فقلت: «وما ذلك يا سيدي؟».
فوقف دقيقة ساكتا، ثم أغمض أجفانه، واضعا يديه على صدره، وقد أشرق وجهه، وانبسطت ملامحه، وبصوت عذب مرتعش قال: «هي يقظة في النفس، هي يقظة في عمق أعماق النفس، هي فكرة تفاجئ وجدان الإنسان على حين غفلة، وتفتح بصيرته، فيرى الحياة مكتنفة بالأنغام، محاطة بالهالات، منتصبة كبرج من النور بين الأرض واللانهاية، هي شعلة من شعلات ضمير الوجود تتأجج فجأة في داخل الروح، فتحرق ما يحيط بها من الهشيم، وتصعد سابحة، مرفرفة في الفضاء الوسيع، هي عاطفة تهبط على قلب الفرد فيقف مستغربا مستهجنا كل ما يخالفها، كارها كل شيء لا يجاريها، متمردا على الذين لا يفهمون أسرارها، هي يد خفية قد أزالت الغشاء عن عيني وأنا في وسط الاجتماع بين أهلي وأصحابي ومواطني، فوقفت منذهلا مدهوشا قائلا في نفسي: ما هذه الوجوه، وما شأن هؤلاء الناظرين إلي، وكيف عرفتهم، وأين لقيتهم، ولماذا أقيم بينهم، بل لماذا أجالسهم وأحادثهم؟ هل أنا غريب بينهم، أم هم الغرباء في ديار بنتها الحياة لي وأسلمتني مفاتيحها ...؟».
وسكت فجأة كأن الذكرى رسمت على حافظته صورا وأشباحا لا يريد إظهارها، ثم بسط ذراعيه وقال همسا: «هذا ما حل بي منذ أربع سنوات، فتركت العالم، وجئت هذه البرية الخالية لأعيش في اليقظة، متمتعا بالفكر والعاطفة والسكينة».
ومشى إذ ذاك نحو باب الصومعة ناظرا إلى أعماق الليل، ثم هتف كأنه يخاطب العاصفة: «هي يقظة في أعماق النفس، فمن يعرفها لا يستطيع إظهارها بالكلام، ومن لم يعرفها لا ولن يدرك أسرارها».
4
ومرت ساعة طويلة ممنطقة بهمس الفكر ونداء العاصفة، ويوسف الفخري يمشي تارة في وسط تلك الحجرة، ويقف طورا في بابها محدقا بالفضاء العابس، أما أنا فبقيت صامتا شاعرا بتموجات روحه، مستظهرا أقواله، مفكرا بحياته وما وراء حياته من لذة الوحدة وآلامها، وعند انقضاء الهزيع الثاني من الليل اقترب مني، ونظر طويلا إلى وجهي كأنه يريد أن يحفظ في ذاكرته رسم الرجل الذي باح له بسر وحدته وانفراده، ثم قال ببطء: «أنا ذاهب الآن للتجول في العاصفة، هي عادة أتمتع بلذتها في الخريف، وفي الشتاء ... هناك إبريق القهوة، واللفائف، وإن طلبت نفسك الخمر تجدها في الجرة، وإذا شئت النوم تجد اللحف، والمساند في تلك القرنة».
قال هذا والتف بجبة سوداء كثيفة، ثم زاد مبتسما: «أرجوك أن توصد باب الصومعة عندما تذهب في الصباح، لأنني سأصرف الغد في غابة الأرز».
ثم سار نحو الباب، وتناول من جانبه عكازا طويلا، وقال: «إذا فاجأتك العاصفة ثانية وأنت في هذه النواحي، فلا تتأخر عن الالتجاء إلى الصومعة هذه، ولكنني أرجو أن تعلم نفسك حب العواصف لا الخوف منها ... مساء الخير يا أخي».
وخرج إلى الليل مسرعا.
ولما وقفت في باب الصومعة لأرى وجهته كان الظلام قد أخفاه، ولكنني بقيت بضع دقائق أسمع وقع قدميه على حصباء الوادي.
نامعلوم صفحہ