خليل بك :
نعم، له تمام الحرية أن يفعل ما يشاء، ولكنني أرى أن حياتنا الاجتماعية لا تتفق مع هذا النوع من الحرية، إن ميولنا وعاداتنا وتقاليدنا لا تسمح للفرد الواحد أن يفعل ما فعله بولس أفندي ليلة أمس دون أن يضع نفسه في موقف حرج.
الآنسة هيلانة :
هذه مناظرة لذيذة ومفيدة، ولكن بما أن السبب في هذه المناظرة موجود بيننا فهو بالطبع يستطيع أن يدافع عن نفسه بنفسه.
بولس الصلبان (بعد سكوت طويل) :
كنت أتمنى لو لم يفتح سليم هذا الحديث، بل كنت أود أن يزول ما جرى ليلة أمس مع ليلة أمس، ولكن بما أنني في مركز حرج كما يقول حضرة البك، فأنا لا أرى بدا من إظهار أفكاري في هذا الموضوع، أنتم تعلمون وأنا أعلم أيضا أن أكثر من يعرفني ينتقدني، هذا يقول إنني مغنج، وذلك أنني أعوج، وهنالك فئة تقول إنني لئيم، وليس للئيم كرامة، وما هو السبب يا ترى في هذه الانتقادات الجارحة؟ إن السبب في أخلاقي، نعم في أخلاقي التي لا أقدر أن أغيرها، ولو قدرت لما أردت، ولماذا يا ترى يهتم الناس بي وبأخلاقي؟ أليس بإمكانهم أن يتناسوا كياني؟ في هذه المدينة كثير من المغنين، والمنشدين، والموسيقيين، وكثير من الشعراء والمقرظين، وكثير من المبخرين، والشحاذين الذين يبيعون أصواتهم، وأفكارهم وعواطفهم، بل ويبيعون نفوسهم بدينار، أو بعلفة، أو بقنينة من الخمر، وقد عرف أغنياؤنا ووجهاؤنا هذا السر، لذلك تراهم يبتاعون أبناء الفن، والأدب بأبخس الأثمان، ويعرضونهم في منازلهم، وقصورهم، كما يعرضون خيولهم ، ومركباتهم في الساحات، والطرق، نعم أيها السادة، إن المغنين، والشعراء في الشرق هم حملة المباخر، بل هم العبيد، وقد فرض عليهم أن ينشدوا في الأعراس، ويترنموا في الحفلات، ويندبوا في المآتم، ويرثوا في المقابر؛ هم الآلات التي تدار في أيام الحزن، وليالي الأفراح، فإذا لم يكن من داع للحزن، أو الفرح طرحوا جانبا كأنهم سلع لا قيمة لها، وأنا لا ألوم الوجهاء والأغنياء، بل ألوم المغنين والشعراء والأدباء الذين لا يحترمون نفوسهم، ولا يضنون بماء وجوههم، ألومهم لأنهم لا يترفعون عن الصغائر والتوافه، ألومهم لأنهم لا يفضلون الموت على الخضوع والتذلل.
خليل بك (متهيجا) :
إن القوم كانوا يستعطفونك ليلة أمس، ويحاولون بكل وسيلة لديهم أن يسترضوك، لتتكرم عليهم بأغنية أو نشيد، فهل تحسب إنشادك في بيت جلال باشا نوعا من الخضوع والتذلل؟
بولس الصلبان :
لو استطعت الإنشاد في منزل جلال باشا لفعلت، ولكنني نظرت حولي فلم أجد بين الحاضرين غير الموسرين الذين لا يسمعون من الأصوات إلا رنات الدنانير، والوجهاء الذين لا يفهمون من الحياة إلا ما يرفعهم ويخفض سواهم، نظرت حولي فلم أجد من يميز النهاوند عن الرصد، أو العشاق عن الأصفهان، لذلك لم أستطع أن أفتح صدري أمام العميان، أو أعرض أسرار قلبي أمام الطرشان، إنما الموسيقى لغة الأرواح، هي سيال خفي يتموج بين روح المنشد وأرواح السامعين، فإذا لم يكن هناك من أرواح تسمع وتفهم ما تسمع، فالمنشد يفقد ذلك الميل إلى البيان، ويفقد ذلك الشوق إلى إظهار ما في أعماقه من الحركات والسكنات. والموسيقى مثل قيثارة ذات أوتار مشدودة حساسة، فإذا تراخت تلك الأوتار فقدت خاصتها وأصبحت كخيوط من الكتان «يقف ويسير بضع خطوات، ثم يقول ببطء». لقد تراخت أوتار روحي في منزل جلال باشا عندما تفرست في الحاضرين نساء ورجالا، ولم أر بينهم غير المتكلف والمتصنعة، والمتقلد، والبليدة، والعقيم، والمتعجرفة، أما استعطافهم إياي فلم يكن ناتجا إلا عن تمنعي وسكوتي، ولو كنت كالكثيرين من ضفادع المنشدين لما اهتم أحد بي.
نامعلوم صفحہ