وقال آخر: وهل رأيت عروسته يا أبتاه؟
فأجاب الكاهن: قد زرتها بعد صلاة الصباح، فوجدتها جالسة بقرب النافذة تنظر إلى البعيد بعينين زجاجيتين كأنها فقدت إدراكها، ولما سألتها هزت رأسها وقالت: «لا أدري لا أدري» ثم طفقت تبكي وتنتحب كالأطفال.
ولم ينته الكاهن من كلامه إلا وذعر القوم حولهن لطلق بندقية جاء من الوجهة الشرقية من القرية، ثم تبعه صراخ امرأة جارح ارتعشت له دقائق الفضاء، فبهت القرويون دقيقة، ثم تراكضوا نساء، ورجالا، وعلى وجه كل واحد منهم برقع من الخوف والتشاؤم، ولما بلغوا البستان الذي يحيط بمنزل فارس الرحال شاهدوا هنالك منظرا أجمد الدم في عروقهم، والفكرة في رؤوسهم؛ رأوا نجيب مالك منطرحا على التراب، والنجيع يتدفق من أمعائه، وعلى مقربة منه سوسان زوجة فارس الرحال تنبش شعرها وتمزق أثوابها وتصرخ متوجعة: قد قتل نفسه، قد قتل نفسه، قد أطلق البندقية في صدره.
فبهت القوم كأن أكف القضاء غير المنظورة قد قبضت على أرواحهم، ولما اقترب الكاهن من الصريع وجد في يمينه الرسالة التي كان قد سلمه إياها في ذلك الصباح، وقد قبض عليها بشدة، كأنه يريد أن يجعلها جزءا من أصابعه، فتناولها الكاهن، ووضعها في جيبه دون أن يراه أحد، ثم تراجع إلى الوراء لاطما وجهه.
وحمل القوم جثة المنتحر إلى بيت والدته المسكينة التي لم تر جثة وحيدها حتى فقدت عقلها.
واهتم بعض النساء بزوجة فارس الرحال فاقتادوها إلى منزلها بين حية وميتة. •••
ولما بلغ الخوري إسطفان منزله، أوصد الباب، ووضع النظارات على عينيه منتشلا الرسالة التي وجدها في يد نجيب مالك، وبصوت مرتعش أخذ يقرأ:
أخي نجيب:
أنا تارك هذه القرية؛ لأن وجودي فيها يجلب التعاسة لك ولزوجتي ولي أيضا، أنا أعلم أنك شريف النفس تترفع عن خيانة صديقك وجارك، وأعلم أن زوجتي سوسان طاهرة الذيل، ولكنني أعلم في الوقت نفسه أن الحب الذي يضم قلبك وقلبها هو أمر فوق إرادتكما، فأنت لا تستطيع إزالته كما أنك لا تقدر أن توقف مجاري نهر قاديشا، لقد كنت صديقا يا نجيب مذ كنا صبيين نلعب في الحقول وفي ساحة الكنيسة، وأنت لم تزل صديقي أمام الله، وأرجوك أن تفتكر بي في المستقبل مثملا كنت تفتكر بي في الماضي، وإذا التقيت بسوسان غدا، أو بعده فقل لها إني أحبها وأرحمها، وقل لها أيضا: إني كنت أذوب شفقة عندما كنت أستيقظ في سكينة الليل، وأراها راكعة أمام صورة يسوع تبكي وتنتحب وتجلد صدرها، ليس أصعب من حياة المرأة التي تجد نفسها واقفة بين رجل يحبها ورجل تحبه، وسوسان المسكينة كانت في حرب دائم، كانت تريد أن تقوم بواجباتها الزوجية، ولكنها لم تكن قادرة على قتل عواطفها، أما أنا فمسافر إلى مكان بعيد، ولن أعود إلى هذه الديار؛ لأني لا أريد أن أكون حجر عثرة في سبيل سعادتكما، وفي الختام أرجوك يا أخي أن تبقى مخلصا لسوسان، وأن تحافظ عليها حتى النهاية؛ لأنها قد ضحت بكل شيء من أجلك، فهي تستحق كل ما يستطيع الرجل أن يقدم للمرأة، ابق يا نجيب كما عهدتك شريف القلب كبير النفس، والله يحفظك لأخيك.
فارس الرحال
نامعلوم صفحہ