بداخل كنيسة كريتش، كانا كنيستين صغيرتين بداخل الكنيسة الكبيرة مخصصتين لإقامة القداسات اليومية على روح مؤسسهما.
وهناك قصة ذلك الفلاح الذي كان يقطن مقاطعة درم وفقد كل أفراد عائلته في الوباء، فما كان من الرجل المسكين إلا أن جال لسنوات في أنحاء الريف بحثا عنهم.
حتى ذلك الحين كان الطاعون قد تقدم بثبات نحو شمال إنجلترا عبر جبهات منفصلة بطول طرق التجارة، بمعدل انتشار يشير إلى أنه انتقل على الأرجح عن طريق المسافرين الحاملين للعدوى. لقد استنتجنا من فحص السجلات الكنسية أنه حالما كان يصل الطاعون إلى بلدة، فإنه كان يمكث بها نحو تسعة أشهر. إلا أن هذا النمط تغير بعد ذلك وبدأت الأوبئة تظهر حينذاك على نحو غير متوقع في أماكن متفرقة على نطاق واسع. من الظاهر أنه كان هناك نمطان من انتقال العدوى: أحدهما بطيء وتدريجي ، والآخر غريب الأطوار وقادر على قطع مسافات طويلة. على الأرجح كان النوع الثاني من انتقال العدوى يحدث عن طريق مسافر على صهوة الجياد.
ربما وصل الطاعون اسكتلندا عن طريق كل من نيوكاسل وكارلايل، لكن قليلة هي المعلومات التي وصلت إلينا بهذا الصدد. ولعل الجيش الاسكتلندي هو من جلب العدوى لنفسه:
ظنا منهم أن قصاص الله المريع قد انصب على الإنجليز، انضموا إلى القوات في غابة سيلكيرك وخططوا لغزو مملكة إنجلترا، إلا أن موتا قاسيا حل بهم وحصد بوحشية أرواح الاسكتلنديين على حين غرة. وسرعان ما مات منهم خمسة آلاف شخص، وقرر البقية، المرضى منهم والأصحاء، أن يعودوا أدراجهم، إلا أن الإنجليز تعقبوهم وقتلوا جمعا غفيرا منهم.
تشتت الجنود المذعورون في أنحاء اسكتلندا، فمنهم من مات إلى جانب الطريق ومنهم من حمل العدوى معه إلى منازلهم.
كتب جون فوردون، الذي كان ينتمي إلى أبرشية فوردون والذي عاش إبان انتشار الموت الأسود:
كان هناك في مملكة اسكتلندا وباء وطاعون هائل انتشر بين الناس ... منذ بدء العالم حتى العصر الحالي لم يسمع بمثل هذا قط، ولم يوجد مثله في الكتب بغية توعية الأجيال القادمة؛ لأنه إلى مثل هذه الدرجة صب هذا الطاعون جام غضبه على البشر، حتى إن نحو ثلث البشرية قضت نحبها. علاوة على أنه، بسماح من الله، أدى هذا الشر إلى نوع من الموت غريب وغير مألوف، حتى إن لحم المريض كان ينتفخ ويتورم بطريقة ما، وبعده لا تستمر حياته سوى يومين على الأكثر ... أصاب الأفراد خوف شديد منه حتى إنه خشية العدوى لم يجرؤ الأبناء على رؤية آبائهم وهم في سكرات الموت، وكانوا يفرون كما يفر المرء من مجذوم أو أفعى.
أكد أندرو واينتاون، المعاصر لجون فوردون، أن اسكتلندا عانت بشدة:
أول وباء لعين في اسكتلندا،
استشرى بعنف وبشراسة،
حتى قيل إنه أطاح بثلث الأحياء،
وبعدها بعام أو أكثر
كشر عن أنيابه في اسكتلندا،
قبل ذلك الحين، لم ير
الوباء في أرضنا قط،
كان نادرا أن يصيبها وباء،
فلم يتورع عن قتل
الرجال والنساء والأطفال على حد سواء.
انتقلت العدوى أيضا إلى أيرلندا، وكان ذلك على الأرجح على متن قارب غادر من بريستول في خريف عام 1348. الدليل التاريخي غير قاطع، لكن الطاعون ضرب دبلن بشدة، ومن هناك انتقل برا إلى داخل البلاد وبمحاذاة الساحل الغربي.
كتب جون كلاين:
في شهري سبتمبر وأكتوبر (1348)، وفد مطارنة وأساقفة وكهنة ورهبان ونبلاء وغيرهم، النساء كما الرجال، بأعداد غفيرة من كل بقاع أيرلندا إلى مركز الحج. كانت أعدادهم غفيرة حتى إنه كان من الممكن في أيام كثيرة أن ترى آلاف الأشخاص محتشدين هناك، بعضهم أتى من أجل العبادة إلا أن البعض (الأغلبية في الحقيقة) أتوا خوفا من الطاعون، الذي استشرى بشدة هناك. بدأ الطاعون بالقرب من دبلن في بلدتي هوث ودروهيدا. دمرت هاتان البلدتان على نحو شبه تام وخلتا من سكانهما حتى إنه في دبلن وحدها مات 14 ألف نسمة في الفترة ما بين أغسطس وعيد الميلاد.
يصف أيضا السرد التاريخي لجون كلاين الأعراض التي ظهرت على الضحايا: «مات كثيرون من الخراريج والبثور والتقرحات التي ظهرت على سيقانهم وعند آباطهم؛ آخرون ماتوا من آلام في الرأس، كما لو كانوا قد دخلوا في نوبة جنون، وفريق ثالث ماتوا بعد أن تقيئوا دما.» ويقول: إن المرض كان معديا للغاية حتى إن أولئك الذين لمسوا الموتى أو حتى المرضى، كانوا يصابون بالمرض في الحال ويموتون. ويضيف قائلا: إنه كان «يحمل كل من التائب والكاهن الذي يتلقى الاعتراف معا إلى نفس القبر.» هكذا كان الخوف والفزع من الطاعون حتى إنه «لم يجرؤ سوى قلة قليلة من الرجال على الإشفاق على الآخرين، وبالأخص زيارة المرضى ودفن الموتى.»
تصف قصة معاصرة أخرى الحبوب السوداء الصغيرة والبقع المزرقة على الصدر. كانت هذه الأمارة الخاصة والمميزة للطاعون، وكانت تعرف باسم «أمارات الرب». دائما ما كان يتبع الموت ظهورها. كان المرض «سريعا في أداء مهمته؛ فاليوم الناس يتمتعون بوافر الصحة وغدا موتى في القبور.»
ثمة خيط مشترك يجمع بين كل هذه الروايات؛ فنفس المرض بالتأكيد انتشر في كل مكان. (1) عالم ترتعد فرائصه
قد تكون الروايات التي رواها الناجون من الموت الأسود المقتبسة أعلاه مثيرة في بعض المواضع، إلا أنها تتحدث إلينا بوضوح عبر القرون المتخللة، ناقلة شعورا فعليا بالرعب والفزع اللذين استحوذا على أوروبا. يمكننا أن نتصور بسهولة الهلع الذي يتملك الأفراد لدى العثور على بقع نزفية مخيفة أو أمارات الرب على صدورهم؛ إذ كانت هذه شهادة موتهم ونذيرا بأربعة أو خمسة أيام من الآلام المبرحة والجنون والهذيان.
كاد هذا الطاعون يجتاح عالمهم المعروف بأكمله. كانت درايتهم بالطاعون قليلة بحق، لكن هذا الوباء اللعين كان في طريقه لأن يمكث معهم طيلة الثلاثمائة سنة التالية. كانت هذه بمنزلة ضربة ساحقة لحضارتهم - حيث كان عصر النهضة قد بدأ انطلاقته - ضربة لم ير لها مثيل من قبل قط، أو منذ ذلك الحين. لقد كانت حقا أكبر مأساة شهدها تاريخ البشرية، وكان العالم في طريقه إلى أن يتغير إلى الأبد.
ثمة حقيقة واحدة بدهية: أدرك الجميع من البداية أنه كان مرضا معديا بغيضا. كان مألوفا لهم أن يروا أمراضا فتاكة غامضة، إلا أنهم لم يروا شيئا مثل هذا من قبل قط. وقد اتخذوا في الحال خطوات لحماية أنفسهم؛ فقد فروا، وحاول أفراد وبلدات بأكملها عزل أنفسهم، كما أنهم تجنبوا التواصل مع أي من المشتبه في إصابتهم بالمرض.
قرأنا مرارا وتكرارا عن أنه حتى الآباء تركوا أولادهم المحتضرين بلا عناية، وهو شيء يصعب تخيله. لكننا لم نواجه في حياتنا قط شيئا يشبه الرعب الشديد الذي أصاب الناس جراء الموت الأسود، ذلك المرض المعدي الذي ظهر دون سابق إنذار. لم يكن هناك علاج، ولا طريقة لتخفيف الآلام المبرحة، ولا مستشفيات نظيفة يموت فيها المرء بسلام، ولا مسكنات للألم، لم يكن يوجد أي شيء على الإطلاق يمكن للمرء أن يفعله. كان الناس خائفين وعاجزين تماما وهالكين لا محالة إذا احتكوا بشخص مصاب.
هناك أيضا الكثير من الروايات البطولية والتضحيات، روايات عن أشخاص ظلوا في أماكنهم ولم يفروا، عن أطباء وممرضات اعتنوا بمرضاهم وماتوا. والشيء الجدير بالملاحظة، فيما خلا بضعة استثناءات خاصة، أنه لم يحدث خرق كامل للنظام والقانون في إنجلترا.
أشارت دورية «نيو ساينتيست» في فبراير 2002 إلى أنه:
من المحتمل أن يتفوق الإيدز على الموت الأسود باعتباره أسوأ جائحة في التاريخ. في القرن الرابع عشر اجتاح الموت الأسود أوروبا وآسيا موديا بحياة نحو 40 مليون شخص. الآن بعد مرور قرابة السبعمائة عام، يكرر التاريخ نفسه؛ فبنهاية هذا العقد سيكون مرض نقص المناعة البشرية، أو الإيدز، قد حصد أرواح 65 مليون نسمة. ومع أن الملاريا والسل يصيبان الآن أشخاصا أكثر من مرض نقص المناعة البشرية، فإن تأثيرهما الاجتماعي والاقتصادي أقل وطأة من الإيدز.
هذه استهانة بتأثير الموت الأسود. لقد اكتشفنا الإيدز منذ 20 عاما، وخلال هذا الوقت انتشر ببطء في أنحاء العالم. وإجمالي عدد وفيات الإيدز بعد هذه المدة الذي بلغ 40 مليون نسمة هو جزء بسيط فحسب من عدد سكان العالم اليوم الذي يبلغ مليارات. علاوة على أنه، بفضل العلم والطب الحديثين، أصبح مرض نقص المناعة البشرية/الإيدز مفهوما تماما، ويمكن الاستدلال على وجوده بفحص عينات الدم. فلا هلع ولا غموض حول المرض؛ إذ نعلم أنه ينتقل من خلال الجماع الجنسي غير الآمن، ويمكن وقف انتشار الإيدز من خلال تغير واع مستنير في السلوك الاجتماعي.
وعلى النقيض، أطاح الموت الأسود في ضربة واحدة بنحو نصف سكان أوروبا، وظل يضرب مرارا وتكرارا على مدار الثلاثمائة عام التالية. وكان الناس عاجزين تماما أمامه.
ولأن الدمار الذي سببه الموت الأسود فاق قدرة الناس على الاستيعاب، فإنهم قبلوا بلا أدنى تشكك المرسوم الذي أصدره البابا والكنيسة يعلنان فيه أن هذا الابتلاء هو عقاب من الله على كثرة خطاياهم، كما رأينا في بنريث. راج هذا المرسوم غير المجدي طيلة الثلاثمائة سنة التالية وبعدها. ذكر الكاردينال بول كورديس، رئيس مكتب الفاتيكان للمساعدات الإنسانية، في رسالة الصوم الكبير التي كان يقدمها نيابة عن بابا الفاتيكان في فبراير 2002، أن هناك سلطانا إنجيليا لفكرة أن أولئك الذين يصابون بالأمراض يحدث لهم ذلك لأنهم أخطئوا؛ فقد أكد أن المرض هو عقاب على الخطايا، وأن الأفراد لديهم رغبة فطرية لأن يكونوا أصحاء ويظهروا بمظهر جيد. (2) ماذا عن الناجين من الموت الأسود؟
بعدما أيقن الناجون أن الطاعون رحل عن مدينتهم - في الغالب بعد انقضاء نحو ثمانية أشهر من وصوله - لا بد أنهم تنفسوا الصعداء وكانوا على أعتاب عالم مختلف؛ ففي الغالب مات نصف أو ثلاثة أرباع سكان بلدتهم، وعلى حد علمهم حينها، كانت نفس القصة تنطبق في كل مكان آخر؛ فقد كانت هناك روايات لا حصر لها عن مدن الأشباح؛ حيث كان الناس في كرب شديد، لكنهم كانوا في الوقت نفسه يحاولون أن يلموا شتات أنفسهم وأن يبدءوا حياتهم من جديد.
لقد انهار النظام القديم، وكان هناك الكثير من العمل الذي يتعين على الناس القيام به. بداية، تعين على الأفراد أن يعثروا على طعام؛ لأن الزراعة أهملت في المقام الأول إبان محنتهم. لم تكن قد حرثت الحقول أو بذرت فيها البذور، وكان متوقعا أن يكون المحصول محدودا ذلك العام. لم يكن هناك قاطفو ثمار ليتم استئجارهم، وحتى الثمار القليلة تعفنت في الحقول. كما أهملت تربية الحيوانات وكثير من البهائم شردت أو فقدت.
بعد ذلك تعين التخلص من النفايات المرعبة؛ إذ كان لا بد أن يستمر دفن الجثث التي لا يزال بعضها متعفنا في المنازل أو الحقول. هل كانت هذه الأجساد لا تزال معدية؟ هل كان يمكن الإصابة بالمرض من ملابسهم أو من منازلهم التي ماتوا فيها؟ لم يكن مجديا تمني إغاثة خارجية؛ فالجميع كان في نفس القارب، وسيحتاج الأمر وقتا طويلا قبل أن يبدأ أي شخص في موضع سلطة في حل المشكلة.
الأمر الجدير بالملاحظة أنه بعد أن مات نحو 50 بالمائة من السكان على جناح السرعة، سرعان ما تعافت أوروبا؛ إذ زحف الناس من الريف الذي لم يصبه الطاعون، وشغلوا المساحات الفارغة وفلحوا الأراضي القابلة للاستزراع وشغلوا المنازل غير المأهولة، وسرعان ما عاد كل شيء إلى طبيعته؛ ظاهريا فقط. (3) ماذا نستنتج عن طبيعة هذا الوباء الكارثي؟
ما الخيوط التي يمكن أن نضيفها إلى دفتر تحرياتنا؟ ثمة القليل نسبيا من المعلومات الموضوعية والكمية التي يمكن قبولها بلا نقاش، إلا أن بعض الاستنتاجات عن الضربة الأولى واضحة. تحرك الموت الأسود من أقصى جنوب أوروبا نحو الشمال، حيث الدائرة القطبية الشمالية المتجمدة غير المواتية للسكنى، التي تبعد نحو 2200 ميل (3500كم)، في أقل من ثلاث سنوات، وهو معدل كبير للغاية في زمن كانت فيه وسائل المواصلات محدودة جدا. عبر الطاعون البحر إلى سواحل شمال أفريقيا وإلى إنجلترا وأيرلندا وإلى جزر بعيدة عن الشاطئ. ظل الطاعون نشطا في إنجلترا إبان الشتاء مع أنه تبين من فحصنا للسجلات الكنسية أنه انتشر على نحو أبطأ في هذا الوقت من السنة.
كان الطاعون عنيفا للغاية بحيث يستحيل ردعه، وقد حصد أثناء تقدمه أرواح نحو نصف سكان العالم الغربي المعروف، مخلفا وراءه حضارة أوروبية مدمرة بالكامل. ولم يتراجع قط، مهاجما من جديد بلدات كان قد ضربها من قبل، مع أنه واصل توغله خلف الخطوط الأمامية؛ فقد تقدم بلا هوادة للأمام وشمالا.
كانت القصة نفسها في كل مكان؛ فكل وباء في كل مدينة اتخذ مسارا مطابقا وروع المواطنين وأثار هلعهم على النحو المتوقع. كان هذا المرض اللعين يفوق تماما قدرة الأفراد على الاستيعاب، وإن كانوا يدركون في الحال أنهم أصيبوا به متى احتكوا بشخص مصاب.
لقد سجلنا عددا من التقارير عن أشخاص نازعوا الموت أو أصيبوا بالمرض على نحو شبه فوري عند احتكاكهم بأشخاص مصابين. لا يتفق هذا مع أي مرض معد معروف، ولا مع ما رأيناه في بداية استشراء المرض في بنريث، حيث كان قد مر 22 يوما منذ دفنت أول ضحية (أندرو هوجسون) إلى أن ماتت الضحية الثانية. في هذه المرحلة من بحثنا، رأينا أنه من الأفضل أن نتجاهل هذه القصص إلى حين، وأن نفترض أن هؤلاء الضحايا قد أصيبوا في وقت ما في الماضي، وحدث أنهم أدركوا هذه الإصابة على حين غرة عند تواصلهم مع شخص ينازع الموت.
أصيبت القرى الصغيرة والبلدات الكبيرة على حد سواء ، وفي هذا الصدد، كان هذا الوباء الأول في طريقه لأن يكون مختلفا اختلافا كبيرا عن نوبات التفشي اللاحقة. في عام 1894، كتب دكتور تشارلز كريتون، وهو خبير بارز في الأمراض المعدية يقول:
لكن الطاعون من هذا الحين فصاعدا قلما يكون مرضا عاما؛ فهو يتحول أكثر فأكثر إلى مرض من أمراض البلدات، وعندما يحدث أن يظهر في بلدة، فإنه عادة ما ينتشر في بقاع محدودة.
ما من تشكيك في قدرة المرض المرعبة على العدوى أو التدمير إبان استشرائه بلا هوادة، لكن ليس هناك أدلة تفسر سبب نجاة بضعة أفراد ممن احتكوا قبلا بأشخاص مصابين. أكانت لديهم حصانة ضد المرض أم أنهم تعافوا؟ كان هذا أحد عناصر البحث التي نوينا اتباعها.
ظهر أحد الخيوط الضرورية من خلال دراسة السجلات الكنسية الخاصة بالإتيان بكاهن بدل من ذلك الذي توفي إبان الطاعون في إنجلترا. ورغم أن هذه السجلات لم يجر إعدادها على نحو جيد، فإنها تفي بالغرض، وذات أهمية كبيرة؛ ففي جميع الأسقفيات الإحدى عشرة التي جرى تحليلها، لوحظ أن الوباء استمر في كل بلدية ثمانية أو تسعة أشهر. لا عجب في أنه كان سفاحا شديد الفتك بالبشر.
عندما اختفى على ما يبدو الطاعون إلى الأبد في القرن السابع عشر، خلف وراءه كثيرا من الأسئلة التي بلا أجوبة عن أكبر حدث كارثي في التاريخ، الحدث الذي هيمن على حياة أسلافنا من القرن الرابع عشر حتى القرن السابع عشر. ماذا كانت حقيقة هذا المرض المعدي الغامض؟ من أين جاء، ولماذا اختفى عام 1670 عندما كان في ذروة قوته على ما يبدو ويفرض سطوته على أوروبا بضراوة؟
الفصل الثالث
ما بعد الموت الأسود: حلقة الوصل الفرنسية
ما إن خمد الموت الأسود عند حواف الدائرة القطبية الشمالية واختفى على ما يبدو، حتى ظن الناس أنه ربما يكون قد اندثر إلى الأبد. للأسف لم يكن هذا هو الحال؛ ففي العام التالي، 1351، وردت أنباء عن ظهور الطواعين في 11 مكانا على الأقل (منها البندقية) في أنحاء متفرقة من أوروبا القارية. وبالفعل عندما فحصنا السجلات، وجدنا أنه كان موجودا في مكان ما في فرنسا - حتى لو كان في بضع بلدات متفرقة فحسب - كل عام على مدار الثلاثمائة عام التالية. كل هذا كان بمنزلة لغز كامل لنا؛ لأنه وفقا لكل أساسيات الأمراض المعدية، كان من المفترض أن يكون الموت الأسود قد اختفى لدى انتهائه. شعرنا أن الخيط الحيوي التالي الذي من شأنه أن يفسر سبب نجاح الطاعون في الهيمنة على أوروبا على مدار ثلاثة قرون مستتر هنا؛ فقررنا أن نتقصى بدقة عن سلوك الطاعون في فرنسا في رحلة بحثنا عن إجابات. (1) خلفية حربية
عانت فرنسا على نحو أقل قسوة إبان الفترة من عام 1450 إلى 1520، التي شهدت نهاية حرب المائة عام، ونهضة في الرفاهة وإعادة الإعمار العام للأماكن التي خربتها المعارك، ونقص الغذاء والكوارث الطبيعية. حدث أسوأ انتشار للطاعون في هذه الفترة في الأعوام 1464، و1478-1484، و1494، و1502، و1514-1519.
إلا أن العواقب المشئومة للطواعين كانت واسعة التأثير، ولأنها كانت تظهر دون سابق إنذار، فقد نشأ اعتقاد شائع بأن السحرة هم من كانوا يستحضرونها. كان يحاكم المشتبه بهم، وحكم على رجال ونساء كثيرين بالإعدام؛ زعما أنهم يزاولون فنون السحر الأسود. استشرى أحد الطواعين في باريس عام 1466 وكان شديد الشراسة - حصد أرواح 40000 شخص - وكالعادة سعى أهلها إلى تقديم كباش فداء، من بينها سحرة ويهود وبرصان وظواهر فلكية. كانوا يلقون باللوم أيضا على ارتفاع الحرارة الشديد لشهر أغسطس، ولجأ المواطنون إلى التوسلات الدينية وصنعوا موكبا دينيا عظيما يجوب الشوارع، ولكن دون جدوى؛ فقد كان الوباء لا يزال في مرحلته الثائرة، بل ازداد عنفا حيث توغل في ضواحي المدينة.
تأخرت فرنسا عن إيطاليا في اتخاذ التدابير الوقائية؛ فقد كانت السلطات في بلدة برينول في منطقة بروفنس هي أول من يفطن عام 1451 إلى دور المسافرين الخطير في نقل الطاعون. وقد كانت خطوة كبيرة للأمام في مكافحة انتشار المرض عندما منع دخول الأشخاص إذا كانوا وافدين من بلدة عانت من الطاعون من قبل. بعد ذلك، طردت سلطات برينول أيضا أولئك الذين حامت حولهم الشكوك في إصابتهم بالطاعون، والذين حتما ماتوا في عزلة بعيدا عن الأنظار. وفيما بعد كانت السلطات، إلى جانب تفتيش المسافرين لدى وصولهم، تطلب إثباتا منهم بأن كافة البلدات التي سافروا عبرها كانت خالية تماما من الطاعون. من الواضح أنهم حددوا مصدر الخطر الأساسي: «جلب مسافر قادم من بعيد الطاعون إلى البلدة». نذكر أن الطاعون وصل إلى بنريث عن طريق أندرو هوجسون، ذلك الغريب الذي وفد من «مكان بعيد.»
اتخذ المزيد من تدابير الصحة العامة على نحو متزايد في فرنسا خلال القرن الخامس عشر؛ فقد جرى حظر بيع أثاث منازل وملابس الضحايا، بل كانت توجد محاولات لتطهير المنازل التي توفي بها شخص ما جراء إصابته بالطاعون. وعين جراحون ومساعدون، وكان يطلق عليهم الغربان لأنهم كانوا يرتدون أقنعة على شكل منقار طائر، وكانوا يلبسونهم عباءات سوداء خاصة أعطتهم مظهرا شريرا. كانت هذه ممارسة سليمة، وكانت أول صورة من صور الملابس الوقائية، وهي تؤكد على اعتقاد الأفراد الذين عاشوا في ذلك الزمان أن الطاعون يمكن أن ينتقل من شخص إلى آخر. كانت وظيفة الغربان هي تفقد الموتى وحملهم ودفنهم. اعتبر هؤلاء الجراحون ناقلين للعدوى، وكانت ملابسهم الغريبة بمنزلة تحذير للآخرين بالابتعاد.
أنشئت المستشفيات من أجل عزل الضحايا، وكان أولها في بلدية بورج أون بريس عام 1472، وأصبحت هذه المستشفيات تعرف فيما بعد باسم «بيوت الطاعون»، وكانت مجرد غرف انتظار للموت، وكانت حالما تغص بجثث الموتى لا تلبث أن يحل محلها آخرون ينتظرون الموت. أنشئت مكاتب خاصة في بلدات كثيرة من أجل تطبيق اللوائح المكافحة للطاعون.
كثيرا ما تعين إقامة الجنازات ليلا أو حظر إقامتها بالمرة بغية تقليل هلع العامة. وفيما بعد، نفي الفقراء وأمر الشحاذون والصعاليك بترك البلدة، وإلا عوقبوا بالجلد. نلمس هنا من جديد صورة من صور العدالة الجائرة. في آخر المطاف اتبعت فرنسا قواعد السلطات المعنية بالمسائل الطبية في إيطاليا، وبدأت في تنفيذ حجر صحي مدته أربعون يوما.
وبميزة الحكم على ما جرى من موقعنا الحالي، يمكننا أن نرى أنه لم تكن جميع هذه التدابير فعالة بنفس القدر، إلا أنه من الواضح أنه حتى في القرن الخامس عشر، فهم الأفراد أساسيات الأمراض المعدية، مميزين إياها عن الخرافات العمياء السائدة؛ فقد حاولوا بقوة مكافحة الوباء اللعين واستحدثت تدابير معقولة للصحة العامة في وقت مبكر جدا من عصر الطواعين. (2) القرن السادس عشر وحالة من عدم الاستقرار
خلال الفترة ما بين عامي 1520 و1600، في ظل فترة صاحبها نقص الغذاء، والمجاعات، والفيضانات، وانتفاضات الفلاحين والحروب الدينية، انتشرت أوبئة طاعون معدية ومتكررة على نحو متزايد في فرنسا، وكثيرا ما كان مكتب الصحة يعين رجالا مسلحين لتنفيذ اللوائح ولحفظ النظام المدني. دائما ما كان يسبب ظهور المرض في بلدة ما اضطرابا مجتمعيا، وكانت الجماهير الحانقة تهاجم المسافرين والسحرة والبرصان بالإضافة إلى سلب المنازل، وكانت السلطات تنزل بأولئك الذين يخالفون القواعد عقوبات شنيعة قد تصل إلى الإعدام.
أصبحت جنيف، بسبب موقعها المركزي في أوروبا واتباعها المبكر لمبادئ الإصلاح البروتستانتي في مطلع القرن السادس عشر، ملجأ للمضطهدين ونقطة انطلاقة للإرساليات التبشيرية. وقد اكتظت بالمهاجرين والنازحين الذين كانوا ينوون الاستقرار هناك، وكانت بؤرة لتمركز الطاعون. كانت حكومة جنيف على دراية بهذا الوضع، وبناء عليه اتخذت بعض التدابير الوقائية؛ فقد أنشأت بيتا للطاعون في وقت مبكر، كان مزودا بممرضين وممرضات، وعين مساعدون وحمالون بصفة رسمية من أجل نقل المرضى والموتى، وكان دورهم أيضا الإبلاغ عن ظهور حالات جديدة مصابة بالطاعون. الأرجح أنهم انخرطوا في عمليات نهب وابتزاز، هم أيضا بطبيعة الحال، لكن عام 1530، اتهم مواطنو جنيف الموقرون بعضا من هؤلاء المساعدين بنشر الطاعون عن عمد أثناء تأديتهم عملهم، واعترف أحد المقبوض عليهم تحت ضغط التعذيب، وبعدها خضع اثنان للتعذيب بالكماشة الملتهبة قبل قطع رأسيهما. جرد كاهن يدعى دون دوفو من رتبته الكهنوتية، وجرى تسليمه إلى السلطة العلمانية وأعدم. قطعت يدا امرأتين أمام منازل الضحايا المفترضين، ثم لقيتا نفس مصير الرجال.
اكتشفنا المدونة التاريخية التالية في الدورية الطبية البريطانية الصادرة عام 1869. في أوائل عام 1563، احتلت القوات الإنجليزية بقيادة اللورد وارويك ميناء هافر الذي يقع على الساحل الشمالي الفرنسي. كان الميناء تحت الحصار، وكانت القوات البالغ عددها 7000 جندي مكتظين معا ؛ ما يمثل ظروفا مثالية لاستشراء مرض معد. في السابع من يونيو أبلغ وارويك أن مرضا غريبا تفشى، وأن تسعة أفراد ماتوا على نحو مفاجئ. وبحلول السابع والعشرين من نفس الشهر، كان الجنود يموتون بمعدل 60 جنديا في اليوم الواحد، وقلما تعافى أولئك الذين أصابهم المرض. في اليوم التاسع والعشرين من الشهر، كان قد لقي 500 فرد حتفهم. هاجم المرض الجنود في المقام الأول، حيث إن معظم الضباط فروا، والأطباء ماتوا. لم تكن القوات مكدسة فحسب، بل عانت أيضا من الحرمان؛ إذ لم يكن بمقدورهم الحصول على الماء العذب، حيث اقتصر الأمر على الخمر ومشروب التفاح، ولم يكن لديهم خضروات طازجة ولا لحوم.
بانتهاء يونيو، كان قد تبقى من السبعة آلاف رجل، ثلاثة آلاف فحسب مؤهلين لأداء الواجب. لم تدفن الجثث وطفت في مياه الميناء. أرسلت قوات جديدة، لكن حتى هؤلاء سرعان ما سقطوا أيضا ضحايا للمرض.
بحلول الحادي عشر من يوليو، تبقى 1500 فرد فحسب، وأورد وارويك أنه بمعدل الموت الحالي إذا مرت عشرة أيام أخرى فلن يتبقى معه سوى 300 جندي حي. وبتصريح خاص من الملكة إليزابيث، سلم ميناء هافر للفرنسيين في التاسع والعشرين من يوليو. وعندها صرح اللورد كلينتون، قائد الأسطول الإنجليزي قائلا: إن «الطاعون ذا العدوى الفتاكة قد فعل بهم ما لم تكن لتستطيع القوات الفرنسية كافة أن تفعله قط.»
عادت القوات الإنجليزية المتبقية إلى وطنها، وعندما وطئت أرض إنجلترا، أصدرت الملكة إليزابيث مرسوما يحث كل الأفراد على استقبالهم بحفاوة وإجلال، لكن لما عاد الجنود إلى أوطانهم، نشروا العدوى في كل أنحاء إنجلترا وعانت كل البلدات والقرى على السواء.
لا يبدو أن اهتياج البشرة، أحد الأعراض المصاحبة للطاعون عادة، كان حاضرا في هذه النوبة من الابتلاء. كان العرض الأول هذه المرة هو حمى عنيفة وحرارة مرتفعة للغاية بالتناوب مع نوبات ارتجاف، ثم يحدث جفاف في الفم وجفاف في اللسان، مع الشعور بوخزات في الصدر والخصر، ثم يعقبه ألم في الرأس وهزال ورغبة في النوم، وبعد النوم، كان يأتي الموت في أغلب الأحيان.
لمنع انتشار العدوى، كانت تنظف المنازل والسلالم والشوارع تنظيفا شاملا، وتفتح النوافذ على مصارعيها، ويتدلى منها أغصان بلوط أو صفصاف خضراء نضرة، ويبعثر على الأرضيات نبات الحماض البستاني والخس والزهور وأوراق البلوط، وترش باستمرار بمياه الينابيع أو بالخل ومياه الورد. ومن السرداب إلى الغرفة العليا، كانت المنازل تبخر لمدة ست ساعات يوميا بأعشاب الصندل والمسك والصبار والكهرمان والقرفة، وفي أسوأ الأكواخ حالا، كانت تتصاعد بخور عشب إكليل الجبل (الروزماري) وعشب الغار، ومع ذلك، لم يجد أي علاج نفعا.
كانت ليون مدينة ثرية تضم بين جدرانها العديد من الصناعات الرئيسية التي تشمل غزل الحرير والطباعة، وتأوي 60 ألف نسمة. وكانت إحدى نقاط تقاطع طرق التجارة الدولية، وتقام فيها أربعة معارض تجارية سنوية، فعانت على نحو منتظم من الأوبئة التي كان يجلبها المسافرون والتجار إليها. كان عام 1564 مدمرا على نحو خاص، وخلال شهرين، كادت المدينة تصاب بالشلل التام وأغلق ثلث المنازل. وحتى القلة القليلة من الضحايا الذين كانوا يتعافون في بعض الأحيان ماتوا من الجوع بعدها. تراكمت الجثث في الشوارع؛ إذ لم يوجد مكان لدفنها ولا المال الكافي لاستئجار حاملي الجثث. ببساطة كانت الجثث تلقى في نهر الرون، ونتيجة لذلك، كان لا بد من إغلاق صناعة صيد الأسماك.
بحلول صيف عام 1564، كانت كل من منطقة بروفنس ومقاطعة لانجيدوك قد ضربتا بالوباء، وكذلك أصيبت مدينة نيم بحلول منتصف يوليو. حدث كمون للوباء في شهر أغسطس، وإن كان قد وردت أنباء عن حدوث حالات تفش قرب نهاية العام في منتصف ديسمبر تقريبا، إلى أن وضع شتاء قاس حدا لمعاناتهم. إن هذا بمنزلة خيط مهم؛ لأنه يوضح أن الطاعون كان سريع التأثر بدرجة حرارة الشتاء، حتى في جنوبي فرنسا. لقد اكتشفنا أن الأوبئة يمكن أن تستمر في المناخ قارس البرودة، لكن نقل العدوى كان أكثر صعوبة في ظل هذه الظروف. على الأرجح كانت الإصابة بالعدوى مستحيلة خارج المنازل . (3) الأوبئة في أوج نشاطها
عانى الفرنسيون أشد ما عانوا في الفترة ما بين عامي 1622 و1646، على عكس الوضع في إنجلترا حيث ظهرت أخطر الأوبئة فيما بعد، بين عامي 1620 و1666. ومما زاد من المأساة في فرنسا انتفاضات الفلاحين، وعمليات السلب والنهب التي كان يقوم بها الجنود، والظهور المتوحش لأمراض أخرى. اضطر الناس إلى فتح المزيد والمزيد من المدافن، وبالرغم من ذلك، كثيرا ما تعين دفن الموتى في الحدائق أو المواقع البديلة. وكانت الخسائر المالية المترتبة على تفشي أحد الأوبئة هائلة: من تكلفة عناية بالمرضى، إلى أجور أطباء وحراس وشرطة، وإلى مدافن وأطعمة وأدوية وإنشاء بيوت للطاعون. وكلها كان يتعين دفع تكلفتها من الضرائب والاستدانة.
بحلول هذا الوقت كانت اللوائح والتدابير المكافحة للطاعون قد تأسست على نحو سليم، وكان الفقراء يعاملون على نحو أكثر سخاء. في عام 1636، دفعت سلطات بورج أون بريس للفتيان والفتيات الصغار أجورا مقابل احتجازهم - في منازل جرى تبخيرها حديثا - لمدة 40 يوما، هي مدة الحجر الموحدة؛ لاختبار مدى كفاءة عملية التطهير، مما يعد مثالا مبكرا على الاختبار التجريبي لتدابير الصحة العامة.
ضربت ليون مرة أخرى في صيف عام 1628، واتهم جنود مروا بها بأنهم حملوا الوباء اللعين معهم «وكذلك أمتعتهم»، ربما لأن إحدى أولى الحالات التي وردت أنباء عن موتها كانت في مهجع جنود في قرية قريبة. مرة أخرى يبدو أن مسافرا مصابا جاء من مكان بعيد جلب الطاعون إلى المجتمع. طبقت السلطات اللوائح المعتادة؛ حيث عين الحراس على بوابات المدينة، وتعين على أي شخص ممن يسعون إلى دخول المدينة تسليم شهادات صحية، ومرة أخرى فرض حجر صحي مدته 40 يوما. وجرى تهيئة بيت طاعون لعزل المصابين كان يكتظ في أي لحظة بأربعة آلاف محتضر. لكن ضحايا كثيرين اضطروا إلى بناء أكواخ صغيرة لأنفسهم والبقاء فيها إلى أن يلقوا حتفهم، وآخرون اضطروا إلى الاختباء من الرياح وراء أكوام الجثث، منتظرين موتهم هم أنفسهم، وما أرهبها صورة لنهاية مؤلمة ومفزعة للحياة. صارت البلدة في الواقع مستشفى كبيرا؛ فقد تبعثرت في الشوارع والمنازل الجثث التي كانت تدفن في بعض الأحيان في عجالة في الحدائق والأقبية، وكان الرهبان والراهبات يضطرون إلى الصعود فوق الجثث الملقاة على الأرضيات والسلالم لتقديم يد العون إلى أولئك الذين لا زالوا يتنفسون.
انحسر عدد الوفيات نحو نهاية شهر ديسمبر، إلا أنه ارتفع مرة أخرى ارتفاعا هائلا باكر العام التالي، قبل أن يضمحل تدريجيا خلال الربيع والصيف. للغرابة الشديدة، بلغت الوفيات في ليون خلال الوباء الذي دام اثني عشر شهرا نحو 35 ألف نسمة. (4) التجارة: شريان حياة الطاعون
ثمة بعض بلدات فرنسية نادرا ما هاجمها الطاعون، في حين أن البعض الآخر كثيرا ما قاسى من أوبئة طاعون. في أشنع ضربات الطاعون، عاش جيل بعد جيل في رعب لا ينقطع تقريبا على مدار 100 عام، غير أن نمط حدوث الطاعون تغير بالفعل تدريجيا، فبينما كانت كل من ستراسبورج وباريس هما المدينتان اللتان يضربهما الطاعون بصفة عامة خلال النصف الثاني من القرن الرابع عشر، ذهب هذا الشرف المريب إلى بورج أون بريس، وبحلول القرن السابع عشر كانت لوكسمبورج تسجل أكبر عدد لحالات تفشي الطاعون. ماذا أدى إلى حدوث تغير في تفضيل الطاعون لأماكن بعينها؟
وصل الموت الأسود إلى ستراسبورج عام 1349، لكن خلت المدينة بعدها من المرض حتى عام 1358، ومنذ ذلك الحين فصاعدا أخذ المرض يهاجمها على نحو متكرر على مدار المائة والخمسين عاما التالية. كانت ستراسبورج مدينة عامرة ثرية؛ بفضل أنشطة أبنائها من طبقة التجار وأيضا بحكم موقعها وسط طرق برية ومائية متعددة. كانت هذه العوامل سبب دمارها أيضا؛ حيث إن هذا أدى إلى استقبالها زيارات منتظمة من تجار ومسافرين مصابين.
طرق التجارة الرئيسية في أوروبا في العصور الوسطى. سافر عبر هذه الطرق المسافرون المصابون، وهكذا جلبوا الطاعون إلى مراكز التجارة الرئيسية.
كانت بلدية بورج أون بريس البوابة إلى جنيف وإلى أحد شعاب جبال الألب. وهي تقع على بعد نحو 38 ميلا (60 كيلومترا) من شمال شرق ليون، على الحافة الغربية من جبال جورا بالقرب من أنهار الرون والسين والأين. كما كانت تقع على الطريق التجاري الذي يربط تروا وليون ومارسيليا، وهي كلها مدن كان يزورها الطاعون بانتظام.
أما لوكسمبورج فكانت تقع في موقع استراتيجي على حدود ما يعرف الآن ببلجيكا وفرنسا وألمانيا. وقد كانت يوما ما نقطة مفترق طرق رومانية، وتقع في قلب شبكة طرق تجارة تربط الإمبراطورية الرومانية المقدسة وفرنسا. وقد عانت من 20 وباء هائلا خلال 50 عاما.
يتضح من هذه الأمثلة أن الطاعون كان يتنقل في أنحاء فرنسا كل عام عن طريق مصابين يسافرون عبر طرق التجارة الرئيسية الطويلة، غالبا عن طريق الجياد أو الصنادل البحرية. وما إن يبدأ الطاعون في أحد هذه المراكز التجارية الرئيسية، حتى يتمكن عندئذ من القفز إلى البلدات القريبة عن طريق وسائل النقل المحلية.
بعد الانتشار المستمر الأشبه بموجة للطاعون الأسود في الفترة 1347-1350، تغير نمط توغله تماما، وبات مستقرا في موطنه وقاعدته في فرنسا. ولم يكن ينتشر أبدا في كل مكان وإنما كان يظل كامنا ثم يتفشى كل عام في أماكن قليلة متفرقة وشديدة التباعد لكن مهمة في الوقت نفسه.
بمرور القرون بدا أن الطاعون يزداد شراسة، وفيما شهدت وسائل المواصلات تحسنا مستمرا ونمت التجارة المحلية والعالمية، أصبح الطاعون أكثر انتشارا. ازداد تعداد سكان البلدات والمدن على نحو دائم في العدد والكثافة السكانية؛ مما سهل استيطان ذلك الوباء، وبالتبعية ارتفع أيضا عدد الضحايا المحتملين. (5) العناد المميت للطاعون
عندما خمد الموت الأسود أخيرا، بالقرب من حدوده الشمالية عند دوائر العرض العليا لأوروبا، كان من الممكن أن يختفي إلى الأبد. لو كان فعل هذا، لسرعان ما تعافت أوروبا على الأرجح، ولبات هذا الابتلاء مجرد كابوس مرعب. لكن بطريقة ما وفي مكان ما، ربما في مناخ جنوبي فرنسا الريفية الأكثر دفئا، تشبث الطاعون هناك بشراسة. ولا بد أنه استمر بنسبة منخفضة في عدد محدود من المناطق المنعزلة في القرى، حيث كان كل ضحية ينقل العدوى في المتوسط على الأرجح إلى شخص واحد آخر فقط. لقد كان يتحين الفرص المناسبة، فإذا ما وصل مسافر حامل العدوى إلى مجتمع صغير بلغ التعداد السكاني فيه مستوى مناسبا، كان من الممكن أن يتفشى وباء محدود. كانت هذه فرصة المرض؛ إذ يمكن أن ينتشر على المستوى المحلي، ثم ينطلق المزيد من المسافرين المصابين، وعندئذ كانت هناك دائما إمكانية ظهور أوبئة جديدة، لكنها ما كانت لتعود قط بنفس قوة الموت الأسود الهائل الذي قهر كل شيء اعترض سبيله.
ما الخيوط الخاصة بهذا المرض الغامض التي أمطنا اللثام عنها؟ الواضح وضوح الشمس أن هذه الطواعين، التي استمرت لأكثر من 300 عام بعد الموت الأسود، كانت كلها نوبات تفش لنفس المرض. في الواقع، لم يرحل الموت الأسود قط؛ فقد استمر الطاعون بنفس النمط، وكانت الأعراض المريعة التي تصيب الضحايا هي نفسها بحذافيرها.
كانت الأوبئة تضرب عادة المدن الأكبر، ولا سيما إن كانت تقع على طرق التجارة المحلية والدولية. ومن ثم كانت التجارة هي محرك الطواعين.
فطن الفرنسيون شيئا فشيئا إلى أن المرض يصل إلى مدنهم عن طريق مسافر غريب يبدو في الظاهر أنه صحيح بدنيا، وغالبا ما يكون تاجرا مصابا في حقيقة الأمر (كان أندرو هوجسون هو ذاك المسافر إلى بنريث). ولم تطبق تدابير ضبط الحدود المناسبة إلا بالتدريج، ولم يكن معمولا بها على نحو كامل.
لم تنعم فرنسا قط بفترة خالية من الطاعون، وكان المرض موجودا باستمرار في مكان ما على مدار أكثر من 300 عام. شكلت البلاد معقلا للطاعون، وكانت بمنزلة مستودع فعال للعدوى. ومن هنا نشأت جميع الأوبئة التي أصابت بقية أنحاء أوروبا.
أما في شمال أوروبا، وكذلك شبه الجزيرتين الإيبيرية والإيطالية وإنجلترا، فقد كان الوضع مختلفا تماما: إذ عانت هذه المناطق من حالات تفش كبيرة ومتقطعة، وصلت إليها من خلال مصابين قادمين من فرنسا، وكانت تدوم لفترة قصيرة نسبيا، وبعدها يختفي المرض تماما إلى أن يصل مصاب آخر من فرنسا.
الفصل الرابع
مجسات الطاعون
كثيرون منا شاهدوا أو قرءوا مسرحية روميو وجولييت، لكن على الأرجح لا تدرك سوى قلة قليلة أن المسرحية تدور حول القيود التي كانت مفروضة على الانتقال ومطبقة بصرامة أثناء تفشي أحد أوبئة الطاعون في إيطاليا.
القس جون :
كنت خرجت لأبحث عن قس
من نفس الطائفة ليصحبني
أثناء زيارته للمرضى في هذي البلدة.
لكني حين عثرت عليه
انقض علينا بعض رجال التفتيش الطبي؛
إذ ظنوا أن المنزل قد حل به الطاعون المعدي،
فغلقت الأبواب علينا ومنعنا من أن نمضي؛
وبذلك لم أقدر أن أرحل إلى مانتوا في الموعد وتأخرت. (مسرحية روميو وجوليت، ويليام شكسبير، الفصل الخامس، المشهد الثاني.)
نلاحظ الإشارة إلى رجال تفتيش طبي معينين بصفة رسمية. كان حبس القس جون بالمنزل في فيرونا عنصرا مهما في أحداث القصة، حيث إنه لم يتمكن من تسليم رسالة إلى روميو في مانتوا تشرح أن جولييت لم تمت، وإنما تجرعت دواء منوما فحسب؛ ومن ثم يعود روميو إلى فيرونا وتتوالى الأحداث التراجيدية المعروفة.
تدور القصة حول صراع بين عائلتين نبيلتين، آل مونتاجيو وآل كابيوليت (يلعن مركوشيو الأسرتين قائلا: «لينزل الله بهما الطاعون!») والعواقب المأساوية لذلك على اثنين من الأبرياء الشباب. يمكن أن تكون القصة بمنزلة صورة تمثيلية عن بلدان إيطاليا المتحاربة في هذه الآونة، عندما كان التعاون عن كثب لمكافحة عدو مشترك، ألا وهو الطاعون، ضرورة ملحة.
مع أن إيطاليا كان لديها لغة مشتركة، فإن الولاء المحلي كان قويا للغاية، فلم يسمح بنمو وحدة وطنية، وانقسمت إيطاليا إلى ثلاثة تجمعات من الدول:
الدول المدن في الشمال: البندقية، وميلانو (لومبارديا)، وجنوة، وفلورنسا (توسكانا)، تلك الدول شديدة الثراء، التي تكن مشاعر الغيرة بعضها لبعض.
الدول البابوية، «إرث القديس بطرس الرسول»، حيث كان البابوات لديهم نهم قوي لزيادة سلطتهم الدنيوية الزائلة في إيطاليا.
مملكة الصقليتين جنوبا، أكثر دول المدن الإيطالية تخلفا وفقرا، تتكون من منطقتين مختلفتين، هما نابولي وصقلية، اللتين خضعتا فترة طويلة لحكم الملك أراجون في إسبانيا.
أثارت العداوات بين هذه الدول الإيطالية الثرية مطامع حكام إسبانيا وفرنسا العتاة الذين تدخلوا في تناحراتهم في محاولة لإحكام قبضتهم. شن كل من ملكي فرنسا تشارلز الثامن ولويس الثاني عشر غزوات كانت ناجحة في البداية، إلا أن تحالفا بين الدول الإيطالية وإسبانيا أسفر عن طردهما، وكانت النتيجة إحكام ملوك إسبانيا قبضتهم على نابولي. في ظل هذه الخلفية من الصراع كان الإيطاليون يحاولون مكافحة هجمات الطاعون. (1) رواد الصحة العامة
بدأت الطواعين في إيطاليا بوصول الموت الأسود إلى جزيرة صقلية عام 1347. وكما رأينا، أدرك أهلها في الحال أنه مرض معد، وسرعان ما استحدثوا التدابير الأساسية للصحة العامة. قادت دول مدن شمالي إيطاليا بقية أوروبا في اتخاذ التدابير اللازمة للتعامل مع الوباء، فأنشئوا الحجر الصحي، وبيوت الطاعون، والهيئات الصحية. وبحلول عام 1400 كانوا قد ابتكروا «تصاريح سفر» رسمية في أزمنة الطاعون. تكبد الأطباء في إيطاليا معاناة كبيرة عند القيام بالفحص الدقيق عن كثب لحالات من أجل تحديد ما إذا كان طاعون حقيقي قد تفشى؛ فقد كانوا حريصين على التمييز بين ما أطلقوا عليه طواعين «كبيرة» وطواعين «صغيرة». كانت الطواعين «الكبيرة» هي الطواعين الحقيقية، في حين أن الطواعين «الصغيرة» كانت في الغالب نوبات تفش لمرض أقل خطورة، ولم تكن السلطات الصحية تنزعج من أمرها كثيرا.
كانت إيطاليا مهددة باستمرار بسبب المصابين الذين يصلون بحرا؛ فقد كانت التجارة البحرية بكافة عالمها المعروف هي شريان حياة الحضارة الإيطالية الرفيعة. أنشئ الحجر الصحي البحري للسفن عام 1377 في مستعمرة راجوزا الخاضعة لسيطرة البندقية، وكان الغرض الأصلي منه هو منع توريد المرض إلى شمالي إيطاليا وليس عزل المرضى الفعليين. كانت مدة الحجر في البداية 30 يوما، لكن القائمين على الحجر سرعان ما أدركوا أنها مدة قصيرة للغاية؛ فقد استمر الأشخاص يسقطون من المرض ولم يتأثر زحف المرض إلا بمقدار ضئيل جدا. أما في حال عدم حدوث وفيات في المجتمع لمدة 40 يوما، فإن القاطنين الناجين كانوا يعرفون أن الخطر قد زال وأنهم في مأمن على الأقل إلى حين انتشار الوباء التالي؛ ومن ثم أصبحت مدة الأربعين يوما هي مدة الحجر الصحي الرسمية.
في جنوة عام 1652 وضع الأفراد الذين تواصلوا تواصلا مباشرا وعن كثب مع مصابين أو تجار في حجر تام لمدة أربعين يوما أو أكثر، بالإضافة إلى فترة أخرى من العزل وصفت بأنها فترة نقاهة ، واتبع الميناء إجراءات حجر صارمة:
السفن القادمة من إنجلترا، التي أتت بشكل مباشر دون أن تحتك بمكان مصاب أو مشتبه فيه وذات الشهادة الصحية الخالية من الأمراض، كان يسمح لها بالدخول بعد بضعة أيام، إلا أن البضائع والتجار كانوا يرسلون أولا إلى بيت الطاعون حيث يجري تطهيرهم لمدة 20 يوما، وإذا كانت السفن قد احتكت بأي أماكن مصابة، كان يتعين أن تخضع لحجر صحي كامل.
السفن القادمة من موانئ غير مصابة، لكن مشتبه فيها، كانت تخضع لحجر صحي مدته 30 أو 35 يوما، إلا أن البضائع كانت ترسل مباشرة إلى بيت الطاعون.
إذا وقعت أي حالات وفاة أو مرض أحد إبان الرحلة أو إبان الحجر، تمد هذه الفترة إلى 50 أو 60 يوما على حسب الخطر والظروف، وترسل البضائع والناس إلى بيوت الطاعون.
السفن الوافدة من بلاد الشام تخضع لحجر صحي مدته 30 أو 35 أو 40 يوما إذا كانت لديهم شهادة صحية تفيد بخلوها من الأمراض المعدية، وتطهر البضائع في بيوت الطاعون لنفس المدة.
عندما كان ينحسر وباء في فلورنسا، كما حدث عام 1630، كان من المألوف أن تعلن السلطات الصحية عن حجر صحي عام يمكث خلاله أكبر عدد ممكن من الناس في منازلهم لمدة 40 يوما، وهكذا يقل الاحتكاك البشري إلى أدنى حد ممكن. كان من المفترض أن ينهي هذا الإجراء الوباء على نحو أسرع.
هكذا شيئا فشيئا صارت فترة الحجر التي مدتها 40 يوما مقبولة في كل مكان إبان عصر الطواعين. تم الوصول إلى هذا المعيار تجريبيا من خلال المحاولات التي قامت بها العديد من السلطات الصحية في أوروبا العصور الوسطى، التي كانت تعمل دون ما يتوفر لدينا من فهم حالي عن الأمراض المعدية، وكان هذا إنجازا رائعا جرى تحقيقه منذ ستة قرون. يسلط هذا الضوء على ما كان يتمتع به هؤلاء الأطباء الأوائل من فطنة، وكانت هذه أهم قفزة في محاولات التغلب على هذا المرض الغريب.
كانت إنجلترا أكثر تراخيا في إدخال هذه التدابير، لكن في آخر المطاف أنشئ حجر صحي مدته 40 يوما في لندن والأقاليم أثناء حكم الملك هنري الثامن. وفي وقت ما، خفضت السلطات هذه المدة، لكن سرعان ما أعيد تمديدها إلى 40 يوما مرة أخرى بموجب القانون عندما تبين أن الفترة الأقصر غير فعالة بالمرة. وقد رأينا أن هذا دليل مهم آخر. تؤكد الإدارة الناجحة لحجر صحي مؤسس على نحو سليم ما كان يعتقده الجميع: كان هذا مرضا معديا «بسيطا» ينتقل مباشرة من شخص إلى آخر. علاوة على ذلك فإن مدة 40 يوما هي فترة طويلة للغاية على حجر صحي. بدأ يبدو كما لو أن هذا المرض سيظل معديا لزمن طويل للغاية، وهذا على العكس تماما من الروايات الكثيرة التي تشير إلى أن الناس كانوا يموتون بعد فترة وجيزة من الاتصال بأحد الضحايا الذي تظهر عليه الأعراض.
كانت السلطات اليقظة المعنية بالصحة في شمالي إيطاليا تبحث عن أعراض بعينها لأحد الطواعين «الكبيرة»، بقع ولطخات بنفسجية وسوداء، وبقع حمراء صغيرة على الصدر، وحبوب وأورام في أعلى الفخذ وفي منطقة الإبط. كانت بداية الإصابة بالوباء تتميز بارتفاع درجة الحرارة، والقيء، والإسهال، وتغير لون البول، والعطش الشديد. صاحب الحمى الشديدة لدى البعض جنون وهذيان، «على نحو حاد لدرجة أن البعض كانوا يلقون بأنفسهم من النوافذ.» (2) طواعين متقطعة لكن كارثية في إيطاليا
كانت جبال الألب حاجزا نافعا لشمال إيطاليا، وفي السنوات الأولى التي أعقبت الموت الأسود، كانت معظم إصابات الطاعون تأتي عبر البحار من خلال الموانئ. لكن في وقت لاحق، وفد المصابون عبر شعاب الجبال.
كشفت دراسة دقيقة للطواعين عاما تلو الآخر في شبه الجزيرة الإيطالية أنه لم يكن يوجد سوى نحو 11 وباء كبيرا على مدار هذه المدة التي دامت لثلاثمائة عام، على الأرجح بفضل المجهود الرائع الذي بذلته السلطات الصحية، ومع ذلك عندما كان يحل الطاعون، يصبح معدل الوفيات مرعبا. عثرنا بمحض المصادفة على خيط آخر، وهو أن سلوك الطاعون كان مختلفا تمام الاختلاف في فرنسا عن إيطاليا، فقد كان مستمرا بلا انقطاع في فرنسا، في حين أنه في إيطاليا كان متقطعا ويندثر تماما بعد كل حالة تفش. وقد تساءلنا عن السبب وراء هذا الاختلاف الكبير.
فحصنا تسلسل الأحداث خلال الأوبئة التي تفشت عقب خلو إيطاليا من الطاعون بعامين على الأقل، حتى نضمن أن هذه الأوبئة كانت نتاج موجة جديدة للطاعون.
على سبيل المثال، استشرى طاعون عام 1456 بعد أربع سنوات من الهدنة في صقلية ووسط إيطاليا والدول المدن الشمالية. أكانت هذه موجات جديدة منفصلة دخلت عن طريق البحر من خلال موانئ نابولي وباليرمو والبندقية (كما هو مرجح على ما يبدو) أم أن الطاعون انتشر بطول البلد؟ في عام 1457، وردت أنباء عن استشراء الطاعون في جنوب إيطاليا، وانتقل من مدينة فليتري إلى روما، إلا أنه اختفى من نابولي، وكان متوغلا في البندقية، كما ظهر أيضا في بولونيا في الشمال.
مرة أخرى، صارت إيطاليا خالية من الطاعون إلى حد بعيد لمدة ثماني سنوات عندما وردت أنباء عن وجود المرض في جنوبي سردينيا عام 1476. في عام 1477 ظهر الطاعون في البندقية، وبلغ أوجه عام 1478؛ حيث لقي 30 ألف شخص حتفهم. ضرب الطاعون صقلية أيضا في نفس الوقت، حينذاك كان المرض قد تحول إلى جائحة في الشمال، حيث انتشر على الأرجح في شكل شعاع ممتد من البندقية نحو الخارج غربا وجنوبا، وبلغت الوفيات 40 ألف نسمة. في ميلانو لقي 22 ألف شخص حتفهم، عانى بعض المحتضرين من هذيان مصحوب بحمى شديدة، لدرجة أنهم ألقوا بأنفسهم من النوافذ، كان هذا أحد الأعراض المميزة للطاعون. كان يموت نحو 200 شخص كل يوم طيلة الأربعة أشهر الأولى في مدينة بريشا بإقليم لومبارديا، حيث بلغ إجمالي الوفيات 34 ألف نسمة، بمعدل وفيات 90 بالمائة من السكان. رفض كهنة ورهبان كثيرون إغاثة المرضى، وعوضا عن ذلك شجعوا إقامة المواكب الدينية التي لم تؤد إلا لاستفحال المرض. وكانت الكلاب تأكل أكوام الجثث، واتهم حاملو الجثث بنهبها بل وبالتحرش الجنسي بها أيضا.
استشرى وباء مريع في الدول الشمالية عام 1629، وربما وفد المرض من البندقية (حيث مات 46 ألف نسمة من إجمالي عدد السكان البالغ 140 ألف نسمة)، لكن يزيد احتمال أنه عبر جبال الألب مرة أخرى؛ إذ كان الطاعون مستشريا آنذاك في فرنسا وألمانيا وسويسرا، وموجودا في جنيف وبازل. قيل إن القوات الألمانية والفرنسية قد حملت الوباء إلى مانتوا في شرقي إقليم لومبارديا، حيث كانت فرنسا تشن حربا ضد النمسا وإسبانيا. في نهاية المطاف حصد الطاعون عدد أرواح هائلا بلغ 280 ألف نسمة. ومرة أخرى، بدأ كل هذا بوصول الغرباء القادمين من بعيد.
ظهرت أهمية لوائح الحجر الصحي بوضوح في هذا الوباء. طبقت تدابير وقائية صارمة مهمة وإن لم تلق تأييدا شعبيا كبيرا عندما وصل الطاعون ميلانو في أكتوبر عام 1629، منها عزل كل من احتكوا بالمصابين، كان ثمة اعتقاد بأن هذه الممارسة سيطرت على تفشي الطاعون. لكن بحماقة حدث تراخ في تطبيق هذه اللوائح في مارس عام 1630 أثناء أحد المهرجانات الشعبية في ميلانو وعاود الطاعون الانتشار، وفي ذروته كان يموت 3500 شخص يوميا.
عانى الضحايا من حمى مفاجئة وشديدة، وكان يتكون لديهم بثرات كبيرة نتنة الرائحة، وفي بعض الأوقات يصيبهم الهذيان، وكان الصداع الشديد هو النذير المعتاد بالموت. كان يمثل نسبة كبيرة من الموتى حرفيون ورهبان من طائفة الرهبنة الكبوشية أو أفراد ممن يزاولون الكثير من الأعمال الوصائية إبان الطاعون. لم يكسر أحد مدة الحجر الصحي الموحدة التي تمتد إلى 40 يوما، وتفانى أولئك الذين عينهم مكتب الصحة العامة في أداء مهامهم، من تبخير، وحرق المراتب والملابس، وتنظيف الأرضيات وحمل الموتى بعيدا لدفنهم.
وصل الطاعون إلى ترسبيانو، وهي قرية صغيرة تبعد بضعة أميال شمال فلورنسا، في يوليو عام 1630 عن طريق رجل كان في رحلة عمل إلى مدينة بولونيا المصابة، مخترقا بذلك «طوق الحجر الصحي». كان هذا بمنزلة خرق فادح ومكلف للأرواح. في شهر أغسطس جرى تسجيل وفيات مريبة في قرية تافولا المجاورة وفي فلورنسا نفسها. أخبر أهل فلورنسا أن العدوى الكارثية ناجمة عن غضب الله، واستجابوا لذلك بمحاولة تقويم سلوكياتهم، فأقيمت القداسات في الشوارع، وكرست أصوام خاصة، وهكذا تحولت فلورنسا إلى مدينة شديد الالتزام من الناحية الأخلاقية، على الأقل إبان نوبة تفشي الطاعون. وانصاع الناس انصياعا كاملا للوائح الصحة العامة، وكان دوق توسكانا الأكبر يقوم بجولة يومية للتأكد من أن كل شخص يحصل على الطعام ويتلقى العناية المناسبة.
غالبا ما كانت معدلات الوفيات من جراء هذه الأوبئة الكبيرة في إيطاليا مرتفعة للغاية؛ إذ كانت على الأرجح تصل في المتوسط إلى 40 بالمائة من السكان، لكنها كانت تصل في بعض الأحيان إلى ما يزيد على 60 بالمائة من السكان، كما حدث في فيرونا في الفترة 1630-1631. تكبدت نابولي التي كان يصل إجمالي عدد قاطنيها إلى نحو 300 ألف نسمة خسائر في الأرواح بلغت 150 ألف نسمة عام 1656، وبلغت الوفيات في الريف المحيط نحو 66 بالمائة من السكان. دامت هذه الأوبئة لمدة تراوحت ما بين عامين إلى ثلاثة أعوام في المدن الكبرى قبل أن تخمد، ربما بسبب المناخ الأكثر دفئا في الشتاء ومطلع الربيع، مع أنه كان لا يزال هناك انخفاض في عدد الوفيات أثناء الأشهر الأكثر برودة. (3) شبه الجزيرة الإيبيرية: وصول المرض بحرا
تفصل جبال البرانس إسبانيا عن بقية أوروبا، وتختلف قصة الطواعين هناك تماما عما رأيناه في فرنسا، فمع أن عدد الوفيات ظل مرعبا، فإن الأوبئة كانت أقل تكرارا في إسبانيا والبرتغال، وفي آخر المطاف اندثر سكان كلا البلدين عن بكرة أبيهما، حيث إن نوبة التفشي التالية حدثت نتيجة لوصول مصابين عبر البحار. لطالما سعت السلطات الإسبانية دائما إلى تحديد مصدر أي وباء، وعادة ما كانت تشير بأصابع الاتهام (كما رأينا من قبل) إلى جنود أو مسافرين وصلوا مؤخرا من الخارج. وفي بعض المواقف كانت تشتبه في شحنة بضائع مستوردة، وفي أغلب الأحيان، كانت أطقم السفن والمسافرون هم المصابون بالعدوى فعليا.
بعد الموت الأسود، كان هناك العديد من نوبات التفشي المحلية العنيفة في إسبانيا والبرتغال، لكن منذ عام 1506 حتى عام 1652، لم يكن قد انتشر سوى أربعة أوبئة كبيرة. ولم يصل المرض بصفة عامة، كما سيتضح، عن طريق أناس يسافرون بالقرب من الحافة الشرقية لجبال البرانس من مدينة أربونة، ولكن عن طريق أولئك المسافرين بالقوارب. تقع نقاط ضعف إسبانيا في الموانئ البحرية؛ فقد كانت عرضة للخطر لأن لشبونة في البرتغال وإشبيلية في منطقة أندلوسيا في جنوب إسبانيا كانتا مركزين رئيسيين للتجارة الدولية، وكانتا نقطتي دخول عامتين للوباء.
تعد إشبيلية بالنسبة لمعظم الناس هي قلب إسبانيا في الرومانسية والفنون، ومسقط رأس شخصية دون خوان الأسطورية وشخصية كيجارو في أوبرا حلاق إشبيلية، وهي محل ميلاد كل من الرسامين دييجو فيلاثكيت وبارتولومي موريللو، ويقع على أحد أجناب حديقة ماريا لويزا مصنع السجائر، حيث عملت كارمن، بطلة الأوبرا التي سميت باسمها.
على مدار 2000 عام، كانت إشبيلية ميناء على المنبع الصالح للملاحة لنهر الوادي الكبير، وسوقا عملاقا لنهر الوادي الكبير، ومفترق طرق بين شمال وغرب شبه الجزيرة الإيبيرية. كان عام 1492 مهما في تاريخ إسبانيا، فقد شهد الجلاء النهائي للمورسكيين، وهم السكان المسلمون لشبه الجزيرة الإيبيرية، واتحاد إسبانيا تحت عرش واحد، واكتشاف أمريكا، فقد أبحر كولومبوس لدى عودته من رحلته الأولى إلى إشبيلية يوم أحد الشعانين عام 1493 منتصرا حاملا معه طيورا ونباتات غريبة، وهنودا «لم ير مثلهم في أوروبا من قبل قط». ويدعي أهل إشبيلية أن كولومبوس المكتشف قد خطط رحلتيه الثالثة والرابعة من المدينة، ويمكن مشاهدة مقبرته الفخمة في كاتدرائيتها.
على مدار المائتي عام التي تلت كولومبوس، صارت إشبيلية هي بوابة الدخول إلى العالم الجديد، وقبلة التجارة الأوروبية، والمدينة الرئيسية في إسبانيا. أكان موقعها الجغرافي وأهميتها الاقتصادية، بالإضافة إلى مناخها (إذ تتنوع درجات الحرارة فيها تنوعا طفيفا على مدار العام، وصيفها طويل وجاف وحار، أما شتاؤها فدافئ) بمنزلة ظروف مثالية يترعرع فيها الطاعون؟
وصل الطاعون إلى إشبيلية عام 1506 مصحوبا بجفاف حاد ونقص في الأغذية. انتشر الطاعون على نطاق واسع في منطقة أندلوسيا حيث قيل إن 100 ألف شخص لقوا حتفهم، ثم قفز قفزة خطيرة شمالا نحو مدريد التي تبعد 250 ميلا (400 كيلومتر)، وهو مثال آخر على انتقال العدوى واسع المدى.
تكرر هذا النمط بحذافيره، وكذلك الدخول عبر إشبيلية في وباء طويل الأمد بدأ عام 1596. في الوقت نفسه وصل الوباء اللعين إلى ميناء سانتاندير الذي يقع على الساحل الشمالي لإسبانيا عندما رست سفينة روداموندو، محملة بالبضائع من ميناء دنكيرك الفرنسي. استشرى الوباء عام 1599 وانتشر على نطاق واسع في أنحاء شبه الجزيرة. فقدت مدينة شقوبية الصغيرة 12 ألفا من قاطنيها خلال 6 أشهر، وقد تفاعلت مع الطاعون بهمة ونشاط: فقد أنشئت المستشفيات المؤقتة، وأقيم الحراس عند أبواب المدينة للحيلولة دون دخول مصابين، ودفن الضحايا بسرعة، وحرقت فرش الأسرة. بلغ إجمالي عدد الوفيات خلال هذا الوباء الممتد ما يزيد عن النصف مليون نسمة. (4) الإمبراطورية الرومانية المقدسة
شكلت ألمانيا الحالية والنمسا وبوهيميا وهولندا وسويسرا جزءا كبيرا من الإمبراطورية الرومانية المقدسة إبان عصر الطاعون. على مدار المائتي عام التي تلت الموت الأسود، كان عدد محدود من حالات الطاعون يظهر على نحو متقطع في أنحاء المنطقة، وحتما وصلت هذه الحالات عن طريق مسافرين مصابين وافدين من فرنسا. كان الاستثناء الوحيد هو الثلاث السنوات التي تخللت عامي 1462 و1465، عندما استشرت أوبئة مريعة أودت بحياة الآلاف في مدن شديدة التباعد في ألمانيا. وهنا دليل آخر يوضح أن الطاعون كان يظهر دون سابق إنذار في كل أنحاء المكان. وكما هو الحال مع بقية أوروبا، يكمن التفسير في التوسع التجاري وانتقال التجار المصابين المزاولين أعمالهم كالمعتاد.
على مدار مائة عام عقب الموت الأسود، كانت هناك مجموعة من البلدات في الشمال تتصدر قائمة أكثر الأماكن التي وردت أنباء عن تكرار ظهور الطاعون بها، كانت هامبورج ميناء كبيرا على نهر إلبه وكانت بالفعل بلدة تجارية مزدهرة بحلول القرن الثالث عشر، وكان ميناء لوبيك هو المنفذ الرئيسي لتجارة بحر البلطيق.
عقب عام 1450، انتشرت الأماكن التي سجلت فيها أوبئة متكررة جنوبا بمحاذاة طريق التجارة الرئيسي للعصور الوسطى: لوبيك - هامبورج - ماجديبورج - نورنبرج - أوجسبورج. كان الطاعون يضرب هذه الأماكن على نحو متكرر وعنيف؛ ومن ثم ساد «الموت المرعب في كل الأرجاء في البلدات والريف»، وألغيت المهرجانات، وتفاقمت المعاناة بانتشار مجاعة. ها هي القصة نفسها تتكرر مرة أخرى: بؤس ورعب وموت. وسرعان ما تعلمت الطبقات الثرية ترك البلدات، إلا أن أغلب السكان لم يكن لديهم رفاهية هذا الاختيار.
تغير الموقف بعد عام 1450 واستمر حتى عام 1670. استمر الطاعون في الاستشراء على نطاق واسع، وكانت الأوبئة لا تزال تحدث في البلدات الشمالية، إلا أن موضع تمركزها الأساسي حيث يوجد أكبر عدد من الأوبئة أصبح حينذاك في الجنوب الغربي حيث تصدرت بازل وجنيف قوائم الأماكن الأكثر إصابة، بالإضافة إلى بأوجسبورج وبلدات أخرى على طريق التجارة المؤدي إلى ميلانو وإنسبروك والبندقية.
كما رأينا، احتلت جنيف مكانا مركزيا في أوروبا، وكانت نقطة تمركز مثالية لأوبئة الطاعون. وكانت أوجسبورج مدينة مهمة؛ فهي مقر الكرسي البابوي، وموطن التجار والمصرفيين النبلاء، ومركز هائل لتجارة أوروبا الشمالية والبحر المتوسط والشرق.
أما بازل فقد كانت ميناء نهريا كبيرا يقع على نهر الراين، وكانت منفذ سويسرا الوحيد إلى البحر، ونهاية ملاحة نهر الراين، ولقرون عديدة كان جسر ميتلير بروك في بازل هو الجسر الوحيد على نهر الراين. كانت المدينة مركزا تجاريا مزدحما. عانت بازل من وباء استمر 15 شهرا في الفترة ما بين 1610 و1611 عندما أصيب بالمرض نحو 6000 مواطن، من إجمالي السكان البالغ عددهم 15000 مواطن، ومات نحو 3600. هل هذا دليل على أنه بمرور العقود تعافى المزيد من الأفراد من عدوى الطاعون؟ (5) جزيرة الحقول الثلجية والأنهار الجليدية
اعتدنا الآن على مسألة قفز الطاعون عبر البحر المتوسط والقنال الإنجليزي، لكن ما أدهشنا بقوة هو معرفة أن أيسلندا عانت أيضا من وباءين حادين في مطلع القرن الخامس عشر ونهايته. رويت بالتفصيل قصة هذين الطاعونين المدمرين في مجتمع معزول، وهي تقدم أهم الأدلة وأكثرها إقناعا حتى الآن بشأن طبيعة هذا المرض.
كانت الرحلة البحرية من اسكتلندا، حيث موطن القوارب التي حملت أطقما مصابة، تقطع 1000 ميل (1660 كيلومترا)، ونظرا لأن المراكب المتاحة كانت بدائية، فلا بد أن هذه الرحلة كانت قد استغرقت وقتا طويلا للغاية، ربما أسبوعين أو أكثر في ظل الرياح العادية.
جرى بحث هذين الطاعونين في أيسلندا بحثا دقيقا، ومن المؤكد أن نفس المرض الذي أصاب البر الرئيسي لأوروبا كان هو المسئول.
وحيث إن المصادر الطبيعية لأيسلندا كانت محدودة، فإنها اضطرت إلى الاعتماد بقوة على النرويج في تشكيلة كبيرة من البضائع المستوردة، لكن عندما لقي نحو 40 بالمائة من سكان النرويج حتفهم بسبب الموت الأسود، توقفت تجارتها الخارجية على نحو شبه تام، وقطع عنها خط الإمداد. وزادت الانفجارات البركانية والزلازل والمجاعات مصاب أهل أيسلندا في النصف الثاني من القرن الرابع عشر، وعاش جميع الناس تقريبا في مزارع فردية؛ فلم يكن يوجد على الأرجح أية قرى، ومن المؤكد أنه لم يكن يوجد أية مدن.
معظم ما نعرفه عن الوباء الأول، الذي ضربها في سبتمبر عام 1402، مدون فيما يعرف باسم «الحوليات الجديدة»، وهي مخطوطة قديمة. وصل القارب الذي جلب الطاعون على نحو شبه مؤكد ميناء والفيوردور في الجزء الجنوبي الغربي من الجزيرة، وبحلول وقت عيد الميلاد كان المرض قد بلغ المقر البابوي في سكالهولت في الجنوب وسكاجافيوردور في الشمال؛ ومن ثم يكون قد انتشر عبر مساحة 200 ميل (320 كيلومترا) في غضون 16 أسبوعا، وهو معدل انتقال سريع على نحو مذهل في ظل ظروف صعبة. تطلق الحوليات الجديدة على عام 1403 عام الوفيات الهائلة، ولم يبدأ الوباء في التقهقر حتى فصح عام 1404. من الواضح أنه حتى مناخ شتاء أيسلندا القارس البرودة لم يحل دون تقدم الوباء، وحتما انتشرت العدوى بداخل المزارع الدافئة.
وصل الطاعون كامل أيسلندا تقريبا وكان معدل الوفيات مرعبا؛ إذ لقي 60 إلى70 بالمائة من السكان حتفهم، وهلك سكان الجزيرة ودمرت بنيتها واقتصادها، وكانت الآثار بعيدة المدى هائلة. عائلات بأكملها اختفت من على وجه الأرض، واستغرق التعداد السكاني خمسمائة عام أخرى ليتعافى كسابق عهده. تغيرت أيضا أنماط الإرث التقليدية؛ فقد أصبحت الأراضي الزراعية في قبضة بضعة ملاك أثرياء، على رأسهم الكنيسة الكاثوليكية التي تبرع لها كثيرون بممتلكاتهم على أمل درء الموت الناجم عن الطاعون.
في العقود الأولى من القرن الخامس عشر، بدأ التجار الإنجليز والألمان القيام بزيارات منتظمة إلى أيسلندا، أحيانا بعشرات القوارب كل عام، فجلبوا الحبوب وخشب البناء والسكر ومنتجات أخرى يحتاجها أهل أيسلندا بشدة. أغلب الظن أن طاعون أيسلندا العظيم الثاني قد جاء عبر هذا الطريق عام 1494، حيث وصل إلى جنوب غرب أو جنوب الجزيرة . تؤكد وثائق معاصرة أن المرض كان نشطا في المناطق الغربية والشمالية الغربية في شتاء عامي 1494-1495. كتب أحد الكهنة المعروفين، ويدعى جوتسكوك جونسون ، عام 1495: «مرض وطاعون عظيم في كل أرجاء البلاد، فيما خلا ويستفيوردور (شبه جزيرة كبيرة)، فكان خراب في البلدات عموما.»
يقدم جون إجيلسون، مؤلف «حوليات البابوات» صورة مؤثرة لمعدل الوفيات:
خلال هذا الطاعون كان معدل الوفيات هائلا للغاية، فلم يذكر أو يسمع عن شيء مماثل، حيث خربت مزارع كثيرة، وفي معظمها لم ينج سوى شخصين أو ثلاثة. كان الضحايا في بعض الأحيان أطفالا بعضهم يبلغ من العمر سنة واحدة وبعضهم يمصون أثداء أمهاتهم الميتة. رأيت واحدا من هؤلاء كان يدعى تونجوفيل-مانجا. وحيثما وجد تسعة أطفال، لم يكن يتبقى منهم على قيد الحياة سوى طفلين أو ثلاثة.
أغلب الظن أن ما بين 30 إلى 50 بالمائة من السكان لقوا حتفهم خلال الطاعون الثاني.
يمكننا أن ندرك أن هذا المرض المرعب أمكنه اجتياز رحلة بحرية طويلة، وبعدئذ استشرى بوحشية مدمرة في جزيرة من الحقول الثلجية والأنهار الجليدية على حافة الدائرة القطبية الشمالية. اجتاز الطاعون شتاء قطبيا، بل ترعرع في وقت بلغ فيه متوسط درجة الحرارة في البقاع الداخلية في شمال أيسلندا ثلاث درجات مئوية تحت الصفر. شتان ما بين هذه الظروف المناخية وبين تلك التي نعم بها أهل إشبيلية وصقلية والسواحل المطلة على البحر المتوسط. علاوة على ذلك، فإن سكان أيسلندا لم يتمركزوا في بلدات أو مدن، إنما عاشوا عموما في مزارع متفرقة؛ مما أدى بالتأكيد إلى زيادة صعوبة نشر العدوى. من الواضح أن هذا المرض كان قادرا على التكيف.
فيما كنا نبحث هذين الطاعونين اللذين اجتاحا أيسلندا، عثرنا بالمصادفة على دليل مذهل سنعود إليه في وقت لاحق. تقول إحدى النظريات الحالية عن الموت الأسود إن البراغيث والفئران هي التي كانت تحمل العدوى، وقد ثبت بتأكيد دامغ أنه لم يكن يوجد أي نوع من الفئران في أيسلندا أثناء هذين الطاعونين، علاوة على أنه لم يكن يوجد براغيث فئران في أرضها الباردة القاسية . كان هذا خيطا قيما حفظناه جانبا لنستخدمه فيما بعد. (6) الصورة الكلية في أوروبا
كل شيء علمناه عن الموت الأسود تؤكده دارسة الطواعين التي ضربت أنحاء أوروبا على مدار الثلاثة القرون التي أعقبته. كان توجد دائما نفس الضراوة والفتك البشع، وظهر على الضحايا نفس الأعراض والكرب الشديد في الساعات الأخيرة، وكان انتشاره قويا داخل العائلات وفي الأجواء المزدحمة، ومرارا وتكرارا رأينا أنه انتقل مباشرة من شخص إلى آخر، كانت ردة الفعل في كل بلدة فرار الأثرياء واندلاع الاضطرابات الأهلية بين أولئك الذين بقوا، ودائما ما أدى الموت الجماعي إلى ظهور مشكلات في التخلص من الجثث. وكان يتم التعرف على المرض في الحال، ويبدو أن العامل المسبب للعدوى ظل ثابتا على نحو مذهل على مدار الثلاثمائة عام، وهي فترة عهده المرعب. وهو في هذا الصدد، كان على العكس من فيروس الإنفلونزا الذي يستطيع أن يتحور ليقدم سلالة جديدة كل عام.
بيد أننا اكتشفنا بعض التغيرات الطفيفة فيما كانت السنوات تمر ببطء؛ فبرغم كل شيء، تعد ال 300 عام مدة طويلة بالنسبة إلى البشر؛ فهي تعادل نحو 12 جيلا. في القرن الرابع عشر، ضرب الموت الأسود سكانا لم يسبق لهم أن عانوا هذا المرض، وقد زحف ببطء كموجة عنيفة تبتلع ما يأتي في طريقها. وفي السنوات التي أعقبت ذلك، انتشرت الأوبئة الكبيرة على نحو متقطع، قافزة من بؤرة إلى أخرى، وتطورت وسائل المواصلات والتجارة على نحو متزايد، وقد أسهم ذلك إسهاما كبيرا في الانتشار الواسع للأوبئة.
بالرغم من أن الطاعون لعب دور إبادة فعالا للغاية، فقد زادت أعداد سكان أوروبا بشكل مطرد؛ مما ساعد على ما يبدو في زيادة العدوى القوية. لقد قتل المرض المزيد من الأشخاص ببساطة لأنه كان يوجد المزيد من الضحايا المحتملين. أصبحت الأوبئة في القارة الأوروبية متكررة الحدوث على نحو متزايد على مدار القرون، ووصلت إلى ذروتها في الوباء المرعب الأخير الذي بدأ في فرنسا عام 1630 واستمر إلى عام 1637، ومن بعدها تراجع معدل حدوث الأوبئة هناك تراجعا كبيرا.
في الوقت الذي كان ينشر فيه المسافرون الطاعون على نطاق أوسع في أنحاء الكتلة اليابسة من قارة أوروبا، هل كانت إنجلترا في مأمن في جزيرتها التي ساعدت في تحصينها؟
الفصل الخامس
إنجلترا تحت الحصار
كل وباء طاعون ظهر في إنجلترا وصلها بالضرورة عن طريق القوارب المحملة بالبحارة والتجار والمسافرين المصابين، الذين وفدوا عموما عن طريق القنال الإنجليزي وبحر الشمال، وإن انتقل المرض في بعض الأحيان جيئة وذهابا بين تشستر وأيرلندا. ونتيجة لذلك، كانت الموانئ المصابة بالطاعون عموما هي موانئ لندن وإيست أنجليا، مع أن نيوكاسل ويورك وهال ضربت بالطاعون أيضا. ما إن يبدأ الطاعون في أحد الموانئ، حتى ينتقل منه نحو الخارج، منتشرا عبر نهر التيمز أو أنظمة أنهار إيست أنجليا، أو من خلال مسافرين تنقلوا على الأقدام أو على صهوة الجياد. بهذه الطريقة أمكن أن تنتقل العدوى بالتدريج إلى القرى والبلدات المجاورة، أو أن تقفز عبر الطرق وتبدأ نوبة تفش على بعد أميال كثيرة. ما إن بدأ الوباء الجديد نشاطه مثيرا فزع المواطنين، فإنه كان يصبح على استعداد للمضي قدما وبدء المزيد من نوبات التفشي على نطاق أوسع، فكان من الممكن أن يتسبب القارب الواحد الذي يحمل مصابا أو اثنين في تفشي عشرين وباء أو أكثر من الأوبئة الكبيرة، وإلى نوبات تفش محدودة لم يبلغ عنها في أي عام في إنجلترا.
ومع ذلك اكتشفنا أهم نقطة لدى دراسة الطاعون في إنجلترا: كانت كل نوبة طاعون تستمر عامين على الأكثر، بعدها يزول الوباء وتصبح إنجلترا خالية تماما من المرض إلى حين وصول القارب التالي محملا بأطقم مصابة.
لهذا السبب خلت إنجلترا من الطاعون لمدة 10 أعوام أو 11 عاما بعد الموت الأسود، قبل أن يستشري المرض بضراوة عام 1360 أو 1361. وصف هذا باعتباره الطاعون الثاني، «وإذ بالطاعون المميت المتفشي مؤخرا الآن في مدينة لندن كما في البقاع المجاورة يضرب جموعا غفيرة من الناس، وها هو يستفحل بصفة يومية.» امتد الوباء إلى ليسترشير، ووركشير، ولنكولنشير، وجميعها عانى بشدة، وقد انتقل من هناك إلى يورك ولانكشير. ولقي العديد من الشخصيات المهمة حتفهم، منهم ثلاثة أساقفة وهنري دوق لانكستر بقلعته في ليستر.
مع أن الطاعون لم يكن ليصل إنجلترا إلى على نحو متقطع على مدار المائة والخمسين سنة التالية، فإنه بحلول القرن السادس عشر تطورت وسائل المواصلات على نحو هائل وتشكل لدينا انطباع بأن الطاعون كان مستفحلا في مكان ما معظم السنوات. من المحير بحث الروايات المتنوعة، ومن الصعب جدا استخراج الدليل الذي يمدنا بخيوط عن هذا المرض.
فحص البروفيسور جيه إف دي شروزبري، عالم الأحياء الدقيقة الطبية فحصا دقيقا أغلب القصص المحلية المنشورة وسجلات الأبرشيات، وقرأ قراءة موسعة في السجلات التاريخية والمذاكرات المعاصرة. وقد نشر كتابه «تاريخ طاعون دبلي في الجزر البريطانية»، وهو موجز معلوماتي عن الأوبئة. صحيح أنه دون شك كتاب كئيب ومربك في بعض المواضع، إلا أن حسه الفكاهي يخفف من جفاف تناوله بين الفينة والأخرى.
للأسف فسر شروزبري كل الروايات بحيث تتناغم مع معتقداته بأن الطاعون لم يكن مرضا ينتشر من شخص لآخر، لكننا عولنا على الروايات والأدلة الأصلية أينما أمكن. وكالمعتاد، من الواضح وضوح الشمس أن الأشخاص الذين عاشوا آنذاك قد أدركوا أن الطاعون معد بشكل مباشر. (1) أول مئتي عام من الطواعين في إنجلترا
سرعان ما قبل الإنجليز حقيقة أن الطاعون صار جزءا من نمط حياتهم. كان جون بيرجوين يشكو بالفعل في زمن ريتشارد الثاني من أن الأطباء الممارسين كانوا يحتالون على الناس ويستغلون الأوبئة لجني المال:
ومع ذلك كان شخصا شحيح النفس،
واكتنز المال الذي جناه إبان الطاعون؛
فالذهب يصنع الدواء الذي يطيب القلب،
هكذا صار عاشقا للذهب.
ثمة مخطوطة أخرى كانت متداولة في إنجلترا صدرت نحو عام 1480 واعتبرت في غاية الأهمية، لدرجة أنها اعتبرت واحدة من أوائل المخطوطات التي تطبع في الصحف الإنجليزية. وأعيد طبعها عام 1536، وأصبحت مرجعا قياسيا لعصرها حول تجنب الطاعون والوقاية منه وعلاجه. يصف الكاتب نفسه، بصفته أسقف مدينة آرهوس بالدنمارك ويزعم أنه زاول مهنة الطب في مونبلييه، ويشرح التدابير الوقائية التي توصل إليها:
لعلي لم أتحاش صحبة الأشخاص في جبل بيسيولين؛ حيث كنت أتنقل من منزل إلى آخر بسبب الفاقة؛ لأشفي القوم السقماء. من ثم كنت أحمل بحوزتي كسرة خبز أو إسفنجة مغموسة في الخل؛ لأضعها على فمي وأنفي؛ لأن كل الأحماض (المواد اللاذعة) من شأنها أن تعوق سبل أخلاط الجسد، وتحول دون دخول المواد السامة إلى جسد الإنسان، وهكذا نجوت من الطاعون، في الوقت الذي اعتقد فيه زملائي أنني لن أنجو. وقد برهنت بنفسي صحة هذه الأمور المذكورة آنفا.
أحد الأمور المثيرة هنا هو أن الإسفنجة المنقوعة في الخل ربما كانت طريقة فعالة لدرء الإصابة بالمرض الذي كان ينتقل عن طريق العدوى الرذاذية.
ثمة بعض الملامح التي كانت تميز الوباء اللعين حيرته:
إلا أنه كانت هناك قضيتان وثيقتا الصلة: أولهما تتعلق بسبب موت أحدهما وعدم موت الآخر، ففي بلدة واحدة يلقى أناس حتفهم في منزل، وفي منزل آخر لا يلقى أحد حتفه. [لقد ذكرنا بالفعل هذه الظاهرة.] وثانيهما تتعلق بمسألة ما إذا كانت القرح الجلدية للطاعون معدية أم لا.
بشأن القضية الثانية أرى أن القرح الجلدية للطاعون معدية بفعل السوائل الحيوية المعدية، وتكون الانبعاثات أو الروائح الكريهة لمثل هذه القرح سامة وملوثة للهواء؛ ومن ثم فمن المفترض أن تبتعد عن مثل هؤلاء الأفراد لأنهم يحملون العدوى.
ويبدو أنه يشير إلى أنه من الممكن أن تكون واقفا بالقرب من شخص يبدو صحيحا وسط حشد من الناس وتنتقل إليك العدوى انتقالا مباشرا:
في زمن الطاعون ينبغي ألا يقف أحد وسط الجموع الغفيرة المكتظة، لأنه ربما يكون أحدهم ناقلا للعدوى؛ ومن ثم يقف الأطباء الحكماء عند زيارة السقماء بعيدا عن المريض مديرين وجوههم نحو الباب أو النافذة، هكذا أيضا ينبغي أن يقف خدام السقماء.
رأى الأسقف أيضا أن الهواء كريه الرائحة كان ينقل المرض:
إن إخلاء المكان المعدي وتغييره علاج جيد، لكن ربما لا يستطيع البعض تغيير أماكنهم، ومن ثم يتعين عليهم أن يتحاشوا بقدر المستطاع كل مسببات العفونة، وتحديدا كل شهوة جسدانية مع امرأة. من نفس المنطلق، يتعين تحاشي جميع الروائح الكريهة كتلك المنبعثة من الحظائر أو الحقول أو الطرق أو الشوارع المتعفنة وتحديدا الرمم الميتة النتنة، ومعظم المياه النتنة، حيث تترك المياه في أماكن كثيرة لمدة يومين أو ليلتين، أو تكون هناك مجاري مياه تحت التربة تسبب عفونة وتلوثا هائلين. ولهذا السبب يموت البعض في المنزل الذي تحدث فيه هذه الأمور، ولا تجد موتى في منزل آخر، كما ذكرت قبلا، ومن ثم لا تدع الهواء المحمل بالعدوى يدخل إلى منزلك؛ لأن الهواء المحمل بالعدوى يسبب عفونة في الأماكن والمنازل التي ينام فيها الأفراد؛ ومن ثم اجعل بيتك نظيفا، وأشعل نارا من الحطب لتطهر منزلك ببخور الأعشاب.
وقد فطن إلى فكرة الحجر الصحي التي لم تكن مفعلة في إنجلترا آنذاك: «أيضا خلال الطاعون، من الأفضل أن تلزم المنزل؛ إذ ليس جيدا من الناحية الصحية أن تخرج إلى المدينة أو البلدة.»
كما قدم تعليمات واضحة من أجل التشخيص والعلاج:
لكن البعض سوف يفهم كيف عساه أن يشعر المرء لدى الإصابة بالعدوى. أقول إن المرء المصاب يجب ألا يتناول الكثير من اللحم في هذا اليوم؛ إذ سيمتلئ جسده بالأخلاط السامة، وبعد العشاء مباشرة تسيطر عليه رغبة في النوم، ويشعر بحرارة شديدة في الأجواء الباردة، كما يشعر بألم مبرح في الجبهة ... وبتورم تحت الإبط، أو بالقرب من منطقة العانة، أو بالقرب من الأذن ... عندما يشعر شخص بأنه معد، حالما قد يشعر بذلك، اجعله ينزف بغزارة إلى أن يفقد الوعي، ثم أوقف النزيف، حيث إن قليلا من فصد الدم يحرك السم أو يثيره.
بالتأكيد التزم الأفراد بفكرة أنه ينبغي الابتعاد عن الآخرين عندما يوشك الطاعون على التفشي. تقدم البرلمان بعريضة إلى الملك هنري الرابع عام 1439 مطالبا بإلغاء مراسم تقبيل الملك إبان حفل منح الأراضي للفرسان؛ لأن «مرضا يسمى الطاعون توغل عموما في أنحاء إنجلترا على نحو أعنف مما هو معتاد ولأنه معد للغاية.» ونقل البرلمان إلى ونشستر عام 1449؛ للابتعاد عن «هواء ويستمنستر الموبوء.»
ضرب طاعون عنيف لندن في عامي 1499-1500 عندما لقي 20 ألف شخص حتفهم، وكانت العدوى لا تزال نشطة حتى قرب نهاية شهر أكتوبر عام 1501 إبان حفل استقبال الأميرة الصغيرة كاثرين أراجون في بلدة جريفزند . وكانت كاثرين قد وفدت من أجل زواجها من الأمير آرثر، واشتهرت في التاريخ بزواجها من أخيه الملك هنري الثامن. أعطى الملك هنري السابع الأوامر التالية:
سوف يوضح القهرمان أو يأمر أحدا بالتوضيح للأميرة المذكورة أن سمو الملك الذي ينظر بعين الرأفة إلى المشقة الكبيرة والطويلة التي تكبدتها وسفرها عبر البحر، وأنه كان سيسعد كثيرا بوصولها وإقامتها لتلك الليلة في جريفزند، إلا أنه نظرا لانتشار الطاعون هناك مؤخرا، ولأن المكان لم يطهر منه بعد، يرى الملك أنه لا ينبغي أن تتعرض لمثل هذه المجازفة أو الخطر، من ثم أمر سموه بتجهيز الزورق وترتيبه لإقامتها.
بكل تأكيد تسبب الطاعون في بعض الاضطرابات بين أسرة تيودور المالكة:
كتب سفير البندقية عام 1511 أن الملكة الأرملة (والدة هنري الخامس) توفيت على إثر الإصابة بالطاعون، وأن هنري الثامن كان خائفا، فدأب على نقل بلاطه بانتظام إلى قصر هامبتون كورت أو إلى جرينتش أو جريفزند، وكان في الغالب يسافر بحرا لتحاشي الإصابة بالمرض. كتب إرازموس عام 1514 أنه كان مشمئزا من لندن و«اعتبرها مكانا غير آمن للإقامة فيه» بسبب الطاعون. وقد آثر الملك لدى ذهابه في موكب إلى كاتدرائية القديس بولس بإنجلترا أن يظل على صهوة جواده «ليتجنب الاتصال بالجمع بسبب الطاعون».
كتب مبعوث البندقية في مذكراته عن عام 1513 يقول:
كان ضحايا الطاعون يسقطون باستمرار، مرض اثنان من خدامه في الثاني والعشرين من أغسطس، لكنهما لم يتعرفا على المرض، وفي الخامس والعشرين من أغسطس نهضا من فراشيهما، وذهبا إلى حانة ليحتسيا مشروبا معينا يطلق عليه «المزر» ولقيا حتفهما في اليوم نفسه، وألقي سريراهما وفرشهما وغير ذلك من متعلقاتهما في البحر (على الأرجح في نهر التيمز).
في السابع عشر من سبتمبر كتب إلى البندقية أن «البقاء في لندن خطر؛ إذ يقال إن الوفيات تصل إلى 200 شخص في اليوم الواحد، ولا يزاول أحد أية أعمال، فجميع تجار البندقية في لندن اتخذوا لهم منازل في المدينة، وكان الطاعون قد انتشر أيضا في الأسطول الإنجليزي.» وفي أكتوبر تراوح عدد الوفيات ما بين 300 و400 فرد في اليوم كما أورد المبعوث الذي أقام في المدينة. في السادس من نوفمبر والسادس من ديسمبر، كتب أن الطاعون لا يزال يسبب الكثير من الدمار.
أيضا نشط وباء عنيف في لندن في خريف عام 1531، مسببا خسائر في الأرواح تراوحت ما بين 300 إلى 400 شخص أسبوعيا. تكفل هنري الثامن بنفقات فقراء جرينتش الذين طردوا في الحال من باب الحيطة لدرء انتقال العدوى إليه عندما لجأ إلى هناك. (2) طاعون في الشمال
يبدو أن معظم الأوبئة التي ظهرت في النصف الأول من القرن السادس عشر في شمال إنجلترا كانت مقتصرة على الجانب الشرقي من البلاد، من يورك إلى برويك آبون تويد على الحدود الاسكتلندية.
في وقت مبكر من عام 1538، نحو شهر مارس، كان الطاعون يحصد أرواح مواطني يورك، وفي مطلع شهر أبريل كان تأثيره شرسا للغاية حتى إن جهاز المدينة أمر بالزج بكل المرضى في منازل خارج بوابة لاثروب التي خصصت لاستقبالهم، وبغلق البوابة وبعدم دخول أو خروج أي مصاب. قرب نهاية هذا العام، انتشر الوباء أكثر، وأبلغ مجلس الشمال الملك هنري الثامن أن الطاعون كان مستشريا في درم ومدينة نيوكاسل آبون تاين.
مرة أخرى ضرب يورك طاعون جرى الاعتراف به رسميا في يناير عام 1550، عندما أمر جهاز المدينة جميع «القاطنين في لاثروب» بإخلاء منازلهم اللازمة لإقامة المرضى. كانت هذه المنازل هي نفسها التي بنيت منذ 12 عاما لنفس الغرض، شغلها، سواء عن طريق الإيجار أو بوضع اليد، من يقطنون المنازل المهجورة في الفترة التي تخللت الوباءين. ولما ثبت أن هذه المنازل غير كافية، أنشئ مبنيان آخران في هوب مور، وذلك في فبراير من نفس العام. وفي وقت لاحق من نفس الشهر، فرض الجهاز أموالا على الدوائر الانتخابية الأربع بالمدينة من أجل إغاثة الفقراء من المرضى.
وفي ربيع عام 1551، ظهر الطاعون بقوة متجددة في المدينة، وفي مطلع شهر مايو، بدأ يسبب اضطرابات للسلطات، فعلى ما يبدو امتلأت بنايات لاثروب وهوب مور بالمرضى بحلول ذلك الوقت، حيث إن جهاز المدينة أمر في السابع من مايو جميع مرضى الطاعون بالتزام منازلهم الخاصة، ونظرا لاستمرار المرض في التفاقم، ألغى جهاز المدينة عرض مسرحية «جسد المسيح» في الثامن عشر من نفس الشهر.
وإبان نوبة تفشي الوباء، أصدر مجلس المدينة قرارا بأن يضع كل منزل مصاب «صليبا أحمر على الباب»، وهو على ما يبدو أول استخدام لهذا اللون كعلامة على الطاعون في إنجلترا. وقد فقدت يورك على الأرجح نصف سكانها على الأقل في هذا الوباء.
استشرى طاعون عظيم في مدينة مانشستر عام 1558، وقد استبد القلق الشديد بسلطات ليفربول خشية أن يمتد إليهم. ولسوء الحظ، طالتهم أنيابه، وأشير بإصبع الاتهام إلى رجل أيرلندي يحمل اسما ويلزيا وهو جون هيوز. وقد اتهم بأنه كان مريضا لدى وصوله إلى البلدة من مانشستر، وأنه أخذ ملابسه المتسخة لغسلها في منزل رجل يدعى نيكولاس براي. أصيب أحد أبناء براي بالعدوى ومات. مثل هيوز أمام العمدة وخضع لتحقيق قاس، لكن لم يكن ممكنا إثبات الاتهامات. ومع ذلك، سواء كان الشخص الذي نقل الطاعون أو أن الطاعون قد وصل عن طريق قنوات أخرى، فإن آخرين كثيرين في نفس المنزل لقوا حتفهم بعدها بفترة وجيزة، «وهكذا منذ تلك الواقعة ازداد عدد ضحايا الطاعون بصفة يومية ليصل عدد الذين ماتوا بين عيد القديس لورانس (في العاشر من أغسطس) وعيد القديس مارتن التوروزي (في الحادي عشر من نوفمبر) من بعده، 240 شخصا تقريبا.» وبلغ الحد بقسوة نوبة تفشي الطاعون في ليفربول أن معرض عيد القديس مارتن قد ألغي ولم تقم أية أسواق لمدة ثلاثة أشهر. (3) أول مرسوم للطاعون
صدر إعلان رسمي عام 1543 وقدم تعليمات كاملة حول تدابير الصحة العامة التي يتعين تنفيذها إبان الطاعون.
صدر مرسوم إلى أعضاء المجالس المحلية أنه:
ينبغي عليهم أن يجعلوا شمامستهم يضعون علامة الصليب على كل بيت من المفترض أنه مصاب بالطاعون، ويظل الصليب هناك لمدة أربعين يوما [على ما يبدو أن فترة الحجر الصحي الموحدة في القارة الأوروبية صار معمولا بها حينذاك في إنجلترا].
يحظر على أي شخص قادر على العيش بمفرده ومن المفترض أنه مصاب بالطاعون، أن يخرج من المنزل أو يذهب إلى أي تجمعات لمدة شهر من بعد إصابته بالمرض، وأن كل الذين لا يستطيعون العيش دون عملهم اليومي، ينبغي عليهم - بقدر إصابتهم بالمرض - أن يحجموا عن الخروج من المنزل، وينبغي عليهم لمدة أربعين يوما أن يحملوا في يدهم باستمرار قضيبا أبيض طوله قدمان.
ينبغي على كل شخص كان بيته مصابا أن يحمل بعد انتهاء الابتلاء كل القش ليلا في الخفاء إلى الحقول وحرقه، وينبغي عليه أيضا أن يحمل ملابس المصاب إلى الحقول كي يشفى.
يحظر على أي صاحب منزل طرد أي مصاب بالمرض من منزله إلى الشارع أو أي مكان آخر ما لم يقدم له سكنا بديلا في منزل آخر.
جميع الأشخاص الذين يقتنون كلابا في منازلهم بخلاف سلالة كلاب الهاوند (كلاب الصيد) أو السبانيل أو الماستيف (الدرواس)، الضرورية لحماية أو حراسة منازلهم، ينبغي أن يبدءوا على الفور في نقلها خارج المدينة، أو قتلها وحملها خارج المدنية ودفنها في مقالب القمامة والنفايات العامة [بني هذا الأمر على الاعتقاد بأن الكلاب كانت تحمل العدوى في شعرها، وفي وقت لاحق إبان الطواعين العظيمة في الأعوام 1603، و1625، و1665، قتل آلاف من الكلاب، وكان كثير منها قد تركتها الطبقات الموسرة لدى فرارها.]
ما دام المرء محتفظا بكلاب الهاوند أو السبانيل أو الدرواس، يحظر عليه أن يسمح لها بالخروج من المنزل، وإنما يحكم حبسها.
يتعين على وكلاء الكنائس في كل أبرشية أن يعينوا شخصا ما كي يمنع دخول جميع المتسولين البذيئين إلى الكنائس في أيام الأعياد المقدسة، وإبقائهم في الخارج.
يتعين تطهير كافة الشوارع والطرقات، إلى آخره، الواقعة في ضواحي المدينة.
يتعين على أعضاء المجالس المحلية التأكد من تلاوة هذا المرسوم في الكنائس.
استخدمت القضبان البيضاء التي يبلغ طول كل منها قدمين، والتي تعين على أولئك المضطرين إلى الخروج من منازل ضربها الطاعون حملها والمنصوص عليها في الفقرة الثانية خلال معظم القرن السادس عشر في إنجلترا وفرنسا. وكل من يخالف هذا المرسوم كان «يودع في الزنزانة». كتب مبعوث البندقية في فرنسا من إحدى ضواحي باريس عام 1580:
أسمع أن هذه المدينة موفورة الصحة للغاية، إلا أنه حالما دخلت من بوابة المدينة، القريبة من محل إقامتي، التقيت رجلا وامرأة حاملين عصا الطاعون البيضاء في يديهما ويطلبان صدقة، لكن البعض يعتقد أن هذه ما كانت إلا حيلة منهما لجني المال.
في طواعين القرن السابع عشر في لندن والبلدات الإقليمية، استخدمت العصا البيضاء كشارة خاصة للمفتشين عن المنازل المصابة ولحاملي الموتى. وصار القضيب الأبيض أو العصا البيضاء التي يحملها نزلاء المنازل المصابة قضيبا أحمر إبان طاعون عام 1603.
في ظل حكم الملكة إليزابيث الأولى، أصبحت بنود المرسوم التي تخص النظافة المدرجة أعلاه أكثر صرامة، فكان من ضمن المهام الأخرى التي يزاولها «عمال النظافة» الإشراف على الأرصفة، التي كان يجري كنسها بصفة أسبوعية، وعلى المسالخ وأماكن جمع القمامة وما شابه، وعلى المباني الخطيرة، وانتهاكات الشوارع، والمداخن والتدابير الاحترازية التي تتخذ للحيلولة دون اندلاع الحرائق (بحيث تكون أحواض المياه جاهزة على الأبواب لإخماد الحرائق ونظافة الشوارع). إبان طاعون عام 1563، عين مجلس العموم «رجلين فقيرين لحرق ودفن القش والملابس وفرش الأسرة، التي يجدونها في الحقول بالقرب من المدينة أو بداخل المدينة، التي استلقى أو مات عليها أي شخص إبان الطاعون.»
في أبريل عام 1552، غرم جون شكسبير - وهو والد الكاتب المسرحي ويليام شكسبير وكان صانعا للقفازات ومواطنا ميسور الحال من بلدة ستراتفورد أبون آفون أصبح فيما بعد عمدة المدينة - اثني عشر بنسا لعدم التخلص من كومة القمامة والفضلات المنزلية التي كانت قد تراكمت أمام باب منزله. وعندما زارت الملكة إليزابيث مدينة إبسويتش، لم تكتف بتوبيخ الكهنة بسبب تراخيهم، بل وبخت أيضا السلطات المدنية بسبب الحالة القذرة للشوارع.
مع أن تدابير تعزيز الصحة العامة المطورة هذه كانت رائعة، فإنها لم تحدث أدنى تأثير على تطور أو شدة الطاعون، حتى عندما كانت تنفذ بحذافيرها.
كانت أكثر التدابير صرامة في طاعون عام 1563 تلك التي وضعتها الملكة إليزابيث من أجل سلامتها الشخصية:
علقت مشنقة في السوق بمدينة وندسور لشنق كل ما يأتون من لندن. يحظر جلب بضائع إلى أو عبر أو بواسطة وندسور، كما يحظر على أي شخص أن يحمل أخشابا أو بضائع أخرى إلى أو من لندن عبر النهر الذي يمر بوندسور. بمثل هؤلاء تنزل عقوبة الإعدام شنقا بلا محاكمة. وأما أولئك الذين يجلبون أية بضائع من لندن إلى وندسور فيطردون من منازلهم، وتغلق تلك المنازل.
قطعا أدرك الناس أن الخطر يصاحب وصول المسافرين.
جرى تحديث مراسيم الطاعون هذه عام 1568. تمثلت أحد البنود الضرورية لوسائل مكافحة الطاعون في تعيين المفتشين. في مراسيم عام 1543، أمر أعضاء المجالس البلدية بإرسال شمامستهم لوضع علامة الصليب على المنازل المصابة. بيد أنه في الوقت المناسب انتقلت هذه المهام المتضمنة تفتيشا وإخطارا وعزلا وتسجيلا في لندن إلى أيدي رابطة موظفي الشئون الإدارية بالأبرشية. وكان النشاط الأساسي لموظفي الشئون الإدارية بالأبرشية هو موسيقى الكنيسة. وكان الإرث والوقف ينتقلان إليهم مقابل أداء خدمات معينة أو من أجل تشجيعهم عموما. وكان جميع أعضاء رابطة موظفي الشئون الإدارية بالأبرشية يحضر في تلك الآونة جنازة بعض الأثرياء، وهكذا استطاعوا بسهولة أن يتكيفوا مع دورهم الجديد. اشتملت مهامهم على تجميع قوائم أسبوعية بالوفيات في كل أبرشية.
تلزم مراسيم عام 1581 «أن يقسم مراقبان متحفظان بداخل كل أبرشية قسما أمينا بتفقد جسد كل من يموت بداخل نفس الأبرشية وأن يبلغ موظف الأبرشية الذي يعمل لدى مراقبي الموظفين الإداريين بالأبرشية». اقتصرت وظيفة هؤلاء المراقبين المتحفظين على تحديد ما إذا كان الموت قد حدث بسبب الطاعون أو لأسباب أخرى، إلا أنهم كانوا يحلفون على أداء مهامهم بكل أمانة، حيث كانت مراسيم القسم تتم داخل كنيسة سان ماري لو بو بشارع تشيبسايد في لندن. (4) نجاة ويليام شكسبير
ضرب الطاعون بلدة ستراتفورد آبون آفون مرارا وتكرارا. دون في السجلات التاريخية يوم الحادي عشر من يوليو 1564 أنه «ها هنا بدأ الطاعون»، وأن أول شخص لقي حتفه هو أوليفر جونه، تلميذ توماس ديجي. بعدها بتسعة أيام، دفنت جوانا ديجي زوجة توماس ديجي. نقل أوليفر جونه المرض إلى خمس أسر أخرى، وبفحص السجلات يتبين أنه نقل العدوى هو وجوانا ديجي إلى نحو 20 مصابا. وهكذا بدأ الوباء حيث وصل ذروته في سبتمبر قبل أن يخمد تدريجيا في يناير من العام التالي. وسجل نحو 220 شهادة دفن على إثر الإصابة بالطاعون الذي كان يمثل وباء كبيرا، إلا أنه لم يكن بنفس القدر من الحدة مثل بعض الأوبئة الأخرى.
كان ويليام شكسبير هو المولود الثالث لجون شكسبير وزوجته ماري أردن، لكنه المولود الأول الذي عاش إلى ما بعد مرحلة الطفولة. كان ويليام شكسبير يبلغ من العمر ثلاثة أشهر عندما تفشى الطاعون عام 1564، وكان محظوظا أن ينجو من العدوى ويظل على قيد الحياة بعد فترة الرضاعة؛ فمن المرجح أن تكون والدته قد فرت إلى منزل عائلتها في قرية ويلمكوت التي تبعد نحو ثلاثة أميال (خمسة كيلومترات)، وكان هذا المنزل لا تزال تقطنه زوجة أبيها الأرملة. لو كان الأمر جرى على خلاف ذلك، لربما لم تصل إلينا أعمال شخص عبقري. (5) القيمة الحقيقية لسجلات وقوائم وفيات الأبرشيات للباحثين في تاريخ الطواعين
كما ذكرنا قبلا، تعود ممارسة الاحتفاظ بسجلات الأبرشية الخاصة بالمعمودية والزواج والدفن إلى نحو عام 1540. في البداية كانت مهلهلة، إلا أنها صارت أكثر تنظيما شيئا فشيئا، وقدمت معلومات أكثر قيمة في كل بند من بنودها، فهي لا تقدم مجرد بيانات رقمية بشأن البلديات المصابة وعدد المصابين وتواريخ الدفن، إنما تقدم أيضا أسماء الضحايا وتفاصيل أخرى عنهم. ظلت هذه السجلات المفصلة لما يقرب من الأربعمائة عام، وهي سجلات تنفرد بها إنجلترا. في العصر الإليزابيثي سن قانون يلزم الكاهن أو موظف الأبرشية بتسجيل أي حالات وفاة من الطاعون في سجل الأبرشية. سوف نوضح في وقت لاحق كيف يمكن تحليل هذه السجلات التي لا تقدر بثمن لإماطة اللثام عن خيوط مهمة.
منذ منتصف القرن السادس عشر تقريبا بدأ حفظ قوائم بيانات أخرى مثل قوائم وفيات لندن، وهي قوائم أسبوعية، وملخصات شهرية وسنوية بوثائق الدفن، التي اشتملت فيما بعد على أسباب الوفاة. وقد كانت في الأساس بمنزلة نظام تحذير مبكر لرصد وصول وباء طاعون؛ لذلك يوجد كم وفير من المواد التي قد تفيد المؤرخين بشأن المائة سنة الأخيرة من عصر الطواعين. ولسوء الحظ، ليس هذا هو الحال بالنسبة إلى الفترة من عام 1350 إلى عام 1550. (6) آخر مائة عام من الطاعون
فيما توالت السنون، ارتفع تعداد سكان البلدات والمدن بمعدل ثابت، وتحسنت وسائل النقل والشحن بشكل ملحوظ، وانتعشت التجارة والحركة بالتبعية، وكانت قوات الجيوش في حراك دائم. ضمنت كل هذه الأنشطة انتشار أوبئة الطاعون؛ فكانت تضرب مرارا وتكرارا بعنف متزايد، وكلما زاد عدد الأشخاص في التجمعات الحضرية، زاد عدد الوفيات. ومع بزوغ القرن السابع عشر، كان الطاعون يتفشى في مكان ما في بريطانيا كل عام تقريبا.
في يونيو عام 1580، نظرا لتفشي الطاعون في لشبونة، أمر اللورد بيرلي، وزير الخزانة، باتخاذ الاحتياطات اللازمة لدى وصول السفن من هناك للحيلولة دون وصول العدوى إلى لندن؛ فلم يكن مسموحا للتجار أو البحارة بالإقامة في المدينة أو الضواحي، كما لم يكن مسموحا بتفريغ البضائع «إلى أن تتعرض للتهوية لبعض الوقت.»
في وقت لاحق من هذا العام، منع مجلس جلالة الملكة كافة السفن والبضائع بميناء راي بمقاطعة ساسكس على الساحل الجنوبي، حيثما كان الطاعون هائجا، من مواصلة مسيرتها إلى لندن «إلى أن تتعرض للتهوية.» علاوة على أنه لم يكن مسموحا لقاطني ميناء راي بالذهاب إلى المدينة أو بإرسال أي بضائع برا، ما دام الطاعون منتشرا هناك.
إلا أن الملكة أبلغت في سبتمبر من عام 1581 أن زيادة استشراء الطاعون «تعود إلى حقيقة أن الأوامر الصادرة بشأن المصابين لا تنفذ.» ونتيجة لذلك، «أجبرت الملكة على الانتقال بعيدا وإرجاء تنفيذ القانون» (أي إنها قامت بإجراء مراوغ وفرت).
في أبريل عام 1582، أصدر لوردات المجلس تعليمات «لمنع الدفن في فناء كنيسة سان بول» لأن فناء الكنيسة كان مكتظا للغاية لدرجة أنه «لم يكن يوجد أي قبر دون جثث مكشوفة.»
وفي أكتوبر عام 1582، أصدرت الملكة أوامر بمنع أي تجار أو أشخاص آخرين من المدينة كان لديهم مصابون في منازلهم من اللجوء إلى مقاطعة هارتفورد أو بلدة وير أو بلدة هوديسدون أو إرسال أي أنواع من البضائع أو الأطعمة أو ما شابه إليها.
وفي أبريل عام 1583 تفاقمت العدوى بشدة، وأمرت الملكة بما يلي:
يجب غلق المنازل المصابة، وتوفير الطعام للمرضى ومنعهم من الخروج، ويجب تمييز المنازل المصابة، وتطهير الشوارع تطهيرا شاملا. وأعربت جلالتها عن دهشتها لعدم بناء مستشفى خارج المدينة لنقل المصابين إليه، بالرغم من أن مدنا أخرى ذات آثار أقل عراقة وأقل صيتا وثراء وشهرة قد بنت لنفسها مثل هذه المستشفيات. (7) اسكتلندا
في تلك الأثناء لم تنج اسكتلندا، بل في وقت مبكر وتحديدا في عام 1475، استخدمت جزيرة إنشكيث عند مصب نهر فورث كمحطة حجر صحي. وفي وقت لاحق، استخدمت أيضا جزيرتا إنشكولم وإنشجارفي لنفس الغرض.
صار الطبيب جيلبرت سكين طبيب الملك جيمس السادس عام 1568، عام الطاعون العظيم في إدنبرة، وقد خط أطروحة حول المرض، فيقول إن الطاعون دخل المدينة في الثامن من سبتمبر حيث جلبه إلى المدينة «تاجر يدعى جيمس دالجليش.»
قدم آر تشامبرز، الذي كتب «حوليات الشئون الداخلية لاسكتلندا»، الوصف التالي عن ممارسات الصحة العامة التي كانت تطبق إبان هذا الطاعون:
جرت العادة في إدنبرة أن تجبر العائلات التي يثبت إصابتها بالطاعون على ترك المدينة بكل متعلقاتهم الخاصة وأثاثهم المنزلي والذهاب إلى بيرج مور، حيث يقيمون في أكواخ رديئة أنشئت في عجالة لإقامتهم. وكان من المسموح أن يزورهم الأصدقاء بمعية أحد الضباط بعد الساعة الحادية عشر صباحا، وأي شخص كان يذهب قبل هذا الوقت المحدد يصبح عرضة للعقاب موتا [تدابير وحشية حقا]، وكذلك كان يعاقب موتا أولئك الذين يتسترون على الطاعون في منازلهم. في الوقت نفسه كان تطهير ملابسهم يتم بغليها في مرجل كبير مقام في الهواء الطلق، وكان الضباط المناسبون يطهرون منازلهم. كل هذه القواعد تتم تحت إشراف مواطنين منتقين من الشعب؛ من أجل هذا الغرض يطلق عليهم «قضاة المور أو الأرض السبخة»، ويرتدي كل منهم، شأنهم شأن غاسلي وحاملي الموتى، ثيابا رمادية، عليها من الأمام والخلف صليب القديس أندراوس الذي يأخذ شكل حرف إكس.
وقيل إن الأعراض التي ظهرت على الضحايا هي:
الإغماء، قشعريرة البرد والتصبب عرقا، القيء، عفن الفضلات وتصلبها، بول لونه أسود أو له لون الرصاص، تشنج العضلات، واختلاج الأطراف، وعسر الكلام، ورائحة أنفاس كريهة، ومغص، وانتفاخ الجسد كما يحدث في داء الاستسقاء، ووجه متغير اللون، وبقع حمراء [أمارات الرب] سرعان ما تظهر وتختفي.
دام هذا الوباء في إدنبرة حتى فبراير عام 1569 ومات على إثره 2500 شخص. (8) طواعين في مطلع القرن الجديد
كتب توماس ديكر، الكاتب المسرحي الذي قيل عنه إنه «عرف لندن قدر معرفته بديكنز»، كتابا بعنوان «السنة الرائعة 1603: لندن على فراش المرض من الطاعون». وصف ديكر أول ما وصف حالة «ضواحي لندن الملوثة بالخطية»:
من خلال التجول في أنحاء الشوارع الساكنة الكئيبة في ساعات الليل المائتة. تتناهى إلى مسامعه من كل بيت: تأوهات مرضى مصابين بالهذيان، وغمرات الموت تكتنف الأرواح المحتضرة، وعبارات الحسرة المثيرة للفزع. يصيح الخدم كمدا على أسيادهم، والزوجات على أزواجهن، والآباء على أبنائهم، والأطفال على أمهاتهم. هنا يقابل بعض الأشخاص وهم يهرولون في جنون ليوقظوا خدام الكنيسة، وهناك يلتقي آخرين يتصببون عرقا في خوف كي يسرقوا الجثث في عجالة حتى لا يمسهم المرض ويكتب الموت بيده على منازلهم.
وعندما يأتي الصباح، يقف مائة قبر جائع فاغرين أفواههم، وكل قبر يبتلع عشر جثث أو إحدى عشرة جثة هامدة كإفطار له. وقبل حلول وقت الغداء، يلتهم نفس القبر ضعف ما التهمه في الإفطار وأكثر، وقبل أن تخلد الشمس إلى مهجعها، تتضاعف هذه الأعداد، 60 جثة مكومة معا على نحو مهمل في حفرة الروث!
إحدى القصص المروعة التي رواها عن وباء عام 1603 لصعلوك فقير في أبرشية ساوثورك لكاتدرائية سان ماري أوفيري. ألقي هذا الصعلوك مع الموتى على كومة من الجثث في الصباح، ووجد في المساء يلهث من أجل الحياة. آخرون كان الأسياد القساة الأفئدة يطردونهم خارج المنزل ليموتوا في الحقول والخنادق، أو في الأكواخ العامة أو الإسطبلات. وضع صبي مريض بالطاعون على متن زورق ليرسو به أينما يحط ، لكن رجال جيش الحراب البنية (حراب بنية اللون كان يستخدمها جنود المشاة الإنجليز) الذي كان يحرس الشاطئ منعوه من الرسو؛ من ثم كان من الضروري أن يؤخذ إلى المكان الذي جاء منه ليلقى حتفه في قبو.
فيما كان الطاعون ثائرا في الضواحي الفقيرة من المدينة، «حاصدا الأرواح شيئا فشيئا»، شعر المقتدرون بالخطر وولوا الأدبار: «البعض على صهوة الجياد والبعض الآخر سيرا على الأقدام، البعض حفاة والبعض الآخر يرتدي خفا، فروا بحرا، وبرا، نازحين بأعداد كبيرة غربا، ولم تكن الأحصنة الصغيرة، والبحارة والعربات، مستخدمة على الإطلاق لسنوات طويلة، لدرجة أنه في غضون فترة وجيزة لم يكن يوجد حصان واحد أو عربة واحدة في سميثفيلد كلها.» لكن لعل مكوثهم لم يكن يختلف كثيرا عن إلقائهم لأنفسهم بين الأيدي غير الرحيمة لأبناء الريف قساة الأفئدة. إن رؤية الريفي لشخص لندني يرتدي قبعة مسطحة كان أمرا مرعبا، كانت رؤية الطوق الثلاثي الذي يرتديه أبناء لندن يجعل قرية بأكملها تذوب من الرعب.
انطلق أحد أبناء لندن إلى بريستول، ظنا منه أنه لن يرى مسقط رأسه مرة أخرى قبل حلول عيد الميلاد. لكن عندما سافر مسافة أربعين ميلا من البلدة «باغته الطاعون» وحاول الدخول إلى حانة. عندما انكشف أمره، أوصدت الأبواب في وجهه، «وأغلقت النوافذ ذات الشرفة الواحدة بإحكام شديد فلم يكن هناك منفذ قيد أنملة، وتعذبت النوافذ ذات الشرفتين من كثرة المسامير والطرق الذي خضعت له، ما من فتحة إلا سدت، فلم يترك ثقب إبرة مفتوحا.» من شدة الفزع تدافع رواد الحانة بعضهم فوق بعض عند محاولة الهروب، وفرت النادلات إلى البستان والسقاة إلى القبو. ساعد مواطن لندني ظهر في المشهد المريض اللندني البائس، وحمله ليموت على حزمة من القش في ركن أحد الحقول، إلا أن الخوري والكاهن رفضا دفنه، وألقي في حفرة في نفس المكان الذي لقي حتفه فيه .
استطرد ديرك قائلا:
إن الطاعون في تلك الأثناء اخترق بوابات المدينة وشق طريقه في أنحاء شارع تشيبسايد، فخر أمامه رجال ونساء وأطفال، وسلب اللصوص المنازل ونهبوا الشوارع، وكسر الورثة السفهاء والخدام الوضعاء خزائن الأثرياء وتقاسموها فيما بينهم.
بمقدوري أن أجعل وجنتيك تشحبان وقلبك يضطرب خوفا، بأن أخبرك كيف أن البعض كان لديهم ثماني عشرة قرحة جلدية في آن واحد، والبعض الآخر كان لديهم عشر أو اثنتا عشرة قرحة جلدية، وكثيرون كان لديهم أربع أو خمس قرح، وكيف أن أولئك الذين أصابتهم عدوى هذا العام بأربع قرح لقوا حتفهم على إثر الإصابة بآخر قرحة، في حين أن البعض الذين أصابتهم العدوى بقرح كثيرة لا يزالون يجولون وهم أصحاء.
يبدو كما لو أن بعض الضحايا تعافوا أثناء وباء عام 1603 في لندن.
توالت الجنازات واحدة تلو أخرى، لدرجة أن 3000 نائح خرجوا كما لو كانوا محتشدين معا، وقد حشوا آذانهم وفتحات أنوفهم بأعشاب السذاب والشيح فبدا منظرهم مثل رءوس الخنازير البرية الكثيرة العالقة في أغصان نبات إكليل الجبل. زار أحد الجيران الودودين مصابا يعالج سكرات الموت ووعده بأن يحضر له نعشا، إلا أن هذا الجار لقي هو نفسه حتفه قبل موت صديقه المصاب بساعة واحدة. ولدى سؤال أحد وكلاء الكنيسة في شارع تيمز عن مكان لدفن أحد الموتى في فناء الكنيسة أجاب ساخرا أنه يريده لنفسه «وبالفعل في غضون ثلاثة أيام كان قد دفن في المكان.»
وصف جون ديفيز، أستاذ جامعي من مقاطعة هيرفورد، طاعون لندن عام 1603 في قصيدة بعنوان «انتصار الموت، أو صورة الطاعون، وفقا للحياة كما كانت معاشة عام 1603 ميلادية»:
يصرخ حامل الجثث: ألق موتاك،
كان يدفنها بالأكوام في قبور متقلقلة ...
لقد لفظت ممرات لندن
ما يزيد عن حاجتها من الموتى،
الذين حملوا ملء عربات إلى القبور،
فقد كانت كل هذه الممرات تتغذى لحد التخمة على هذه الجموع.
وذكر أن السجناء في الزنازين نجوا نسبيا من الطاعون. يشير بيت واحد إلى الحجم الهائل الذي كانت تبلغه قروح الطاعون في بعض الأحيان:
ها هنا ينتفخ قرح ملتهب قدر ما يستطيع الجلد أن يتمدد.
ويذكر ديفيز أن كلتا الجامعتين قد هجرتا.
كل قرية خالية من الطاعون تنتصب في حالة يقظة ...
وغالبا تمتلئ المروج بأكوام القش
بالأجسام المضروبة بالطاعون، الحي منها والميت،
كان في استخدام تلك الأكوام هلاك لكل إنسان وبهيمة.
اقتبس ديفيز أحد الحوادث الشنيعة (في إحدى الحواشي الجانبية) على أنها وقعت في بلدة ليومنستر بمقاطعة هيرفوردشير. أغرق أحد المصابين بالطاعون لمنع انتشار العدوى بأمر من السير هيربرت كروفت عضو مجلس الحدود الويلزية. (9) الطاعون يعاود ضرب لندن
التقى تشارلز الأول ملك إنجلترا عروسه المستقبلية، الأميرة هنرييتا الفرنسية، ببلدة دوفر في الثالث عشر من يونيو عام 1625 ودخلا لندن في الثامن عشر، متجهين على متن صندل ملكي عبر النهر إلى «القصر الدنماركي» بسومرسيت وسط حشد هائل من الناس على أسطح المنازل والسفن والقوارب في النهر، وقد صاحب ذلك إطلاق نيران المدفعية ومظاهر الترحيب بالأميرة الكاثوليكية. بيد أنه قبل ذلك بخمسة أيام، كان قد كتب حارس الختم الملكي العظيم بالفعل إلى كونواي، وزير الدولة، يخبره بظهور حالات طاعون بويستمنستر وأنه يتمنى أن يكون سمو الملك قد قرر ألا يتجاوز جرينتش.
أمرت السلطات النبلاء بالمكوث في البلدة في انتظار قدوم الملكة الجديدة، وقد صدرت هذه الأوامر للبعض منهم من قبل البرلمان. والتقت المجالس في الثامن عشر من يونيو، ونصحهم الملك في خطابه بتعجيل أعمالهم بسبب الطاعون. وبعدها بفترة وجيزة، لما تعين على اللورد فرانسيس راسل (الذي سيصبح فيما بعد أيرل بيدفورد) «الذهاب إلى البرلمان، استدعى صانع أحذيته ليرتدي حذاءه عالي الساق، فخر صانع الأحذية ميتا في حضرته بسبب الطاعون»، وهكذا تجنب سموه المجلس.
احتفظ سالفيتي، مبعوث دوق توسكانا الأكبر، بمفكرة يومية كتب فيها أنه في الأول من يوليو عام 1625، كان الطاعون قد انتشر في كل الشوارع وبلغ أجزاء أخرى من المملكة، وحدث نزوح عام إلى البلدة من كل شخص استطاع إليها سبيلا (كالمعتاد)، فمرة أخرى ترك القضاة والأطباء والوزراء والأثرياء المدينة لتتدبر حال نفسها. وفي التاسع من أغسطس كتب سالفيتي الذي هرب هو نفسه إلى بلدة ريتشموند:
أزاح القضاة عن كاهلهم كل التزام في يأس، وفعل كل شخص ما يحلو له، واقتحم الناس منازل التجار الذين تركوا لندن ونهبوها.
كتب الدكتور ميدوس، كاهن كنيسة سان جابرييل بشارع فينتشيرتش في الأول من سبتمبر:
بلغ عدد الفقراء والبؤساء هنا عددا لم يشهده أي إنسان عاش من قبل على وجه الأرض، وانعدمت التجارة انعداما تاما، ورحل جميع الأثرياء، وأخذ مديرو المنازل ومتدربو الحرف اليدوية يتسولون في الشوارع بطريقة مأساوية تؤثر حتى في أشد القلوب قسوة.
صور إبراهام هولاند، ابن الطبيب فيليمن هولاند، هذا المشهد في أحد الأبيات:
أي مظاهر لتلك الصحافة التي كانت تعمل حتى منتصف الليل
منذ وقت ليس ببعيد.
سر في الشوارع البائسة (يا من لا زلت تجرؤ
على المغامرة بالسير في هواء موبوء كئيب)،
ولسوف تصادف منازل كثيرة موصومة بصليب الطاعون الأحمر،
كما لو كانت المدينة شارعا واحدا على شكل صليب أحمر.
كما كتب جون تايلور، الذي أطلق على نفسه اسم «شاعر الماء»، والمسئول عن مركب الملكة:
ربما تجد في شارع بأكمله متجرا أو متجرين،
مفتوحين لإدرار دخل بسيط ومكسب قليل.
وكل نافدة وباب وحظيرة مغلقة،
تجعل كل يوم يبدو كما لو كان عطلة رسمية.
كل التعاملات قد توقفت، أو كادت تتوقف تماما،
انقسم الناس فريقين: فريق يعاني مرضا وآخر يصارع موتا.
كانت الظروف هي نفس تلك التي عاشها الناس عام 1603: فخدام الكنيسة، وصناع النعوش، وحاملو الموتى، والمفتشون، والصيادلة، والدجالون كانوا جميعا يعينون بالأجرة:
ويغدق بالمال الوفير على قاتلي الكلاب؛
لتحطيمهم رءوس الكلاب المتناحرة وكلاب الصيد الممتلئة.
وعن المرضى قال تايلور:
إنه كان يوجد البعض الذين يهذون في جنون، والبعض الآخر الذين يبكون بحرقة.
وكانت نفس القبور العامة المكتظة كما في عام 1603، أغلب الظن في نفس المدافن:
قبوري الكثيرة التي تفغر أفواهها عن آخرها،
يطعمونها كل ساعة بجثث الرجال.
ومع أنها تجد صعوبة في بلعها، فإنهم يطعمونها جثثا من جديد.
أو كما عبر تايلور عن ذلك:
تظل جثث الموتى تحمل مرارا وتكرارا،
مع أن قبرا واحدا لا يمكن أن يتسع لخمسين جثة.
من الواضح أن القروح والبثور قد تظهر لدى نفس الشخص أكثر من مرة، وكانت تحين أفضل فرصة للنجاة عندما تظهر التقيحات:
البعض عندما ظهرت لديهم خراريج وقروح جديدة،
امتلئوا بالأمل ظنا منهم أنهم اجتازوا مرحلة الخطر.
تمثل الأمل الأساسي في الهروب، بيد أنه أثناء رحلة هروبهم «كانت القوات التي تحمل الحراب والأسلحة المصنوعة من مناقير الطيور تعيدهم إلى بلداتهم، فكانوا يجتازون وهم في حالة خزي قرية تلو الأخرى إلى أن ينهوا رحلتهم، وكانوا ينامون في الحظائر، أو مخازن الحبوب والمباني الملحقة بالمنازل الأساسية، أو حتى بجانب الطريق في الخنادق وفي الحقول المفتوحة.»
كان هذا مصير الرجال الأثرياء نسبيا. ذكر تايلور أنه عندما كان على متن مركب الملكة في قصر هامبتون وفي إبحارهم عبر النهر إلى أكسفورد، انتابه الكثير من مشاعر الأسى والشفقة لدى رؤية وسماع الترحيب البائس والجاف لكثير من أبناء لندن:
بات سماع اسم لندن الآن يبث
الذعر في كل البلدات والقرى بين قاصيها ودانيها.
فأن تنعت بأنك من أبناء لندن أسوأ من
أن تنعت بأنك لص ينهب البيوت أو سارق يخطف حافظات النقود ...
كان اللندنيون غير مرحب بهم
حتى في الأكواخ المتواضعة المصنوعة من القش وذات الأجر الزهيد
أزال الأجلاف الذين يرتدون الأحذية الثقيلة محببة النعال.
أولئك أصحاب القلوب المتحجرة كالصخور.
كانوا ينهرون الغرباء في الحقول
بدلا من أن يعطوهم أو حتى يبيعوا لهم كوبا من الماء.
كانت الحلابات وزوجات الفلاحين يتمتعن بصحة جيدة،
كن ينظرن إلى اللندني كما لو كان مخلوقا همجيا،
وكانت السيدات ذات المقام والنسب والمتسمات بالحشمة والرشاقة،
يعرضن عنه كما لو كان وحشا بربريا.
كما قدم المثل التالي:
كان هناك رجل مصاب بنوبة حمى ورجفة مستلقيا على الأرض في بلدة ميدينهيد بمقاطعة بيركشير، وكانت نوبة الحمى قد اشتدت به. أخذ رجلان من البلدة (أستطيع أن أسميهما) يضربانه بالحجارة، ولما لم يفلحا في دفعه على النهوض، تناول أحدهما أنشوطة أو عقافة مراكب طويلة، وشبكها في بنطال الرجل المريض، ساحبا إياه للخلف ووجهه مجرور على الأرض إلى أسفل الجسر في مكان جاف حيث استلقى إلى أن زالت نوبته، وبعد أن فقد قبعة جديدة، ذهب إلى حال سبيله.
في ريتشموند، أخذ زوجة وصبي يجران الزوج عاريا أثناء الليل وألقياه في نهر التيمز حيث عثر على جثته في اليوم التالي. وفي ساوثهامبتون في السابع والعشرين من أغسطس مات شخص غريب في الحقول: «لقد قدم من لندن وكان بحوزته مبلغ كبير من المال أخذ منه قبل موته.»
أكد الدكتور دون، رئيس رهبان كاتدرائية سان بول هذه المواقف في خطاب أرسله من تشيلسي في الخامس والعشرين من نوفمبر:
ولى المواطنون الأدبار، كما لو كانوا قد فروا من منزل اشتعلت فيه النيران، وحشوا جيوبهم بأفضل مقتنياتهم، وألقوا بأنفسهم على قارعة الطرق الرئيسية، ولم يكن الناس يستقبلونهم حتى في مخازن الحبوب، ولقوا حتفهم على هذا النحو: كان بحوزة البعض منهم مال يكفي لشراء القرية التي لقوا فيها حتفهم ويفيض. أخبرني أحد قضاة الصلح عن شخص توفي هكذا وبحوزته 1400 جنيه.
تناقل الناس قصة عن امرأة فرت إلى بلدة كرويدون التي تبعد 10 أميال (16 كيلومترا) جنوب لندن، وفيما نظرت وراءها على تل ستريتم وقالت «وداعا أيها الطاعون»، مرضت بعدها بقليل و«ظهرت أمارات الرب على صدرها.» (10) وباء محدود في أبرشية مالبس: وافد من لندن يحمل العدوى
عاد راف داوسون من لندن، حيث كان الطاعون متفشيا، إلى منزل أبيه في برادلي، وهي ضيعة بأبرشية مالبس بمقاطعة تشيشير، مسيرة نحو 185 ميلا (300 كيلومتر). ذكرت سجلات الأبرشية على نحو مفصل ومحدد أنه كان قد أصيب بالعدوى وهو في لندن، وهو مثال جيد آخر على قدرة المرض على الانتقال عبر مسافات طويلة. ظهرت لدى راف داوسون الأعراض المميزة للمرض ولقي حتفه أخيرا في الخامس والعشرين من يوليو عام 1625. حسبنا في وقت لاحق أنه حتما أصيب بالمرض وهو في لندن في الثامن عشر من يونيو تقريبا. وكان لا بد أن يدفن بالقرب من منزل العائلة؛ نظرا لأنه لم يكن مسموحا بدفن جسده الموبوء في فناء الكنيسة.
بعدها أصيب كل أفراد العائلة وخدامها بالعدوى، واحدا تلو الآخر، ودفنوا أيضا بالقرب من المنزل. من المؤكد أن راف داوسون نقل العدوى إلى خمسة أفراد من العائلة بشكل مباشر، وربما إلى اثنين آخرين، عمه ريتشارد داوسون وأخيه الصغير جون. من الواضح أن معدل الاحتكاك الأسري كان مرتفعا.
وهكذا عندما وجد ريتشارد داوسون البقع النزفية - تلك الأمارات المرعبة - على صدره، لم يكن هناك من بقي على قيد الحياة سوى ابن أخيه جون وخادمه. ذكرت السجلات القصة المؤثرة الآتية عن ملحمة بطولية لم تلق من يحتفي بها:
نظرا لأنه كان مريضا بالطاعون وكان يدرك أنه من المؤكد أن يموت في ذلك الوقت، نهض من فراشه، وصنع قبره، وجعل ابن أخيه جون داوسون ينثر بعض القش في القبر الذي لم يكن بعيدا عن المنزل، ثم ذهب واستلقى عليه، وهكذا رحل عن هذا العالم، لقد فعل هذا لأنه كان رجلا قويا، وأثقل وزنا من ابن أخيه، وكانت الخادمة الأخرى قادرة على دفنه.
كانت الخادمة آخر من لقي حتفه في هذه العائلة، إلا أنها كانت قد حملت العدوى بالفعل إلى عائلة كلوتون المجاورة، في الوقت الذي كانت أعراض المرض تظهر عليها. ووافت المنية بعد ذلك طفلين والأم مود كلوتون، لكنهم كانوا قد نقلوا العدوى إلى طفل ثالث، وهو آخر من تلقى العدوى في الوباء المحلي بالضيعة الصغيرة.
توضح قصة هذا الوباء المحدود بأبرشية مالبس كيف أنه يمكن للطاعون أن يقفز لمسافة كبيرة من لندن، وهي رحلة لا بد أنها استغرقت عدة أيام سفرا بالجياد. كانت نوبة تفشي الطاعون في مالبس تحت السيطرة، ولم يكن هناك سوى ثلاث عشرة ضحية إجمالا؛ بسبب المساحة الصغيرة للضيعة ووسائل العزل المتبعة هناك.
عاش جون هاندلي في شكلتش، الأبرشية المجاورة لمالبس التي زارها إبان الطاعون الصغير هناك. ووقع ضحية للطاعون أيضا ودفن في الثالث من سبتمبر عام 1625. ومرض ابنه جون (15 عاما) وابنته إليزابيث (19 عاما) في الثالث والعشرين من سبتمبر، ومات جون بعدها بيومين.
ونظرا لأنه لقي حتفه على حين غرة، ولأنه ظهرت البقع الحمراء (أمارات الرب) عليه، افترض أنه مات على إثر الإصابة بالطاعون. وعليه حملته أمه إيلين هاندلي وأخوه غير الشقيق راندل جيلبرت على عربة نقالة إلى الكنيسة. ودفن في فناء الكنيسة، عند طرف برج الكنيسة خارج الممر، دون إقامة المراسم الجنائزية أو قرع الأجراس أو أية مراسم كنسية أخرى.
لقيت إليزابيث هاندلي حتفها بعدها بيومين في السابع والعشرين من سبتمبر.
ولما ظهرت عليها البقع الحمراء وبعض القرح عند إبطها، اشتبه بالمثل في أنها ماتت بسبب الطاعون. وعليه دفنت في مزرعة أمها بالقرب من البستان في الثامن والعشرين من سبتمبر. وفي يوم الاثنين الموافق الثالث من أكتوبر، أخرج راندل جيلبرت المذكور أعلاه أخته غير الشقيقة إليزابيث هاندلي من القبر وحملها على نقالة إلى الكنيسة حيث دفنها بالقرب من أخيها الأصغر جون هاندلي دون أي مراسم كنسية.
دفنت إيلين هاندلي (الأم) في التاسع من أكتوبر عام 1625.
نظرا لأن ولديها لقيا حتفهما وعلى جسديهما بقع حمراء (أمارات الرب)، اشتبه في أنها ماتت بسبب الطاعون؛ لهذا حملها ابنها راندلي جيلبرت على نقالة إلى الكنيسة ووضعها إلى جانب جسدي ولديها جون وإليزابيث هاندلي.
أجبر راندل جيلبرت (البالغ من العمر 28 عاما)، الذي ساعد في دفن هذه العائلة والذي كان «من المفترض أنه جلب هذه المتاعب والمرض إلى أبرشية شكلتش، على ملازمة منزل والدته، حيث مكث هناك تحت المراقبة والحراسة المستمرة ليل نهار، وحيدا لمدة طويلة.» وفي آخر المطاف جرده بعض الجيران وسكان الأبرشية من ملابسه وفحصوه، «فلم تظهر على جسده أي علامات على أية قروح.» لقد نجا من الطاعون وتزوج في العام التالي. (11) حجر صحي ناجح
كانت نوبة تفش حادة للطاعون في لانكشير ويوركشير عام 1631 قد أودت بحياة أعداد كبيرة من البشر، بيد أن مدينة مانشستر نجت تماما؛ نظرا لأن الحانة التي ظهر فيها الطاعون كانت معزولة بالكامل:
في عام 1631، أرسل الرب ملاكه المهلك إلى حانة في مانشستر، فمات ريتشارد مريوت وزوجته، وسيد وسيدة المنزل ، وكل من كان في المنزل أو دخله على مدار أسابيع. أحرقت أو دفنت كافة الأمتعة بالمنزل ... فلم تمس العدوى أي شخص آخر في هذا العام .
كان هذا مثالا على التطبيق الناجح لتدابير الصحة العامة. (12) الأرقام القياسية في العدوى
في بلدة ميرفيلد بغرب يوركشير (حيث ذهبت الأخوات برونتي فيما بعد إلى المدرسة)، لقي 130 شخصا حتفهم على إثر الإصابة بهذا الوباء الذي تفشى عام 1631. يمكن تشكيل صورة عن مسار الأحداث هناك وخطوط انتقال العدوى من سجلات الأبرشية. نرى من جديد أن «جالب العدوى» كان شخصا غريبا، وهي إليزابيث برينس التي أقامت مع الأرملة جانيت فرانس ونقلت إليها العدوى في البداية. بعدها نقلت العدوى إلى خمسة أطفال بالمنزل قبل أن تلقى حتفها، تلك قصة معتادة لبدء الكثير جدا من الأوبئة، ثم نقلت جانيت فرانس العدوى إلى 33 شخصا آخر في تسع عشرة عائلة إبان الأسبوع الأول من فترة نقل العدوى، وهو شيء غير مسبوق بالنسبة لبلدة صغيرة إبان شهر أبريل المعتدل البرودة، ولعلها استمرت في نقل العدوى إلى المزيد من الأفراد. نتساءل بدورنا أي وظيفة هذه التي تجعل هذه الأرملة على احتكاك مع عدد كبير للغاية من العائلات في مثل هذه المدة الزمنية القصيرة، أكانت تعمل في غسل الملابس أم كان لديها عربة لبيع الخضروات في السوق؟ (13) قصة شخصية
كتب ليونارد جيل القصة التالية عام 1687 عندما كان في السابعة والستين من عمره:
ولدت في أبرشية سفينوكس بمقاطعة كنت، وكان لدى والدي، الذي كان يعمل صائغا ... ولدان من زوجة سابقة وثلاثة أبناء وابنة من أمي. وعندما كنت في سن يتراوح بين السادسة عشرة والسابعة عشرة، ذهب أبي وأمي لزيارة صديقة بقرية سنسوم في المقاطعة المذكورة فأصيبا بالعدوى، وسرعان ما مرضت أمي بعد رجوعهما إلى المنزل ولقيت حتفها خلال ستة أيام تقريبا، ولم يخطر على بال أحد أن هذا المرض هو السبب. أقام أبي جنازة عظيمة من أجلها، ووفد إليها أعداد غفيرة من الناس لا يراودهم الخوف من أي شيء، ومع أن العديد من النساء أعددن جثمان أمي للدفن، وبالرغم من الملابس التي أخذت من الغرفة عند وفاة أمي، فإنه لم يصب شخص واحد بالعدوى.
وبعد دفنها، أمضينا جميعا أسبوعا كاملا معا، وتردد الكثير من الناس على منزلنا، وترددنا نحن على منازل جيراننا، إلا إنه في نهاية الأسبوع، وفي خلال يومين، مرض أبي وأخي الأكبر وأختي وأنا أيضا، وفي خلال ثلاثة أيام بعدها مرض أخواي الأصغرين إدوارد وجون، وبالرغم من اعتلالي الشديد، فإن أبي أرسلني إلى السوق كي أشتري أشياء كنا بحاجة إليها، لكن قبل أن أعود إلى المنزل، كان الناس يتحدثون عن الطاعون، وما إن وطئت قدماي عتبة المنزل حتى أمروني بالتزام المنزل، وعينوا حراسة مشددة علينا. كل هذا ولم يصب أي شخص بعدوانا ولم ننقلها لأحد. ونحو اليوم السادس على مرض أفراد عائلتي، لقي ثلاثة منهم حتفهم في غضون ثلاثة ساعات، واحد تلو الآخر، ودفنوا جميعهم في قبر واحد. وبعدها بنحو يومين، مات أخواي الصغيران معا، ودفنا في قبر واحد. كل هذا وأنا طريح الفراش، وكان الحارس يترقب موتي كل ساعة، إلا أن الله شاء أن يحفظني على نحو معجز، بل حتى دون تفشي أي قروح في جسدي. كل ما هنالك أنه كان لدي تورم في المنطقة العليا من الفخذ، وقد استغرق وقتا طويلا قبل أن ينحسر ويختفي. شعرت بإعياء شديد خلال تلك الفترة، وعندما تعافيت، جرى احتجازي مع امرأتين ورجل وطفل لمدة ثلاثة أشهر، ولم يصب أي منهم بالعدوى.
هذه قصة شاهد عيان عن اقتصار الطاعون على أسرة واحدة، الأمر الذي ربما يعود جزئيا إلى سبل العزل القياسية. أدرجنا هذه الرواية بالتحديد لأن ليونارد جيل أصيب بالمرض فعليا لكنه تعافى. هل كان مقاوما للمرض بشكل جزئي؟ (14) الدور الرئيسي للتجارة
كان الموقف في إنجلترا مختلفا اختلافا جوهريا عن الموقف في فرنسا؛ فكل وباء تفشى في إنجلترا حتما بدأ بوصول أحد الأشخاص الحاملين للعدوى على متن قارب قادم من أوروبا القارية، رسا في لندن أو في أحد الموانئ الكثيرة على السواحل الجنوبية والشرقية. وما إن يحكم وباء قبضته في ميناء، فسرعان ما ينطلق المسافرون المصابون حاملين الطاعون في كل أنحاء البلاد. بحلول القرن السابع عشر، ربما تسبب قدوم طاعون واحد في تفشي 25 وباء تابعا.
كما رأينا بالفعل، بعد مضي 18 شهرا أصبحت إنجلترا خالية من الطاعون تماما، إلى أن بدأ كل شيء في الحدوث من جديد لدى وصول حامل العدوى التالي على متن قارب. على الأرجح لم يكن انتقال المرض في اتجاه واحد بالكامل، فلعل الأطقم المصابة بالمرض حملت الطاعون بالمثل في طريق عودتها من إنجلترا إلى أوروبا القارية؛ ومن ثم ساعدت في استمراره هناك.
مرت على إنجلترا سنوات كثيرة في القرنين الرابع عشر والخامس عشر وهي خالية تماما من الطاعون أو لم يكن فيها سوى ميناء واحد مصاب. لكن بحلول منتصف القرن السادس عشر، ومع زيادة التجارة والسفر، كانت هناك أوبئة منتشرة انتشارا واسعا وأكثر وحشية تنطلق كل عام تقريبا من موانئ مختلفة.
بعد وصول الوباء إلى أحد الموانئ، كان ينتشر في أنحاء إنجلترا عن طريق مصابين مسافرين على أقدامهم أو على ظهر الجياد، أو على نحو أقل شيوعا، عن طريق النقل النهري أو الساحلي. وكان ينتقل إلى البلدات القريبة من خلال الانتقالات الداخلية ثم ينتشر على نحو متزايد عبر طرق التجارة الرئيسية. كان يحدث بعض من هذا الانتشار للطاعون عن طريق الحركة التجارية العادية. لكن سرعان ما بات معروفا، ولا سيما في لندن، أن أسلم ردود الأفعال لدى اكتشاف أحد الأوبئة هو الفرار، وهو خيار متاح فقط لموسري الحال وذوي النفوذ، أما الفقراء فلم يكن لديهم بديل سوى المعاناة، وقد كانوا يموتون بالمئات؛ لهذا السبب وصف الطاعون بأنه مرض الفقراء. وبات واضحا أنه من أجل السلامة من الضروري الابتعاد عن لندن مسيرة يوم، مسافة نحو 20 ميلا. وقطعا، حمل الفارون - ولا سيما أولئك الذين لم يغادروا إلا في اللحظات الأخيرة - العدوى معهم انطلاقا من المدينة نحو الخارج في اتجاهات شتى.
ساهمت تجارة الصوف في العصور الوسطى إسهاما كبيرا في التنقل عبر مسافات طويلة في إنجلترا . استمر شحن ونقل الأصواف على مدار السنة على نطاق واسع؛ ومن ثم كان هذا عاملا رئيسيا في نشر الطاعون. كان تجار الصوف والسلع الأخرى المستقلون رحالة وذوي وجهة فردانية في التفكير؛ فقد كان هؤلاء الرجال يسافرون بمفردهم في طلب الماشية والذرة والصوف، وكانوا على استعداد لإهمال عائلاتهم وبيوتهم سعيا وراء مكاسب فردية. كانوا يشترون ويبيعون في الحانات، وهناك كانوا يلتقون تجارا آخرين؛ مما أتاح طريقة مثلى لانتقال عدوى الطاعون بنجاح، وهي التحدث باستفاضة مع السكان المحليين في أجواء مغلقة.
عادة ما كانت تغسل الخراف ويجز صوفها في شهر يونيو، وكان الذي يفعل ذلك في الغالب عمال مأجورون يجولون في أنحاء البلاد، عندئذ يعبأ الصوف ويسلم إلى المشتري، سواء في الحال أو في وقت لاحق. وغالبا ما كان صناع الثياب يأتون ومعهم وسيلة نقل لأخذ الصوف من مربي الماشية، أحيانا على دفعات، مع أنه كان يتم الاستعانة بالحمالين أيضا، وكان صناع الثياب والموزعين إما أن يخزنوا الصوف وإما أن يبيعوه في الحال.
كان يباع كم هائل من الصوف في القرنين السادس عشر والسابع عشر من خلال الأسواق العامة التي كانت تقام خصيصا بصفة أسبوعية في البلدات المصنعة والمقاطعات التي تربي الأغنام لبيع أصوافها. باع التجار الكثير من بضاعتهم بشارع ليدن هول بلندن، الذي لم يكن مجرد سوق وإنما كان أيضا أكبر مستودع للصوف في إنجلترا. وهكذا لأن لندن كانت مركز التجارة، فإنها صارت بكل تأكيد مركز وفيات الطاعون في إنجلترا. (15) المعارض الضخمة
كانت المعارض الضخمة المقامة سنويا وسيلة رئيسية أخرى لنشر الطاعون في إنجلترا، كما كانت في الغالب أحد مصادر جلبه إلى البلاد في المقام الأول. أدركت السلطات هذا، وكانت المعارض تلغى دائما مع أول علامة على ظهور الطاعون. وكانت أهم المعارض تقام جنوب وشرق خط ممتد من مدينة إكزتر إلى مدينة يورك، وكانت تقام على الأنهار القابلة للملاحة أو الطرق المؤدية إلى الموانئ البحرية، أو بالقرب منها.
وصف البروفيسور جيه إف دي شروزبري الصورة بقوله:
كان المعرض الضخم المقام في ستربريدج [في إيست أنجليا]، الذي افتتح في الثامن عشر من سبتمبر، واستمر لثلاثة أسابيع أهم المعارض الإنجليزية، وكان ذائع الصيت بما يكفي لجذب التجار من الكثير من المراكز التجارية الأوروبية. يمكنك وأنت في معرض ستربريدج الهائل أن تجد الزجاج الذي تشتهر به مدينة البندقية، وكتان مدينة بروج، والحديد الإسباني، والقار النرويجي، وفرو الرابطة الهانزية، والقصدير الكورنوالي، والخمر الكريتي، كل هذا للبيع في البقعة البالغ مساحتها نصف ميل مربع المستخدمة على مدار ثلاثة أسابيع كاملة. وإبان معرض ستربريدج، كانت موانئ بليكني، وكولتشيستر، وكينجز لين، وربما نورتش تعج بالسفن الغريبة. كانت المراكب تجلب سلع بلاد الشام من البندقية وسلعا أخرى من بلاد ما وراء البحار.
كانت الموانئ، وبالأخص ميناء لندن، هي بؤرة التركيز، فكما هو الحال في بقية أوروبا، كانت التجارة هي محرك نشر الطاعون في أنحاء إنجلترا.
لأكثر من 200 عام قاوم الأفراد في كل أنحاء أوروبا وفيات الطاعون الهائلة، وقد صمدوا صمودا مثمرا؛ إذ استمرت أعداد السكان في النمو، وإن كان نموا بطيئا للغاية، إلا أن العدو كان يحكم قبضته شيئا فشيئا، فكما رأينا؛ نتيجة للتجارة المتزايدة باستمرار، استشرى الطاعون على نطاق أوسع، واجتاح أماكن أكثر وارتفعت أعداد الوفيات على نحو هائل. منذ نهاية القرن السادس عشر وعلى مدار نحو 80 عاما، كان عدد سكان أوروبا (وبالأخص في إنجلترا حيث تتوافر إحصائيات أكثر تفصيلا) ثابتا، بل انخفض انخفاضا طفيفا. كان الطاعون يحرز انتصارا تلو الآخر، ولو قدر لهذا الاستمرار لاندثرت حضارتنا.
الفصل السادس
صورة وباء
عرفنا المزيد والمزيد عن الطاعون وبدأت الأدلة تتراكم. وقد انبثقت شيئا فشيئا صورة أكثر وضوحا حول خصائصه، بيد أن هذا نبع من تشكيلة هائلة من المصادر المتناثرة والمتبعثرة من كافة أنحاء أوروبا، التي اقترنت بروايات شهود العيان المختلفة. لقد عقدنا العزم على العودة إلى تحليلنا المفصل لسجلات أبرشية بنريث لنرسم صورة أحد الأوبئة التي تعكس تماما الحال في البلدات الإقليمية في المملكة المتحدة، وربما في أنحاء أوروبا كلها أيضا في القرنين السادس عشر والسابع عشر. لطالما تكرر كثيرا هذا النمط من الأحداث وقصص الرعب والفجيعة والبطولة.
لم يكن الطاعون الذي تفشى في بنريث عام 1597، والذي تناولناه في المقدمة، حدثا منفصلا؛ فقد كان واحدا من سلسلة أوبئة اجتاحت شمال إنجلترا وكانت تنتقل على نحو متسلسل من إحدى بلدات السوق إلى البلدة التالية. لقد قررنا دراسة هذه النوبة الكبيرة، بعيدا عن لندن، بالتفصيل كي نميط اللثام بالضبط عن كيفية انتشاره ومن أين جاء. بنهاية القرن السادس عشر كانت جميع بلدان أوروبا قد عايشت الطاعون لمدة 250 عاما، وكانت في حالة رعب مستمر من أنه يوما ما سوف يفد إليهم مسافر مصاب، أو أن أحد أبنائهم سوف يعود من مكان ضربه الطاعون. وإذا حدث السيناريو الأسوأ، تجاوبوا بصرامة وبطريقة أكثر تنظيما من الهلع الأهوج الذي استقبلوا به الموت الأسود.
تذكرنا أن سجلات أبرشية بنريث قد ذكرت أنه ظهر «طاعون مصحوب بقرح» في نيوكاسل ودرم ودارلينجتون عام 1597، فكان من الواضح أن خطوتنا التالية ستكون فحص سجلات ومحفوظات الأماكن المذكورة لنرى كيف تصرفت إبان الطاعون. (1) بداية الرعب
كانت نهاية القرن السادس عشر فترة ضنك ومجاعة عظيمة في شمال إنجلترا، وسجلت وفيات هائلة في العديد من الأبرشيات. كتب رئيس رهبان كاتدرائية درم في يناير عام 1597 يقول:
زحف تأثير العوز والقحل إلى مقاطعات نورثمبرلاند وويستمورلاند وكومبرلاند، وبلغت ندرة الطعام الحد الذي اضطر معه الأفراد إلى السفر من كارلايل إلى درم، مسافة 60 ميلا (100 كيلومترات) مجتازين بعضا من أسوأ القرى الريفية في المملكة؛ من أجل شراء الخبز.
أول أنباء وردت عن ظهور المرض كانت في الميناء البحري لمدينة نيوكاسل في شمال شرق إنجلترا؛ مما يشير إلى أن الطاعون وصل عبر بحر الشمال من أوروبا القارية. إبان صيف عام 1597، اجتاح الطاعون نيوكاسل، وإن كان لا يوجد أرقام بإجمالي عدد الوفيات.
في السادس والعشرين من مايو عام 1597 اشتكى رئيس كاتدرائية درم مرة أخرى من أنه يوجد قحط كبير في درم، في بعض الأيام كان يصل عدد الأحصنة المحملة بالذرة المستوردة من الخارج في نيوكاسل إلى 500 حصان، مع أن هذه البلدة وبلدة جيتشيد تفشى فيهما الطاعون على نحو خطير. وفي السابع عشر من سبتمبر، أخبر اللورد بيرلي، وزير الدولة، أن الطاعون استفحل في نيوكاسل؛ ومن ثم «لا يمكن أن يقترب مفوضو الحكومة بعد من هذا المكان» (في حقيقة الأمر، لم تكن الجلسات تعقد على الإطلاق بسبب الطاعون في نيوكاسل ودرم). كان التجار الأجانب يبيعون الذرة بسعر مرتفع إلى أن طرح بعض أعضاء مجلس المدينة مخزونا للبيع بسعر أقل بمقدار شلن لكل بوشل (المكيال الإنجليزي للحبوب).
الانتشار الجغرافي للطاعون من شمال شرق إلى شمال غرب إنجلترا عبر شعاب جبال بيناينز، 1597-1598. يحيط الخط المنقط بيابسة ممتدة على مساحة 500 متر. يوضح الخط المكون من شرط الطريق المحتمل الذي سلكه أندرو هوجسون.
تحرك الطاعون شمالا عبر الطريق الشمالي الكبير (الذي أطلق عليه لاحقا إيه 1)، الذي يمتد إلى غرب جبال بيناينز وبلغ مدينة درم نحو منتصف صيف عام 1597، وبحلول فصل الخريف كانت السجلات تحوي ما يزيد على الألف حالة وفاة. في تلك الأثناء كانت العدوى تقفز من مكان إلى آخر من جديد، فانتقلت نحو الجنوب وظهرت في الوقت نفسه في بلدة دارلينجتون بمقاطعة درم وريتشموند في صيف عام 1597.
كانت ريتشموند بلدة في القسم الشمالي من يوركشير تقام فيها سوق مركزية، وقد عانى أهلها مدة طويلة بلغت 16 شهرا. كانت أعداد الوفيات النهائية ضخمة للغاية لدرجة أن فناء الكنيسة لم يكف، وتعين دفن الكثير من الموتى في أراض مؤقتة في كاسل يارد وكلاركس جرين. خمد الوباء في فصل الخريف وترنح عبر الشتاء معاودا الظهور في الربيع التالي مع بلوغ الوفيات أوجها في صيف عام 1598، وأخيرا زال بحلول شهر ديسمبر. (2) وصول الطاعون إلى بنريث
في الوقت نفسه لم يكن المرض ثابتا في مكانه، وإنما سافر بطول طريق التجارة عبر جبال البيناينز من الشرق إلى الغرب، عن طريق الشعاب التي تربط منطقة ستينمور وأراضي بوز مور المستنقعية، مستشريا في بنريث. كانت البلدة قد عانت من مجاعة شنيعة عام 1596 مات على إثرها 153 شخصا، ولم يكن المجتمع الصغير قد تعافى عندما تلقى ضربة مدمرة ثانية بوصول الطاعون في العام التالي. كما رأينا، جلب الطاعون أندور هوجسون الذي وفد على ما يبدو من ريتشموند أو ربما من مكان أبعد من ذلك مثل دارلينجتون أو درم، حيث كان الطاعون مستفحلا.
يشير بوضوح القيد الذي أعقب قيد دفن هوجسون في السجلات إلى أن الكاهن وسكان البلدة أدركوا في الحال من العلامات التي ظهرت على الرجل الذي ينازع الموت أنه ثمة ابتلاء طاعون بين أيديهم، وقد كانوا على صواب. لا بد أن الذعر والهلع انتشرا سريعا في أنحاء البلدة، ولا بد أنهم انتظروا بأنفاس لاهثة ليروا ما إذا كانت توجد أية حالات إصابة أخرى. لعل الحظ كان سيحالفهم وكانوا سينجون من وباء مكتمل الأطوار.
لم يحدث شيء على مدار ثلاثة أسابيع، وكان الأمل قد بدأ يدب في قلوبهم، إلا أن إليزابيث ريلتون ماتت بعدها وواجه المجتمع قدرا محتوما، ففي تعاقب سريع أصيب أفراد أسرتها؛ مما يشير إلى معدل احتكاك مرتفع داخل الأسرة.
وصل الوباء إلى قمة محدودة في شهري نوفمبر وديسمبر، مع أن تسع عائلات فقط هم الذين أصيبوا إجمالا. ومنذ ذلك الحين فصاعدا، اختفى تقريبا الطاعون إبان برودة الشتاء الشمالي، ولم تحدث أية وفيات بسبب الطاعون في شهر يناير، وحدثت حالة وفاة واحدة فقط في فبراير من عام 1598.
إلا أن نوبة الطاعون انفجرت مجددا خلال الظروف المناخية في شهر أبريل الأكثر دفئا وارتفع عدد الوفيات اليومي على نحو ثابت، بالغا أقصى معدلاته في يوليو قبل أن يخبو شيئا فشيئا. تعين تخصيص مدفن مؤقت على التلة إبان فوضى الصيف ودفن 213 جثمانا هناك، ودفن البعض في فناء مدرسة القواعد النحوية، والبعض الآخر في الحدائق الخاصة بمنازلهم. بلغ عدد الوفيات النهائي نحو 640 شخصا على الأقل، وهو ما يعادل أكثر من نصف السكان.
قدم فيرنس في كتابه «في تاريخ بنريث منذ أقدم السجلات حتى الوقت الحاضر» قصة الأحداث التي وقعت إبان الطاعون مع أنها معتمدة على الأرجح على روايات شخصية غير موثوق بها.
لا يمكن تخيل الحالة الفعلية لبنريث إبان هذا الوقت المرعب. لم تسجل ولا حالة زواج واحدة إبان الصيف بأكمله. تجنب الناس تماما المنازل التي يفترض أن بها عدوى، وعانى قاطنوها حتى الموت دون تلقي مساعدة. كاد الناس يخشون حتى من نظرات بعضهم بعضا. وكان للمساء - الوقت الذي كانت تحدث فيه عموما هجمات هذا المرض - مصدر رعب ووحشة إبان قدوم هذا الطاعون. كانت النوبة أو الفترة الأولى التي تضمنت المساء والليلة التالية، مميتة عادة. وكان اليومان الثالث والخامس في المجمل أخطر يومين، وإذا عاش الشخص لليوم الخامس واكتملت أطوار المرض، فعندئذ كان ينظر إلى المريض بأنه قد تجاوز مرحلة الخطر تقريبا. لم تكن كل هذه الملابسات معروفة جيدا إلا في الأماكن التي تفشى فيها الطاعون لبعض الوقت. جرد المشهد البائس والجنوني الذي صاحب المرض في مرحلته الأولى - التي كان ينبغي أن تثير الشفقة لحال المصاب - أولئك الذين شاءت الظروف أن يلتقوا بهؤلاء المرضى من المشاعر الإنسانية. وكان الترنح الناتج عن خور القوة الشديد بمنزلة تحذير لجار المصاب ليفر هاربا. كان المصاب الفقير يلجأ إلى منزله - ربما كان آخر أفراد أسرته - وكانت اللامبالاة بالتعافي وحدها، التي كانت تعد أحد أكثر الأعراض غير المحبذة، تخفف نوبات الهذيان الناجمة عن حالته اليائسة والموحشة. (3) تدابير الصحة العامة
وضعت سياسة عزل جزئي قيد التنفيذ إبان الوباء المتفشي في بنريث، فلم يكن مسموحا للمزارعين من خارج البلدة (وهو أمر واضح المغزى) الدخول أثناء تفشي الطاعون؛ إذ أوقفت جميع الأسواق التي كانت تقام بانتظام وأقيم بدلا منها أسواق مؤقتة في الضواحي. أورد فيرنس أن «قاطني الوديان، الذين كانت ترتعد فرائصهم قطعا أكثر من غيرهم، لم يتجاوزا قرية بولي.» (التي كانت تبعد نحو أربعة أميال). وكان سكان البلدة يدفعون نقود مشترياتهم من خلال رمي العملات في أحجار طاعون مجوفة تحتوي على مادة خام، من المفترض أنها سائل مطهر، وفي الغالب كانت خلا. انتشر استخدام أحجار الطاعون إبان الوباء في إنجلترا ولا يزال أحدها محفوظا في أحد الحقول في بنريث. بلا ريب، يستدل من ذلك على أن الجميع اعتقدوا أن عدوى الطاعون تنتقل من خلال الاحتكاك المباشر بين الأفراد. (4) الضحايا يتكلمون
عدنا مرة أخرى إلى أرشيف مكتب السجلات بكارلايل للعثور على وجهة نظر أخرى عن الأحداث إبان الأزمة في بنريث. كانت سو تستعين في هذه الحادثة بمعلومات من مصادرها الأصلية مباشرة حصلت عليها من فحص وصايا الأفراد الذين ماتوا في الوباء.
إن قراءة وصايا أولئك الذين ماتوا خلال الطاعون تتيح فهما عميقا لسرعة زحف المرض المدمرة، كما أنها تميط اللثام بالأخص عن مآسي العائلات التي ضربها الطاعون والتي واجهت القدر بعزة وجلد.
طيلة كل هذا البؤس والخوف والمعاناة، واصل المواطنون حياتهم اليومية قدر استطاعتهم، فبالرغم من حقيقة أنهم كانوا على مشارف مواجهة موت مؤلم، فإن أولئك الرجال والنساء حرروا وصاياهم بكل دقة، مانحين اهتماما خاصا إلى حضانة أبنائهم لو قدر لهم النجاة (مع أنهم قلما نجوا).
ولم ينسوا في وصاياهم فقراء الأبرشية، فكثيرا ما كانوا يتركون لهم كمية من أحد أنواع الشعير الرديئة، وكان عدد منهم يترك النقود من أجل بناء وإصلاح الكباري في البلدة، وكثيرون ورثوا لآخرين ممتلكات تركها لهم آباؤهم المتوفون بالفعل خلال الطاعون، لكنهم لم يكونوا قد تسلموها منهم بعد.
وحدهم فقط من يمتلكون مقتنيات ثمينة هم الذين حرروا وصايا إبان الطاعون. وكان جميع أعضاء البلدة موسري الحال - الذين كانوا في أغلبهم تجارا ناجحين - تجمعهم روابط قوية بعضهم مع بعض وبينهم وبين شهودهم. وكانوا يمثلون مجموعة منفصلة عن طبقة الأعيان، الذين لم يمت منهم سوى ثلاثة أفراد في نوبة الطاعون؛ فقد ولى معظمهم الأدبار بمجرد أن عاود الطاعون الظهور في الربيع. إليكم مقتطفات من بعض الوصايا التي حررها أولئك الذين ماتوا على إثر الإصابة بالطاعون.
تزوج مايكل دوبسون البالغ من العمر 20 عاما في العشرين من يوليو عام 1598، إلا أنه لم ينعم بحياته الزوجية طويلا، فحرر وصيته بعد مرور شهر واحد على زواجه في السابع والعشرين من أغسطس 1598، ودفن بعدها بخمسة أيام في الأول من سبتمبر. ترك دوبسون لزوجته إيزابيل (التي نجت من الطاعون) «جميع ما كان بحوزته من ممتلكات ومخازن غلال وأراض وعقارات عقب وفاته».
حرر جون ستينسون وصيته في الثلاثين من أغسطس عام 1598 ودفن بعدها بثلاثة أيام في الثاني من سبتمبر. وقد ترك المنزل بأكمله - الذي كان ملكا لأبيه - إضافة إلى ملحقاته، لابنه الأكبر توماس (الذي نجا على الأرجح من الطاعون) وقد آلت بقية ممتلكاته المنقولة وغير المنقولة لابنه ريتشارد وابنته مارجريت. الشيء المفجع أن ريتشارد دفن بعد يومين من دفن أبيه، بينما ظلت مارجريت على قيد الحياة لفترة أطول قليلا؛ إذ لقيت حتفها على إثر الإصابة بالطاعون بعدها بنحو ستة أسابيع. وترك جزء صغير من التركة لفقراء الأبرشية، وهو ستة أرباع بوشل من دقيق الشوفان.
ضرب الطاعون عائلة آرثر جيبسون بقوة؛ إذ فقد ابنته إليزابيث في العاشر من يوليو 1598، قبل أن يضرب الطاعون عائلته مرة أخرى بعدها بنحو عشرة أسابيع، ودفنت إليزابيث على التل، ودفن أحد أبنائه في التاسع عشر من سبتمبر 1598 وحرر آرثر وصيته بعدها بيومين في الحادي والعشرين من سبتمبر. لقيت زوجته حتفها في اليوم التالي وكان لديه طفلة أخرى (آن البالغة من العمر تسع سنوات) وافتها المنية في الرابع والعشرين من سبتمبر. تمنى آرثر في وصيته قائلا:
أود أن يدفن جثماني بجوار جثامين زوجتي وأولادي، ومن ثم عندما يموت كثيرون منا في هذا الوقت، سوف يدفنون بداخل فناء كنيسة أبرشية بنريث ... تئول جميع أراضي وممتلكاتي إلى ابني الأكبر جون الذي نجا من الطاعون، ربما كان يعيش في الأرض الخاصة به بعيدا عن المنزل ... أهب جين ابنتي الكبرى البقرة الرقطاء، وأيضا إذا توفي جميع أبنائي باستثنائها، أهبها عشرين من الأغنام.
توصف جين بأنها خادمة ولعلها كانت تعيش بعيدا عن المنزل. لقيت جين حتفها عام 1606 في عمر السادسة والعشرين.
كتب روبرت هولم وصيته في الخامس والعشرين من سبتمبر عام 1598 ودفن في الثالث من أكتوبر. إليكم بعض المقتطفات:
أهب وأترك ستة شلنات وأربعة بنسات من أجل بناية ساندجيت بريدج، وكذلك أربعة شلنات وثلاثة بنسات مدين بهما لويليام بومان لي، وثلاثة شلنات وأربعة بنسات من أجل صيانة كوبري ميدلجيت بريدج.
تئول ملكية كافة أراضي ومنازلي وأرباحي وممتلكاتي إلى ابنتي مارجريت وفرانسيس ... لقد نجوتا من الطاعون إلا أنهما كانتا في عمر الثالثة والعشرين والخامسة والعشرين، وربما غادرتا المنزل.
أهب زوجتي أجنيس بقرتين من أسمن أبقاري. (كانت أجنيس زوجته الثانية وغالبا نجت من الطاعون.)
حرر ستيفن جاكسون وصيته في الثالث من يوليو عام 1598 إلا أنه لم يلق حتفه حتى الأول من أغسطس، فمن الواضح أنه بادر بالتعبير عن أمانيه بمجرد ظهور الطاعون بين أفراد عائلته لا عندما ظهرت لديه الأعراض أول ما ظهرت: دفن ولده البالغ من العمر ثلاثة عشر عاما في الثالث أو الخامس من يوليو ودفنت زوجته دوروثي في الخامس عشر من يوليو، أي قبل أن يلقى هو حتفه بنحو 17 يوما، ونجا ابنهما جون. ولم يأت ستيفن على ذكر زوجته في الوصية، فمن الواضح أنه افترض أنها هالكة لا محالة. إذا كانت قد أظهرت الأعراض المميزة للطاعون في الثالث من يوليو، فإن معاناتها استمرت 12 يوما.
حررت إيزابيل نيلسون العزباء وصيتها في الثالث والعشرين من يوليو عام 1598 ودفنت في اليوم التالي. لقد وهبت وتركت كل نصيبها في التركة المستحق لها بموجب الشهادة والوصية الأخيرة لوالدها الراحل ستيفن نيلسون. (من الواضح أنها لم تكن قد تسلمت إرثها بعد.)
حرر روبرت جيبون وصيته في الأول من أكتوبر عام 1598 ودفن بعدها بأربعة أيام. وقد كتب المطالب التالية:
وصيتي إلى أخوي جيلبرت جيبون وويليام جيبون أن يتكفلا برعاية وتعليم ابني أنطوني (البالغ من العمر ثلاث سنوات) وأعهد إليهما بمنزلي وفناء منزلي وملحقاته، إضافة إلى نصيب ابني أنطوني لعدم بلوغه السن القانونية (أي إلى أن يبلغ سن الرشد). وأوصي بأن يكون أنطوني هو المنفذ لوصيتي الأخيرة، وإذا وافتني المنية أنا وابني تئول كافة ممتلكاتي إلى أخوي ويليام وجيلبرت.
دفن روبرت جيبون وزوجته وابنهما الصغير أنطوني جميعهم في اليوم نفسه، في الخامس من أكتوبر 1598. ولم تكتب النجاة لأحد من العائلة.
حرر جيفري ستيفنسون وصيته في العشرين من أكتوبر ، في نفس اليوم الذي دفنت فيه ابنته إيزابيل، ولقي حتفه بعدها بيومين. وقد وهب كل أراضيه ومروجه وكل ما يمكن أن يورث من مقتنيات وجميع ممتلكاته المنقولة وغير المنقولة إلى ابنته إليزابيث. وقد نصبها منفذا للوصية وعهد بمصاريف ابنته إليزابيث والوصاية عليها إلى أخويه أجنس ستيفنسون وجون ستيفنسون إلى أن تبلغ السن القانونية. قدم جيفري المزيد من التوجيهات في حال وفاة ابنته إليزابيث، ووزع حصص إرث صغيرة على النحو التالي؛ إذ كتب في وصيته يقول: «أهب سوزان إمرسون أفضل معطف وحذاء لدى زوجتي، وأهب مارجريت تود أفضل قبعة لدى زوجتي.»
دفنت إليزابيث ستيفنسون في الثالث والعشرين من أكتوبر، في اليوم التالي لدفن والدها. ولم يأت جيفري على ذكر زوجته جانيت في وصيته، بل وهب بعضا من أفضل ثيابها، مع أنها لم تكن قد دفنت حتى الرابع والعشرين من أكتوبر. (هل ظهرت لديها بالفعل أعراض المرض في حين لم تظهر الأعراض على ابنتها إليزابيث، مع أنها ماتت سريعا؟)
حررت إليزابيث براون، وهي أرملة، وصيتها في التاسع والعشرين من مايو 1598. من الواضح أنها كانت تعاني من الطاعون، وكانت عائلة كروسبي تعتني بها؛ لأنها كتبت أن توماس كروسبي المذكور وزوجته سوف يتوليان رعايتها خلال محنتها. تركت إليزابيث الجزء الأكبر من مقتنياتها لعائلة كروسبي، إلا أنها وهبت إلينور كروس، قطعة ملابس واحدة، وملابس ابنتها جين، كما وهبت إليزابيث كروسبي حقيبة مصنوعة من الكتان مدرجة في البيان التفصيلي بقيمة ثمانية شلنات وأربعة بنسات. وقد نجا كل أفراد عائلة كروسبي الذين كانوا قد تولوا رعايتها من الطاعون.
حرر توماس ساتون، حائك الثياب، وصيته في تاريخ غير معروف ودفن في الثاني والعشرين من يوليو عام 1598. من الواضح أنه فطن إلى أن الطاعون قد يضرب زوجته، مع أنها في حقيقة الأمر لم تدفن إلا بعد وفاته بشهر في الثاني والعشرين من أغسطس. وقد وزع حصص الميراث التالية:
أهب إلى فقراء الأبرشية 10 شلنات ولمبنى ساندجيت بريدج 5 شلنات في أي وقت.
أهب ابني توماس ساتون ... منزلي في بنريث عقب وفاة زوجتي مابيل، وأهبها إيجار نصف قطعة الأرض التي أمتلكها.
أهب جون ساتون، الابن الأكبر لأخي جون، سيفي الفولاذي وسهامي التي استخدمتها في خدمة الأمير.
أما عن بقية أقواسي فأترك قوسي الثمين لجون نجل جون تيرنر مع 12 حربة وإلى ... جعبة سهامي بكل ما فيها من أسهم. وإلى ريتشارد سيل ... صهري، معطفي الأزرق الأنيق وصدرية حفل زفافي، وإلى أخي ... حلتي المصنوعة من الجلد.
أترك لروبرت ويلسون قوسي المصنوع من جلد النعاج، بالإضافة إلى سهام ورأس حربة ... وحربة. وإذا ترأف الله علي وعلى زوجتي أعطي روبرت المذكور صندوقا.
وأترك لزوجتي الصندوق الكبير وما به من دقيق الشوفان، وإذا أخذ الله روحها، يباع الصندوق والشوفان لتسديد ما علي من ديون.
وإذا شاء الله أن يقبض روحي أنا وزوجتي في هذا الابتلاء ... يقسم أصدقاؤها وأصدقائي بقية أمتعتي بالتساوي فيما بينهم.
أنوط إلى مابيل زوجتي بتنفيذ وصيتي.
أعطي لهنري إيري إذا مات كلانا ربع بوشل من الشعير وملء خمس عربات من فحم المستنقعات. (5) لماذا نجا البعض من العدوى؟
من المؤكد أنه لم يمت كل من اتصل بشخص مصاب؛ فقد رأينا إليزابيث براون تلك الأرملة التي تولت عائلة كروسبي رعايتها في أيامها الأخيرة، ونجوا جميعا. وثمة الكثير من الحالات التي نجا فيها من الطاعون فرد أو أكثر من أفراد العائلة؛ في الغالب كان طفلا صغيرا. ووجدنا أن كثيرين ممن شهدوا على وصية أحد ضحايا الطاعون الذين كانوا يعانون سكرات الموت نجوا كذلك حتى لو كان الطاعون قد أصاب عائلاتهم هم أيضا. لم يكن يوجد على ما يبدو أية صعوبة في إيجاد شخص لديه الاستعداد للتعرض للعدوى أثناء الشهادة على الوصية، بل توفر للبعض أكثر من ستة شهود. يشير هذا إلى أن بعض الأشخاص كانت لديهم مقاومة للعدوى في هذا الوباء، وهي نقطة أشرنا إليها في روايات الموت الأسود والطواعين الأخرى.
مع أننا وجدنا أمثلة على أشخاص انتقلت إليهم العدوى بلا شك من شخص على فراش الموت، فإننا رأينا أنه عادة ما كان الشخص أقل قدرة على نقل العدوى بمجرد ظهور الأعراض. ربما يفسر هذا نجاة الكثير من الشهود.
وماذا عن الناجين في بنريث؟ على غرار الناجين من الموت الأسود الأول، عاود المجتمع الصغير الوقوف على قدميه سريعا جدا؛ إذ أقيمت الأسواق مرة أخرى ووفد الأفراد من المقاطعات المجاورة ليستحوذوا على الأراضي والمنازل الشاغرة ويغتنموا جميع الفرص الوظيفية. أظهرت الأبحاث التاريخية التي أجرتها سو سكوت أن المجتمع صار كأنه بلدة حدودية وارتفعت معدلات النغولة ارتفاعا هائلا. من يلومهم على ضرب الحيطة بعرض الحائط وهم الذين يناضلون من أجل إعادة بناء حيواتهم؟
اليوم تبرز المدافن المؤقتة على تلة بنريث على خريطة هيئة المسح البريطانية، إلا أنها مغطاة الآن بمنطقة سكنية. من السهل تخيل أن أشباح أولئك الذين ماتوا إبان ابتلاء الطاعون لا تزال تحوم هناك. (6) انتشار الوباء في أنحاء شمال غرب إنجلترا
كما رأينا من قبل، انتشر المرض بسرعة كبيرة من بنريث إلى كارلايل، حيث اتخذت السلطات المدنية تدابير في الصحة العامة أكثر صرامة. من الواضح أنه بحلول عام 1597 كانت حتى البلدات الريفية النائية على دراية بما ينبغي فعله عندما ضربها الطاعون. سجل ما يلي في أحد لقاءات مجلس المدينة:
في اليوم الثالث من نوفمبر 1597، رأت الجهات المختصة أنه ينبغي حصر المرض في هذه المدينة بغية تجنب المزيد من التفشي لعدوى مرض الطاعون المشتبه في ظهوره هناك حينها، إن كانت هذه مشيئة الله كي يبارك مساعيهم الحذرة هناك.
كانت المنازل المصابة تشمع، وكانت ترتب عملية إمداد قاطنيها بالمؤن، وكانت تتخذ ترتيبات ممنهجة لإزالة الجثث والتخلص منها، وكان رجال أمناء محنكون يزورونهم يوميا لاكتشاف حالات مرضية.
فرض أحد القرارات التي اتخذت جمع تبرعات أسبوعية من كل شارع من أجل تخفيف معاناة كل مصاب فقير. من إجمالي 209 جنيهات إسترلينية و9 شلنات و10 بنسات، كان المبلغ الذي تبرع به المواطنون أنفسهم 14 جنيها إسترلينيا و4 شلنات و10 بنسات فقط، أما المبلغ الأكبر فقد جاء من الصندوق العمومي ومن تبرعات قدمها العديد من أفراد الطبقة العليا. كان الفقراء يتلقون الرعاية دون مقابل أو تكبد نفقات العلاج، إلا أن أولئك الذين كانوا في مستوى يسمح لهم بدفع تكاليف العلاج كان من المتوقع منهم فعل ذلك.
وضعت بوابات المدينة تحت حراسة رجال أمناء يتعين عليهم منع دخول أي شخص معروف بأنه مصاب أو يشتبه في إصابته أو جاء من أي مكان يعتقد أن العدوى قد أصابته، وكان «الأجانب» والشحاذون المتشردون يطردون من المدينة إبان ابتلاءات الطاعون، ولم يكن مسموحا لأحد الدخول دون تصريح من المسئول القضائي بالمدينة، وكانت الحركة بداخل المدينة نفسها محدودة أيضا.
كانت الطبيعة المعدية للمرض مفهومة تماما، وكانت المنازل المصابة مميزة كالعادة بصليب أحمر، «وتظل هكذا إلى أن تفتح مرة أخرى بموجب أمر قانوني». حددت فترة الحجر الصحي بأربعين يوما (كالمعتاد). كان أهل كارلايل على دراية بكل ما يتعلق بالطاعون. لقد أدركوا المخاطر المقترنة بوصول الغرباء واتخذوا تدابير وقائية سليمة لتقليل انتشار المرض بأقصى درجة ممكنة، مثل عزل المصابين في منازلهم.
أجريت الترتيبات اللازمة لدفع رواتب المسئولين وخدام الكنيسة وحاملي الجثث ومتفقدي الجثث، وكان متفقدو الجثث يتقاضون على ما يبدو تعريفة موحدة مقدارها 10 شلنات في الأسبوع. وكان يتقاضى مبلغا مماثلا أولئك الذين كانوا ينظفون المنازل التي مات جميع قاطنيها أو فروا إلى الحقول حفاظا على سلامتهم. كانت أيضا تقدم معونة للناجين من الفقراء، مع أنهم كانوا في حالة اتصال يومي مع المرضى، كما كانت تقدم لأولئك المتعافين من الطاعون.
يعزز هذا استنتاجنا المذكور سابقا بأنه ليس كل من كانوا على احتكاك بالمصابين لقوا حتفهم، فهل كانت لديهم مقاومة للعدوى؟ يشير هذا أيضا إلى أن التعافي من هذا المرض لم يكن مستحيلا.
لا يعرف متى بدأت ممارسة نقل المصابين إلى بيوت الطاعون (التي كانت بمنزلة مراكز عزل بدائية) في كارلايل، بيد أن الممتلكات كانت تنتزع للتعامل مع الطوارئ، وسرعان ما بنيت العديد من مستشفيات العزل خارج أسوار المدينة. وكانت تنفذ أوامر صارمة بشأن دفن الموتى: كانت توفر نعوش خاصة لحمل الجثث، التي كان يتعين دفنها بين الساعة العاشرة صباحا والرابعة مساء. لم يكن ينقل جثمان إلى أن يعلن قارع الأجراس أنه جرى تجهيز القبر، وكان الشماس يسير أمام حاملي الجثمان ليعظ الناس وهو سائر.
ضرب الطاعون كيندال أول ما ضربها في نفس اليوم الذي ظهر فيه في كارلايل. لا تتوفر تفاصيل كثيرة عن الوباء هناك نظرا لأن سجلات الأبرشية غير مكتملة، لكن من الواضح أن نوبة التفشي في كيندال كانت عنيفة. في تلك الأثناء، توقفت أقسام وثائق التعميد والزواج والدفن من السجلات في الصيف، ولم تستأنف حتى وقت عيد الميلاد. كانت مدة هذه الفجوة خمسة أشهر، وقبل هذه الفجوة ببضعة أشهر، كان هناك بعض أقياد الدفن المميز إلى جانبها في الهامش بحرف
أو
(الحرف الأول أو الحروف الثلاثة الأولى من كلمة طاعون،
plague ، بالإنجليزية).
أثناء الطاعون كان أهل البلدة يأتون بالطعام إلى كونيبدس، حصن على سفح جبل هاي، ويتركونه لسكان كيندال «حيث كان هذا احتكاكهم الوحيد أثناء تلك الفترة المدمرة.»
لم نعثر على أية سجلات للطاعون المتفشي في كزيك بشمال بحيرة ديستريكت، بيد أن بارنز، وهو مؤرخ محلي، حكى ما يلي عام 1891:
كان هناك عرف في كزيك أنه متى هاج الطاعون، ولم تعقد الأسواق خشية العدوى، كان أهل الوديان يأتون بغزلهم ونسيجهم إلى حجر كبير، يكون واضحا وضوح الشمس على إحدى الروابي المنخفضة لجبل أرمبوث، وهناك يلتقون بصفة دورية لمزاولة المعاملات التجارية مع التجار. ولا يزال يطلق على هذا الحجر اسم «حجر النسيج». يقول لي السيد جيه فيشر من قرية كروستويت أنه سمع العجائز يقولون إنه متى ظهر طاعون في كزيك، كان أهل البلدة يفدون إلى نبع «كادي بيك»، لكنهم لا يعبرون الجدول الصغير. كان أهل كزيك يضعون النقود في الماء ثم يأخذها التجار الذين يضعون لهم منتجاتهم على الأرض ليأخذوها مقابل ما دفعوا من نقود.
كانت الأوبئة الكبيرة تتوغل فقط في بلدات ومدن الأسواق الكبيرة. أظهر تحليل السجلات المتاحة لأبرشيات وادي آيدن الصغيرة أنه لم تسجل حالات دفن على إثر الإصابة بالطاعون إلا في أماكن معدودات، وفي بعض الحالات، بلغ إجمالي حالات الدفن أقل من اثنتي عشرة حالة. أكد هذا اعتقادنا بأن نوبة التفشي مكتملة الأطوار لهذا المرض لم تكن تحدث إلا في مجتمعات فوق حد أدنى لحجم معين، مثل بلدات ومدن الأسواق التي كانت مركزا للتجارة المحلية والتي كان يزورها بانتظام الرعاة وتجار الصوف. كان الصوف، السيئ الجودة على نحو واضح، أحد الصادرات المهمة التي تصنع في وادي آيدن.
في ووركوب (وهي قرية تبعد 15 ميلا أو 23 كيلومترا، جنوب شرق بنريث)، بدا أن المرض مقصور على جزء واحد من الأبرشية، وعلى عائلتين فحسب؛ فقد قضى آدم موس وولداه نحبهم على إثر الإصابة بالطاعون «كما ظن الناس» في التاسع عشر من أكتوبر 1597، وفي الرابع من نوفمبر، دفنت مارجريت موس وأجنس لانكستر في حوش محاط بدير يقع في بلاتارين. حدثت حالات الدفن التالية في الخامس والعشرين من مايو 1598 (من المفترض أنها نوبة تفش جديدة)، عندما لقي ريتشارد لانكستر وزوجته «حتفيهما في حالة يرثى لها بسبب الطاعون ودفنا بفنائهما في بلاتارين على ما يعتقد.» ذكر قيد آخر في السادس من يونيو 1598: «وافت المنية توماس بن ريتشارد لانكستر من قرية بلاتارين وحرق مخزن الغلال الذي توفي فيه ودفن جثمانه بعد ذلك.» ومع أن الطاعون لم يذكر كسبب للوفاة، فإن حقيقة أن التطهير باستخدام النيران كان يعد ضرورة تشير إلى وجود مرض شديد العدوى يرتعد منه الناس بشدة.
تذكر سجلات الأبرشية في بنريث أن الطاعون ضرب أيضا بلدة أبلبي الواقعة عند الطرف الشمالي من وادي آيدن، ومن إدراجه بجانب كيندال وكارلايل نستنتج أن تلك كانت هجمة شرسة للطاعون. على ما يبدو أن نوبة التفشي حدثت قرب نهاية الجائحة، وفي الغالب وصلت العدوى مرة أخرى من ريتشموند.
بعد مضي وقت طويل تحرك المرض من كارلايل شمالا ووصل بلدة دومفريس باسكتلندا بحلول شتاء عام 1598. تسبب الوباء في عوائق للتجارة بل أدى أيضا إلى ندرة الطعام؛ في أحد المواقف أوقف رجلان، أرسلا من دومفريس إلى منطقة جالواي، في بلدة السوق ويجتون وبحوزتهما 38 رأس ماشية، وقد طلب دفع تعويض لأن الماشية التي صودرت صارت عجافا. (7) معاناة الضحايا
لم نعثر على أية روايات تتناول الأعراض التي ظهرت على ضحايا الطاعون في بنريث وكارلايل، على أن ريتشارد ليك، «مبشر بكلمة الله في كيلنجتون في بارونية كيندال ومقاطعة وستمرلاند»، ألقى خطبه المزعومة بشأن الطاعون عام 1598 أو عام 1599 التي قال فيها:
شاء الله أن يذيق بلادنا خلال سنتين متصلتين (في الأجزاء الشمالية من الجزيرة) قدرته على الدينونة، لما أثارت خطايانا الكثيرة الهائلة غضبه، لقد ضربنا بأوجاع كثيرة ومؤلمة، مثلما حدث عندما ظهرت في البداية الحمى الشديدة، وبعدها مشكلة النزيف، وآخرها وأكثرها رعبا الوباء اللعين الذي أصاب الكثيرين ونشر الفزع والرعب في جميع أنحاء البلاد. ومع أنني لم أصب ولم يصب أي من الأفراد الذين أتولى رعايتهم، فجميعنا كان مسئولا عن هذا المرض بسبب قلوبنا المذنبة.
عانى الضحايا من الحمى الشديدة المعتادة التي كان يعقبها «مشكلة النزيف»، مع أنه لم يكن واضحا مصدره. كنا على يقين من أن المرض المعدي نفسه كان المسئول عن هذه النوبة الوبائية مثلما كان مسئولا عن جميع طواعين أوروبا الأخرى. (8) ظهور ملامح السفاح
كانت هذه إذن صورة وباء نمطية عن وباء شرس اجتاح المقاطعات. كان الطاعون قد تفشى من قبل في بعض البلدات الأكبر في الشرق مثل نيوكاسل ودرم، على أن بلدات السوق الأصغر في الغالب لم تتعرض لرعب الطاعون إلا نادرا.
فحصنا الكثير من الأوبئة في الأقاليم باستخدام السجلات المعاصرة للأبرشيات، وتدريجيا صرنا أكثر دراية بالطاعون، وجمعنا الأدلة:
غالبا كان تسجل نوبة تفشي الطاعون في سجل الدفن على أنه بدأ عن طريق مسافر أو غريب أو أحد قاطني المدينة الذي كان قد عاد من مكان كان معروفا باشتداد الطاعون فيه. من الواضح أن هؤلاء الأشخاص أصيبوا بالعدوى في مكان آخر. على سبيل المثال، تذكر سجلات بلدة السوق أوندل بمقاطعة نورثانتس أن الوباء الذي بدأ عام 1625 كان قد وصل عن طريق ابنة ويليام آبلز «التي انحدرت من لندن» (حيث كان الوباء ثائرا) لزيارة والدها ولقيت حتفها في الرابع عشر من يوليو، وكان برفقتها ابنتها التي وافتها المنية بعدها بتسعة أيام.
كان الطاعون عدوى انتهازية وقد سلك في الأساس نفس الطريقة في كل نوبة تفش.
لكننا أدركنا نوعين من الوباء مختلفين تماما في إنجلترا، يحكمهما الحجم والكثافة السكانية: - أولا: لم ينجح الطاعون مطلقا في القرى والأبرشيات المتفرقة. لم تكن العدوى تنتشر لمسافة بعيدة قط، مع أنها كانت تطيح بعائلات بأكملها إذا وجدت لها موطئ قدم في أحد المنازل. مع أن الطاعون ربما يكون قد كشر عن أنيابه لبضعة أشهر، فإن معدل الوفيات كان منخفضا دائما. الأرجح أن الكتلة الحرجة للوباء كانت تبلغ نحو 1000 ساكن. - ثانيا: في البلدات الأكبر حيث كان يتكتل عدد كاف من السكان معا، كان الوباء ينفجر في أشهر الصيف، وكان دائما ما ينتشر ببطء في البداية إلا أنه كان يزداد زخما بالتدريج.
كانت هذه الأوبئة المكتملة الأطوار التي تعكس ملامح الطواعين الكبيرة تدوم لثمانية أو تسعة أشهر، من الربيع حتى شهر ديسمبر.
كان معدل الوفيات مرعبا - في الغالب نحو 40٪ من السكان - مع أنه ليس لدينا وسيلة لحصر عدد الأشخاص الذين كانوا قد ولوا الأدبار لدى رؤية الأمارات الأولى على الاضطرابات.
كان المرض يشق طريقه في الشتاء بصعوبة، فالوباء الذي كان يبدأ في الخريف كان يسير بخطى متعثرة وغالبا ما كان يخمد تماما في الشتاء، الأمر الذي كان يخفف معاناة الأفراد دون شك.
حالما يوطد الوباء قدميه، كان المواطنون ينفذون الأوامر المتبعة إبان الطاعون، مع أن هذا كان يحدث فارقا طفيفا في النتائج.
كان معدل انتقال العدوى هائلا، فعلى سبيل المثال: كانت تقطع مسافة تزيد عن المائة والخمسين ميلا (240 كيلومترا) في نحو ستة أسابيع في نوبة الوباء في شمال غرب إنجلترا، وكانت العدوى تواصل زحفها بلا هوادة، ضاربة على نحو انتهازي في أي مكان يمكن أن توطد قدميها فيه.
كان الوقت الذي يتخلل ظهور الأعراض المخيفة والموت قصيرا للغاية، ربما خمسة أيام في المتوسط.
ماذا كان نمط الأحداث وسط تجمع سكني هائل مثل لندن عندما كان الطاعون في أشد عنفوانه؟
الفصل السابع
طاعون لندن العظيم
من بين كل ابتلاءات الطاعون في أوروبا، نعرف عن «طاعون لندن العظيم»، الذي بدأ عام 1665، أكثر مما نعرف عن أي طاعون آخر. قدم صموئيل بيبس في يومياته الشهيرة تسجيلا تاريخيا لواقعة عن أحد شهود العيان. استرجع دانييل ديفو، الذي لم يكن قد تجاوز سن السادسة في تلك الأثناء، القصة عام 1722، ومع أن هذه القصة بلا شك قصة مثيرة وممتعة، فإن بعض المؤرخين شككوا في مصداقيتها، إلا أن دبليو جيه بيل الذي ألف الكتاب الحاسم «طاعون لندن العظيم» دافع عن ديفو قائلا: إن هذه التصريحات «تعجز عن الوصف الفعلي لمدى المعاناة التي تكبدها ديفو لدى استخدام مثل هذه المصادر التاريخية التي كانت متاحة أمامه.»
كانت قوائم الوفيات الأسبوعية تحفظ (مع أنها غالبا ليست على نفس القدر المرجو من الدقة لأن الأرقام كانت تخفض عن واقعها الفعلي لتحسين معنويات الناس)؛ مما يعني توفر إحصاءات مفصلة. كان عدد الوفيات رهيبا؛ فقد كان الطاعون في أشد عنفوانه في إنجلترا. لكن، للمفارقة، كانت هذه رقصته الأخيرة؛ فقبل انقضاء خمس سنوات كان قد اختفى إلى الأبد. (1) من أين جاء؟
كان الطاعون هائجا في هولندا عام 1664 ووجه تحذير مسبق إلى مفوضي إدارة الجمارك لضمان عدم دخول لاجئين مصابين إلى أرض بريطانيا. لكن لم يكن هذا التحذير مجديا؛ فقد وردت أنباء عن وفاة فرنسيين على إثر الإصابة بالطاعون بشارع لونج إيكر بلندن في نهاية العام.
كان شتاء عام 1664 قاسيا؛ فقد كان الصقيع الجاف الأسود يكسو الأرض على نحو شبه دائم منذ نوفمبر، ولم ينحسر حتى مارس عام 1665. استمر البرد الجاف بعد انكسار موجة الصقيع؛ مما أسفر، كما قيل، عن «عدد كبير من حالات التهاب غشاء الجنبة المحيط بالرئة، والالتهاب الرئوي والذبحة الصدرية»، نتيجة «لأعنف شتاء وربيع وصيف سمع عنه إنسان عاش على وجه الأرض. بارت الأراضي الزراعية، ولم يكن في أرض المروج سوى أربع شحنات من القش التي كانت تصل من قبل إلى أربعين شحنة على الأقل.»
كان لهذا الشتاء البارد تأثير سلبي على تقدم الوباء، فكما يقول الطبيب هارفي في كتابه «مؤرخو المدينة» الذي نشر عام 1769:
ونظرا لاقتصاره على منزل أو اثنين، انحسر المرض خلال فصل الشتاء الجليدي القارس الذي دام قرابة ثلاثة أشهر متواصلة؛ فقد دخل في سبات عميق من وقت عيد الميلاد إلى منتصف شهر فبراير، ثم تفشى مرة أخرى في نفس الأبرشية، وبعد فترة هجوع طويلة أخرى استمرت حتى شهر أبريل، مارست العدوى تأثيرها الخبيث من جديد حين أمدها دفء الربيع بالقوة الكافية.
بلغ عدد وفيات الطاعون المسجلة أسبوعيا 43 ضحية إجمالا في مطلع يونيو 1665، وكان أول إخطار رسمي هو ذلك الإعلان الصادر في الرابع عشر من يونيو بإلغاء معرض بارنويل «خشية انتشار الطاعون». كان هذا احترازا حكيما، لكن لم يكن بمقدور شيء أن يردع العدوى حينذاك.
في نهاية شهر يونيو جرى تمرير المرسوم الذي صاغه عمدة مدينة لندن وأعضاء المجلس المحلي، وقد تضمنت هذه الوثيقة التفصيلية ما يلي:
على رب كل بيت، ما إن يشكو أي فرد من أفراد بيته إما من بقع سوداء أو بنفسجية أو من تورم في أي جزء من أجزاء الجسم، أو يصاب بمرض خطير دون سبب واضح يشير إلى مرض معين آخر، أن يخطر مفتش الصحة في غضون ساعتين من ظهور الأمارة المذكورة.
أوضح ديفو:
خلال الفاصل الزمني بين إصابة أحد الأفراد بالمرض ووصول المفتشين، كان لدى رب البيت الفرصة والحرية في أن يغادر هو أو كل أفراد عائلته، إذا كان يعرف وجهته، وقد فعل الكثيرون هذا. إلا أن الطامة الكبرى هي أن كثيرين فعلوا ذلك بعد إصابتهم هم أنفسهم، وهكذا حملوا المرض إلى منازل أولئك الذين كانوا في غاية السخاء واستقبلوهم، الأمر الذي لا بد من الاعتراف بأنه كان في غاية القسوة وقمة نكران الجميل.
كانت لندن في تلك اللحظة على أهبة الاستعداد وفي كامل حذرها، وكانت جميع التدابير الصحية المثبت فعاليتها تطبق بصرامة. (2) يوميات صيف مريع
مكث صموئيل بيبس في المدينة أثناء الطاعون، وزاول مهامه اليومية كالمعتاد. ومن يومياته الشهيرة نحصل على لمحة عما كانت عليه الحياة في تلك الأيام المرعبة:
السابع من يونيو:
أشد الأيام التي مرت بي قسوة في حياتي. في هذا اليوم، حدثت أشياء ما كنت أرغبها: رأيت في شارع دروري لين منزلين أو ثلاثة منازل وضع على أبوابها صليب أحمر وعبارة «نرجو رحمتك يا ألله»، أحزنني رؤية هذا؛ حيث إنني لم أر في حياتي قط - بقدر ما تسعفني ذاكرتي - شيئا من هذا المثيل.
الخامس عشر من يونيو:
البلدة تزداد مرضا، ويرتعد الناس من العدوى.
السابع عشر من يونيو:
كنت بصحبة سائق عربة وجدته يقود عربته بسلاسة، وأخيرا وقف بلا حراك، وترجل من العربة وهو يكاد لا يستطيع الوقوف، وأخبرني أن الطاعون ضربه بقوة فجأة، وقد صار كفيفا تقريبا، لا يستطيع أن يرى، وعليه ترجلت من العربة واتجهت إلى عربة أخرى وأنا أشعر بالحزن على الرجل المسكين، خشية مني أن يكون قد نقل إلي عدوى الطاعون.
الحادي والعشرون من يونيو:
وجدت أهل البلدة جميعهم يهجرونها، اكتظت العربات والمركبات بالأفراد الفارين [إلى الريف].
الثاني والعشرون من يونيو:
أرسل بيبس والدته مارجريت بيبس، بعيدا. لقد تأخرت في مكتب البريد وفقدت مكانها في العربة المكتظة بالأفراد و«كانت مستعدة لأن تركب في جزء الشحن الخلفي من العربة.»
الخامس والعشرون من يونيو:
الطاعون يزداد شراسة.
التاسع والعشرون من يونيو:
الاتجاه إلى طريق قصر وايت هول، حيث اكتظت الساحة بالشاحنات والأفراد الذين كانوا على أهبة الاستعداد للرحيل من المدينة. يزداد هذا الطرف من البلدة سوءا كل يوم بسبب الطاعون. اقترب معدل الوفيات في هذا الأسبوع من 267، أي أكثر من إجمالي وفيات الأسبوع المنصرم بنحو 90 فردا.
الثاني والعشرون من يوليو:
وأنا متجه إلى المنزل التقيت بعربتين لنقل البضائع وليس عربتي ركاب. كانت الشوارع خالية تماما من المارة.
الثلاثون من أغسطس:
خرجت واتجهت صوب كنيسة مورفيلدز كي أعرف (اصفح عن ذنبي يا الله!) ما إن كان بمقدوري أن أرى أي جثة ميته محمولة إلى القبر، لكن شاء الله ألا أرى. لكن يا إلهي! كيف حال الجميع، والأحاديث في شوارع الموت تدور حول البلدة البائسة وكيف أصبحت مكانا كئيبا مهجورا.
الثالث من سبتمبر:
أردت ارتداء باروكتي البيضاء الجديدة التي اشتريتها منذ وقت طويل لكن لم أجرؤ على ارتدائها ؛ لأن الطاعون كان قد انتشر في ويستمنستر عندما اشتريتها، وتعجبت ترى ماذا عساها أن تكون موضة الشعر المستعارة لدى انتهاء الطاعون؛ لأنه ما من أحد سيجرؤ على شراء أي شعر مستعار خوفا من العدوى؛ لئلا يكون مقصوصا من جثث أفراد ماتوا بسبب الطاعون.
السادس من سبتمبر:
اتجهت صوب لندن، وهناك رأيت نيرانا مشتعلة في الشوارع في كل أنحاء المدينة بأكملها، بأمر من عمدة المدينة.
الرابع عشر من سبتمبر:
سمعت في ذلك اليوم أن نادلي باين المسكين دفن طفلا، وأنه هو نفسه ينازع الموت. وسمعت أن عاملا أرسلته اليوم التالي كي يتقصى كيف أصبح الحال هناك مات بسبب الطاعون، وأن أحد الملاحين الذين يعملون لدي والذي كان يقلني بالقارب بصفة يومية مرض بمجرد أن رسا بي صباح يوم الجمعة الماضي، بعدما أمضيت الليل بطوله في المياه، وقد مات بسبب الطاعون. تناهى إلى مسامعي أن القبطانين لامبرت وكاتل قد قتلا لدى الاستيلاء على تلك السفن، وأن السيد سيدني مونتاجيو يعاني من حمى شديدة بمنزل الليدي كارتريت بقاعة سكوت. سمعت أن السيد لويس لديه ابنة أخرى مريضة. وأخيرا أصابني خبر فقد خادمي دبليو هيور وتوم إدواردز أبويهما جراء الطاعون هذا الأسبوع بحزن بالغ، وثمة سبب وجيه لهذه الكآبة.
العشرون من سبتمبر:
اتجهت إلى منطقة لامبيث. يا له من مشهد حزين عندما لا ترى أية قوارب على صفحة النهر، والعشب يكسو كل أرجاء قصر وايت هول، والشوارع خالية تماما إلا من البؤساء!
السادس عشر من أكتوبر:
اتجهت إلى البرج، كم كانت الشوارع خالية وكئيبة، فقراء مرضى كثيرون تملؤهم القروح في الشوارع. لقد أخبروني أنه لا يوجد طبيب واحد في ويستمنستر، فقط صيدلاني واحد هو من بقي على قيد الحياة، الجميع لقوا حتفهم.
مكث في لندن أيضا في تلك الآونة توماس فينسنت الخادم السابق بكنيسة القديسة مريم المجدلية الكائنة في شارع ميلك، وقد خط كتاب «صوت الله المرعب في المدينة»، الذي وصف من جديد المشهد بوضوح:
لكم كانت الزيادة في عدد الوفيات مرعبة في شهر أغسطس! الآن السحب شديدة السواد، وتعصف بنا الرياح العاتية بقوة بالغة. الآن يطوف الموت شوارعنا على صهوة جواده الباهت في زهو وانتصار، ويقتحم كل منزل حيثما يجد مقيمين فيه. في ذلك الوقت، كان الناس يرتجفون بسبب الرياح العاتية. الآن ثمة عزلة موحشة في شوارع لندن، يبدو كل يوم وكأنه يوم سبت [بوصفه يوم راحة وعبادة] يعامل بهيبة أكثر مما هو معتاد في المدينة. الآن المتاجر مغلقة، لا ترى سوى قليل من الأفراد يجولون في المدينة، حتى إن العشب بدأ ينبت في بعض الأماكن، وقد عم كل الأرجاء تقريبا سكون عميق، بالأخص بداخل جدران المدينة، فلا خيول متبخترة ولا عربات مطقطقة، وليست هناك صيحات نداء على الزبائن، ولا معروضات من البضائع، لا يسمع صدى صيحات لندن في الآذان. وإن وجدت أي أصوات، فإنها كانت أنات الأفراد الذين ينازعون الموت الذين يلفظون أنفاسهم الأخيرة، وأجراس النعي التي تعلن أن الجثث جاهزة لنقلها إلى قبورها، يمكننا أن نتحدث دون توقف عما رأينا وسمعنا: فالبعض كانوا في غمرة جنونهم ينهضون من فراشهم ويتقافزون في أنحاء غرفهم، والبعض الآخر يصرخون ويزمجرون من نوافذهم، والبعض الثالث يخرجون شبه عراة إلى الشوارع. (3) أشباح الموت: ممرضو الطاعون والحراس المخيفون
توضح يوميات بيبس، كما هو الحال مع الطواعين السابقة، أن كل من استطاع الهروب فر من لندن، إلا أنه لم يكن بمقدور أفراد الطبقات الأرق حالا في الضواحي الشعبية على جانبي نهر التيمز فعل ذلك، وكانوا هم من عانوا أكثر من غيرهم. توقفت عملية التوظيف لدى رحيل الأثرياء، ومن ثم توقفت أغلب الأجور، وعليه فقد أضيف سوء التغذية والموت جوعا فوق المحن التي عانى منها الشعب.
كان موقفهم ميئوسا منه للغاية حتى إن البعض اضطر إلى مباشرة الأعمال الخطيرة المتمثلة في وظيفة حراس البيوت المغلقة على مدار الليل والنهار، ودافني الموتى، وممرضي الطاعون المخيفين الذين كانت تتولى السلطات تعيينهم، والذين كان يقال إنهم كانوا يسهمون في الموت المبكر لمرضاهم. قال فينسنت: «كان الأفراد المصابون بالطاعون يخشون ممرضي الطاعون أكثر من الطاعون نفسه.» ليس هذا غريبا؛ فهؤلاء الممرضون لم يكن لديهم أية مهارات أو خبرة في التمريض، وفي معظم الأحوال كانوا شخصيات مريبة. كانت الأبرشية هي التي تدفع أجورهم، وكانت هذه الأجور لا تفي بحد الكفاف؛ ومن ثم فكي يسدوا رمقهم اضطروا إلى الاعتماد على فرص السلب والنهب التي تأتي في طريقهم.
كان ديفو أكثر صراحة:
يخبرنا عدد كبير من الروايات المرعبة عن ممرضين وحراس اعتنوا بأشخاص محتضرين، ممرضين مأجورين تولوا رعاية مصابين، فاستغلوهم بوحشية، أو جوعوهم، أو كتموا أنفاسهم، أو عجلوا أجلهم باللجوء إلى وسائل أخرى شريرة، أي إنهم اغتالوهم. وحراس كانوا معينين من أجل حراسة منازل كانت مغلقة لم يتبق من أفرادها سوى شخص واحد ربما كان طريح الفراش. كان هؤلاء الحراس يقتحمون المنزل ويقتلون هذا الشخص، ويرمونه في الحال في عربة الموت التي تذهب به إلى القبور لدفنه.
بالمثل استخدم العنف مع الحراس في أماكن كثيرة حسبما أفادت تقارير، وأعتقد أنه منذ بداية الطاعون حتى نهايته قتل على الأقل 18 أو 20 شخصا أو أصيبوا إصابات بالغة حتى إنهم اعتبروا في عداد الموتى؛ بسبب الاعتداءات التي يعتقد أنه قام بها الأفراد المحتجزون داخل المنازل الموبوءة التي كانت مغلقة وتحت الحراسة، حيث حاول هؤلاء الخروج فمنعهم الحراس. على بعد خطوات من نفس المكان فتكوا بحارس باستخدام البارود، وحرقوا الرجل المسكين بطريقة شنيعة، وفيما كان يطلق صرخات مرعبة، ولم يجازف أحدهم بالاقتراب منه ومد يد الغوث إليه، فر أفراد العائلة الذين كانوا قادرين على الرحيل بأكملهم من النوافذ التي تقع على ارتفاع طابق واحد [وهكذا فروا]، وتركوا وراءهم اثنين من المرضى يستغيثان طلبا للعون. (4) قصص بطولية
لم يفر كل الأطباء والصيادلة لدى بدء انتشار الوباء، فالبعض ظلوا بجسارة في وظائفهم وقدموا النجدة قدر استطاعتهم. وكانت النتيجة أن معظمهم لقي حتفه مع مرضاه . روى الطبيب بوجهيرست الذي زاول مهنته في مستشفى كنيسة سان جايلز إن ذا فيلدز، والذي نجا من الطاعون، الرواية التالية عن خدماته:
مع أنني كنت حائرا للغاية في البداية في إصدار حكم، فإنه مع الممارسة والملاحظة الطويلة للتفاصيل، اكتسبت مهارة أكبر؛ إذ أصبحت معتادا على المرض، وانطلاقا من إدراكي أن وسيلة فعل الخير هي ألا أخاف بلا شك؛ من ثم كنت أتولى عادة تضميد أربعين قرحة يوميا، وأقيس نبض المرضى الذين كانوا يتصببون عرقا في فراشهم كل عشر دقائق، وأمارس فصد الدم، وأحقن المرضى بحقن شرجية، وأساعدهم على النهوض من فراشهم كي لا يحدث لهم اختناق. لقد عانيت من «تنفسهم في وجهي مرات عديدة وهم يحتضرون.» كنت آكل وأشرب معهم، وبالأخص مع أولئك الذين لديهم قروح. كنت أجلس إلى جانبهم وعلى فراشهم، وأتحاور معهم طيلة ساعة. وإن وجدت مساحة من الوقت، كنت أمكث إلى جانبهم كي أراهم وهم يموتون، وأرى طريقة موتهم، وكنت أغلق أعينهم وأفواههم؛ لأنهم كانوا يموتون وهم فاغرو الأفواه ومحدقو الأعين. وإذا لم يوجد من يتولى أمرهم بعد مماتهم، كنت أساعد في رفعهم من الفراش ووضعهم في النعش، وفي النهاية أرافقهم إلى القبر.
الشيء المذهل في هذه الرواية هو كيف نجا هذا الرجل من العدوى. لقد كان دائما على احتكاك مع عدد غفير من الضحايا ومع ذلك لم يمت.
روى ديفو أيضا القصة المؤثرة التالية:
أصيب رب أسرة في المنطقة التي أقطن فيها بعدوى يعتقد أنها انتقلت إليه من عامل مسكين يعمل لديه، وكان قد ذهب إلى منزل ذلك العامل ليتفقده، وقد كانت لديه بعض التوجسات حتى وهو بعتبة دار العامل المسكين، إلا أنه لم يعرف السبب، لكن في اليوم التالي اتضح الأمر وأصاب المرض الشديد الرجل، ولتوه أمر بحمله إلى مبنى خارجي بفناء منزله حيث توجد غرفة تعلو مصنع نحاسيات، إذ كان الرجل يعمل نحاسا. رقد الرجل على فراش الموت حتى وافته المنية في ذلك المكان. لم يتلق الرعاية من أي من جيرانه إلا من ممرضة من خارج المنطقة، ولم يسمح لزوجته ولا أولاده ولا خدامه بالدنو من غرفته لئلا تنتقل العدوى إليهم، وإنما كان يرسل إليهم دعواته وصلواته مع الممرضة التي كانت تنقلها إليهم من مسافة بعيدة، كل هذا خشية أن ينقل العدوى إليهم، وكان يعلم أنهم ما داموا بمعزل عنه فلن يصيبهم المرض.
لعل أكثر قصة تمس شغاف القلب في كتاب ديفو هي تلك التي تحكي عن ملاح مسكين استطاع أن يعول عائلته التي أصابها الطاعون من خلال عزل نفسه بعيدا عنهم. لقد حمد الله أنه حفظهم من العوز: «يا الله! ... يا لعمق الرحمة إذا أبقيت على حياة أي منا، ومن أنا حتى أتذمر من أحكامك؟» (5) دليل الموت
كان عدد الوفيات في لندن يفوق العقل. اتبع الوباء النمط المعتاد للطاعون حيث ارتفع عدد الوفيات ارتفاعا هائلا في البداية ليصل إلى الذروة منتصف شهر سبتمبر ثم لينخفض إبان الخريف والشتاء. بلغ الإجمالي الرسمي لعدد الوفيات 68595، إلا أن هناك إجماعا عاما بأن هذا الرقم أقل بكثير من الرقم الحقيقي. كان دبليو جي بيل على يقين من أن كثيرا من وفيات الطاعون إما حجبوا عن عمد عن أعين «نساء التفتيش الطبي» أو أنه تم رشوة هؤلاء الموظفات أو تخويفهن للامتناع عن الإبلاغ الكامل عن عدد الضحايا. أكد هذه الآراء القيد المذكور في يوميات بيبس بتاريخ الثلاثين من أغسطس عام 1665:
كنت بالخارج والتقيت مستخدمنا الذي يدعى هادلي. لدى سؤاله عن مجريات الأمور بالنسبة للطاعون، أخبرني أنه يتفاقم بشدة في أبرشيتنا؛ لأنه كما يقول لقي تسعة أشخاص حتفهم هذا الأسبوع، رغم أنه لم يعلن رسميا إلا عن ست حالات، ويا لها من ممارسة دنيئة تجعلني أظن أنها تحدث في أماكن أخرى، وهكذا كان الطاعون أكبر كثيرا مما كان يظن الناس.
علاوة على ذلك، رفضت جماعات الكويكرز واليهود والمنادون بتجديد العماد إدراج وفيات الطاعون من أعضائها في تقارير الكنيسة؛ ومن ثم تملصت هذه الجماعات في المقام الأول من القوائم. كتب بيبس في الحادي والثلاثين من أغسطس 1665:
توفي في المدينة هذا الأسبوع 7496 شخصا من بينهم 6102 بسبب الطاعون. لكن يخشى أن يكون عدد الوفيات الحقيقي لهذا الأسبوع يقترب من 10 آلاف ضحية (عدد إجمالي صادم)، معظمهم من الفقراء الذين لا يلتفت أحد إليهم من كثرة عددهم، ومن الكويكرز وغيرهم الذين لا يسمحون بقرع أية أجراس من أجلهم.
دون ديفو الآتي:
بلغت الحيرة بالناس مبلغا لا يمكن وصفه، ولا سيما داخل المدينة في ذلك الوقت. بلغ الفزع مداه في النهاية لدرجة أن شجاعة المأجورين لنقل الموتى بدأت تخذلهم، بل مات أيضا كثيرون منهم، مع أنهم أصيبوا بالعدوى من قبل وتعافوا منها، والبعض منهم سقط صريعا وهو يحمل الجثث وعلى وشك أن يلقيها في القبر. وكان حجم الحيرة في المدينة يفوق ذلك بكثير؛ لأن الأفراد هناك منوا أنفسهم بآمال النجاة، وظنوا أن مرارة الموت قد اجتازتهم.
مع أن عدد الأفراد الذين لقوا حتفهم في لندن خلال نوبة التفشي هذه أكبر من عدد الذين ماتوا في أية نوبة تفش أخرى، فإنه ينبغي النظر إلى ذلك في ضوء الزيادة الحادة في عدد السكان التي بلغت نحو 460 ألف نسمة؛ ومن ثم بلغت وفيات الطاعون وفقا للأرقام الرسمية 15 في المائة من السكان، تلك النسبة التي تقترب من نسبة وفيات الوباء السابق عام 1625 التي بلغت 13 في المائة. (6) الموت: عتق مبارك
تشير التقارير الطبية إلى أن قلة قليلة حالفها الحظ ولقيت حتفها سريعا بعد ظهور أمارات الرب، لكن بالنسبة للأغلبية كانت النهاية هي المسألة المعتادة الممتدة والمليئة بالأوجاع. روى ديفو الروايات التالية التي ترسم على نحو محزن معاناة الضحايا الفقراء:
يمكننا أن نتحدث دون توقف عما رأينا وسمعنا: فالبعض كانوا في غمرة جنونهم ينهضون من فرشهم ويتقافزون في أنحاء غرفهم، والبعض الآخر يصرخون ويزمجرون من نوافذهم، والبعض الثالث يخرجون شبه عراة إلى الشوارع. آخرون تحدثوا وفعلوا أشياء غريبة في مرضهم، إلا أنه كان أمرا محزنا للغاية أن نسمع عن شخص كان مريضا ووحيدا، وعلى ما يبدو انتابته حالة هياج، فأحرق نفسه في فراشه.
عندما لا تزول الأورام تصبح موجعة للغاية حتى إنها كانت تضاهي في وجعها أشد وسائل التعذيب، والبعض عندما لم يستطيعوا تحمل الآلام ألقوا بأنفسهم من النوافذ أو أطلقوا النار على أنفسهم، أو قتلوا أنفسهم بطرق أخرى، وقد رأيت أشياء محزنة كثيرة من هذا القبيل. آخرون لم يستطيعوا كبح آلامهم فنفسوا عنها بزمجرة لا تنقطع، وكنا نسمع مثل هذه الصرخات العالية البائسة ونحن نسير في الشوارع، كان التفكير في هذا يذيب أقصى الأفئدة ولا سيما لدى التفكير في أن نفس الفاجعة المرعبة يتوقع أن تلم بنا في أي لحظة.
سمعت عن مصاب هرول من فراشه مرتديا قميصه وكان يعاني العذاب والوجع من أورامه التي كان لديه ثلاثة منها، وارتدى حذاءه ومضى ليرتدي معطفه، لكن عندما قاومته الممرضة وخطفت المعطف منه، طرحها أرضا وداسها بقدميه وهرول عبر السلالم إلى الشارع متجها إلى نهر التيمز مباشرة وهو يرتدي القميص فحسب. ركضت الممرضة وراءه وأخذت تستغيث بالحارس ليوقفه، إلا أن الحارس، لأنه كان خائفا من الرجل ويخشى أن يلمسه، تركه يمضي. أسرع الرجل المصاب ليصل إلى سلم ستيليارد، ونزع عنه قميصه وألقى بنفسه في مياه التيمز؛ وحيث إنه كان سباحا ماهرا، فقد سبح إلى أن وصل إلى اليابسة إلى حيث سلم فالكون. رسا الرجل ولم يجد أحدا هناك لأن الوقت كان ليلا، وركض في الشوارع عاريا، وأمضى وقتا طويلا إلى أن رجع إلى النهر مرة أخرى، وسبح عائدا أدراجه إلى سلم ستيليارد.
كان الأفراد لدى اشتداد مرضهم، أو في خضم ما يعانونه من ألم يفوق الاحتمال نتيجة لأورامهم، يطير عقلهم ويهيجون ويجن جنونهم، ولطالما كانوا يؤذون أنفسهم: فيلقون بأنفسهم من النوافذ، ويطلقون النار على أنفسهم، وما إلى ذلك. الأمهات في نوبة جنونهن كن يقتلن أطفالهن. مات البعض كمدا، والبعض الآخر من الرعب الشديد والذهول الجم دون أن تصيبهم أي عدوى على الإطلاق. البعض ارتاعوا لدرجة أن أصابهم العته والبلاهة، والبعض فزعوا إلى حد يأسهم وفقدان صوابهم، وآخرون أصابهم الخوف الشديد حتى إنهم أصيبوا بالخرف والجنون. كانت هذه الأورام شديدة للغاية لدى البعض لدرجة أنه ما من أدوات جراحية استطاعت استئصالها، فكانوا يحرقونها بآلات كي، وعليه مات كثيرون من الجنون والبعض الآخر أثناء العمليات الجراحية نفسها. في خضم هذا العذاب، تعرض البعض لأنفسهم بالإيذاء بسبب حاجتهم إلى من يمد لهم يد العون ليرعاهم في فراشهم أو يعتمدون عليه كما رأينا سابقا. البعض ركض إلى الشوارع ربما عراة، وكانوا يهرولون نحو النهر مباشرة، إذا لم يعترض الحراس طريقهم، ويلقون بأنفسهم في النهر في أي بقعة يطولونها منه. (7) الرعب من الحفرة
كان «الفقراء يمتلئون رعبا من حفر الطاعون؛ فكانوا يبذلون قصارى جهدهم للحيلولة دون دفن موتاهم هناك.» على ما يبدو فإن جثث الضحايا كانت تدفن ليلا دون إقامة أي مراسم جنائزية أو دون حضور أحد خدام الكنيسة، وقد ذكر دبليو جي بيل أن أي شخص قاده حظه العاثر إلى أن يكون على مقربة من عربات الموتى عندما تفرغ شحناتها المرعبة «كان يفر في عجالة من ذلك الموقع الذي كان كفيلا أن يذيب قلب حتى أصحاب أقسى الأفئدة. أضاء المشهد - الذي من الأفضل تركه لخيال القارئ - ألسنة اللهب المنبعثة من الشعلات.»
يصف لنا ديفو:
الحفرة الكبيرة التي حفروها بفناء كنيسة أبرشيتنا ألدجيت كانت حفرة هائلة، ولم أستطع مقاومة فضولي في الذهاب لرؤيتها. على حد تقديري، بلغ طولها نحو 40 قدما وعرضها نحو 15 أو 16 قدما. وللوهلة الأولى التي نظرت فيها إليها قدرت عمقها بنحو تسعة أقدام، لكنني سمعت أنهم حفروا جزءا منها بعد ذلك على عمق بلغ نحو 20 قدما. لم يستطيعوا الحفر أعمق من ذلك بسبب المياه؛ لأنهم على ما يبدو حفروا عدة حفر كبيرة قبل هذه الحفرة في أرض أخرى، عندما بدأ المرض ينتشر في أبرشيتنا، ولا سيما عندما انتشر استخدام عربات نقل الموتى. ربما كانوا قد ألقوا في كل حفرة من هذه الحفر نحو 50 أو 60 جثة، ثم حفروا حفرا أكبر كانوا يدفنون فيها جميع الجثث التي كانت تأتي بها العربات على مدار أسبوع، والتي تراوح عددها من منتصف أغسطس حتى نهايته ما بين 200 إلى 400 جثة في الأسبوع الواحد، ولم يستطيعوا تعميق الحفر أكثر من ذلك بناء على أوامر القضاة بعدم دفن جثث على عمق يقل عن 6 أقدام من سطح الأرض، وكانت المياه تظهر على عمق 17 أو 18 قدما، فلم يستطيعوا وضع المزيد من الجثث في الحفرة الواحدة.
أهمل سائقون عربة كانت متجهة إلى ضاحية شورديتش، أو أنهم كانوا قد أودعوها لسائق واحد ومات في الشارع، وواصل الحصانان سيرهما فقلبا العربة وتركا الجثث ملقاة هناك، بطريقة مرعبة. وجدت عربة أخرى على ما يبدو في الحفرة الكبيرة بحقول فينزبيري، فقد مات السائق أو رحل وترك العربة، ولما ركض الحصانان بالقرب من الحفرة، سقطت العربة وسحبت معها الحصانين أيضا. وقد رجح البعض أن السائق ألقي في الحفرة مع العربة، وأن العربة هي التي وقعت عليه فأودت بحياته؛ ذلك لأن السياط شوهدت في الحفرة بين الجثث. (8) صبية وخدم: المهاجرون السذج
أصابنا ذهول شديد لدى معرفة أنه كثيرا ما كان أول الضحايا في كل أبرشية من الصبية الحرفيين أو الخادمات، وأن وفياتهم شكلت النسبة الأعلى من الضحايا. لكن في حقيقة الأمر، أكد ضعف هذه الفئة من المجتمع ببساطة تحليلاتنا للأوبئة المريعة السابقة في لندن في الأعوام 1603، و1625، و1636. أشار ديفو إلى هذا أيضا:
بصفة عامة كانت العدوى تصل إلى منازل المواطنين عن طريق خدمهم الذين أرسلوهم مضطرين إلى الشوارع القريبة والبعيدة من أجل قضاء الضروريات، كشراء الطعام أو الدواء، وشراء الخبز والجعة وغير ذلك. وبالضرورة من يسير في الشوارع ليتجه إلى المتاجر والأسواق وما على شاكلتها، لم يكن هناك مفر من أن يلتقي بطريقة أو بأخرى بمصابين «ينقلون النفس المميت» إليهم؛ ومن ثم ينقلونه هم بدورهم إلى منازل العائلات التي يعملون لديها.
من الواضح أن ديفو سبر غور عواقب العدوى الرذاذية، وربما حمل تلميحه إلى أن الخدم كانوا المسئولين عن نشر العدوى في سياق عملهم شيئا من الحقيقة. لقد خطر هذا ببالنا، لكن من الصعب تعليل زيادة عدد الوفيات بين الصبية وبالمثل الخدم، ونحن نرجح سيناريو بديلا؛ فنظرا لأن الطاعون هاجم لندن منذ نهاية القرن السادس عشر، فإن العائلات التي عاشت هناك لوقت طويل كانت قد شكلت لديها على ما يبدو نوعا من المقاومة. لقد كانت النسبة المئوية لعدد الوفيات تنخفض بمعدل ثابت بالفعل على مدار القرن السابع عشر.
كانت لندن مكانا غير صحي على نحو استثنائي؛ فلم يكن الطاعون وحده المتوغل هناك، إنما أمراض كثيرة أخرى أيضا. كان معدل الوفيات كبيرا، ومتوسط عمر الفرد منخفضا؛ ونتيجة لذلك كان ثمة طلب نهم على العمالة. تدفق المهاجرون، أمثال ديك ويتينجتون إلى العاصمة سعيا لتحقيق الثروة والنجاح. لقد وفدوا من أماكن نائية تبعد أحيانا عن يورك، وبأعداد غفيرة؛ فقد وفد في عام 1600 وحده ما بين 32 ألف إلى 40 ألف صبي. سد هذا الانتقال، ولا سيما انتقال الأفراد الأحدث سنا، الفجوات التي خلفها عدد الوفيات الهائل.
بلا ريب، لم يكن لدى هؤلاء المهاجرين الصغار السذج أدنى درجات المقاومة للطاعون التي أظهرتها عائلات لندن التي اكتسبت مناعة؛ ومن ثم لقي الآلاف منهم حتفهم. حتى في وقت مبكر وتحديدا في منتصف القرن السادس عشر، وافت المنية نحو 15٪ من الصبية المشتغلين بحرفة النجارة والمرتبطين بعقود عمالة قبل أن يتمكنوا من إنهاء مدة عملهم.
رأينا في ضربة الموت الأسود الأولى أدلة على بضعة أفراد كانوا مقاومين للمرض على ما يبدو. بعد مرور 300 عام، انتشرت تلك المقاومة على الأرجح في أماكن مثل لندن التي كانت خاضعة لهجوم طاعون لا ينقطع تقريبا لعقود. ترى ما تفسير هذا؟ لما كان الطاعون يودي بحياة ضحاياه، لم يكن يوجد مجال للمناعة المكتسبة. كانت هذه المقاومة أكثر تأصلا، ولا بد أن هؤلاء الأشخاص المحظوظين قد ورثوها عن آبائهم. ازداد الموقف تعقيدا وغموضا، ومن الواضح أنه كان لا يزال أمامنا الكثير لنتعلمه عن هذا المرض المدمر. (9) ما بعد الطاعون
لسوء حظ اللندنيين، استمر الوباء طوال شتاء عام 1665، معاودا الظهور مرة أخرى في الربيع التالي، وإن كانت ذروته قد انتهت. بدأ الأفراد الذين كانوا قد فروا في العودة ومحاولة استئناف حياتهم مرة أخرى. بيد أن الطاعون استمر وتوالت الوفيات بمعدل منخفض على مدار العام التالي؛ مما أسفر عن وفاة 2000 ضحية إضافية. باستثناء بعض نوبات التفشي العشوائية والمتقطعة، كانت هذه نهاية الطاعون؛ فبعد أن ضرب أطنابه واستشرى بلا رادع في أنحاء أوروبا طيلة 300 عام، اختفى وهو في ذروة قوته، فجأة وبدون سبب واضح، مثلما ظهر فجأة في المشهد دون سبب واضح.
لا بد أن شعب أوروبا ظل في حالة ترقب لسنوات عديدة، متسائلا هل اختفى عدوه القديم إلى الأبد أم أنه توارى ليس إلا، في مكان ما، مترقبا حتى تسنح الفرصة أمامه لمعاودة الظهور. ماذا كان يعيق ظهوره في المشهد مرة أخرى؟ إلا أنه سرعان ما انتابتهم مخاوف أخرى؛ فقد تصدر المشهد شكل خبيث من الجدري في ثلاثينيات القرن السابع عشر، ولم يمض وقت طويل حتى تقلد هذا المرض دور الطاعون السفاح المرعب، مع أنه لم يصل قط إلى مرتبة الطاعون.
لقد أمطنا اللثام عن صورة تاريخية دقيقة لعهد الطاعون المرعب الذي دام لزمن طويل، وقد جمعنا كما هائلا من الأدلة، لكن ظل بجعبتنا الكثير من الأسئلة التي لم نجد لها إجابات. من بينها، من أين بالتحديد جاء المرض عام 1347؟ ولماذا اختفى عام 1670؟
قبل أن نتمكن حتى من البدء في الإجابة على مثل هذين السؤالين، لا بد أن نقر أننا لا نفهم بعد الطبيعة الحقيقية لهذا المرض الفتاك الغامض. بلغة متخصصة، ماذا كانت حقيقة العامل المعدي؟
هل يمكننا أن نستعين بكامل قوة العلوم الحديثة المتعلقة بالأمراض المعدية لنربطها بأدلتنا التاريخية؛ ومن ثم نرسم ملامح سفاح القرون الوسطى؟
الفصل الثامن
آلية عمل البكتيريا والجراثيم
لقد عرفنا قدرا لا بأس به عن هذا المرض الغريب الذي أرهب أوروبا منذ ضربته الأولى خلال الموت الأسود عام 1347 حتى طاعون لندن العظيم عام 1665. لقد كان واضحا وضوح الشمس من الروايات المعاصرة أن الناس الذين عاشوا في تلك الآونة قد أدركوا منذ البداية أنه كان مرضا معديا بالاحتكاك المباشر وينتقل من شخص إلى آخر. يؤكد نجاح قاعدة الحجر الصحي الذي كانت مدته أربعين يوما أنهم كانوا على صواب. لكن ماذا كان العامل المعدي ولماذا كان نشطا على نحو مخيف للغاية؟ بداية، نحتاج أن نعرف المزيد عن أساس البكتيريا والجراثيم.
إن الإنسان في حرب مع الأمراض المعدية منذ فجر التاريخ. وحتى عهد قريب نسبيا، ومع المعرفة المتزايدة بالأسباب الكامنة وراءها وظهور المضادات الحيوية واللقاحات، لطالما كانت معركة من طرف واحد إلى حد بعيد. لقد أشارت أمهاتنا وجداتنا إلى «الجراثيم» ببساطة، وقد انتابتهن مخاوف شديدة من آثارها على سلامة وصحة أطفالهن، وكان لديهن سبب وجيه وراء هذه المخاوف؛ حيث إنهن نشأن على سماع روايات عن وفيات الأطفال الهائلة بسبب الأمراض المعدية في العصور السابقة؛ إذ رأى البعض بأعينهن مباشرة التأثير المدمر لجائحة الإنفلونزا عام 1918، وقد شهدن الكساح المريع والوفيات المتكررة نتيجة لمرض شلل الأطفال قبل اختراع لقاح سالك عام 1954. كانت مخاطر الطفولة كثيرة ومتنوعة: الدفتيريا، والسعال الديكي، والحصبة، والجدري، والإنفلونزا، ونزلات البرد، والالتهاب الشعبي، والالتهاب الرئوي، والتهاب غشاء الجنبة المحيط بالرئة، والتهاب المعدة، وتعفن سكروت، والديدان الأسطوانية، والسلاق، والقوباء، بل أيضا المهانة التي يتعرض لها المرء المصاب بسعفة الرياضي والثؤلول الأخمصي عند زيارته لحمامات السباحة. في عائلتي، عائلة دنكان، عانينا من كل هذا في الأيام التي سبقت ظهور المضادات الحيوية والتطعيمات، مع أننا حاولنا جاهدين تجنب حمى الخنادق. وقد رأينا حولنا أشخاصا يعانون من السل، وشلل الأطفال، والتهاب السحايا الدماغية، ويموتون منها في بعض الحالات.
دون شك، شهد أجدادنا الأوائل الكثير من هذه الأمراض، مع أن الجدري كان المرض الفتاك الأول بالنسبة للأطفال على مدار قرون. وعقب حملة تطعيم على مستوى العالم عام 1977، محي هذا المرض بنجاح، فيما خلا بعض العينات منه التي حفظت من أجل الأبحاث العلمية، لكن ليس من المستغرب أن الجدري والطاعون هما المرضان الأكثر تأثيرا في إثارة الخوف ونشر الفزع إذا ما استخدما في هجوم إرهابي.
الجدري هو مرض نعرفه نحن الكاتبين حق المعرفة؛ فمنذ أوائل تسعينيات القرن العشرين ونحن ندرسه دراسة دقيقة، ولا نتعامل مع الفيروس الفعلي، لكننا نعمل بطريقة آمنة في مكاتبنا حيث نستعين بالبيانات الموجودة في قوائم وفيات لندن، وسجلات الدفن الخاصة بالأبرشيات، وسجلات وزارة الصحة. لقد أمدتنا هذه المصادر الرائعة بمعلومات عن أولئك الذين لقوا حتفهم من المرض بدءا من أقدم نوبة تفش مسجلة في القرن السادس عشر حتى آخر وباء كبير اجتاح أوروبا عام 1870. لطالما نجحنا في تبسيط عرض نوبات التفشي المختلفة في المناطق الريفية والحضرية، وأوضحنا العوامل التي لعبت دورا كبيرا في إثارة الأوبئة. لقد نشرنا أبحاثنا في عدد من الدوريات العلمية، ولا بد أنه ذاع صيتنا؛ ذلك لأنه في أعقاب الهجمات الإرهابية على الولايات المتحدة في الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، إذ بنا نفاجأ بإقبال كبير على خبراتنا، ووجدنا أنفسنا نساعد في محاولات تحليل النتائج المحتملة لإطلاق الإرهابيين للفيروس.
بطريقة ما أو بأخرى، تعلم الإنسان اليوم التعايش مع الأمراض المعدية، ولا يؤدي السعال الديكي والحصبة إلى وفيات كبيرة إلا بين الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية في البلدان النامية. والأكثر خطورة في المنطقة الاستوائية هي الأمراض المعدية الأخرى المميتة مثل الملاريا، ومرض النوم، والبلهارسيا، والكوليرا، التي تعد من الأسباب الخطيرة للوفاة حاليا. والجميع يعرف عن جائحة فيروس نقص المناعة البشري والإيدز. يواصل مستودع أسلحتنا الذي يقاوم الأمراض المعدية النمو ونكسب بعض المعارك بجدارة، لكن الحرب مستمرة بلا شك.
يمكن استخدام تشبيه مماثل لوصف الصراع الدائر عندما يصاب الجسد البشري بالعدوى. الجراثيم أو العوامل المعدية هي طفيليات تشترك جميعها في خاصية واحدة تتمثل في أن الإنسان هو البيئة الملائمة التي يعيشون فيها؛ حيث يجدون المأوى والمأكل ويمكنهم التكاثر بغزارة. كل عدوى هي صراع بين العامل المعدي والعائل: فالطفيل يكافح من أجل البقاء والتكاثر، فيما يشن الجهاز المناعي للعائل ما يشبه دفاعا حربيا مصمما للعثور على الميكروب وتدميره والتخلص منه.
ثمة عامل آخر ذو أهمية كبرى للغاية للعوامل المعدية، ألا وهو أنه يتعين عليها الانتقال من إنسان إلى آخر؛ فهذا أمر جوهري في استراتيجية نجاة كافة الأمراض المعدية؛ لأنه في آخر المطاف سوف يتخلص العائل من العدوى أو يموت. قد يحدث انتقال للمرض على نحو مباشر من شخص إلى آخر (كما هو الحال مع الحصبة والجدري)، أو على نحو غير مباشر، حيث يتضمن الأمر حيوانا وسيطا (كما هو الحال مع البعوضة التي تنقل الملاريا). وعلى مدار آلاف السنين يحابي التطور تلك الجراثيم التي يمكنها أن تنقل العدوى بنجاح من ضحية إلى أخرى. (1) دراسة الأوبئة
علم الأوبئة فرع مهم من فروع الطب، وأحد الأمثلة على تطبيقه المعتاد هو الدراسة العالمية السنوية التي تجري لتحديد سلالة فيروس الإنفلونزا المحتمل أن يضرب الأفراد إبان الشتاء التالي؛ فما إن يتم التعرف عليها حتى يمكن إتاحة كميات كافية من اللقاح المناسب. واليوم عندما يظهر مرض جديد مثل حمى لاسا النزفية، أو إيبولا، أو سارس، أو الإيدز، يكون لدى علماء الأوبئة مجموعة من التقنيات المتاحة لتحديد طبيعة العامل المعدي. من ضمن هذه التقنيات الفحص الفوري للضحايا، وفحص عينات دم وأنسجة أخرى، واقتفاء أثر خطوط العدوى، وتحديد مسار المرض وخواصه، وتقدير درجة خطورته وقدرته على نقل العدوى. وبالتدريج من كل هذه المصادر يمكن تكوين صورة للمرض وتكملتها بتقنيات مستمدة من الإحصاءات الرياضية وبناء النماذج، وعلم الأحياء الدقيقة، وعلم الأمصال، وعلم الأحياء الجزيئية، بما فيها تحديد تسلسل الدي إن إيه.
على أن مؤرخي علم الأوبئة يجابهون مهمة أصعب بكثير، ولا سيما عند التعامل مع أوبئة أمراض معدية كانت سائدة في العصور الوسطى؛ ذلك لأن الأدلة الحاسمة قليلة للغاية غالبا، فيما خلا بعض الروايات التي لم يعرف مدى موثوقيتها، والتي صمدت رغم مرور الزمن. ثمة مثال نموذجي ألا وهو «مرض التعرق» الإنجليزي المحير والفتاك الذي انتشر في القرنين الخامس عشر والسادس عشر (سنتناوله باستفاضة في الفصل الثامن عشر). أضف إلى ذلك أنه من الصعب تمييز ما هو موثوق به عما هو مختلق في القرون المتخللة بما يتوافق مع الأفكار السائدة في ذلك الزمن. على أنه، بالرغم من تلك المشكلات، يمكننا الاعتماد على حقيقة أن كل مرض يترك بصماته. إن أي محاولة جادة لفهم العامل المعدي المسئول عن الطاعون لا بد أن تبدأ بدراسة عملية لبيولوجية الطاعون وخواصه، بقدر ما نتمكن من اكتشافها. (2) قراءة البصمات
قبل أن نتعمق أكثر في بحثنا، لا بد أن نذكر حقيقة واحدة مهمة، ألا وهي أن كل مرض معد يتميز بحقيقتين ثابتتين مهمتين: «فترة حضانة المرض»، و«فترة انتقال العدوى». فترة الحضانة هي الفترة التي تتخلل الإصابة بالمرض وظهور أولى أعراضه. تتكاثر أثناء تلك الفترة الجرثومة الغازية بسرعة داخل ضحيتها، دون أن تدري الضحية بوجودها عموما. فترة انتقال العدوى هي الفترة التي يمكن أن ينقل الفرد خلالها العدوى إلى آخرين.
يظهر في المخطط أدناه تسلسل أحداث مرض بسيط ينتقل مباشرة (مثل الحصبة أو الجدري).
يعقب الإصابة فترة كمون تتكاثر خلالها الجراثيم بغزارة إلى أن تصبح الضحية معدية. تستمر الجراثيم في التكاثر إلى أن يتوافر منها ما يكفي لظهور الأعراض، وهي تلك اللحظة التي يدرك عندها الشخص أنه أصيب ويعاني من المرض. من ثم فترة الحضانة هي صفة مميزة لكل مرض معد؛ لأنها تعتمد في المقام الأول على معدل نمو الجراثيم الغازية.
إذا كانت فترة كمون المرض أقصر من فترة حضانته، فإن المصاب سوف يكون معديا قبل ظهور الأعراض، وعليه فقد ينقل المرض إلى آخرين دون أن يدري. تلك طريقة فعالة للغاية تتيح للعامل المعدي نقل العدوى إلى عائل آخر. ربما تظل أو لا تظل الضحية معدية بعد ظهور الأعراض، على حسب المرض، وتصبح احتمالات انتقال العدوى أقل وإن ظلت العدوى ممكنة الحدوث.
تسلسل الأحداث أثناء الانتقال المباشر لمرض بسيط من شخص إلى آخر. يشار إلى الفترة التي تتخلل الإصابة بالمرض وظهور الأعراض بفترة الحضانة. إبان فترة الكمون لا تكون الضحية معدية.
في نهاية المطاف يكمل المرض مراحل تطوره في جسد الإنسان، ولكي تستمر العدوى لا بد أن تكون قد أصابت شخصا آخر على الأقل. في لحظة ما ينتقل المصاب إلى مرحلة اللاعدوى، ويحدث ذلك غالبا قبل أن تختفي الأعراض ويصبح نقل العدوى من بعدها مستحيلا.
وهكذا فالمدد الزمنية للحضانة وفترات الكمون والعدوى وعلاقة إحداهما بالأخرى مختلفة في كل مرض معد، وهي موضحة في الجدول أدناه:
المرض
فترة حضانة المرض (أيام)
فترة الكمون (أيام)
فترة انتقال العدوى (أيام)
هل المريض معد قبل ظهور الأعراض؟
الحصبة
8-13
6-9
6-7
نعم
النكاف
12-26
12-18
4-8
نعم
السعال الديكي
6-10
21-23
7-10
لا
الحصبة الألمانية
14-21
7-14
11-12
نعم
الدفتيريا
2-5
14-21
2-5
لا
الجديري المائي
13-17
8-12
10-11
نعم
شلل الأطفال
7-12
1-3
14-20
نعم
الإنفلونزا
1-3
1-3
2-3
أحيانا
الجدري
10-15
8-11
نحو 6
نعم
مدة انتقال العدوى هي أهم ما في هذه المعالم المتغيرة لأنها أقصى مدة زمنية يمكن أن ينتقل المرض خلالها من شخص إلى آخر. جميعنا تساءلنا لدى إصابتنا بنزلة برد شديدة وشعورنا بالأسى على أنفسنا، عن المدة التي نظل خلالها ناقلين للعدوى. يكشف الجدول أن قصة آلية عمل الأمراض المعدية أكثر تعقيدا مما افترضنا حتى يومنا هذا؛ إذ يختلف طول مدة العدوى اختلافا كبيرا بين الأمراض. الإنفلونزا مثال مثير للاهتمام بشكل خاص؛ فهناك ثلاثة أيام فقط كحد أقصى يمكن أن ينتقل المرض خلالها إلى الآخرين، ولجزء من هذه الفترة، يكون الضحية شديد الاعتلال فلا يقوى على أن يغادر الفراش. من ثم ما كان وباء الإنفلونزا لينتشر عبر مسافات بعيدة في الأيام التي كان يقتصر فيها سفر معظم الأشخاص على الانتقال سيرا على الأقدام. يختلف الموقف اليوم اختلافا تاما مع توفر السفر الجوي.
في العديد من أمراض الطفولة الشائعة - مثل الحصبة، والحصبة الألمانية، والجديري المائي - تكون فترة الكمون أقصر من فترة الحضانة؛ ومن ثم تصبح الضحية معدية قبل ظهور الأعراض. هذه الأمراض بالأخص يصعب التغلب عليها؛ فالطفل الذي يبدو معافى يمكنه أن ينقل العدوى إلى أطفال آخرين كثيرين في المدرسة، والعزل في الحجر الصحي بعد ظهور الأعراض محدود النفع.
وعلى النقيض من ذلك، فإن فترة حضانة كل من الدفتيريا والسعال الديكي قصيرة للغاية؛ فالأعراض تظهر بعد وقت قصير من الإصابة، لكن لا تصير الضحية معدية إلا بعد مرور أسبوعين آخرين. من المفترض أنه يسهل التغلب على هذه الأمراض التي يمكن أن تؤدي إلى الوفاة، شريطة أن يتم تشخيصها في وقت مبكر، وعندئذ يعزل المريض. لعل هذا أنقذ حياة أحد مؤلفي هذا الكتاب، كريس دنكان، عندما كان - وهو طفل صغير إبان الحرب العالمية الثانية - في حالة إعياء هو وأخوه الأصغر كولين، واحتجزا في الفراش في نفس الغرفة. كان كولين يعاني من التهاب حاد في الحلق، وكان طبيب العائلة يأتي كل يوم ليدهن حلقه بمطهر، وهي إحدى أكثر التجارب الكريهة بالنسبة لصبي صغير. أخيرا بعد بضعة أيام من العلاج (الذي كان غير مجد بالمرة) أدرك الطبيب أن كولين مصاب بالدفتيريا، وسرعان ما احتجز في مستشفى العزل. الأمر الذي أذهل العائلة أن كريس لم يصب بالدفتيريا مع أنه كان على احتكاك مع كولين في الوقت الذي كانت تظهر عليه أعراض المرض؛ فبفضل التشخيص المبكر الذي توصل إليه الطبيب، الذي عزل كولين قبل أن يصير معديا، لم ينقل كولين المرض إلى أي شخص آخر.
فيروس نقص المناعة البشرية هو مثال على مرض ذي فترة حضانة طويلة؛ مما يجعل من الصعب التغلب عليه. تستمر فترة الكمون لمدة تتراوح من أيام إلى أسابيع تقريبا، في حين أن فترة حضانة المرض، قبل ظهور أية أعراض، تبلغ نحو 10 سنوات. يمكن إرجاع جانب كبير من نجاحه إلى هذه المدة الزمنية الطويلة جدا عندما تكون الضحية معدية. والمرض الأكثر إثارة للذهول هو الصورة الجديدة لمرض كروتزفيلد جاكوب (المعروف باسم مرض «جنون البقر» البشري)، الذي أودى بحياة 100 شخص منذ عام 1996 - إذ تزيد فترة حضانة هذا المرض عن 40 عاما.
يتبين مما تقدم أن كل مرض له فترتا الكمون والعدوى المميزتان له، وهما اللتان تحددان مسار الأحداث إبان الوباء. هل من الممكن تحديد هذه المتغيرات بالنسبة للطاعون، حتى مع توافر معلومات قليلة الآن للاستفادة منها؟ بادئ ذي بدء، فإننا نحتاج إلى المزيد من المعلومات حول سلوك الأمراض التي تنقل العدوى مباشرة، والأساس العلمي لها، وأسباب انتشارها. (3) كيف ينتشر مرض ما؟
ليست جميع الأمراض معدية بنفس القدر. أخبرنا صديق محنك أنه علم طلابه هذه الحقيقة الأساسية بمثل بسيط: إذا ذهبت إلى حفلة وأنت مصاب بالجدري، فسوف تنتقل العدوى إلى الأفراد الذين يرقصون معك ، على أنه إذا ذهبت وأنت مصاب بالحصبة، فإن جميع من بالقاعة سوف يصاب بالعدوى.
يقودنا هذا إلى سؤال: هل بمقدورك قياس العدوى؟ أحد المقاييس النافعة يتمثل في متوسط عدد الأشخاص الذين ينقل المصاب العدوى إليهم إبان فترة المرض. يمكن توضيح هذا بقصة: تخيل رجلا سافر إلى لندن إبان طاعون من الطواعين الكثيرة التي كانت مستشرية في القرن السابع عشر وأصيب بالطاعون، بعدما أنهى أعماله، عاد بتمهل إلى القرية مسقط رأسه، التي تبعد 185 ميلا (300 كيلومتر)، جالبا العدوى معه دون أن يدري. لدى وصوله إلى منزله، بدا ظاهريا أنه يتمتع بوافر الصحة لأن المرض لا يزال في فترة حضانته. نظرا لأنه المصاب الذي وصل أولا إلى المجتمع الصغير، يطلق عليه الحالة «الأولى» وتظهر قصته في المخطط التالي:
قصة الرجل، الحالة الأولى، الذي جلب الطاعون إلى قريته ونقل العدوى إلى أربعة أشخاص (الحالات الثانوية (1)، (2)، (3)، (4)).
هب أنه أصاب أربعة أشخاص آخرين إصابة مباشرة (يطلق عليهم حالات المرحلة الثانية). فهو ينقل العدوى أولا إلى زوجته (1) التي تنقل بدورها المرض إلى ثلاثة من أطفالهم. يلقى آخر هؤلاء الأطفال حتفه بعد مرور 11 أسبوعا على إصابة والدهم في لندن.
ثانيا: ينقل العدوى إلى عامله (2)، الذي يموت بمفرده في كوخه الصغير ولا ينقل العدوى إلى أي شخص آخر.
ثم ينقل الرجل العدوى إلى ابنة العائلة (3) التي تقطن كوخا قريبا عندما تأتي للعب مع أطفاله؛ ونتيجة لذلك تحمل الفتاة المرض إلى أفراد عائلتها الآخرين.
في النهاية، يذهب إلى الحانة مع صديق قديم (4)، الذي يصاب بالعدوى. بعدها بأسبوعين يذهب (4) إلى معرض قريب حيث ينقل المرض إلى كثيرين آخرين ممن كانوا يستمتعون باللهو واللعب هناك. بالتأكيد هو السبب الأولي في انتقال العدوى.
في هذه القصة يعود الرجل صاحب الحالة الأولى من رحلته خارج مجتمعه، وينقل العدوى إلى أربعة أشخاص، وهكذا تبدأ أربعة مسارات للعدوى. شخص واحد من حالات عدوى المرحلة الثانية (العامل (2)) لا ينقل العدوى إلى أي شخص آخر؛ من ثم يختفي مسار العدوى. يصيب شخصان من حالات عدوى المرحلة الثانية (الزوجة (1) والطفلة (3)) أفراد عائلتيهما، الذين قد ينقلون العدوى بدورهم فيما بعد إلى أشخاص آخرين في القرية يكونون على احتكاك بهم. الآن يجمع الوباء زخما شيئا فشيئا. يذهب الرجل (4) إلى المعرض في أواخر الصيف إبان فترة عدواه، ويختلط بالحشد هناك وينقل الطاعون إلى سبعة أشخاص.
ينقل حالات المرحلة الثانية الأربعة العدوى إلى 12 شخصا (يطلق عليهم حالات المرحلة الثالثة) فيما بينهم؛ ومن ثم فكل حالة من حالات المرحلة الثانية تنقل العدوى إلى ثلاثة أشخاص آخرين في المتوسط.
من خلال تتبع جميع مسارات العدوى في أحد الأوبئة بمزيد من التدقيق، من الممكن الوصول إلى مقياس عام لعدوى الطاعون في ضوء إجمالي متوسط عدد الأفراد الذين ينقل المصاب العدوى إليهم.
بالطبع سوف يضمن السلوك البشري وجود تنوع كبير في معدلات نقل المرض. على سبيل المثال، الشخص المحبوس وحيدا في منزله لن ينقل العدوى إلى أحد، في حين أن الرجل الذي يذهب إلى الكنيسة قد ينقل العدوى إلى ثلاثة أشخاص أثناء القداس. والرجل الذي يقضي أمسية في الحانة مع الأصدقاء قد ينقل المرض إلى أربعة أشخاص آخرين في زيارة واحدة، في حين أن الرجل الذي يذهب إلى السوق ويحتك بجموع الناس ويتجاذب أطراف الحديث مع معارفه، قد ينقل العدوى إلى عشرة أشخاص.
توضح هذه القصة كيف أن معدلات نقل العدوى عبر مسارات العدوى يمكن أن تتنوع تنوعا كبيرا. يتضح مما علمناه أنه كان من السهل نسبيا نشر الطاعون بداخل العائلة الواحدة، لكن الأكثر صعوبة نقله إلى عائلة أخرى. أضف إلى ذلك أن المرض كان ينتشر بسهولة أكبر في الأماكن التي يحتشد فيها الأفراد. وكما رأينا تعلمت السلطات في إنجلترا هذه الحقيقة الحياتية الصعبة بحلول القرن السادس عشر؛ إذ كانت تلغي المعارض السنوية الكبيرة مع أول أمارة لوجود وباء طاعون. (4) ملامح الوباء
يطلق على متوسط عدد الأفراد الذين تنتقل إليهم عدوى المرض من أحد المصابين «معدل انتقال العدوى». يمكن معرفة قدر لا بأس به من المعلومات عن المرض من خلال تتبع المسارات الفعلية لنقل العدوى التي وصفناها آنفا:
إذا نقل كل مصاب المرض «في المتوسط» إلى شخص واحد آخر عرضة للإصابة، فسوف يستمر المرض في الانتقال ببطء بنفس المعدل تقريبا. في مثل هذه الظروف يقال على المرض وباء مستوطن.
إذا نقل كل مصاب المرض «في المتوسط» إلى أكثر من شخص واحد، فسوف ينفجر الوباء، وكلما كان معدل انتقال العدوى أكبر، كان معدل الانفجار أكبر وأسرع.
إلا أنه، إذا نقل كل مصاب المرض «في المتوسط» إلى أقل من شخص واحد آخر (على سبيل المثال، إذا نقل أربعة مصابين العدوى إلى شخصين فقط في المجمل)، فقطعا سيختفي الوباء. تحدث نقطة التحول في أحد الأوبئة عندما يقل معدل انتقال العدوى عن شخص واحد.
يمكننا الآن أن نجمع كل هذه التفاصيل الخاصة بنظرية الأوبئة للأمراض المعدية معا. نوضح في المخطط التالي المسار الزمني لوباء الطاعون في مدينة نيوكاسل آبون تاين، بإنجلترا في صيف عام 1636.
وفيات الطاعون الأسبوعية في نيوكاسل آبون تاين بعد بدء الوباء في الرابع عشر من مايو 1636. عادة ما يرتفع معدل الوفيات ارتفاعا حادا ليصل إلى ذروته في الأسبوع السادس عشر قبل أن يستوي عند مرحلة استقرار تدوم 6 أسابيع ليتهاوى الوباء بعدها ويزول.
تذهلنا جسامة الوفيات في الحال؛ إذ يزيد إجمالي الخسائر في الأرواح عن 4000 شخص؛ نظرا لأن عدد الوفيات قد بلغ في ذروة الوباء 350 شخصا أسبوعيا. يتضح من المخطط أيضا أن المجتمع عانى من هذا الوباء لمدة تزيد على التسعة أشهر، وهي فترة زمنية طويلة للغاية بالنسبة لنوبة تفشي مرض معد.
يمكننا أن نقسم هذا الوباء في نيوكاسل إلى ثلاث مراحل؛ أولا: مرحلة تصاعد مبدئية عندما يبدأ الوباء في الزحف. ترتفع الوفيات تدريجيا ثم تجمع زخما متزايدا باستمرار. من الواضح أن كل مصاب ينقل المرض إلى أكثر من شخص واحد آخر إبان هذه المرحلة.
ثانيا: مرحلة استقرار تدوم لنحو ستة أسابيع في ذروة الوباء، عندما يظل معدل الوفيات الأسبوعي ثابتا تقريبا. عند هذه النقطة سوف ينقل كل مصاب المرض في المتوسط إلى شخص واحد آخر فقط. مع أن معدل الخسائر في الأرواح الأسبوعي يصل إلى ذروته، وتبدو الدنيا قاتمة لدى سكان نيوكاسل. في حقيقة الأمر، تلوح النهاية في الآفاق.
وأخيرا، مرحلة الانحسار التي يندثر فيها الوباء. يتراجع بثبات متوسط معدل انتقال العدوى في تلك المرحلة، وطوال هذه المرحلة الأخيرة ينقل الفرد المصاب العدوى في المتوسط إلى أقل من شخص واحد آخر.
ينطبق هذا المنحنى الذي يأخذ شكل جرس على جميع الأوبئة المعدية، إلا أن الأمراض تختلف اختلافا كبيرا من حيث تفاصيلها، ولا سيما في معدل التصاعد إبان المرحلة الأولى ومدة الوباء. ما سبب هذا؟
عندما يصل طاعون إلى مجتمع ما، بسبب أول حالة تظهر، فإن جميع الأفراد الذين لديهم قابلية للإصابة يكونون جاهزين لغزو الطاعون. يكون انتقال العدوى سهلا نسبيا في البداية، فعلى سبيل المثال: إذا كان كل مصاب ينقل المرض في المتوسط إلى أربعة أشخاص، فإن عدد الضحايا في كل موجة متتالية سوف يتصاعد سريعا من 4 إلى 16 إلى 64 إلى 256، وهكذا. وهكذا ينفجر الوباء بمعدل متزايد على الدوام. هذه هي بداية المرحلة الأولى من الوباء.
لكن هذا لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية؛ نظرا لأن عدد الوفيات يتزايد باستمرار ويواجه العامل المعدي صعوبة متزايدة في العثور على ضحايا جدد. وعليه فلا مفر من أن يبدأ معدل انتقال العدوى في الهبوط، ويصل الوباء إلى مرحلة استقرار عندما ينقل كل مصاب «في المتوسط» العدوى إلى شخص واحد آخر فحسب. مع أن المجتمع المصاب سوف يفكر عكس ذلك، فإن عالم الأوبئة سوف يدرك أن الخطر زال، فهذه بداية النهاية.
ربما تكون فترة الاستقرار قصيرة للغاية نظرا لأن معدل انتقال العدوى حتما سيستمر في الهبوط، ولا يلبث أن يقل عن الواحد حتى يبدأ الوباء في الانزواء إبان الفترة النهائية. قد تستغرق عملية الإنهاء بعض الوقت حيث إنه مع وجود فترة حضانة طويلة يكون لدى العدوى الانتهازية متسع من الوقت لاستهداف ضحايا عشوائيين باقين.
بلا ريب يمكن للسلوك البشري أن يغير مسار أحد الأوبئة، فإذا أسرع المجتمع في اتخاذ تدابير الحجر الصحي، عازلا الضحايا الأوائل ومن هم على احتكاك بهم، وإذا حبس بعض الأفراد أنفسهم في أجواء آمنة داخل منازلهم، فسوف يقلل هذا معدل انتقال المرض بدرجة كبيرة.
يعد المسار الزمني لوباء الطاعون، مثل ذلك الموضح في المثال أعلاه، هو النوع المفضل من الأدلة التي يمكن أن يستند إليه مؤرخ علم الأوبئة. تشبه هذه المخططات بصمات الإصبع التي تركها مجرم منذ 400 سنة. (5) تفسير منحنى الجرس
رأينا أن شكل منحنى الجرس الدقيق الذي يصف الوباء يتحدد من خلال عاملين خاصين ومميزين للمرض. أولهما: طول فترة الحضانة التي تحدد الوقت الفاصل بين أي عدويين متتاليتين في أحد مسارات انتقال العدوى، فكلما طالت فترة الحضانة، بطؤ تطور الوباء ودام لوقت أطول. ثانيهما: حجم عدوى المرض في ضوء متوسط عدد الأفراد الذين ينقل المصاب المرض إليهم، فالمرض يتطور على نحو أسرع عندما يكون حجم العدوى كبيرا.
بما أننا نفهم العاملين اللذين يحددان الشكل الجرسي للمخطط، فمن الممكن أن نصوغ معادلة تصفه، وبعد ذلك نطور برنامج كمبيوتر يمثل أحد الأوبئة. كل ما علينا فعله هو إدخال المتغيرات، مثل: فترة الحضانة، ومعدل انتقال العدوى عند بدء الوباء، وحجم السكان، وسوف ينتج البرنامج الحاسوبي مخططا للمسار الزمني المتوقع للمرض.
يمكن توضيح هذه النقطة من خلال إلقاء نظرة على نموذج حاسوبي يصف وباءين في نفس المجتمع لمرضين مختلفين تماما: الإنفلونزا (ذات فترة الحضانة القصيرة التي تدوم لثلاثة أيام) وطاعون افتراضي (ذو فترة حضانة أطول بكثير). يفترض أن نفس معدل نقل العدوى المبدئي واحد في كلا الوباءين.
نموذج حاسوبي يوضح الفارق الكبير بين وبائي الإنفلونزا والطاعون.
ثمة اختلاف هائل بين المنحنيين: يصل وباء الإنفلونزا إلى ذروته بسرعة شديدة وينتهي في غضون نحو أسبوعين، في حين أن وباء الطاعون يستجمع قواه ببطء شديد ويستمر بين الأفراد لنحو ثمانية أشهر.
شغلنا البرنامج الحاسوبي مرات عديدة، مع تغيير طول فترة الحضانة، ووجدنا أن مدة بقاء الوباء تزيد بزيادة فترة الحضانة. بالاستفادة من هذا الإدراك المتأخر تكون النتيجة واضحة، بيد أن لدينا الآن حقائق ملموسة يمكننا الاعتماد عليها.
بما أن هذا النموذج يتبع قواعد علم الأوبئة، فثمة احتمال قوي، كما ظننا بالفعل، أن وباء الطاعون في نيوكاسل كان نتيجة نوبة تفش لمرض معد كان ينتقل على نحو مباشر من شخص إلى آخر. ولأن هذه النوبة وكثيرا من الطواعين في إنجلترا دامت لنحو ثمانية أشهر، فقد أشار النموذج الحاسوبي بقوة إلى أن هذا المرض كان له فترة حضانة طويلة - شهر على الأرجح - على العكس تماما من الانفجار السريع لوباء إنفلونزا. نحن الآن على استعداد تام لاستخدام هذه المعلومات في الفصل التالي.
الفصل التاسع
تحديد ملامح السفاح
من خلال العمل الدءوب، يمكن استقاء جميع المعلومات الضرورية التي نحتاجها من مصدر واحد لا يقدر بثمن، ألا وهو سجلات الأبرشيات الإنجليزية. والشيء الغريب أنه ما من مؤرخ انتفع انتفاعا كاملا من هذا المصدر الرائع للمعلومات لدراسة الأساس العلمي ومنشأ مرض معد فتاك. لا يمكننا زيارة المشهد الفعلي للجريمة مثلما يفعل المفتشون الشرطيون؛ ومن ثم يكون من الضروري تجميع جميع تفاصيل أحداث وباء توغل منذ 400 عام. لهذا نحتاج إلى أن نعرف من كان يعيش في كل عائلة في ذلك الوقت، والعلاقات المتشابكة التي تربط بين العائلات. إن فحص هذه الأمور مهمة تستغرق وقتا طويلا، إلا أن سو سكوت في دراساتها التاريخية لبنريث، حددت بالفعل بنية جميع العائلات في الأبرشية، وهي مهمة ضخمة نظرا لأنه كان يوجد 40 ألف قيد على مدار 300 عام. وقد حددت التجمعات العائلية وأعمار عدد كبير من الأفراد الذين كانوا على قيد الحياة عندما تفشى الطاعون. شعرنا أن لدينا صورة حية عن المجتمع هناك، وأننا نعرفهم مثلما نعرف جيراننا اليوم إلى حد بعيد.
وعليه فقد عدنا للمرة الثالثة إلى النتائج التي توصلت إليها سو، إلى أقرب نقطة أمكننا الوصول إليها كي نشهد مسرح الجريمة. هكذا تمكننا من تحقيق الإنجاز. (1) مؤرخون محققون قيد العمل
إن أول مهمة في التعامل مع سجلات الدفن مباشرة هي إحصاء أعداد وفيات الطاعون في كل شهر ووضع علامة عليها.
وفيات الطاعون كل شهر في أبرشية بنريث إبان الوباء الذي بدأ في سبتمبر عام 1597. كان يوجد عدد قليل من الوفيات أثناء الخريف واختفت النوبة تقريبا في الشتاء، إلا أنها عاودت الظهور في الربيع ووصلت إلى أوجها في صيف عام 1598.
كانت أول حالة وفاة بسبب الطاعون في الثاني والعشرين من سبتمبر عام 1597، وكانت الأخيرة مسجلة بتاريخ السادس من يناير عام 1599. استمر ابتلاء الطاعون في بنريث لمدة 15 شهرا، وهي مدة طويلة على نحو ملحوظ بالنسبة لوباء معد. مرة أخرى ترك الوباء اللعين بصمته.
الأمر الذي يصبح جليا في الحال هو أن الوباء على ما يبدو كان يحدث على مرحلتين منفصلتين لا تتصلان إلا اتصالا ضعيفا أثناء الصيف؛ ومن ثم قسمنا النوبة إلى ثلاث مراحل:
حدثت المرحلة الأولى إبان خريف عام 1597، عندما بدأ الأمر بوباء صغير. بعد حالة الوفاة الأولى في الثاني والعشرين من سبتمبر، كانت هناك فترة توقف طويلة على نحو يدعو للغرابة حيث لم تقع أية وفيات حتى الرابع عشر من أكتوبر، أي على مدار ما يزيد على ثلاثة أسابيع لاحقة. هذا هو الخيط التالي لعلم وباء الطاعون. من الواضح أنه كانت هناك بداية تدريجية للوباء، حيث بدأت الخسائر في الأرواح ترتفع بعد ذلك رويدا رويدا لتصل إلى قمة صغيرة في شهري نوفمبر وديسمبر.
كما رأينا من قبل، كانت بداية فصل الشتاء في المرحلة الثانية من الوباء تكبح جماح الطاعون. في نهاية القرن السادس عشر، إبان فترة العصر الجليدي الصغير، كانت فصول الشتاء قارسة وطويلة على نحو غير معتاد. كانت الأحوال الطقسية في وادي آيدن قاسية على نحو خاص؛ نظرا لأن مساكنهم (على غرار مساكن معظم سكان إنجلترا) باردة، ومعرضة للتيارات الهوائية، ومعزولة عزلا رديئا، وكان يوجد نقص في الوقود، وكانت ملابس الخروج بسيطة على عكس حالنا اليوم. وجد هذا المرض صعوبة بالغة في الانتقال إلى الضحية التالية، وبدا أن الوباء قد اندثر؛ فلم تحدث خسائر في الأرواح بسبب الطاعون في يناير عام 1598، ولم تحدث سوى حالة وفاة واحدة في شهر فبراير. اجتاز الطاعون الشتاء بصعوبة بالغة، وتخللت فترات فاصلة طويلة للغاية الوفيات المتتالية في هذا الوقت. لو أن خط العدوى كان قد انكسر انكسارا كاملا، لنجا المجتمع من الأسوأ الذي لم يكن قد حل بعد .
استعاد الوباء نشاطه في مرحلته الثالثة مرة أخرى، وذلك في شهر مارس من نفس العام، وبدأ معدل الوفيات يرتفع بثبات، مع حدوث زيادة هائلة في الوفيات في شهر مايو. كانت هذه أكثر مراحل نوبة التفشي تدميرا، ووصلت الخسائر في الأرواح ذروتها في يوليو وأغسطس.
في آخر المطاف اضمحلت المرحلة الثالثة، وبعد حالة الوفاة الأخيرة في السادس من يناير عام 1599، كتبت العبارة التالية في السجلات: «هنا انتهى الابتلاء»، وهي كلمات تبدو بطريقة ما واهنة على أن تعلن نهاية ما كان بلا شك أسوأ فترة في تاريخ هذه البلدة الصغيرة بأكمله.
يتطابق نمط الوفيات في الفترة الممتدة من مارس حتى ديسمبر 1598 في المرحلة الثالثة بحذافيره مع تسلسل أحداث كل وباء مرض معد: منحنى صعود أولي لانتقال العدوى، يعقبه مرحلة استقرار قصيرة قبل أن تخمد النوبة. علاوة على أن المرحلة الثالثة تتطابق بحذافيرها مع الوباء في نيوكاسل، فكلاهما دام تسعة أشهر. (2) القيمة الحقيقية لسجلات الأبرشية
حتى الآن اكتفينا باستخدام سجلات الوفاة كي نحصي وفيات الطاعون الشهرية. تعلمنا من خلال تحليل هذه الإحصاءات المباشرة قدرا لا بأس به من المعلومات حول الطاعون. على أن السجلات تخفي ما هو أكثر من ذلك بكثير، إنها تخفي معلومات قيمة للغاية عن المرض؛ فهي تحوي معلومات خاصة بأحداث مهمة في حيوات الأشخاص الحقيقيين.
نجد فيما يأتي اقتباسا من سجلات بنريث يبدأ من اليوم المشئوم الثاني والعشرين من سبتمبر، ويغطي المرحلة الأولى من الطاعون. تقدم هذه القائمة من الأسماء لمحة صغيرة عن تاريخنا، ونتعجب بشأن قصة «الغلمان المساكين المجهولين» الذين دفنوا في الخامس عشر من أكتوبر والثامن من نوفمبر.
سجلات مدافن بنريث، 1597
سبتمبر
22
أندرو هوجسون، غريب (ها هنا بدأ الطاعون (عقاب الله) في بنريث.) (أولئك المشار إليهم بحرف بي
لقوا حتفهم بفعل المرض، وأولئك المشار إليهم بحرف إف
F (اختصارا لكلمة
fell
بمعنى منحدر) دفنوا أعلى منحدر جبلي.)
24
جريس ووكر، خادمة مسكينة.
25
توماس هيرد من منطقة موراي جيت.
27
جون ستيل من ضاحية كارلتون.
27
طفل مسكين.
أكتوبر
3
نفس اليوم الذي بدأ فيه الطاعون في كارلايل.
5
توما إس بن إدموند بلاكبيرن.
10
إليزابيث ستيل، أرملة.
11
إليزابيث دي ابنة توماس.
13
غلام مسكين يدعى روبت ويلسون.
14
إليزابيث دي ابنة جون ريلتون.
15
صبي مسكين مجهول الهوية.
15
ستيف نيلسون دي كيل.
15
لانسيلوت موسجريف من النبلاء.
15
آنز كارتميل.
20
أحد أبناء جون ريلتون.
22
توماس بانتينج، بناء.
24
جون ريلتون، صانع أدوات المائدة.
24
إكسبوفر (= كريستوفر) إس بن جون ستيل.
25
مارجريت دي بنت ويلم بليسي.
26
جون إس بن ستيفن نيلسون.
27
جانيت بنت ستيفن نيلسون.
28
السيد ريتشارد دروري توفي في بنريث.
28
ريتشارد إس بن السيد ويلم هاتن.
28
إيزابيل دي بنت توماس ويندر.
نوفمبر
1
أنطوني ريلتون، صبي.
1
إكبسوفر إس من آل جون ستيل.
4
مابيل، زوجة جون ريلتون.
4
سوزان ريلتون، أرملة.
6
كاثرين زوجة روبت جاكسون.
6
إليزابيث ريلتون.
8
هيلين زوجة جيمس إميرسون.
8
صبي مسكين مجهول الهوية.
10
مابيل بنت جون جيبسون.
10
أنطوني إس بن توماس هيور.
12
مارجريت دي من آل توماس هيور.
13
توماس هيور.
15
إيزابيل زوجة رولاند وود.
16
جون جيبسون من قرية دوكراي.
16
أمبروز بوب.
20
جون هاسكيو، عامل نظافة.
20
جين ابنة توماس سكليتر.
22
ماريون ابنة توماس بارني.
23
كاثرين ابنة توماس هيور.
23
باربرا زوجة مايلز تيرنر.
24
جون ابنة روبرت سيمسون.
24
جيلبرت إس بن جون واطسون.
24
جين ابنة توماس هاين.
24
ماري ابنة جون واطسون.
24
توماس بن ويلم هاسكيو.
26
جون بن توماس هيور.
ديسمبر
3
كاثرين زوجة جون كوك.
3
آنز كلارك.
3
مايكل بن جون ووكر.
3
إليزابيث بنت جون واتسون.
3
جيلبرت بن جون كوك.
6
جون إس من آل روبرت ريتشاردباي.
9
جانيت زوجة روبت ليديمان.
12
جون ليفوك، نجار.
16
إحدى بنات ريتشارد بليسي.
22
أليس ابنة جون ووكر.
22
إليزابيث زوجة جون سمولمان.
24
آنز دي ابنة ريتشارد بليسي.
24
ماريون زوجة توماس هورنزبي.
25
جون بن ريتشارد بليسي.
26
جين ووكر، أرملة.
تفقدنا مرة أخرى تواريخ الوصايا الأصلية للأشخاص الذين ماتوا بسبب الطاعون، ومنها استنتجنا أن الفترة التي كانت تفصل بين ظهور الأعراض، عندما كان الضحية يدرك أنه هالك، وبين موته بلغت خمسة أيام.
من نموذجنا الحاسوبي الذي أشرنا إليه قبلا خمنا أنه ربما كانت فترة حضانة المرض طويلة. لكن هل يتطابق هذا مع الأحداث الفعلية في بنريث؟ بعد إدخال التعديلات على النموذج الحاسوبي، وصلت فترة الحضانة إلى 32 يوما وفق حساباتنا، وعليه كافتراض عملي، بدأنا ب 32 + 5 أيام أي ما يساوي 37 يوما، للفترة من بدء الإصابة حتى الوفاة.
لحساب تسلسل الإصابات يتطلب الأمر بعض العمل المفصل والدقيق ونحتاج إلى ترتيب معلوماتنا في شكل جدول خاص. بمقدور أي شخص تجربة الأمر بنفسه إذا حصل على نسخة من أحد السجلات الكثيرة المطبوعة الرائعة للأبرشية التي تحصر الوفيات إبان إحدى هجمات الطاعون، يمكن أن تتوافر هذه النسخ في الكثير من مكتبات المراجع المحلية. إليك الكيفية التي تبدأ بها في التعامل معه:
إن بداية نوبة الطاعون لها أهمية كبرى في هذا العمل؛ فالأحداث تتطور بالتدريج في هذه المرحلة والتحليل أمر ممكن، والوفيات العديدة في أي يوم من الأيام والفوضى العارمة في ذروة الوباء؛ كل هذا يجعل من الصعب جدا - ما لم يكن مستحيلا - فرز مسارات العدوى الكثيرة.
بادئ ذي بدء رتبنا الضحايا في عائلات، الذين كانوا مصنفين حينها على نحو متسلسل على حسب ترتيب إصابتهم بالطاعون. تظهر الأشهر القلائل الأولى للوباء، بدءا من السادس عشر من أغسطس 1597 في المخطط اللآتي:
بداية الطاعون في بنريث في خريف عام 1597. ينقسم الخط الموجود أمام كل ضحية إلى فترتي كمون وعدوى، ويشار إلى الموت بالنقاط الكبيرة. نقل أندرو هوجسون، الغريب الذي كان مقيما عند جون ريلتون، العدوى إلى ثلاثة أفراد فحسب من العائلة قبيل موته. ولا بد أن العدوى انتقلت إلى مابيل من أحد أبنائها.
لقي الضحية الأولى، أندرو هوجسون الغريب، حتفه في الثاني والعشرين من سبتمبر، ويمكن تمييز يوم وفاته في المخطط البياني بنقطة. ولأننا نعتقد أنه أصيب قبل ذلك ب 37 يوما، فيمكن رسم خط يمتد إلى الوراء إلى السادس عشر من أغسطس أمام اسمه، إشارة إلى الفترة من بدء الإصابة إلى الوفاة.
وصل هوجسون في الفترة ما بين الثالث والعشرين من أغسطس والسادس من سبتمبر عام 1597، وأقام لدى جون ريلتون، صانع أدوات المائدة الذي كان يقطن في كوخ سقفه مصنوع من الحجارة ومطلي بدهان أبيض. كان هذا الكوخ واقعا في نيذر إند الذي كان جزءا من الطريق الشمالي الغربي الكبير الذي كان يقطع مركز المدينة. نقل هوجسون العدوى إلى ثلاثة أفراد فقط من العائلة عندما كانوا محتجزين جميعا بداخل المنزل، غير أنه لم يمرر المرض إلى أي شخص آخر؛ فعلى ما يبدو أنه لم يقض وقتا طويلا في الحانة، ولم يتنقل كثيرا في أنحاء البلدة.
عائلة جون ريلتون هي العائلة المدرجة بعده في المخطط. يشار إلى يوم وفاة الابنة إليزابيث (22 عاما)، والابن جون (20 عاما) وجون ريلتون نفسه بنقط، مع امتداد كل خط 37 يوما إلى الوراء للإشارة إلى الوقت الذي أصيبوا فيه. يتضح من المخطط أن هوجسون نقل المرض إلى كل منهم قبل موته إبان الفترة التي كان معديا خلالها. تشير السجلات إلى أن مابيل، زوجة جون ريلتون، لقيت حتفها في الرابع من نوفمبر، لكن يمكن أن يظهر من المخطط أنها أصيبت بالعدوى بعد موت هوجسون. إذن لا بد أن المرض قد انتقل إليها من خلال أحد أفراد عائلتها، على الأرجح من ابنتها إليزابيث. وعليه، فالرجل الذي جلب الطاعون مباشرة إلى بنريث نقل العدوى إلى ثلاثة أشخاص فحسب هناك.
انتقل المرض بعدها إلى عائلة أنطوني ريلتون، شقيق جون. نقل إليزابيث وجون ريلتون الطاعون أولا إلى أبناء عمومتهما، أنطوني (14 عاما) وإليزابيث (22 عاما)، حيث نقلا العدوى إليهما داخل المنزل عندما كانا في زيارتهم.
تخطى الطاعون حاجزه الأول؛ حيث قفز إلى عائلة أخرى. فاستمرار العدوى داخل العائلة كان أمرا سهلا نسبيا، لكن إذا لم يقدر للمرض أن يندثر تماما، فحتما انتقل إلى عائلة أخرى. كان الطاعون قد أتم المهمة بنجاح الآن.
أصيب أفراد عائلة هيور بعدها، حيث لقي الأب توماس وثلاثة من أطفاله حتفهم في الفترة ما بين العاشر من نوفمبر والثالث والعشرين من نفس الشهر. يظهر المخطط أن جون ريلتون وابنته وابنه حتما كانوا هم السبب في نقل المرض إليهم. كان أنطون ريلتون الأب قد تزوج من إيزابيل هيور، أخت توماس هيور؛ وعليه فلم يكن غريبا أبدا أن تزور إليزابيث ريلتون قريبتها إليزابيث هيور التي كانت في نفس عمرها. ولسوء الحظ، فأثناء زيارتها نقلت العدوى إلى ثلاثة أفراد من عائلة هيور.
هكذا استجمع الوباء طاقته تدريجيا في خريف عام 1597. رأينا من تحليلنا أن المرض انتشر في المقام الأول عن طريق أفراد في سن المراهقة وصغار يزورون أقاربهم. على سبيل المثال، يظهر السجل أن ماري واطسون (17 عاما) وجيلبرت واطسون (8 أعوام) قد دفنا في الرابع والعشرين من نوفمبر، وقد كانا أيضا من أبناء عمومة عائلات ريلتون.
يمكن بسهولة تتبع مسار الوباء وتصويره بهذه الطريقة، على الأقل في مراحله الأولى. وقد واصلنا التحليل حتى شهر مايو التالي. بحلول هذا الوقت كان مخططنا قد أصبح ضخما وغطى المكتب؛ فقد امتد لما يزيد عن 220 يوما، وكانت وفيات أكثر من 75 ضحية من ضحايا الطاعون قد سجلت.
حالما خطونا إلى الوراء لنرى الصورة الكلية وفحصنا الوصف الواضح للطاعون، أصبح كل شيء جليا: لم يكن هناك أدنى شك في أن هذا كان مرضا معديا «بسيطا» انتقل مباشرة من شخص إلى آخر؛ إذ كان ينتقل إلى الأفراد من شخص مصاب، بنفس الطريقة التي ينتقل بها الجديري المائي اليوم، فالشخص كان معديا قبل أن تظهر عليه الأعراض بفترة طويلة. كان المرض ينتشر بسهولة أيضا داخل العائلة الواحدة أثناء الخريف، إلا أنه كان من الصعب أكثر في هذا الوقت من السنة أن يقفز إلى عائلة أخرى. وعلى العكس قفز المرض بسهولة بين العائلات في الصيف التالي، عندما انتشر الوباء بسرعة وعلى نطاق واسع.
بل والأمر الأكثر أهمية هو أننا تمكننا من تحديد الإحصاءات المهمة للطاعون:
فترة الكمون = 10 إلى 12 يوما.
فترة انتقال العدوى قبيل ظهور الأعراض = 20 إلى 22 يوما.
من ثم فترة حضانة المرض = 32 يوما تقريبا.
متوسط فترة ظهور الأعراض قبل الموت = 5 أيام.
إجمالي فترة انتقال العدوى 27 يوما، على افتراض أن الضحية ظل معديا حتى مماته، وإن كنا نعتقد أن حجم العدوى غالبا ما يتراجع بمجرد ظهور الأعراض. (يشير التحليل إلى أن الأفراد كانوا أكثر عدوى غالبا بعد بداية فترة انتقال العدوى.)
متوسط الوقت المنقضي ما بين لحظة الإصابة والموت = 37 يوما.
استطعنا الآن أن نقسم الخط الأفقي أمام كل ضحية على المخطط إلى فترتي كمون وعدوى.
ذهلنا لدى اكتشاف طول هذه المدد المهمة التي وسمت الوباء في بنريث، ورأينا أن حساباتنا غالبا ما انطبقت على جميع الطواعين الأخرى في أوروبا. أكد التطابق مع فترة الحجر الصحي العمومية التي مدتها 40 يوما أننا كنا على صواب. كانت هذه الصورة المجمعة بناء على شهود العيان لسفاح خطير، أو لنقل كانت الإحصائية الجوهرية لأكثر مجرم مطلوب القبض عليه في العصور الوسطى، كانت بمنزلة قفزة هائلة.
بعد ذلك درسنا ما يزيد على 50 نوبة طاعون مختلفة في إنجلترا، وتحققنا من طول فترتي الكمون والعدوى مرات كثيرة. لم يكن هناك أية استثناءات لهذه القاعدة.
هنا وأمام أعيننا وجد التفسير وراء استمرار تلك الأوبئة، لقد كان واضحا أن سر نجاح الطاعون في العصور الوسطى يكمن في فترة حضانته الطويلة للغاية. من خلال فترة الحضانة استطاع الطاعون القفز لمسافات طويلة للغاية حتى في زمن وسائل المواصلات البدائية، واستطاع الظهور من العدم كما بدا، كما استطاع معاودة الظهور على نحو غامض بعد موت الضحية الأخيرة بأيام كثيرة؛ فنظرا لأن مدة حضانة الطاعون كانت 32 يوما، كان لدى الشخص من بدء إصابته ما يزيد عن شهر يمكنه السفر خلاله لمسافة كبيرة قبل أن تظهر عليه الأعراض المخيفة، عندما كان يبدأ في الشعور بالإعياء الشديد، وعندما كان الناس يدركون أنه لا بد من عزله. أثناء هذه الفترة الطويلة للغاية، كان الفرد ينقل العدوى على مدار نحو ثلاثة أسابيع، وهو متسع من الوقت كي ينقل العدوى دون أن يدري إلى الجميع بلا استثناء، وهكذا يعم الوباء بسرعة هائلة.
لقد اكتشفنا السلاح الخفي للطاعون!
الفصل العاشر
كشف التاريخ
يتنافى جميع ما أمطنا اللثام عنه حتى الآن تماما مع التعليم التقليدي على مدار القرن العشرين بأكمله، الذي يشير إلى أن جميع الطواعين لم تكن نتاج مرض معد عادي. اعتقد الجميع أن الطاعون كان ينتقل عن طريق الفئران والبراغيث، لكن كما رأينا، اعتقد على الفور كل من كان في أوروبا في القرن الرابع عشر أنه لربما تنتقل إليه هذه العدوى المريعة من شخص التقاه المرء، وقد استمر هذا الاعتقاد طيلة عصر الطواعين (ولسبب وجيه، فالأدلة كانت أمام أعينهم) واستمر على مدار ما يزيد عن المائتي عام حتى نهاية القرن التاسع عشر.
كان دانييل ديفو قد أشار إشارة ثاقبة الفكر إلى أنه في طاعون لندن العظيم عام 1665:
بسبب الطبيعة المعدية للمرض، لعله كان ينتشر عن طريق أشخاص يبدون أصحاء في الظاهر ويأوون المرض، إلا أن الأعراض لم تظهر عليهم بعد. كان يعد مثل هذا الشخص في الحقيقة ساما ومدمرا، يتحرك ربما لأسبوع أو أسبوعين قبل مماته، والذي ربما يكون قد دمر أولئك الذين كان سيجازف بحياته كي ينقذهم ... ناقلا الموت إليهم، ربما حتى بقبلته وأحضانه الحانية لأطفاله.
يتضح من هذا أنه، على الأقل في القرن السابع عشر، فهم الناس البيولوجيا الأساسية للطاعون، وبالأخص، النطاق الزمني الذي يمكن أن ينقل المصاب المرض خلاله، والخطر المحدد للعدوى الرذاذية. إن فهمهم لهذا دون المعرفة الطبية الحديثة يكشف بشدة عن قدرتهم على الملاحظة الموضوعية. ومع ذلك، سار الناس عكس المنطق السليم تماما على مدار القرن العشرين بأكمله؛ فقد جرى الاعتقاد دائما وعلى نحو قاطع بأن كافة الطواعين كان سببها مرضا يصيب القوارض يدعى الطاعون الدبلي، وأن العدوى كانت تنتقل من الفئران إلى الناس عن طريق البراغيث. إن الفئران والبراغيث هي الاعتقاد الراسخ في كافة كتب التاريخ اليوم. بكل أسف لم ينتبه الناس جيدا إلى ملاحظة ديفو.
يشرح هذا الفصل كيف تكون هذا التفكير المشوش ويصف الجدل العلمي العنيف الثائر الآن. (1) الطاعون الدبلي
يخفى على معظم الناس أن مرضا مختلفا تمام الاختلاف لطالما كان كامنا في هدوء في الهند وأماكن أخرى من آسيا لقرون، وعادة ما كان هذا المرض فتاكا متى ظهر لدى الإنسان، وقد تميز بتورم «الغدد» أو العقد اللمفاوية في منطقة الإبط والمنطقة العليا من الفخذ، تلك الأورام التي كانت تسمى دبل؛ فأطلق على هذا المرض الطاعون الدبلي.
نحو نهاية القرن التاسع عشر، استشرى الطاعون الدبلي وصار مشكلة طبية خطيرة في الهند، وقد انتشر أيضا على نطاق واسع في جنوب شرق آسيا. أرسلت فرق الأبحاث، وبالطبع فالعالم مدين بالجميل لألكسندر يرسين - وهو عالم أحياء دقيقة فرنسي مولود في سويسرا - ولبعثة الطاعون الهندية؛ لما قدموه من بحث ممتاز في مجال التفتيش العلمي الذي أماطوا فيه اللثام بدقة متناهية عن البيولوجيا المعقدة للطاعون الدبلي والأساس العلمي له ومنشئه وأسبابه.
تدرب يرسين على يد باستير في باريس، ووصل هونج كونج عام 1894 بناء على تلبية لطلب استغاثة من المستعمرة المضروبة بالطاعون التي كانت راضخة تحت وطأة جائحة كبيرة. نظرا لأن يرسين اشتغل بمساعدة محدودة جدا في كوخ من القش بناه بنفسه، حيث رفض المسئولون في هونج كونج توفير مختبر له، فإنه انحط إلى درجة رشوة حراس المشرحة ليسمحوا له بالدخول إلى الجثث التي خلفها الطاعون. برهن يرسين على نحو قاطع أن الطاعون الدبلي مرض يصيب القوارض، وينتشر من أحد القوارض إلى آخر عن طريق البراغيث. وقد أثبت أن مسار الوباء بين البشر يتوقف على عوامل كثيرة نتيجة لتعدد العوائل المقحمة في الأمر، وأنه يختلف تمام الاختلاف عن وباء عدوى بسيطة تنتقل مباشرة من إنسان إلى آخر. أثبت يرسين أن عامل العدوى الذي ينتقل من الفأر إلى البرغوث ومنه إلى الإنسان هو بكتيريا، سميت «يرسينية طاعونية»: يرسينية نسبة إلى مكتشفها يرسين، وطاعونية على اسم المرض (الطاعون) الذي اعتقد أن هذه البكتيريا تسببه.
لتجنب التشويش وسوء الفهم، نطلق الآن على أوبئة الموت الأسود وجميع الطواعين اللاحقة «الطاعون النزفي» (لأن النزيف الممتد كان أحد الأعراض المهمة) لنفرق بوضوح بينها وبين الطاعون الدبلي.
إن العرض المميز (وإن كان غير قاطع) للطاعون الدبلي هو ظهور الدبل. بمجرد أن أعلن يرسين نتائجه المهمة، أدرك الناس أن ضحايا الطاعون النزفي ظهرت عليهم أيضا في بعض الأحيان أورام الغدد الليمفاوية. على ما يبدو فإن الناس افترضوا في الحال أن الطاعون الدبلي هو المسئول عن الموت الأسود. لم يكلف أحد نفسه عناء عقد مقارنة موضوعية بين المرضين، وطيلة القرن العشرين بأكمله كتب هذا الرأي، الذي اكتفى بالاستناد إلى ظهور عرض واحد، على ألواح مقدسة، وقبل عموما بلا نقاش.
لا ينبغي لأي عالم أن يبني استنتاجات أو يكون افتراضات بناء على ملاحظة أو تجربة وحيدة؛ فما من طبيب يشخص مرضا بناء على عرض وحيد، وإنما بالأحرى سوف يفحص المريض بدقة متفقدا جميع العلامات والأعراض، بل في الغالب سوف ينتظر نتائج المزيد من التحاليل المختبرية، وسوف يصنع قرارا عندما يتمكن من رؤية الصورة الكلية. ينبغي أيضا على العلماء والأطباء أن يكون لديهم استعداد لتغيير آرائهم إذا فشلت التجارب اللاحقة في التأكيد على فرضياتهم المبدئية، أو إذا لم يستجب المريض للعلاج الموصوف.
بطبيعة الحال، كان هذا القبول العمومي والمطلق - في نحو عام 1900 - للرأي القائل بأن الطاعون النزفي لم يزد عن كونه سلسلة من أوبئة الطاعون الدبلي مناقضا بالمرة للرأي الذي طالما اعتنقه الناس فيما مضى طيلة 500 عام، وكان لا بد من معاودة كتابة التاريخ من جديد، ومن نسج العديد من روايات الطواعين المبالغ فيها من وحي الخيال أو حتى تعديلها، كيما تتفق مع قصة الطاعون الدبلي الجديدة.
بل حتى باحثون بارزون ساهموا في هذا التشويش، مثل عالم الميكروبيولوجيا البروفيسور شروزبري، الذي تعرضنا له من قبل، ففي عام 1970 نشر أثناء تقاعده دراسة أكاديمية رائعة بعنوان «تاريخ الطاعون الدبلي في الجزر البريطانية». لقد بحث وجمع بدقة متناهية كل معلومة مرتبطة بالطواعين في بريطانيا، وإن كان لم يبسط دراساته لتغطي أوروبا القارية، وكانت النتيجة مرجعا موثوقا به لجميع دارسي الطواعين الجادين.
وكما تستنتج من العنوان، آمن شروزبري والجميع بقوة أن الطاعون الدبلي كان المسئول عن جميع الطواعين في بريطانيا، ومع ذلك كان عالما متمرسا بالإضافة إلى كونه ممارسا كفئا للطب. لقد رأى بوضوح أنه في الكثير من نوبات التفشي كان يستحيل من الناحية البيولوجية أن يكون الطاعون الدبلي هو السبب. لقد كان هو بالأخص يعرف، أكثر من أي شخص آخر، ماهية ما كان يتحدث عنه، ولعله كان أول من أشار إلى العيوب الكامنة في أساسات القصة المقبولة.
لقد بدأ باستبعاد (على نحو صحيح كما سنرى) احتمالية كون الكثير من الأوبئة طاعونا دبليا، مشيرا عادة (على نحو غير صحيح) أن داء التيفوس هو المسبب لها. عندما وردت الأنباء عن أوبئة في المناخ البارد (غير الملائم لانتشار الطاعون الدبلي)، رجح أن يكون هذا المناخ شتاء معتدلا. وعندما اكتشف أن السجلات أشارت إلى أن نحو 50 بالمائة من السكان ماتوا على إثر الإصابة بالموت الأسود (وهي نسبة مرتفعة للغاية بالنسبة للطاعون الدبلي) اضطر إلى اقتراح أنه من المحتمل أن السجلات كان مبالغا فيها بشدة، وأن عدد الوفيات الحقيقي ربما اقترب من 5 بالمائة (وهو تقدير منخفض على نحو غير معقول).
على أن شروزبري ظل مدافعا صارما عن الرأي القائل بأن الكثير من الأوبئة في بريطانيا كانت نوبات تفشي للطاعون الدبلي، وأنه كان يندهش من النقد الذي قوبل به تقييمه الأمين. على ما يبدو، لم تكن جريمته تتمثل في قبول المستحيل، وإنما في الإشارة إلى عدم وجود ثغرات على الإطلاق في الفرضية المعمول بها، وأنه لم تكن كل الأوبئة نوبات تفش للطاعون الدبلي. (2) الموت الأسود: إعادة تقييم بيولوجية
الدكتور جراهام تويج هو عالم حيوان بارز تخصص طوال حياته المهنية في بيولوجيا القوارض بصفة عامة والفئران بصفة خاصة، وهو أحد الخبراء البارزين في العالم اليوم في بيولوجيا الطاعون الدبلي، وقد نشر كتابا بعنوان «الموت الأسود: إعادة تقييم بيولوجية» عام 1984، الذي جمع فيه بدقة جميع الأدلة. الكتاب يتضح تماما من عنوانه، فهو تقييم نقدي ودقيق للموت الأسود (لا يتناول الطواعين التالية) قام به رجل محنك، وهو يخلص إلى أن هذا الوباء لم يكن ناجما عن الطاعون الدبلي. كان تويج أول شخص يدرك ذلك ويصرح به على الملأ. كان هذا بمنزلة عمل ريادي بارز.
لكن، وبكل أسف، تجاهل الناس هذا العمل بالمرة، واستمر مجرى الكتب والبرامج التليفزيونية التي تصف سلوك الفئران والبراغيث في أوبئة الطاعون في التدفق. قال المؤرخ آر إس براي ببساطة إنه «ثمة الكثير من الاعتراضات على بحث تويج وحصرها كلها أمر مضجر.»
يواصل جراهام تويج بكل فرح بحثه في مجال الطواعين، وهو يصب تركيزه الآن على الأوبئة اللاحقة في إنجلترا. ويستمر في نضاله من أجل أن تلقى آراؤه المهمة قبولا، ويكتب بانتظام أبحاثا تعكس منطقه السليم وخبرته الواسعة من خلال نثره المنمق. (3) الخطوة التالية
لو كان صحيحا الاعتقاد السائد بأن الطاعون الدبلي و«اليرسينية الطاعونية» كانا المسئولين عن العدد الهائل من أوبئة الطاعون النزفي المريعة، فسيبطل سؤال: هل سيعود الموت الأسود أم لا؟ فالطاعون الدبلي لم ينمح قط؛ فهو في واقع الأمر، منذ اكتشاف يرسين والطاعون الدبلي ينتشر في كل أنحاء المعمورة، وقد تعلمنا أن نتعايش معه. ثمة العديد من الحالات الفردية وبعض الأوبئة الصغيرة كل عام، لكن ما من سبب للخوف من نوبة تفش؛ فهو سهل العلاج إذا شخص في الوقت المناسب، ولا يمثل تهديدا للبشر.
لقد رأينا بالفعل أن الطاعون النزفي، المسبب للطاعون الأسود وطواعين أخرى، كان مرضا معديا ينتقل بالاحتكاك المباشر. في الفصل التالي، نشرح طبيعة الطاعون الدبلي، ونفحص إلى أي مدى لا تتطابق الحقائق.
الفصل الحادي عشر
بيولوجيا الطاعون الدبلي: تناول الخرافة من منظور مختلف
أيها السيدات والسادة أعضاء لجنة المحلفين الموقرين، إن المتهم الرث الهيئة الماثل أمامكم في قفص الاتهام مع حاشيته من البراغيث، هو السيد «فأر». ودائما ما كانت توجه إليه إصبع الاتهام طيلة القرن العشرين بأكمله بتهمة أنه المسئول غير المباشر عن الموت الأسود، أبشع مرض ضرب البشرية على الإطلاق. ولسوف أثبت بالدليل القاطع أن موكلي جرى تلطيخ سمعته بشدة، وأنه بريء تماما من التهم المنسوبة إليه على نحو جائر منذ 100 عام. أطالب بإطلاق سراحه طاهر اليدين.
عانى الإنسان من الطاعون الدبلي لمئات السنين، وبالأخص في منطقة الهضبة الآسيوية الوسطى التي اعتبرت مسقط رأس المرض؛ حيث قيل إنه وقع هناك 232 نوبة تفش في الصين ما بين عامي 37 و1718 ميلادية. وقد أصبح مستوطنا في إقليم يونان الصينية، وفي عام 1855 أرسلت قوات لقمع تمرد حدث هناك حيث انتشر بعدها مباشرة الطاعون الدبلي أكثر، ربما نتيجة لتنقل اللاجئين. وقد وصل عاصمة الإقليم كونمينج عام 1866 ثم مدينتي كانتون وهونج كونج بعدها بثماني سنوات، وهو معدل انتشار بطيء إلى حد ما. ثم تحركت العدوى إلى الوراء نحو الهند عبر مدينة كلكتا عام 1895 ونحو مومباي في العام التالي. وبدأت جائحة القرن العشرين الكبيرة. انتقل الطاعون الدبلي إلى القارتين الأفريقية والأمريكية، واستمر هناك وفي آسيا حتى يومنا هذا، مع أن الطواعين اختفت من أوروبا نحو عام 1670، منذ أكثر من 300 عام. (1) قوارض منيعة: المفتاح إلى فهم الطاعون الدبلي
الطاعون الدبلي هو مرض يصيب القوارض ولا ينتقل إلى الإنسان إلا من حين لآخر أو على نحو عارض، والمفتاح إلى فهم هذا المرض يكمن في الفروق الواضحة أيما وضوح بين القوارض من حيث قابلية الإصابة بالعدوى عن طريق البكتيريا. الفئران معرضة بشدة للموت من اليرسينية الطاعونية، في حين أن قوارض أخرى مثل اليرابيع وفئران الحقل، مقاومة للطاعون، ويمكنها أن تنجو من العدوى دون الكثير من الضرر على ما يبدو. هذا الفرق له أهمية كبرى في تحديد استمرارية نوبة تفش لطاعون دبلي في إحدى جماعات القوارض؛ ذلك لأن المرض سوف يخمد إذا كانت جميعا لديها قابلية شديدة للإصابة، في حين أنه يستمر في المناطق التي يوجد فيها توازن بين العوائل التي لديها قابلية للإصابة بالعدوى والعوائل المقاومة. على سبيل المثال: في كولورادو الوسطى محا المرض عن وجه الأرض تماما مستعمرة معزولة من كلاب البراري عندما وصل إلى هناك؛ لأن الكلاب كان لديها قابلية كبيرة للإصابة وماتت جميعها. الدرس المستفاد هو أن الطاعون الدبلي يمكن أن يستمر لدى القوارض المحلية فقط إن كان يوجد بينها مستودع من الأنواع المقاومة. (2) أوكار الطاعون الدبلي
عادة ما ينتقل الطاعون الدبلي حول موانئ العالم عن طريق الفئران المصابة الموجودة على متن القارب. لدى وصول الميناء في الموضع المناسب، ينتقل المرض من الفئران عن طريق براغيثها إلى أنواع القوارض المحلية المقاومة، مثل اليرابيع أو السناجب الأرضية، وبهذه الطريقة يمكنه أن يستمر لفترات زمنية طويلة. ثم من حين إلى آخر ينتقل المرض على نطاق واسع وسريعا إلى القوارض التي لديها قابلية للإصابة؛ مما يترتب عليه هلاك أعداد هائلة. في بعض هذه النوبات كانت تكدس الفئران الميتة أكواما في عربات، وغالبا ما كانت جثثها من الأمارات الأولى على وجود الطاعون الدبلي في المنطقة.
إن التوزيع الجغرافي للقوارض (باستثناء الفئران) التي ورد إصابتها بعدوى اليرسينية الطاعونية مهم للغاية:
أمريكا الشمالية
51
أمريكا الجنوبية
42
آسيا (باستثناء الهند)
44
أفريقيا
44
الهند
11
أوروبا
0
إبان القرن العشرين، أشار تطوير واستخدام سفن بخارية أسرع إلى أنه أمكن نقل الطاعون الدبلي بسهولة أكثر إلى الموانئ في أنحاء المعمورة قبيل موت جميع الفئران الموجودة على متن السفن؛ ومن ثم انتشر المرض من آسيا، وصار مستوطنا في أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية وجنوب أفريقيا.
النقطة الضرورية هنا هي أنه على الرغم من هذه السهولة في الانتشار، فإن اليرسينية الطاعونية لم تدم قط في أي قوارض أوروبية (التي ليست منيعة)؛ ومن ثم لم يكن ممكنا أن يكون الطاعون الدبلي قد استوطن هناك إبان عصر الطواعين، والأهم أنه حتى لم يستوطن هناك في القرن العشرين حينما كان المرض منتشرا في مكان آخر من العالم. ولا مفر من النتيجة النهائية: من المستحيل أن يكون الطاعون الدبلي هو السبب وراء الطواعين النزفية في إنجلترا وأوروبا القارية. (3) الفئران المخيفة
في أوروبا اليوم لا يوجد سوى نوعين من الفئران: الفأر البني والفأر الأسود. الفأر البني حيوان قوي، وهو الفأر الذي نراه عموما اليوم. والأهم من وجهة نظرنا أن هذا النوع من الفئران نشأ في روسيا في مطلع القرن الثامن عشر، ولم يصل إلى بريطانيا إلا بعد نحو 400 عام على الموت الأسود، وبعد 60 عاما من آخر طاعون؛ لذلك فمن المستحيل أن يكون لهذا النوع علاقة بانتشار الطاعون، بل ربما من المستبعد أن يكون له أي دور محتمل في قصتنا.
من ناحية أخرى، ينحدر الفأر الأسود من حيوان نشأ غالبا في الهند واستوطن في المنطقة الاستوائية في كل من البلدات والمناطق الريفية. ومع أن التاريخ الدقيق غير مؤكد، فيعتقد أنه وصل إلى إنجلترا في وقت ما في العصور الوسطى.
إذا وصل هذا النوع من القوارض إلى أحد الموانئ في المنطقة الاستوائية حيث لا يوجد منافسون، فإنه ينتشر سريعا. إلا أنه عند خطوط الاعتدال يقتصر وجوده على المباني لأنه في معظم أوقات السنة تكون درجة الحرارة بالخارج شديدة الانخفاض إلى حد لا يناسبه. وعلى عكس الفأر البني، يتمتع الفأر الأسود بقدرة عالية على التسلق، ويمكنه بسهولة الوصول إلى السفن التي كانت تحمله لأنحاء كثيرة من العالم، وهو يعيش في أسقف المنازل، لكن نادرا ما يسكن الجحور أو الخنادق في الأرض.
في العصور الوسطى، ربما استطاع الفأر الأسود أن يحيا في مناطق جنوب فرنسا وإسبانيا وإيطاليا الأكثر دفئا، ولربما تواجد في موانئ الحبوب بشمال فرنسا وجنوب بريطانيا، وإن كان بأعداد صغيرة فقط. ومن المحتمل أن تكون الفئران السوداء في بلدة من البلدات قد اختفت بعد بضع سنوات دون معاودة الوصول إلى هناك.
الموطن الأصلي لهذا النوع من القوارض اليوم هو منطقة البحر المتوسط، ويوجد في بعض الأحيان في إنجلترا في الموانئ، لكن لا ينتشر عادة لأكثر من بضعة كيلومترات برا. اعتمدت جماعات الفئران في بقائها في إنجلترا في القرن العشرين على استكمال التعبئة المتكرر عن طريق الاستيراد في شحنات، لكن مع توقف حركة التجارة بالقنال الإنجليزي وإحلال الحاويات محكمة الإغلاق محل الشحنات السائبة، بدأ الحيوان يختفي حتى من الموانئ لدرجة أنه بات من الثدييات النادرة في بريطانيا الآن. ولا تزال جماعات صغيرة موجودة في جزر لوندي بقناة بريستول وجزر شاينت في جزر هيبرايدز الخارجية.
كان الفأر الأسود النوع الوحيد من القوارض الموجود الذي كان بمقدوره حمل الطاعون الدبلي في أوروبا في العصور الوسطى، إلا أنه يحتاج الدفء المنبعث من المساكن البشرية ولا ينتشر بعيدا عنها. حتى عندما يظهر الطاعون الدبلي في الإنسان في البلدان الدافئة، فإن المناخ يتحكم في انتشاره. من المستحيل أن يكون الفأر الأسود قد استطاع نقل الطاعون الدبلي بسرعة وعلى نطاق واسع في الشتاء. (4) ريف إنجلترا خال من الفئران
واصل الدكتور تويج دراسته الدقيقة للفأر الأسود في إنجلترا إبان عصر الطواعين وقد جمع أدلة في غاية الأهمية لم تنشر من قبل تفيد بأنه لم ينتشر في المناطق الريفية. ونحن نكن له الامتنان لأنه أخبرنا بمثالين على هذه الأدلة: لم يتغير مطلقا تصميم أبراج الحمام في إنجلترا حتى عشرينيات القرن الثامن عشر، أي بعد اختفاء الطاعون بخمسين عاما؛ إذ لم يكن الحمام عرضة لافتراس الفئران. على أنه لدى وصول الفأر البني وانتشاره في الريف، سرعان ما اكتشف كيف يخرب الأعشاش ملتهما كلا من الطيور وبيوضها، واضطر الناس إلى إعادة تصميم أبراج الحمام بحيث تكون مضادة للفئران.
لم يعان الفلاحون أيضا من مشكلات الخسائر في الحبوب المخزنة حتى ظهور الفئران البنية. وبنيت مخازن الذرة المصنوعة من القش على الأرض، فبعد عام 1730 تعين لأول مرة تخزين الحبوب في بنايات صممت خاصة على شكل عش الغراب مضادة للفئران أطلق عليها قواعد القش التي كان محفورا عليها تاريخ إنشائها. يمكن تمييز انتشار الفأر البني بالتواريخ المحفورة على هذه القواعد الحجرية.
إن هذه أجزاء من دراسة أكاديمية رائعة تؤكد على استحالة نقل الفئران السوداء للطاعون الدبلي في أنحاء ريف إنجلترا إبان الثلاثة القرون التي ثار فيها الطاعون النزفي بحرية. (5) الطواعين في أيسلندا
رأينا أن الطاعون الدبلي انتقل عبر البحر إلى أيسلندا وأنه كان هناك وباءان حادان وحقيقيان في القرن الخامس عشر. ومع ذلك من المعروف يقينا أنه لم توجد فئران في الجزيرة إبان القرون الثلاثة من الطواعين. فلم تظهر الفئران إلا بعد مئات السنين.
كان معدل الوفيات بين البشر مرتفعا ولقي 60٪ من السكان المبعثرين في أنحاء الجزيرة حتفهم في النوبة الأولى من الطاعون. وتوالت العدوى خلال الشتاء عندما كان متوسط درجة الحرارة ثلاث درجات مئوية تحت الصفر؛ ومن ثم كان انتقال العدوى عن طريق براغيث الإنسان مستحيلا. هذا الدليل وحده قاطع وحاسم؛ فمن المستحيل قطعا أن يكون الطاعون الدبلي هو الذي سبب الوباءين في أيسلندا. (6) غياب الفئران الميتة
كثيرا ما ترددت أنباء عن أن بداية انتقال نوبة تفشي الطاعون الدبلي إلى الإنسان كان ينذر بها ظهور الفئران الميتة في الشوارع، بأعداد قليلة ربما في إحدى القرى الصغيرة، لكن بملء عربات كثيرة كما في إحدى البلدات الريفية بجنوب أفريقيا. ومع ذلك، فثمة إجماع عام على أنه لم يرد ذكر في أي من الروايات لأي حالات نفوق من الفئران إبان أوبئة عصر الطواعين في أوروبا. كان هناك تعليق واحد فحسب يقول: «أشار المؤرخون إلى أن الروايات المعاصرة تحذف أي ذكر لحالات نفوق من الفئران»، لكنهم قرروا إغفال هذه النقطة الهامة. (7) سرعة الانتشار
في إنجلترا، وفي فرنسا بالأخص، كان الطاعون يقفز لمسافات كبيرة، كانت هذه المسافات تصل في بعض الأحيان إلى 100 ميل (150 كيلومترا) في غضون بضعة أيام، دون حدوث نوبات تفش تخللية. وكما رأينا في أبرشية مالبس بمقاطعة تشيشير عام 1625، انتقل الطاعون مسافة 185 ميلا (300 كيلومترا) من خلال شخص عائد من زيارة إلى لندن. وانتقل الموت الأسود من جنوب إيطاليا إلى الدائرة القطبية الشمالية في خلال ثلاث سنوات.
يتعارض هذا القفز السريع مع انتشار الطاعون الدبلي الذي يعتمد على نشاط القوارض المحدود. قدمت لجنة أبحاث الطاعون بالهند مثالا على ذلك؛ إذ استغرق الطاعون الدبلي في عام 1907 ستة أسابيع للانتقال مسافة 100 ياردة (160 مترا). وفي جنوب أفريقيا في الفترة ما بين عامي 1899 و1925 كان يتحرك لمسافة تتراوح من 8 إلى 12 ميلا (من 13 إلى 20 كيلومترا) فقط في العام. (8) قوارض تعرضت لهجوم البراغيث
رأينا أن الطاعون الدبلي يستطيع أن ينتشر بين البراغيث والفئران والإنسان والقوارض المقاومة. من الواضح أن هذا المرض هو أكثر تعقيدا مما ظننا. سنفحص الآن دور البرغوث.
البراغيث البالغة هي حشرات صغيرة عديمة الأجنحة لديها القدرة على التعلق عن طريق خطاطيف ، وأرجلها ملائمة للقيام بقفزات كبيرة، وهكذا تنتقل إلى مختلف عوائلها. إن أجزاء فم البرغوث مصممة لثقب جلد الثدييات ذوات الدم الحار الملائمة، حيث يسحب الدم بعدها مباشرة من وريد صغير إلى معدة البرغوث . يمتص البرغوث عددا كبيرا من البكتيريا في وجبة الدم التي يحصل عليها من أحد القوارض المصابة، التي تكون عندئذ كتلة صلبة من خلال الانقسام السريع. عندما يهاجم البرغوث المصاب أحد القوارض الأخرى، تتجه اليرسينية مباشرة إلى مجرى دم العائل الذي تعرض للهجوم، وبهذه الطريقة تنتقل البكتيريا من كائن ثديي إلى آخر.
في الحياة البرية، يتوقف بقاء البرغوث على قيد الحياة على قدرته على التكاثر وتربية المزيد من البراغيث، الأمر الذي يتوقف بدوره على عوامل بيئية وعوامل أخرى. يمكن أن يضع برغوث الفأر من 300 إلى 400 بيضة تقريبا (البرغوث البالغ هو ماكينة إنجاب فعلية)، لكن تضر درجة الحرارة والرطوبة في البيئة المحيطة بشدة بكل من البيض الموضوع ونمو اليرقات. تعتبر درجة الحرارة ما بين 18 و27 درجة مئوية والرطوبة النسبية البالغة 70٪ هي ظروف مثالية لوضع البيض، في حين أن درجة الحرارة الأقل من 18 درجة مئوية تعيق هذه العملية.
جمع جراهام تويج جميع البيانات المناخية المتاحة لوسط إنجلترا في الفترة ما بين عامي 900 و1900 ميلادية، وبرهن أنه لم يحدث أن تخطى متوسط درجة الحرارة في شهري يوليو وأغسطس 18,5 درجة مئوية بحيث تكون مناسبة لفقس البيض. لم تمر بريطانيا بمناخ قادر على إيواء نوبات تفش موسمية منتظمة للطاعون الدبلي الذي تنقله البراغيث، حتى في شهور الصيف، وبالطبع ليس في الشتاء. في حقيقة الأمر، ربما لم تتوفر ظروف مناخية مواتية في أوروبا إلا في منطقة الجنوب الغربي، في المنطقة الساحلية للبحر المتوسط وشبه الجزيرتين الإيطالية والإيبيرية.
لا يمكن تقبل فكرة أن البراغيث استطاعت أن تتكاثر وأن الفئران السوداء كانت نشطة إبان الأوبئة في لندن واسكتلندا، وكذلك الحال في أيسلندا والنرويج القريبتين من الدائرة القطبية الشمالية. من الضروري أن نضع في الحسبان أنه إبان العصر الجليدي الصغير، حينما كان الطاعون على أشده، أكدت الظروف المناخية أن تكاثر البراغيث كان مستحيلا.
متوسط درجة حرارة شهر يوليو بالمقياس المئوي في غرب أوروبا في القرن العشرين. لم تكن درجات الحرارة في الصيف مناسبة لإيواء نوبات تفش موسمية للطاعون الدبلي الذي تنقله البراغيث إلا في إسبانيا وساحل فرنسا على البحر المتوسط. (9) الطاعون الدبلي عند الإنسان
النقطة المهمة التي تأكدت سابقا هي أن الطاعون الدبلي مرض طبيعي يصيب القوارض، ولا يصيب الإنسان إلا من حين لآخر أو على نحو عارض من خلال لدغات براغيث الفئران «التي هجرت عائلها الطبيعي بعد موته.» وعليه، فظهور الطاعون الدبلي في الإنسان غير متوقع بالمرة. إذا شردت إحدى القوارض البرية المصابة بالقرب من سكنى البشر، وعندئذ نقلت براغيثها مع الفئران التي تعيش في الجوار، فإن اليرسينية يمكن أن تنتقل من هذا القارض إلى الفأر، ومن الفأر إلى الإنسان. الفأر مجرد وسيط وليس مستودعا للطاعون الدبلي؛ إذ يقتصر دوره على الموت ثم تمرير العدوى.
ثمة العديد من الطرق الأخرى التي يمكن أن يصاب بها البشر، فعندما يخرجون - على سبيل المثال من أجل الصيد أو التنزه - ربما ينتقل إليهم الطاعون الدبلي مباشرة من البراغيث التي تعيش على القوارض البرية. عادة ما يحدث هذا النمط من العدوى على نطاق ضيق عند حبس الحيوانات أو سلخ جلدها أو تناول القوارض البرية، وإن كان قد أصيب في منشوريا بين عامي 1910 و1911 نحو 60 ألف صياد بالطاعون الدبلي من حيوان المرموط الذي كانوا يصطادونه من أجل الحصول على فرائه، ومن حين إلى آخر يصاب شخص بالطاعون الدبلي عند تناول لحم حيوان من الحيوانات المنزلية (مثل الماعز أو الجمل) التي كانت ترعى في منطقة يسكنها قوارض برية مصابة.
يلعب البرغوث دورا محوريا في نشر الطاعون الدبلي بين عوائله المختلفة. ولا عجب في أن معدل وفيات البشر في نوبات تفشي الطاعون الدبلي منخفض نسبيا دائما؛ لأنه مرض يصيب القوارض وتنشره البراغيث على نحو عشوائي، في حين أنه عندما ضرب الطاعون الدبلي السكان المحليين في إنجلترا أو أوروبا القارية كانت الخسائر في الأرواح تصل في الغالب إلى نحو 30 إلى 40 بالمائة، وإن كان واردا أن تكون هذه النسبة قد ارتفعت لتصل إلى 60 بالمائة من السكان.
الدور المحوري الذي تلعبه البراغيث في تمرير اليرسينية الطاعونية بين القوارض المقاومة والفئران التي لديها قابلية للإصابة وفي نقل الطاعون الدبلي إلى البشر. لا يمكن أن تنتقل العدوى مباشرة من شخص إلى آخر إلا في حال الطاعون الرئوي.
ثمة نوعان من الطاعون الدبلي لدى البشر: الدبلي والرئوي (الذي سنتناوله على نحو أكثر تفصيلا). في أي نوبة من نوبات التفشي بين البشر اليوم، يوجد مرضى الطاعون الدبلي في عنابر مفتوحة؛ فقد أصيبوا من خلال البراغيث، وعموما هم غير ناقلين للعدوى للأشخاص الآخرين.
الدبل هو عرض مميز للطاعون الدبلي (لكنه لا يظهر في حال الطاعون الرئوي) وقد سمي المرض على اسمه. وهو كتلة متنوعة الأحجام تتكون من خلال تورم الغدة اللمفاوية التي توجد عموما في المنطقة العليا من الفخذ، إلا أن مكانه يعتمد على الموضع الذي لدغ فيه البرغوث الإنسان، الأمر الذي يعتمد بدوره على شكل ملابس الضحية. يقول الدكتور إيه بي كريستي، الذي كتب تقريرا دقيقا عن الأمراض المعدية إن الفلاح الإندونيسي الذي لا يرتدي سوى سروال تحتي وقبعة، يمكن أن تلدغه البراغيث في أي مكان، وعلى الأخص ساقاه. أما المزارع الليبي الذي يرتدي حذاء عالي الساق وبنطالا قصيرا لركوب الخيل وثيابا فضفاضة متدلية، فيحتاج البرغوث أن يستخدم كل ما أوتي من قوة للوصول إلى جلده، ولعل الذراع أو الرقبة أسهل في الوصول إليهما من الساق. عندما يصاب المريض بالطاعون من سلخ جلد حيوان ما، ستكون الإصابة من خلال يديه وسوف يتكون الدبل في منطقة الإبط. أما إذا تناول لحم الحيوان، فربما تستقر البكتيريا على اللوزتين وسوف يتكون الدبل في رقبته. من الواضح أن إصابة الإنسان باليرسينية الطاعونية مسألة عشوائية.
يظهر الدبل في مرحلة مبكرة من المرض، في اليوم الأول أو الثاني، وعادة ما يكون مؤلما ولينا للغاية. في المرضى الذين يعيشون لفترة طويلة بما يكفي أو يظلون على قيد الحياة ، ينفتح الدبل ويفرغ الصديد.
ثمة تنوع كبير في بدء المرض ومساره؛ إذ ربما يكون طفيفا على نحو لا يمكن ملاحظته أو ربما يظهر بقوة. والأهم أن فترة الحضانة عادة ما تتراوح ما بين يومين إلى ستة أيام فقط بعد الإصابة، وهي مدة مختلفة بدرجة كبيرة عن التقدير الذي استنتجناه عن الطاعون النزفي.
لقد فحصنا تقريرا تشريحيا لبحار لقي حتفه على إثر الإصابة بطاعون دبلي فعلي عام 1900، ولاحظنا أن الأعضاء الداخلية لم تظهر سوى أمارات محدودة على موت أنسجتها. ستتجلى أهمية هذه النقطة فيما بعد عندما نتناول تقارير التشريحات المبدئية لجثث المتوفين بسبب الطاعون النزفي في القرن السابع عشر. (10) الطاعون الرئوي: نسخة مختلفة فتاكة من الطاعون
في نحو 5 بالمائة من حالات الطاعون الدبلي، قبل أن تموت الضحية تصل البكتيريا إلى الرئتين، وإذا عاش المريض لوقت طويل للغاية فإنه يسعل البكتيريا في بلغمه. وأي شخص في احتكاك مع المريض ربما يستنشق البكتيريا ويصاب بالطاعون الرئوي. منذ ذلك الحين فصاعدا، يمكن لمريض واحد أن ينقل مباشرة إلى شخص آخر عدوى الطاعون الرئوي بنفس الطريقة وبدون تدخل برغوث واحد. ويكون بدء المرض مباغتا وحادا، والأهم أن المرض يقهر الضحية سريعا وتموت في اليوم الثالث تقريبا، ولا تعيش أبدا بعد اليوم السادس. إن الطاعون الرئوي دون العلاج الطبي الحديث فتاك دائما.
إن الفهم الكامل للطاعون الرئوي له أهمية خاصة لدى فحص الطواعين في أوروبا؛ إذ لم يكن بمقدور الطاعون الدبلي أن يقفز فجأة لمسافات بعيدة في مناخ بارد حيث لا توجد أنواع مقاومة من القوارض ولا براغيث نشطة، إنما فقط فئران سوداء خاملة لنقل المرض. لهذا السبب زعم كثيرون أن عدوى الطاعون الرئوي التي تنتقل مباشرة من شخص إلى آخر كانت السبب وراء أوبئة طاعون أوروبا.
إلا أنهم يتجاهلون ثلاث نقاط مهمة؛ أولا: ثبت بكل وضوح أن الطاعون الرئوي لا يمكن أن يحدث دون الطاعون الدبلي وأنه لا يمكن أن يستمر بمعزل عنه. وعليه فلا تزال جميع الاعتراضات على وجود الطاعون الدبلي قائمة. في الغالب أدت الإصابة بالطاعون الرئوي إلى استفحال أعداد الوفيات الناجمة عن نوبات الطاعون الدبلي على نحو ملحوظ، إلا أن تأثيرها الرئيسي انحصر بين أفراد العائلة، والعائلة التي اعتنت بالمريض، والجيران الذين وفدوا لزيارته.
ثانيا: ثمة إجماع عام على أن الفترة الفاصلة ما بين بدء الإصابة والموت بسبب الطاعون الرئوي قصيرة، ربما نحو 5 أيام، بل إن المريض يكون معديا لفترة أقصر. ومن المستبعد أن شخصا أصابه المرض الشديد، وسرعان ما أنهك تماما لدى إصابته بالطاعون الرئوي، ولم يكن بينه وبين الموت سوى ثلاثة أيام، كان بمقدوره أن ينشر المرض عبر مسافات طويلة سواء برا أو بحرا؛ ونتيجة لذلك، ستكون نوبة تفشي الطاعون الرئوي قصيرة الأمد، وسرعان ما يندثر الوباء. وهذا عكس ما رأيناه تماما في منحنى الجرس لوباء الطاعون الدبلي طويل الأمد.
ثالثا: يستبعد ظهور الدبل إبان طواعين أوروبا احتمالية أن الطاعون كان رئويا لأن الدبل لا يظهر في هذا النوع من الأمراض. (11) هل كان برغوث الإنسان هو المسئول؟
خطرت لمؤرخين آخرين ممن قبلوا على مضض أن الطاعون كان ينتقل مباشرة من شخص إلى آخر فكرة جديدة، فقد زعموا أن الطاعون الدبلي كان ينتشر عن طريق براغيث الإنسان. لكن مع أن انتقال العدوى عبر هذا المسار ممكن ويحدث بالفعل، فإنه أقل فعالية من مسار براغيث الفئران بدرجة كبيرة، لدرجة أن جميع الاعتراضات الموجهة نحو تورط البراغيث التي حصرناها سابقا لا تزال سارية، بل وبدرجة أكبر.
على أي حال، لا يذكر مؤيدو هذا الاقتراح بعيد الاحتمال، الذي يبدو مثالا على محاولة طرق كل الأبواب حتى تلك المستبعدة، كيف حدث أن أصيبت براغيث الإنسان ببكتيريا «اليرسينية الطاعونية» في المقام الأول. لو كانت قد أصيبت بها من وباء مبدئي للطاعون الدبلي العادي مع القوارض المقاومة والفئران والبراغيث، لانطبقت كل الحجج المطروحة سابقا، مع تعقيدات إضافية غير ضرورية تجعل هذا السيناريو مستبعدا أكثر. (12) استمرار خرافة
إننا على يقين تام من أن الطاعون الدبلي قد وضع خطأ في موضع الاتهام وأن السيد الفأر بريء تماما نتيجة للأسباب التالية:
انعدام القوارض المقاومة في أوروبا.
عدم وجود فئران في ريف إنجلترا.
الطاعون الدبلي ينتشر ببطء شديد.
درجة الحرارة قارسة البرودة على أن تعيش فيها البراغيث.
وفيات الطاعون الدبلي منخفضة للغاية.
انتشار الطاعون الدبلي كان مستحيلا في ظل الظروف المناخية بأيسلندا.
لماذا استمرت إذن نظرية الطاعون الدبلي؟ لا يملك معظم المؤرخين معرفة مفصلة بالبيولوجيا المعقدة للطاعون الدبلي؛ ولهذا السبب خصصنا فصلا كاملا لشرح التفاعلات بين البراغيث والقوارض المقاومة والفئران والإنسان والبيئة الضرورية لحدوث وباء بهذا المرض.
قليلون هم من درسوا نوبات تفشي أوروبا القارية إلى جانب تلك التي وقعت في إنجلترا. على سبيل المثال، لو أن البروفيسور شروزبري قد درس الطواعين في أوروبا، لما كان قط ليصف البعض منها بأنه داء التيفوس، وما كان قط ليقدر الخسائر في الأرواح إبان الموت الأسود بخمسة بالمائة فقط، إلى حد أنه اضطر إلى فعل ذلك كي يبرر اعتقاده بأن الطاعون الدبلي كان العامل المعدي.
عندما أعلن يرسين عن نتائج أبحاثه البارزة، كان من السهل جدا أن يقفز الأفراد إلى استنتاج أن اليرسينية الطاعونية هي المسئولة أيضا عن جميع طواعين أوروبا دون أن يكلفوا أنفسهم عناء فحص الأدلة والحقائق بموضوعية. ما إن قرر المؤرخون، فإنهم تمسكوا برأيهم بكل عناد، وقبل الجميع رأيهم بلا نقاش طيلة القرن العشرين بأكمله.
مع توافر جميع الأدلة أمام أعيننا، فمن المستحيل التملص من استنتاج أن الطاعون النزفي ليس له علاقة بالطاعون الدبلي. وفعليا، بخلاف حقيقة أن ضحايا كلا المرضين عانوا من تضخم الغدد وأورام تحت الجلد، فآخر ما يمكن الإشارة إليه بإصبع الاتهام على أنه العامل المعدي للطاعون النزفي هو اليرسينية الطاعونية. لقد رفضنا بشكل قاطع احتمال أن يكون للطاعون الدبلي أي دور في قصتنا. ومع ذلك، فهل تفشى المرض على نحو متقطع، وإن كان لفترات قصيرة، في مناطق مناسبة من أوروبا؟
الفصل الثاني عشر
تحليل الدي إن إيه: صرف الانتباه عن القضية الأساسية
كان الطاعون النزفي، منذ عام 1347 حتى نحو عام 1670، قاصرا على أوروبا، ومن حين إلى آخر على سواحل شمال أفريقيا. من ناحية أخرى، كان الطاعون الدبلي منتشرا ومستفحلا في أنحاء آسيا والشرق الأوسط إبان الثلاثة قرون التي كان فيها الطاعون الغامض محكما قبضته على أوروبا. في الواقع، تغلغل حتى وصل إلى أعتاب أوروبا. ندرك الآن أن الطاعون الدبلي لم يكن من الممكن أن يرسخ أقدامه بإحكام هناك؛ حيث إنه لم تكن توجد قوارض مقاومة بإمكانها أن تشكل مستودعا دائما للمرض، بالإضافة إلى أن الظروف المناخية لم تكن مواتية بالمرة في أنحاء الكثير من هذه المنطقة الواسعة كما رأينا. وهكذا كان لكلا الطاعونين معاقل منفصلة.
إلا أنه ثمة استثناء واحد: كان جراهام تويج أول من أظهر أن مناخ ودرجة حرارة سواحل البحر المتوسط كانتا مناسبتين لتكاثر البراغيث إبان الصيف. فحتما كانت السفن القادمة من بلدان شرق البحر المتوسط وشمال أفريقيا تجلب بانتظام الفئران السوداء المصابة بالطاعون الدبلي إلى موانئ إيطاليا وإسبانيا وجنوب فرنسا إبان عصر الطواعين. هل رست أي من هذه الفئران على الشاطئ وتسببت في وباء سريع وسط الفئران السوداء المحلية والقوارض الأخرى التي لديها قابلية للإصابة؟
عقدنا العزم على فحص سجلات الموانئ المحتملة، واكتشفنا أنه كانت توجد بالفعل أدلة على نوبات تفش صغيرة للطاعون الأسود بمحاذاة سواحل البحر المتوسط.
في إيطاليا أطلقت السلطات الصحية للدول-المدن الشمالية على هذه النوبات للطاعون الدبلي «طواعين صغيرة» لتميزها عن «الطواعين الكبيرة» (التي كانوا يأخذونها بجدية أكثر). كانت الأوبئة تبدأ في الموانئ، وفي بعض الأحيان تنتشر لمسافة محدودة برا، لكنها لم تستمر ولم يصبح المرض مستوطنا قط.
ضربت إحدى عشرة نوبة طاعون دبلي على الأقل ميناء برشلونة على البحر المتوسط في الفترة بين عامي 1370 و1590، إلا أنها أسفرت عن وفيات محدودة للغاية، وكانت تحدث على نحو متقطع. في القرن الخامس عشر كانت برشلونة مدينة عامرة بالتجار والملاحين والباعة والمحترفين، وكان لها تجارة مع جميع بلدان المتوسط، وهكذا كانت تستقبل بانتظام أعدادا كبيرة من الفئران السوداء والبراغيث المصابة. لم تنتشر الأوبئة لمسافة بعيدة برا أو إلى أية مدينة أخرى، والأهم أن الخسائر في الأرواح لم ترتفع إلى نقطة ذروة ثم تهبط بعد ذلك كما رأينا في أي وباء معتاد لمرض معد. على سبيل المثال، شهدت نوبة التفشي التي وقعت في برشلونة عام 1497 وفيات فردية يوميا من شهر يوليو إلى سبتمبر، وهذا على العكس تماما من مسار الأحداث في الطاعون النزفي.
الموقف أكثر تعقيدا مما ظننا في البداية؛ فقد كانت توجد بلا شك أوبئة طاعون دبلي عارضة في موانئ البحر المتوسط أثناء تفشي الطاعون النزفي في أنحاء أوروبا. وحتما كانت قصيرة لأنها كانت تخمد بمجرد نفوق جميع القوارض المحلية. لم تكن لأوبئة الطاعون الدبلي المحلية المتقطعة القصيرة الأمد هذه أهمية، مقارنة بالوفيات المرعبة والمعاناة التي تكبدها الناس جراء الطاعون النزفي، إلا أنها جعلت مؤرخي اليوم يشعرون بالمزيد من الحيرة. (1) طاعون دبلي مؤكد في مارسيليا عام 1720
بعد مرور 50 عاما على اختفاء الطاعون النزفي تماما، عانى ميناء مارسيليا بفرنسا من وباء طاعون كبير جرى توثيقه بعناية. لقد حللنا تسلسل الأحداث تحليلا كاملا ومن دون شك نقول: كان هذا وباء طاعون دبلي حقيقيا. وشتان ما بين نمط وتفاصيل نوبة تفشي الطاعون الدبلي وتلك التي للطاعون النزفي. من ثم كان اقتراح جراهام تويج بأن المناخ والظروف في موانئ البحر المتوسط كانت مناسبة لإيواء «اليرسينية الطاعونية» بلا شك صحيحا.
وحتى بالرغم من أن السلطات الصحية لم تشهد وباء طاعون كبير على مدار 50 عاما، فإنهم أدركوا ما يتحتم عليهم فعله؛ فقد وضعوا التدابير الراسخة القديمة للحجر الصحي الذي مدته 40 يوما و«أطواق الحجر الصحي» موضع التنفيذ. وفي نهاية المطاف أنشئوا أسوارا دائرية لمسافة أميال كثيرة. بالطبع كانت هذه الاحتياطات غير مجدية بالمرة لأنهم كانوا يتعاملون مع مرض لم يعرفوه من قبل. فلا يمكن مكافحة الفئران والبراغيث المصاحبة لها بأطواق صحية، ولا هي تخضع لأي نوع من أنواع الحجر الصحي. كان أهل مارسيليا مقدرا لهم الموت الحتمي؛ فكل ما تعلموه على مدار 300 عام من المعاناة من الطاعون النزفي كان عديم الجدوى أمام هذا العدو الجديد.
بحلول عام 1720 كان الفأر البني قد وصل على الأرجح إلى الميناء وتكاثر بغزارة. في عام 1966 روى ريموند روبرتس في أحد اجتماعات جمعية الطب الملكية أن الصيادين جمعوا في شباكهم 10 آلاف فأر ميت في الميناء وجروا الجثث وألقوها في البحر. يسلط هذا الضوء على معدل النفوق الهائل للفئران عندما تصيبها عدوى بكتيريا «اليرسينية الطاعونية».
في نهاية المطاف، تحرك الطاعون الدبلي نحو الخارج إلى ريف منطقة بروفنس، زاحفا ببطء نحو القرى والضياع وبعض البلدات في المنطقة. (2) الجدل الثائر اليوم «نرى أنه بمقدورنا حسم هذا الجدل: الموت الأسود الذي تفشى في العصور الوسطى كان طاعونا دبليا.» هكذا كتب ديديير راؤول وميشيل درانكورت وزملاؤهما بجامعة البحر المتوسط بمارسيليا في أكتوبر عام 2000. وكانوا قد نقبوا هياكل عظمية عثر عليها في قبور في منطقة بروفنس في السواحل الفرنسية المطلة على البحر المتوسط. وقد زعموا أن هذه الهياكل تخص ضحايا الطاعون الذين ماتوا في الموت الأسود في القرنين السادس عشر والثامن عشر. وقد استخرجوا عينات للحمض النووي من لب الأسنان، وبالاستعانة بأدوات البيولوجيا الجزيئية، زعموا أنهم اكتشفوا وجود اليرسينية الطاعونية.
هذه الأخبار محيرة للوهلة الأولى؛ فهي عكس كل ما أثبتناه. لكن يوجد عدد من الأسباب وراء إمكانية عدم أخذ تأكيدهم غير الناضج والقاطع في الحسبان بثقة. (3) التحقق من القبور المنقبة
استخدمت مقابر القديسين قزمان ودميان بمدينة مونبلييه بجنوب فرنسا كمدافن خارج أسوار المدينة منذ القرن التاسع حتى القرن السابع عشر. استنتج راؤول وزملاؤه أنه:
من بين الثمانمائة قبر الموجودة في هذا الموقع، يحتمل أن أربعة منها كانت قبور كوارث؛ لأنها احتوت على هياكل عظمية دون أكفان. أرخت هذه القبور الأربعة على أنها حفرت في الفترة ما بين القرن الثالث عشر وأواخر القرن الرابع عشر نظرا لموقعها بأعلى سد يعود إلى القرن الثالث عشر، خلف جدار يعود إلى النصف الثاني من القرن الرابع عشر ... وعليه فقد وضعنا افتراضا مفاده أن الهياكل العظمية الموجودة بهذه القبور هي هياكل ضحايا الموت الأسود.
ما من سبب يجعلنا نفترض بناء على هذا التنقيب الأثري المتراخي أن الهياكل العظمية كانت تخص ضحايا الموت الأسود بمنطقة بروفنس عام 1348. كل ما يمكننا أن نخلص إليه هو أن الجثث دفنت في وقت ما بين القرنين التاسع والسابع عشر.
اكتشف ثاني قبر جماعي في بلدية لامبسك بمنطقة بروفنس. وقد احتوى على 133 هيكلا عظميا و«تشير البيانات التاريخية إلى أن هذه الهياكل لضحايا مستشفيات حجر صحي قديم لطاعون دبلي، وقد دفنوا في الفترة ما بين مايو وسبتمبر 1590.» مرة أخرى، الأدلة التاريخية والأثرية ناقصة.
احتوى القبر الثالث على نحو 200 هيكل عظمي دفنت في مايو عام 1722 في مارسيليا. كان هذا بعد اختفاء الطاعون النزفي بأكثر من 50 عاما، وكما رأينا كان هذا موقعا لنوبة تفشي طاعون دبلي حقيقي، ولا عجب في العثور على آثار لبكتيريا اليرسينية الطاعونية لدى هؤلاء الضحايا. (4) هل تقنية اختبار الدي إن إيه يعتمد عليها؟
في اجتماع للجمعية البريطانية لعلم الأحياء الدقيقة بمانشستر في سبتمبر عام 2003، أشار آلان كوبر، رئيس قسم الجزيئات الحيوية القديمة بجامعة أكسفورد، إلى أن تقنية تحليل الدي إن إيه التي استخدمها راؤول ودرانكورت كانت مشوبة بالعيوب. علاوة على أنه يرى أن عملية شق الأسنان وكحت ما بداخلها، كما فعل الفريق الفرنسي، قد لوثت العينات بالبكتيريا. والأمر المريب، أن كل العينات الفرنسية تقريبا احتوت على اليرسينية الطاعونية، وهو معدل نجاة مرتفع للدي إن إيه في مناخ مونبلييه الدافئ.
إن مجال الدي إن إيه هو مجال سريع التطور اليوم، إلا أنه شاب تاريخه مشكلات تلوث من الدي إن إيه الموجود دائما في يد الإنسان والبكتيريا والمصادر الأخرى. على سبيل المثال، أسفر اختبار سن لأحد رجال الفايكينج بجامعة أكسفورد عن مادة جينية من 20 شخصا على الأقل. ومما يزيد المشكلة تعقيدا، أنه حتى العظام الحديثة نسبيا تحتوي على كميات صغيرة تكاد لا تذكر من الدي إن إيه يصعب استخراجها.
لا يزال آلان كوبر مقتنعا بأن دي إن إيه اليرسينية، الذي عثر عليه راؤول وزملاؤه في أسنان مأخوذة من جثث كانت مدفونة بمارسيليا وبروفنس، مسألة اكتشاف خاطئ نتيجة لتلوث عارض للعينات. (5) هل عثر على آثار لبكتيريا اليرسينية الطاعونية لدى ضحايا طاعون في أماكن أخرى من أوروبا؟
حلل آلان كوبر وزملاؤه، باستخدام تقنيات البيولوجيا الجزيئية التي يرون أنها مصممة خاصة من أجل اليرسينية، 121 سنا من 66 هيكلا عظميا عثر عليها في خمسة قبور جماعية، منها قبر يقع في إيست سميثفيلد بلندن حفر من أجل ضحايا الطاعون عام 1349. وقد فحصوا أيضا حفر طاعون مشتبه فيها بأبرشية سبيتالفيلدس بلندن، وفودروفسجارد بكوبنهاجن، ومدينتي أنجيه وفردان بفرنسا. لم تحتو سن واحدة على دي إن إيه بكتيريا يرسينية مميز.
يوضح كوبر أن نتائجه التي تنفي وجود اليرسينية لا تعد دليلا على أن هذه الضحايا لم تمت من جراء الإصابة بالطاعون الدبلي فلربما لم تخترق البكتيريا الأسنان، أو لعل دي إن إيه اليرسينية لم ينج.
لا نشعر بأي نوع من الدهشة حيال هذه النتائج الأخيرة؛ فنحن على قناعة بأن هؤلاء الضحايا قد لقوا حتفهم على إثر الإصابة بمرض فيروسي هو الطاعون النزفي.
ولسنا مؤهلين للحكم على موثوقية تحليلات الدي إن إيه، ولكن حتى لو تكررت نتائج راؤول ودرانكورت وزملائهما وثبت صحتها، فإنها من المستحيل أن تثبت بأي شكل من الأشكال أن «الموت الأسود كان طاعونا دبليا». كان هذا المرض الذي يصيب الفئران يظهر، كما رأينا، من حين إلى آخر في مارسيليا والمنطقة المحيطة، وعليه فقد كان بقاء آثار اليرسينية الطاعونية ممكنا.
الفصل الثالث عشر
القصة الحقيقية لقرية عظيمة
عدنا ونحن مسلحون بما اكتسبناه من معرفة جديدة عن الطاعون النزفي إلى واحد من أشهر ابتلاءات الطاعون كي نعيد فحص مساره. هذا الابتلاء يقدم صورة معبرة عن الرعب الذي أثارته إحدى نوبات التفشي.
لقد توصلنا أيضا إلى اكتشاف مذهل، فحتى في ضربة الطاعون الأولى، المعروفة باسم الموت الأسود، رأينا أمارات على أن بعض الأشخاص الذين حتما كانوا معرضين للإصابة بالعدوى، كانوا على ما يبدو محصنين ضد هذا المرض الجديد. وفيما ثار الطاعون على مدار الثلاثمائة عام التالية، وتكشفت أحداث قصتنا شيئا فشيئا، جمعنا المزيد والمزيد من الإشارات والأدلة عن هذا الأمر.
نبحث في هذا الفصل الوباء في إيم (التي نقشت فيها على الألواح المقدسة فكرة الطاعون الدبلي باعتباره العامل المسئول عن الطاعون) ونكتشف خيطا مهما آخر عن طبيعة مقاومة الطاعون الدبلي، التي تكونت تدريجيا لدى الأشخاص في أوروبا إبان عصر الطواعين. (1) صنع خرافة
المرة الأولى التي رويت فيها قصة قرية إيم بمقاطعة دربيشير، أشهر قرية ضربها الطاعون على الإطلاق، كانت عام 1855. يتضح بشدة من هذه الرواية أن الجميع بما فيهم القرويون اعتقدوا أنه كان مرضا معديا ينتقل مباشرة من إنسان إلى آخر. أقنع الكاهن ويليام مومبسون أهل القرية أن من واجبهم أن يقيموا طوقا صحيا حول حدود إيم، وأن يمنعوا أي شخص من الدخول إليها (وكأن ثمة شخصا سيرغب في الذهاب إلى هناك من الأساس)، أو الأهم من ذلك، مغادرة القرية. لم يكن مسموحا لأي شخص بالفرار من القرية؛ فمن يفر فسوف يأخذ العدوى إلى القرى أو البلدات الأخرى (مع أن البعض هرب بالفعل في المراحل الأولى من موجة التفشي). مكث قاطنو القرية هناك محتجزين، وشاهد بعضهم بعضا وهم يموتون واحدا تلو الآخر. نجحت هذه التضحية البطولية أيما نجاح وجرى احتواء الطاعون داخل القرية.
بعدما أوضح يرسين طبيعة الطاعون الدبلي في نهاية القرن التاسع عشر، وترسخت فكرة أن المرض كان السبب في الطواعين، عدل الناس قصة إيم وحرفوها، وهكذا تشكلت قصة شعبية خرافية. وقد حفظها المؤرخون المحليون بعناية واهتمام كبيرين. وأصبحت القصة التقليدية تقول الآن (مع بعض الاختلافات): إن ألكسندر هادفيلد، خياط القرية، تسلم صندوقا به أقمشة مبللة، خرج منها برغوث مصاب (أو فأر مصاب كما في بعض الروايات) لدغ مساعده جورج فيكرز عندما علق الملابس لتجفيفها، عندئذ أصيب فيكرز بإعياء شديد؛ فقد أصيب بالهذيان وظهرت أورام كبيرة على رقبته ومنطقة أعلى الفخذ. في اليوم الثالث، ظهرت بقعة الطاعون المميتة على صدره ومات من الطاعون الدبلي.
من المهم بصفة خاصة أن نكتشف على نحو قاطع حقيقة الطاعون في إيم؛ لأن الجميع لا يزالون يتشبثون بعناد بهذه القصة ذات المائة عام عن إحدى نوبات تفشي الطاعون الدبلي على الرغم من تناقض جميع الأدلة. على سبيل المثال، في الرابع والعشرين من فبراير 2002، بثت القناة الرابعة بالإذاعة البريطانية برنامجا بعنوان «أسرار الموتى» كان يهدف إلى تقديم قصة عن إيم، وقد عرض البرنامج رجلا ينفض قطعة قماش تحتوي على براغيث مصابة، ومع أنه صور وصول الطاعون الدبلي على هذا النحو، فإن بقية الحلقة صورت بوضوح انتشار مرض معد بسيط ينتقل مباشرة من شخص إلى آخر في أنحاء القرية.
قررت سو سكوت أن تقوم بالعمل الميداني على النحو المناسب، وقادت سيارتها عبر جبال البيناينز في يوم شتوي بارد لاستطلاع إيم. عاينت سو مسرح الجريمة بالاستعانة بخريطة، وشاهدت ما تبقى من الأدلة التي منها أكواخ الطاعون التي التقط لها العديد من الصور والتي شهدت بدء الوباء، وخزانة في الهيكل الشمالي من الكنيسة يقال إنها صنعت من الصندوق الذي احتوى على القماش الشهير. كما زارت المتحف القومي، وعلمت أن تعدين الرصاص وصنع الأحذية ونسج الحرير كانت ذات يوم المهن التي يمتهنها أهل القرية.
خريطة قرية إيم بمقاطعة دربيشير.
لم يشكك أحد في شجاعة أهل إيم، لكن عادة ما يشير المعلقون إلى أن طوق الحجر الصحي كان وسيلة عديمة الجدوى لمكافحة الفئران والطاعون الدبلي، وبعبارة أخرى، ذهبت تضحية القرويين سدى. هذا مخالف للمنطق؛ لأن ما حدث بالفعل هو أن حيلة تطويق البلدة نجحت نجاحا كاملا، ولم يفلت الطاعون ليهاجم أي مجتمع آخر على مقربة من البلدة. وكما رأينا فإن هذا يناقض تماما السلوك الفعلي للطاعون الدبلي في المنطقة الخلفية من ميناء مارسيليا في الفترة ما بين عامي 1720 و1722، التي أخفقت فيها الأطواق الصحية تماما، وزحف الطاعون الدبلي، وانتقل إلى الكثير من القرى والضياع المجاورة. (2) المحقق التاريخي يعمل من جديد
كما هو الحال دائما، توجد الحقيقة في سجلات الأبرشية، التي حفظها كاهن إيم باهتمام كبير، وهي عبارة عن دفتر يومي للطاعون.
استهللنا عملنا بتحديد إجمالي وفيات الطاعون شهريا، ووجدنا تشابها ملحوظا مع أحداث بنريث. بدأ الطاعون في أوائل سبتمبر 1665، ووصل إلى ذروة صغيرة في فصل الخريف، وتحديدا في شهر أكتوبر. انحسر بعدها الوباء تدريجيا واستمر بصعوبة طيلة الشتاء. انفجرت المرحلة الثالثة من الوباء في مايو التالي وارتفعت سريعا لتصل إلى ذروتها في أغسطس. بعدها خمد الوباء واختفى بحلول ديسمبر عام 1666.
بثت النتائج التي توصلنا إليها حتى ذلك الحين الحماس في نفوسنا، ورسمنا جدولا يوضح انتشار العدوى داخل العائلات وبينها، وكانت النتائج حاسمة. مرة أخرى وصلت العدوى إلى القرية عن طريق مسافر غريب، وكان نمط نوبتي العدوى الثانية والثالثة مطابقا لذلك الذي لبنريث. كانت فترة كمون المرض 12 يوما، والوقت بين الإصابة والموت 37 يوما. لم يكن هناك أدنى شك بأن نفس المرض المعدي كان السبب وراء الأوبئة في بنريث، وبعد مرور قرابة السبعين عاما، في إيم.
كي نميط اللثام عن القصة الحقيقية للطاعون في إيم، لا بد أن نعود إلى الأدلة الأصلية التي اشتملت على وصايا أهل القرية وسجلات الأبرشية. تقوم القصة التي سنقدمها على حقائق مأخوذة بدقة قدر المستطاع من المصادر الأولية. وقد أعدنا بالأخص ترتيب العائلات في إيم، واقتفينا أثر خطوط العدوى بينها.
وفيات الطاعون الشهرية في إيم. كما الحال في بنريث، كانت هناك نوبة تفش صغيرة في خريف عام 1665 أعقبتها فترة خمود في الشتاء، قبل أن يعاود المرض الظهور في الربيع ليصل إلى ذروته المعتادة في الصيف.
إيم واحدة من مجموعة قرى قديمة منعزلة على الحافة الشرقية من مقاطعة بيك في دربيشير، تقع على منحدرات فوق وادي ديروينت. ولما كانت مكانا نائيا ومنعزلا عام 1665 وتقع على ارتفاع 245 مترا فوق سطح البحر، فإن الوصول إليها كان عن طريق مداق وعرة وضيقة. وحتى اليوم يمكن أن تسهو بسهولة عن اللافتة الموضوعة على الطريق التي تشير إلى وادي إيم ديل المنحدر والمغطى بالأشجار الكثيفة، وهي تقع على الطريق الخارج من ستوني ميدلتون، القرية القريبة التي قدمت مثل هذا الدعم الباسل لأهل إيم عندما كانوا يجلبون لهم الطعام ويضعونه على حجر الطاعون إبان أشهر الأزمة. وتقع أقرب بلدات منها وهي ماتلوك وتشيسترفيلد وباكستون وشيفيلد على بعد نحو 12 ميلا (19 كيلومترا) وتقع مدينة السوق المحلية بيكويل على بعد 7 أميال (11 كيلومترا) جنوبا.
بنيت معظم الأكواخ من الحجارة، وسقفت بالبلاط الحجري، وفي الغالب كانت أرضياتها مصنوعة من الحجارة. لا تزال إيم قرية نشطة، ومع أنها تجذب عددا هائلا من السائحين سنويا فهي ليست خلابة المناظر ولا تحتوي على متاحف. (3) الخياط المتجول
كانت ماري كوبر قد تزوجت من أحد العاملين بتعدين الرصاص، وأنجبت منه ولدين، هما: جوناثان، الذي كان في الثانية عشرة من عمره حين توفي الزوج، وإدوارد في الثالثة. عندما توفي زوجها تركها بلا سند في الحياة. لكن ماري تكيفت مع صعوبات الحياة، وتزوجت من ألكسندر هادفيلد في السابع والعشرين من مارس عام 1665، وعاشت العائلة معا في أحد الأكواخ المكونة من طابقين غرب فناء الكنيسة في إيم.
بعد ذلك بخمسة أشهر، في التاسع من أغسطس 1665، كانت ماري تعيش وحدها مؤقتا برفقة ولدها الأصغر؛ لأن ألكسندر والابن الأكبر كانا في مهمة بعيدا؛ ليعملا بالأجرة في موسم الحصاد. قرع جورج فيكرز، خياط متجول، باب ماري، وسألها إن كان ممكنا أن توفر له إقامة مؤقتة وهو يمارس عمله في القرية؟ فرحبت به بحفاوة؛ إذ لم يكن بحوزتها نقود على الإطلاق تكفي لشراء قوتها، وبضعة بنسات أخرى ستعينها في نفقاتها.
خصصت ماري غرفة صغيرة لفيكرز في الكوخ، حيث كان ينام ويزاول أعماله، وكان لا بد من أن يلتف حول المائدة مع بقية العائلة لتناول الطعام. في الصباح التالي كان يروج لمنتجاته في الأكواخ المجاورة وفي المنازل الصغيرة القائمة على قارعة الطريق. وسرعان ما قبل الناس في المجتمع الصغير فيكرز، وعندما كان يعرج الجيران على ماري لرؤيتها، كانوا يجدون الوقت للتحدث معه ويمكثون في غرفته الصغيرة.
في صبيحة الثاني من سبتمبر، لم يحضر فيكرز لتناول الإفطار ووجدته ماري طريح حمى خبيثة. كان يشعر بالظمأ الشديد وتجرع كوبا من الماء تلو الآخر.
في صبيحة اليوم التالي، كان من الواضح أن حالته أسوأ كثيرا وكانت تتدهور بسرعة. وقد كان سقيما طوال الليل ويصرخ بحرقة. وكما رأت ماري، فقد تقيأ دما وبدأ ينزف من أنفه.
أخيرا ذهبت ماري لطلب يد العون والنصيحة من الكاهن، الذي كان يسكن قريبا. كان القس ويليام مومبسون رجلا نشيطا، في الثامنة والعشرين من عمره، يأخذ مهامه ككاهن أبرشية إيم مأخذ جد وبضمير حي. وكان قد رأى الطاعون من قبل، وفي الحال تعرف على البقع النزفية، التي هي أمارات الرب، على صدر فيكرز.
لقي جورج فيكرز نحبه في السابع من سبتمبر، وكان الموت بمنزلة عتق رحيم له. أقام ويليام مومبسون صلاة الجنازة عليه، ولم يحضرها سوى ألكسندر (الذي استدعي في عجالة) وماري هادفيلد. ساد القرية صمت كئيب حينذاك، فهل أصاب المرض المرعب أي شخص آخر؟ (4) تفشي الوباء
بمرور الوقت بدأ بعض أهل القرية يراودهم الأمل في أن المرض لم يصب أحدا، مع أن هذا كان أمرا بعيد المنال. إلا أنه في السابع عشر من سبتمبر، أي بعد مرور 10 أيام على موت فيكرز، اشتكى الصغير إدوارد هادفيلد من الشعور بالإعياء، وانهارت ماري، وأدرك الجميع أن المرض كان نشطا. تطابق هذا التوقف المؤقت بحذافيره مع التوقف الذي حدث عقب موت أندرو هوجسون في بنريث. وهكذا انتشرت العدوى بنفس الطريقة المتوقعة التي لطالما كان ينتشر بها الطاعون. وقد كان وحشيا.
في البداية، لقي جيران ماري القريبين، الذين كانت تربطهم علاقة مودة بفيكرز، نحبهم، وسرعان ما بات جليا أن الخياط المتجول كان قد نقل الطاعون إلى خمس عائلات أخرى، جميعهم يعيشون على مقربة من آل هادفيلد، ويتبادلون الزيارات مع ماري. مزق المرض هذه العائلات على نحو متزايد كانتشار النيران في الهشيم. وكان آل سيدول يعيشون على الجانب المقابل من منزل ماري، ودفنت ابنتهم سارة البالغة من العمر اثني عشر عاما في الثلاثين من سبتمبر، وكانت قد نقلت العدوى وقتئذ إلى أربعة من إخوانها وأخواتها، إلى جانب والدها جون. لم تنج فقط سوى أمها إليزابيث وأختها إيموت، وهما شخصيتان مهمتان في قصتنا التي تتكشف شيئا فشيئا.
عانت ماري هادفيلد من مأساة ثانية عندما توفي ابنها الأكبر جوناثان في الثامن والعشرين من أكتوبر؛ فلقد انتقلت إليه العدوى من أخيه إدوارد قبيل موته.
استمر الوباء طيلة خريف عام 1665، واستمر الكاهن مومبسون في زيارة المرضى والمحتضرين والاعتناء بهم، كما ساعدهم أيضا في تحرير وصاياهم، وأقام جميع الصلوات الجنائزية ، وسجل بعناية جميع الوفيات في سجلات الأبرشية.
مع دنو الشتاء، لاحظ مومبسون أن الوباء يخمد على ما يبدو. ترى أيمكن أن يقضي عليه شتاء إيم البارد حقا؟ لكن هذا لم يحدث؛ لأن المراهقين ساعدوا على استمراره؛ فقد انتقلت العدوى إلى إليزابيث وأرينجتون من هيو ستابز في الثالث والعشرين من أكتوبر؛ وكانا كلاهما في الثامنة عشرة من العمر وفي الغالب كانا حبيبين. كانت إليزابيث حلقة ربط مهمة في السلسلة؛ فحالات الوفاة القليلة التي حدثت في نوفمبر وديسمبر بسبب الطاعون كانت إليزابيث مصدرها جميعا.
اجتاز المرض الشتاء في إيم بصعوبة؛ فقد استمر خط العدوى على نحو واهن طوال الفترة الطويلة الممتدة من ديسمبر 1665 حتى مايو 1666، التي حدثت خلالها وفيات قليلة من الطاعون.
استعد مومبسون للأسوأ عندما وجد أن الطاعون لا يزال نشطا، وإن كان على نحو واهن، في أوائل الربيع. وطلب من زوجته كاثرين أن تأخذ أطفالهما ويمكثوا عند أصدقائهما في يوركشير، إلا أنها عادت لتبقى إلى جانب زوجها بعد أن أودعت أطفالها مكانا آمنا. وقد كلفها ذلك القرار حياتها.
والآن نأتي لقصة إيموت سيدول المؤثرة التي نجت كما رأينا من تفشي الطاعون في عائلتها في أكتوبر. كانت إيموت مخطوبة لرولاند توري الذي كان يعيش في ستوني ميدلتون، ضيعة تقع على بعد نحو ميل، وكان يأتي ليراها كل يوم إبان الشتاء. لكن عندما عاود الطاعون الاستشراء في الربيع اتفقا على أن يأتيا كل ليلة إلى الجانبين المتقابلين لوادي كوكلت دلف، وهو مدرجات طبيعية، ويتواصلان بالصياح والإشارات. حضرت إيموت مراسم زواج أمها، التي كانت قد نجت أيضا من موجة الوباء الأولى، والتي عاودت الزواج ثانية في الرابع والعشرين من أبريل عام 1666. في الليلة التالية للزفاف، أخلفت إيموت موعد اللقاء؛ إذ انتقلت العدوى إليها بالفعل وأصيبت بإعياء شديد. توقع رولاند أسوأ الاحتمالات، إلا أنه استمر في المجيء إلى وادي كوكلت دلف كل ليلة، وعندما رحل الطاعون أخيرا ورفع طوق الحجر الصحي، كان رولاند أول من هرع إلى القرية. والأمر المفجع أنه وجد أن إيموت كانت قد فارقت الحياة ومنزلها كان خاويا.
كان زفاف إليزابيث سيدول حدثا خطيرا، فهناك انتقلت العدوى إلى إيزاك ثورنلي، البالغ من العمر ثلاثة عشر عاما، من إيموت سيدول. وبعد موت إيموت أصبح إيزاك حلقة الوصل الوحيدة الباقية على قيد الحياة في سلسلة العدوى، ولو كانت العدوى قد توقفت عنده لما كان هناك وباء، إلا أنه نقل العدوى إلى نحو 15 إلى 18 شخصا آخر، وانفجر وباء الصيف بوفيات مرعبة، ووصل الوباء ذروته في أغسطس ثم انحسر تدريجيا.
ماذا ألم بماري هادفيلد؟ لقد نجت من الطاعون بالرغم من اعتنائها بكل أفراد أسرتها وفقدانهم جميعا، وتزوجت للمرة الثالثة بعدها بست سنوات في الخامس من يونيو عام 1672. وكان زوجها هو مارشال هول (أو هاو).
تدون سجلات الأبرشية بالتفصيل الممل الأشهر المريعة لعامي 1665 و1666 عندما استقبل رجال ونساء وأطفال الموت الشنيع بشجاعة. ولا نتعجب من شجاعتهم وثباتهم فحسب، بل هم أيضا شهادة لنا عبر القرون؛ إذ يبعثون إلينا برسالة ثمينة عن طبيعة التصدي للطاعون النزفي. (5) طوق الحجر الصحي الشهير
تصرف الكاهن بحزم في أواخر مايو عام 1666، ومع أن إجراءاته نجحت نجاحا كاملا في احتواء الوباء داخل القرية، فقد تأخر للغاية في منع الطاعون من تدمير أهل أبرشيته.
بادئ ذي بدء، أقنع الكاهن أهل الأبرشية بوضع طوق الحجر الصحي الشهير. وكان بضعة أفراد من أهل القرية قد فروا بالفعل، وأبعد عدد من الأهالي أطفالهم عن القرية. كان بعض أهالي القرية يعيشون خارجها على سفح تل خارج الطوق.
ثاني قرار اتخذه أهل القرية في يونيو عام 1666 تمثل في إلغاء الجنازات المنظمة أو الدفن في فناء الكنيسة؛ إذ نصحهم الكاهن بدفن موتاهم في الحدائق أو البساتين أو الحقول.
كان ثالث قرار اتخذه الكاهن هو غلق الكنيسة وإقامة العبادة والصلوات في الهواء الطلق؛ ومن ثم تجنب احتشاد الناس معا في الأماكن المغلقة. وكانت العبادة تقام في مدرج كوكلت دلف الطبيعي حيث كان يلازم كل فرد عائلته، التي كان يفصل كل منها عن الأخرى مسافة ما (على الأقل 4 أمتار)، فيما كان مومبسون يقف على صخرة بارزة ليعظهم.
كانت كل هذه التدابير احتياطات سليمة لمكافحة مرض معد، وساعدت على حصر الإصابات بداخل العائلات، وفي الغالب ساعدت في كبح جماح نوبة التفشي. وفي آخر المطاف فشلت هذه التدابير وجرى الوباء مجراه الطبيعي (وإن كانت تدابير الصحة العامة ربما قد أوهنته) لثلاثة أسباب رئيسية:
أولا: لم تبدأ ممارسات العزل في خريف عام 1665. ثانيا: لم يفهم الناس دلالة فترة الحضانة الطويلة على نحو صحيح، وإنما صبوا تركيزهم، بدلا من ذلك، على الضحايا مع ظهور الأعراض. بحلول وقت ظهور الأعراض كانت تقل فعليا درجة نقل المرضى للعدوى؛ فمعظم الضرر يكون قد وقع بالفعل. أخيرا: كان المرض ينتشر بسهولة أكبر بكثير في الهواء الطلق في مناخ الصيف الدافئ، وكان التغلب على العدوى أكثر صعوبة في هذا الوقت. (6) روايات وباء إيم
عاش مارشال هاو، الذي كان عاملا في منجم للرصاص، في كوخ على الجانب الغربي من إيم، وقيل إنه أصيب بالمرض لكن تعافى منه، مع أنه فقد في وقت لاحق زوجته وابنه. ولما رأى أنه في مأمن من المرض، تطوع لدفن الجثث حينما تعجز العائلات عن القيام بهذه المهمة. بعد ذلك بدأ يفرض رسوما للدفن، وكثيرا ما كان يستولي على مقتنيات المتوفين. يبدو أنه كان شخصية بغيضة، وكان يستغل مصائب الآخرين، وتذكر السجلات أنه بينما كان يجر جسد رجل يدعى أنوين، ظانا أنه ميت، استعاد الرجل - أنوين - وعيه وطلب رشفة ماء ونجا من الطاعون. نعتقد أنه ربما وقع خطأ صغير في السجلات في مكان ما، وأن هذا الرجل مارشال هاو هو نفسه الرجل الذي تزوجته ماري هادفيلد؛ ففي النهاية، فقد كلاهما زوجه بسبب الطاعون. وهي ليست بالنهاية الرومانسية بالنسبة لماري.
رأت إليزابيث هانكوك عائلتها تنمحي من على وجه الأرض في أسبوع واحد؛ حيث فقدت اثنين من أطفالها في الثالث من أغسطس، أعقبهما اثنان آخران وزوجها جون في السابع من أغسطس، ثم لقيت ابنتان أخريان حتفهما في التاسع والعاشر من نفس الشهر. رأى أهل ستوني ميدلتون - وهم يتسلقون الحد الصخري ليجلبوا المؤن والطعام إلى القرية المنكوبة - إليزابيث وهي تجر الجثث لدفنها في حقل بالقرب من منزلها. وعقب انتهاء الوباء، ذهبت لتعيش برفقة ابنها المتبقي الوحيد في شيفيلد. وقد عاد أحد أحفاده إلى إيم، وجمع شواهد قبور الأبناء المتفرقة وجمعها حول قبر أبيهم، حيث يحوطها الآن سور لحمايتها، وهو المكان الذي يطلق عليه قبور رايلي.
استمر مومبسون وزوجته في دأبهما على زيارة أهل أبرشيته. وذات أمسية، نحو التاسع عشر من أغسطس 1666، فيما كانا عائدين من إحدى هذه الزيارات، يقال إنها صاحت فجأة في حماس قائلة: «ما أطيب رائحة الهواء.» لا بد أن يكون الكاهن قد شل من الصدمة؛ إذ لم يكن يشم أي شيء غير مألوف، لكنه كان يدرك أن هذه واحدة من العلامات المميزة للطاعون. وماتت زوجته بين ذراعيه في الخامس والعشرين من أغسطس، ويمكن رؤية قبرها، الذي تلتقط له الكثير من الصور، في فناء الكنيسة.
على ما يبدو فإن هذه الرائحة الطيبة كان يشمها الضحايا قبيل ظهور الأعراض المؤلمة مباشرة. نجد مثالا آخر على موضوع الرائحة الطيبة مسجلا في ضيعة كوربار، التي تبعد ميلين جنوب شرق إيم، والتي كانت قد عانت من وباء قبل 30 عاما في 1632؛ حيث كانت امرأة في زيارة لمنزل إحدى الضحايا، ولدى مغادرتها قالت لزوجها: «آه يا عزيزي، ما أحلى رائحة الهواء.» وفي تلك الليلة ظهرت على المرأة الأعراض الرئيسية، ووافتها المنية بعدها بخمسة أيام. هذه الرائحة الناتجة عن المرض هي في الغالب علامة مبكرة على موت أنسجة الأعضاء الداخلية. ترجع أهمية هذه القصة أيضا إلى أنها توضح أن الطاعون كان متواجدا في وقت غابر في هذه المنطقة النائية من دربيشير.
كانت مارجريت بلاكوول (التي لا يزال منزلها قائما في إيم) تعيش مع أخيها فرانسيس؛ فقد توفي أفراد عائلتهما الآخرون قبل ذلك. وفي نهاية المطاف أصيبت مارجريت بالمرض، وبدا أنها في المراحل الأخيرة عندما صب أخوها - الذي كان قد أعد الإفطار لنفسه - الدهن الزائد في وعاء وتركه في المطبخ. وعندما غادر المنزل كان على يقين من أنها ستكون قد فارقت الحياة لدى عودته. وبعد رحيله بقليل، تغلب العطش الشديد (أحد الأعراض التقليدية للطاعون) على مارجريت التي كانت محمومة، فقامت من فراشها، وما إن وجدت الدهن الدافئ الذي ظنت أنه لبن، حتى ازدردته بشراهة، ما جعلها تتقيأ أغلب الظن. وعندما عاد فرانسيس وجد مارجريت لا تزال على قيد الحياة، بل أقوى بكثير على نحو باد للعيان كذلك. تعافت مارجريت وظلت على قناعة بأن دهن الخنزير قد عالجها.
إنه لمن المدهش أن تعرف أن فرانسيس ومارجريت بلاكوول هما على الأرجح، في رأينا، أهم شخصيتين تاريخيتين في هذا السجل التاريخي للطاعون في قرية إيم. ثمة واحدة من أحفاد فرانسيس بلاكوول على قيد الحياة وتعيش في إيم اليوم. وكما سنرى لاحقا، فحص علماء البيولوجيا الجزيئية تكوينها الجيني، وتمكنوا من إثبات الكيفية التي تمكنت بها مارجريت بلاكوول منذ 300 عام أن تصاب بالطاعون ثم تنجو، لم يكن للأمر علاقة بدهن الخنزير. (7) المقاومة الغامضة للمرض
يتضح لنا عند إعادة تركيب الأحداث في إيم أن بعض الأفراد كانوا مقاومين للمرض. أنوين ومارشال هول (أم هاو؟) ومارجريت بلاكوول، جميعا أصيبوا بالمرض لكنهم نجوا من الموت، ولا بد أن ماري هادفيلد كانت على اتصال مباشر بأفراد عائلتها، وكانت تعتني بهم خلال مرضهم الأخير، وأما إليزابيث هانكوك، فقد دفنت جميع أفراد عائلتها.
عمل الكاهن مومبسون بهمة ونشاط وسط رعايا أبرشيته المحتضرين، وماتت زوجته بين ذراعيه. وقد كتب بعدها:
خلال هذا البلاء العظيم، لم يبد علي أقل عرض من أعراض المرض، ولم أكن يوما في صحة أفضل مما كنت في ذلك الوقت. أصيب خادمي بالمرض، ولدى ظهور الورم، أعطيته بعضا من مضادات السموم الكيميائية التي أتت بمفعول، وبعد زوال الورم، بات في أتم صحة. وظلت خادمتي بصحة جيدة، وكان ذلك نعمة من الله؛ لأنها لو كانت قد مرضت، لاضطررت لغسيل ملابسي وشراء مؤن الطعام بنفسي.
لقد نجا كل من ماري هادفيلد وإليزابيث هانكوك ومومبسون أيضا. (8) تقدم الوباء
أصيب الخياط جورج فيكرز بالعدوى في الأصل في الأول من أغسطس من عام 1665 في مكان كان فيه وباء عادة ما يكون جامحا في الصيف. أين كان هذا المكان تحديدا؟ وإلى أي حد سافر فيكرز؟ لا توجد آثار لأية أوبئة في دربيشير أو المنطقة المحيطة في ذاك الوقت، بيد أن طاعون لندن العظيم كان يكسب زخما حينذاك، وبالطبع فمن المحتمل أن يكون جورج قد أصيب هناك.
كما رأينا بدأت موجات التفشي في إيم وبنريث في الخريف، وكانت تتشكل من وباءين منفصلين، لتبلغ مستوى ذروة طفيف في شهري أكتوبر ونوفمبر، ثم تخمد وتهدأ أثناء الشتاء، لتثور مرة أخرى في الربيع التالي، وتصل إلى ذروتها نحو شهر أغسطس، وبعدها بدأت تخمد، وقد عجل بزوالها الأخير بدء الشتاء التالي.
درسنا بعدها عددا كبيرا من أنواع الطاعون، ووجدنا أن هذا النمط كان مطابقا تماما للأوبئة التي بدأت في الخريف في إنجلترا. فلم يجد المرض متسعا من الوقت ليبدأ في الانتشار بأقصى سرعة قبل أن تدخل برودة الطقس، عندما كان استمرار انتقال العدوى في الهواء الطلق أمرا شبه مستحيل. وعندئذ كان يشق طريقه بصعوبة بالغة عبر أشهر الشتاء. حتما كان يوجد كثير من الأوبئة التي لم تسجل في إنجلترا؛ حيث كانت العدوى تخمد إبان شهري يناير وفبراير، وكان المجتمع ينجو منها بأقل خسائر. (9) شتاء قارس البرودة
كانت الظروف المناخية في منطقة بيك دستركت قاسية، وفي عام 1665 «قيل إنه في شهر ديسمبر تساقطت الثلوج غزيرة يصاحبها صقيع شديد قارس ... وكان المناخ في مطلع عام 1666 يزداد برودة وقسوة.» كان الشتاء البارد في إيم إبان العصر الجليدي الصغير باردا حقا بمقاييس اليوم. ومع الترشيد في استخدام الفحم والحطب ووجود نوافذ غير محكمة الغلق، كانت الأكواخ الحجرية قارسة البرودة وغير ملائمة بالمرة لقيام مستعمرة من الجرذان السوداء، التي تحتاج إلى ظروف مناخية دافئة وأسقف مغطاة بالقش، كما يستحيل أن تنشط البراغيث في ظل هذه الظروف.
لا يمكن تفسير القصة الشهيرة لبدء الوباء في إيم على أنها موجة تفش لطاعون دبلي. يحتمل من الناحية المنطقية أن يكون فيكرز قد لدغ من برغوث مصاب خرج من صندوق ملابس، لكن من المستحيل أن يكون فيكرز قد نقل العدوى إلى أي شخص آخر مباشرة (أي من خلال الطاعون الرئوي) لأن الضحية التالية (إدوارد كوبر الصغير) لم يتوف إلا بعده بخمسة عشر يوما، ولا ننسى أن ضحايا الطاعون الرئوي يموتون في غضون ستة أيام.
كان أهل قرية إيم على حق تماما في افتراض أن هذا كان مرضا معديا يمكن احتواؤه بنجاح من خلال إقامة طوق حجر صحي محكم. من الواضح أن مثل هذه الإجراءات كانت تفشل فشلا ذريعا أمام موجة تفشي طاعون دبلي؛ فالقوارض لا تتأثر بالأسوار الدائرية التي يقيمها البشر؛ إلا أن أقوى حجة لقبول أن الطاعون في إيم كان موجة طاعون نزفي ينتقل من شخص إلى آخر تكمن في الانتشار المتوقع بالكامل للعدوى الذي وضحناه، في إطار تحقيقاتنا التاريخية. (10) ملحق
عندما أعلن ويليام مومبسون أن الوباء قد انتهى وأن المحنة قد ولت، لا بد أن الناجين تنفسوا الصعداء، فمن حسن حظهم أنهم ظلوا على قيد الحياة. ولم تكن هناك مظاهر فرح ولا بهجة، فعدد كبير جدا من أفراد هذا المجتمع الصغير قد قضوا، وعدد كبير من الأكواخ كان مغلقا ومهجورا.
أمر الكاهن مومبسون بحرق كافة الملابس الصوفية وحاشيات الفرش، وبدأ بنفسه؛ إذ أحرق هو نفسه أمتعته، حتى إنه، حسبما ذكر في خطاب إلى عمه، كان ما تبقى لديه من ملابس يكفيه بالكاد:
إن حالة هذا المكان صارت مرعبة للغاية حتى إني أقول لنفسي إنها فاقت كل الحدود والعبر على مر التاريخ بأكمله. لربما لا أبالغ في قولي إن بلدتنا صارت كجلجثة بحق - موضع للجماجم - ولولا أنه تبقى منا بقية صغيرة، لصرنا مثل سدوم وشابهنا عمورة. لم يطل أذني قط مثل هذا العويل المقبض، ولم تشتم أنفي مثل هذه الروائح النتنة، ولم تقع عيني قط على مثل تلك المشاهد المرعبة.
يا له من نعي مريع للقرية، وإن كان لا بد أنه تكرر مرارا وتكرارا إبان عصر الطواعين.
ماذا حدث لمومبسون؟ لقد تزوج من إليزابيث، أرملة تشارلز نيوبي، نحو عام 1669 تقريبا، وأنجبت له أربعة أطفال آخرين، بنتين وولدين، لكن كلا الولدين ماتا وهما رضيعان، وقد كافأه راعيه بتعيينه في منصب كاهن يتقاضى راتبا في أبرشية إيكرينج، التي تبعد 30 ميلا (47كم) شرق إيم، حيث يقال إن وصوله هناك عام 1670 بث الرعب في نفوس أهل الأبرشية. وقد كان بالغ الانشغال قبل وصوله بإعادة بناء الكنيسة هناك. وفي غضون عام عين أيضا كاهنا براتب ثابت لدى كنيسة نورمانتون، وبعدها نصب كذلك كاهنا براتب في يورك، وبعدما أصبح يتقاضى الآن ثلاثة رواتب، كان ميسور الحال إلى حد معقول. وقد توفي في التاسع من مايو عام 1708 عن عمر يناهز السبعين عاما، ودفن في إيركينج.
الفصل الرابع عشر
الصلة المدهشة بين الإيدز والموت الأسود
عند اجتياح الموت الأسود للمرة الأولى عام 1347، وتوغله في أنحاء أوروبا، يبدو أن كل شخص احتك احتكاكا قويا بأحد المصابين أصيب بالمرض ولقي حتفه. يعزى هذا إلى أن أحدا لم يتعرض للمرض من قبل. بعدها بثلاثمائة سنة، وفي القرن السابع عشر، كانت هناك أدلة على أن في البلديات التي سبق أن ضربها الطاعون، تشكل لدى بعض سكانها نوع من المقاومة المتأصلة. كما رأينا أن الصبيان والخدام في لندن، الذين كانوا وافدين من الريف والبلديات الإقليمية الصغيرة التي نادرا ما كانت تشهد أي موجة وباء كبيرة (إن كان هناك وباء من الأساس)، غالبا ما كانوا أول من يصابون بالطاعون. على الناحية الأخرى، بدا أن نسبة السكان الذين كانت عائلاتهم تعيش في العاصمة لعدة أجيال، كانوا يتمتعون بشيء من المقاومة للعدوى.
يوضح الفحص الدقيق لسجلات الأبرشية أن أشخاصا كثيرين حتما كانوا في اتصال مباشر بالمصابين داخل المنازل لكنهم لم يصابوا بالطاعون، ويشير هذا إلى أنه في ذلك الوقت كانت نسبة من العائلات، ولا سيما تلك التي كانت تقيم في لندن لوقت طويل، تتمتع بقدرة على مقاومة المرض. واصل صمويل بيبيس أعماله في لندن (وإن كان قد اتخذ بعض الاحتياطات الأولية) ولم يصب بالطاعون أثناء موجة التفشي الكبيرة في عامي 1665-1666. وقد رأينا أن بعض الأشخاص في إيم وبنريث كانوا على اتصال مباشر مع الضحايا لكنهم لم يموتوا.
فكيف كانت آلية العمل في هذه الحالات؟ يمكننا الحصول على بعض الأفكار المتعلقة بالوراثيات الجزيئية لمقاومة الطاعون منذ 600 عام من مصدر مهم ومختلف إلى حد مثير للدهشة اليوم. (1) فيروس نقص المناعة البشرية والإيدز
ليس من بيننا من لم يعرف عن وباء نقص المناعة البشرية، لكن ليس معلوما على نطاق واسع أن نسبة كبيرة من الأشخاص من ذوي الأصول الأوروبية لا يصابون بالمرض، حتى بعد التعرض المستمر له؛ فهم مقاومون لعدوى فيروس نقص المناعة البشرية.
عندما يدخل فيروس نقص المناعة البشرية الأساسي إلى جسم الإنسان، فإنه يستهدف مباشرة خلايا بيضاء بعينها في مجرى الدم ثم يدخل إليها من خلال مركب جزيئي موجود على غشائها الخارجي يطلق عليه باللغة التقنية المتخصصة «مستقبل سي سي آر 5». يعمل هذا المستقبل كممر دخول الفيروس (أو مدخل كيميائي له) إلى خلية الدم، وحالما يصبح الفيروس بداخل الخلية، يمكن أن يظل خاملا لسنوات عديدة قبل أن تظهر أعراض الإيدز أخيرا على الضحية. بيد أنه حالما يكون الفيروس بالداخل فإنه سرعان ما يبدأ في ممارسة أعماله الدنيئة، وسرعان ما تصبح الضحية مسببة للعدوى لسبب غير معروف لأحد. هنا تكمن المشكلة الأساسية في مكافحة انتشار فيروس نقص المناعة البشرية. نعلم أن المرض له فترة حضانة طويلة بنحو استثنائي تقاس بالسنين. يعمل مستقبل سي سي آر 5 أيضا كوسيلة لدخول فيروس الجدري الذي يسبب الورم المخاطي عند الأرانب، ويحتمل أن عوامل أخرى متعددة مسببة للعدوى تستخدم هذا المستقبل نفسه كمدخل سوف تكتشف قريبا. (2) الطفرة دلتا 32
ورث الأوروبيون الذين يتمتعون بمقاومة لعدوى فيروس نقص المناعة البشرية طفرة جينية في مستقبلات سي سي آر 5 الموجودة على خلايا الدم البيضاء لديهم، التي من شأنها الحيلولة دون عمل المستقبلات كممر لدخول الفيروسات. يطلق على هذه الطفرة سي سي آر 5-دلتا 32، والأشخاص الذين ورثوا زوجا من هذه الجينات الطافرة من كلا الأبوين يتمتعون تقريبا بمقاومة كاملة لعدوى فيروس نقص المناعة البشرية ، في حين أن أولئك الذين لديهم نسخة واحدة فحسب من الطفرة يتأخر بدء ظهور أعراض الإيدز عليهم.
مع أن هذه الطفرة تحدث بمعدل كبير في الجماعات العرقية الآسيوية الأوروبية اليوم، فإنها منعدمة بين سكان أفريقيا جنوب الصحراء والهنود الحمر والجماعات العرقية الشرق الآسيوية. وقد يكون هذا هو السبب وراء الانتشار السريع لفيروس نقص المناعة البشرية في أفريقيا جنوب الصحراء، في حين ربما تأخر تقدم حمل الطفرة في أوروبا. (2-1) متى ظهرت هذه الطفرة الواقية؟
متى ولماذا نشأت هذه الطفرة في المقام الأول؟ على أية حال، ظهر فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز لتنغيص عيش الجنس البشري فقط منذ بضعة عقود (وهي مدة زمنية لا تذكر من المنظور التطوري)، وعلى ما يبدو فإن الطفرة لم تكن ذات ميزة انتخابية في سباق التطور البشري المحموم قبل هذا الوقت.
يمكن أن نعبر عن هذا بعبارة أخرى: أي طفرة جديدة تكون عرضة بنسبة كبيرة للتلاشي في غضون بضع عشرات الأجيال لو لم تتمتع بميزة انتخابية واضحة في الأشخاص الذين يملكونها. إن حمل طفرة سي سي آر 5-دلتا 32 هو ميزة واضحة اليوم؛ إذ يمنح الحماية من مرض فيروس نقص المناعة البشرية الفتاك. لكن ترى ماذا كان يحتمل أن تكون فوائد حمل هذه الطفرة قبل ظهور فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز وانتشاره في أنحاء العالم في القرن العشرين؟ من المستبعد جدا أن تكون طفرة مستقبل سي سي آر 5 التي لم تمنح ميزة انتخابية للأفراد التي ظهرت لديهم قد تمكنت من الانتشار عشوائيا بين سكان أوروبا. بلغة مبسطة: إذا لم تقدم طفرة جديدة ميزة في الصراع من أجل البقاء، فإنها ستختفي في نهاية المطاف من الجماعة.
قدر علماء البيولوجيا الجزيئية باستخدام تقنياتهم البالغة التعقيد أن طفرة سي سي آر 5-دلتا 32 ربما ظهرت أول ما ظهرت في أوروبا منذ حوالي 2000 عام. ثمة إجماع عام على أن معدل حدوثها لا بد أن يكون قد ارتفع إلى النسب الحالية التي تشهدها أوروبا التي تبلغ ما بين 5 إلى 20 بالمائة بفعل حدث تاريخي وقع منذ حوالي 700 سنة، الذي يحتمل أن يكون وباء مرض معد استخدم نفس ممر الدخول الموجود على سطح الخلايا البيضاء، على غرار النوع الأول من فيروس نقص المناعة البشرية اليوم.
من الواضح أن الموت الأسود مرشح جيد لمثل هذه الكارثة؛ فالتوقيت مطابق لتوقيت ظهور الطفرة، وثمة طرح واسع النطاق وإجماع عام على أن الأشخاص القليلين الذين حالفهم الحظ في أوروبا إبان زمن الموت الأسود وكانوا يحملون طفرة سي سي آر 5-دلتا 32 قد نجوا بحياتهم وأنجبوا أطفالا حملوا أيضا الجين الطافر. بلغ معدل حدوث طفرة سي سي آر 5-دلتا 32 بين الأوروبيين في ذلك الوقت فردا واحدا في كل 40000 شخص تقريبا. كل أولئك الذين لم يحملوا طفرة سي سي آر 5-دلتا 32 (الأغلبية العظمى) والذين كانوا على اتصال فعلي بأحد المصابين لقوا حتفهم لا محالة. بهذه الطريقة، ارتفعت نسبة السكان الحاملين للطفرة ارتفاعا هائلا. ولعل بعضا ممن كانوا يحملون الطفرة أصيبوا بالطاعون النزفي لكنهم تعافوا، وعاشوا ليقاوموا ليوم آخر، واستمروا في إنجاب أطفال حمل معظمهم طفرة دلتا 32. (2-2) مشكلة هذه الفرضية لنشأة طفرة دلتا 32
ثمة اعتقاد راسخ لدى العلماء الذين اكتشفوا أن طفرة سي سي آر 5-دلتا 32 ظهرت في زمن الموت الأسود تقريبا بأن هذا كان وباء طاعون دبلي. ومن ثم، فلكي يجعلوا قصتهم ملائمة للحقائق، اضطروا إلى افتراض أن بكتيريا اليرسينية الطاعونية تدخل إلى خلايا الدم البيضاء عن طريق مستقبل سي سي آر 5. وقد رأينا نحن بالفعل الأدلة القاطعة التي تفيد بأنه لم يظهر قط وباء طاعون دبلي في أوروبا، لكن ثمة المزيد من الأدلة التي لا يمكن دحضها على أن نظريتهم خاطئة تماما:
لا تخترق بكتيريا مثل اليرسينية الطاعونية الخلية عبر المستقبل سي سي آر 5، ذلك الممر الذي تستخدمه بعض الفيروسات. يشير هذا إلى أن فيروسا وليس بكتيريا هو المسئول عن الطاعون النزفي.
معدل الوفيات الناجمة عن الطاعون الدبلي منخفض دائما؛ ومن ثم فإنه معدل غير كاف لأن يكون ذا تأثير كبير في رفع معدل حدوث أي طفرة وقائية.
لا تحدث طفرة سي سي آر 5-دلتا 32 إلا بين الأفراد من ذوي الأصول الأوروبية، المنطقة الوحيدة التي اجتاحتها الطواعين. على النقيض من ذلك، لا تظهر الطفرة لدى شعوب شرق آسيا، ولا شعوب أفريقيا جنوب الصحراء، ولا لدى الهنود الحمر، وهي المناطق التي كان الطاعون الدبلي متفشيا فيها. وكلها أدلة إضافية - إن كنا بحاجة إلى المزيد من الأدلة - على أن الطاعون الدبلي ليس السبب وراء الموت الأسود. (3) أخيرا: تفسير مقاومة الطاعون
وهكذا ثمة سبب وجيه وراء اقتراح أن وباء الطاعون النزفي الفيروسي إبان الموت الأسود منح فجأة ميزة انتخابية قوية لتلك القلة القليلة المحظوظة من الأفراد الذين كانوا يملكون طفرة سي سي آر 5-دلتا 32، وبذلك رفع من معدل تكرارها بشدة. إلا أن هذا التفسير الشائع مبسط أكثر من اللازم؛ فوباء واحد مثل الموت الأسود لم يكن بمقدوره أن يكون له مثل هذا التأثير واسع النطاق طويل المدى، لكنه أنذر بعصر الطواعين. وفي رأينا فإن كل موجة متعاقبة من موجات التفشي على مدار الثلاثمائة عام التالية زادت على نحو ثابت عدد الأفراد الذين ورثوا طفرة سي سي آر 5-دلتا 32؛ فإن لم يكن المرء حاملا الطفرة، فثمة فرصة كبيرة أن يموت لدى موجة انتشار المرض التالية.
إلا أن هذا لا يزال إفراطا في تبسيط الموقف، فحالات التفشي الوبائي الكبرى للطاعون النزفي كانت قاصرة في الأساس على مجتمعات ينيف حجمها على حد أدنى معين، وكانت هناك مناطق ريفية شاسعة من أوروبا تمارس الاقتصاد الزراعي غير المنظم، التي نادرا ما كان الوباء يضربها، هذا إن ضربها من الأساس. أما ضغوط الانتخاب الطبيعي القوية المستمرة التي تدفع إلى زيادة معدل تكرار حدوث طفرة سي سي آر 5-دلتا 32 فلا تعمل إلا في الحضر، ولا سيما في لندن؛ لأن الطاعون النزفي بات دائم الحضور هناك بعد عام 1580. نتيجة لذلك، فلا بد أن التوزيع الإجمالي لطفرة سي سي آر 5-دلتا 32 في أوروبا لم يكن منتظما خلال القرن السابع عشر؛ إذ لا بد أن معدل الأشخاص الذين تمتعوا بقدرة على مقاومة المرض في الحضر كان يزيد بكثير عن النسبة الحالية التي تصل إلى 20 بالمائة، ويقل عن ذلك هذه النسبة بكثير في المناطق الريفية.
ويعزى المعدل الحالي لتكرار ظهور الجين الطافر في أوروبا إلى نسبة الاختلاط والهجرة الكبيرة على مدار الثلاثمائة والخمسين سنة الأخيرة منذ اختفاء الطاعون؛ عملية مساواة عامة اختفت في خضمها الفروق بين حياة الريف وحياة الحضر.
كما رأينا، كان الطاعون موجودا باستمرار في لندن عبر القرن السابع عشر مع حدوث موجات تفش كبرى على فترات زمنية غير منتظمة، وإن كانت نسب الوفيات منخفضة نسبيا. وعليه فإنه مع معاناة سكان لندن من الهجمات الشرسة للمرض، بالإضافة إلى انخفاض مستوى توطن العدوى، فإن ذلك يرجح أن نسبة كبيرة منهم كانوا يحملون الطفرة على الأغلب وكانوا مقاومين للمرض. انخفضت نسب الوفيات إلى أدنى من 15 بالمائة في ذلك الوقت، وغالبا ما كان أولئك الذين يموتون جراء الإصابة بالطاعون في لندن خلال القرن السابع عشر من النازحين والغلمان والخدم؛ فكل وباء أو مجاعة كانت تجلب معها موجات جديدة من المهاجرين السذج من الريف ممن لم يكن لديهم مقاومة للمرض، وكانوا يشكلون جزءا كبيرا من الموتى خلال موجات تفشي الطاعون. (4) إرث إيم
أتذكر قصة مارجريت بلاكوول - واحدة من أهل قرية إيم - التي نجت من الطاعون على ما يبدو بتناولها دهنا دافئا؟ زارت مجموعة من علماء البيولوجيا الجزيئية قرية إيم عام 2001 وأخذوا عينات من أفواه مائة شخص من أهل القرية «ممن أمكن تتبع أنسابهم إلى أقدم سلف ممكن» ووجدوا أن طفرة سي سي آر 5-دلتا 32 موجودة في 14 بالمائة منهم، وهي على الأرجح نسبة تعلو قليلا عن متوسط المعدل الأوروبي. والأهم من كل هذا أن جون بلانت - التي تعيش اليوم في إيم - هي سليلة مباشرة من فرانسيس أخو مارجريت بلاكوول الناجي من الطاعون، وتحمل طفرة سي سي آر 5-دلتا 32.
وقد فسرنا هذه المعلومات على النحو التالي: كانت مارجريت بلاكوول تحمل طفرة سي سي آر 5-دلتا 32، وقد أصيبت بالمرض إلا أنها لم تمت منه كما رأينا، ولم يصب أخوها فرانسيس بالطاعون على الإطلاق، وكان مقاوما تماما للمرض، وقد ورث نسخا من الطفرة إلى حفيدته جون بلانت.
غير أن قصة إيم الكاملة يشوبها الغموض؛ إذ لم نستطع اقتفاء أثر أي بيانات مسجلة تشير إلى أن الطاعون قد ضرب إيم قبل عام 1665؛ ومن ثم فلا توجد أدلة على حدث أدى إلى زيادة معدل حدوث طفرة سي سي آر 5-دلتا 32 هناك. ونخلص من ذلك إلى أن العائلات في إيم (أو آباءهم) ممن كانوا مقاومين للمرض في زمن الطاعون كانوا قد تعرضوا للطاعون في وقت أسبق وفي مكان آخر ثم انتقلوا للعيش في القرية، ففي عام 1538، كان الطاعون قد اجتاح بعنف قرية ثورب التي تبعد 18 ميلا (29كم) جنوبا وكذلك ضيعة كوربار القريبة قبل 30 عاما من ذاك الوقت، كما اجتاح الطاعون مقاطعة دربي مرارا وتكرارا، بدءا بالموت الأسود الذي صال وجال في أنحاء المقاطعة وسجل انتشاره في قرية كريتش، التي تبعد 17 ميلا (27كم) إلى جنوب إيم. وعلى ما يبدو، كان الأب مومبسون مقاوما للمرض، وقد ذكر أنه قد شهد الطاعون في مرحلة أسبق من حياته في مكان آخر.
هكذا حمل عدد من أولئك الناجين في إيم طفرة سي سي آر 5-دلتا 32؛ ومن ثم كانت نسبة الجماعة السكانية المقاومة للمرض تزداد في الجيل التالي؛ بيد أنهم لم يكونوا يتمتعون بميزة انتخابية لأن المرض اختفى الآن. وقد انتقل الأفراد إلى القرية لملء الفراغ البيولوجي، وعلى مدار الثلاثمائة عام التالية، فإن أعدادا هائلة من كل من الأفراد المقاومين وغير المقاومين للمرض نزحت وهاجرت إلى إيم. ونتج عن كل هذا الامتزاج وجود 14٪ من الأشخاص المقاومين للطاعون في إيم اليوم.
لم يكن أهالي قرية إيم محظوظين؛ ذلك أن الوباء هناك كان تقريبا آخر موجة تفش للطاعون على الإطلاق. لقد نجوا على مدار 300 عام كونهم جمعا قليلا يقطنون منطقة نائية، لينال منهم الطاعون في ضربته الأخيرة. (5) ماذا حدث للطفرة بعد الطواعين؟
ما إن اختفى الطاعون تماما من أوروبا بحلول عام 1670، حتى انتهى على ما يبدو أي نفع يعود على أي شخص من حمل الجين الطافر. وعليه، تغيرت الطفرة على الأرجح من طفرة مفيدة إلى طفرة لا تنفع ولا تضر، وعلى مدار الثلاثمائة عام التالية (وحوالي 12 جيلا)، كان من المتوقع أن تنخفض تكرارية وجودها بين السكان الأوروبيين بالتدريج، وتتأرجح نسبة تكراريتها اليوم ما بين 5 إلى 20 بالمائة، وهي نسبة أقل مما كانت عليه في القرن السابع عشر على الأغلب، إلا إذا كانت طفرة سي سي آر 5-دلتا 32 قد منحت حامليها المحظوظين مزية انتخابية أخرى لا نعرفها ...
في سبتمبر عام 2003، أعلنت أنباء مذهلة ومثيرة. كانت عديد من التقارير السابقة قد طرحت فكرة وجود صلات بين الوقاية من فيروس الجدري والوقاية من فيروس نقص المناعة البشرية؛ فالأفراد الأكبر سنا الذين قد حصلوا على تطعيم ضد الجدري كانوا أقل عرضة للإصابة بفيروس نقص المناعة البشرية. والآن أثبتت التجارب الأولية التي أجريت على خلايا الدم البشرية بجامعة جورج ميسن بولاية فيرجينيا أن التطعيم يحد من قدرة فيروس نقص المناعة البشرية على العدوى أربع مرات في المتوسط، كذلك يستخدم فيروس الورم المخاطي الجديري، وهو ينتمي إلى عائلة فيروس الجدري، مستقبل سي سي آر 5 للدخول إلى خلايا الدم التي يستهدفها.
لدى اختفاء الطاعون، حل محله الجدري باعتباره الابتلاء المرعب، فهل من الممكن أن يكون حمل الأوروبيين طفرة سي سي آر 5-دلتا 32 في القرن الثامن عشر قد وفر لهم أيضا حماية ولو جزئية على الأقل، سواء من عدوى الجدري أو الموت بسببه؟ إن كان الأمر كذلك، إذن لبقيت الطفرة أو حتى زادت بقدر معقول حتى عام 1900 عندما قضي بنجاح على الجدري في أوروبا. مما تقدم، ربما يتوقع من المنظور التاريخي أن تكون الأجناس غير الأوروبية كانت عرضة إلى حد بعيد للإصابة بالجدري، فكل من السكان الأصليين للأمريكتين الشمالية والجنوبية قد ضربهم الجدري بقوة عندما جلبه إليهم الغزاة الأوروبيون.
ومن ثم يدين هؤلاء الأوروبيون الأصليون الذين يتمتعون اليوم بالمقاومة لفيروس نقص المناعة البشرية لحسن حظهم إلى حدث جيني تصادفي في أجدادهم أمدهم بالحماية من الطاعون.
الفصل الخامس عشر
الصورة الكلية
في عالمنا اليوم، عندما يكون هناك شهود عيان على جريمة ويتوافر وصف مناسب للجاني، تتمثل الخطوة التالية في استعراض المشتبه فيهم للتعرف على هوية الجاني، لكن لفعل هذا يجب تحديد المشتبه فيهم أولا.
دون كل العوامل المسببة للعدوى، تعتبر البكتيريا والفيروسات أهم الأنواع التي تلائم أغراضنا. يطلق أحيانا على هذه الكائنات الحية الدقيقة ميكروبات، كما أطلق عليها هيلير بيلوك في كلماته الخالدة:
الميكروب صغير للغاية،
لا يرى بالعين المجردة على الإطلاق.
لكن كثيرين من المتفائلين يأملون
أن يرونه عبر الميكروسكوب. (1) البكتيريا
البكتيريا كائنات وحيدة الخلية يتراوح طولها ما بين نصف مليمتر إلى واحد على عشرة آلاف من المليمتر، فهي أصغر كثيرا من أن ترى بالعين المجردة. عند فحصها تحت الميكروسكوب، يتبين أنها قد تأخذ شكل القضبان أو الحلزونات أو الكرات، ولكن على الرغم من صغر حجمها فإن تركيبها غاية في التعقيد، وهي الأكثر وفرة في أعدادها من بين كل الكائنات الحية، وتلعب كثيرا من الأدوار الجوهرية في الحفاظ على الحياة على الأرض، إلا أن قلة قليلة فحسب من أنواع البكتيريا يمكنها أن تصيب الإنسان وتسبب له أمراضا خطيرة.
تنتقل بعض الأمراض البكتيرية بواسطة الحشرات أو القراد أو القمل، ومن ضمن هذه الأمراض الطاعون الدبلي (الذي ينتقل عن طريق البرغوث) والتيفوس الوبائي الذي كان يوما مرضا فتاكا خطيرا ينتشر في الأماكن المزدحمة التي تعاني سوء الصرف الصحي. وهو ينتقل من إنسان إلى آخر عن طريق القمل، وما لم يعالج بالمضادات الحيوية، فإنه يفضي ب 20 بالمائة من الحالات إلى الموت. أحيانا يحاول المؤرخون (خطأ) تفسير موجات تفشي الطاعون التي لم يكن محتملا أن يكون سببها طاعونا دبليا على أنها نتيجة للتيفوس. (2) الفيروسات
مع أن الفيروسات متباينة الأحجام، إلا أن جميعها أصغر من البكتيريا كثيرا ، ولا يمكن رؤيتها إلا تحت ميكروسكوب إلكتروني. وعلى خلاف البكتيريا، لا تستطيع الفيروسات أن تتكاثر إلا بداخل خلايا حية أخرى، خلايا حيوانات أو نباتات، بل حتى بكتيريا. ونظرا لأنه ليس بمقدور الفيروسات أن تتكاثر بمعزل عن الخلايا الحية الأخرى، فلا يمكن اعتبارها حية بالمعنى الكامل.
إذن، فإن جميع الفيروسات طفيليات تدمر الجماعات البشرية عبر التسبب في أمراض وبائية خطيرة. تبدأ الفيروسات عملها بالدخول بدهاء إلى خلايا بعينها في أجسادنا، وما إن تصبح بالداخل، حتى تواصل عملها في السيطرة على الآلية الجينية للخلية، التي تضطر حينئذ إلى الانصياع لأوامرها. رأينا كيف يدخل فيروس نقص المناعة البشرية إلى خلايا دم بيضاء بعينها عن طريق بوابة المستقبل سي سي آر 5، حيث يشرع في تأدية عمله المخرب.
إن الفيروس المعدي هو ببساطة مجموعة من التعليمات مثل برنامج كمبيوتر. عادة ما تعمل أي خلية في أجسادنا بناء على أوامر مشفرة في الدي إن إيه خاصتها، إلا أن الفيروس الذي يغزو الخلية بمقدوره أن يستحدث مجموعة جديدة من الأوامر؛ مما يترتب عليها توقف الخلية عن عملها الطبيعي، وتركز جهودها في صنع نسخ من البرنامج المستحدث. بهذه الطريقة، يستعبد الفيروس الخلية المضيفة، ويجبرها على أن توفر كافة المواد الخام والطاقة اللازمة للتكاثر. وتتكاثر الفيروسات بمعدلات هائلة؛ إذ يستطيع فيروس واحد من فيروسات البرد الشائعة أن ينتج 16 مليون نسخة من نفسه في اليوم الواحد.
فيما يلي استعراض مصغر «لصور المجرمين» من الأمراض الفيروسية: «فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز»: يدمر فيروس نقص المناعة البشرية وسائل دفاع الجهاز المناعي بالجسم، وفي النهاية تموت الضحية من عدوى أخرى أو من السرطان. وهو ينتقل مباشرة عن طريق سوائل الجسد أو المني. وحتى الآن لا يوجد له علاج. «الإنفلونزا»: ينتقل هذا المرض بالعدوى المباشرة ويتحور بسهولة؛ ففي الماضي كانت بعض السلالات منه مسئولة عن أعداد وفيات كبيرة. غالبا ما ينشأ في الحيوانات، فالمستودعات الرئيسية له هي البط والدجاج والخنازير في آسيا، ولا يوجد علاج له كذلك، إلا أن لقاحاته متوافرة الآن. «الحصبة»: عادة ما ينتشر هذا المرض المعدي للغاية عن طريق العدوى الرذاذية، ويمكن أن يفضي إلى الموت في البلدان النامية التي تعاني من سوء التغذية. لا يوجد علاج له، إلا أن لقاحه متوافر. «شلل الأطفال»: كان شلل الأطفال هو المرض الوبائي الرهيب الذي ضرب البلدان المتقدمة منذ أواخر أربعينيات القرن العشرين حتى مطلع ستينيات القرن نفسه. وهو عدوى فيروسية حادة تصيب الجهاز العصبي المركزي، متبوعة بآثار خطيرة منها الشلل، بل قد تصل إلى الموت أحيانا. لا يوجد علاج له، إلا أن لقاحه متوافر الآن. «الجدري»: فيما مضى كان هذا المرض قاتلا خطيرا للأطفال، إلا أن حملة تطعيم على مستوى العالم تمكنت من القضاء على الفيروس تماما، باستثناء بعض المخزون منه المحفوظ في المعامل. يعتبر الجدري بمنزلة سلاح إرهابي محتمل. وهو يفضي إلى الموت في أغلب الأحيان، ولا علاج له، إلا أن لقاحه متوافر.
لقد مكننا علم الطب من التوصل إلى مكافحة فعالة لكثير من الأمراض المعدية (لكن ليس جميعها، والإيدز دليل على هذا)، فقد صنعت مجموعة شاملة من المضادات الحيوية من شأنها أن تعالج العديد من حالات العدوى البكتيرية، وإن كان ظهور سلالات مقاومة من البكتيريا بات اليوم يسبب مشكلات. بيد أن هناك حقا قلة قليلة من الأدوية الفعالة في علاج الأمراض الفيروسية. ومع ذلك، فإن الوقاية خير من العلاج، وقد غير تصنيع اللقاحات - بدءا من جهود إدوارد جينر في اكتشاف لقاح للجدري في القرن الثامن عشر - من قدرتنا على مجابهة هذه العدوى القاتلة. (3) خطر الحيوانات العائلة المستتر
جميع الحيوانات تعول طفيليات، وقد تطورت هذه الطفيليات بمعية عوائلها من الحيوانات على مدار مئات الآلاف من السنوات، وقد رسخت طريقة تمكنها من التعايش معا، وإن لم يكن تعايشا متناغما كليا، فإنها تتعايش دون أن تسبب كثيرا من الضرر بعضها لبعض. إلا أنه من حين إلى آخر تهرب الفيروسات أو البكتيريا الطفيلية من عوائلها الثديية الطبيعية لتنتقل إلى أنواع أخرى، بما فيها الإنسان. وهكذا تنشأ كثير من الأمراض التي تصيب الإنسان.
لا تنتقل عادة بعض هذه الأمراض - مثل داء لايم (الذي يكون فيه الحيوان العائل غزالا) والطاعون الدبلي (الذي يكون فيه الحيوان العائل حيوانا قارضا) - جراء انتقال العدوى من شخص إلى آخر؛ فانتشارها يعتمد بدرجة كبيرة على الحيوان وليس على الإنسان؛ ومن ثم تكون آليات العدوى أكثر تعقيدا مما لو كانت في الأمراض الفيروسية المعدية «ذات آليات العدوى البسيطة» مثل الحصبة أو الجديري المائي أو الجدري، والطاعون النزفي.
نشأت أمراض فيروسية أخرى - مثل الإيدز والإنفلونزا وإيبولا - في الحيوانات ثم أصابت الإنسان، والأهم من ذلك أنها يمكنها أن «تنتقل مباشرة من إنسان إلى آخر». يطرح هذا مشكلة أكثر جسامة؛ فهي في الغالب تكون مميتة، وحالما ترسخ في الإنسان، يكون انتشارها محكوما بنفس العوامل التي تحكم أي مرض معد آخر ينتقل انتقالا مباشرا، وفي الحال يصبح منشؤها الحيواني في طي النسيان، ويطلق عليها أمراضا فيروسية ناشئة. (4) تضييق دائرة المشتبه فيهم
هل بمقدورنا أن نخلص إلى تخمين مستنير بشأن ما إذا كان الطاعون النزفي بكتيريا أم فيروسا بناء على التحقيقات التي أجريناها؟ تشير خصائص المرض - الملخصة في الفصول السابقة - إلى أن العامل المسبب للمرض كان فيروسا. يدعم هذه الفرضية تلك الملاحظة التي مفادها أنه على ما يبدو كان هناك بين سكان أوروبا في العصور الوسطى انتخاب جيني قوي لصالح طفرة سي سي آر 5-دلتا 32، المعروفة بأنها تقي من فيروس نقص المناعة البشرية.
على ما يبدو أيضا فإن العامل المعدي كان ثابتا إلى حد بعيد؛ إذ يبدو أنه على مدار الثلاثمائة عام التي استشرت خلالها الطواعين - والتي أعقبت سنوات الموت الأسود - لم تتغير خصائص العامل المعدي إلا تغيرا طفيفا للغاية. ربما كانت هناك بعض الطفرات الصغيرة، إلا أن هذه كان لها قليل الأثر على المسار الزمني للمرض، وعلى قدرته على العدوى، وعلى أعراضه، وعلى قدرته على الفتك.
إن معظم التغيرات التي طرأت على نمط المرض منذ القرن الرابع عشر حتى القرن السابع عشر يمكن تفسيرها على أنها تغيرات في السلوك البشري وعلم وراثة الإنسان، وليس على أنها أي تغيرات في الفيروس؛ ومن ثم، فإن الزيادة التدريجية في نسب طفرة سي سي آر 5-دلتا 32 البشرية في أنحاء أوروبا رفعت من نسبة مقاومة الأفراد للمرض؛ ومن ثم غيرت معدل انتشار أوبئة الطاعون ومعدلات الوفيات جراءها.
ينتقل كثير من الأمراض الفيروسية التي تصيب الجهاز التنفسي مباشرة من شخص إلى آخر عن طريق العدوى الرذاذية. ويفسر المراسل الطبي لصحيفة التايمز دكتور توماس ستاتافورد العدوى الرذاذية بأنها مصطلح أقل وطأة يستخدمه الأطباء لوصف انتشار مرض ما عن طريق رذاذ اللعاب والإفرازات الأنفية المحملة بمزيج من الكائنات الحية الدقيقة والفيروسات والبكتيريا، والتي تنتشر مع كل سعلة أو عطسة، فالعطسة يمكن أن تنتج ملايين القطيرات التي يمكنها أن تنتقل لأي مسافة حتى 90 ميلا في الساعة (145كم في الساعة)، بل تنقل القبلات جرعات أكبر منها، أو عندما يعطس شخص مصاب في يده ثم يصافحك ثم تفرك أنت عينيك، فوقتها يمكن أن ينتقل الفيروس إلى أنفك وحلقك عن طريق قناتك الدمعية. نتذكر أنه كان يعتقد أن الطاعون النزفي ينتقل عن طريق العدوى الرذاذية، وكان يعتبر أنه من الآمن أن يبقى المرء على مسافة لا تقل عن (4 أمتار) بينه وبين الشخص المصاب في الأجواء المفتوحة.
يمكننا الآن أن نقارن الطاعون النزفي بمرضين فيروسيين آخرين، هما الإنفلونزا وفيروس نقص المناعة البشرية، اللذان نشآ في مستودعات حيوانية قبل مهاجمة الإنسان. طورت الفيروسات المسئولة عن هذه الأمراض الثلاثة استراتيجيات مختلفة تماما لتعظيم فرصها في البقاء والانتشار. يلخص الجدول أدناه خصائصها الأساسية:
المرض
فترة انتقال العدوى
طريقة انتقال العدوى
القدرة على العدوى
مدة الوباء
الإنفلونزا
يومان
الرذاذ
عالية
3 أسابيع
الطاعون النزفي
4 أسابيع
الرذاذ
متوسطة
9 أشهر
فيروس نقص المناعة البشرية
10 سنوات
سوائل الجسم
منخفضة
غير محدودة
تستمر الإنفلونزا في البقاء لأنها تتمتع بقدرة عالية على العدوى، وتنتقل إلى عدد كبير من الأشخاص الآخرين حتى إبان فترة انتقال العدوى القصيرة. يستمر فيروس نقص المناعة البشرية في الانتشار ببطء نظرا إلى أن فترة انتقال العدوى طويلة جدا؛ مما يعوض قدرته المنخفضة على العدوى والناتجة عن طريقة انتقاله الصعبة.
يقع الطاعون الدبلي في نقطة في المنتصف بينهما؛ ففترة انتقال العدوى الخاصة به كانت طويلة بما يكفي لأن ينتقل المرض عبر مسافات طويلة، وكانت قدرته على العدوى كافية لانطلاق أي وباء بسهولة؛ نظرا لوجود عدد كاف من الأشخاص المعرضين لخطر الإصابة بالمرض والمناخ الدافئ المواتي. (5) ما نوع الفيروس الذي تسبب في الطاعون؟
لدينا الآن فئة عامة يمكننا أن نضع فيها المتهم، لكن هل بمقدورنا أن نقلص هذه الفئة أكثر بإلقاء نظرة على الأعراض التي ظهرت على الضحايا؟
تتفق أوصاف أعراض الطاعون الأحدث في القرن السابع عشر مع الروايات السابقة من الموجة الأولى للوباء. عادة ما كانت الأعراض تظهر على الضحية لمدة حوالي 5 أيام قبيل الموت، مع أنه من قراءة الروايات المعاصرة خلصنا إلى أن هذه الفترة كان يمكن أن تتراوح ما بين يومين واثني عشر يوما. غير أننا عثرنا على تقرير واحد استثنائي عن إحدى الضحايا في لندن استمرت هذه الفترة معها عشرين يوما.
كانت العلامة التشخصية الرئيسية هي ظهور البقع النزفية، حمراء اللون في الغالب، لكن لونها كان يتباين من الأزرق إلى الأرجواني ومن البرتقالي إلى الأسود، وغالبا ما كانت تظهر على الصدر، لكنها كانت ترى أيضا على الحلق والذراعين والساقين، وكانت تنشأ نتيجة حدوث نزف تحت الجلد ناتج بدوره عن تلف الشعيرات الدموية. كانت هذه البقع هي التي يطلق عليها «أمارات الرب»، وقد كتب الصيدلي دكتور هودجز يقول:
كانت العلامة التي يخشاها الناس أكثر ما يخشون هي تلك التي أطلقوا عليها «الأمارات». اعتبرها المتدينون والذين يؤمنون بالخرافات على حد سواء أنها «أمارات الرب»، أما «المنكرون لوجود الله فكانوا خائفين من الأمارات». أطلق عليها البعض «تحذيرات الرب»؛ فقد كانت تقريبا النذر المؤكدة بالموت. بناء على الملاحظة الطبية، فإن قلة قليلة جدا ممن كانت تظهر عليهم هذه العلامات تعافوا. كانت «الأمارات» بقعا فوق الجلد، تنتشر بأعداد كبيرة، وتتنوع في ألوانها وأشكالها وأحجامها. والبعض منها، حين كانت تلتحم معا، تصبح في عرض ظفر إصبع اليد، والبعض الآخر كان صغيرا في حجم رأس الدبوس، إلى أن تتضخم وتنتشر. قد يكون لونها أحمر وتحيط بها هالات تميل إلى الزرقة، وفي أشخاص آخرين، يكون لونها أزرق باهتا وتميل الهالات إلى السواد، فيما كانت بقع أخرى تأخذ درجة اللون البني القاتم. في الغالب تظهر البقع على اللحم البشري حتى عندما لا يكون هناك لون على الجلد من الخارج؛ فلم تكن هناك بقعة من الجسم حصينة ضد هذه البقع المستديرة، وإن كانت الرقبة والصدر والظهر والأفخاذ هي الأماكن الأكثر شيوعا لها. وفي بعض الأحيان، كانت «الأمارات» شديدة الغزارة لدرجة أنها كانت تغطي الجسم بأكمله.
أما دانييل ديفو، فقد كتب يقول:
لم يكن كثير من الأشخاص يدركون أنهم مصابون إلى أن يجدوا الأمارات تظهر عليهم مما كان يثير ذهولهم غير القابل للوصف، وقلما عاشوا بعدها لأكثر من 6 ساعات؛ لأن هذه البقع التي يطلقون عليها الأمارات كانت مصابة بالغنغرينة الشديدة، أو كان اللحم فيها نخرا، تنتظم في عقد صغيرة في عرض البنس الفضي الصغير وصلبة في صلابة الثفنة (بقعة من البشرة يكون الجلد فيها صلبا وسميكا) ... لم يكن هناك شيء يمكن تتبعه سوى الموت المحقق.
في عام 1665 وصف دكتور هودجز أيضا «حالة خادمة لم يكن لديها أدنى فكرة عن أنها مصابة بالطاعون؛ فنبضها سليم وحواسها في أتم عافية، ولم تكن قد اشتكت من أي اضطراب أو ألم، إلا أنه بفحص صدرها، اكتشفت الأمارات هناك، وفي غضون ساعتين أو ثلاث ساعات كانت قد وافتها المنية. في بعض الأحيان كانت الأمارات تظهر أول ما تظهر بعد الموت.» ويذكر أن من أغرب ما رآه على مدار تجربته مع الطاعون، أن أشخاصا كثيرين قد خرجوا من هذيانهم بمجرد ظهور «الأمارات»، ظنا منهم أنهم يتعافون وفي حالة موحية بالأمل. لم يدرك المرضى المساكين أن موتهم محقق.
كانت أيضا الأورام المتنوعة من سمات المرض: تضمنت هذه الخراريج والقروح والدبل التي كانت عبارة عن تورم الغدد الليمفاوية في الرقبة وتحت الإبطين وأعلى الفخذ. في القرن السابع عشر، كانت الحالات التي لم يظهر فيها الدبل تعتبر الأخطر. أورد دكتور هودجز أنه إذا لم ينشق الورم بالشكل الطبيعي، كان الجراح يشقه. «لسوء الحظ كان دبل الطاعون مصحوبا بمثل تلك الآلام الحادة، والإحساس بالتهاب غير محتمل يعادل ذلك الذي يحدث وقت اقتراب حدوث التقيح، حتى إن المرضى كان يجن جنونهم.» وكانت عمليتا الشق (التي تجرى دون تخدير بالطبع) والتضميد في غاية الألم حتى إن المرضى في الغالب كانوا ينهارون عند إجراء الجراحة. كان الدبل إذا أخفق في التورم والانفجار، يكون الأمل في البقاء على قيد الحياة ضعيفا، لكن إذا انفتح، كانت الحمى تقل على ما يظهر. اعتقد بعض الأطباء أن شق الدبل كان من شأنه أن يمنع المرض من المضي قدما في تكوين الأمارات المرعبة.
أجرى جراح - كان يخدم في الموقع العسكري بقرية دونستر بمقاطعة سومرست بجنوب إنجلترا عام 1645 - عمليات فصد دماء لكافة الجنود المرضى لدى ظهور أولى علامات المرض عليهم «حتى أوشكوا على السقوط أرضا»، وقيل إن كافة مرضاه قد تعافوا. من الواضح أن عمليات الفصد هذه كان تجرى عند أول ظهور العلامات، أي بعد حوالي 30 يوما من الإصابة، فهل من الممكن أن تكون هذه الطرق العلاجية - التي تشق فيها العقد الليمفاوية المتورمة أو ربما يتم التخلص عبرها من نسبة كبيرة من خلايا الدم البيضاء المصابة - قد مكنت الجهاز المناعي من قهر العدوى؟
بالإضافة إلى الأورام، كان الضحايا يصابون بالحمى، وارتفاع درجة الحرارة، والقيء المستمر، والإسهال، ونزيف دائم من الأنف. كان الأطباء في ميلانو في القرن الخامس عشر يعتبرون البول المخلوط بالدم، والبقع النزفية، أدلة على الإصابة بالطاعون. أيضا غالبا ما كان يصاحب بدء المرض ظمأ شديد، وكان يصاحبه عند البعض جنون وهذيان شديدان، «حتى إن البعض كانوا يلقون بأنفسهم من النوافذ.»
أكدت شهادة أحد شهود العيان من تشستر عام 1647 هذه الواقعة:
يسيطر الطاعون عليهم على نحو غريب؛ إذ يصيبهم بالاكتئاب من ناحية فيجن جنونهم، فكان بعضهم ينتحرون غرقا، وآخرون يقتلون أنفسهم، كانوا يموتون في غضون ساعات قليلة، وكان بعضهم يهرول جيئة وذهابا في الشارع، متسربلين بقمصانهم مما يثير ذعرا كبيرا بين سكان المدينة.
جاء في واحدة من الروايات المعاصرة التي تصف العذابات التي كان يذوقها ضحايا طاعون عامي 1665-1666 في لندن:
كان القيء يسيل من على جانب الفم، والنزيف مستمر من الأنف، والتقيحات تتقلص وتتحول إلى اللون الأسود على حين غرة ... وكان بعض المصابين يجولون مترنحين كالسكارى، ويخرون ويلقون مصرعهم في الشوارع، فيما كان البعض يجثون بين الحياة والموت في حالة غيبوبة ... وكان بعضهم يتقيأ باستمرار كما لو كانوا قد تجرعوا سما.
شرح دكتور جورج طومسون جثة شاب مات إثر الإصابة بالطاعون:
كان سطح الجلد مشوها بعديد من الندبات الكبيرة كريهة المنظر شديدة التورم والانتفاخ، يبرز على جزء منها عفن مدمى شبيه بالرواسب، وصديد شاحب خال من الدماء. وكانت المعدة تحتوي على مادة سوداء لزجة تشبه الحبر، وكان جزء من الطحال يفرز مادة صديدية. كان الكبد مصفرا والكلى خاوية من الدم، وتوجد علامات كبيرة غامضة على السطح الداخلي للأمعاء والمعدة، والتجويف البريتوني يحوي صديدا سميا أو سائلا خفيفا مائلا إلى الاصفرار أو الاخضرار. وفي البطين الأيمن جلطة عديمة اللون، لكن لم يكن هناك في هذا الجسد الذي نخره الطاعون ما يكفي لملء ملعقة واحدة من هذا السائل الأحمر الذي يطلق عليه «الدم».
أورد دبليو جي بيل في إيجاز أن هذا التشريح قد أظهر أن المرض أحدث تغييرات واسعة التأثير في الأعضاء الداخلية، بالإضافة إلى أنه أصاب الجلد بعدد كبير من البقع الزرقاء أو السوداء التي احتوت على دماء متجلطة. «في الحقيقة ما من عضو لم تمسه هذه التغييرات.»
يؤكد التقريران التاليان لعمليتي تشريح لضحيتين من ضحايا طواعين عامي 1656-1657 في روما ونابولي - على التوالي - التدهور العام للأعضاء الداخلية:
وجد أن الجزء الخارجي من الجسم مغطى بالبثور السوداء ... وغشاء الأمعاء الشحمي (الثرب) متعفن، والأمعاء شديدة السواد، والغشاء البريتوني مصاب بالزراق، والمعدة دقيقة للغاية، والطحال متعفن، والكبد ضعف حجمه لكنه رديء اللون ومهترئ، والمرارة مليئة بالعصارة السوداء ... وغشاءا الجنبة متعفنان، والشغاف متصلب للغاية، وكان المنصف والحاجز السهمي مزرقين، والقلب مزرقا وطرفه المستدق أسود، وكلا البطينين مليئين بدم شديد السواد. والرئتان - المهلهلتا القوام والرديئتا اللون - تغطيهما البثور السوداء.
وقد لوحظ أن جميع الأعضاء - وتحديدا القلب، والرئتين، والكبد، والمعدة، والأمعاء - مغشاة ببقع. هذا علاوة على أن المرارة مليئة بالعصارة السوداء التي كانت شديدة الاكتناز ودهنية ... إلا أن الأوعية الدموية الرئيسية للقلب بالأخص كانت ممتلئة بالدم المتجلط المسود.
لقد كشفنا عن الخاصية الرئيسية للطاعون النزفي: ألا وهي أن الموت كان يسبقه موت شامل لأنسجة الأعضاء الداخلية. كان الأمر يشبه كما لو كانت الأعضاء الداخلية للضحية قد تحللت. كانت ميتة مرعبة بلا شك.
أما أمارات الطاعون الدبلي وأعراضه والتقارير التشريحية لضحاياه، فكانت مختلفة تماما عن خصائص الطاعون النزفي؛ فضحايا الطاعون النزفي لا تظهر عليهم أمارات الرب ولا يعاني المصابون بموت عام لأنسجة الأعضاء الداخلية.
تقدم الرواية التالية تقريرا جيدا عن انتشار الطاعون بين أفراد أسرة واحدة، وتوضح الخصائص الطبية الواردة سابقا:
كنا ثمانية أفراد في العائلة - ثلاثة رجال، وثلاثة غلمان، وعجوزا وخادمة - كلهم جاءوا بعدما تناهى إلى سمعهم أنني مقيم في البلدة، جاء بعضهم ليرافقني، وجاء بعضهم الآخر لمساعدتي [فقد كان رجل دين ذائع الصيت له كثير من الأتباع]. وكان شهر سبتمبر قد أوشك على الانتهاء قبل أن يمس أي منا بسوء ... لكن الطاعون هاجمنا أخيرا ... في البداية أصيبت خادمتنا، بدأ الأمر برجفة ورعشة في جسدها، وسرعان ما نال المرض من معنوياتها ... عدت إلى المنزل والخادمة على فراش الموت، وكانت تصرخ صرخة استغاثة أخرى، حيث كانت وحدها في نوبة تعرق وإغماء. كان اليوم يوم إثنين عندما أصيبت الخادمة، ووافتها المنية يوم الخميس، وكان جسدها ممتلئا بالأمارات. ويوم الجمعة، ظهر ورم لدى أحد الشبان عند أعلى الفخذ، وتوفي يوم الأحد وعليه أمارات المرض. في اليوم نفسه مرض شاب آخر، وتوفي يوم الأربعاء التالي. ليلة الخميس، أصيب سيده بالمرض، وفي غضون يوم أو يومين كانت البقع تغطي جسده، لكن الأمر الغريب أنه تعافى ... وحفظ الباقون من المرض.
يمكننا أن نجزم أن الفيروس المسئول عن الموت الأسود ليس من الفيروسات المعروفة اليوم. في الواقع، من المحتمل أنه لا ينتمي إلى أي من عائلات الفيروسات المعروفة، إلا أن الأعراض أقرب ما تكون إلى أعراض فيروس إيبولا، وفيروس ماربورج، والحميات النزفية الفيروسية. ورغم أن أعراضه بالطبع لم تكن مطابقة لأعراض أي من هذه الأمراض بحذافيرها، فإن هذه الأمراض تبدو - من بين كل الأمراض المعروفة اليوم - الأقرب له.
يطلق على العوامل المسببة لهذه الأمراض الفيروسات الخيطية، وتتسم هذه بارتفاع معدل الإماتة بين الحالات، وهي عادة ما تحدث في حالات انفجار وبائي ناجمة عن العدوى المباشرة من إنسان إلى آخر. لا يمكن التنبؤ بحدوث موجات التفشي الوبائية، ولا يوجد علاج للأمراض التي تسببها، ولا تعرف مستودعاتها الحيوانية بعد. يغطي مصطلح «حمى فيروسية نزفية» العديد من الأمراض المختلفة والمتنوعة التي تتسم بالحدوث المفاجئ، والآلام، ونزيف الأعضاء الداخلية، والحمى، وصدمة، وبقع تنتج عن نزيف تحت الجلد - شبيهة ب «أمارات الرب». تبدأ أعراض الإيبولا بحمى مفاجئة، وتموت الضحية من انحلال الأعضاء الداخلية. (6) خصائص أخرى مميزة للطاعون النزفي (6-1) موسمي
كان المرض يجد صعوبة في البقاء خلال أشهر الشتاء بإنجلترا، ولا سيما إبان العصر الجليدي الصغير. حتى في جنوب فرنسا، كانت شراسة الطاعون تقل بوضوح إبان الأشهر الأكثر برودة. وبحلول القرن السابع عشر، بات معروفا بشكل عام أن قدرة الوباء على العدوى تقل في الطقس البارد. سجل دبليو جي بيل - الذي كتب عام 1924 التاريخ المؤكد لطاعون لندن العظيم - أنه في السادس من فبراير عام 1666:
أقر الجميع أن ذاك اليوم كان من أشد الأيام التي شهدوها في إنجلترا برودة؛ ففي شهرين منفصلين سد الجليد مجرى نهر التيمز مما أسفر عن تعطل حركة المرور النهري، إلا أن الطاعون كان يطل برأسه من حين إلى آخر حتى في وسط الصقيع. هنالك شهادة الدكتور هودجز التي مفادها أن قليلين جدا هم من ماتوا في ذاك الموسم، إلا أنه قام بنفسه في يناير على حالة كانت بقعة الطاعون واضحة عليها، وتماثل المريض للشفاء. أقام جوشيا ويستوود في أثناء موجة الصقيع أيضا على مرضى ميز حالاتهم على أنها طاعون، وقد تماثلوا للشفاء؛ «إذ كان الهواء حينها صديقا للطبيعة وعدوا للطاعون.» تظهر مؤشرات أخرى أن حالات الطاعون كانت شائعة، إلا أن المرض لم يستفحل قط في المناخ البارد، وقد انخفضت حدة الأعراض المميتة التي صارت مألوفة فيما بعد.
أغلب الظن أنه كان من المستحيل تقريبا أن تنتقل العدوى إلى أحدهم في الهواء الطلق في الشتاء البارد، بل انخفض معدل انتقال العدوى بداخل المنازل، مع أن العائلات كانت تحتشد معا في أكواخها الباردة المعرضة للتيارات الهوائية. من الواضح أن هذا الفيروس لم يكن يستمتع بالتعرض للهواء البارد.
كان انتقال العدوى أيسر كثيرا في المناخ الأدفأ، وتعطينا هذه الملحوظة فكرة تقودنا إلى مصدر المرض الذي نناقشه في الفصل التالي. (6-2) انحسار المرض في أوروبا
قبيل عام 1670، لم تلتق المناطق المصابة بالطاعونين النزفي والدبلي إلا في ساحل البحر المتوسط. استوطن الطاعون النزفي أوروبا، بالإضافة إلى بعض موجات الاجتياح العارضة على شمال أفريقيا وشرق المتوسط، فيما أقام الطاعون الدبلي في معقله في آسيا وسواحل شمال أفريقيا إلى جانب بعض موجات التفشي النادرة في إيطاليا وجنوب فرنسا وبرشلونة التي لم تدم.
فلم أقام كل منهما في هذه الأقطار المنفصلة؟ لقد سردنا بالفعل الأسباب التي حالت دون استيطان الطاعون الدبلي أوروبا قط، لكن لماذا اقتصر الطاعون النزفي على أوروبا حيث تنوع الطقس تنوعا كبيرا من جنوب البحر المتوسط حتى الدائرة القطبية الشمالية؟ لماذا لم ينتقل إلى آسيا الوسطى وأفريقيا جنوب الصحراء؟
كانت هناك أسباب متعددة على الأرجح. كانت طرق التجارة الرئيسية في هذه الأماكن - مثل طريق الحرير والطرق التي تقطع الصحراء الكبرى - طرقا شاسعة طويلة للغاية لا تقطعها بلدات كبيرة؛ ومن ثم يرجح احتمال أن يكون المسافرون المصابون هلكوا إبان الرحلة دون أن يطلقوا حالة تفش وبائي. أيضا ساعد غياب التجمعات السكانية بمحاذاة الطريق في الحيلولة دون استيطان الأوبئة، وسرعان ما كانت تخمد أي عدوى تماما.
وكانت التجارة أقل كثافة مقارنة بطرق التجارة الداخلية في أوروبا؛ ومن ثم كان عدد أقل من العوامل التي يحتمل أن تكون مسببة للعدوى يجتاز الطريق من وإلى آسيا، وكان من المستحيل تأسيس نقطة تمركز دائمة. أخيرا، لربما كان المناخ في هذا الطريق شديد الحرارة والجفاف بما لا يسمح للعدوى الرذاذية أن تنجح في الانتشار . (6-3) هل كانت فرنسا وحدها مستودع الطاعون؟
كانت الظروف في فرنسا مواتية بشدة لبقاء الطاعون المستمر بسبب درجات الحرارة الأدفأ، وبالأخص في الشتاء، وقد سهلت الرطوبة المرتفعة نسبيا هناك استمرار العدوى وانتشارها. وكانت المساحة كبيرة بما يكفي لانتشار الطاعون بين البلدات الكبيرة، وقد كانت هناك شبكة اتصالات داخلية جيدة.
وعلى النقيض من ذلك، في المناطق حيث لم تكن موجات تفشي الطاعون منتظمة تنعدم فيها بعض هذه الظروف أو كلها:
كانت إيطاليا بلدا صغيرا للغاية على أن تقوم بدور مستودع فعال؛ فقد كانت فصول الصيف شديدة الحرارة والجفاف، وقد وضعت وفرضت تدابير قوية للحفاظ على الصحة العامة بما في ذلك قواعد الحجر الصحي الصارمة في الموانئ.
في شبه الجزيرة الإيبيرية كانت فصول الصيف شديدة الحرارة والجفاف، وكانت وسائل الاتصال الداخلية محدودة، ولم تكن العدوى تصل إلا عن طريق البحر، وقد شكلت سلسلة جبال البرانس حاجزا منيعا فعالا من جهة الشمال.
كان الطقس في شمال أفريقيا حارا وجافا، والمساحة المأهولة بالسكان صغيرة، وكان السكان متفرقين، ووسائل الاتصال محدودة.
في الإمبراطورية الرومانية المقدسة كانت فصول الشتاء باردة، وكانت إسكندنافيا وأيسلندا شديدتي البرودة على مدار العام.
في إنجلترا، كانت فصول الشتاء باردة أيضا، ولم يكن للعدوى أن تصل إلى هناك إلا عن طريق البحر.
لقد استعنا بكل الأدلة الواردة في الفصول السابقة من أجل الإجابة على السؤال: ما خصائص الفيروس الذي سبب الدمار المترتب على الطواعين؟ إلا أن هذا سيظل أمرا مشوبا بالغموض دائما؛ لأن المرض كما هو واضح لم يعد موجودا، إلا أننا كشفنا بالفعل عن كثير من أسراره. وفي الفصول الثلاثة التالية نتعمق أكثر في الإجابة عن سؤال: من أين جاء الطاعون عندما ظهر في صقلية؟ وكذلك نعقد مقارنة بين الطاعون والأمراض الفيروسية الغامضة الأخرى التي ظهرت فجأة على مدار الثلاثة الآلاف عام الأخيرة.
الفصل السادس عشر
استتار الموت الأسود في مكمنه
ما دام الناس كانوا يعتقدون أن الموت الأسود كان نوبة تفش للطاعون الدبلي، فلا غموض بشأن منشئه إذن؛ فقد افترضوا أنه لا بد أن يكون آتيا من غرب آسيا، بالتأكيد عبر تلك السفن الشهيرة القادمة من القرم كما رأينا في الفصل الأول.
لكن الآن بعد أن صرنا على يقين من أن الموت الأسود كان موجة تفش لمرض فتاك تنتقل عدواه مباشرة من إنسان إلى آخر، فإننا أمام مشكلة جديدة تماما: من أين جاء فعليا هذا المرض المريع؟ لا يمكن أن يظهر مرض فيروسي مكتمل التطور من العدم. إذا كان قد جاء من العالم الغربي المعروف آنذاك، فبكل تأكيد كانت الوفيات المرعبة ستلاحظ وتسجل. (1) منشأ الموت الأسود
دعونا نبدأ بحثنا عن منشأ الموت الأسود بتتبع وصوله إلى جزيرة صقلية. لعلنا نتذكر أن القصة التقليدية تخبرنا كيف أن أطقم البحارة الأصحاء على متن سفن جنوة كانوا قد جلبوا المرض لدى وصولهم إلى مسينة. كان البحارة في البحر لأسابيع عدة وقد رسوا ومعهم شهادة صحية تثبت خلوهم من الأمراض. وعندما نزلوا من متن سفنهم، راح الطاعون يصيب كل شخص يلتقون به على الفور.
تتنافى هذه الرواية تماما مع سلوك أي مرض معد، وإن كان هناك أي شيء من الصحة في هذه القصة، فهو أن السفن لا بد أنها كانت قد وصلت إلى الميناء في مسينة في نفس الوقت الذي كان الوباء في صقلية قد اجتاز بالفعل مرحلته الأولى، وكان على وشك أن يبلغ ذروته. لقد اتحد كل من عنصر الخرافة، والرغبة في العثور على كبش فداء، وغياب المعرفة الطبية، وسرد الروايات المبالغ فيها، معا لتوجيه إصبع الاتهام نحو البحارة الأبرياء. من المؤكد أن الوباء بدأ قبل وصول البحارة بأسابيع في الصيف.
إلا أنه ثمة احتمال كبير أن الموت الأسود قد بدأ في الأساس عن طريق شخص مصاب أو أكثر وصلوا بالمراكب ؛ فأولا وأخيرا فإن مسينة وكاتانيا، وهما ميناءان على الساحل الشرقي لجزيرة صقلية، كانتا نقطتي دخول مهمتين للمراكب التجارية الآتية من شرق البحر المتوسط وساحل شمال أفريقيا.
لكن أين نشأت العدوى؟ ثمة اعتقاد قديم بأن سفن جنوة قدمت من القرم حيث كان أحد أنواع الطاعون منتشرا، فهل بدأ الطاعون النزفي في القرم؟ بحثنا في الأدبيات المكتوبة عن الطاعون في منطقة المتوسط في القرن الرابع عشر، وتوصلنا إلى أنه يوجد مكانان محتملان عام 1347 من الممكن أن يكون الموت الأسود أتى منهما، وهما القرم وبلاد الشام؛ فقد توصلنا إلى الكثير من سجلات أوبئة الطاعون في بلاد الشام الواقعة على الخط الساحلي لشرق المتوسط لما قبل وبعد الموت الأسود. كان المرض قد اجتاح سوريا والعراق فعليا في القرنين الثامن والتاسع، وقد خلصنا إلى أن موجات التفشي ظهرت بشكل متقطع في هذه المنطقة على مدار سنوات كثيرة جدا. على ما يبدو كانت الأراضي المحيطة بمصر وسوريا بؤرة نشطة للطاعون وقادرة على أن تنشر أذنابها لتدمر الحضارات الأوروبية لأكثر من 1000 عام قبل الموت الأسود. إلا أن هذا الاستنتاج الهام يقودنا مباشرة إلى المعضلة التالية: كيف أرسى الطاعون قاعدته في بلاد الشام في المقام الأول؟ لنجيب عن هذا السؤال لا بد أن نرجع إلى الأصول القديمة للإنسان في شرق أفريقيا. (2) إثيوبيا بلد المنشأ
يحتمل أن أسلافنا من فصيلة القردة العليا التي تضم الإنسان الحديث قد ظهروا في شرق أفريقيا الوسطى، وأن مهد تطور الإنسان كان في «الوادي المتصدع الكبير» (أخدود أفريقيا العظيم) الذي يمتد مما يعرف الآن بموزمبيق إلى إثيوبيا شمالا حتى البحر الأسود. وكان قد عثر على بقايا حفرية لقرد منقرض من أشباه البشر يعرف بالأسترالوبيثكس في شرق أفريقيا، وبالأخص في إثيوبيا وكينيا. وأغلب الظن أن جنس الهومو تطور من الأسترالوبيثكس، وعندئذ انتشر الهومو إيريكتوس (الإنسان المنتصب) من أفريقيا تدريجيا، حيث راح يتحرك شمالا على طول «وادي النيل» أو الوادي المتصدع الكبير باتجاه أوروبا وآسيا.
أصول الطاعون النزفي في الوادي المتصدع العظيم. انتقل الطاعون على طول وادي النيل وأرسى قاعدته في بلاد الشام، ومن هناك حقق ثلاث ضربات تاريخية كبرى: طاعونا أثينا وجستينيان والموت الأسود.
تطور نوعنا نحن، الهومو سابيانس، من الهومو إيريكتوس في أفريقيا منذ فترة تتراوح ما بين 100 ألف سنة إلى 200 ألف سنة. وقد قدر له أن يستوطن كل قارات العالم باستثناء أنتاركتيكا، وفي الغالب بدأ بتتبع مجرى النيل شمالا باتجاه مصر وسوريا، ومنهما تفرع شرقا نحو آسيا وغربا نحو أوروبا.
كان هؤلاء الأسلاف الأوائل من الصيادين وجامعي الطعام الذين تحولوا تدريجيا - منذ حوالي 10000 عام - إلى نمط حياة يعتمد على الزراعة على مساحات متباعدة. وقد كانوا يعانون الأمراض المعدية بنحو عشوائي، إلا أنهم كانوا في مأمن من الأوبئة الخطيرة التي لا تستوطن إلا في الأماكن التي تعيش فيها أعداد غفيرة من الأفراد معا.
أرجعت مجموعة من الكتابات التي تعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد الطواعين إلى إثيوبيا. تذكر العديد من المصادر العربية استمرار الطاعون في هذه المنطقة الواقعة في شرق أفريقيا منذ القرن السابع الميلادي، وتشير إلى الكيفية التي انتشرت بها الأوبئة من خلال تجارة القوافل من هناك إلى السودان، ومنها إلى مصر وشمال أفريقيا.
أهي مجرد مصادفة محضة أن البشر وهذه الطواعين نشئوا على ما يبدو في نفس المنطقة من أفريقيا؟ يعتقد دبليو إتش ماكنيل الذي ألف كتاب «الطواعين والناس» عام 1997، أنها ليست مصادفة؛ فهو يشير إلى أن أفريقيا تأوي أكبر عدد من مسببات الأمراض للإنسان؛ وذلك ببساطة لأن هذا هو المكان الذي تطور فيه الإنسان وعاش فيه لأطول فترة من الزمن. (3) نشأة الطاعون النزفي من أفريقيا
إن معظم الأمراض التي ظهرت فجأة في القرن العشرين نشأت في الحيوانات؛ عادة الثدييات أو الطيور. قد نرجح على سبيل التجريب السيناريو التالي: في البدء أصاب الطاعون النزفي رئيسيات أخرى، لكن بنحو غير مدمر، وإلا لماتت كافة عوائله. في الغالب لم تتأثر الرئيسيات من الناحية الظاهرية، ولربما كانت العدوى تنتقل إلى أسلافنا من فصيلة القردة العليا من حين إلى آخر، ولربما قد تسبب في موتهم وربما لم تفعل. في جميع الأحوال، ما كانت العدوى لتنتشر لمسافات بعيدة في هذه المجتمعات البدائية والمتفككة المشتتة من البشر الأوائل، وما كانت بضعة حالات وفاة لتخلف عواقب وخيمة. وكان الفيروس - الذي يتكاثر بثبات وهو في مأمن في مستودعه الحيواني - يظل بعيدا عن أي عوامل مؤثرة على الإطلاق، وكان يستمر في التكاثر بغزارة.
مع تطور البشر، زادت المسافات الفاصلة بينهم وبين العوائل من الحيوانات. وعندما غادرت مجموعات البشر أفريقيا لاستعمار أوروبا وآسيا وأخيرا لتؤسس الحضارات العظيمة والدويلات وما بينها من حركة مرور كثيفة، خلقت الأجواء المثالية لإرساء ونشر أوبئة مدمرة. ومن حسن حظهم أن مصادر الطاعون كانت في تلك الآونة على بعد مئات الأميال، ويفصلها عنهم البحر المتوسط الشاسع.
ومع ذلك، كانت هناك أوقات عديدة عبر التاريخ طال فيها الطاعون النزفي تلك الحضارات؛ إذ يفترض أن أفريقيا أو أكثر قد التقطوا عدوى من حيوان عائل ثم انتقل الفيروس عن طريق مصابين مسافرين عبر وادي النيل؛ فأرسى المرض لنفسه قاعدة في بلاد الشام، وعندئذ صار على بعد رحلة بحرية طويلة فحسب من مراكز الحضارات.
ومن ثم باتت المنطقة المحيطة بشرق المتوسط محورية تلعب دورا محوريا في قصتنا، فلعها كانت لمئات السنين بمنزلة مستنقع للعدوى الآتية من أفريقيا الشرقية أو أفريقيا الوسطى، ونقطة انطلاق لنقل العدوى المستمرة إلى الحضارات الغربية. (4) طاعون أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد
لطالما ناقش كثير من العلماء الوباء المدمر الذي ضرب أثينا عام 430 قبل الميلاد، ومع ذلك يظل الوباء أحد الألغاز الطبية الكبيرة في العصور القديمة.
كانت حضارة أثينا في أوج مجدها حينذاك، إلا أنها كانت تصب جام تركيزها على سلسلة كبيرة من الحروب مع إسبرطة - الحرب البيلوبونيسية - التي كانت صراعا على الأرض وصراعا أيديولوجيا دام ما بين عامي 431 و404 قبل الميلاد. كانت أثينا تنادي بالديمقراطية من جانب، وعلى الجانب الآخر كانت إسبرطة، المعروفة بحكم الأقلية الذي حصر الامتيازات على بضعة أفراد. في عام 443 قبل الميلاد ظهر بريكليس قائدا سياسيا وعسكريا وثقافيا لأثينا، وقد أصبح مهندس استراتيجياتها العسكرية .
ظهرت حالات الطاعون الأولى في بيريوس التي كانت ميناء ومحطة لكثير من المسافرين والتجار الذين جلبوا المرض من الخارج. سرعان ما انتشر المرض إلى علياء المدينة حيث لقيت عائلات بأكملها حتفها، وكان معدل الوفيات بين الأطباء وآخرين ممن كانوا مصاحبين للمرضى مرتفعة بدرجة واضحة .
كان ثوسيديديس كاتبا أثينيا من الطبقة العليا، أصيب بالطاعون وتعافى، ويذيع صيته الآن بسبب الكتاب الذي ألفه، وهو بعنوان: «تاريخ الحرب البيلوبونيسية». خط بعدها رواية شاهد عيان بالغة القيمة عن تلك الأيام المرعبة، وكان غرضه الواضح أن يقدم وصفا دقيقا للمرض حتى يمكن التعرف عليه إذا عاود الظهور مرة أخرى.
يروي ثوسيديديس أن الأفراد كانوا يشكون فجأة من آلام حادة في الرأس وتلتهب أعينهم ثم يبدءون في السعال دما. كان يعقب هذا سعال وعطس وآلام في الصدر، ثم تقلصات في المعدة، وقيء وإسهال شديدان وظمأ لا يروى. كان الجلد يحمر، وتطفح عليه بثور صغيرة وتقيحات مفتوحة، كما كان الضحايا يعانون من حمى شديدة ولم يكونوا يتحملون الغطاء، مؤثرين أن يظلوا عراة. ولما أضناهم الظمأ، انتابتهم رغبة عارمة في الإلقاء بأنفسهم في المياه الباردة، وقفز كثيرون في صهاريج المياه العمومية. معظمهم فقد صوابه، ومات في اليوم السابع أو الثامن من بدء هذه الأعراض. ومن بين الذين تعافوا، فقد كثيرون أطرافهم أو ذاكرتهم أو بصرهم.
كان الأثينيون على دراية تامة بأن المرض معد؛ فقد تحاشى الأصحاء المرضى، ولم يقيموا شعائر الدفن المعهودة للعائلة والأصدقاء، وتركت أجساد الموتى في الشوارع والمعابد.
يشبه وصف ثوسيديديس بشكل ملحوظ روايات شهود عيان الموت الأسود، وهي قطعا ليست أوصاف الطاعون الدبلي، ولا أي مرض آخر من أمراض اليوم. من المحتمل أن هذه كانت موجة تفش مبكرة لشكل من أشكال الطاعون النزفي.
نظرا لأن بريكليس كان يخشى هجمات الإسبرطيين، فإنه أمر الناس في الريف المحيط بأن ينتقلوا إلى داخل جدران المدينة الحصينة. احتشد هؤلاء الناس بداخل مدينة مكتظة بالفعل بعدد كبير من السكان، ولم يكن لهم مكان للعيش. كان الصيف حارا، وكانت المدينة تحت الحصار، وهي ظروف مثالية لانتشار العدوى.
واصل المرض زحفه بمعدل منخفض طوال عام 429 قبل الميلاد - عندما لقي بريكليس حتفه منه - ثم عاد بقوة في صيف عام 428 قبل الميلاد، خلال حصار آخر من الإسبرطيين. خمد المرض منذ شتاء عام 428 قبل الميلاد حتى صيف عام 427 قبل الميلاد، إلا أنه عاود التفشي مرة أخرى وأخيرة في خريف ذلك العام. (5) طاعون جستينيان في القرن السادس الميلادي
وفقا لما جاء عن المؤرخ بروكوبيوس، فقد بدأ طاعون جستينيان بالقرب من إثيوبيا، ثم انتقل إلى جنوب وادي النيل سنة 541 ميلاديا، قاطعا الطريق إلى ميناء الفرما على البحر المتوسط في مصر، ومن هناك اندفع بقوة عبر مصر باتجاه الشمال إلى سوريا وفلسطين. وحينئذ «بدا أنه انتشر في كل أنحاء العالم [المعروف]، وكانت هذه الكارثة هائلة جدا، لدرجة أن الجنس البشري بدا على حافة الاندثار.» اتبع الطاعون في المقام الأول طرق التجارة على الأرجح، التي من الواضح أنها وفرت سبلا «لتبادل العدوى بالإضافة إلى البضائع.»
أضاف بروكوبيوس أن المرض دائما ما كان يبدأ من الساحل ثم كان ينتقل إلى الجزء الداخلي من البلدة، ومن الواضح أنه عادة ما كان يصل على متون المراكب. وقد بدا أنه يتحرك «بترتيب ثابت ويمكث لفترة معينة في كل بلدة»، أي إن الأوبئة، على غرار كافة الأمراض المعدية، اتبعت نمطا ومسارا زمنيا مميزين.
عندما وصل الطاعون إلى القسطنطينية عام 542 ميلاديا، وضع نهاية كارثية لحلم الإمبراطور البيزنطي جستينيان بإعادة تأسيس الإمبراطورية الرومانية. استمر الوباء في حالة الذروة لحوالي 4 أشهر وارتفع معدل الوفيات من 5000 فرد في اليوم إلى 10000 فرد في اليوم، وقيل إن 300000 شخص قد توفوا في القسطنطينية في السنة الأولى وحدها، مع أنه ربما تكون هناك مبالغة في هذه الأرقام. أنهكت مهمة التخلص من الجثث المسئولين؛ فقد حفروا الخنادق، لكنها سرعان ما امتلأت بالجثث عن آخرها وفاضت، وانتشرت رائحة نتنة كريهة في أجواء المدينة.
ثم نشرت السفن التجارية والقوات المحاربة الطاعون إلى أنحاء العالم الغربي المعروف، وقد تفشى مرارا وتكرارا على مدار الخمسين سنة التالية مما أسفر عن معدلات وفيات هائلة. يروي بروكوبيوس أن الناس كانوا مرعوبين؛ إذ كانوا يفطنون إلى أن الطاعون سوف يصيبهم دون سابق إنذار. كان أول عرض يظهر على الضحايا هو الحمى الخفيفة، إلا أنه كان يتبعها الأورام الدبلية في خلال الأيام القلائل التالية. عقب ظهور الأورام، كان معظم المصابين إما يدخلون في غيبوبة عميقة أو في حالة هذيان عنيفة كانت تصل في بعض الأحيان إلى ذهان جنون الاضطهاد والإقدام على الانتحار. عندما كان الأطباء يفتحون الأورام، كانوا يجدون خراجا بداخلها. كانت البثور السوداء - التي لا يزيد حجم كل منها عن حبة العدس - تنتشر في أجساد بعض الضحايا الذين كانوا يموتون دائما في خلال 24 ساعة. وكان يغلبهم الظمأ، وكان كثيرون يلقون بأنفسهم في البحر. وكان معظم الضحايا يتقيئون دما ويموتون في غضون بضعة أيام من ظهور الأعراض. كانت البثور السوداء تعتبر علامة أكيدة على الموت الوشيك، لكن بخلاف هذا لم يستطع الأطباء التنبؤ بسهولة بمسار المرض، أو نجاح وسائل العلاج المختلفة التي كانوا يحاولون تطبيقها. وعلى ما يبدو لم تتوف جميع الضحايا.
من الظاهر أن الاحتكاك بالأفراد الذين كانت تظهر عليهم الأعراض لم يكن يشكل خطرا. يتفق هذا مع النتيجة التي توصلنا إليها بشأن الطاعون النزفي التي تفيد أن احتمالات انتقال العدوى ترتفع خلال بداية الفترة المعدية وليس أثناء الأيام الأخيرة بعد ظهور الأعراض الأولى.
على خلاف طاعون أثينا، استمر طاعون جستينيان لسنوات عدة، مع تفشي الأوبئة مرارا وتكرارا. ومن المثير أنه كان يعاود الظهور في دورات تراوحت مدة كل منها من 9 سنوات إلى 12 سنة، وبلغ الانخفاض في معدل سكان منطقة المتوسط في الفترة ما بين عامي 541 ميلادية و700 ميلادية حوالي 50 بالمائة تقريبا من السكان. ذكر أحد المؤرخين في كتاباته عن نوبة تفش ثانية عام 558 ميلادية أن الوباء لم يتراجع قط بعد نوبة الوباء الأولى، كل ما هنالك أنه تحرك من مكان إلى آخر، وهي قصة شبيهة بقصة الطاعون النزفي في فرنسا. وهكذا فمن الممكن أن المرض كان يتنقل من مكان إلى آخر بواسطة السفن التجارية البطيئة التي كانت سائدة في ذلك الحين طول فترة الحضانة. ومجددا، بالتأكيد لم يكن ذلك طاعونا دبليا.
ثمة أوجه تشابه مذهلة بين هذا الطاعون وطاعون أثينا - الذي وقع قبله بألف عام تقريبا - والطاعون النزفي، وهي النشأة المفترضة في إثيوبيا، وأورام العقد الليمفاوية، والهذيان، والحمى، والبثور السوداء، وانتقال العدوى من شخص إلى آخر، وقصر فترة ظهور الأعراض قبيل الموت، والعطش الشديد. يشير كل شيء إلى أن هذه كانت موجات تفش مبكرة للطاعون النزفي. (6) قاعدة الطاعون النزفي في بلاد الشام
كان الطاعون معروفا لدى شعوب الشرق الأوسط قبل الموت الأسود بوقت طويل؛ ومن ثم أدرك الناس المرض لدى معاودته الظهور في منتصف القرن الرابع عشر. كان طاعون جستينيان إحدى الضربات المبكرة. بإمكان المسلمين تذكر التاريخ المرعب للمرض من فتوحاتهم للشرق الأوسط في القرن السابع. تذكر السجلات التاريخية أنه حدثت خمس فاشيات كبرى في التاريخ الإسلامي، وبدأت الضربة الأولى عام 627 ميلاديا. وقضى نحو 25000 جندي مسلم نحبهم عام 638 ميلادية في الوباء الثاني الذي كان منتشرا في سوريا وممتدا حتى العراق ومصر. أطلق على ضربة الطاعون التالية الطاعون العنيف لأنها اجتاحت البصرة «كالطوفان» عام 688 ميلادية، وضرب الطاعون الرابع الكبير هذه المدينة مرة أخرى عام 706 ميلاديا. عانت العراق وسوريا من «طاعون النخبة» عام 716 ميلاديا. وكانت سوريا تتعرض لموجات تفش أخرى كل عشر سنوات تقريبا في الفترة ما بين عامي 688 و744 ميلاديا.
عندما اجتاحت الأوبئة الإمبراطورية الإسلامية الأولى، استجاب المسلمون للخطر، فسعوا إلى تفسير هذه الأوبئة ومعالجة الضحايا. كان للأوبئة دلالات دينية خاصة بسبب تنبؤ النبي محمد بها، حتى إنها حددت التوجهات الثقافية للمجتمع الإسلامي التقليدي. تكشف السجلات التاريخية لهذه الجائحات أنها كانت مشابهة للموت الأسود (الذي تفشى بعدها ب 600 عام) من حيث انتقال عدواها ومن حيث العواقب الاجتماعية والاقتصادية ومعاودة الظهور الدورية.
من الواضح أن الطاعون النزفي كان موجودا ونشطا ويقوم بعمله على أكمل وجه في معقله ببلاد الشام والشرق الأوسط لمئات السنين قبل الموت الأسود. وكما هو الحال دائما، كان ينتقل عن طريق التجارة. (7) الطاعون الأصفر الغامض
ضرب وباء فتاك يعرف باسم «الطاعون الأصفر» أوروبا في القرن السادس الميلادي، ثم عاود الظهور في القرن السابع واستمر لسنوات عديدة. وقد استشرى في جنوب إنجلترا عام 664 ميلاديا، وقد انتقل منه في آخر المطاف إلى نورثمبريا وأيرلندا. جدير بالذكر أن هذا الطاعون كان ينشط أثناء أشهر الصيف. ثمة أيضا روايات معاصرة عنه في إيطاليا وفرنسا وإسبانيا. لا يوجد كثير من الحقائق عن هذا الطاعون، لكنه حتما استمر لوقت طويل (ربما ل 600 عام)، مع أنه يبدو أن الأوبئة في إنجلترا كانت تحدث على فترات متقطعة. ولعل هذا المرض كان مستوطنا في جنوب أوروبا القارية، وفقط كان يعبر القنال الإنجليزي من حين إلى آخر كي يبدأ موجات التفشي في الصيف في إنجلترا.
هل كان طاعونا أثينا وجستينيان، وطواعين الإمبراطورية الإسلامية الأولى، وأشكال الطاعون الأصفر، من الطواعين النزفية؟ إذا كان الأمر كذلك فهل تسببت تلك الطواعين (وبالأخص الطاعون الأصفر) في زيادة تكرارية حدوث طفرة سي سي آر 5-دلتا 32 بالتدريج لتصل إلى نسبتها التي تبلغ فردا واحدا في كل 40000 فرد قبل ظهور الموت الأسود؟ يبدو هذا في نظرنا سيناريو محتملا. (8) ثوران الطاعون النزفي في القرم
لم يتوقف الطاعون عند بلاد الشام كما رأينا؛ فقد كان يزحف باستمرار شمالا إلى أنطاكية، ومن هناك يواصل المسير عبر تركيا وآسيا الصغرى وأوكرانيا، ويضرب الإمبراطورية الإسلامية بانتظام.
في عام 1266، شيد أهل جنوة مدينة كافا (يطلق عليها الآن فيودوسيا) في القرم وأصبحت الميناء الرئيسي لسفنهم التجارية العظيمة. وأسست صناعة ملاحة ساحلية إلى بلدة تانا (يطلق عليها الآن آزوف في روسيا) على نهر الدون، واستمرت التجارة عبر هذا الطريق المائي إلى وسط روسيا، ومن هناك إلى مدينتي سراي من خلال طرق القوافل.
بحلول أربعينيات القرن الرابع عشر (قبل الموت الأسود مباشرة) كانت كافا مدينة مزدهرة، ومحصنة بشدة داخل جدارين متحدي المركز: الجدار الداخلي يسور 6 آلاف منزل والجدار الخارجي يسور 11 ألف منزل. اشتمل السكان، الذين كانوا مزيجا من مختلف الأمم، على أفراد من جنوة والبندقية ويونانيين وأرمن ويهود ومغول وأتراك.
حاصر المغول كافا وتانا عام 1343. وفر التجار الإيطاليون الموجودون في تانا إلى كافا حيث دام الحصار حتى شهر فبراير عام 1344، وذلك عندما قتلت إحدى قوات الإغاثة الإيطالية 15 ألف شخص من القوات المغولية ودمرت آلات الحصار. جدد المغول حصار كافا عام 1345، إلا أنهم اضطروا بعد عام إلى رفع الحصار لأن وباء فتاكا دمر قواتهم.
انتقالات الطاعون النزفي في أنحاء بلاد الشام والقرم قبل وأثناء الموت الأسود.
أتينا بالفعل في الفصل الأول على ذكر كاتب العدل جابرييل دي موسي أحد أهالي مدينة بياتشنزا. كتب جابرييل أيضا عن أحداث القرم، مع أنه في الغالب لم يكن شاهد عيان. وقد وصف كيف أنه في عام 1346 في بلاد المشرق، أصاب مرض غامض يسبب الموت المفاجئ أعدادا لا حصر لها من التتار والمسلمين، وكان التتار قد حاصروا كافا لمدة تقارب الثلاث السنوات، إلا أن مرضا ما أصاب هذا الجيش «وراح يقتل الآلاف والآلاف كل يوم.» وبالتأكيد هذه مبالغة؛ فقد كان الجنود يموتون حالما تظهر أعراض المرض على أجسادهم: من أورام في منطقة تحت الإبط أو أعلى الفخذ، متبوعة بحمى العفن (اسم قديم لحمى التيفوس).
وضع التتار جثث رفقائهم في المجانيق وقذفوها بداخل جدران كافا؛ على أمل أن تقتل الرائحة النتنة التي لا تطاق الجميع هناك، فما كان من المسيحيين بداخل المدينة المحاصرة إلا أن ألقوا أكبر عدد ممكن من الجثث في البحر، إلا أن الجثث النتنة سرعان ما لوثت الهواء وسممت موارد المياه.
أغلب الظن أن هذا الشكل البدائي للحروب البيولوجية الذي شنه التتار لم يسهم في نشر الوباء، إلا أنه سرعان ما سقط كل شخص في المنطقة تقريبا ضحية للمرض الغامض. «يكفي أن ينظر المصاب إلى الأماكن والأشخاص فحسب حتى يصيبهم بالمرض وينقل السم إليهم.» لقد سمعنا بمثل هذه النوعية من التعليقات قبلا.
هرب بعض البحارة الذين أصيبوا بالمرض من كافا بالمراكب، البعض اتجه إلى جنوة، فيما اتجه آخرون إلى البندقية. لدى وصول البحارة إلى هناك، «تسممت كل الأماكن بالطاعون المعدي ومات قاطنوها على حين غرة.» وعندما كان يصاب فرد واحد بالمرض كان يسمم عائلته بأكملها «حتى وهو يموت.» من المفترض أن هذه قصة أخرى لوصول الموت الأسود إلى شمال إيطاليا عام 1348. (9) هل جاء الموت الأسود من القرم؟
يتضح أيما وضوح من الوصف الذي قدمه جابرييل دي موسي أن هذا الوباء الغامض الذي ضرب المنطقة المحيطة بالقرم لم يكن موجة تفش للطاعون الدبلي، فهل كان طاعونا نزفيا؟ إن أخذ المغالاة المعتادة والتقارير الوصفية بعين الاعتبار، على الرغم من ندرتها، يشير بقوة إلى أنه كان طاعونا نزفيا، ويربط دي موسي بوضوح بين الوباء وظهور الموت الأسود في شمال إيطاليا.
إذن هل جاء الموت الأسود من كافا مباشرة في أعقاب إنشاء شبكة الطرق التجارية القوية؟ إن وجه الاعتراض الأول هو طول الرحلة. قام جراهام تويج بدراسة خاصة لحركة الملاحة في هذا الوقت، وخلص إلى أن السفن ما كان بمقدورها أن تتمم الرحلة من القرم إلى جنوة عبر صقلية في أقل من أربع أو خمس أسابيع، وربما استغرقت ثلاثة أشهر. نرى أن هذه مدة طويلة للغاية حتى بالنسبة لمرض معد تستغرق فترة حضانته 32 يوما.
إنما يزيد احتمال أن الوباء في كافا عام 1346 قد انتشر عبر البحر الأسود ووصل إلى القسطنطينية بعدها بعام في ربيع عام 1347. وعندئذ تكون الرحلة أقصر فيستطيع أن يقفز إلى صقلية، جالبا الموت الأسود إلى مسينة بعدها بستة أشهر في أكتوبر عام 1347، مع أنه ربما يكون قد انتقل عبر اليونان. هذا السيناريو أكثر إقناعا فيما يتعلق بتوقيت الأحداث.
بالتالي نستطيع أن نحبك ترتيب الأحداث إبان وباء جنوبي غرب آسيا المريع. على ما يبدو بدأ هذا الوباء بالقرب من بحر قزوين في مدينة أستراخان وسراي عام 1345، أي قبل ظهور الموت الأسود بعامين. انتقل الوباء إلى تانا في ربيع 1346، وسرعان ما انتقل إلى كافا. كانت هاتان المدينتان تخضعان لحصار التتار الذين سرعان ما تساقطوا قتلى جراء الإصابة بالمرض الذي انتشر انتشار النار في الهشيم بين قواتهم. لقيت أعداد كبيرة حتفها لدرجة أن التتار فكوا الحصار في آخر المطاف، وفي الغالب عززت حركة اللاجئين والقوات انتشار الوباء في أنحاء المنطقة.
على مدار العام التالي، انتقل هذا المرض الفتاك عبر البحر الأسود إلى القسطنطينية في الربيع وإلى طرابزون في خريف عام 1347. في الوقت نفسه انتقل باتجاه الجنوب من أستراخان إلى تبريز في إيران الحالية، حيث وصل هناك في شتاء 1346-1647، ثم واصل مسيره من هناك حيث ظهر في بغداد على نهر دجلة في وقت غير محدد من عام 1347. من الواضح أن هذا المرض استطاع أن يقطع مسافات كبيرة على طول الطرق التجارية، ومرة أخرى أؤكد أنه قطعا لم يكن طاعونا دبليا.
لربما تمكن الموت الأسود من الوصول إلى مسينة عن طريق السفن التجارية القادمة من القسطنطينية، ربما عن طريق اليونان. إلا أن بعض الروايات تحدثت عن وجوده في ميناء الإسكندرية أيضا في سبتمبر عام 1347، أي قبل وصوله إلى صقلية بحوالي شهر.
لا زال لدينا أسئلة لا يمكن الإجابة عنها، فهل جاء الموت الأسود إلى صقلية من القسطنطينية أم من الإسكندرية؟ وهل موجة التفشي في الإسكندرية كان منشؤها القسطنطينية أيضا؟ يستحيل أن نبت في هذا الأمر، لكن الوباء في مصر لم يقف بلا حراك؛ فقد اتبع مساراته المعتادة عبر الطرق التجارية، ووصل عام 1348 إلى دمشق شمالا، وإلى مكة في شبه الجزيرة العربية جنوبا. كان الطاعون يغطي مساحات شاسعة في أوراسيا خلال فترة الثلاث السنوات من عام 1345 إلى 1348، وبحلول عام 1350 كان قد وصل إلى الدائرة القطبية الشمالية.
بعد عام 1348، يبدو أن المرض قد اندثر من جنوب غرب آسيا إلى الأبد؛ فقد تكسرت سلاسل انتقال العدوى - ربما أثناء الشتاء - وتوقفت الأوبئة ولم تظهر مرة أخرى. (10) ما بعد الموت الأسود
تشير الدلائل إلى أنه بعد الموت الأسود استمر الطاعون النزفي في بلاد الشام، بنسبة متغيرة ولكنها منخفضة بصفة عامة. في مصر وحدها كان يبلغ عن ظهور الطواعين كل خمس سنوات على مدار 150 عاما بعد الموت الأسود.
بالطبع بلغت كثير من موجات تفشي الطاعون النزفي إيطاليا عبر الموانئ، وكما رأينا كانت السلطات الصحية الحذرة للدويلات الشمالية تأخذ حذرها من المراكب الآتية من الشام، ومن الواضح أنهم أدركوا خطر طاعون نزفي قوي قادم من هذه المنطقة.
ربما يستمر الوباء الواحد في المناخ الدافئ هناك لمدة حوالي ثلاث أو أربع سنوات، إلا أن القطاع الساحلي لكل من سوريا ولبنان وإسرائيل ومصر صغير نسبيا؛ لذا كان الوباء يندثر في النهاية. ومن ثم، لو كانت هذه المنطقة اعتبرت خطرا دائما، فإن ذلك يرجع في الغالب إلى الأوبئة المتكررة المتقطعة هناك، التي كان كل منها يبدأ من جديد عن طريق وصول مصاب من وادي النيل.
إلا أن طول نهر النيل يبلغ حوالي 1500 ميل (2400كم)، وعليه، فلم يكن انتقال المرض ممكنا - على الأرجح - خلال فترة حضانة مصاب واحد للمرض، حتى لو كان مسافرا بالقارب في اتجاه مجرى النهر، إنما بالأحرى كانت هناك سلاسل لانتقال العدوى والأوبئة التي كانت تتحرك باستمرار على طول الوادي جيئة وذهابا عبر المراكب أو القوافل.
الفصل السابع عشر
لماذا اختفى الطاعون النزفي فجأة؟
كان الطاعون في إنجلترا وفي أوروبا القارية الشمالية يجتاز فصل الشتاء بصعوبة، وكما برهنا، كان استمراره على مدار القرون معتمدا بالكامل على الوصول المتكرر للمصابين من فرنسا. اختفى الطاعون من اسكتلندا عام 1649، وسرعان ما اندثر من إنجلترا بعد عام 1666 لأنه لم يستطع أن يجتاز أشهر الشتاء، ولم يكن هناك المزيد من المصابين الذين يفدون من أوروبا القارية لأنه اختفى من هناك. إذن فالسؤال المهم الآن هو: لماذا اختفى الطاعون أخيرا من معقله في فرنسا؟
في الغالب لا يوجد جواب وحيد لهذا السؤال، إنما بالأحرى لا بد أن مجموعة من العوامل - بعضها أهم من بعض - اتحدت معا للقضاء على المرض من مستودعه في فرنسا. من بعدها لم يكن هناك أمل للطاعون أن يعيش طويلا، كانت المسألة مسألة وقت ليس أكثر. (1) العصر الجليدي الصغير
صار المناخ العالمي باردا بدرجة كبيرة في القرنين السادس عشر والسابع عشر، واتسمت بداية العصر الجليدي الصغير بانخفاض نشاط البقع الشمسية، وزحف الكتل الجليدية، وانخفاض درجات الحرارة. ولم تبدأ فترة البرودة الأساسية حتى عام 1560، إلا أنه حتى في وقت سابق نحو عام 1506، قاسى جنوب فرنسا من شتاء قارس وتجمد البحر المتوسط عند مارسيليا.
في أوروبا، كان شهر مارس هو الذي يعكس التغير المناخي دائما تقريبا. صار هذا الشهر باردا شتويا مع سقوط الأمطار الخفيفة، وغالبا كان يسود الطقس في هذا الوقت من السنة مرتفعات جوية حاجزة ورياح شمالية. علاوة على أنه كانت تعقبه أشهر ربيع باردة وجافة، وكان شهر يونيو باردا ورطبا.
من ثم ربما كان استمرار المناخ البارد خلال الربيع وأوائل الصيف هو العامل المهم الذي كبح قدرة الطاعون على إعادة توطين نفسه بعد الشتاء؛ ومن ثم إخماد كثير من الأوبئة الوشيكة.
كانت هذه الظروف المناخية الأشد برودة ستسهم في اختفائه من إنجلترا، لكن الأمر الأهم من أجل خدمة أهدافنا هنا هو أن هذه الظروف ربما حدت أيضا من انتشار الطاعون وساهمت في زواله من جنوب فرنسا.
إلا أن ثلاثينيات القرن السابع عشر شذت عن النمط المناخي العام للعصر الجليدي الصغير؛ لأن الطقس كان دافئا نسبيا إبان هذا العقد. كان هذا هو الوقت الذي كان فيه الطاعون في أوروبا القارية في أسوأ حالاته - إذ انتشرت الأوبئة على نطاق واسع في فرنسا وألمانيا - في حين كانت أربعينيات نفس القرن هي الأكثر برودة على الإطلاق من بين كل عقود عصر الطواعين، وكان هذا هو الوقت الذي بات فيه المرض أقل حدة بكثير، فلم يكن هناك سوى بضعة موجات تفش محدودة فحسب في القارة. (2) تدابير الصحة العامة
صارت السلطات الصحية في أنحاء أوروبا أكثر كفاءة بالتدريج في رصد المرض ومنع الأوبئة من الظهور والانتشار. بحلول القرن السابع عشر، سرعان ما كان يجري التعرف على حالات الطاعون - حتى في الأقاليم - وتقديم التدابير المناسبة لها، التي شملت العزل في مستشفى مخصص لمرضى الوباء، والتطويق، والحجر الصحي.
أنشئت خدمة استعلامات منتظمة غير رسمية بين البلدات، وكانت المراكب الداخلة إلى الموانئ، وكذلك الغرباء الذين يصلون يشكلون مثارا لشك عارم إذا كانوا وافدين من مكان كان معروفا بانتشار العدوى فيه. وفي فرنسا كان يشترط أن يقدم المسافرون شهادات صحية تثبت خلوهم من الأمراض قبل دخولهم المدن.
لم تنجح هذه التدابير كثيرا في احتواء الأوبئة، مع أنها قللت من معدل الوفيات على الأرجح. ومع ذلك فلعلها ساعدت بعد عام 1646 - عندما كان المرض ينحسر بالفعل في فرنسا - في تحجيم انتشاره إلى حد بعيد ومن ثم عجلت من اندثاره. (3) اختفاء الطاعون من بلاد الشام
إذا كانت هناك نقطة تمركز للطاعون في منطقة شرق المتوسط، فلعلها اندثرت بسبب انعدام وفود المسافرين المصابين عبر وادي النيل الذين كانوا يجددون الطاعون ويعززونه. في ذلك الوقت، انعدمت الفرص لاستحضار المرض من جديد إلى جنوب فرنسا لتعزيز الأوبئة هناك. (4) تحسن التغذية
ربما أدى التحسن العمومي في التغذية - بالأخص في جنوب فرنسا - إلى زيادة قوة الجماعات السكانية وتحسين صحتهم وتعزيز أجهزتهم المناعية لتصبح قادرة على مقاومة المرض. يضاهي هذا تقليل خطورة السعال الديكي في إنجلترا في القرن التاسع عشر، الذي ارتبط بوضوح بتحسن النظام الغذائي.
في فترة عامي 1628-1629، عمت مجاعة شمال إيطاليا؛ إذ ارتفعت أسعار الحبوب بشدة، وأعقب ذلك أكبر موجة تفش للطاعون على الإطلاق في أوروبا القارية. بعد عام 1662، انخفضت أسعار الحبوب في فرنسا؛ مما أدى إلى تحسن تغذية الغالبية العظمى من السكان. (5) تطور مقاومة المرض
كان هذا أهم عامل أدى إلى اختفاء الطاعون؛ فبحلول القرن السابع عشر، صار بعض سكان أوروبا المحظوظين إما مقاومين تماما وإما جزئيا للفيروس لأنه كان لديهم - كما رأينا - طفرة سي سي آر5-دلتا 32. كانت هذه النسبة من الأشخاص المحميين تزيد بمعدل ثابت على مر السنين، وبالأخص في البلدات المهمة التي تقع على الطرق التجارية في فرنسا؛ فترتب على ذلك انخفاض عدد وكثافة الأشخاص الذين كان لديهم قابلية للإصابة بالمرض في هذه الأماكن الحيوية.
كي يتمكن وباء كبير من البقاء، فلا بد من توافر كثافة سكانية كافية من الأشخاص الذين لديهم قابلية للإصابة بالمرض. ومع ارتفاع أعداد الأفراد المقاومين، راحت الأوبئة في البلدات الكبرى في فرنسا تواجه صعوبة متزايدة في الانطلاق وإنتاج موارد من المسافرين لنقل العدوى إلى أماكن أخرى، وهكذا فقد الطاعون نقطة انطلاقه في فرنسا. كانت هذه بداية النهاية المفاجئة للطاعون النزفي. (6) نهاية عصر
لربما تضافرت هذه الزيادة المستمرة في نسب المقاومة في المدن الفرنسية مع العوامل الأخرى المدرجة سابقا. وعلى ما يبدو فإنها أدت معا في نهاية المطاف إلى اختفاء مفاجئ للفيروس. وكان يتعين أن تنكسر سلسلة العدوى نهائيا في غضون عام كي يختفي الفيروس. بعدها لا يمكن للأوبئة أن تظهر إلا في أعقاب وصول جديد للمرض من خارج أوروبا.
الفصل الثامن عشر
مخاطر الأمراض الناشئة
لطالما استخدمنا باستمرار في كل أجزاء هذا الكتاب لفظة «الطاعون»، مع أنها في الواقع ليس لها تعريف محدد. وقد تم استخدامها للإشارة إلى مجموعة كبيرة من الأحداث الكريهة بدءا من استخدامها لوصف ضربة الجراد «طاعون الجراد» في العهد القديم ووصولا إلى جائحة الإنفلونزا التي حدثت بين عامي 1917-1919. تشكل اللفظة جزءا من الأسماء الشائعة لبعض الأمراض (مثل «الطاعون الدبلي») كما تستخدم أيضا للإشارة بشكل محدد إلى تسلسل من الأوبئة في أوروبا في أعقاب الموت الأسود.
إلا أنه ثمة فئة مثيرة ومهمة من الأمراض التي تتوافق إلى حد ما مع فكرتنا البديهية عن الطاعون، ألا وهي الأمراض الناشئة التي عرضنا لها في الفصل الخامس عشر.
بمجرد قبولنا أن الموت الأسود لم يكن ناتجا عن الطاعون الدبلي، يصبح جليا أنه لم يكن ناتجا عن عامل معد معروف، وأنه لم يكن سوى مرض واحد ضمن سلسلة طويلة من الأمراض الناشئة - مع أنه بالطبع أكثرها بشاعة - التي أصابت البشرية منذ فجر الحضارة. تظهر هذه الأمراض المعدية الفتاكة من العدم بنحو غامض، وتأخذ مسارها ثم تختفي، وأحيانا تستطيع أن تعاود الظهور.
عندئذ لا بد أن نقبل الاحتمالية المرعبة التي تشير إلى أن الموت الأسود يستطيع أن يعاود الظهور، أيا ما كان المكان المتواري فيه؛ فمثل هذا الحدث قد يقضي على حضارتنا.
كان جليا لنا أننا لا بد أن نفحص الآن بيولوجيا الأمراض المعروفة التي نشأت في عوائل حيوانية في القرن العشرين فحصا متمعنا. لقد سمعنا جميعا عن تفشي فيروس نقص المناعة البشرية أو الإيدز الذي يستحيل ردعه، وقد اكتشفنا ظهور أمراض كثيرة أخرى جديدة تماما على مدار الثلاثين عاما الأخيرة. إذا كان هناك أي احتمال لمعاودة الموت الأسود - أبشع مرض فتاك ضرب البشرية على مدار تاريخها - الظهور مرة أخرى، ينبغي علينا أن نكون مستعدين. (1) خطر الأمراض الناشئة المستتر
نقدم في هذا الفصل نظرة عامة عن بعض الطواعين التي أصابت البشرية بعد الموت الأسود. لا تزال الأمراض الناشئة تظهر اليوم بتواتر متزايد مثير لأقصى درجات القلق. ما خصائصها البارزة؟ قبل الإجابة على هذا السؤال دعونا نضع في اعتبارنا بعض الأمثلة الشهيرة للأمراض المعدية التي «ليست» طواعين.
إن أمراضا مثل الحصبة موجودة منذ زمن طويل. الحصبة مرض شديد العدوى، وتنتشر موجات فاشياتها الوبائية انتشار النار في الهشيم بين الأطفال المعرضين للإصابة، وهي لا تمثل خطرا على الأطفال الذين يحصلون على التغذية الجيدة في البلدان المتقدمة، لكن في القرون الماضية - وفي البلدان الفقيرة اليوم - ربما كانت 15٪ من حالات الإصابة قاتلة، وإذا تعافى طفل مصاب، تصير لديه مناعة من المرض، ولا يصاب به مرة أخرى. يمكن اعتبار هذا الفيروس طفيلا ناجحا يتعايش في توازن مع عائله؛ وهو الإنسان. ما دام ثمة أطفال يولدون على الأرض، فسوف يتعايش الفيروس مع الإنسان إلا إذا أبيد ببرنامج تطعيمي للطفل.
ربما كان الجدري في أول ظهوره مرضا حميدا نوعا ما؛ كونه يأتي من الحيوانات الداجنة، إلا أنه تحور نحو عام 1630 ليصبح أكثر فتكا، وقد كان أكثر الأمراض المرعبة في أوروبا بعد اختفاء الطاعون. وكما هو الحال مع الحصبة، يؤدي التعافي منه إلى اكتساب مناعة؛ ومن ثم لم يكن يصاب به سوى الأطفال، وقد كان أقل قدرة على العدوى من الحصبة، إلا أنه أكثر فتكا.
أمكن التغلب على الجدري بالتدريج، أولا عن طريق التطعيم بجرعة من الفيروس الحي نفسه ثم عن طريق التطعيم بنسخة مضعفة منه، ثم ظهرت طفرة أخرى مميتة من المرض في أوروبا عام 1869 أدت إلى معدل وفيات مريع بالرغم من الحصول على التطعيم. وأخيرا قضي على الجدري عن طريق برنامج تطعيم خاضع لرقابة مشددة على مستوى العالم. إلا أنه الآن، وبعد أن أصبح التطعيم غير إجباري، إذا انطلق الجدري - سواء بشكل غير متعمد أو بفعل إرهابيين - فإن نسبة ضئيلة فقط من السكان هي التي سيكون لديها مقاومة أو مناعة ناجحة ضده.
مرض الكوليرا هو عدوى قاتلة تصيب الجهاز الهضمي، وينتقل عن طريق شرب الماء الملوث، وهو يودي بحياة الكثير من الأشخاص في معسكرات اللاجئين اليوم، وكانت الخسائر في الأرواح جراء الإصابة به في القرن التاسع عشر مرعبة؛ إذ لقي 10٪ من سكان مدينة سانت لويس بالولايات المتحدة حتفهم بسببه في خلال ثلاثة أشهر عام 1849، ونصف مليون شخص في ولاية نيويورك عام 1832. والكوليرا مرض لا يشوبه الغموض؛ فهو لا ينتقل من شخص إلى آخر، ولا يظهر من العدم، ويتوقف الوباء بتوقف تناول الماء الملوث.
أصيب خمس سكان لندن عام 1665 بالسل النشط، واستمرت المعدلات في الارتفاع. لم تكن لندن مكانا صحيا بالمرة. جلب المهاجرون المرض إلى الولايات المتحدة، وقد أحكم قبضته على المدن الشمالية تزامنا مع اندلاع الحرب الأهلية. وقد تسبب المرض في معدل وفيات هائل في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية في القرن التاسع عشر، ولا يزال يفعل ذلك في البلدان الفقيرة. إن السل ليس مرضا شديد العدوى ولا يسبب أوبئة حقيقية، وقد قضي عليه تقريبا بتحسن التغذية وظروف المعيشة حتى قبل اختراع المضادات الحيوية، إلا أنه عاد إلى التزايد مرة أخرى.
على الرغم من خطورة بعض من هذه الأمراض، فإنها لا تعتبر طواعين، وهي تستمر في البقاء عادة بين السكان بنسب منخفضة، مع ظهور أوبئة عارضة، وهي موجودة منذ وقت طويل، وطرقها في العدوى مفهومة جيدا. لقد تعلمنا كيف نتعايش معها، وقد هزمناها في بعض الحالات عن طريق برامج التطعيم، إلا أن بعضها يمثل أسلحة محتملة للهجمات الإرهابية البيولوجية. (2) كيف نستطيع أن نميز الطواعين الفتاكة الناشئة؟
على العكس تماما، تتميز الطواعين الناشئة بالخصائص التالية: تتميز بقدرة عالية على الإماتة، قد تقترب غالبا من 100٪، ويبدو أنها تظهر من العدم - مع أنه بحلول النصف الثاني من القرن العشرين بات علماء الأوبئة قادرين على تحديد الأصول الحيوانية المحتملة - وتنتقل عدواها مباشرة من شخص إلى آخر، وهي عادة ما تكون فيروسية، وغالبا ما تتسبب في حالات تفش وبائية.
عادة ما تنسب طواعين القرن العشرين الناشئة إلى أصول حيوانية، وهنا يكمن مفتاح نجاحها. لما كانت هذه الطواعين تقتل عائلها البشري، فإنه يمكن اعتبارها طفيليات فاشلة من الوهلة الأولى؛ فأي وباء ينتهي حالما تموت جميع الضحايا وعندئذ تموت الطفيليات أيضا لا محالة، لكن في حالة الأمراض الناشئة، يستمر العامل المعدي، وفي الوقت نفسه يعيش في تناغم في عائله الحيواني ولا يؤثر عليه إلا بمقدار طفيف، وهذا مثال على الطفيل الناجح حقا؛ يرقد هذا المرض خاملا في مستودعه (هنا يكمن الخطر على الإنسان) ويكون قادرا في الغالب على الهجوم مرة أخرى إذا اتصل إنسان بمحض المصادفة اتصالا مباشرا بحيوان عائل للطفيل. (3) مرض التعرق الغريب
في خريف عام 1485 ظهر مرض غريب في إنجلترا، قيل إنه وصل إلى هناك عن طريق المرتزقة الذين كانوا عائدين لتوهم من فرنسا. استمر المرض طوال الخريف وأوائل الشتاء، وصار معروفا في أوروبا باسم «التعرق الإنجليزي» بسبب شدة قابلية الأفراد للإصابة به في إنجلترا.
عاود مرض التعرق الغامض الظهور أربع مرات أخرى - في عام 1508، وفي 1517، وفي 1528، وفي 1551 - واختفى بعدها من إنجلترا إلى الأبد. معظم الروايات الباقية عن موجات التفشي الوبائية هذه قاصرة على لندن، باستثناء الوباء الأخير، الذي بدأ في بلدة شروزبري بمقاطعة شروبشير، ثم انتقل إلى لندن حيث «أسفر عن معدل وفيات هائل.» إلا أنه بتحليل سجلات 680 أبرشية تبين أن هذا المرض كان في حقيقة الأمر مرضا ريفيا في الأساس، قادرا على الانتقال السريع جدا عبر الطرق الرئيسية، وكان يودي بحياة 30٪ من سكان البلدات التي كان يضربها.
على ما يبدو كان التعرق يصيب الأثرياء على وجه الخصوص؛ فقد أصيب به الكاردينال وولسي ثلاث مرات عام 1517، لكنه نجا. وسقط كثيرون في بلاط هنري الثامن مرضى بالتعرق؛ فانتاب الملك خوف قهري من المرض لدرجة أنه كان يغير مقر إقامته كل يومين في محاولة لتحاشي الاتصال بأولئك الذين أصيبوا في بلاطه.
كان هجوم مرض التعرق يبدأ دون سابق إنذار، وعادة ما كان ينتشر في الليل أو الصباح الباكر، وكان المصاب به يشعر ببرودة ورجفة يعقبها حمى التهابية حادة مع تصبب عرق غزير، وغالبا ما كان يصاحبه طفح جلدي، كما كان يعاني من آلام مفاجئة في الرأس وألم العضلات وصعوبة في التنفس. لم يكن يستمر أكثر من 24 ساعة، وإذا حالف الحظ الضحية، فإن العرق كان يقل ويحل محله التبول بغزارة، وتتماثل الضحية للشفاء التام خلال أسبوع أو اثنين. بخلاف هذا سرعان ما كان يعقب آلام الرأس الشديدة والتشنجات الدخول في غيبوبة ثم الوفاة. لقي كثير من الضحايا حتفهم بعد بضع ساعات من ظهور الأعراض، مع أن معظم الضحايا كانوا يبقون على قيد الحياة لمدة 24 ساعة. لم يكن مرض التعرق يصيب الرضع أو الأطفال الصغار أو الطاعنين في العمر، ولم يكن التعافي من المرض ليضمن اكتساب مناعة ضده.
في عام 1528 كتب السفير الفرنسي لدى البلاط الإنجليزي:
أصيبت خادمة من خادمات السيدة بولين يوم الثلاثاء بمرض التعرق؛ فغادر الملك في عجالة شديدة وابتعد لمسافة اثني عشر ميلا ... هذا المرض هو أسهل مرض في العالم يمكن أن يموت المرء منه؛ فالمرء يشكو آلاما خفيفة في الرأس والقلب، وفجأة يبدأ في التصبب عرقا. ولا داعي لإحضار الطبيب؛ لأنه إذا كشفت الغطاء عنك بأقل قدر ممكن، أو غطيت نفسك أكثر قليلا من اللازم، فستموت بلا معاناة. وصحيح أن مجرد إخراج يدك من تحت الفراش إبان الأربع والعشرين ساعة الأولى من شأنه أن يودي بحياتك.
كانت أوبئة مرض التعرق قصيرة المدة: «إذ كانت تهاجم جماعة بعينها ثم تختفي، وكان المرض يجتاح أبرشية بأكملها في غضون أيام قليلة جدا، على الأكثر أسبوعين.»
أيا كان السبب وراء مرض التعرق، فإنه لم يكن الطاعون الدبلي، ولا الطاعون النزفي، الذي كان متزامنا معه. لكن الأسئلة المثيرة هي: أين ذهب في السنوات التي تخللت الأوبئة، وهل كان له عائل حيواني في مكان ما؟ (4) «موت أسود» في آسيا الوسطى
لفت جراهام تويج بكل دماثة انتباهنا إلى تقرير كان قد أعده الحاكم العام لتركستان ظهر في الصحيفة الطبية البريطانية عام 1892. تغطي بلاد تركستان مساحة شاسعة من آسيا الوسطى، ووفقا لما جاء في التقرير «هاجم الموت الأسود المنطقة هجمة عنيفة»، وكان الموت الأسود قد ظهر فجأة في عشق آباد في سبتمبر عام 1892. أوضح الحاكم العام قائلا:
يعرف الناس في غرب آسيا الموت الأسود منذ زمن بعيد باعتباره ابتلاء أشد فتكا من الكوليرا أو الطاعون [الدبلي]؛ فهو يظهر فجأة، مجتاحا منطقة بأكملها وكأنها رياح سموم طاعونية [رياح صحراوية حارة جافة]، فيأتي على الحيوانات والبشر على حد سواء، ثم يتلاشى فجأة كما ظهر، قبل أن يتوافر لديك الوقت لتتحقق من طبيعته أو طريقة تغلغله.
في عشق آباد، قتل الطاعون في 6 أيام 1303 أشخاص من إجمالي تعداد سكان بالغ 30 ألف نسمة، ثم اختفى «دون أن يترك أي أثر على وجوده سوى جثث ضحاياه. أنتنت هذه الجثث سريعا حتى إنه لم يمكن القيام بفحص تشريحي سليم للجثث.» كانت الإصابة تبدأ برعشة شديدة العنف؛ إذ كان المريض يرتجف فعليا من أعلى الرأس إلى أخمص القدمين، وكانت الرعشة تحدث كل خمس دقائق لمدة ساعة، بعدها يشكو المريض من إحساس غير محتمل بالسخونة، وتتصلب الشرايين وتتزايد سرعة النبض، وفي الوقت نفسه ترتفع درجة الحرارة بانتظام. كانت التشنجات تتناوب مع نوبات إغماء، وكان المرضى يعانون من آلام شديدة، وفجأة كانت الأطراف تتيبس وتصير باردة، وفي غضون 10 إلى 20 دقيقة، يدخل المريض في غيبوبة سرعان ما كانت تنتهي بالموت. وفي الحال، بعد توقف الضحية عن التنفس، تتكون فقاعات سوداء كبيرة على الجسم سرعان ما تنتشر على سطح الجلد، ويتحلل الجسد في غضون دقائق قليلة.
ترى ماذا كان هذا المرض الغريب الذي ضرب آسيا الوسطى، والذي كان يظهر فجأة ثم يختفي بسرعة كبيرة بعدها ؟ ولماذا كانت الجثث تتحلل بهذه السرعة الكبيرة؟ فهل من الممكن أن يكون ذلك شكلا طافرا من الطاعون النزفي؟ (5) أسوأ جائحة بعد الموت الأسود
الإنفلونزا هو مرض يصيب الحيوانات، ويمكن أن ينتقل إلى الإنسان، ويتحور سريعا. وقد ظهرت سلالة من فيروس الإنفلونزا عام 1917. بعد أن بدأ الفيروس في الولايات المتحدة الأمريكية في شكل غير فتاك من الإنفلونزا. اجتاح العالم، لكنه لم يسفر إلا عن بضع حالات وفاة (معظمها بين الشباب). بيد أنه في أغسطس عام 1918 تحور الفيروس، مطلقا أكثر أوبئة الإنفلونزا فتكا على مر التاريخ. ظهر الوباء في ثلاثة موانئ في نفس الوقت تقريبا حيث تجمعت قوات ومؤن من جميع أنحاء العالم وأرسلت إلى الخنادق في الجبهة الغربية: مدينة بوسطن بأمريكا الشمالية، ومدينة فريتاون بسيراليون، ومدينة بريست بمنطقة بريتاني.
بمساعدة وسائل النقل السريعة في القرن العشرين، استطاع هذا الوباء أن يودي بحياة نصف مليون نسمة في الولايات المتحدة، وأبلغت بريطانيا عن سقوط 2000 ضحية أسبوعيا، وفي الهند، قضى 20 مليون شخص. بلغ العدد النهائي للوفيات على مستوى العالم حوالي 30 مليون شخص تقريبا، فيما أصيب بالمرض 200 مليون شخص على الأقل، وفي وقت لاحق أوضحت اختبارات الدم أن المرض مس الأغلبية العظمى من الجنس البشري. بدأ هذا الوباء المرعب في التراجع بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وسرعان ما تلاشى تماما.
عادة ما يكون معتلو الصحة والصغار والطاعنون في السن أكثر عرضة من غيرهم للإصابة بالإنفلونزا، إلا أن الأمر المثير للغرابة أن هذا الوباء أصاب أكثر ما أصاب أشخاصا أصحاء في العشرينات من العمر، وزاد على الأعراض المعتادة للإنفلونزا (من آلام بالرأس، وبرد شديد، وحمى، ورجفة، وألم في العظام والعضلات) مضاعفات مثل الالتهاب الرئوي الحاد، والتهاب الشعب القيحي، واضطرابات في القلب. اعتبرت هذه السلالة أكثر فتكا من الإنفلونزا العادية بمقدار 25 مرة؛ إذ كانت فعليا تغرق الضحايا بملء رئاتهم بالدماء.
تنتج سلالات الإنفلونزا الجديدة القادرة على إثارة أوبئة عن طفرات جينية جذرية تنشأ عادة في آسيا. تحدث هذه الطفرات في فيروس يصيب حيوانا، وفي الغالب يكون هذا الحيوان إما بطا وإما دجاجا وإما خنازير، ثم يمرر إلى البيئة وإلى الإنسان.
في عام 1998، عثر على بقايا فيروس الإنفلونزا في ضحايا جائحة عام 1918: في رئتي امرأة كان جسدها محفوظا بولاية ألاسكا، وفي رئات وأدمغة عمال مناجم الفحم بجزيرة شبيتسبرجن الذين دفنوا في التربة الصقيعية. فك العلماء شفرة التسلسل الكامل لأحد جينات الفيروس المهمة، الذي ثبت أنه يرتبط ارتباطا وثيقا بالشكل الأساسي للإنفلونزا التي تصيب الخنازير.
هناك دائما خطر قائم، متمثلا في ظهور السلالة التي تسببت في وباء عام 1918 من جديد، ربما في شكل له نفس القدرة على الفتك. وقد تبين مؤخرا أن فيروس إنفلونزا الطيور ينتقل من المرضى إلى العاملين بمجال الرعاية الصحية بهونج كونج، والشيء المقلق أن ثمة إشارة إلى أن هذا الاكتشاف ربما ينذر بفيروس «إنفلونزا جديد له قدرة على إطلاق تفش وبائي.»
في فبراير من عام 2003، أثار تفشي «إنفلونزا الطيور» في عائلة بهونج كونج - كانت قد زارت مقاطعة فوجيان بجنوب الصين - المخاوف من أن البلدة سوف تكون مصدرا لجائحة الإنفلونزا العالمية التالية. تنتاب المخاوف علماء الإنفلونزا لأن الممارسة الصينية المتمثلة في تربية أعداد كبيرة من مختلف الطيور على مقربة شديدة من البشر، تدعم ظهور سلالات جديدة من المرض. زارت العائلة مقاطعة فوجيان للاحتفال برأس السنة الصينية، فضربتها فاجعة عندما مرضت الابنة البالغة من العمر 8 سنوات وتوفيت، ثم مرض الأب وأحد الأبناء بأعراض شبيهة. توفي الأب بعد رجوع العائلة إلى هونج كونج بفترة وجيزة، واحتجز الابن في المستشفى حيث شخصت السلطات الصحية مرضه على أنه فيروس إنفلونزا الطيور إتش 5 إن 1.
أثار تفشي وباء إنفلونزا الطيور في العديد من دول شرق آسيا في مطلع عام 2004 مخاوف كبيرة وذعرا للمستهلكين، ومع أنه بحلول منتصف فبراير، كان 18 شخصا قد توفوا، فمن حسن الحظ أن الفيروس لم يطور بعد الطفرة التي من شأنها أن تسمح للإنفلونزا بأن تنتقل مباشرة من إنسان إلى آخر.
ولا يعرف سبب تحول الفيروس في بعض الأحيان إلى فيروس قاتل، لكن أسوأ موجات تفش للفيروس هي تلك التي تنطلق عندما يلتقط فيروس إنفلونزا بشري جينات جديدة من فيروسات إنفلونزا طيور، أو عندما ينتقل الفيروس مباشرة من الدجاج إلى البشر. (6) موجة تفش في بلدة أفريقية نائية
إن حمى لاسا - التي ورد أول ذكر عنها في خمسينيات القرن العشرين - هي مرض فيروسي حاد ناشئ تتراوح مدته من أسبوع إلى أربعة أسابيع، وتختلف أعراضه في حدتها ما بين لا شيء على الإطلاق إلى بالغ الخطورة قد يؤدي إلى الموت، وهي تظهر الآن في غرب أفريقيا في الأساس حيث توجد باستمرار في بعض المناطق، وهناك ما بين 100 ألف إلى 300 ألف حالة إصابة سنويا تسفر عن حوالي 5000 حالة وفاة.
تنتقل حمى لاسا إلى الإنسان من أحد القوارض البرية التي تعرف باسم «الفئران عديدة الأثداء». تعيش هذه الحيوانات بالقرب من المستوطنات البشرية، وعادة ما تنتقل العدوى عن طريق الاتصال المباشر أو غير المباشر مع براز الفئران الذي يسقط على الأرضيات أو الفراش أو الطعام أو المياه. تتراوح فترة حضانة هذا المرض ما بين 6 أيام و21 يوما. تنتقل العدوى أيضا من إنسان إلى آخر من خلال الاتصال المباشر بالدم أو افرازات الحلق أو البول أو الاتصال الجنسي. (7) فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز
إن فيروس نقص المناعة البشرية وباء عالمي الآن، وله أهمية خاصة من وجهة نظرنا؛ لأنه كما رأينا - على غرار الطاعون النزفي - يستخدم مستقبل سي سي آر 5 كممر دخول إلى خلايا الإنسان. نشأ هذا المرض الناشئ الفتاك في الشمبانزي بغرب أفريقيا الوسطى، وكان الصيادون يتعرضون للدم المصاب بالفيروس أثناء قتل حيوانات الشمبانزي وتحضيرها. يعرف أيضا أن قردا واحدا من بين ستة قرود من تلك التي تؤكل في الكاميرون كلحم أدغال يكون مصابا بنسخة مختلفة من فيروس نقص المناعة البشرية، وقد أثار هذا مخاوف من إمكانية تطور سلالات جديدة من المرض.
يعتقد أن فيروس نقص المناعة البشرية نشأ منذ أكثر من مليون سنة من اتحاد فيروسين كانا يصيبان أنواعا مختلفة من القرود. كان الفيروس على الأرجح يعيش بشكل غير مؤذ في الرئيسيات لمئات السنوات ، ويعتقد العلماء أنه قفز إلى البشر في وقت ما بعد عام 1700، ثم تحور إلى شكله الحالي نحو عام 1930. وقد اقتضى تغير الأحوال الاقتصادية والاجتماعية في أفريقيا بدء انتشار فيروس نقص المناعة البشرية على نطاق واسع من خلال الاتصال الجنسي في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته.
لم تعد أصول المرض تحظى بأي أهمية فعلية، وقد صارت في طي النسيان، وبات معظم الناس يعتبرونه مجرد مرض معد قاتل يصيب البشر.
يختلف وباء فيروس نقص المناعة البشرية عن معظم موجات تفشي الأمراض الناشئة الأخرى؛ يعزى هذا جزئيا إلى فترة حضانته الطويلة إلى حد استثنائي، وأيضا إلى انخفاض معدل العدوى، إلا أن وسائل السفر الحديثة أتاحت للمرض الانتشار في أنحاء العالم. ومع ذلك، فحتى في أكثر المناطق إصابة بالمرض، فإنه يتقدم ببطء شديد، ولا يحتمل أن يتوقف في المستقبل القريب. لطالما حاول العلماء على مدار عقدين من الزمان تقريبا إنتاج لقاح لمكافحة المرض، إلا أن كل المحاولات باءت بالفشل؛ إذ تخيب آمالهم دائما أمام قدرة الفيروس على تغيير تركيبه. ومع ذلك فقد كان من الممكن الحد من انتشار فيروس نقص المناعة البشرية من الناحية النظرية، بالالتزام بالتدابير الطبية - مثل إبر الحقن المعقمة - والاحتياطات المناسبة أثناء الاتصال الجنسي.
بيد أن حوالي 40 مليون شخص تقريبا في العالم يعيشون الآن بفيروس نقص المناعة البشرية أو الإيدز، منهم 2,5 مليون طفل تحت سن الخامسة عشرة. وكان هناك 5 ملايين حالة إصابة جديدة، وما يزيد عن 3 ملايين حالة وفاة عام 2003.
تظل منطقة جنوب الصحراء الأفريقية المنطقة الأكثر تضررا، حيث يوجد بها 27 مليون مصاب بفيروس نقص المناعة البشرية و11 مليون طفل يتيم بسبب موت أحد أبويه من الإيدز. وقد أمكن تفادي خطر المجاعات والموت الجماعيين الذي يهدد جنوب أفريقيا نتيجة النقص الشديد في الطعام - حسبما أعلن رئيس برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة عام 2002 - وذلك نتيجة للتجاوب السريع من العاملين في المساعدات الإنسانية وهيئات المعونة، إلى جانب تقديم المتبرعين الدوليين تبرعات سخية. ومع ذلك، فإن أفريقيا تواجه الآن شيئا مختلفا تماما عن أي شيء شهده العالم مؤخرا؛ فبوتسوانا تحتل أعلى معدل عدوى بفيروس نقص المناعة البشرية في العالم؛ حيث إن 39٪ من سكانها حاملون للفيروس، وذلك فيما تضم جنوب أفريقيا أعلى أعداد مرضى: 5,3 ملايين مصاب بالمرض، وتتوقع وزارة الصحة في زامبيا أن يموت نصف السكان من الإيدز، وحوالي 25٪ من الأفراد في زيمبابوي مصابون بفيروس نقص المناعة البشرية. إن الجائحة مستمرة في الخروج عن نطاق السيطرة وتهدد بتمزيق نسيج المجتمع: المستشفيات ترزح تحت ضغط الأعداد الهائلة للمصابين، والأشغال تفقد العاملين، والإنتاج الزراعي يتهاوى.
في أغسطس 2003، أعلنت المنظمة الوطنية الهندية لمكافحة مرض الإيدز أن عدد المصابين بفيروس نقص المناعة البشرية/ الإيدز في الهند قد ارتفع بنسبة نصف مليون فرد في العام الأخير وحده، وأن إجمالي عدد المصابين به 4,6 ملايين شخص تقريبا. لم يعد المرض قاصرا على قاطني المدن الأكثر عرضة للخطر، مثل متعاطي المخدرات عن طريق الحقن، لكنه بدأ في الانتشار إلى المناطق الريفية. تزداد الجائحة سوءا بشدة في البلدان التي نجت بأقل الخسائر إلى الآن، وبالأخص الصين وروسيا وإندونيسيا، ويرجع ذلك بدرجة كبيرة إلى تعاطي المخدرات عن طريق الحقن الوريدي وممارسة الجنس غير الآمن.
بل إن التوقعات بعيدة المدى أكثر رعبا؛ فقد أعادت الأمم المتحدة النظر في توقعاتها بشأن النمو السكاني العالمي؛ إذ تتوقع وفاة قرابة الثلاثمائة مليون شخص بسبب الإيدز في خلال نصف القرن التالي، وهو رقم يماثل تعداد سكان الولايات المتحدة الأمريكية. في عام 2001، صرحت شعبة السكان التابعة للأمم المتحدة أنها كانت تتوقع زيادة سكان العالم من 6 مليارات نسمة إلى 9,3 مليارات نسمة بحلول عام 2050. إلا أنه من المتوقع الآن أن يصل التعداد السكاني إلى 8,9 مليارات نسمة فحسب. تبين جائحة فيروس نقص المناعة البشرية بكل وضوح المخاطر المريعة للأمراض الناشئة ما لم يتم السيطرة عليها سريعا لدى بداية ظهورها. قد تكون التدابير الصارمة ضرورية.
ظهرت مؤخرا ملاحظة مثيرة للاهتمام بشأن فيروس نقص المناعة البشرية: يبلغ معدل الإصابة بالإيدز لكل فرد من السكان في المملكة العربية السعودية واحدا في المائة من معدل الإصابة بالمرض في الولايات المتحدة الأمريكية. لا يعلل هذا بزيادة تكرار طفرة سي سي آر 5-دلتا 32 هناك؛ لأنه بين 105 من العرب المتبرعين بالدم المقيمين في السعودية، لم يكن لدى أي منهم الطفرة المزدوجة وشخص واحد فقط كان يحمل الطفرة المفردة. لا بد أن هناك تأثيرات واقية أخرى (غير معروفة في الوقت الحالي) مؤثرة ، فهل يمكن أن يكون الطاعون النزفي ضرب السعودية منذ مئات السنوات، فنتج عن ذلك أن طور الناس هناك مقاومة جينية ذات شكل مختلف؟ وعلى كل حال، كان البشر الأوائل خلال ترحالهم شمالا على طول الوادي المتصدع الكبير من إثيوبيا والسودان يمرون بشاطئ البحر الأحمر، وربما دخلوا شبه الجزيرة العربية عبر شبه جزيرة سيناء والعقبة، وقد رأينا بالفعل أن الطاعون النزفي اخترق شبه الجزيرة العربية في أربعينيات القرن الرابع عشر.
إضافة بشأن فيروس نقص المناعة البشرية: في خلال ما يزيد قليلا عن اثني عشر عاما انخفضت أعداد الأسود الأفريقية من 230 ألف أسد لتصل إلى 20 ألف أسد اليوم؛ ذلك لأن أجهزتها المناعية تحطمت بفعل نسخة فيروس نقص مناعة الأسود. هذا يأتي في صالح الحمير المخططة، لكن الأسود تواجه خطر الانقراض. وهكذا فإن الإنسان ليس وحده الذي يواجه خطر الفيروسات الناشئة. (8) أبشع طريقة لموت الإنسان اليوم
إن فيروسي إيبولا وماربورج مرضان ناشئان فتاكان واسعا الانتشار، يتسمان بعدوى الأنسجة وتلفها وبالنزيف والحمى. ظهر الفيروس الخيطي الإيبولا عام 1976 في شمال زائير، حيث كانت هناك 318 حالة إصابة بمعدل إماتة 90 بالمائة، ثم أودت الإيبولا بحياة 150 فردا بين 250 حالة إصابة في السودان. وتواصل موجات تفش أصغر الظهور بشكل متكرر وبالأخص في شرق ووسط وجنوب أفريقيا. في عام 2002، حذرت المفوضية الأوروبية في بروكسل من أن الأعداد المتزايدة من السياح الوافدين من أفريقيا تجلب معها فيروس الإيبولا إلى أوروبا.
إن فيروس الإيبولا هو - كما يزعم - أبشع طريقة للموت اليوم، وهو يشبه الطاعون النزفي إلى حد مخيف؛ إذ لا يتوقف المريض عن القيء، فيتقيأ سائلا يعرف بالقيء الأسود، وهو في الواقع مزيج ملطخ من الأنسجة التالفة ودم شرياني أحمر جديد ناتج عن نزيف داخلي، ويكون القيء محملا بالفيروس وشديد العدوى. وأقول مرة أخرى: إن هذا الفيروس حيواني المنشأ أيضا؛ يشتبه أن مستودعه الحيواني إما الغوريلا أو الشمبانزي. في مارس عام 2003، انتشرت أخبار عن موت ما يزيد عن 100 شخص في منطقة غابات نائية في جمهورية الكونغو في موجة تفش وبائي منتشرة لفيروس يشتبه في أنه الإيبولا، يعتقد أنه متعلق بتناول لحوم قرود مصابة. في محمية لوسي للغوريلات وحدها، مات ما بين 500 إلى 800 حيوان. وفي محاولة للحد من انتشار الفيروس، أغلقت كافة المدارس والكنائس في المنطقة، وطلب من الأفراد التزام منازلهم، إلا أنه كان من الصعب تطويق المنطقة بأكملها بسبب شبكة مسالك الغابات الضيقة.
أودى وباء له أعراض شبيهة بأعراض الإيبولا بحياة 63 شخصا في مايو عام 1999 في منطقة الحدود الشرقية لجمهورية الكونغو الديمقراطية المنكوبة بسبب الحرب، إلا أن السلطات المعنية بالأمور الطبية أعلنت أن الحمى النزفية لم تكن بسبب فيروس الإيبولا. وكانت المنطقة قد عانت من موجات تفش شبيهة في وقت سابق بين عامي 1994 و1997. تمركزت موجة تفش عام 1999، في بلدة تعدين الذهب دربا الواقعة بالقرب من الحدود مع أوغندا والسودان. ويعتقد أن معظم الضحايا كانوا من عمال المناجم غير الشرعيين الذين يعيشون في أوضاع غير صحية. على الأرجح كانت هذه فاشيات لمرض ناشئ آخر في أفريقيا. (9) المرض الأكثر ترويعا في وقتنا الحاضر
تنتمي حمى القرم-الكونغو النزفية إلى فئة الحمى النزفية الفيروسية الكبيرة التي تعد - بأعراضها المأسوية ومعدلات وفياتها المرتفعة - من أكثر الأمراض غموضا وأكثرها ترويعا اليوم. هذا الفيروس - الذي شخص للمرة الأولى في القرم عام 1944 ثم اكتشف في الكونغو عام 1956 - ينتشر عبر مساحات شاسعة من العالم عن طريق القراد الذي ينقله إلى الإنسان والحيوانات المجترة. يمكن أيضا أن يصاب الإنسان بالعدوى عن طريق الاتصال المباشر بالدم أو غيره من الأنسجة المصابة من الماشية.
عادة ما يتوفى المريض بعد ستة أيام من بدء المرض، وتضم قائمة الأعراض مجموعة مألوفة: حمى، وآلاما بالرأس، وقيئا، وإسهالا، وأورام الغدد الليمفاوية، ونزيفا من الأنف والحلق واللثة والقولون، ونزيفا تحت الجلد؛ مما يسفر عن طفح جلدي نزفي شامل. (10) الفيروس الغامض
تعرف الآن المتعضية المحيرة التي ضربت السكان الأصليين لأمريكا عام 1993 باسم فيروس «سين نومبري» (المعنى الحرفي: «عديم الاسم»). تطلب الأمر ثلاثة أشهر و40 حالة وفاة قبل أن يتمكن الخبراء من فهم طريقة التعامل مع الموقف، حيث أثبتوا أن فأر الإيل هو مستودع المرض. وقد قفز الفيروس من القوارض إلى الإنسان وصنف على أنه فيروس هنتا.
الأمر المثير للقلق هو ظهور فيروس هنتا جديد كل عام، بعضه يستعمر المناطق الجغرافية التي كانت سالمة من هذا البلاء فيما مضى. ويحتمل أن فيروس سين نومبري كان قد ظهر من قبل؛ إذ يحكي الأدب الشعبي لأهل نافاجو (أحد شعوب أمريكا الشمالية) عن وباءين غامضين ظهرا عامي 1918 و1934 ويحذر من مخاطر الاقتراب الشديد من القوارض. (11) الوحش النائم
عندما بدأ البشر أول ما بدءوا العيش معا على مسافات قريبة في المدن، وما بينها من طرق تجارية مزدحمة، وجدت الظروف المثالية تماما للظهور الحتمي للأمراض الفتاكة حيوانية المنشأ، وقد تناولنا لتونا بعضا من أكثر الأمثلة بشاعة. في الولايات المتحدة، لطالما كان فيروس غرب النيل يمثل مشكلة لسنوات، وهو مستوطن حاليا في الكثير من أجزاء البلاد، وقد ظهر في أوغندا عام 1937. تقوم طائرات القوات الجوية الأمريكية برش المياه الراكدة والمستنقعات حيث يعيش البعوض الذي ينقل الفيروس للحيلولة دون تفاقم المرض. وتنشر الطيور المصابة العدوى ومن بعدها البعوض. أعلن العلماء بجامعة أكسفورد في خريف 2002 عن اكتشافهم لأجسام مضادة للفيروس في عدد من الطيور الميتة في إنجلترا، وهي علامة مؤكدة على العدوى سواء أكانت سابقة أم حالية.
يزداد العالم تقاربا في القرن الواحد والعشرين، وبدأنا نحن ننتقل إلى مزيد من المناطق التي لم يطأها أحد قبلا. عندما تنخرط أعداد كبيرة من الأشخاص في السياحة البيئية أو يدخلون إلى الغابات المطيرة لقطع الأشجار، فإنهم يحتكون بآلاف الفيروسات التي لم يسبق لها أن اقتربت من الإنسان من قبل. ومع أن الأغلبية العظمى من هذه الفيروسات لن تستطيع تخطي الحاجز النوعي، فإن القليل منها سوف يتمكن من ذلك.
إذا كانت طواعين أثينا وجستينيان والإمبراطورية الإسلامية الأولى والطاعون الأصفر من أشكال الطاعون النزفي كما أشرنا؛ إذن فلا بد أن الفيروس المسئول عن الموت الأسود ظل كامنا في جماعات حيوانية لقرون، متفشيا من حين إلى آخر على مدار أكثر من ألفي عام؛ لذا، لا يوجد سبب للاعتقاد في أنه رحل إلى الأبد عام 1670.
والآن ومع التزايد اللانهائي لأعداد المسافرين بسرعة كبيرة من مكان إلى آخر، أصبح الموقف حرجا. لقد شهدنا منذ منتصف القرن العشرين ما يزيد عن 30 مرضا مروعا يخرج من عائله الحيواني بمعدل تواتر مثير للقلق، فماذا يكون بعد؟ هل يعود الموت الأسود؟
الفصل التاسع عشر
عودة الموت الأسود
هل اختفى الطاعون النزفي أخيرا عام 1670، أم أن هذا لم يحدث؟ عندما كانت محطة تليفزيون دنماركية تعد برنامجا عن عملنا، أخبرنا المنتج عن طاعون كوبنهاجن عام 1711؛ فكل شيء متعلق بهذا الوباء يتطابق مع أوصافنا لانتشار الطاعون النزفي كما ذكر. حملنا هذا على التفكير حقا؛ لأنه لو كان هذا صحيحا، فإن المرض لم يختف تماما عام 1670 كما اعتقدنا واعتقد الجميع، ولكنه عاود الظهور بعدها بأربعين عاما، وغالبا في أكثر من مناسبة، كما اكتشفنا من قراءتنا اللاحقة. إذا كان قد نجح في معاودة الظهور مرارا وتكرارا على مدار 2000 عام من مكمنه أينما كان، فلم يفترض أنه لن يجدد الكرة؟
باستخدام مخيلتنا وما توصلنا إليه فعليا حتى الآن، يمكننا أن نوضح كيف ظل هذا المرض متربصا وقادرا على الانقضاض مرة أخرى فجأة على الجنس البشري. يبدو السيناريو الآتي نصا سينمائيا لفيلم رعب، لكن هل هو شديد البعد عن الحقيقة؟ (1) في وقت ما من القرن الواحد والعشرين
أعاد علماء البيولوجيا الذين كانوا يعملون عن كثب مع الرئيسيات في غابات وسط أفريقيا الكثيفة الطاعون النزفي إلى العالم الغربي؛ فقد عادوا إلى مسقط رأسهم في لندن، ونشروا العدوى عن دون قصد على نطاق واسع لدى تنقلهم بشكل يومي في المواصلات العامة المزدحمة. وقد سمح مترو أنفاق لندن، المزدحم بالركاب المتغيرين باستمرار، بانتقال الفيروس إلى عدد كبير من الضحايا الوافدين إلى العاصمة في نطاق دائرة نصف قطرها 25 ميلا. بعض هؤلاء الضحايا كانوا زوارا من مختلف أنحاء العالم. نشرت كافة الرحلات إلى النوادي الرياضية، والمسارح والسينمات العدوى على نطاق واسع قبل ظهور الأعراض على أي من الضحايا.
عندما لقيت الحالات الأولى حتفها، أدركت السلطات الصحية أن مرضاها كانوا قد أصيبوا بمرض خطير مجهول؛ فاتخذوا الاحتياطات المناسبة، بما في ذلك ارتداء ملابس الوقاية الكاملة لدى تمريض الضحايا في أيامهم الأخيرة. وضعت الجثث في أكياس خاصة محكمة، وفيما عدا ذلك لم يكن بمقدورهم فعل شيء آخر.
لم يتضح حجم الوباء إلا عندما بدأت جموع حالات المرحلتين الثانية والثالثة في الظهور في كل أنحاء المملكة المتحدة. في نهاية المطاف أعلن رئيس الخدمات الطبية أنه يوجد وباء كبير لمرض فتاك مجهول، ينتشر سريعا وعلى نطاق واسع، وأن الموقف خارج عن نطاق السيطرة. واعتقد أنه مرض ناشئ جديد قادم من أفريقيا، وأغلب الظن أنه انتشر عن طريق العدوى الرذاذية، وفيما خلا ذلك لم يعرف الأفراد أي شيء عن الأسس العلمية لطبيعة هذا الوباء ومنشئه، وكان قد فات الأوان فقد وقعت الخسائر بالفعل، وانعزلت بريطانيا تماما، فلم يكن شيء يدخل عبر الموانئ أو نفق القنال الإنجليزي، فما من أحد في العالم سيجازف بالمجيء إلى وكر مثل هذا المرض الشنيع. كان البريطانيون وحدهم، وتعين عليهم أن يعولوا أنفسهم.
ثبت أنه من المستحيل فرض حجر صحي على التمدد العمراني الشاسع لضواحي لندن، وفي جميع الأحوال كان ذلك عديم الفائدة، بسبب الانتشار السريع للمرض عبر الأقاليم. لقد كان خارجا عن نطاق السيطرة؛ فقد كان هناك أناس كثيرون مكتظون في جزيرة بالغة الصغر.
فضلت الآفة المرعبة بالأخص المراقص، ومراكز التسوق، والسينمات، ومباريات كرة القدم، والمكاتب والحانات مركزية التدفئة، فأغلقت جميعها بأمر القانون. في غضون أسابيع قليلة، استطاعت العدوى أن تودي بحياة معظم أطفال إحدى المدارس، الذين ذهبوا إلى منازلهم - إبان فترة الحضانة الطويلة - وحملوا الآفة إلى عائلاتهم. وهكذا أغلقت جميع المؤسسات التعليمية.
في النهاية، رفضت المستشفيات استقبال أي ضحايا لهذا المرض المريع والغامض؛ فقد امتلأت عن آخرها، ولم تشأ استقبال المزيد من الأفراد حاملي العدوى، وعلى كل حال كان استقبالها لهم عديم الفائدة؛ إذ إنها لم تستطع علاج هؤلاء المرضى.
من المثير للدهشة أن مجموعة من الأشخاص في إنجلترا كانوا مقاومين للمرض (نحن نعرف السبب الآن)؛ فلم يصابوا بالمرض حتى بعد الاتصال المتكرر عن قرب بالأشخاص حاملي العدوى، بل الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أن بعض الأشخاص كانوا يصابون بالمرض، لكنهم تعافوا تماما رغم مرضهم مرضا شديدا. كانوا يبرزون من بيوتهم، راجفين ومهازيل، ينظرون إلى العالم المتحول بالخارج. لكنهم ما لبثوا أن صارت لديهم مشكلات ملحة أخرى يقلقون بشأنها.
واحدة من المشكلات التي لم تكن لتخطر على بال، كانت التخلص من جثث الضحايا. أكانت الجثث معدية؟ لقد تطور كل شيء سريعا جدا، لدرجة أن علماء الأحياء الدقيقة الطبيين كانوا عاجزين عن الإجابة على هذا السؤال البدائي. ورفض الأصحاء الاقتراب سواء من الجثث أو المنازل التي مات أصحاب الجثث فيها. هكذا كان الأفراد يجرون الجثث فحسب إلى الحدائق في الضواحي والريف، وفي البداية كان يدفنونها في قبور ضحلة، إلا أنهم سرعان ما أصابتهم حالة من اللامبالاة المخيفة؛ فهم على كل حال سوف يموتون جميعهم ميتة مرعبة، فتركوا الجثث تحت رحمة الظروف المناخية والكلاب الضالة والجرذان. لم يكن هذا خيارا لقاطني المدينة، وبالأخص لأولئك الذين يعيشون في وحدات سكنية في ناطحات السحاب، ففي يأس، كانوا يلقون الجثث هناك إلى الشوارع، ويتركونها لتتعفن، وكانت النتائج تفوق كل وصف.
عندئذ تفشت أوبئة الكوليرا والتيفود في الكثير من البلدات، وخرجت ملايين الجرذان البنية بكل جراءة من المجارير، وكانت على وشك احتلال تلك الأماكن.
بدأت مظاهر الحياة في التوقف تماما، وأغلقت معظم المكاتب والمصانع؛ ونظرا لأن الجميع تقريبا كانوا يعملون في وظائف غير حيوية، لم يمثل ذلك أهمية كبرى، لكن الأمر الكارثي هو أن سبل التوزيع والحصول على المؤن توقفت أيضا.
للتو بدأ التهافت على الشراء وجنون تخزين الغذاء. ارتفعت الأسعار إلى عشرة أضعافها واكتظت الأسواق المركزية بالأفراد الذين كانوا يحاولون تفريغ الأرفف، وهي ظروف مثالية لنشر المرض.
حالما جرى استهلاك هذه الأغذية، لم يتبق هناك سوى مؤن محدودة أخرى، ولم ترس مبادئ ترشيد الاستهلاك لأن الغذاء المتوافر كان محدودا للغاية بحيث تعذر توزيعه، ولم يكن هناك متسع من الوقت لتأسيس بنية تحتية للمؤن والإنتاج الغذائي، وقد كان من المستحيل أن تختبئ وتعزل نفسك؛ لأنه كان لا بد أن تتحرك وتبحث عن أي مصدر للغذاء إن كان مقدرا للعائلة النجاة. وانتشر النهب والسرقات الصغيرة، وطافت العصابات المسلحة بالسكاكين - أو أي أسلحة أخرى طالتها أيديها - في الشوارع، مستولية على أي طعام يمكن أن تجده.
لجأت الكثير من المجتمعات الريفية إلى الذبح الجماعي للخراف والغنم، ولم يكن بيد المزارعين كثير من الخيارات، مع أنهم كانوا يطلقون النار بلا رادع على من يضبطونه. خفف هذا ظروف المجاعة إلى حين، إلا أنه لم يكن ذا نفع كبير لقاطني المدينة؛ إذ لم يكونوا قادرين على بلوغ الريف، وحتى لو تمكنوا من الاستيلاء على خروف، فلم يكونوا ليستطيعوا ذبحه وسلخه وتقطيعه.
أسدت السلطات نصيحة - فيما ينم عن حكمة كبيرة - ما مفاده أن تجمع الناس في مقار أعمالهم يمثل خطورة عليهم، إلا أنه عندما امتنع عمال مصانع الطاقة عن الحضور إلى العمل تدهورت إمدادات الكهرباء. ولم تجد وعود الحكومة بأجور مبالغ فيها للغاية؛ فقد صارت النقود الآن بلا قيمة على الإطلاق. كانت الكهرباء - وليس البنزين - هي شريان حياة هذا الاقتصاد المتطور، ولم يعد حتى بمقدور كثير من الناس تعقيم مياه الشرب بغليها.
انهار نسيج الحياة المعقدة في القرن الواحد والعشرين تماما. لقد ولى منذ زمن طويل الاستقلال والاكتفاء الذاتي الصارمان اللذان عاشهما الأجداد، وبات الناس يحيون حياة مصطنعة تماما بناء على تكنولوجيا الكمبيوتر، التي يحركها الوضع المالي الدولي والاقتصاد العالمي. لقد كانوا محاطين بالتدفئة المركزية، والثلاجات، والتليفزيونات، ووسائل المواصلات السريعة، والأطعمة المعالجة، وأجهزة الميكروويف، ومجموعة من الأجهزة الكهربائية، والصناعات الدوائية. لم تكن هناك مشكلة تعجز التكنولوجيا عن حلها.
كان الناس مهرة في تصفح الإنترنت، إلا أنهم فقدوا رغبتهم الغريزية في البقاء. لقد ابتعدوا عن جذورهم للغاية ولم يعودوا قادرين على تحقيق الاكتفاء الذاتي. لقد اكتظ المكان بهم ومن ثم أنهكوا التربة، وكانوا يعولون بشدة على مؤن الطعام التي تأتي من الخارج. أفراد قليلون في القرن الواحد والعشرين هم من رأوا الطعام في مرحلة إنتاجه، ولعل أطفالا كثيرين اعتقدوا أن الدجاج الذي يتناولونه على طاولة الطعام نشأ تلقائيا في مجمد الأطعمة، ملفوفا بالبلاستيك.
لم تكن الحضارة التكنولوجية العالمية متينة، وأي خلل في عملها، سيسفر عن كارثة. وكان هذا الوباء الغامض والمرعب حادثة على وشك الوقوع.
على العكس من ذلك، نجت أستراليا تماما تقريبا؛ فقد أغلقت السلطات هناك كافة منافذ الدخول، وأقامت عزلا كاملا لدى ورود الأنباء عن نوبة تفش.
تم اكتشاف المصاب الوحيد الذي وصل إلى ملبورن وعزله. والأهم من ذلك، أن كل تواصل أجراه على أرض أستراليا أو على متن الطائرة جرى تتبعه بشكل دقيق وعزل أصحابه، الذين جرى تتبع من تواصلوا معهم بدورهم وعزلهم. بهذه الطريقة أحكمت السلطات الصحية قبضتها الصارمة على المرض، ثم طوقت المناطق التي استشعرت أنه ربما يكون فيها بقايا مخاطر للعدوى، وأمروا الأفراد بارتداء أقنعة في جميع الأوقات التي يتواجدون فيها في الأماكن العامة وسط الجموع. أغلقت المدارس والسينمات والمراقص والحانات في هذه المناطق إلى حين.
كانت هذه التدابير الصارمة فعالة للغاية، وسرعان ما انزوى الوباء الناشئ. وبلغ إجمالي الوفيات 20 فردا.
تغطي أستراليا مساحة شاسعة، وتتمتع بالكثير من الموارد الطبيعية، وشعبها قليل العدد، لدرجة أنه حتى في ظل العزل الكامل كانوا قادرين على التعويل على أنفسهم بسهولة. لقد كانوا يتمتعون بالاكتفاء الذاتي وبارعين في فعل الأمور بأنفسهم. وقد تعين إدخال بعض التعديلات وترشيد استخدام بعض الأطعمة والسلع، وبعدها استطاعوا التفاوض بشأن إمداد نفطي محدود. وعندما ينتهي هذا الوباء المروع أخيرا (إذا كان له نهاية من الأساس) فهل سيستعمر الأستراليون العالم؟
وعلى النقيض من ذلك، كانت النتائج كارثية حقا عندما انتشرت الجائحة في الهند والصين؛ إذ لم يكن التصدي لها ممكنا. كانت التدابير الصحية للطوارئ محدودة وغير فعالة في المقام الأول، وسرعان ما نفدت موارد مسكنات الآم والمهدئات، ولم يظهر أي فرد أي أمارات مقاومة للمرض (على عكس الموقف في أوروبا، حيث كان هناك شخص مقاوم للمرض من بين كل سبعة أشخاص ؛ مما كان يثير الدهشة) وقد انتشر الوباء بين السكان المكتظين انتشار النار في الهشيم.
لما انتاب الجميع الرعب، قام الجميع برد الفعل المعتاد، ففروا بالحافلات والقطارات ناشرين المرض في كل حدب وصوب. وعندما منعت السلطات كافة أشكال المواصلات، سعى الناس إلى الفرار سيرا على الأقدام، جارين عربات يد وراءهم. إلا أن هذا كان عديم الجدوى؛ فقد حملوا المرض معهم، وانتشر الوباء بثبات وبلا هوادة في صورة أشعة منطلقة من المركز وكأنه موجات تنتشر في بركة لدى إلقاء حجر فيها، موجة عنيدة وكريهة وهائلة من الرعب والمعاناة المفجعة. ثم التقى الفارون موجة اللاجئين القادمة من الاتجاه المعاكس. كانت الظروف مثالية للآفة، وقد وفرت الملايين الغفيرة المكتظة مصدرا لا ينضب على ما يبدو من الأفراد الذين لديهم قابلية للإصابة. قدر فيما بعد أن التعداد النهائي للخسائر في الأرواح سوف يحصى بالمليارات في النهاية. وقد استحال دفن الأجساد التي تحللت سريعا في ظل درجة الحرارة المرتفعة؛ مما أسفر عن مشاهد لا يمكن تخيلها.
لقد عاد الموت الأسود بعد مرور 700 عام من ظهوره الأول، وكان نمط انتشاره في البلدان النامية مشابها إلى حد بعيد لنمط انتشار الوباء الأصلي، باستثناء أنه كان هناك الآن مصدر لا ينضب من الضحايا المكتظين معا بشدة في نطاق ضيق. من المفارقة أن انتقال العدوى كانت غاية في السهولة في البلدان المتقدمة، وقد انهار اقتصادها تماما.
فهل يستطيع العالم أن يتعافى من مثل هذه الكارثة؟ (2) هل الوقت موات لظهور الطاعون النزفي من جديد؟
لقد اقترحت كثير من السيناريوهات الكارثية التي تنبئ بنهاية العالم كما نعلم، منها الاحترار العالمي، واصطدام النيازك بالأرض، وموجات المد والجزر الهائلة، والانفجارات البركانية ، وبالطبع الحروب النووية الشاملة. تستثمر الحكومات مبالغ مالية وجهودا متفاوتة استعدادا لهذه التهديدات المحتملة، إلا أن قليلين هم من أخذوا على محمل الجد احتمال أن يظهر مرض فيروسي فتاك، مثل الموت الأسود أو ما شابه، بدون سابق إنذار - في الغالب من أحد العوائل الثديية في أفريقيا، كما ألمحنا سابقا - ويدمر حضارتنا.
إن ظروف الحياة البشرية في القرن الواحد والعشرين - التي تختلف تمام الاختلاف عن ظروف الحياة البشرية في أوروبا العصور الوسطى - سوف تسهل كما أشرنا من قبل تطور مثل هذا الوباء أكثر مما ستعوقه، وسيكون الدمار على نطاق أوسع كثيرا. يسافر السياح بأعداد غفيرة الآن إلى أفريقيا وينقل السفر جوا الفيروس سريعا في أنحاء العالم؛ إذ لم ينطلق وباء الإيدز إلا عندما هرب فيروس نقص المناعة البشرية من أفريقيا إلى هايتي ومنها إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
بدأت قصتنا بظهور البشر في الوادي المتصدع الكبير في شرق أفريقيا من حوالي ربع مليون سنة، في زمن كان يعيش فيه نوعنا في ارتباط وثيق بمجموعة كبيرة من الحيوانات البرية. حتى بعد قيام الثورة الزراعية الأولى منذ حوالي 12 ألف عام، عندما حلت الزراعة محل الصيد وجمع الطعام كعماد حياة الإنسان، عاش الناس في مستوطنات صغيرة ولم يعانوا من الأوبئة، ولم تبدأ الأمراض المعدية الفتاكة في الظهور إلا عندما بدأ الناس يتجمعون في المدن. ومع ذلك، فعلى مدار حوالي 3000 سنة لم يكن هناك سوى عدد قليل من مثل موجات التفشي هذه. أغلب الظن أنها خرجت من أفريقيا، وأسفرت عن أعداد وفيات هائلة، لكن الناجين كانوا أقوياء وواسعي الحيلة، وسرعان ما أعادوا بناء مجتمعاتهم. بل حتى بعد الرعب المترتب على الموت الأسود في القرن الرابع عشر، عادت أوروبا إلى وضعها الطبيعي تقريبا في غضون سنوات قليلة.
ثم قامت الثورة الزراعية الثانية في القرن الثامن عشر. لقد أدى إدخال الآلة والإدارة الأكثر تعقيدا للمحاصيل إلى زيادة الإنتاجية، التي كانت ضرورية لإطعام السكان سريعي التزايد. كان الطاعون قد اختفى وقتئذ، إلا أن المدن الكبرى كانت أماكن غير صحية . فقد أودت أمراض الجدري والحصبة والسعال الديكي والدفتيريا وغيرها من الأمراض المعدية بحياة نحو ربع الأطفال في إنجلترا، وتوفي الكثير من الكبار على إثر الإصابة بالسل والإنفلونزا، ومع ذلك تعلم الناس أن يتعايشوا مع هذه الأمراض، وبالرغم منها استمر السكان في النمو.
ثم جاءت الثورة التكنولوجية في القرن العشرين. وبفضل التطورات الرائعة في علوم الطب، واختراع المضادات الحيوية وتصنيع اللقاحات، لم تعد الأمراض المعدية تزعج الدول المتقدمة تقريبا الآن، لكن هذا ليس الحال في البلدان الفقيرة، حيث تواصل الأمراض المعدية التي تسببها الطفيليات الحيوانية (مثل الملاريا) قتل أعداد كبيرة من الناس.
في هذه الأيام، في البلدان المتقدمة، نقلق بشأن السرطان، وأمراض القلب، والشيخوخة أكثر كثيرا من الأمراض المعدية. لعلنا نعيش في وهم؛ فالميكروبات تتكاثر بمعدلات هائلة وتتطور على الدوام وتأتي بأسلحة جديدة في الحرب البيولوجية للبقاء على قيد الحياة؛ فالسرعة التي تطور بها مقاومتها للمضادات الحيوية هي دليل على عبقريتها.
إننا عاجزون تماما أمام أي فيروس جديد إلى أن يمكن التعرف على سماته وتصنيع لقاح له، وإذا حدث وكان فيروسا فتاكا ومعديا للغاية، فإنه يمكن أن يأتي على الأخضر واليابس، بل الأسوأ من ذلك، إذا كانت فترة حضانته طويلة، فإن بإمكانه أن يتسبب في جائحة قبل أن يفطن أي أحد إلى ظهوره.
بمساعدة محرك الاحتراق الداخلي، يستطيع معظمنا الآن السفر إلى مسافات بعيدة كل يوم؛ فقد وسع السفر جوا، بغرض العمل والاستمتاع، آفاق الأفراد أكثر. على النقيض من ذلك، كانت القلة الأوفر حظا هي من تملك جوادا في القرن الرابع عشر، ولم يكن يسمع بالسياحة، وكان السفر بحرا بطيئا وعشوائيا. وليس من المستغرب أن الأمراض الناشئة قلما كانت تهرب من أفريقيا في تلك الأيام.
كان الموت الأسود محصورا في أوروبا، وقد أقام معقله في فرنسا، وكان يبعث الأوبئة إلى بقية القارة بانتظام، بيد أنه، إن كان مقدرا له أن يعود، فإن الموقف اليوم سيكون مختلفا تماما.
فلسوف توفر أجزاء من جنوب الولايات المتحدة، والهند، والصين، وأستراليا، وساحل المتوسط ظروفا مثالية للفيروس كي يقيم معاقل حيثما يمكنه الاستمرار. وفي ظل الاحترار العالمي، يوجد الآن المزيد من مثل هذه المناطق. وسيكفل السفر جوا وصول الفيروس إلى هذه المناطق؛ فمصاب واحد كفيل بأن ينقل المرض، الذي ينتشر بعدها بلا هوادة بمساعدة التدفئة المركزية وتكييف الهواء، ولا يردعه مناخ الشتاء البارد. ستوجد قلة من الأفراد المقاومين الحاملين لطفرة سي سي آر 5-دلتا خارج أوروبا، وحالما تترسخ المعاقل، سرعان ما سيكون المصابون في حالة تنقل منتظمة إلى أجزاء أخرى من العالم سواء برا أو جوا.
إن كوكب الأرض أكثر ازدحاما بكثير مما كانت أوروبا في القرن الرابع عشر. ولسوف يهيئ مليارات الناس الذين يقطنون آسيا بالأخص مرتعا مثاليا للفيروس. لا بد أن نتذكر أن ثلثي الوفيات التي سقطت في وباء إنفلونزا عام 1918 كانت في الهند. أيضا، تتجمع نسبة أكبر كثيرا من الأشخاص اليوم معا في البلدات؛ إذ يتكدسون في الأسواق المركزية، والسينمات، ومباريات كرة القدم، ويتنقلون في المواصلات العامة. ومن شأن أي وباء أن يستفحل سريعا في مثل هذه الظروف.
نحيا الآن في ظل اقتصاد عالمي، على المستويين المالي والاجتماعي. تتجاوب أسواق المال في كل مكان في الحال مع أي حدث يقع في أي مكان في العالم ويرى المتداولون أنه سوف يؤثر في قيمة الأسهم. والنتائج المترتبة على أي اضطراب في المجتمع العالمي المعقد - مثل وباء كبير - تؤثر في الحال في كل أنحاء العالم من فورها.
أخيرا، وبسبب الثورة التكنولوجية، صار الناس في البلدان المتقدمة معزولين عن الطبيعة؛ فنحن لسنا أقوياء أو مرنين أو نتمتع بالاكتفاء الذاتي بنفس القدر الذي كان عليه أجدادنا، فإنتاج السلع وتوزيعها يعتمد على مجموعة محيرة من التقنيات، بالأخص الكهرباء ومحركات الاحتراق الداخلي. وإذا بدأت أعداد كبيرة من الناس تموت جراء الموت الأسود، ولجأ آخرون إلى التملص والهروب، فإن نسيج مجتمعنا التكنولوجي المعقد سوف يتمزق؛ مما يترتب عليه استفحال آثار الوباء استفحالا هائلا. بعدئذ كيف سيتمكن الناجون من بدء حياتهم من جديد؟ معظمنا سيعجز حتى عن إشعال النيران من دون ثقاب . (3) خطوط المكافحة
هل من الممكن الاستعداد لمثل هذه الاحتمالية؟
المعرفة قوة. لقد صرنا ندرك الآن أن وجهة النظر التقليدية عن الموت الأسود خاطئة؛ فهو لم يكن موجة تفش للطاعون الدبلي، ولم يكن ينتقل عن طريق الفئران والبراغيث، فلو أنه كان طاعونا دبليا وعاد إلى أوروبا، ما كان هناك مدعاة للقلق لأن الطاعون الدبلي يعالج بسهولة، وأي وباء كان سيمكن التغلب عليه بسهولة. إلا أن الموت الأسود كان في الواقع نتيجة لفيروس غير معروف يحتمل أن يعاود الظهور في أي وقت. إلا أنه لن يكون جديدا بالكامل علينا. نأمل أن يعرف أي شخص قرأ هذا الكتاب ماذا يتوقع.
إذا عاود الموت الأسود الظهور فعليا، فسوف تظهر على أول الضحايا أعراض مشابهة لتلك الأعراض الموصوفة في الروايات المختلفة التي اقتبسناها من قبل. نأمل أن يتم تمييز هذه الأمارات في الحال على أنها طاعون نزفي وألا يتم تشخيصها عرضا على أنها «مجرد مرض ناشئ آخر»؛ ذلك لأن نجاح أي مكافحة للموت الأسود سوف يعتمد على التشخيص المبكر واتخاذ الإجراءات الفورية.
للأسف، ليس هناك ما يمكن فعله من أجل الضحايا، إلا أنه ينبغي فرض تدابير صحية صارمة في الحال لمحاولة التغلب على العدوى المبدئية إن أمكن. ستتضمن هذه التدابير: عزل الضحايا، والاستخدام واسع النطاق والإجباري للأقنعة الطبية (نظرا لأن انتقال العدوى يحدث عن طريق العدوى الرذاذية)، وإلغاء كافة التجمعات العامة التي تقام على مساحة كبيرة، وفرض حجر صحي مدته 40 يوما على أي شخص مشتبه في إصابته بالعدوى، وارتداء الملابس الواقية، وتحريم كافة التنقلات من المنطقة المصابة وإليها، وبالأخص التنقلات جوا.
لكن كما بينا، فالسلاح الخفي للطاعون النزفي الذي جعله فعالا إلى حد مرعب هو فترة حضانته الطويلة إلى حد استثنائي؛ لهذا السبب، سيستحيل تقريبا تعقب كل شخص ربما يكون أصيب، فلن تكون السلطات الصحية مستعدة كما ينبغي. والإجراءات المذكورة سابقا لن تكون وحدها كافية، مثلما وجدها شعب أوروبا من واقع خبرتهم السيئة في القرن الرابع عشر.
سيحتاج مسئولو الصحة العامة تبني استراتيجيات أكثر جذرية ؛ فالأعراض الأولى لن تظهر إلا بعد مرور شهر على الأقل من إصابة الضحية الأولى - أغلب الظن ستكون في أفريقيا - وفي خلال هذا الشهر ربما يكون قد سافر لمسافات كبيرة ونقل العدوى عن غير قصد إلى أشخاص كثيرين.
من ثم سيكون هناك ضرورة لخط مكافحة ثان. كما شرحنا، يمكن تحديد تواريخ إصابة الضحايا ومتى يصيرون قادرين على نقل العدوى بدقة من تاريخ الوفاة. لا بد من التتبع الصارم لتنقلاتهم من اليوم الذي يصبحون فيه قادرين على العدوى، واقتفاء أثر كل الأشخاص الذين يحتمل أن يكونوا قد احتكوا بهم. ستكون هذه مهمة شاقة للغاية تقتضي تعاونا دوليا كاملا ونشطا. في أفضل الأحوال الممكنة، حيث لا تتنقل الضحية كثيرا إبان الفترة التي تكون فيها قادرة على نقل العدوى، ستتمكن تقنيات العزل الشامل من التغلب على موجة التفشي.
الاحتمال الأغلب أن الضحايا سيكونون قد انتقلوا عبر مساحات كبيرة، بل نقلوا العدوى إلى ركاب على متن رحلات الطيران الدولية القادمة من أفريقيا، ولربما استقلوا وسيلة مواصلات عامة مزدحمة، وحضروا مباريات رياضية، وتواجدوا وسط تجمعات أخرى. إن تعقب كافة الأشخاص الذين احتكوا بهم سيكون مستحيلا، وستكون هناك ضرورة عاجلة لتنفيذ عزل ومنع شاملين لكافة التحركات في أي منطقة من المناطق التي زاروها. ستكون السلطات الصحية في كل أنحاء العالم في حالة تأهب لموجات العدوى الثانية والثالثة؛ فنظرا لأنهم يعرفون صفات الفيروس، فإنهم سيتمكنون من تحديد التواريخ التقريبية للوقت الذي يتوقع ظهور الأعراض فيه. سيتعين تطبيق نفس التدابير - من عزل، وارتداء الأقنعة الطبية، واقتفاء أثر من تعرضوا للعدوى - تطبيقا صارما في كل مرة تظهر فيها حالة جديدة.
لا مناص من هروب الفيروس وانتشاره في كل حدب وصوب، موديا بحياة الكثيرين، لكن من المفترض أن تكون مكافحته والتغلب عليه ممكنين في النهاية، بالاستعانة بالتدابير السليمة. سيتمثل الهدف الأول في كبح معدل انتشاره في كل منطقة بدأ فيها. عندما يعزل الوباء بالكامل، فسيتعين إجراء عملية اجتثاث كبرى لأية جذور متبقية من خلال فرض حجر صحي مدته 40 يوما. ستكون المهمة هائلة، وسيقتضي الأمر توافر حشود من المسئولين المعنيين بالصحة للتصرف سريعا لاقتفاء أثر من تعرضوا للعدوى، ولتطبيق التدابير الضرورية. لكن لو تحلينا باليقظة وتصرفنا بسرعة وبحكمة، قد تنجو قارات بأكملها.
إذا لم يتم التغلب على الفيروس في هذه الموجة الثانية، فسيكون قد فات الأوان وسينتشر المرض في أنحاء المعمورة في آخر الأمر. (4) ثمن السلامة
ليس الإنسان وحده هو المعرض للأمراض الناشئة؛ ففي النصف الثاني من القرن العشرين، انمحى شجر الدردار كله تقريبا من إنجلترا بفعل مرض فطري انتقل إليه عن طريق خنافس صغيرة؛ مما ترتب عليه تغير وجه الريف بلا رجعة. قد تعاني قريبا بعض الأشجار الأخرى من مصير مماثل؛ فقد اكتشف مرض موت البلوط المفاجئ - ومرض فطري يقتل جنسي نباتات الرباطية والرودودندرون - في إنجلترا في مايو من عام 2002، ويمكن أن يترتب عليه مضاعفات كارثية. طبقت تدابير مكافحة صارمة، منها الاستعانة بفريق مكون من حوالي 100 مفتش في مجال الصحة النباتية. وكان هذا المرض قد دمر أعدادا كبيرة من شجر البلوط ذي لحاء الدباغة في كاليفورنيا الساحلية وجنوب أوريجون. وفي ديسمبر 2003، أطلقت حكومة المملكة المتحدة إنذارا جديدا لأن الفطريات وجدت للمرة الأولى في أشجار الزان والكستناء الحلو، والتنوب السيتكي، ودوجلاس التنوب، بالإضافة إلى الكاميليا، والكلمية، والليلك، والبيريس، ونبات الطقسوس المزروعة كنباتات زينة في مراكز الحدائق. يبدو أن المرض ينتقل إلى الأشجار من نباتات الرودودندرون المصابة، وكان يتعين غالبا تدمير رواب فسيحة من هذه الشجيرات.
أصابت الحمى القلاعية (داء القدم والفم) الأغنام والماشية في بريطانيا عام 2001، وانتشرت انتشارا هائلا ومرعبا، على الرغم من شن حملة عملاقة للتغلب على المرض ذبحت فيها آلاف من الحيوانات غير المصابة، ويعد ذلك أحد تدخلات الصحة العامة التي لا يمكن - لحسن الحظ - تطبيقها مع الإنسان عندما تظهر الأمراض الفتاكة التي تصيب البشر.
مرض اللسان الأزرق هو مرض فيروسي يصيب الأغنام، وتحمله بعوضة صغيرة ماصة للدماء. يترك المرض الحيوانات في حالة هزال شديد حتى إنها لا تقوى على الرؤية أو تناول الطعام أو الحركة، وتنفق سبعين بالمائة من القطعان المصابة، وتضاهي قدرته على الفتك قدرة الحمى القلاعية. عبر البعوض - المنتشر في شمال أفريقيا - البحر المتوسط ووصل إلى جنوب أوروبا عام 1998. أسفرت موجات تفشي الوباء في أنحاء إسبانيا وإيطاليا واليونان وبلغاريا عن نفوق ما يزيد عن نصف مليون من الأغنام. ذكر المتحدث الرسمي باسم معهد بحوث الصحة الحيوانية أنه يرى أن انتشار مرض اللسان الأزرق ربما يعود إلى التغير المناخي؛ فمع كل ارتفاع - ولو لدرجة واحدة مئوية في متوسط درجات الحرارة السنوية - تمد البعوضة مداها أكثر شمالا لمسافة 56 ميلا في المتوسط، بل الأمر الأكثر إنذارا بالسوء أن مدى البعوضة يتداخل الآن مع مدى نوع آخر من البعوض وثيق الصلة بهذا النوع الأول، الذي يستطيع أن يعيش في مناطق أبعد من الشمال؛ مما يثير احتمال وصول خطر المرض إلى مناخات أكثر برودة.
عودة إلى الإنسان، إن الطبيعة قادرة على تدمير البشرية أكثر تقريبا مما يستطيع أي هجوم إرهابي أو كارثة بيئية. تمثل الأمراض المعدية أكثر من 40٪ من عبء المرض العالمي، ويلقى الملايين حتفهم كل عام بفيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز، والسل، والملاريا، كذلك يلقى نحو 70 ألف فرد حتفهم سنويا في إنجلترا بالأمراض المعدية، والأمر المزعج أن 5000 فرد منهم تنتقل إليهم العدوى في المستشفيات.
تتعايش الفيروسات والبكتيريا مع الإنسان وتشاركه البيئة، إلا أن المشكلة لا تقف أبدا عند حد معين، ومن المتوقع أن تتفاقم بدرجة كبيرة. يسرد تقرير صدر مؤخرا عن رئيس الخدمات الطبية بالمملكة المتحدة، الأسباب وراء عدم إمكانية التنبؤ بانتشار الأمراض المعدية والتغلب عليها، وأسباب تزايد صعوبة التعامل معها:
زيادة التنقل بين أنحاء الكرة الأرضية، وقد عكس الاتجاه الجديد إلى السفر إلى أماكن أكثر غرابة، وازدهار سياحة المغامرات، اتجاها جديدا للإصابات بالأمراض المعدية، مثل أنواع الملاريا الأكثر حدة.
تأثير التكنولوجيا؛ فيمكن أن يكون لوسائل التكنولوجيا الحديثة آثار غير متوقعة على صحة الإنسان (على سبيل المثال، ثمة صلة مباشرة بين مكيف الهواء وداء الفيالقة).
التغير البيئي؛ فقد تفضي التغيرات المناخية المستقبلية إلى زيادة في بعض الأمراض التي تنتقل عن طريق المياه، بالإضافة إلى زيادة حالات التسمم الغذائي، التي ترتبط بالمناخ الأكثر دفئا في المملكة المتحدة وصارت أكثر انتشارا بالفعل.
قد تسهل التغيرات في أنماط السلوك البشري انتشار أحد الأوبئة. (على سبيل المثال، تعزى زيادة نسبة الأمراض التي تنتقل عن طريق العلاقات الجنسية مؤخرا - منها فيروس نقص المناعة البشرية - مباشرة إلى تغيرات في السلوكيات الجنسية.)
المتعضيات المقاومة للعقاقير؛ فيمكن للأمراض التي صارت تمثل خطرا بسيطا نسبيا على صحة الإنسان أن تعاود الظهور لأن العوامل المعنية تكون مقاومة للعقاقير التي صنعت لعلاجها. بكتيريا مرسا (أو المكورات العنقودية الذهبية المقاومة للميثيسيلين) هي جراثيم خارقة يمكنها أن تقاوم الكثير من المضادات الحيوية، ولطالما كانت تمثل مشكلة خطيرة في المستشفيات وبيوت الرعاية؛ حيث تصيب جروح المرضى الذين أوهنهم مرض أو إصابة. بل الأمر الأكثر إثارة للإزعاج، أنها هربت الآن من المستشفيات حيث تطورت، وأصبحت تكمن في الأنحاء المحيطة بنا. عند أخذ عينات عشوائية، عثر على البكتيريا على قلم في أحد بنوك الشوارع الرئيسية، وعلى مقعد في مترو الأنفاق، وعلى أحد أزرار شارة عبور المشاة، وعلى أرضية متجر بيع ملابس.
يبدو الآن أن سلالة جديدة من سلالات مرسا آخذة في البزوغ، وهي تنتقل عبر الاتصال الجلدي، بل يمكنها أن تصيب حتى الأصحاء، وهي تنتشر كالنار في الهشيم داخل الزنازين المكتظة بالأفراد، وقد كان هناك أيضا العديد من موجات التفشي ضيقة النطاق مؤخرا في مدن وبلدان في أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية. معظم المصابين يكونون من الذكور المثليين، لكن قطعا لا تنحصر جراثيم مرسا الخارقة في هذه الفئة فقط؛ فقد سقط رياضيون، وأطفال مدارس، وحديثو ولادة ضحايا أيضا، وأولئك الذين يمارسون رياضات تقتضي التلامس في خطر أيضا؛ ففي ولاية تكساس في سبتمبر عام 2002، على سبيل المثال، ظهرت 50 حالة بين أطفال المدارس في باسادينا، بعضهم كانوا مشتركين في فريق كرة القدم.
انتقلت جراثيم مرسا الخارقة إلى الحيوانات المستأنسة؛ مما أثار المخاوف من أن تصيب أصحاب هذه الحيوانات، وقد تأكد ظهور حالات بين القطط والكلاب وفئران التجارب والخيول في الولايات المتحدة الأمريكية. وذكر تقرير صادر في ديسمبر 2003 رصد حالات في القطط والكلاب وأرنب واحد في المملكة المتحدة.
تستطيع الميكروبات الموجودة أن تتحور إلى أشكال أكثر خبثا. على سبيل المثال، ثمة خطر دائم من ظهور جائحة إنفلونزا فتاكة أخرى مثل تلك التي ظهرت عام 1918 بسبب ظهور سلالة جديدة.
يوضح التقرير أن أنماط السلوك البشري اليوم تحول الأمراض المعدية إلى خطر عالمي، ليس فقط على صحة السكان، وبقائهم على قيد الحياة، ورفاهتهم، وإنما أيضا على اقتصادات كثير من البلدان، بل على الاستقرار والأمن الاجتماعيين وفي بعض الأجزاء من العالم. يتخفى حجم الخطر تحت قناع حقيقة أن هذه التغيرات تحدث تدريجيا. على ما يبدو، لا يزال معظم الناس على قناعة بأن الإجراءات المعتادة لمكافحة الأمراض المعدية ستكون قادرة على مواكبة التغيير. الأمر المذهل هو اكتشاف حوالي 400 مرض يمكنها أن تنتقل من الحيوان إلى الإنسان، لكن العمل الصبور والدقيق الذي يقوم به علماء الأوبئة والأحياء الدقيقة يشير إلى أنه يمكننا الآن أن نتعامل معها وأن ننعم بنوم هادئ ليلا.
بيد أن الخطر الأكثر جسامة يتمثل في انبثاق أمراض فيروسية جديدة ومريعة من الحيوانات. لقد ظهر فعليا منذ عام 1970 على الأقل 30 مرضا معديا لم تكن معروفة قبلا وليس لها علاج فعال تماما. ويفوق عدد هذه الأمراض الأمراض التي ظهرت في خلال الثلاثة الآلاف عام السابقة، وإن كانت التطورات الحديثة في الطب وعلم الأحياء قد سهلت بالطبع التعرف عليها. في الغالب نشأت أمراض كثيرة - بما فيها الطاعون النزفي - في أوقات مختلفة في حيوانات أفريقية لتصيب قرى وقبائل صغيرة؛ مما أسفر عن حالات وفاة غامضة لم يأت أحد على ذكرها، وبعدها صارت في طي النسيان. بالتأكيد كان هذا هو الحال قبل عهد الطبيب ليفنجستون.
ظهر مرض غير معروف في قرية أفغانية في مارس 2002، وأودى بحياة 40 شخصا. والسبب الحقيقي للذعر هو حتمية ظهور المزيد من الأمراض الفتاكة في السنوات المقبلة. ها هنا تكمن المشكلة: فبمقدورنا مكافحة حتى الأمراض شديدة البشاعة، مثل الإيبولا والنسخة الجديدة من سلالة مرض كروتزفيلد جاكوب، والتعامل معها، وإن كانت حمى غرب النيل والحمى النزفية لا تزالان تثيران بعض المخاوف ويجري ترصدهما بحذر شديد، لكن مثال فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز ينتصب بارزا أمام أعيننا؛ فهذا الفيروس ظهر وهرب وانتشر في أنحاء العالم قبل أن يتم التعرف عليه بالكامل، وحتى بعدما تم التعرف عليه، أبى الأفراد فرض التدابير اللازمة للفحص والمكافحة الجماعيين. على سبيل المثال، عولت السلطات الصحية في بريطانيا على حملة دعائية. واليوم يدفع العالم الثمن؛ فلسوف يفقد 42 مليون طفل في 27 دولة أحد والديهم أو كليهما بالإيدز بحلول عام 2010، مع أنه مرض لا ينتقل بسهولة، فالعدوى الرذاذية أكثر فاعلية بدرجة هائلة.
من المستبعد أن يتم القضاء على فيروس نقص المناعة البشرية تماما الآن؛ فلسوف يواصل الانتشار ببطء وإزهاق أرواح الأفراد على نحو متزايد باستمرار. بيد أن سكان العالم يواصلون النمو بمعدل أسرع، ووفيات فيروس نقص المناعة البشرية تافهة مقارنة بالوفيات المترتبة على ضربة مفاجئة من مرض جديد شديد العدوى مثل الموت الأسود. (5) حالة فزع
حتى الأوبئة التافهة بمقدورها أن تثير حالة هلع واسعة النطاق، تعقبها مضاعفات دولية، إذا كانت موجة التفشي لمرض مجهول. ظهر فيروس رئوي مجهول في إقليم جوانجدونج في جنوب الصين في ديسمبر 2002، وبعدها بشهرين، كانت حالة من الهلع قد انتشرت على نطاق واسع، ووصلت إلى شنغهاي، التي تبعد مسافة يوم سفر بالقطار. اجتاح ملايين الصينيين الصيدليات والمتاجر لشراء المضادات الحيوية ومضادات الالتهاب والخل والأقنعة الجراحية بكميات ضخمة، ونفد كل مخزون هذه الأشياء بالرغم من ارتفاع أسعارها.
أثر الهلع على أسواق الأوراق المالية الإقليمية، وأدى إلى ارتفاع أسهم شركات الأدوية، ولم يتفوق عليها سوى مصنعي الخل. كان كثير من الصينيين يعتقدون أنه إذا غلي وعاء من الخل حتى يتبخر، فإن البخار سيكون مطهرا فعالا لمكافحة المرض. أبلغ عن وقوع 4 حالات وفاة أخرى نتيجة غلي الخل فوق مواقد تعمل بحرق الفحم مما أدى إلى انبعاث أبخرة قاتلة.
كل هذا الهلع نتج عن وجود 300 حالة مصابة بالالتهاب الرئوي في المستشفى - ثلثهم أطباء وممرضون، وعاملون آخرون بمجال الصحة - عن طريق الفيروس. إلا أن 5 أفراد فقط لقوا حتفهم بحلول فبراير 2003.
بالرغم من أن هوية الشيء الذي اعتقد أنه فيروس لم تكن معروفة، فإن أحد العاملين بمركز إقليمي للوقاية من الأمراض المعدية ومكافحتها أعلن أن: «المرض تحت السيطرة، ونولي أولويتنا الآن لاكتشاف سببه. لم ندرك في البداية أنه وباء خطير ؛ ومن ثم لم نتعامل معه بجدية.»
ناشدت حكومات المنطقتين الإداريتين ماكاو وهونج كونج السكان أن يلتزموا بضبط النفس، إلا أنهم كانوا أكثر دراية من غيرهم بأن جنوب الصين قد ضرب بفيروسات جديدة فتاكة مرارا وتكرارا في السنوات الأخيرة.
لربما استفحلت موجة التفشي في إقليم جوانجدونج لتصبح وباء صغيرا هو سارس. نروي في النقاط التالية قصة سارس الآخذة في التكشف شيئا فشيئا: «26 فبراير 2003»: سافر رجل أعمال صيني أمريكي جوا إلى هانوي بفيتنام بعد قضاء وقت في شنغهاي وهونج كونج. مرض الرجل بعد ذلك بيومين، وفي السادس من مارس نقل إلى المستشفى حيث تدهورت حالته، ومات في الثالث عشر من مارس، فترك وراءه في فيتنام نوبة تفش لنوع فتاك من الالتهاب الرئوي أصبح معروفا باسم المتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة (سارس)، وقد نقل العدوى إلى العاملين بالمستشفى الفرنسي بهانوي حيث تلقى العلاج. «5 مارس»: في تورنتو توفيت العجوز سوي تشو كوان، وتبعها ابنها كاي واي تسي البالغ من العمر 44 عاما في اليوم التالي، وقد كانا في زيارة إلى هونج كونج. أصيب أيضا 4 من الأقرباء وشخص وطيد العلاقة بالعائلة. وأبلغ عن وقوع ضحيتين في كولومبيا البريطانية لنفس المرض الغامض. «6 مارس»: وصول المرض إلى سنغافورة، حيث أبلغ عن ظهور الأعراض على ثلاثة أشخاص كانوا في زيارة لهونج كونج. بحلول السادس عشر من مارس، كان قد دخل إلى المستشفى 10 من أقاربهم وأصدقائهم و7 أفراد من العاملين بالرعاية الصحية، الذين كانوا قد تولوا رعايتهم، بنفس المرض.
لم يكن هناك علاج لأن الأطباء لم يكونوا قد عرفوا حتى تلك اللحظة ما إذا كان المرض بكتيريا أم فيروسيا. لقد استنتجوا أن المرض ينتقل من شخص إلى آخر وأن فترة حضانته قصيرة تتراوح ما بين يومين إلى سبعة أيام. وعادة ما تتضمن أعراضه ارتفاعا في درجة الحرارة أكثر من 38 درجة مئوية، مصحوبا بمشاكل تنفسية مثل السعال أو قصر النفس أو صعوبات في التنفس أو آلام العضلات. قد تتضمن الأعراض الأخرى الصداع وتيبس العضلات وفقدان الشهية وتوعك اضطراب ذهني وطفحا جلديا وإسهالا. «10 مارس »: في تايبيه، مرض ثلاثة أشخاص، منهم سيدة في الرابعة والستين من العمر كانت قد وصلت إلى ديارها عن طريق هونج كونج بعد زيارة بر الصين الرئيسي. كان هناك شعور بالحساسية في هونج كونج جراء اعتبار أنها مصدر المرض لأن هذا قد يطيح بقطاعها السياحي. جرد المتسوقون في هونج كونج - تلك المستعمرة البريطانية السابقة - الصيدليات من الأقنعة الجراحية ومن الأدوية التقليدية لعلاج الإنفلونزا الصينية، حيث احتجز 42 شخصا، منهم كثيرون من العاملين بمجال الصحة، بالمستشفى. أخليت ثلاثة عنابر، واضطرت عيادة متخصصة في علاج أمراض القلب إلى تخفيض خدماتها، وألغيت العمليات الجراحية غير العاجلة، كل هذا من أجل توفير أسرة العناية المركزة. بعدها بثمانية أيام ارتفع إجمالي عدد الأفراد الذين سقطوا مرضى في هونج كونج - الذين كان معظمهم من القائمين على الرعاية الطبية - إلى 100 فرد. «15 مارس»: وصل المرض إلى أوروبا عندما مرض طبيب كان عائدا من مؤتمر في نيويورك إلى دياره على متن طائرة قبل توقف طائرته مؤقتا بفرانكفورت بألمانيا. وكان هذا الطبيب قد عالج بعض الضحايا في سنغافورة. اتخذت السلطات الألمانية إجراء حكيما غير مسبوق بإخضاع ركاب الطائرة لحجر صحي معظم يوم السبت قبل إطلاق سراحهم لمواصلة رحلاتهم. «18 مارس»: استقبل المستشفى رجلا كان قد سافر من هونج كونج إلى مانشستر بالمملكة المتحدة للاشتباه في إصابته بسارس، وهي أول حالة في بريطانيا. أطلقت منظمة الصحة العالمية إنذارا بشأن انتشار المرض، واصفة إياه ب «خطر عالمي على الصحة»، ونصحت المسافرين من الصين وهونج كونج وجنوب شرق آسيا الذين ظهرت عليهم أعراض المرض الاتصال بالخدمات الصحية المحلية لبلادهم. «19 مارس»: جرى تشخيص المرض مبدئيا على أنه ينتمي إلى عائلة الفيروسات المخاطية، لكن بعدها بستة أيام تغير التشخيص إلى نوع جديد من الفيروسات التاجية (كورونا). حتى ذلك الحين، كانت نزلة البرد هي المرض البشري الوحيد المعروف أنه يحدث بسبب فيروس تاجي. «1 أبريل»: أشارت صحيفة ذا تايمز إلى أن انتشار سارس قد لا يمكن ردعه الآن. وذكر المحللون أن اقتصاد الشرق الأقصى يمكن أن يكون الضحية التالية للفيروس ؛ فالسياحة انهارت وتصدع النشاط التجاري تصدعا عميقا. «2 أبريل»: طبقت المصارف حول العالم إجراءات طوارئ في محاولة لمنع موظفيها من الاتصال بسارس. أخضع بنك يو بي إس - بنك سويسري يعمل لديه آلاف الموظفين في مدينة لندن - موظفيه العائدين من المناطق المنكوبة لظروف حجر صحي؛ إذ طلب منهم المكوث في المنزل لمدة 10 أيام. منع بنك ستاندرد تشارترد - واحد من أكبر البنوك الاستثمارية في هونج كونج - موظفيه من السفر من وإلى الشرق الأقصى. «3 أبريل»: تصدر صحيفة الديلي ميل العنوان التالي: «أيمكن أن يكون هذا إنذارا مبكرا بشيء أكثر فتكا؟»
نقلت هونج كونج أكثر من 200 مقيم في المجمع السكني أموي جاردنز بمنطقة كولون إلى معسكرات العزل بعد تفشي سارس؛ لأن منظمة الصحة العالمية أعلنت أن «إفرازات الجسم» التي تحتوي على الفيروس قد تتسلل بطريقة ما إلى الأنظمة المشتركة التي تربط الغرف أو الوحدات السكنية.
وعلى متن رحلة متجهة من هونج كونج إلى بكين، انتقل المرض إلى 22 شخصا من مصاب واحد فحسب. «4 أبريل»: خفضت شركة الخطوط الجوية الأسترالية كانتاس رحلاتها الجوية بمعدل رحلة واحدة من كل خمس رحلات بسبب انخفاض الحجوزات؛ نظرا لامتناع العملاء عن السفر بالطائرات في أعقاب تفشي سارس. أعلنت الخطوط الجوية البريطانية أيضا انخفاض أعداد المسافرين بنسبة 11 بالمائة بسبب الوباء، وتوقع الاتحاد الدولي للنقل الجوي أن الخطوط الجوية يمكن أن تواجه خسائر مذهلة بنسبة 6,5 مليارات جنيه إسترليني. «7 أبريل»: توقع خبراء وول ستريت أن نوبة تفشي سارس يمكنها أن تسفر عن كساد عالمي؛ ومن ثم تدفع الاقتصاد العالمي إلى الركود. «15 أبريل»: أفاد العلماء بأن ثمة حيوانات كثيرة يمكنها أن تقوم بدور العائل لسارس؛ مما يزيد احتمالات أن المرض كان متواريا عن الأنظار في مكان ما، وقد توقعوا بقاء المرض في آسيا.
على الرغم من خطورة موجة التفشي تلك، فإنها كانت وباء صغيرا فحسب؛ فقد كانت القدرة على نقل العدوى منخفضة، ولم يتوف من الضحايا سوى 4 بالمائة، كما يوضح الجدول الآتي. وهذه موجة صغيرة مقارنة بموجات تفشي الموت الأسود في حال إذا ما عاود الظهور.
عدد الحالات
الوفيات
أستراليا
1
0
بلجيكا
1
0
البرازيل
1
0
كندا
69
0
الصين
1220
49
هونج كونج
800
20
تايوان
15
0
فرنسا
3
0
ألمانيا
5
0
إيرلندا
1
0
إيطاليا
3
0
رومانيا
1
0
سنغافورة
100
5
إسبانيا
1
0
سويسرا
2
0
تايلاند
7
2
المملكة المتحدة
3
0
الولايات المتحدة
100
0
فيتنام
59
4
الإجمالي
2392
87
فيما استمر الوباء جنوبي شرق آسيا، تمت السيطرة على المرض عن طريق اتخاذ تدابير الصحة العامة السليمة في أماكن أخرى من العالم التي ظهر المرض فيها، من خلال المسافرين جوا. حدد العلماء تدريجيا بعضا من خواص المرض. تتراوح فترة حضانة المرض ما بين يومين إلى عشرة أيام، ولا يكون الأفراد قادرين على نقل العدوى أثناء تلك الفترة على الأرجح - على خلاف الطاعون النزفي - من ثم من المفترض أنه يسهل التغلب على سارس من خلال العزل الفوري للحالات المصابة.
ينتقل المرض أيضا عن طريق الرذاذ وليس الهباء الجوي، ويبدو أن انتقال العدوى يتطلب اتصالا أقرب كثيرا بسوائل وإفرازات الجسم. قد ينتقل الفيروس إليك بمجرد لمس سطح طاولة أو زر مصعد أو مقبض باب ملوثين، ويمكن أن ينتقل عبر مواسير المجاري أو الهواء بداخل طائرة. بيد أن وكالة حماية الصحة بلندن صرحت أنه إذا كان سارس ينتقل عن طريق الهباء الجوي، لتراوح عدد المصابين ما بين 10-100 مرة أمثال المصابين الفعليين.
سلط وباء سارس الصغير الضوء على العديد من التحذيرات الهامة. أولها: أن أمراضا جديدة آخذة في الظهور طوال الوقت، وعلى السلطات الصحية في أنحاء العالم أن تكون في حالة يقظة مستمرة. يعتقد أن فيروس سارس ظهر أول ما ظهر في حيوان شبيه بالقط يطلق عليه زباد النخيل المقنع، ثم اخترق الحاجز النوعي ليصيب الإنسان. يعتبر لحم الزباد لحما شهيا في إقليم جوانجدونج.
ثانيا: أن أي مرض جديد يمكنه أن ينتشر سريعا إلى جميع أرجاء الكرة الأرضية عن طريق السفر جوا.
ثالثا: دائما ما يثير أي وباء حالة فزع؛ لأنه في هذه المرحلة، يكون كل من العامل المعدي والعواقب مجهولين، ولهذا الوضع عواقب وخيمة، مثل التوقعات بتكبد الخطوط الجوية الدولية خسائر هائلة، والإشارة إلى احتمال انهيار الاقتصاد العالمي.
أخيرا: لا بد من اتخاذ إجراء فوري بمجرد اكتشاف موجة التفشي. يشير تقرير في «دورية الجمعية الطبية الأمريكية» إلى أنه سرعان ما أمكن السيطرة على وباء سارس في بكين بمجرد أن توقفت السلطات الصينية عن التكتم على وجوده، ففي خلال ستة أسابيع فقط، تراجع الوباء بحيث لم تعد هناك حالات إصابة جديدة على الإطلاق بعد أن كان المستشفى يستقبل كل يوم 100 حالة جديدة في ذروة الوباء. (6) هل تعلمنا الدرس؟
بصفة عامة، تدرك السلطات الصحية في كل أنحاء العالم جيدا مخاطر الأمراض الناشئة، وثمة فرق دولية في حالة تأهب للتعامل مع أي موجة تفشي يبلغ عنها، لكن هل تعلمنا الدروس المستفادة من فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز؟ فلو حدث وظهر مرض له شراسة وقدرة على الفتك تضاهيان تلكما اللتين كانتا للموت الأسود، حينها لن تكون مجرد حماقة من الحكومة أن تحذر منه بحملات دعائية، وإنما سيكون هذا أمرا كارثيا، وكذلك إذا فكر أي شخص قائلا: «مستحيل أن يحدث هذا في بلدي.» حالما يتم التعرف على طرق انتقال العدوى وتحديد طبيعة المرض، فسيتعين في الحال اتخاذ تدابير مكافحة وسلامة صارمتين. يكمن السر في تحديد فترتي الحضانة وانتقال العدوى. وبالطبع ينبغي أن تتوافر المساعدة والتعاون الدوليان الكاملان؛ إذ لا بد أن تعمل فرق من علماء الأوبئة والأحياء الدقيقة بلا انقطاع على مدار الساعة لتحديد خصائص المرض الجديد، حتى يمكن التنبؤ بانتشار الوباء وعواقبه، وبناء على ذلك تتخذ التدابير المناسبة.
كما هو الحال دائما، فثمن السلامة هو اليقظة الأبدية.
الفصل العشرون
هل هناك ما هو أبشع من الموت الأسود؟
نعلم أن القوى العظمى في العالم لطالما عملت في الخفاء لعقود عديدة على ابتكار الأسلحة البيولوجية. كان تطوير هذه التكنولوجيا الضرورية هو نتيجة حتمية للاكتشاف الذي حدث عام 1953 بشأن الكيفية التي يحكم بها الدي إن إيه الوراثة ويتحكم في آلية عمل كافة الكائنات الحية، بدءا من الميكروبات ووصولا إلى الإنسان. أنفقت الحكومات كما هائلا من الوقت والمال في سبيل ابتكار طرق لمهاجمة الأفراد في مجموعات وقتلهم من خلال إطلاق كائنات حية فتاكة أو سمومها، وكذلك في سبيل إعداد وسائل للتصدي لمثل هذه الهجمات.
إن الحرب الجرثومية هي بديل القنبلة النووية الرخيص؛ لأن الأسلحة النووية باهظة التكلفة وصعبة النقل وسهلة الرصد. توضح مقاومة صدام حسين لوقف برنامج الأسلحة البيولوجية الخاص بالعراق، الذي كبده الحرمان من وضع يده على مليارات الدولارات من عوائد النفط، توضح الأهمية التي عقدها على هذه الطريقة في الهجوم. وقد تلجأ أي منظمة إرهابية - إلا إذا كانت مدعومة من قوة عظمى يمكن أن تمدها بالأسلحة النووية وسبل نقلها - إلى الحرب الجرثومية، وبمقدور أي عالم أحياء دقيقة محنك بسهولة أن يعلم مثل هذه الجماعة من المتطرفين كيفية صنع أسلحة بيولوجية فتاكة، «باستخدام القليل من قاذورات فناء المنزل الخلفي، وبعض معدات المعامل المتوافرة في كل مكان» (مقتبسة من كتاب «الجراثيم: السلاح الأخير»، انظر الآتي).
في نظر الإرهابي، ثمة ميزة إضافية للأسلحة البيولوجية متمثلة في غموض عواقبها، فبمجرد انفجار قنبلة تقليدية، يمكن تحديد حجم الدمار الذي ألحقته وعدد الوفيات الذي أسفرت عنه، لكن في حال وقوع هجمة بيولوجية، فلن تستطيع السلطات الصحية أن تعرف طبيعة الضربة ولا حجمها، ولن تستطيع التنبؤ بالتطورات المستقبلية أو عدد الوفيات النهائي. كل ما يمكنها فعله هو الاستعداد للسيناريو الأسوأ، الذي قد يكون استجابة مبالغا فيها لهجمة صغيرة. (1) الإرهابيون البيولوجيون الأوائل
إن تاريخ الحروب البيولوجية طويل وغير مبتكر. إن قصة العهد القديم المذكورة في سفر الخروج في الإصحاح التاسع والعددين 8 و9 التي ينصح فيها الرب موسى أن يذر الرماد أمام فرعون تعد مثالا على حرب جرثومية ووصفا لموجة تفشي الجمرة الخبيثة؛ إذ لا بد أن الغبار قد تحول إلى هباء جوي من بكتيريا العصيات لأنها صارت «دمامل متقيحة على كل من الإنسان والحيوان.»
في القرن السادس قبل الميلادي لوث الآشوريون آبار أعدائهم بمهماز الشيلم (فطر الإرجوت)، وهو نوع من المرض الفطري. واستخدم حكيم أثينا سولون عشب الخربق في تسميم موارد مياه أهل مدينة كريسا.
منذ ما يزيد عن ألفي عام، غمس رماة السهام السكوثيون رءوس سهامهم في روث الحيوانات والجثث المتعفنة لرفع قدرة أسلحتهم على الإماتة. وكما رأينا قبلا، قذف جثث ضحايا الطاعون من فوق جدران المدينة على أمل نقل العدوى إلى العدو إبان طاعون أثينا وحصار كافا.
وبات الجدري طريقة لإخضاع القبائل الهندية في أمريكا الشمالية. في إحدى المرات، إبان الحرب الفرنسية والهندية في كندا، قيل إن السير جيفري أمهيرست أهدى زعماء القبيلة أغطية ملوثة بقشور الجدري؛ مما نقل العدوى إلى السكان وسهل الزحف البريطاني. استخدم البريطانيون أيضا أغطية ملوثة بالجدري لنقل العدوى إلى أفراد قبيلة في معقل فورت بيت على حدود بنسلفانيا عام 1763.
كل هذا عاد ليطاردنا. جريج بورلاند، زعيم قبيلة تشايين ريفر سيوكس بجنوب ولاية داكوتا، سليل امرأة من الأمريكيين الأصليين لقيت حتفها جراء الإصابة بالجدري، وكانت تدعى بلو إيرنجز. وهو يزعم أنه، على عكس الأوروبيين، لم يكون السكان الأصليون لأمريكا الشمالية مناعة ضد المرض، ويطالب بتطعيم جماعي لأبناء قبيلته تحسبا لوقوع هجوم بيولوجي.
في عام 1797، نقل نابليون إلى أهل مدينة مانتوفا عدوى حمى المستنقعات. وثمة روايات عن جنود قاموا إبان الحرب الأهلية الأمريكية بتسميم موارد المياه عن طريق الإلقاء عمدا بجيف الحيوانات في برك المياه. (2) كابوس وقتنا الحاضر
تظهر هذه الجهود البدائية في الحروب الجرثومية وكأنها لا شيء مقارنة بطرق اليوم. يصف كل من جوديث ميلر وستيفن إنجلبرج وويليام برود في كتابهم «الجراثيم: السلاح الأخير»، كيف أن الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي قد كرسا إبان الحرب الباردة أموالا طائلة وعمالة بشرية هائلة من أجل تطوير أسلحة بيولوجية؛ فمع مطلع ثمانينيات القرن العشرين، كان البنتاجون ينفق في الخفاء 91 مليون دولار سنويا على ما يطلق عليه الدفاع البيولوجي. وكان إرث هذا السباق في تطوير الأسلحة السرية نفعا غير متوقع لصالح الإرهابيين.
وقعت كافة الأمم معاهدة عام 1972 تحرم تصنيع الأسلحة البيولوجية، لكن في صدام مباشر مع جوهر المعاهدة، قرر السوفييت سرا توسيع برنامجهم ليصبح على مستوى صناعي هائل. قدم ميلر وإنجلبرج وبرود قدرات إنتاج الجراثيم الصناعية المذهلة الآتية (بالأطنان المترية للعام الواحد) عند أعلى مستوياتها:
الولايات المتحدة الأمريكية
الاتحاد السوفييتي
الجمرة الخبيثة
0,9
4500
فيروس التهاب الدماغ الخيلي الفنزويلي
0,8
150
اليرسينية الطاعونية
0
1500
فيروس الجدري
0
100
فيروس ماربورج
0
250
ترتبت على الحرب الباردة عاقبتان في غاية السوء؛ أولهما: مخزون من الجراثيم لا يمكن تخيله بمعنى الكلمة، وثانيهما: عدد كبير من العلماء المدربين القادرين على إنتاج ميكروبات وتعديلها على حسب الطلب. كان من ضمن المشاريع العمل على جعل اكتشاف الهجوم البيولوجي أكثر صعوبة، وعلى تمكين الجراثيم من التغلب على اللقاحات.
كان كل من المخزون الهائل من الجراثيم والعلماء متاحين لأن تشتريهما البلدان المعادية والجماعات الإرهابية. وحتى عام 1989 كان أمن الولايات المتحدة الأمريكية متساهلا للغاية، لدرجة أن إحدى الشركات كانت تبيع سلالات من الجمرة الخبيثة للعراق عن طريق الطلب بالبريد. وفي تدريب أمني أجري مؤخرا، تمكن فريق من العملاء الأمريكيين من إنشاء معمل حرب جرثومية فعلي بتكلفة مليون دولار فقط دون أن تعرف وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية بما كانوا يفعلون. وفي أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، اكتشف أن علماء سابقين من السوفييت ساعدوا العراق في حيازة مخزون من بكتيريا الكلوستريديوم (المطثية) والبوتولينيوم (الوشيقية) والجمرة الخبيثة.
هاجمت طائفة أوم شنريكيو مترو أنفاق طوكيو عام 1995 بعبوة غاز الأعصاب سارين؛ مما أسفر عن مقتل 11 شخصا وإصابة 5500 آخرين. عثر المحققون بعدها على معمل أبحاث للأسلحة البيولوجية في مجمع الطائفة، وكان أتباعها قد حاولوا بالفعل إطلاق سم الجمرة الخبيثة والبوتولينيوم على السكان، ولكن المحاولة باءت بالفشل من حسن الحظ. وكان أعضاء من هذه الطائفة قد زاروا زائير إبان موجة تفشي وباء الإيبولا عام 1992، في محاولة للحصول على عينات من الفيروس من أجل استزراعه وتصنيع الأسلحة. بل اكتشف المحققون أنه كان هناك تخطيط لهجوم أكثر خطورة باستخدام أجهزة من شأنها أن تضخ عوامل بيولوجية وكيميائية في شوارع طوكيو.
إن أبحاث الحروب الجرثومية، ونشاط الإرهاب البيولوجي العارض، والتخطيط المحتمل لمكافحة مخاطر إطلاق عمدي لعامل بيولوجي، تجري في المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية منذ عقود عديدة دون أن تجذب قدرا كبيرا من اهتمام العامة، إلا أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 بدلت كل هذا، وبينت للجميع حقيقة الموقف. إن كون الولايات المتحدة الأمريكية الأمة العظمى الوحيدة في العالم جعل الهجوم البيولوجي هناك أكثر احتمالا، كما أن الثورة التكنولوجية في القرن العشرين (بما اشتملت عليه من بناء ناطحات سحاب ضخمة) والكثافة المرتفعة للأشخاص المتدفقين باستمرار إلى المدن زادتا من ضعف المجتمع الحديث إلى أقصى حد.
أخيرا استجاب العالم الغربي سريعا، وبات يتفهم الآن أن خطر شن هجوم بيولوجي على السكان المدنيين هو خطر قائم ومستمر. قدر تحليل أجري عام 1997 أنه في بعض السيناريوهات المحتملة للهجوم ستصل نسبة التأثر الاقتصادي إلى 26 مليار دولار عن كل 100 ألف شخص يتعرض للجمرة الخبيثة، وقد كان خطر الأسلحة البيولوجية كافيا بما يكفل تصنيع مخزون مدني غير مسبوق من الأدوية واللقاحات.
أعلن الرئيس الأمريكي بوش تخصيص 11 مليار دولار كنفقات جديدة في ميزانية الصحة للسنة المالية 2003 لمكافحة الإرهاب البيولوجي، وينوي الجيش الألماني مضاعفة استثماره في مجال أبحاث الوقاية من الأسلحة البيولوجية ثلاث مرات، إلا أن رئيس معهد روبرت كوخ الأستاذ راينهارد كورت يرى أنه ينبغي وضع برامج التطعيم المدنية بمعزل عما يقوم به الجيش؛ ومن ثم بناء مصد من الأفراد المطعمين في حال وقوع وباء محلي، ويخلص إلى الآتي:
في رأيي، وهو الرأي العام للخبراء في هذا المجال، أن الخطر المحتمل للأسلحة البيولوجية أشد فتكا من خطر الأسلحة الكيماوية والذرية.
في يناير 2002، أعلن رئيس الخدمات الطبية عن خطط إنشاء هيئة وقاية جديدة تتمتع بصلاحيات واسعة لتسيير خدمات مكافحة العدوى والتغلب عليها، بما فيها الأمراض الناشئة في المستقبل (التي تعتبر حتمية الحدوث) وتلك الأمراض التي يصنعها الإرهابيون. ويرغب مدير «المعهد الوطني لأمراض الحساسية والأمراض المعدية» أنطوني فوتشي «في إدراج الإرهاب البيولوجي تحت مظلة الأمراض المعدية الناشئة وتلك التي تعاود الظهور.»
بيد أن مادلين دريكسلر تقول في كتابها «العملاء السريون: خطر الأمراض المعدية الناشئة»: إننا لا يجدر بنا أن نستهين بالطبيعة الأم التي ربما تكون أكثر الإرهابيين البيولوجيين وحشية على الإطلاق. فأيا كان هو العامل المعدي، بما في ذلك بعض التهديدات الميكروبية الجديدة التي لم نكتشفها بعد، فالخلاصة هي أن المراقبة الدقيقة والاستجابة السريعة هما السلاح الوحيد في ترسانتنا. (3) عملية يوم الدينونة
ثارت رؤية مرعبة لبريطانيا وهي معرضة لهجوم إرهابي في فبراير 2003 عندما كشفت الحكومة البريطانية النقاب عن أكبر عملية تغيير لتدابير التخطيط للكوارث منذ الحرب الباردة؛ فقد أوضحت بتفاصيل مرعبة كيف أن خدمات الطوارئ سوف تطهر أولئك الذين تعرضوا لهجمة كيميائية أو بيولوجية أو نووية.
تنطوي هذه الخطط التي تتحسب ليوم هلاك كهذا أن يقوم طاقم مكافحة حرائق متخصص - يرتدي أفراده ملابس واقية - بتشغيل وحدات التطهير الجماعية التي فيها يجرد الناجون من ملابسهم ثم يتعرضون لحمامات مياه دافئة لإزالة آثار المواد الخطيرة بمعدل 15 ثانية لكل شخص. وسوف تصادر منهم ساعاتهم ونظاراتهم والوسائل السماعية الخاصة بهم، وعندئذ يرتدي الضحايا أثوابا بيضاء ثم يرسلون إلى محطات تطهير المصابين.
رصد مبلغ 56 مليون جنيه إسترليني لمعدات التطهير والمراقبة الجماعية، وتضاعف عدد البدلات الواقية المانعة لتسرب الغاز إلى 4000 بدلة، ولسوف تخصص أطواق من أفراد الشرطة بالإضافة إلى قوات عسكرية مسلحة احتياطية لدرء حالة الفزع الحتمية وضمان تطهير المصابين قبل علاجهم. (4) الحرب الجرثومية
جرى تحديد حوالي 25 ميكروبا أو سما بكتيريا باعتبارها أسلحة بيولوجية محتملة. وتعتبر الجمرة الخبيثة والجدري والطاعون الدبلي والحمى النزفية الفيروسية أخطر هذه التهديدات؛ إما لأنها سهلة الانتشار، أو لأنها تنتقل من إنسان إلى آخر، أو لأنها تؤدي إلى معدل وفيات كبير، أو لأنها قد تثير ذعرا واضطرابا اجتماعيا على نطاق واسع. ذكر مركز مكافحة الأمراض واتقائها أن منها الحمى النزفية الفيروسية باعتبارها تمثل أكبر خطر - وهي نقطة في غاية الأهمية في بحثنا - إذا ما استخدمت كسلاح بيولوجي لما تتمتع به من قدرة على الانتقال عن طريق الهباء الجوي وارتفاع معدل وفياتها. إن تصنيع العوامل المسببة لهذه الأمراض يحدث بسهولة الآن، إلا أن إنتاجها في صورة تمكن من إرسالها بسهولة ومن إلحاق الضرر بأعداد كبيرة من البشر، يكون أكثر صعوبة من الناحية الفنية في الوقت الراهن. (5) الخوف من الجمرة الخبيثة
إذن ماذا حدث في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، وبدل تماما تفكير الجميع وتقييمهم لاحتمال وقوع هجمة إرهابية بيولوجية، وأدى إلى إعادة تخصيص مبالغ مالية ضخمة لهذا الغرض؟ السلاح الذي استخدم في هذه الواقعة هو أبواغ الجمرة الخبيثة التي أرسلت عبر البريد إلى الولايات المتحدة؛ مما أسفر عن خمس حالات وفاة، صاحبها اضطراب كبير وذعر بين صفوف العامة.
وإلى جانب الخوف من هجوم بريدي آخر، أشار الخبراء إلى أن الأبواغ الصغيرة التي يحملها الهواء يمكن إقحامها في نظم تكييف الهواء في التجمعات السكنية أو في مناطق التسوق وفي المباني الحكومية مثل البيت الأبيض أو مقر البرلمان الأمريكي الكابيتول. هجمة مثل هذه من شأنها أن تودي بحياة الآلاف من البشر، بل أن تثير نوبة ذعر جماعية في أنحاء أمريكا كذلك.
قارن باتريك كيلي - مدير أنظمة المراقبة والاستجابة للأمراض المعدية الناشئة على مستوى العالم التابع للبنتاجون - هذه الهجمة بنتائج فيروس نقص المناعة البشرية والملاريا في كل أنحاء العالم قائلا: «لا يمكنك أن تتوقع منهم الاكتراث لخمس حالات وفاة من الجمرة الخبيثة.» ومع ذلك كان لهذه الحملة الإرهابية التي تبدو تافهة عواقب هائلة على نطاق واسع. أرسل مكتب التحقيقات الفيدرالي خطابا إلى أعضاء الجمعية الأمريكية للأحياء الدقيقة في يناير 2002 يشير فيه إلى أن بكتيريا الجمرة الخبيثة التي استخدمت في هذه الهجمات ربما جاءت من معمل بالولايات المتحدة كان يجري أبحاثا لمكافحة الأسلحة البيولوجية. وقد أثبت التأريخ باستخدام الكربون المشع الآن أن الجمرة الخبيثة التي أرسلت عبر البريد إلى عضوين بمجلس الشيوخ وصحفيين بارزين قد صنعت وطحنت لتصبح مسحوقا ناعما في خلال العامين السابقين للهجوم.
قطعا هناك آلاف الأطنان من أبواغ الجمرة الخبيثة المخفية في مستودعات حول العالم، ما يكفي لإبادة البشرية إذا ما تم إرسالها على نحو سليم. وقد أنتج العلماء الروسيون بالفعل سلالة من الجمرة الخبيثة مقاومة للقاح. تستطيع 100كجم فحسب من الأبواغ التي تطلق في صورة هباء جوي عكس الرياح في منطقة حضرية كبرى أن تودي بحياة مليون شخص، علاوة على أن الأبواغ قوية للغاية وسيكون من الصعب جدا القضاء عليها وتطهير المنطقة المعرضة للهجوم؛ ومن ثم سيكون الخلل في الخدمات ونمط الحياة الطبيعي كبيرا وطويل المدى.
على الرغم من المخاوف المبررة بشأن الإطلاق الجماعي العمدي لأبواغ الجمرة الخبيثة، فإن إجمالي آثارها على العالم لن يذكر مقارنة بعودة الموت الأسود أو مرض ناشئ مشابه. حتما ستكون هناك معدلات وفيات هائلة، إلا أن الجمرة الخبيثة ليست سلاحا مثاليا لأنها لا تنتقل من إنسان إلى آخر، وستكفي احتياطات العزل بإقامة الحواجز لدرئه. ستكون موجة التفشي قاصرة في المقام الأول على المنطقة التي تكون باتجاه الريح من نقطة الانطلاق، ولن يتأثر بقية العالم. من المفترض ألا يكون هناك جائحة. أضف إلى هذا أن السلطات الصحية صارت متأهبة الآن لمكافحة أي هجمة بالجمرة الخبيثة، وستتمكن من تقليل عدد الوفيات على نحو كبير. (6) اليرسينية الطاعونية
وماذا عن الطاعون الدبلي؟ قيل إنه إبان الحرب العالمية الثانية أسقط اليابانيون براغيث مصابة بالطاعون الدبلي على المدن الصينية، وربما نجحت في قتل بعض الأفراد من خلال إطلاق موجات تفش محلية للطاعون الرئوي كما يفترض. وإبان الحرب الباردة أولى الاتحاد السوفييتي اهتماما كبيرا لأبحاث اليرسينية الطاعونية باعتبارها سلاحا محتملا، وهي تتصدر قوائم معظم الحكومات للعوامل المعدية التي لا بد أن تكون سبل مكافحتها جاهزة، لكن لماذا؟
لا ينبغي أن ينزعج أي شخص على الإطلاق من احتمال حدوث هجوم إرهابي باستخدام الطاعون الدبلي. لقد عاشت الولايات المتحدة بهذا المرض على مدار المائة عام الأخيرة، وهو لا يسفر إلا عن عدد محدود من الحالات سنويا. إن إرسال وباء من الطاعون الدبلي وترسيخه سيكون في غاية الصعوبة؛ لأن عوامل كثيرة جدا - كما رأينا في الفصل الحادي عشر - سوف تؤثر بقوة في النتائج، وانتشار الوباء سيكون مستحيلا. في جميع الأحوال، يعالج الطاعون الدبلي بسهولة باستخدام المضادات الحيوية.
إذن لماذا كرست الحكومات الكثير من الجهد والمال من أجل إنتاج اليرسينية الطاعونية كسلاح بيولوجي؟ الإجابة واضحة: هم يعتقدون أن الطاعون الدبلي كان السبب في الموت الأسود الذي أودى بحياة نصف سكان أوروبا في ضربة واحدة ، وفي رأيهم لا بد أنه بكل تأكيد السلاح المثالي.
هذه حماقة بالتأكيد؛ إذ لم يكن هناك أي اعتبار للبيولوجية الأساسية للطاعون الدبلي، وقد ازداد الأمر سوءا بشدة بسبب المبالغ المالية الهائلة المتوفرة بلا حدود لأي شخص يعمل في أي شيء له صلة من بعيد بالإرهاب البيولوجي. وكنتيجة لذلك، تتولى العديد من الفرق الآن نمذجة آثار وقوع وباء للطاعون الدبلي الذي قد يطلقه إرهابي. في رأينا هذا إهدار تام للوقت والموارد. يجدر بعلماء هذه الأبحاث قراءة الفصل الحادي عشر، إلا أن لديهم رغبة راسخة ومالية في الحفاظ على الوهم الحالي. نرى أنه من الضروري أن يفهم كل فرد - وبالأخص أولئك الذين يوزعون مبالغ كبيرة من الأموال العامة بلا داع - الطبيعة الحقيقية للطاعونين الدبلي والنزفي والمشكلات الحقيقية للحرب الجرثومية. (7) الفيروسات الفتاكة
يجدر بنا أن نولي اهتماما أكثر لاحتمال أن يستخدم الإرهابيون الأمراض الفيروسية؛ فهي رخيصة وسهلة النقل ويقوم المصابون أنفسهم بكل العمل الذي يساعد على تكاثرها ونشرها؛ فالفيروس يتكاثر بداخل الضحية بمعدل مذهل، وسرعان ما يكون جاهزا للانتقال المستمر ليصيب كثيرين آخرين. ومع وجود السفر الجوي الحديث، ستكون النتيجة وباء عالميا.
لطالما اعتبر فيروس الجدري سلاحا بيولوجيا محتملا، ومن المعروف أن كميات مخزنة منه جاهزة للاستخدام، وفي نوفمبر 2002 حددت الولايات المتحدة الأمريكية أربع دول لديها عينات سرية غير معلن عنها من الفيروس: وهي العراق وكوريا الشمالية وروسيا وفرنسا. كل ما يحتاجه الإرهابي هو إرسال مصاب واحد ليتنقل باستمرار، وليكن على سبيل المثال في مترو أنفاق لندن؛ كي يبدأ وباء كبير. قدم برنامج تليفزيوني مدته 90 دقيقة في محطة البي بي سي هذا السيناريو التخيلي في فبراير 2002، الذي فيه وصل إجمالي العدد النهائي للوفيات إلى حوالي 60 مليون شخص. تعمل الحكومات في الخفاء للتنبؤ بعاقبة هجوم بفيروس الجدري ولتنظيم سبل المكافحة عن طريق اتخاذ تدابير الصحة العامة المناسبة.
لقد أمضينا العديد من السنوات في بحث أوبئة الجدري عبر التاريخ، مع أن موجة تفشي هذا المرض ستكون مرعبة، فإننا لا نظن أن ضربة إرهابية باستخدام الفيروس العادي سوف تسفر عن كارثة كاملة. إن سلالة الفيروس التي كانت في إنجلترا في القرنين السابع عشر والثامن عشر أودت بحياة 20٪ فقط من الأطفال المصابين.
بمجرد أن يتم التعرف على المرض في أعقاب هجمة إرهابية، يمكن تقليل انتقال العدوى بنسبة كبيرة عن طريق استخدام الأقنعة، والأهم من ذلك، أن اللقاح الوقائي متاح. إن هذا المرض الفيروسي المعدي معروف جيدا، ومع التخطيط المستقبلي المسبق، وتوافر تدابير صحية جيدة للتعامل مع الطوارئ، والتشخيص المبكر، والاستجابة السريعة والتطعيمات الجماعية، يمكن احتواء وباء الجدري الناتج عن ضربة إرهابية في مدينة كبيرة والسيطرة عليه في النهاية.
قررت حكومة الولايات المتحدة تصنيع وتخزين لقاح يكفي سكانها بالكامل: وهي مهمة عملاقة سوف تكلف مئات الملايين من الدولارات. بدأ الرئيس بوش التنفيذ في الثالث عشر من ديسمبر 2002، عندما أعلن أنه بحلول الخامس عشر من مارس 2003 سيكون نصف مليون فرد من المدنيين العاملين بمجال الصحة بالإضافة إلى نصف مليون جندي قد تلقوا تطعيمات ضد المرض. من حسن الحظ أن الأعراض الجانبية الحادة كانت نادرة، إلا أن هدف الولايات المتحدة المتمثل في تطعيم 10 مليون شخص بحلول يوليو 2003 يبدو بعيد المنال.
إلا أن ثمة تحفظا كبيرا؛ فقد حذرت الدكتورة فيفيان نيثنسون من الرابطة الطبية البريطانية من أن استعدادات المكافحة الميدانية يمكن أن تساعد في مكافحة الهجمات التي تتم باستخدام العوامل البيولوجية «المعروفة» فقط.
لا توجد استجابة طبية لمواجهة أسلحة بيولوجية مجهولة أو سلالات معدلة وراثيا لجراثيم خارقة لا يتوافر لقاح لها. المكافحة الحقيقية الوحيدة لاستخدام الأسلحة البيولوجية أو الكيميائية هو منع تصنيعها في المقام الأول.
الخلاصة: إن الكم الهائل من الوقت والمال المكرسين حاليا لمكافحة الأمراض المعدية الناجمة عن هجمة إرهابية ضروري ومحبذ. لكن ينبغي ألا ننسى أن هذا النشاط الرائع لم يثره سوى وفاة خمسة أشخاص بعد إرسال أبواغ الجمرة الخبيثة عبر البريد الأمريكي، وهناك إشارة واضحة إلى المبالغة في الاستجابة. لم يكن هناك قط - وبالطبع لا يكون هناك الآن مع كل هذه الاحتياطات المحبذة - أي إشارة إلى أن تأثير هجمة إرهابية بيولوجية أو حرب جرثومية باستخدام أي من الجراثيم المعروفة في العالم اليوم لن يكون سوى أكثر قليلا من نتفة مقارنة بتأثير عودة الموت الأسود. (8) نهاية العالم؟
لماذا إذن أدرجنا نشاط الإرهاب البيولوجي في هذا الفصل كطريقة يمكن أن يعود بها الموت الأسود أو أي شيء مشابه له؟ تكمن الإجابة في ثورة التكنولوجيا الحيوية. عندما أبلغ للمرة الأولى عن تفشي سارس في الشرق الأقصى، وضع الإرهاب البيولوجي في الحسبان كسبب محتمل، وجرى التعامل معه بجدية على جانبي المحيط الأطلنطي. ذكرت وزارة الصحة البريطانية: «بلا شك يبدو نمط الإصابة كمرض طبيعي لكننا بالطبع ننتظر حتى تظهر كافة الحقائق قبل أن نحكم. من السخافة أن نستبعد أي شيء في هذه المرحلة.»
يبقى الاحتمال المرعب أن بمقدور الإرهابيين تصنيع شيء شبيه بالموت الأسود. ثمة الكثير من علماء الأحياء الدقيقة وخبراء الحرب الباردة الذين انتقلوا من تصنيع كميات كبيرة مخزنة من أبواغ الجمرة الخبيثة وتصنيع نسخ مقاومة للقاح من الأمراض المعروفة، إلى إنتاج جراثيم خارقة مصممة خصيصا على حسب الطلب. إن إمكانيات التكنولوجيا الحيوية رائعة، وقد بات إنتاج كائنات بيولوجية جديدة متناهي السهولة. إن الميكروبات والسموم التي تهاجم الجهاز المناعي للإنسان أو الأغماد العصبية موجودة بالفعل، وقد نجح كل من الأمريكيين والروسيين في إنتاج نسخ أكثر فتكا من الجمرة الخبيثة والجدري وإيبولا والطاعون الدبلي.
في نوفمبر 2003، أعلن عن أن عالما كان يحصل على تمويل من حكومة الولايات المتحدة أنتج عمدا عن طريق الهندسة الوراثية شكلا شديد الفتك من جدري الفئران، وهو فيروس قريب من فيروس الجدري.
أثبت العلماء الأمريكيون مؤخرا مدى سهولة إنتاج جراثيم فتاكة من أجل الأسلحة البيولوجية؛ فقد ركيبوا نسخة من صنع الإنسان من فيروس شلل الأطفال من خلال استخدام الدي إن إيه وخريطة جينية لمسبب المرض متاحة على الإنترنت. كانت هذه هي المرة الأولى التي يستخدم فيها فريق من العلماء التكنولوجيا المتاحة في صنع فيروس صناعي بالكامل من البداية. ولاختبار مدى كفاءته حقنوا به الفئران، التي عانت أولا من الشلل ثم ماتت.
في الواقع، إن استخدام مرض ناشئ أو جرثومة خارقة معدلة بيولوجيا سيكون حيلة ماكرة من الإرهابيين. قد لا يثير هذا الشكوك لمدة طويلة يمكن أن تتكون خلالها جائحة عالمية، في حين أن تفشي الجدري في أي مكان في العالم سوف يعرف في الحال أنه من صنع الإنسان.
بلا شك، يوما ما عما قريب، سوف يبدأ شخص ما في مكان ما بالعبث بالحمى النزفية الفيروسية. تخيل جرثومة خارقة معدلة وراثيا أشد فتكا وأكبر قدرة على العدوى من الموت الأسود؛ حينئذ سينتشر هذا المرض عن طريق العدوى الرذاذية، ولن يحتاج الأمر إلا إلى مصاب واحد (وإن كان الإرهابي سيتمنى وسيعمل من أجل إصابة المزيد، ويفضل في مختلف البلدان لتوفير مساحة لوقوع أخطاء) كي يحدث الدمار التام. هذا هو خطر اللعب بالنار، وهو نتيجة مباشرة للثورة التكنولوجية الحيوية التي حدثت في أعقاب الاكتشاف المصيري للبنية الحلزونية المزدوجة للحامض النووي. وهكذا صارت خريطة الحياة خريطة للموت. (9) دعوة لليقظة
لقد اكتملت رحلتنا. لقد قلبنا التاريخ رأسا على عقب. ومن اكتشافنا الذي حدث بمحض المصادفة لسجل أحد الأوبئة في بلدة تقام فيها سوق مركزية بشمال إنجلترا، نعرف الآن أن الموت الأسود والطواعين كان سببها أكثر الأمراض المعدية الناشئة رعبا على مر التاريخ. بعد أن هرب الطاعون النزفي من إثيوبيا منذ حوالي 3000 سنة، متنقلا كما هو الحال دائما من خلال حركة التجار المصابين، وطد قاعدته في بلاد الشام، ومن هناك ضرب الحضارتين اليونانية والبيزنطية والإمبراطورية الإسلامية الأولى، وكانت الدويلات العامرة هي ضحاياه المفضلة.
وأخيرا، في منتصف القرن الرابع عشر، دمر الطاعون النزفي سكان أوروبا، وهي أعظم كارثة بشرية على مر التاريخ. في الأيام التي كانت فيها وسائل المواصلات محدودة للغاية، استطاع أن يصنع هذه الضربات طويلة المدى فقط بسبب فترة حضانته الطويلة للغاية، وعلى مدار الثلاثة القرون التالية، أحكم قبضته القاسية على أوروبا، ولم يختف أخيرا إلا بفضل وجود طفرة جينية لدى قلة محظوظة.
لا بد أن ندرك الأخطار المرعبة للأمراض المعدية الناشئة ونقبلها. قلما كانت تحدث هذه الأمراض حتى حوالي عام 1970، عندما تغير نمط حياتنا سريعا وكلية، وباتت تتوارد البلاغات عن مرض جديد كل عام. لكن، رغم خطورة هذه الأمراض وقدرتها الكبيرة على الفتك، فإنها لا تبلغ وحشية سفاح العصور الوسطى على الإطلاق. تظهر الروايات التي عرضناها بكل وضوح المعدل الصاعق للخسائر في الأرواح؛ فقد لقي نحو نصف سكان العالم الغربي حتفهم في وباء واحد للموت الأسود، وهو حدث لا مثيل له. إن وصف الميتات الأليمة التي كان يلقاها الشخص وحيدا تقشعر له الأبدان ويجعل الدم يتجمد في عروق كل منا.
إننا مدينون لأنفسنا ولمن ماتوا بأن نظل محترسين على الدوام لئلا يعاود الطاعون النزفي الظهور، وأن نتأكد أنه ليس لديه فرصة لإعادة تأسيس معقل له من خلال الجهل والتحريف. بهذه الطريقة لن تذهب معاناة وموت الملايين سدى.
قراءات إضافية
There have been many books written about plagues and in particular about the Black Death, but most promulgate the theory that bubonic plague was responsible or are concerned with the social consequences of the pandemic.
Twigg, G. (1984)
The Black Death: A Biological Appraisal , London: Batsford Academic. This was the first book to assemble the evidence and to show convincingly that bubonic plague was not responsible for the Black Death.
Shrewsbury, J. F. D. (1970)
A History of Bubonic Plague in the British Isles , Cambridge: Cambridge University Press. This gives a comprehensive account of the epidemics in England, although it is a rather boring read. Shrewsbury believed whole-heartedly that
Yersinia pestis
was responsible for the pestilence but, as a medical microbiologist, realized that this was an impossibility in many of the epidemics. His repeated attempts to rationalize the situation spoil an important compendium. A must if you want to find out about recorded plague epidemics in your local area.
We have presented a new, scientific and mathematical approach to the epidemiology in Scott, S. and Duncan, C. J. (2001)
Biology of Plagues: Evidence from Historical
, Cambridge: Cambridge University
McNeill, W. H. (1977)
, Oxford: Blackwell gives a general account.
An account of events during the arrival of the Great Pestilence is given in Ziegler, P. (1969)
The Black Death , London: Collins.
Biraben, J. N. (1975)
Les hommes et la peste en France et dans les pays Européens et Méditerraneens, Vols 1 and 2 , Paris: Mouton & Co and École des Hautes Études en Sciences Sociales. An invaluable compilation of the recorded plagues in Europe, listed by geographic area. There is a comprehensive bibliography. Biraben also gives an authoritative account of true bubonic plague at Marseille in 1720-22.
Diary of Samuel
, London: J. M. Dent. The Great Plague of London in 1665-66 is the best documented of all the epidemics in Europe. Samuel Pepys stayed in London throughout and went about his daily business. His diary is lively and provides an invaluable eye-witness account.
Defoe, D. (1722)
Diary of a Plague Year , London: Everyman’s Library. Daniel Defoe was six in 1665 and did not write his very readable story of the Great Plague until 1722. It has been criticized as being fictional, but checking against contemporary sources suggests that this is an accurate account of life during one of the terrible epidemics.
Bell, W. G. (1924)
The Great Plague in London in 1665 , London: John Lane. Probably the definitive account.
Creighton, C. (1894)
History of Epidemics in Britain , Cambridge: Cambridge University Press. Creighton is the doyen of epidemiologists. Although medically qualified, his approach in this classic work, which was to provide a chronicle of death and disease in the people of the UK, was that of a professional historian and he worked with great care on his sources.
An account of the epidemic at Eyam published 30 years before Yersin’s work on bubonic plague is given by Wood, W. (1865)
The History of Antiquities of Eyam , 4th edn, London: Bell and Daldy. It contains no confusing mention of rats and fleas.
The plagues of Iceland are of particular interest because they were constrained within this isolated island community and were initiated by the arrival of a single ship. Karlsson, G. (1996) 'Plague without rats: the case of fifteenth century Iceland’,
Journal of Medieval History,
22: 263-84. It would be particularly interesting to measure the frequency of the CCR5-Δ32 mutation in Iceland today.
An erudite account of plagues in the early Islamic Empire is Dols, M. W. (1977)
The Black Death in the Middle East , Princeton, NJ: Princeton University
The effect of the plagues in controlling the demography of Europe is covered in two of our books: Scott, S. and Duncan, C. J. (1998)
Human Demography and Disease , Cambridge: Cambridge University Press, and Scott S. and Duncan, C. J. (2002)
Demography and Nutrition , Oxford: Blackwell.
There are many papers or books that cover specialized aspects of our story, for example:
Davis, D. E. (1986) 'The scarcity of rats and the Black Death: An ecological history’,
Journal of Interdisciplinary History,
XVI: 455-70.
Dyer, A. (1997) 'The English Sweating Sickness of 1551: An epidemic anatomized’,
Medical History,
41: 362-84.
Taviner, M., Thwaites, G. and Grant, V. (1998) 'The English Sweating Sickness, 1485-1551: A viral pulmonary disease?’
Medical History , 42: 96-8.
Furness, W. (1894)
The History of
(William Furness) , Penrith: William Furness.
Hughes, J. (1971) 'The plague at Carlisle 1597/8’,
Transactions of the Cumberland and Westmorland Antiquarian and Archaeological Society , 81: 52-63.
Longrigg, J. (1980) 'The great plague of Athens’,
History of Science , 18: 209-25.
indices for Central Europe’,
Journal of Interdisciplinary History,
10: 665-96.
Twigg, G. (1978) 'The role of rodents in plague transmission: A worldwide review’,
Mammal Review,
8: 77-110.
Twigg, G. (2003) 'The Black Death: A problem of population-wide infection’,
Local Population Studies,
71: 40-52. Covers evidence that the black rat was not present in rural England during the plague.
A detailed account of the array of newly emerging diseases in a world out of balance is given by Garrett, L. (1994)
The Coming Plague , New York: Penguin Books.
Miller J., Engelberg, S. and Broad, W. (2001)
Germs: The Ultimate Weapon , New York: Simon & Schuster. Comprehensive coverage of biological weapons of mass destruction and current fears of bioterrorism.
نامعلوم صفحہ