حفار القبور
العبودية
الملك السجين
يسوع المصلوب
على باب الهيكل
أيها الليل
الجنية الساحرة
قبل الانتحار
يا بني أمي
نحن وأنتم
أبناء الآلهة وأحفاد القرود
بين ليل وصباح
المخدرات والمباضع
السرجين المفضض
رؤيا
في ظلام الليل
الأضراس المسوسة
مساء العيد
الجبابرة
مات أهلي
الأمم وذواتها
فلسفة المنطق أو معرفة الذات
العاصفة
الشيطان
الصلبان
الشاعر البعلبكي
السم في الدسم
ما وراء الرداء
البنفسجة الطموحة
الشاعر
الكلام وطوائف المتكلمين
حفار القبور
العبودية
الملك السجين
يسوع المصلوب
على باب الهيكل
أيها الليل
الجنية الساحرة
قبل الانتحار
يا بني أمي
نحن وأنتم
أبناء الآلهة وأحفاد القرود
بين ليل وصباح
المخدرات والمباضع
السرجين المفضض
رؤيا
في ظلام الليل
الأضراس المسوسة
مساء العيد
الجبابرة
مات أهلي
الأمم وذواتها
فلسفة المنطق أو معرفة الذات
العاصفة
الشيطان
الصلبان
الشاعر البعلبكي
السم في الدسم
ما وراء الرداء
البنفسجة الطموحة
الشاعر
الكلام وطوائف المتكلمين
العواصف
العواصف
تأليف
جبران خليل جبران
حفار القبور
في وادي ظل الحياة، المرصوف بالعظام، والجماجم، سرت وحيدا في ليلة حجب الضباب نجومها، وخامر الهول سكينتها.
هناك على ضفاف نهر الدماء والدموع المنساب كالحية الرقطاء، المتراكض كأحلام المجرمين، وقفت مصغيا لهمس الأشباح، محدقا باللاشيء.
ولما انتصف الليل، وقد خرجت مواكب الأرواح من أوكارها، سمعت وقع أقدام ثقيلة تقترب مني، فالتفت فإذا بشبح جبار مهيب منتصب أمامي، فصرخت مذعورا «ماذا تريد مني؟».
فنظر إلي بعينين مشعشعتين كالمسارج ثم أجاب بهدوء «لا أريد شيئا وأريد كل شيء».
قلت: «دعني وشأني وسر في سبيلك».
فقال مبتسما: «ما سبيلي سوى سبيلك؛ فأنا سائر حيث تسير، ورابض حيث تربض».
قلت: «جئت أطلب الوحدة فخلني ووحدتي».
فقال: «أنا الوحدة نفسها فلماذا تخافني؟».
قلت: «لست بخائف منك».
فقال: «إن لم تكن خائفا، فلماذا ترتجف مثل قصبة أمام الريح».
قلت: «إن الهواء يتلاعب بأثوابي فترتجف، أما أنا فلا أرتجف».
فضحك مقهقها بصوت يضارع ضجيج العاصفة، ثم قال: «أنت جبان تخافني، وتخاف أن تخافني فخوفك مزدوج، ولكنك تحاول إخفاءه عني وراء خداع أوهى من خيوط العنكبوت فتضحكني وتغيظني».
ثم جلس على الصخر فجلست قسر إرادتي محدقا بملامحه المهيبة.
وبعد هينهة خلتها ألف عام نظر إلي مستهزئا وسألني قائلا: «ما اسمك؟».
قلت: «اسمي عبد الله».
فقال: «ما أكثر عبيد الله وما أعظم متاعب الله بعبيده، فهلا دعوت نفسك سيد الشياطين، وأضفت بذلك إلى مصائب الشياطين مصيبة جديدة».
قلت: «اسمي عبد الله وهو اسم عزيز أعطاني إياه والدي يوم ولادتي فلن أبدله باسم آخر».
فقال: «إن بلية الأبناء في هبات الآباء، ومن لا يحرم نفسه من عطايا آبائه، وأجداده يظل عبد الأموات حتى يصير من الأموات».
فحنيت رأسي مفكرا بكلماته، مسترجعا إلى حافظتي رسوم أحلام شبيهة بحقيقته. ثم عاد وسألني قائلا: «وما صناعتك؟».
قلت: «أنظم الشعر وأنثره ولي في الحياة آراء أطرحها على الناس».
فقال: «هذه مهنة عتيقة مهجورة لا تنفع الناس ولا تضرهم».
قلت: «وماذا عسى أن أفعل بأيامي وليالي لأنفع الناس».
فقال: «اتخذ حفر القبور صناعة تريح الأحياء من جثث الأموات المكردسة حول منازلهم ومحاكمهم، ومعابدهم».
قلت: «لم أر قط جثث الأموات متكردسة حول المنازل».
فقال: «أنت تنظر بعين الوهم فترى الناس يرتعشون أمام عاصفة الحياة؛ فتظنهم أحياء، وهم أموات منذ الولادة، ولكنهم لم يجدوا من يدفنهم، فظلوا متطرحين فوق الثرى، ورائحة النتن تنبعث منهم».
قلت: وقد ذهب عني بعض الوجل «وكيف أميز بين الحي والميت، وكلاهما يرتعش أمام العاصفة؟».
فقال: «إن الميت يرتعش أمام العاصفة أما الحي فيسير معها راكضا ولا يقف إلا بوقوفها».
واتكأ إذ ذاك على ساعده؛ فبانت عضلاته المحبوكة كأصول سنديانة مملوئة بالعزم، والحياة، ثم سألني قائلا: «أمتزوج أنت؟».
قلت: «نعم وزوجتي امرأة حسناء وأنا كلف بها».
فقال: «ما أكثر ذنوبك ومساوئك - إنما الزواج عبودية الإنسان لقوة الاستمرار، فإن شئت أن تتحرر؛ طلق امرأتك وعش خاليا».
قلت: «لي ثلاثة أولاد كبيرهم يلعب بالأكر، وصغيرهم يلوك الكلام ولا يلفظه، فماذا أفعل بهم؟».
فقال: «علمهم حفر القبور، واعط كل واحد رفشا، ثم دعهم وشأنهم».
قلت: «ليس لي طاقة على الوحدة، والانفراد، فقد تعودت لذة العيش بين زوجتي، وصغاري فإن تركتهم تركتني السعادة».
فقال: «ما حياة المرء بين زوجته، وأولاده سوى شقاء أسود مستتر وراء طلاء أبيض، ولكن إن كان لا بد من الزواج؛ فاقترن بصبية من بنات الجن».
قلت: مستغربا «ليس للجن حقيقة، فلماذا تخدعني؟!».
فقال: «ما أغباك فتى! ليس لغير الجن حقيقة، ومن لم يكن من الجن كان في عالم الريب والالتباس».
قلت: «وهل لصبايا الجن ظرف وجمال».
فقال: «لهن ظرف لا يزول، وجمال لا يذبل».
قلت: «أرني جنية؛ فأقنع».
فقال: «لو كان بإمكانك أن ترى الجنية، وتلمسها لما أشرت عليك بزواجها».
قلت: «وما النفع من زوجة لا ترى، ولا تمس؟».
فقال: «هو نفع بطيء ينتج عنه انقراض المخاليق، والأموات الذين يختلجون أمام العاصفة ولا يسيرون معها».
وحول وجهه عني دقيقة، ثم عاد وسألني قائلا «وما دينك؟».
قلت: «أؤمن بالله، وأكرم أنبياءه، وأحب الفضيلة، ولي رجاء بالآخرة».
فقال: «هذه ألفاظ رتبتها الأجيال الغابرة، ثم وضعها الاقتباس بين شفتيك، أما الحقيقة المجردة؛ فهي أنك لا تؤمن بغير نفسك، ولا تكرم سواها، ولا تهوى غير أميالها، ولا رجاء لك إلا بخلودها، منذ البدء والإنسان يعبد نفسه؛ ولكنه يلقبها بأسماء مختلفة باختلاف أمياله، وأمانيه فتارة يدعوها البعل، وطورا المشترى، وأخرى الله».
ثم ضحك فانفجرت ملامحه تحت نقاب من الهزء، والسخرية، وزاد قائلا: «ولكن ما أغرب الذين يعبدون نفوسهم، ونفوسهم جيف منتنة!». •••
ومرت دقيقة وأنا أفكر بأقواله؛ فأجد فيها معاني أغرب من الحياة، وأهول من الموت، وأعمق من الحقيقة، حتى إذا ما تاهت فكرتي بين مظاهره ومزاياه، وهاجت أميالي؛ لاستعلان أسراره وخفاياه، صرخت قائلا: «إن كان لك رب فبربك قل لي من أنت».
قال: «أنا رب نفسي».
فقلت: «وما اسمك؟».
قال: «الإله المجنون».
فقلت: «وأين ولدت؟».
قال: «في كل مكان».
فقلت: «وأي متى ولدت؟».
قال: «في كل زمان».
فقلت: «ممن تعلمت الحكمة، ومن ذا الذي باح لك بأسرار الحياة، وبواطن الوجود؟».
قال «لست بحكيم، فالحكمة صفة من صفات البشر الضعفاء، بل أنا مجنون قوي أسير فتميد الأرض تحت قدمي، وأقف فتقف معي مواكب النجوم، وقد تعلمت الاستهزاء بالبشر من الأبالسة، وفهمت أسرار الوجود، والعدم بعد أن عاشرت ملوك الجن، ورافقت جبابرة الليل».
فقلت: «وماذا تفعل في هذه الأودية الوعرة، وكيف تصرف أيامك ولياليك؟».
قال: «في الصباح أجدف على الشمس، وعند الظهيرة ألعن البشر، وفي المساء أسخر بالطبيعة، وفي الليل أركع أمام نفسي وأعبدها».
فقلت: «وماذا تأكل، وماذا تشرب، وأين تنام؟».
قال: «أنا، والزمان، والبحر لا ننام؛ ولكننا نأكل أجساد البشر، ونشرب دمائهم، ونتحلى بلهاتهم».
وانتصب إذ ذاك مكبلا ذراعيه على صدره، ثم أحدق بعيني، وقال بصوت عميق هادئ «إلى اللقاء، فأنا ذاهب إلى حيث تلتئم الغيلان، والجبابرة».
فهتفت قائلا: «أمهلني دقيقة فلي سؤال آخر».
فأجاب، وقد انحجب بعض قامته بضباب الليل «إن الآلهة المجانين لا يمهلون أحدا، فإلى اللقاء».
واختفى عن بصري وراء ستائر الدجى، وتركني خائفا، طائشا، محتارا به وبنفسي.
ولما حولت قدمي عن ذلك المكان سمعت صوته متموجا بين تلك الصخور الباسقة قائلا: «إلى اللقاء إلى اللقاء».
وفي اليوم التالي طلقت امرأتي، وتزوجت صبية من بنات الجن، ثم أعطيت كل واحد من أطفالي رفشا، ومحفرا، وقلت لهم: «اذهبوا وكلما رأيتم ميتا واروه في التراب».
ومن تلك الساعة - إلى الآن - وأنا أحفر القبور، وألحد الأموات، غير أن الأموات كثيرون، وأنا وحدي وليس من يسعفني.
العبودية
إنما الناس عبيد الحياة، وهي العبودية التي تجعل أيامهم مكتنفة بالذل، والهوان، ولياليهم مغمورة بالدماء والدموع.
ها قد مر سبعة آلاف سنة على ولادتي الأولى - وللآن - لم أر غير العبيد المستسلمين والسجناء المكبلين.
لقد جبت مشارق الأرض، ومغاربها، وطفت في ظل الحياة، ونورها، وشاهدت مواكب الأمم والشعوب سائرة من الكهوف إلى الصروح، ولكنني لم أر - للآن - غير رقاب منحنية تحت الأثقال، وسواعد موثوقة بالسلاسل، وركب جاثية أمام الأصنام.
وقد اتبعت الإنسان من بابل إلى باريس، ومن نينوى إلى نيويورك، ورأيت آثار قيوده مطبوعة على الرمال بجانب آثار أقدامه، وسمعت الأودية، والغابات تردد صدى نواح الأجيال والقرون.
دخلت القصور، والمعاهد، والهياكل، ووقفت حذاء العروش، والمذابح، والمنابر، فرأيت العامل عبدا للتاجر، والتاجر عبدا للجندي، والجندي عبدا للحاكم، والحاكم عبدا للملك، والملك عبدا للكاهن، والكاهن عبدا للصنم، والصنم تراب جبلته الشياطين، ونصبته فوق رابية من جماجم الأموات.
دخلت منازل الأغنياء، الأقوياء، وأكواخ الفقراء الضعفاء، وقفت في المخادع الموشاة بقطع العاج، وصفائح الذهب، وفي المأوى المفعمة بأشباح اليأس، وأنفاس المنايا، فرأيت الأطفال يرضعون العبودية مع اللبن، والصبيان يتلقنون الخضوع مع حروف الهجاء، والصبايا يرتدين الملابس مبطنة بالانقياد، والخنوع، والنساء يهجعن على أسرة الطاعة، والامتثال.
اتبعت الأجيال من ضفاف الكنج، إلى شاطئ الفرات، إلى مصب النيل، إلى جبل سينا إلى ساحات أثينا، إلى كنائس رومية، إلى أزقة القسطنطينية، إلى بنايات لندن، فرأيت العبودية تسير بكل مكان في موكب العظمة، والجلال، والناس ينحرون الفتيان والعذارى على مذابحها، ويدعونها إلها، ثم يسكبون الخمور والطيوب على قدميها، ويدعونها ملكا، ثم يحرقون البخور أمام تماثيلها ويدعونها نبيا، ثم يخرون ساجدين لديها ويدعونها شريعة، ثم يتحاربون ويتقاتلون من أجلها ويدعونها وطنية، ثم يستسلمون إلى مشيئتها ويدعونها ظل الله على الأرض، ثم يحرقون منازلهم ويهدمون مبانيهم بإرادتها، ويدعونها إخاء ومساواة، ثم يجدون ويجاهدون في سبيلها، ويدعونها مالا وتجارة ... فهي ذات أسماء عديدة، وحقيقة واحدة، ومظاهر كثيرة لجوهر واحد، بل هي علة أزلية أبدية تجيء بأعراض متباينة، وقروح مختلفة يتوارثها الأبناء عن الآباء مثلما يتوارثون نسمة الحياة، وتلقي بذورها العصور في تربة العصور، مثلما تستغل الفصول ما تزرعه الفصول. •••
وأغرب ما لقيت من أنواع العبوديات، وأشكالها:
العبودية العمياء:
وهي التي توثق حاضر الناس بماضي آبائهم، وتنيخ نفوسهم أمام تقاليد حدودهم، وتجعلهم أجسادا جديدة لأرواح عتيقة، وقبورا مكلسة لعظام بالية.
والعبودية الخرساء:
وهي التي تعلق أيام الرجل بأذيال الزوجة التي يمقتها، وتلصق جسد المرأة بمضجع الزوج الذي تكرهه، وتجعلهما من الحياة بمنزلة النعل من القدم.
والعبودية الصماء:
وهي التي تكره الأفراد على اتباع مشارب محيطهم، والتلون بألوانه والارتداء بأزيائه، فيصبحون من الأصوات كرجع الصدى، ومن الأجسام كالخيالات.
والعبودية العرجاء:
وهي التي تضع رقاب الأشداء تحت سيطرة المحتالين، وتسلم عزم الأقوياء إلى أهواء الطامحين بالمجد، والاشتهار؛ فيمسون مثل آلات تحركها الأصابع، ثم توقفها، ثم تكسرها.
والعبودية الشمطاء:
وهي التي تهبط بأرواح الأطفال من الفضاء المتسع إلى منازل الشقاء حيث تقيم الحاجة بجانب الغباوة، ويقطن الذل في جوار القنوط، فيشبون تعساء، ويعيشون مجرمين ويموتون مرذولين.
والعبودية الرقطاء:
وهي التي تبتاع الأشياء بغير أثمانها، وتسمى الأمور بغير أسمائها، فتدعو الاحتيال ذكاء، والثرثرة معرفة، والضعف لينا، والجبانة إباء.
والعبودية العوجاء:
وهي التي تحرك بالخوف ألسنة الضعفاء؛ فيتكلمون بما لا يضمرون، ويصبحون بين أيدي المسكنة مثل ثوب تطويه، وتنشره.
والعبودية الحدباء:
وهي التي تقود قوما بشرائع قوم آخرين.
والعبودية الجرباء:
وهي التي تتوج أبناء الملوك ملوكا.
والعبودية السوداء:
وهي التي تسم بالعار أبناء المجرمين الأبرياء.
والعبودية للعبودية نفسها:
هي قوة الاستمرار. •••
ولما تعبت من ملاحقة الأجيال، ومللت النظر إلى مواكب الشعوب والأمم، جلست وحيدا في وادي الأشباح، حيث تختبئ خيالات الأزمنة الغابرة، وتربض أرواح الأزمنة الآتية: هناك رأيت شبحا، هزيلا يسير منفردا محدقا بوجه الشمس فسألته: «من أنت وما اسمك؟».
قال: «اسمي الحرية».
قلت: «وأين أبناؤك؟».
قال «واحد مات مصلوبا، وواحد مات مجنونا، وواحد لم يولد بعد» ثم توارى عن عيني وراء الضباب.
الملك السجين
خفف عنك أيها المليك الأسير؛ فلست في سجنك أشد بلاء مني في جسدي، اربض، وكن متجلدا يا أبا الأهوال، فالاضطراب أمام النوائب حري ببنات آوى، ولا يجمل بالملوك المسجونين سوى الاستهزاء بالسجن والسجان.
سكن روعك يا فتى، العزم وانظر إلي، فأنا بين عبيد الحياة مثلك بين قضبان القفص، وما الفرق بيننا سوى حلم مزعج يجاور روحي، ولكنه يخشى الاقتراب إليك.
كلانا منفي عن بلاده، بعيد عن أهله وأحبابه، فخفض عليك جأشك، وكن مثلي صابرا على مضض الأيام والليالي، ساخرا بهؤلاء الضعفاء الذين يتغلبون علينا بعددهم، لا بعزم أفرادهم.
وما عسى ينفع الزئير، والضجيج، والناس طرش لا يسمعون؟!
لقد صرخت قبلك في آذانهم، فلم أستوقف غير أشباح الدجى. وتفحصت مثلك طبقاتهم، فلم أجد بينهم سوى جبان يستبسل متجبرا أمام المقيدين بالسلاسل، وضعيف يتوقح متصلبا أمام المسجونين في الأقفاص. •••
انظر أيها المليك الجبار، انظر إلى هؤلاء المحيطين بسجنك الآن، تفرس في وجوههم؛ تجد في ملامحهم ما كنت تراه في سحنات أدنى رعاياك وأعوانك في مجاهل الصحراء، فمنهم من يشبه الأرنب بضعف قلبه، ومنهم من يماثل الثعلب باحتياله، ومنهم من يضارع الأفعى بخبثه، ولكن ليس بينهم من له سلامة الأرنب، وذكاء الثعلب، وحكمة الأفعى.
انظر، فهذا كالخنزير قذارة، أما لحمه فلا يؤكل، وهذا كالجاسوس خشونة، أما جلده فلا ينفع، وذلك كالحمار غباوة ولكنه يمشي على الاثنتين، وذلك كالغراب شؤما ولكنه يبيع نعيبه في الهياكل، وتلك كالطاووس تيها وإعجابا، أما ريشها فمستعار.
وانظر أيها السلطان المهيب، انظر إلى تلك القصور والمعاهد، فهي أوكار ضيقة يسكنها الإنسان مفاخرا بزخارف سقوفها التي تحجبه عن النجوم، مغتبطا بصلابة جدرانها التي تفصله عن أشعة الشمس. هي كهوف مظلمة تذبل في ظلالها أزاهر الشباب، وتترمد في زواياها جمرة الحب، وتتحول في فضائها رسوم الأحلام إلى أعمدة من دخان، هي سرادب غريبة يتمايل فيها سرير الطفل بجانب فراش المنازع، وينتصب فيها تخت العروس بقرب نعش الميت.
وانظر أيها الأسير الجليل، انظر إلى تلك الشوارع المنفرجة، والأزقة الضيقة فهي أودية خطرة المعابر، يتربص اللصوص بين منعرجاتها، وتختبئ الخوارج بين جنباتها، هي ساحة قتال مستتب بين الرغائب، والرغائب تتنازل فيها الأرواح متضاربة، ولكن بغير السيوف، وتتصارع متناهشة، ولكن بغير الأنياب، بل هي غابة الأهوال تسكنها حيوانات داجنة المظاهر، معطرة الأذناب، مصقولة القرون، لا تقضي شرائعها ببقاء الأنسب، بل بدوام الأروغ والأحيل، ولا تؤول تقاليدها إلى الأفضل والأقوى، بل إلى الأخبث والأكذب. أما ملوكها فليست أسدا نظيرك، بل هم مخاليق عجيبة لهم مناقد النسور، وبراثن الضبع، وألسنة العقارب، ونقيق الضفادع. •••
فدتك روحي أيها المليك السجين، فقد أطلت الوقوف لديك، وأسهبت بالكلام أمامك، ولكن هو القلب المخلوع عن عرشه يتعزى بالملوك المخلوعين، وهي النفس السجينة المستوحشة تستأنس بالسجناء، والمستوحشين، فسامح فتى يلوك الكلام متسليا به عن الطعام، ويرتشف الأفكار مستعيضا بها عن الشراب.
إلى اللقاء أيها الجبار، المهيب فإن لم يكن اللقاء في هذا العالم الغريب، فسيكون في عالم الأشباح حيث تجتمع أرواح الملوك بأرواح الشعراء.
يسوع المصلوب
كتبت يوم الجمعة الحزينة
اليوم، وفي مثل هذا اليوم من كل سنة، تستيقظ الإنسانية من رقادها العميق، وتقف أمام أشباح الأجيال ناظرة بعيون مغلفة بالدموع نحو جبل الجلجلة؛ لترى يسوع الناصري معلقا على خشبة الصليب ... وعندما تغيب الشمس عن مآتي النهار تعود الإنسانية وتركع مصلية أمام الأصنام المنتصبة على قمة كل رابية وفي سفح كل جبل.
اليوم تقود الذكرى أرواح المسيحيين من جميع أقطار العالم إلى جوار أورشليم، فيقفون هناك صفوفا قارعين صدورهم، محدقين بشبح مكلل بالأشواك باسط ذراعيه أمام اللانهاية، ناظر من وراء حجاب الموت إلى أعماق الحياة ... ولكن لا تسدل ستائر الليل على مسارح هذا النهار حتى يعود المسيحيون ويضطجعون جماعات جماعات في ظلال النسيان بين لحف الجهالة والخمول.
وفي مثل هذا اليوم من كل سنة يترك الفلاسفة كهوفهم المظلمة، والمفكرون صوامعهم الباردة، والشعراء أوديتهم الخيالية، ويقفون جميعهم على جبل عال صامتين متهيبين مصغين إلى صوت فتى يقول لقاتليه: «يا أبتاه، اغفر لهم، لأنهم لا يدرون ما يفعلون» ... ولكن لا تكتنف السكينة أصوات النور حتى يعود الفلاسفة، والمفكرون، والشعراء، ويكفنون أرواحهم بصفحات الكتب البالية.
إن النساء المشغولات ببهجة الحياة المشغوفات بالحلي، والحلل يخرجن اليوم من منازلهن يشاهدن المرأة الحزينة الواقفة أمام الصليب، وقوف الشجرة اللينة أمام عواصف الشتاء، ويقتربن منها؛ ليسمعن أنينها العميق، وغصاتها الأليمة.
أما الفتيان والصبايا الراكضون مع تيار الأيام إلى حيث لا يدرون، فيقفون اليوم هنيهة ويلتفتون إلى الوراء؛ ليروا الصبية المجدلية تغسل بدموعها قطرات الدماء عن قدمي رجل منتصب بين الأرض والسماء، ولكن عندما تمل عيونهم النظر إلى هذا المشهد، يتحولون مسرعين ضاحكين.
في مثل هذا اليوم من كل سنة تستيقظ الإنسانية بيقظة الربيع، وتقف باكية لأوجاع النصارى، ثم تطبق أجفانها، وتنام نوما عميقا، أما الربيع فيظل مستيقظا مبتسما سائرا حتى يصير صيفا مذهب الملابس معطر الأذيال.
الإنسانية امرأة يلذ لها البكاء والنحيب على أبطال الأجيال، ولو كانت الإنسانية رجلا لفرحت بمجدهم وعظمتهم.
الإنسانية طفلة تقف متأوهة بجانب الطائر الذبيح، ولكنها تخشى الوقوف أمام العاصفة الهائلة التي تهصر بمسيرها الأغصان اليابسة، وتجرف بعزمها الأقذار المنتنة.
الإنسانية ترى يسوع الناصري مولودا كالفقراء، عائشا كالمساكين، مهانا كالضعفاء، مصلوبا كالمجرمين، فتبكيه، وترثيه، وتندبه وهذا كل ما تفعله لتكريمه.
منذ تسعة عشر جيلا، والبشر يعبدون الضعف بشخص يسوع، ويسوع كان قويا، ولكنهم لا يفهمون معنى القوة الحقيقية.
ما عاش يسوع مسكينا خائفا، ولم يمت شاكيا متوجعا، بل عاش ثائرا، وصلب متمردا، ومات جبارا.
لم يكن يسوع طائرا مكسور الجناحين، بل كان عاصفة هوجاء تكسر بهبوبها جميع الأجنحة المعوجة.
لم يجئ يسوع من وراء الشفق الأزرق، ليجعل الألم رمزا للحياة، بل جاء ليجعل الحياة رمزا للحق والحرية.
لم يخف يسوع مضطهديه، ولم يخش أعدائه، ولم يتوجع أمام قاتليه، بل كان حرا على رؤوس الأشهاد جريئا أمام الظلم والاستبداد، يرى البثور الكريهة فيبضعها، ويسمع الشر متكلما فيخرسه، ويلتقي بالرياء فيصرعه.
لم يهبط يسوع من دائرة النور الأعلى، ليهدم المنازل ويبني من حجارتها الأديرة والصوامع ويستهوي الرجال الأشداء ليقودهم قسوسا ورهبانا، بل جاء ليبث في فضاء هذا العالم روحا جديدة قوية تقوض قوائم العروش المرفوعة على الجماجم، وتهدم القصور المتعالية فوق القبور، وتسحق الأصنام المنصوبة على أجساد الضعفاء المساكين.
لم يجئ يسوع ليعلم الناس بناء الكنائس الشاهقة والمعابد الضخمة في جوار الأكواخ الحقيرة والمنازل الباردة المظلمة، بل جاء ليجعل قلب الإنسان هيكلا، ونفسه مذبحا، وعقله كاهنا.
هذا ما صنعه يسوع الناصري، وهذه هي المبادئ التي صلب لأجلها مختارا. ولو عقل البشر لوقفوا اليوم فرحين متهللين، منشدين أهازيج الغلبة والانتصار. •••
وأنت أيها الجبار، المصلوب، الناظر من أعالي الجلجلة إلى مواكب الأجيال، السامع ضجيج الإثم، الفاهم أحلام الأبدية، أنت على خشبة الصليب المضرجة بالدماء أكثر جلالا ومهابة من ألف ملك على ألف عرش في ألف مملكة، بل أنت بين النزع والموت أشد هولا وبطشا من ألف قائد في ألف جيش في ألف معركة.
أنت بكآبتك أشد فرحا من الربيع بأزهاره، أنت بأوجاعك أهدأ بالا من الملائكة بسمائها، وأنت بين الجلادين أكثر حرية من نور الشمس.
إن إكليل الشوك على رأسك هو أجل وأجمل من تاج بهرام، والمسمار في كفك أسمى وأفخم من صولجان المشترى، وقطرات الدماء على قدميك أسنى لمعانا من قلائد عشتروت، فسامح هؤلاء الضعفاء الذين ينوحون عليك لا يدرون كيف ينوحون على نفوسهم، واغفر لهم لأنهم لا يعلمون بأنك صرعت الموت بالموت، ووهبت الحياة لمن في القبور.
على باب الهيكل
قد طهرت شفتي بالنار المقدسة لأتكلم عن الحب، ولما فتحت شفتي للكلام وجدتني أخرسا.
كنت أترنم بأغاني الحب قبل أن أعرفه، ولما عرفته تحولت الألفاظ في فهمي إلى لهاث ضئيل، والأنغام في صدري إلى سكينة عميقة.
وكنتم أيها الناس، فيما مضى تسألوني عن غرائب الحب، وعجائبه، فكنت أحدثكم وأقنعكم، أما الآن وقد غمرني الحب بوشاحه، فجئت بدوري أسألكم عن مسالكه ومزاياه، فهل بينكم من يجيبني؟ جئت أسألكم عما بي، وأستخبركم عن نفسي، فهل بينكم من يستطيع أن يبين قلبي لقلبي ويوضح ذاتي لذاتي؟
ألا فأخبروني، ما هذه الشعلة التي تتقد في صدري، وتلتهم قواي وتذيب عواطفي وأميالي؟
وما هذه الأيدي الخفية، الناعمة، الخشنة التي تقبض على روحي في ساعات الوحدة والانفراد، وتسكب في كبدي خمرة ممزوجة بمرارة اللذة وحلاوة الأوجاع؟
وما هذه الأجنحة التي ترفرف حول مضجعي في سكينة الليل، فأسهر مترقبا ما لا أعرفه، مصغيا إلى ما لا أسمعه، محدقا بما لا أراه، مفكرا بما لا أفهمه، شاعرا بما لا أدركه، متأوها لأن في التأوه غصات أحب إلي من رنة الضحك والابتهاج، مستسلما إلى قوة غير منظورة تميتني وتحييني، ثم تميتني وتحييني حتى يطلع الفجر ويملأ النور زوايا غرفتي، فأنا إذ ذاك، وبين أجفاني الذابلة ترتعش أشباح اليقظة، وعلى فراشي الحجري تتمايل خيالات الأحلام. •••
وما هذا الذي ندعوه حبا؟
أخبروني ما هذا السر الخفي الكامن خلف الدهور، المختبئ وراء المرئيات ، الساكن في ضمير الوجود؟
ما هذه الفكرة المطلقة التي تجيء سببا لجميع النتائج، وتأتي نتيجة لجميع الأسباب؟
ما هذه اليقظة التي تتناول الموت، والحياة، وتبتدع منها حلما أغرب من الحياة وأعمق من الموت؟
أخبروني أيها الناس، أخبروني هل بينكم من لا يستيقظ من رقدة الحياة إذا ما لمس الحب روحه بأطراف أصابعه؟
هل بينكم من لا يترك أباه، وأمه، ومسقط رأسه عندما تناديه الصبية التي أحبها قلبه؟
هل فيكم من لا يمخر البحر، ويقطع الصحارى، ويجتاز الجبال، والأودية، ليلتق بالمرأة التي اختارتها روحه؟
أي فتى لا يتبع قلبه إلى أقاصي الأرض إذا ما كان له في أقاصي الأرض حبيبة يستطيب نكهة أنفاسها، ويستلطف ملامس يديها، ويستعذب رنة صوتها؟
أي بشر لا يحرق نفسه بخورا أمام إله يسمع ابتهاله ويستجيب صلواته؟ •••
وقفت بالأمس على باب الهيكل أسأل العابرين عن خفايا الحب ومزاياه، فمر أمامي كهل مهزول القامة كاسف الوجه وقال متأوها «الحب ضعف فطري ورثناه عن الإنسان الأول».
ومر فتى قوي الجسم مفتول الساعدين وقال مترنما «الحب عزم يلازم كياننا، ويصل حاضرنا بماضي الأجيال ومستقبلها».
ومرت امرأة كفيفة العينين وقالت متنهدة: «الحب سم قتال تتنفسه الأفاعي السوداء المتقلبة في كهوف الجحيم، فيسيل منتشرا في الفضاء، ثم يهبط مغلفا بقطرات الندى، فترتشفه الأرواح الظامئة، فتسكر دقيقة، ثم تصحوا عاما، ثم تموت دهرا».
ومرت صبية موردة الوجنتين وقالت مبتسمة: «الحب كوثر تسكبه عرائس الفجر في الأرواح القوية، فيجعلها تتعالى متجمدة أمام كواكب الليل، وتسبح مترنمة أمام شمس النهار».
ومر رجل ذو ملابس سوداء ولحية مسترسلة وقال عابسا: «الحب جهالة عمياء تبتدئ ببدء الشباب وتنتهي بنهايته».
ومر رجل ذو وجه صبوح وملامح منفرجة، وقال فرحا: «الحب معرفة علوية تنير بصائرنا فنرى الأشياء كما تراها الآلهة».
ومر أعمى يجس الأرض بعكازه وقال منتحبا: «الحب ضباب كثيف يكتنف النفس من كل ناحية، ويحجب عنها رسوم الوجود، أو يجعلها لا ترى سوى أشباح أميالها مرتعشة بين الصخور، ولا تسمع غير صدى صراخها آتيا من خلايا الوادي».
ومر شاب يحمل قيثارة وقال منغما: «الحب شعاع سحري ينبثق من أعماق اللذات الحساسة، وينير جنباتها، فترى العالم موكبا سائرا في مروج خضراء، والحياة حلما جميلا منتصبا بين اليقظة واليقظة».
ومر هرم منحني الظهر يجر قدميه كأنهما خرقتان وقال مرتعشا «الحب راحة الجسم في سكينة القبر، وسلامة النفس في أعماق الأبدية».
ومر طفل ابن خمس وهتف ضاحكا «الحب أبي، والحب أمي، ولا يعرف الحب سوى أبي وأمي». •••
وانقضى النهار، والناس يمرون أمام الهيكل، وكل يصور نفسه متكلما عن الحب، ويبوح بأمانيه معلنا سر الحياة.
ولما جاء المساء، وسكنت حركة العابرين سمعت صوتا آتيا من داخل الهيكل يقول: «الحياة نصفان: نصف متجلد، ونصف ملتهب، فالحب هو النصف الملتهب».
فدخلت الهيكل إذ ذاك، وسجدت راكعا مبتهلا مصليا هاتفا «اجعلني يا رب طعاما للهيب، اجعلني أيها الإله، مأكلا للنار المقدسة. آمين».
أيها الليل
يا ليل العشاق، والشعراء، والمنشدين.
يا ليل الأشباح، والأرواح، والأخيلة.
يا ليل الشوق، والصبابة، والتذكار.
أيها الجبار، الواقف بين أقزام غيوم المغرب وعرائس الفجر، المتقلد سيف الرهبة، المتوج بالقمر، المتشح بثوب السكوت، والناظر بألف عين إلى أعماق الحياة، المصغي بألف أذن إلى أنة الموت والعدم.
أنت ظلام يرينا أنوار السماء، والنهار نور يغمرنا بظلمة الأرض.
أنت أمل يفتح بصائرنا أمام هيبة اللانهاية، والنهار غرور يوقفنا كالعميان في عالم المقاييس والكمية.
أنت هدوء يبيح بصمته خفايا الأرواح المستيقظة السائرة في الفضاء العلوي، والنهار ضجيج يثير بعوامله نفوس المنطرحين بين سنابك المقاصد والرغائب.
أنت عادل يجمع بين جنحي الكرم أحلام الضعفاء بأماني الأقوياء، وأنت شفوق يغمض بأصابعه الخفية أجفان التعساء، ويحمل قلوبهم إلى عالم أقل قساوة من هذا العالم.
بين طيات أثوابك الزرقاء يسكب المحبون أنفسهم، وعلى قدميك المغلفتين بقطر الندى يهرق المستوحشون قطرات دموعهم، وفي راحتيك المعطرتين بطيب الأودية يضيع الغرباء تنهدات شوقهم وحنينهم، فأنت نديم المحبين، وأنيس المستوحدين، ورفيق الغرباء، والمستوحشين.
في ظلالك تدب عواطف الشعراء، وعلى منكبيك تستفيق قلوب الأنبياء، وبين ثنايا ضفائرك ترتعش قرائح المفكرين، فأنت ملقن الشعراء، والموحي إلى الأنبياء، والموعز إلى المفكرين والمتأملين. •••
عندما ملت نفسي البشر، وتعبت أجفاني من النظر إلى وجه النار، سرت إلى تلك الحقول البعيدة حيث تهجع أشباح الأزمنة الغابرة.
هناك وقفت أمام كائن أقتم، جامد، مرتعش، سائر بألف قدم فوق السهول، والجبال، والأودية.
هنالك أحدقت شاخصا بعيون الدجى، مصغيا لحفيف الأجنحة غير المنظورة، وشاعرا بملامس ملابس السكوت، مستبسلا أمام مخاوف الظلام.
هنالك رأيتك أيها الليل شبحا، هائلا، جميلا، منتصبا بين الأرض والسماء، متشحا بالسحاب، ممنطقا بالضباب، ضاحكا من الشمس، ساخرا بالنهار، مستهزئا بالعبيد الساهرين أمام الأصنام، غاضبا على الملوك الراقدين فوق الحرير والديباج، محملقا بوجوه اللصوص، خافرا بقرب أسرة الأطفال، باكيا لابتسام الساقطات، مبتسما لبكاء العشاق، رافعا بيمينك كبار القلوب، ساحقا بقدميك صغار النفوس.
هنالك رأيتك أيها الليل، ورأيتني، فكنت بهولك لي أبا، وكنت بأحلامي لك ابنا، فأزيحت من بيننا ستائر الأشكال، وتمزق من وجهينا نقاب الظن والتخمين، فأبحت لي بأسرارك ونواياك، وأبنت لك أماني وآمالي، حتى إذا تحولت أهوالك إلى أنغام أعذب من همس الأزهار، وتبدلت مخاوفي بأنس أطيب من طمأنينة العصافير، رفعتني إليك، وأجلستني على منكبيك، وعلمت عيني النظر، وعلمت أذني السمع، وعلمت شفتي الكلام، وعلمت قلبي محبة ما لا يحبه الناس، وكره ما لا يكرهونه، ثم لمست بأناملك أفكاري، فتدفقت أفكاري نهرا راكضا مترنما يجرف الأعشاب الذابلة، ثم قبلت بشفتيك روحي، فتمايلت روحي شعلة متقدة تلتهم الأنصاب اليابسة. •••
لقد صحبتك أيها الليل، حتى صرت شبيها بك، وألفتك حتى تمازجت أميالي بأميالك، وأحببتك حتى تحول وجداني إلى صورة مصغرة لوجودك، ففي نفسي المظلمة كواكب متلمعة ينثرها الوجد عند المساء، وتلتقطها الهواجس في الصباح، وفي قلبي الرقيب قمر يسعى تارة في فضاء متلبد بالغيوم، وطورا في خلاء مفعم بمواكب الأحلام، وفي روحي الساهرة سكينة تبيح بتفاعيلها سرائر المحبين، وترجع خلاياها صدى صلوات المتعبدين، وحول رأسي غلاف من السحر تمزقه حشرجة المنازعين، ثم تحيطه أغاني المتشببين.
أنا مثلك أيها الليل، وهل يحسبني الناس مفاخرا إذا ما تشبهت بك، وهم إذا تفاخروا يتشبهون بالنهار!
أنا مثلك وكلانا متهم بما ليس فيه.
أنا مثلك بأميالي، وأحلامي، وخلقي، وأخلاقي.
أنا مثلك وإن لم يتوجني المساء بغيومه الذهبية.
أنا مثلك وإن لم يرصع الصباح أذيالي بأشعته الوردية.
أنا مثلك وإن لم أكن ممنطقا بالمجرة.
أنا ليل مسترسل منبسط هادئ مضطرب، وليس لظلمتي بدء، وليس لأعماقي نهاية، فإذا ما انتصبت الأرواح متباهية بنور أفراحها، تتعالى روحي متجمدة بظلام كآبتها.
أنا مثلك أيها الليل ولن يأتي صباحي حتى ينتهي أجلي.
الجنية الساحرة
إلى أين تسيرين بي أيتها الساحرة؟
حتى ما أتبعك على هذه الطريق الوعرة، المنسابة بين الصخور، المفروشة بالأشواك، المتصاعدة بأقدامنا نحو الأعالي، الهابطة بنفسينا إلى الأعماق؟
قد تمسكت بأذيالك، وسرت ورائك كطفل يلاحق أمه، متناسيا ما بي من الأحلام، محدقا بما فيك من الجمال، متعاميا عن مواكب الأشباح المتطايرة حول رأسي، مجذوبا بالقوة الخفية الكامنة في جسدك.
قفي بي هنيهة، لأرى وجهك، انظري إلي دقيقة لعلي أرى في عينيك أسرار صدرك، وأفهم من ملامحك مخبآت نفسك.
قفي قليلا أيتها الجنية، فقد مللت المسير، وارتعدت روحي من مخاوف الطريق قفي، فقد بلغنا ملتقى السبل حيث يعانق الموت الحياة، ولن أسير خطوة أخرى حتى تستعلن روحي نيات روحك، ويستوضح قلبي خزائن قلبك. •••
اسمعي أيتها الجنية الساحرة: كنت بالأمس طائرا حرا، أتنقل بين السواق، وأسبح في الفضاء، وأجلس على أطراف الغصون عند المساء متأملا بالقصور والهياكل في مدينة الغيوم المتلونة التي تبقيها عند الأصيل وتهدمها قبل الغروب.
بلى، كنت كالفكر أسير منفردا في مشارق الأرض ومغاربها، فرحا بمحاسن الحياة وملذاتها، مستقصيا خفايا الوجود وأسراره.
بل كنت كالحلم أسعى تحت جنح الليل، وأدخل من شقوق النوافذ إلى خدور العذارى النائمات، وأتلاعب بعواطفهن، ثم أقف بجانب أسرة الفتيان، وأثير أميالهم، ثم أجلس بقرب مضاجع االشيوخ، وأستجلي أفكارهم.
واليوم وقد لقيتك أيتها الساحرة، وتسممت بقبل يديك، فقد أصبحت مثل أسير أجر قيودي إلى حيث لا أدري، بل إني صرت مثل نشوان أستزيد من الخمر التي سلبتني إرادتي، وألثم الكف التي صفعت وجهي .
ولكن قفي قليلا أيتها الساحرة، فها قد استرجعت قواي، وكسرت القيود التي برت قدمي، وسحقت الكأس التي شربت منها السم الذي استطيبته، فماذا تريدين أن نفعل، وعلى أي طريق تريدين أن نسير؟
قد استرديت حريتي، فهل ترضين بي رفيقا حرا «ويحدق بوجه الشمس بأجفان جامدة، ويقبض على النار بأصابع غير مرتعشة؟».
قد فتحت جناحي ثانية، فهل تصحبين فتي يصرف الأيام متنقلا كالنسر بين الجبال، ويقضي الليالي رابضا كالأسد في الصحراء؟
هل تكتفين بحب رجل يتخذ الحب نديما ويأباه سيدا؟
هل تقنعين بشغف قلب يهيم، ولا يستسلم، ويشتعل، ولكنه لا يذوب؟
هل ترتاحين إلى أميال نفس ترتعش أمام العاصفة، ولكنها لا تنصهر، وتثور مع الزوابع ولكنها لا تقتلع من مكانها؟
هل ترضين بي صاحبا لا يستعبد ولا يستعبد؟
إذا، هذه يدي فهزيها بيدك الجميلة، وهذا جسدي فضميه بذراعيك الناعمتين، وهذا فمي فقبليه قبلة طويلة عميقة خرساء.
قبل الانتحار
في هذه الغرفة المنفردة الهادئة قد جلست بالأمس المرأة التي أحبها قلبي.
إلى هذه المساند الوردية الناعمة قد ألقت رأسها الجميل، ومن هذه الكأس البلورية قد شربت جرعة من الخمر، ممزوجة بقطرة من العطر.
كل ذلك قد كان بالأمس، والأمس حلم لا يعود، أما اليوم فقد ذهبت المرأة التي أحبها قلبي إلى أرض بعيدة خالية مقفرة باردة تدعى بلاد الخلو والنسيان.
إن آثار أصابع المرأة التي أحبها قلبي، لم تزل ظاهرة على بلور مرآتي، وعطر أنفاسها ما برح متضوعا بين طيات أثوابي، وصدى صوتها لم يضمحل بعد من زوايا منزلي - ولكن المرأة نفسها - المرأة التي أحبها قلبي قد رحلت إلى مكان قصي يدعى وادي الهجر، والسلوان، أما آثار أصابعها، وعطر لهاتها، وأشباح روحها، فستبقى في هذه الغرفة حتى صباح الغد، وعند ذلك أفتح نوافذ منزلي؛ لتدخل أمواج الهواء، وتجرف بتيارها كل ما تركته لي تلك الساحرة الحسناء.
إن رسم المرأة التي أحبها قلبي لم يزل معلقا بجانب مضجعي، ورسائل الحب التي بعثت بها إلي ما برحت في العلبة الفضية المرصعة بالعقيق والمرجان، وذؤابة الشعر الذهبية التي حبتني بها تذكارا لم تخرج قط من الغلاف الحريري المبطن بالمسك والبخور - جميع هذه الأشياء ستبقى في أماكنها حتى الصبح - وعند مجيء الصباح أفتح نوافذ منزلي، ليدخل الهواء، ويحملها إلى ظلمة العدم إلى حيث تقطن السكينة الخرساء.
إن المرأة التي أحبها قلبي شبيهة بالنساء اللواتي أحبتهن قلوبكم أيها الفتيان، هي مخلوقة عجيبة صنعتها الآلهة من وداعة الحمامة، وتقلبات الأفعى، وتيه الطاووس، وشراسة الذئب، وجمال الوردة البيضاء، وهول الليلة السوداء مع قبضة من الرماد، وغرفة من زبد البحر.
وقد عرفت المرأة التي أحبها قلبي أيام الطفولة، فكنت أركض ورائها في الحقول، وأتمسك بأذيالها في الشوارع.
وعرفتها أيام الصبا، فكنت أرى خيال وجهها في وجوه الكتب، والأسفار، وأشاهد خطوط قامتها بين غيوم السماء، وأسمع نغمة صوتها متصاعدة مع خرير السواقي.
وعرفتها أيام الرجولة؛ فكنت أجالسها محدثا، وأسألها مستفتيا، وأقترب منها شاكيا ما في قلبي من الأوجاع، باسطا ما في روحي من الأسرار.
كل ذلك كان بالأمس، والأمس حلم لا يعود، أما اليوم فقد ذهبت تلك المرأة إلى أرض بعيدة خالية مقفرة باردة تدعى بلاد الخلو والنسيان. •••
أما اسم المرأة التي أحبها قلبي فهو الحياة.
فالحياة امرأة ساحرة حسناء تستهوي قلوبنا، وتستغوي أرواحنا، وتغمر وجداننا بالوعود، فإن أمطلت أماتت فينا الصبر، وإن أبرت أيقظت فينا الملل.
الحياة امرأة تستحم بدموع عشاقها، وتتعطر بدماء قتلاها.
الحياة امرأة ترتدي الأيام البيضاء المبطنة بالليالي السوداء.
الحياة امرأة ترضى بالقلب البشري خليلا، وتأباه حليلا.
الحياة امرأة عاهرة؛ ولكنها جميلة، ومن يرى عهرها يكره جمالها.
يا بني أمي
ماذا تريدون مني يا بني أمي؟
أتريدون أن أبني لكم من المواعيد الفارغة قصورا مزخرفة بالكلام، وهياكل مسقوفة بالأحلام أم تريدون أن أهدم ما بناه الكاذبون، والجبناء، وأنقض ما رفعه المرائون، والخبثاء؟
ماذا تريدون أن أفعل يا بني أمي؟
أأهدل كالحمائم لأرضيكم، أو أزمجر كالأسد لأرضي نفسي؟
قد غنيت لكم، فلم ترقصوا، ونحت أمامكم، فلم تبكوا، فهل تريدون أن أترنم، وأنوح في وقت واحد؟
نفوسكم تتلوى جوعا ، وخبز المعرفة أوفر من حجارة الأودية، ولكنكم لا تأكلون، وقلوبكم تختلج عطشا، ومناهل الحياة تجري كالسواقي حول منازلكم، فلماذا لا تشربون؟
للبحر مد وجزر، وللقمر نقص وكمال، وللزمن صيف وشتاء، أما الحق فلا يحول، ولا يزول ولا يتغير فلماذا تحاولون تشويه وجه الحق؟
ناديتكم في سكينة الليل؛ لأريكم جمال البدر، وهيبة الكواكب، فهببتم من مضاجعكم مذعورين، وقبضتم على سيوفكم، ورماحكم صارخين «أين العدو لنصرعه؟» وعند الصباح وقد جاء العدو بخيله، ورجله ناديتكم، فلم تهبوا من رقادكم، بل ظللتم تغالبون مواكب الأحلام.
قلت لكم: تعالوا نصعد إلى قمة الجبل، لأريكم ممالك العالم، فأجبتم قائلين «في أعماق هذا الوادي عاش آباؤنا، وجدودنا، وفي ظلاله ماتوا، وفي كهوفه قبروا، فكيف نتركه ونذهب إلى حيث لم يذهبوا؟».
قلت لكم: هلموا نذهب إلى السهول، لأريكم مناجم الذهب، وكنوز الأرض، فأجبتم قائلين: «في السهول تربض اللصوص وقطاع الطرق».
قلت: تعالوا نذهب إلى الساحل حيث يعطي البحر خيراته، فأجبتم قائلين: «ضجيج اللجة يخيف أرواحنا، وهوى الأعماق يميت أجسادنا». •••
لقد كنت أحبكم يا بني أمي، وقد أضر بي الحب ولم ينفعكم، واليوم صرت أكرهكم، والكره سيل لا يجرف غير القضبان اليابسة، ولا يهدم سوى المنازل المتداعية.
كنت أشفق على ضعفكم يابنى أمي، والشفقة تكثر الضعفاء، وتنمي عدد المتوانين، ولا تجدي الحياة شيئا، واليوم صرت أرى ضعفكم؛ فترتعش نفسي اشمئزازا، وتنقبض ازدراء.
كنت أبكي على ذلكم وانكساركم، وكانت دموعي تجري صافية كالبلور، ولكنها لم تغسل أدرانكم الكثيفة، بل أزالت الغشاء عن عيني، ولا بللت صدوركم المتحجرة، بل أذابت الجزع في قلبي، واليوم صرت أضحك من أوجاعكم، والضحك رعود قاصفة تجيء قبل العاصفة، ولا تأتي بعدها.
ماذا تريدون مني يا بني أمي؟
أتريدون أن أريكم أشباح وجوهكم في أحواض المياه الهادئة؟ تعالوا إذن، وانظروا ما أقبح ملامحكم.
هلموا وتأملوا فقد جعل الخوف شعور رؤوسكم كالرماد، وعرك السهر عيونكم؛ فأصبحت كالحفر المظلمة، ولمست الجبانة خدودكم، فبانت كالخرق المتجعدة، وقبل الموت شفاهكم، فأمست صفراء كأوراق الخريف.
ماذا تطلبون مني يا بني أمي ، بل ماذا تطلبون من الحياة، والحياة لم تعد تحسبكم من أبنائها؟
أرواحكم تنتفض في مقابض الكهان والمشعوذين، وأجسادكم ترتجف بين أنياب الطغاة والسفاحين، وبلادكم ترتعش تحت أقدام الأعداء والفاتحين، فماذا ترجون من وقوفكم أمام وجه الشمس؟
سيوفكم مغلفة بالصداء، ورماحكم مكسورة الحراب، وتروسكم مغمورة بالتراب، فلماذا تقفون في ساحة الحرب والقتال؟
دينكم رياء، ودنياكم ادعاء، وآخرتكم هباء، فلماذا تحيون والموت راحة الأشقياء؟ •••
إنما الحياة عزم يرافق الشبيبة، وجد يلاحق الكهولة، وحكمة تتبع الشيخوخة، أما أنتم يا بني أمي فقد ولدتم شيوخا عاجزين، ثم صغرت رؤوسكم، وتقلصت جلودكم، فصرتم أطفالا تنقلبون على الأوحال، وتترامون بالحجارة.
إنما الإنسانية نهر بلوري يسير متدفقا، مترنما، حاملا أسرار الجبال إلى أعماق البحر، أما أنتم يا بني أمي، فمستنقعات خبيثة تدب الحشرات في أعماقها، وتتلوى الأفاعي على جنباتها.
إنما النفس شعلة زرقاء متقدة مقدسة تلتهم الهشيم، وتنمو بالأنواء، وتنير أوجه الآلهة، أما نفوسكم يا بني أمي فرماد تذروه الرياح على الثلوج، وتبدده العواصف في الأودية.
أنا أكرهكم يا بني أمي؛ لأنكم تكرهون المجد والعظمة.
أنا أحتقركم؛ لأنكم تحتقرون نفوسكم.
أنا عدوكم لأنكم أعداء الآلهة، ولكنكم لا تعلمون.
نحن وأنتم
نحن أبناء الكآبة، وأنتم أبناء المسرات.
نحن أبناء الكآبة، والكآبة ظل إله لا يسكن في جوار القلوب الشريرة، نحن ذوو النفوس الحزينة، والحزن كبير لا تسعه النفوس الصغيرة، نحن نبكي، وننتحب أيها الضاحكون، ومن يغتسل بدموعه مرة يظل نقيا إلى نهاية الدهور.
أنتم لا تعرفوننا، أما نحن فنعرفكم، أنتم سائرون بسرعة مع تيار نهر الحياة، فلا تلتفتون نحونا، أما نحن فجالسون على الشاطئ نراكم ونسمعكم، أنتم لا تعون صراخنا؛ لأن ضجيج الأيام يملأ آذانكم، أما نحن فنسمع أغانيكم؛ لأن همس الليالي قد فتح مسامعنا، نحن نراكم؛ لأنكم واقفون في النور المظلم، أما أنتم فلا تروننا؛ لأننا جالسون في الظلمة المنيرة.
نحن أبناء الكآبة، نحن الأنبياء، والشعراء، والموسيقيون، نحن نحوك من خيوط قلوبنا ملابس الآلهة؛ فنملأ بحبات صدورنا حفنات الملائكة، وأنتم أنتم أبناء غفلات المسرات، ويقظات الملاهي، أنتم تضعون قلوبكم بين أيدي الخلو؛ لأن أصابع الخلو لينة الملامس، وترتاحون بقرب الجهالة؛ لأن بيت الجهالة خال من مرآة ترون فيها وجوهكم، نحن نتنهد، ومع تنهداتنا يتصاعد همس الزهور، وحفيف الغصون، وخرير السواقي، أما أنتم تضحكون، وقهقهة ضحككم تمتزج بسحيق الجماجم، وحرتقة القيود، وعويل الهاوية.
نحن نبكي ودموعنا تنسكب في قلوب الحياة، مثلما يتساقط الندى من أجفان الليل في كبد الصباح، أما أنتم فتبتسمون، ومن جوانب أفواهكم المبتسمة تنهرق السخرية مثلما يسيل سم الأفاعي على جرح الملسوع.
نحن نبكي؛ لأننا نرى تعاسة الأرملة، وشقاء اليتيم، وأنتم تضحكون؛ لأنكم لا ترون غير لمعان الذهب، نحن نبكي لأننا نسمع أنة الفقير، وصراخ المظلوم، وأنتم تضحكون؛ لأنكم لا تسمعون سوى رنة الأقداح، نحن نبكي؛ لأن أرواحنا منفصلة بالأجساد عن الله، وأنتم تضحكون لأن أجسادكم تلتصق مرتاحة بالتراب. •••
نحن أبناء الكآبة، وأنتم أبناء المسرات، فهلموا نضع مآتي كآبتنا، وأعمال مسراتكم أمام وجه الشمس.
أنتم بنيتم الأهرام من جماجم العبيد، والأهرام جالسة الآن على الرمال تحدث الأجيال عن خلودنا وفنائكم، ونحن هدمنا الباستيل بسواعد الأحرار، والباستيل لفظة ترددها الأمم؛ فتباركنا وتلعنكم، أنتم رفعتم حدائق بابل فوق هياكل الضعفاء، وأقمتم قصور نينوى فوق مدافن البؤساء، وها قد أصبحت بابل، ونينوي نظير آثار أخفاف الإبل على رمال الصحراء، أما نحن فقد نحتنا تمثال عشتروت من الرخام، فجعلنا الرخام يرتعش جامدا، ويتكلم صامتا، وضربنا النهاوند على الأوتار، فاستحضرت الأوتار أرواح المحبين الحائمة في الفضاء، ورسمنا مريم بالخطوط والألوان، فغدت الخطوط كأفكار الآلهة، والألوان كعواطف الملائكة.
أنتم تتبعون الملاهي، وأظافر الملاهي مزقت ألف ألف من الشهداء في مراسح رومية وأنطاكية، ونحن نلاحق السكينة، وأصابع السكينة؛ نسجت الإلياذة وسفر أيوب، والتائية الكبرى. أنتم تضاجعون الشهوات، وعواصف الشهوات جرفت ألف موكب من أرواح النساء إلى هاوية العار والفجور، ونحن نعانق الوحدة، وفي ظلال الوحدة؛ تجسمت المعلقات، ورواية هملت، وقصيدة دانتي، أنتم تسامرون المطامع، وأسياف المطامع أجرت ألف نهر من الدماء، ونحن نرافق الخيال؛ وأيدي الخيال أنزلت المعرفة من دائرة النور الأعلى .
نحن أبناء الكآبة، وأنتم أولاد المسرات، وبين كآبتنا، وسروركم عقبات صعبة لمسالك ضيقة المعابر لا تجتازها خيولكم المهطمة، ولا تسير عليها مركباتكم الجميلة.
نحن نشفق على صغارتكم، وأنتم تكرهون عظمتنا، وبين شفقتنا، وكرهكم يقف الزمان محتارا بنا وبكم.
نحن ندنو منكم كالأصدقاء، وأنتم تهاجموننا كالأعداء، وبين الصداقة، والعداوة هوة عميقة مملوئة بالدموع، والدماء.
نحن نبني لكم القصور، وأنتم تحفرون لنا القبور، وبين جمال القصر، وظلمة القبر تسير الإنسانية بأقدام من حديد.
نحن نفرش سبلكم بالورود، وأنتم تغمرون مضاجعنا بالأشواك، وبين أوراق الوردة وأشواكها تنام الحقيقة نوما عميقا أبديا.
منذ البدء وأنتم تصارعون قوانا اللينة بضعفكم الخشن ... تغلبوننا ساعة، فتضجون فرحين كالضفادع، ونغلبكم دهرا، ونظل صامتين كالجبابرة، قد صلبتم الناصري، ووقفتم حوله تسخرون به وتجدفون عليه، ولكن لما انقضت تلك الساعة نزل من عن صليبه وسار كالجبال يتغلب على الأجيال بالروح، والحق، ويملأ الأرض بمجده، وجماله.
قد سممتم سقراط، ورجمتم بولس، وقتلتم غليلو، وفتكتم بعلي بن أبي طالب، وخنقتم مدحت باشا، وهؤلاء يحيون الآن كالأبطال الظافرين أمام وجه الأبدية، أما أنتم فتعيشون في ذاكرة الإنسانية كجثث فوق التراب لا تجد من يدفنها في ظلمة النسيان والعدم.
نحن أبناء الكآبة، والكآبة غيوم تمطر العالم خيرا، ومعرفة، وأنتم أبناء المسرات، ومهما تعالت مسراتكم فهي كأعمدة الدخان تهدمها الرياح، وتبددها العناصر.
أبناء الآلهة وأحفاد القرود
ما أغرب الدهر، وما أغربنا! فقد تغير الدهر وغيرنا، وسار إلى الأمام وسيرنا، وأسفر عن وجهه فأذهلنا وفرحنا.
كنا بالأمس نشكو الدهر ونخشاه، فأصبحنا اليوم نصحبه ونهواه، بل صرنا ندرك مقاصده وسجاياه، ونفهم أسراره وخفاياه.
بالأمس كنا ندب متحذرين كالأشباح المرتعشة بين أهوال الليل، ومخاوف النهار، فأصبحنا اليوم نسير متحمسين نحو أمم الجبال حيث تكمن العواصف، الشديدة، وتتولد البروق اللامعة والرعود القاصفة.
كنا بالأمس نأكل الخبز معجونا بالدماء، ونشرب الماء ممزوجا بالدموع، فصرنا اليوم نتناول المن من أيدي عرائس الصباح، ونرشف الخمر معطرة بأنفاس الربيع.
بالأمس كنا ألعوبة في يد القضاء، وكان القضاء جبارا ثملا يتلوى بنا إلى اليمين ، وإلى اليسار، أما اليوم فقد صحا القضاء من سكره؛ فأصبحنا نلاعبه فيلعب، ونداعبه فيضحك، ثم نقوده وراءنا فينقاد.
كنا بالأمس نحرق البخور أمام الأصنام، وننحر الضحايا أمام الآلهة الغضوبة، أما اليوم فصرنا لا نحرق بخورا إلا لنفوسنا، ولا نقدم ذبيحة لغير ذواتنا؛ لأن أعظم الآلهة، وأبهاهم جمالا قد جعل هيكله في صدورنا.
بالأمس كنا نخضع للملوك، ونلوي رقابنا أمام السلاطين، أما اليوم فصرنا لا ننحني إلا للحق، ولا نتبع غير الجمال، ولا نطيع سوى المحبة.
كنا بالأمس نخشع أبصارنا أمام الكهان، ونتهيب رؤيا العرافين، أما اليوم وقد تغير الدهر وغيرنا؛ فأصبحنا لا نحدق في غير وجه الشمس، ولا نصغى إلا لنغمة البحر، ولا نهتز إلا مع الزوابع.
بالأمس كنا نهدم عروش نفوسنا؛ لنبني من قوائمها قبورا لأجدادنا، أما اليوم فقد تحولت نفوسنا مذابح مقدسة لا تدنو منها أشباح القرون الغابرة، ولا تلامسها أصابع الأموات البالية.
كنا فكرا، صامتا، مختبئا في زوايا النسيان، فأصبحنا صوتا صارخا ترتجف له أعماق القضاة.
كنا شرارة ضئيلة مكتنفة بالرماد، فصرنا نارا متقدة فوق أكتاف الأودية. •••
وكم سهرنا الليالي متوسدين التراب، ملتحفين بالثلوج باكين على إلف ورزق فقدناه، وكم صرفنا الأيام رابضين كنعاج لا راعي لها، نقضم أفكارنا، ونلوك عواطفنا، ونظل جائعين ظامئين. وكم وقفنا بين نهار زائل ومساءات نائحين على شباب ذابل، مشتاقين إلى من لا نعرفه، مستوحشين لأسباب نجهلها، محدقين بفضاء خال مظلم، مصغين إلى أنة السكون والعدم.
تلك أجيال مرت مرور الذئاب الخاطفة بين المدافن، أما اليوم، وقد صحا الفضاء وصحونا، فصرنا نقضي الليالي البيضاء على أسرة علوية، مساهرين الخيال، مسامرين الفكر، معانقين الأميال، تتمايل حولنا شعلات النار؛ فنقبض عليها بأصابع غير مرتعشة، وتتصاعد حولنا أرواح الجن؛ فنخاطبها بلغة غير ملتبسة، وتمر بنا أجواق الملائكة فنستهويها بشوق قلوبنا ونسكرها بنغمة أرواحنا.
كنا بالأمس وأصبحنا اليوم، وهذه مشيئة الآلهة بأبناء الآلهة، فما هي إرادتكم يا أبناء القرود؟
هل سرتم خطوة واحدة إلى الأمام منذ انبثقتم من شقوق الأرض؟ أم رفعتم أبصاركم نحو الأعالي منذ فتحت الشياطين أبصاركم؟ أم تلفظتم بكلمة من سفر الحق منذ قبلت أفواه الأفاعي أفواهكم؟ أم أصغيتم هنيهة لأغنية الحياة منذ أغلق الموت آذانكم؟
منذ سبعين ألف سنة مررت بكم، فرأيتكم تتقلبون كالحشرات في زوايا الكهوف، ومنذ سبع دقائق نظرت وراء بلور نافذتي، فوجدتكم تسيرون في الأزقة القذرة، وأبالسة الخمول تقودكم، وقيود العبودية تتمسك بأقدامكم، وأجنحة الموت تصفق فوق رؤوسكم، فأنتم اليوم كما كنتم، وستظلون غدا، وبعده مثلما رأيتكم في البدء.
كنا بالأمس فأصبحنا اليوم، وهذا ناموس الآلهة بأبناء الآلهة، فما هي سنة القرود بكم يا أبناء القرود؟
بين ليل وصباح
اسكت يا قلبي فالفضاء لا يسمعك.
اسكت فالأثير المثقل بالنواح، والعويل لن يحمل أغانيك وأناشيدك.
اسكت فأشباح الليل لا تحفل بهمس أسرارك، ومواكب الظلام لا تقف أمام أحلامك.
اسكت يا قلبي، اسكت حتى الصباح، فمن يترقب الصباح صابرا يلاقي الصباح قويا. ومن يهوى النور فالنور يهواه.
اسكت يا قلبي واسمعني متكلما.
في الحلم رأيت شحرورا يغرد فوق فوهة بركان ثائر.
ورأيت زنبقة ترفع رأسها فوق الثلوج.
ورأيت حورية عارية ترقص بين القبور.
ورأيت طفلا يلعب بالجماجم وهو يضحك.
رأيت جميع هذه الصور في الحلم، ولما استيقظت، ونظرت إلى حولي رأيت البركان هائجا، ولكني لم أسمع الشحرور مغردا، ولا رأيته مرفرفا.
ورأيت الفضاء ينثر الثلوج على الحقول، والأودية، ساترا بأكفانه البيضاء أجسام الزنابق الهامدة.
ورأيت القبور صفوفا منتصبة أمام سكينة الدهور، وليس بينها من يتمايل راقصا، ولا من يجثو مصليا.
ورأيت رابية من الجماجم، وليس هناك من ضاحك سوى الريح.
في اليقظة رأيت الحزن، والأسى فأين ذهبت أفراح الحلم ومسراته؟
أني توارت بهجة المنام، وكيف اضمحلت رسومه؟ وكيف تتجلد النفس حتى يعيد النوم أشباح أمانيها وآمالها؟
اصغ يا قلبي واسمعني متكلما.
كانت نفسي بالأمس شجرة قوية مسنة تمتد عروقها إلى أعماق الأرض، وتتعالى غصونها نحو اللانهاية.
ولقد أزهرت نفسي في الربيع، وأثمرت في الصيف، ولما جاء الخريف جمعت أثمارها في أطباق من الفضة، ووضعتها على قارعة الطريق، فكان العابرون يتناولون منها ، ويأكلون ثم يسيرون في سبيلهم.
ولما انقضى الخريف، وتحولت تهاليله إلى الندب، والولولة نظرت فلم أر في أطباقي سوى ثمرة واحدة أبقاها الناس لي، فتناولتها وأكلتها، فألفيتها كالعلقم، حامضة كالحصرم، فقلت لنفسي: «ويحي لقد وضعت في أفواه الناس لعنة، وفي أجوافهم عداء، فماذا ترى فعلت يا نفسي بالحلاوة التي امتصتها عروقك من أحشاء الأرض، وبالأريج الذي تشربته قضبانك من نور الشمس؟».
بعد ذلك اقتلعت شجرة نفسي القوية المسنة.
اقتلعتها بعروقها من التربة التي نمت فيها وترعرعت، اقتلعتها من ماضيها، ونزعت عنها ذكرى ألف ربيع، وألف خريف.
وعدت فزرعت شجرة نفسي في مكان آخر.
زرعتها في حقل بعيد عن سبل الزمن، وكنت أسهر بجانبها قائلا إن السهر يدنينا من النجوم، وكنت أسقيها بدمي، ودموعي قائلا: إن في الدم نكهة، وفي الدموع حلاوة، ولما عاد الربيع أزهرت نفسي ثانية.
وفي الصيف أثمرت نفسي، ولما جاء الخريف جمعت أثمارها الناضجة بأطباق من الذهب ووضعتها على ملتقى السبل، فمر الناس أفرادا وجماعات، ولكن لم يمد أحد يده ليتناول منها.
فأخذت إذ ذاك ثمرة وأكلت، فوجدتها حلوة كالشهد، لذيذة كالكوثر، طيبة كالخمرة البابلية، عطرة كأنفاس الياسمين، فصرخت قائلا: «إن الناس لا يريدون البركة في أفواههم ولا الحق في أجوافهم، لأن البركة ابنة الدموع، والحق ابن الدماء».
ثم عدت وجلست في ظل شجرة نفسي المنفردة في حقل بعيد عن سبل الزمن. •••
اسكت يا قلبي حتى بالصباح.
اسكت، فالقضاء قد أتخمته رائحة الأشلاء، فلن يتشرب أنفاسك، اصغ يا قلبي، واسمعني متكلما.
كانت بالأمس فكرتي سفينة تتقلب بين أمواج البحار، وتتنقل مع الأهواء من شاطئ إلى شاطئ.
ولقد كانت سفينة فكرتي خالية إلا من سبعة أكواب طافحة بألوان مختلفة تشابه ألوان قوس القزح بنضارتها.
وجاء زمن مللت فيه التنقل على وجه البحار، فقلت سأعود بسفينة فكرتي الفارغة إلى ميناء البلد الذي ولدت فيه.
ثم أخذت أطلي جوانب سفينتي بألوان صفراء كشمس المغيب، وخضراء كقلب الربيع، وزرقاء ككبد السماء، وحمراء كذوب الشقيق، وأرسم على شراعها، ودفتها رسوما غريبة تجذب العين، وتبهج البصيرة، ولما انتهيت من عملي، وقد ظهرت سفينة فكرتي كرؤيا نبي تطوف بين اللانهايتين، البحر والسماء، دخلت ميناء بلدي؛ فخرج الناس لملاقاتي بالتهليل، والتعظيم، وأدخلوني المدينة ضاربين الدفوف، نافخين الزمور.
فعلوا ذلك؛ لأن خارج سفينتي كان مزخرفا بهجا، ولم يدخل أحد جوف سفينة فكرتي.
ولم يسأل أحد ماذا جلبت فيها من وراء البحار؟
ولم يدر أحد أني عدت بها فارغة إلى الميناء.
عند ذلك قلت في سري: «لقد ضللت الناس، وبسبعة أكواب من الألوان قد كذبت على باصرتهم وبصائرهم».
وبعد عام ركبت سفينة فكرتي، وأبحرت ثانية.
سرت إلى جزر الشرق؛ فجمعت منها: المر، واللبان، والند، والصندل، وأدخلتها إلى سفينتي.
وإلى جزر الجنوب؛ فجلبت منها: التبر، والعاج، والياقوت، والزمرد، وجميع الحجارة الكريمة.
وإلى جزر الشمال فعدت منها: بالخز، والوشى، والبرقير.
وإلى جزر الجنوب؛ فحملت منها: الدروع المزردة، والسيوف المشرقية، والرماح السمهرية وسائر أنواع الأسلحة.
ملأت سفينة فكرتي بنفائس الأرض، وغرائبها، وعدت إلى ميناء بلدي قائلا: سوف يمجدني قومي، ولكن عن جدارة، وسيدخلوني المدينة منشدين مزمرين، ولكن عن استحقاق.
ولكن لما بلغت الميناء؛ لم يخرج أحد لملاقاتي، ودخلت شوارع بلدي؛ فلم يلتفت إلي أحد.
ووقفت في ساحتها معلنا للناس ما جلبت لهم من ثمار الأرض، وطرائفها فكانوا ينظرون إلي، والضحك ملء أفواههم، والسخرية على وجوههم، ثم يتحولون عني.
فعدت إلى الميناء كئيبا مستغربا، ولكنني ما لمحت سفينتي حتى فطنت لأمر كنت مشغولا عنه بمنازع أسفاري، ورغائبها، فهتفت قائلا: «إن أمواج البحار قد محت الطلاء من جوانب سفينتي، فبانت كهيكل من عظام، وعفت الأرياح، والأنواء، وحرارة الشمس الرسوم عن شرائعها فظهرت كأثواب رمادية بالية.
لقد جمعت طرائف الأرض، ونفائسها في تابوت يعوم على وجه الماء، وعدت إلى قومي فنبذوني؛ لأن عيونهم لا ترى سوى المظاهر الخارجية.
في تلك الساعة تركت سفينة فكرتي، وذهبت إلى مدينة الأموات، وجلست بين القبور المكلسة مفكرا بأسرارها.
اسكت يا قلبي، حتى الصباح، اسكت فالعاصفة الهوجاء تسخر بهمس أعمالك، وكهوف الوادي لن ترجع بصداها رنات أوتارك.
اسكت يا قلبي، حتى الصباح، فمن يترقب الصباح متجلدا؛ يعانقه الصباح مشتاقا.
ها قد طلع الفجر يا قلبي، فتكلم إن كنت تستطيع الكلام.
هو ذا موكب الصباح يا قلبي، فهل أبقى سكوت الليل في أعماقك أغنية تلاقي بها الصباح؟
هو ذا، أسراب الحمام والشحارير تتطاير في أطراف الوادي، فهل أبقى هول الليل في جنحيك صلابة لتطير معها؟
هو ذا، الرعيان يسيرون أمام قطعانهم من الحظائر، والمرابض فهل أبقت لك أشباح الليل عزما لتسير ورائها إلى المروج الخضراء؟
هو ذا، الفتيان والصبايا يمشون الهويناء نحو الكروم فهلا نهضت، ومشيت معهم؟ قم يا قلبي، قم وسر مع الفجر فالليل قد مضى، ومخاوف الليل قد اضمحلت مع أحلامه السوداء.
قم يا قلبي، وارفع صوتك مترنما، فمن لا يشارك الصبح بأغانيه كان من أبناء الظلام.
المخدرات والمباضع
«هو متطرف بمبادئه حتى الجنون». «هو خيالي يكتب؛ ليفسد أخلاق الناشئة». «لو اتبع الرجال، والنساء المتزوجون، وغير المتزوجين آراء جبران في الزواج؛ لتقوضت أركان العائلة، وانهدمت مباني الجامعة البشرية، وأصبح هذا العالم جحيما، وسكانه شياطين». «قهرا عما في أسلوبه الكتابي من الجمال، فهو من أعداء الإنسانية». «هو فوضوي كافر ملحد، ونحن ننصح لسكان هذا الجبل المبارك، بأن ينبذوا تعاليمه ويحرقوا مؤلفاته؛ لئلا يعلق منها شيء على نفوسهم». «قد قرأنا له الأجنحة المتكسرة فوجدناها السم في الدسم». •••
هذا بعض ما يقوله الناس عني وهم مصيبون، فأنا متطرف حتى الجنون، أميل إلى الهدم ميلي إلى البناء، وفي قلبي كره لما يقدسه الناس، وحب لما يأبونه، ولو كان بإمكاني استئصال عوائد البشر وعقائدهم وتقاليدهم لما ترددت دقيقة، أما قول بعضهم: إن كتاباتي «سم في دسم» فكلام يبين الحقيقة من وراء نقاب كثيف، فالحقيقة العارية هي أنني لا أمزج «السم» بالدسم؛ بل أسكبه صرفا ... غير أنني أسكبه في كؤوس نظيفة شفافة.
أما الذين يعتذرون عني أمام نفوسهم قائلين «هو خيالي يسبح مرفرفا بين الغيوم» فهم الذين يحدقون بلمعان تلك الكئوس الشفافة منصرفين عما في داخلها من الشراب الذي يدعونه «سما» لأن معدهم الضعيفة لا تهضمه.
قد تدل هذه التوطئة على الوقاحة الخشنة، ولكن أليست الوقاحة بخشونتها أفضل من الخيانة بنعومتها؟ إن الوقاحة تظهر نفسها بنفسها، أما الخيانة فترتدى بملابس فصلت لغيرها.
يطلب الشرقيون من الكاتب أن يكون كالنحلة التي تطوف مرفرفة في الحقول جامعة حلاوة الأزهار لتصنع أقراصا من العسل.
إن الشرقيين يحبون العسل، ولا يستطيعون سواه مأكلا، وقد أفرطوا بالتهامه حتى تحولت نفوسهم إلى عسل تسيل أمام النار، ولا تتجمد إلا إذا وضعت على الثلج.
ويطلب الشرقيون من الشاعر أن يحرق نفسه بخورا أمام سلاطينهم، وحكامهم، وبطاركتهم. وقد تلبد فضاء الشرق بغيوم البخور المتصاعدة من جوانب العروش، والمذابح، والمقابر، ولكنهم لا يكتفون؛ ففي أيامنا هذه مداحون يضارعون المتنبي، وراثون يضاهون الخنساء، ومهنئون أكثر طلاوة من صفي الدين الحلي.
ويطلب الشرقيون من العالم أن يبحث في تاريخ آبائهم، وجدودهم، متعمقا بدرس آثارهم وعوائدهم، وتقاليدهم صارفا أيامه، ولياليه بين مطولات لغاتهم، واشتقاقات ألفاظهم، ومباني معانيهم وبديعهم.
ويطلب الشرقيون من المفكر أن يعيد على مسامعهم ما قاله بيدبا، وابن رشد، وإفرام السرياني، ويوحنا الدمشقي، وأن لا يتعدى بكتاباته حدود الوعظ البليد، والإرشاد السقيم، وما يجيء بينهما من الحكم والآيات التي إذا ما تمشى عليها الفرد كانت حياته كالأعشاب الضئيلة التي تنبت في الظل، ونفسه كالماء الفاتر الممزوج بقليل من الأفيون.
وبالاختصار فالشرقيون يعيشون في مسارح الماضي الغابر، ويميلون إلى الأمور السلبية المسلية الفكهة، ويكرهون المبادئ، والتعاليم الإيجابية المجردة التي تلسعهم، وتنبههم من رقادهم العميق المغمور بالأحلام الهادئة. •••
إنما الشرق مريض قد تناوبته العلل، وتداولته الأوبئة حتى تعود السقم، وألف الألم، وأصبح ينظر إلى أوصابه، وأوجاعه كصفات طبيعية؛ بل كخلال حسنة ترافق الأرواح النبيلة، والأجساد الصحيحة، فمن كان خاليا منها عد ناقصا محروما من المواهب، والكمالات العلوية.
وأطباء الشرق كثيرون يلازمون مضجعه، ويتآمرون في شأنه؛ ولكنهم لا يداونه بغير المخدرات الوقتية التي تطيل زمن العلة ولا تبرئها.
أما تلك المخدرات المعنوية، فكثيرة الأنواع متعددة الأشكال متباينة الألوان، وقد تولد بعضها عن بعض مثلما تناسخت الأمراض والعاهات عن بعضها بعضا، وكلما ظهر في الشرق مرض جديد يكتشف له أطباء الشرق مخدرا جديدا.
وأما الأسباب التي آلت إلى وجود المخدرات، فعديدة أهمها: استسلام العليل إلى فلسفة القضاء والقدر المشهورة، وجبانة الأطباء، وخوفهم من تهييج الألم الذي تحدثه الأدوية الناجعة.
وإليك أمثلة من تلك المخدرات، والمسكنات التي يتخذها الأطباء الشرقيون؛ لمعالجة الأمراض العائلية، والوطنية، والدينية.
ينفر الرجل من زوجته، والمرأة من بعلها؛ لأسباب وضعية حيوية، فيتخاصمان، ويتضاربان ويتباعدان، ولكن لا يمر يوم وليلة حتى يجتمع أهل الرجل بأهل زوجته، فيتبادلوا الآراء المزخرفة والأفكار المرصعة، ثم يتفقوا على إيجاد السلام بين الزوجين، فيأتون بالمرأة ويستهون عواطفها بالمواعظ الملفقة التي تخجلها ولا تقنعها، ثم يستدعوا الرجل يغمروا رأسه بالأقوال، والأمثال المزركشة التي تلين بأفكاره ولا تغيرها، وهكذا يتم الصلح - الصلح الوقتي - بين الزوجين المتنافرين بالروح فيعودا قهرا عن إرادتهما إلى السكنى تحت سقف واحد حتى «يبوخ» الطلاء ويزول تاثير المخدر الذي استخدمه الأهل، والأنسباء؛ فيعود الرجل إلى إظهار نفوره، ومقته، والمرأة إلى إزالة النقاب عن تعاستها. غير إن الذين أوجدوا الصلح في المرأة الأولى يوجدونه ثانية ومن يرتشف جرعة من المخدرات لا يأبى شرب كأس دهاق.
يتمرد قوم على حكومة جائرة، أو على نظام قديم، فيؤلفون «جمعية إصلاحية» ترمي إلى النهوض والانعتاق، فيخطبون بشجاعة، ويكتبون بحماسة وينشرون «اللوائح والبرامج» ويبعثون «الوفود والممثلين» ولكن لا يمر شهر، أو شهران حتى نسمع بأن الحكومة قد سجنت رئيس الجمعية، أو عهدت إليه بوظيفة، أما الجمعية «الإصلاحية» فلا نعود نسمع عنها شيئا لأن أفرادها قد تجرعوا قليلا من المخدرات المعهودة، وعادوا إلى السكينة والاستسلام.
تتمرد طائفة على رئيس دينها، لأمور أولية، فتنتقد شخصه، وتنكر أعماله، وتتبرم من مآتيه، ثم تهدده باعتناقها مذهبا آخر أقرب إلى العقل، وأبعد عن الأوهام والخرافات، ولكن لا يمر ردح من الزمن حتى نسمع بأن عقلاء البلاد قد أزالوا الخلاف بين الراعي ورعيته، وأرجعوا بفضل المخدرات السحرية الهيبة إلى شخص الرئيس، والطاعة العمياء إلى نفوس المرؤسين العقوقين.
يتظلم مغلوب ضعيف من ظالم قوي، فيقول له جاره: «اسكت فالعين التي تعاند السهم تفقأ».
يشك القروي بتقى الرهبان وإخلاصهم، فيقول له زميله: «اصمت فقد جاء في الكتاب اسمعوا أقوالهم ولا تفعلوا أفعالهم».
يعرض التلميذ عن استظهار مباحث البصريين، والكوفيين اللغوية، فيقول له أستاذه إن الكسالى والمتوانين يختلقون لنفوسهم أعذارا أقبح من الذنوب».
تمتنع الصبية عن اتباع عوائد العجائز، فتقول لها والدتها «ليست الابنة أفضل من أمها، فالطريق التي سلكتها تسلكينها أنت أيضا».
يسأل الشباب مستفسرا معاني الزوائد الدينية، فيقول له الكاهن «من لا ينظر بعين الإيمان، لا يرى في هذا العالم سوى الضباب والدخان».
وهكذا تمر الأيام إثر الليالي، والشرقي مضطجع على فراشه الناعم، يستيقظ دقيقة عندما تلسعه البراغيث، ثم يعود ويهجع جيلا بحكم المخدرات التي تمازج دمه وتسير في عروقه، فإذا ما قام رجل، وصرخ بالنائمين، وملأ منازلهم ومعابدهم ومحاكمهم بالضجيج، يفتحون أجفانهم المطبقة بالنعاس الأبدي، ثم يقولون متثائبين: «ما أخشنه فتى لا ينام، ولا يدع الناس أن يناموا» ثم يغمضون عيونهم، ويهمسون في آذان أرواحهم «هو كافر ملحد يفسد أخلاق الناشئة، ويهدم مباني الأجيال، ويرشق الإنسانية بالسهام السامة».
قد سألت نفسي مرات إذا كنت من المستيقظين المتمردين الذين يأبون شرب المخدرات، والمسكنات، فكانت نفسي تجيبني بكلمات مبهمة ملتبسة، ولكنني لما سمعت الناس يجدفون على اسمي، ويتأففون من مبادئي، أيقنت بحقيقة يقظتي، وعلمت أنني لست من المستسلمين إلى الأحلام اللذيذة، والخيالات المستحبة، بل من أولئك المستوحدين الذين تسيرهم الحياة على سبل ضيقة مغروسة بالأشواك، والأزهار محفوفة بالذئاب الخاطفة، والبلابل المترنمة.
ولو كانت اليقظة فضيلة لمنعني الاحتشام عن ادعائها، ولكنها ليست بفضيلة، بل حقيقة غريبة تظهر على حين غفلة للأفراد المستوحدين، وتسير أمامها، فيتبعونها قسر إرادتهم، مجذوبين بأسلاكها الخفية محدقين بمعانيها المهيبة.
وعندي أن الاحتشام في إظهار الحقائق الشخصية؛ هو نوع من الرياء الأبيض المعروف عند الشرقيين باسم التهذيب. •••
غدا يقرأ «الأدباء المفكرون» ما تقدم، فيقولون متضجرين «هو متطرف ينظر إلى الحياة من الوجهة المظلمة، فلا يرى غير الظلام، وقد طالما وقف فينا نادبا، نائحا، باكيا، علينا، متأوها لحالنا».
فلهؤلاء الأدباء المفكرين أقول - أنا أندب الشرق؛ لأن الرقص أمام نعش الميت جنون مطبق.
أنا أبكي على الشرقيين؛ لأن الضحك على الأمراض جهل مركب.
أنا أنوح على تلك البلاد المحبوبة؛ لأن الغناء أمام المصيبة العمياء غباوة عمياء.
أنا متطرف؛ لأن من يعتدل بإظهار الحق يبين نصف الحق، ويبقى نصفه الآخر محجوبا وراء خوفه ظنون الناس وتقولاتهم.
أنا أرى الجيفة المنتنة، فتشمئز نفسي، وتضطرب أحشائي، ولا أستطيع أن أجلس قبالتها وفي يميني كأس من الشراب، وفي شمالي قطعة من الحلوى.
فإن كان هناك من يريد أن يبدل نوحي بالضحك، ويحول اشمئزازي إلى الانعطاف، وتطرفي إلى الاعتدال، فعليه أن يريني بين الشرقيين حاكما، عادلا، ومتشرعا، مستقيما، ورئيس دين يعمل بما يعلم، وزوجا ينظر إلى امرأته بالعين التي يرى بها نفسه.
إن كان هناك من يريد أن يشاهدني راقصا، ويسمعني متطبلا، ومزمرا فعليه أن يدعوني إلى بيت العريس لا أن يوقفني بين المقابر.
السرجين المفضض
(1) سلمان أفندي
هو رجل في الخامسة والثلاثين من عمره، حسن اللباس، رشيق القامة، ذو شاربين معكوفين، وحذاء لامع، يلبس الأجربة الحريرية، ويدخن اللفائف الثمينة، ويحمل بيده الناعمة عصاة جميلة ذات قبضة ذهبية مرصعة بالحجارة الكريمة، ويأكل في المطاعم الكبيرة حيث يلتئم سراة القوم وأشرافهم، ويذهب إلى المتنزهات المشهورة في مركبة فاخرة يجرها فرسان كريمان.
ولم يرث سليمان أفندي المال عن أبيه؛ لأن أباه - رحمه الله - كان رجلا، فقيرا، مسكينا، ولا جد متاجرا فاكتسب ثروة؛ لأنه كسلان متوان يكره العمل ويظنه محطا بمقامه، وقد سمعناه مرة يقول: «إن جسدي وأخلاقي لا تساعداني على الشغل؛ فالشغل قد وجد لذوي الأخلاق الباردة والأجساد الخشنة».
إذا كيف حصل سلمان أفندي على المال، وأي ساحر حول التراب في كفيه إلى فضة وذهب؟
ذاك سر من أسرار السرجين المفضض، أعلنه لنا عزرائيل ونحن بدورنا نعلنه لكم:
منذ خمسة أعوام تزوج سليمان أفندي من السيدة فهيمة أرملة المرحوم بطرس نعمان التاجر الذي اشتهر بين أترابه بالجد، والمواظبة، والأمانة ، وقد كانت حينئذ السيدة فهيمة في الخامسة والأربعين من عمرها، وفي السادسة عشر من سنى عواطفها وأميالها، وهي الآن تصبغ شعرها وتكحل عينيها، وتطلي وجهها بالألوان، والمساحيق، ولكنها لا ترى سلمان أفندي قبل نصف الليل، وقلما حظيت منه بغير النظرات الحادة، والألفاظ القاسية، فهو مشغول عنها بتبذير الثروة التي جمعها زوجها الأول بكده، وعرق جبينه. (2) أديب أفندي
فتى في السابعة والعشرين من عمره، ذو أنف كبير، وعينين صغيرتين، ووجه قذر، ويدين ملطختين بالحبر، وأظافر محشوة بالأوساخ، أما ملابسه فممزقة الأطراف، وعلى حواشيها بقع من الزيت والدهن والقهوة، وليست هذه المظاهرة القبيحة من نتائج العوز، والحاجة؛ بل من مولدات إهماله، وانشغال باله بالأمور المعنوية، والمسائل العلوية، والمواضيع الإلهية ... وقد سمعناه يقول: مستشهدا بأمين الجندي «إن القريحة لا تنصرف إلى شيئين» أي أن الأديب لا يستطيع أن يميل إلى صناعة القلم وإلى النظافة في وقت واحد.
أديب أفندي يتكلم كثيرا، ويتكلم دائما، فهو منصرف عن كل شيء إلا الكلام، وقد علمنا أنه صرف عامين في إحدى مدارس بيروت، ودرس علم البديع على يد أحد الأساتذة المشهورين ونظم الشعر، وأنشأ الرسائل، والمقالات، ولكنه - للآن - لم ينشر منها شيئا، لأسباب كثيرة أهمها انحطاط الصحافة العربية، وغباوة القراء.
وقد انصرف أديب أفندي في الآونة الأخيرة إلى خفايا الفلسفة القديمة والحديثة، فهو معجب بسقراط، ونيتشية في وقت واحد، ويميل إلى أقوال القديس أغسطينس ميله إلى كتابات فولتر وجان جاك روسو، وقد لقيناه مرة في عرس، والناس حوله ينشدون الأهازيج، ويشربون الخمر، وهو يتكلم ببلاغته المشهورة عن مأساة هملت لشكسبير. ورأيناه مرة أخرى سائرا في جنازة وجيه، والمشيعون يمشون إلى جانبه برءوس مخفضة، وملامح مكتئبة، وهو يتكلم بفصاحته المعهودة عن خمريات أبي النواس، وغزليات الفارض.
لماذا يا ترى يعيش أديب أفندي، وما الغرض من صرفه الأيام، والليالي بين الكتب القديمة والأوراق البالية؟ ولماذا لا يقتني له حمارا، ويصير من عداد المكارين، الأقوياء، النافعين؟
ذاك سر من أسرار السرجين المفضض أعلنه لنا بعلزبول، ونحن بدورنا نعلنه لكم:
منذ ثلاثة سنوات نظم أديب أفندي قصيدة خلق في مدح سيادة المطران يوحنا شمعون وأنشدها أمامه في دار حبيب بك سلوان، ولما فرغ من تنغيمها دعاه سيادة المطران، ووضع يده على كتفه وقال له مبتسما: «عفاك الله يا ابني فما أبلغك شاعرا، وما أذكاك أديبا، فأنا أفتخر بأمثالك بأنك ستكون من رجال الشرق الكبار».
ومن تلك الساعة إلى الآن، ووالد أديب أفندي، وعمه، وخاله ينظرون إليه معجبين، ويتحدثون عنه مفاخرين قائلين: «أو لم يقل المطران يوحنا شمعون إنه سيكون من رجال الشرق العظام؟». (3) فريد بك دعيبس
هو رجل يناهز الأربعين، طويل القامة، صغير الرأس، كبير الفم، ضيق الجبهة أصلعها، يمشي متثاقلا بصدر منتفخ، وعنق مستطيل، ولخطواته وزن خاص يضارع بخترة جمل يقود هودجا، وعندما يتكلم بصوته الجهوري، وأسلوبه الفخم تخاله - إن لم تكن تعرفه - أحد وزراء الدولة المشغولين بتدبير شؤون الناس المهتمين بتكييف أمور العباد.
وليس لفريد بك من عمل سوى الجلوس في صدور المحافل، وتعداد مآتي أسرته المجيدة ومزايا محتده الكريم، وهو مغرم بسير أخبار الرجال العظام، وأعمال الأبطال الكبار كنابليون وعنترة العبسي، وله ولع خاص بالأسلحة النفيسة، ولديه منها مجموعة حسنة معلقة بترتيب على جدران منزله، ولكنه لا يحسن استعمالهاز
ومن أقواله المأثورة: «إن الله خلق الناس طبقات متفاوتة، منها للرئاسات ومنها للخدمة»، ومنها «إنما الشعب حمار حرون لا يسير إلأا إذا علوت ظهره» ومنها «القلم للضعفاء أما السيف فللأشداء ...».
وما هي الأسباب التي تجعل فريد بك أن يتمجد متغطرسا، ويتجبر متعجرفا، ويزهو مختالا متبذخا، متبجحا.
ذاك سر من أسرار السرجين المفضض أبانه لنا سطانائيل، ونحن بدورنا نبينه لكم:
في الثلث الأول من القرن التاسع عشر، بينما كان الأمير بشير الشهابي سائرا بكوكبة من رجاله بين أودية لبنان، مر بقرب القرية التي كان يقطنها منصور دعيبس جد فريد بك دعيبس. ولما كان النهار حارا والشمس تريش الأرض بسهامها الدقيقة، فتكاد تحرقها ترجل الأمير قائلا لرجاله «تعالوا نرتاح في ظلال السنديانة».
وعلم منصور دعيبس بذلك، فنادى جيرانه الفلاحين، وأخبرهم بوجود الأمير الكبير على مقربة من قريتهم، فساروا ورائه نحو تلك السنديانة حاملين أطباق التين، والعنب، وجرار اللبن والخمر، والعسل، ولما بلغوا المكان تقدم منصور دعيبس، وقبل أطراف أذيال الأمير، ثم نحر كبشا أمامه، وهتف قائلا «هذا من خير أميرنا وولي نعمتنا».
فسر الأمير بأريحيته، وخلع عليه قائلا: «ستكون منذ الآن، وصاعدا شيخا على هذه القرية مشمولا بنظري الخصوصي، وقد أعفيت سكان قريتك من الأموال الأميرية في هذه السنة».
في تلك الليلة بعد أن تابع الأمير سيره اجتمع في بيت «الشيخ» منصور دعيبس جميع سكان القرية، ونادوا به رئيسا مطاعا في السراء والضراء. رحمهم الله جميعا. •••
وللسرجين المفضض أسرار لا عداد لها تعلنها لنا الشياطين، والأبالسة في كل يوم وليلة، وسوف نظهرها لكم قبل أن يسيرنا الدهر إلى ما وراء الشفق الأزرق، أما الآن وقد انتصف الليل وملت أجفاننا السهر، فاسمحوا لنا أن ننام لعل عروس الأحلام تحمل روحنا إلى عالم أنظف من هذا العالم.
رؤيا
عندما جن الليل، وألقى الكرى ردائه على وجه الأرض، تركت مضجعي، وسرت نحو البحر قائلا في نفسي: «البحر لا ينام، وفي يقظة الليل تعزية لروح لا تنام».
بلغت الشاطئ، وكان الضباب قد انحدر من أعالي الجبال، وغمر تلك النواحي مثلما يوشي النقاب الرمادي وجه الصبية الحسناء، فوقفت محدقا بجيوش الأمواج مصغيا إلى تهاليلها، مفكرا بالقوى السرمدية الكامنة وراءها، تلك القوى التي تركض مع العواصف، وتثور مع البراكين، وتبتسم بثغور الورود، وتترنم مع الجداول.
وبعد هنيهة التفت، فإذا بثلاثة أشباح جالسين على صخر قريب، وأغشية الضباب تسترهم ولا تسترهم، فمشيت نحوهم ببطء كأن في كيانهم جاذبا يستميلني قسر إرادتي.
ولما صرت على بعد بضع خطوات منهم وقفت شاخصا بهم كأن في المكان سحرا أجمد ما بي من العزم، وأيقظ ما في روحي من الخيال.
في تلك الدقيقة وقف أحد الأشباح الثلاثة، وبصوت خلته آتيا من أعماق البحر قال: «الحياة بغير الحب كشجرة بغير أزهار ولا أثمار، والحب بغير الجمال كأزهار بغير عطر وأثمار بغير بذور ... الحياة ، والحب، والجمال ثلاثة أقانيم في ذات واحدة مستقلة، مطلقة لا تقبل التغيير ولا الانفصال» قال هذا وجلس في مكانه.
ثم انتصب الشبح الثالث، وبصوت يماثل هدير مياه غزيرة قال: «الحياة بغير تمرد كالفصول بغير ربيع، والتمرد بغير حق كالربيع في الصحراء القاحلة الجرداء ... الحياة والتمرد والحق؛ ثلاثة أقانيم في ذات واحدة لا تقبل الانفصال ولا التغيير».
ثم انتصب الشبح الثالث، وبصوت كقصف الرعد قال: «الحياة بغير الحرية كجسم بغير روح، والحرية بغير الفكر كالروح المشوشة ... الحياة والحرية والفكر، ثلاثة أقانيم في ذات واحدة أزلية لا تزول ولا تضمحل».
ثم وقف الأشباح الثلاثة، وبأصوات هائلة قالوا معا: «الحب وما يولده، والتمرد وما يوجده، والحرية وما تنميه ثلاثة مظاهر من مظاهر الله، والله ضمير العالم العاقل».
وحدث إذ ذاك سكوت مفعم بحفيف أجنحة غير منظورة، وارتعاش أجسام أثيرية، فأغمضت عيني مصغيا إلى صدى الأقوال التي سمعتها، ولما فتحتها، ونظرت ثانية، لم أر غير البحر متشحا بدثار الضباب، فاقتربت من الصخرة حيث كان الأشباح الثلاثة جالسين، فلم أر إلا عمودا من البخور متصاعدا نحو السماء.
في ظلام الليل
كتبت أيام المجاعة
في ظلام الليل ينادي بعضنا بعضا.
في ظلام الليل نصرخ، ونستغيث، وخيال الموت منتصب في وسطنا، وأجنحته السوداء تخيم علينا، ويده الهائلة تجرف إلى الهاوية أرواحنا، أما عيناه الملتهبتان، فمحدقتان بالشفق البعيد.
في ظلام الليل يسير الموت، ونحن نسير خلفه خائفين، منتحبين، وليس بيننا من يستطيع الوقوف، وليس فينا من له أمل بالوقوف.
في ظلام الليل يسير الموت، ونحن نتبعه، وكلما التفت الموت إلى الوراء؛ يسقط منا ألف إلى جانبي الطريق، ومن يسقط يرقد، ولا يستيقظ، ومن لا يسقط يسير قسر إرادته عالما، بأنه سيسقط، ويرقد مع الذين رقدوا، أما الموت فيظل سائرا، محدقا بالشفق البعيد.
في ظلام الليل ينادي الأخ أخاه، والأب أبنائه، والأم أطفالها، وكلنا جائعون لاغبون متضورون، أما الموت فلا يجوع، ولا يعطش فهو يلتهم أرواحنا، وأجسادنا، ويشرب دمائنا، ودموعنا ولكنه لا يشبع ولا يرتوي.
في الهزيع الأول من الليل ينادي الطفل أمه قائلا: «يا أماه أنا جائع» فتجيبه الأم قائلة: «اصبر قليلا يا ولداه».
وفي الهزيع الثاني ينادي الطفل أمه قائلا: «يا أماه أنا جائع فأعطيني خبزا» فتجيبه «ليس لدي خبز يا ولداه».
في الهزيع الثالث يمر الموت بالأم وطفلها، ويصفعهما بجناحه؛ فيرقدان على جانب الطريق، أما الموت، فيظل سائرا محدقا بالشفق البعيد.
في الصباح يذهب الرجل إلى الحقول طالبا القوت، فلا يجد فيها غير التراب، والحجارة.
وعند الظهيرة يعود إلى زوجته، وصغاره خائر القوى فارغ اليدين.
ولما يجيء المساء يمر الموت بالرجل، وزوجته، وصغاره، فيجدهم راقدين، فيضحك ثم يسير محدقا بالشفق البعيد.
في الصباح يترك الفلاح كوخه، ويذهب إلى المدينة، وفي جيبه حلي أمه، وأختيه ليبتاع بها الدقيق، وعند العصر يعود إلى قريته بلا قوت، ولا حلي، فيجد أمه، وابنتيها راقدات، أما عيونهن فلم تزل شاخصة باللا شيء، فيرفع ذراعيه نحو السماء، ثم يهبط إلى الحضيض كطائر رماه الصياد، وفي المساء يمر الموت بقرب الفلاح، وأمه، وأختيه، فيجدهم راقدين، فيبتسم، ثم يسير محدقا بالشفق البعيد.
في ظلام الليل، وليس لظلام الليل نهاية، نناديكم أيها السائرون في نور النهار، فهل أنتم سامعون صراخنا؟
قد بعثنا إليكم أرواح أمواتنا رسلا فهل وعيتم ما قاله الرسل؟ وحملنا الهواء الشرقي من أنفاسنا حملا فهل بلغ الهواء شواطئكم البعيدة، وألقى بين يديكم أحماله الثقيلة؟ هل عرفتم ما بنا فقمتم تسعون لإنقاذنا، أم وجدتم نفوسكم في سلامة وطمأنينة فقلتم «ماذا عسى يستطيع الجالسون في النور أن يفعلوا لأبناء الظلام، فلندع الموتى أن يدفنوا أمواتهم ولتكن مشيئة الله».
أي، لتكن مشيئة الله.
ولكن هلا تستطيعون أن ترفعوا رؤوسكم إلى ما فوق نفوسكم، ليصيركم الله مشيئة له وعونا لنا؟
في ظلام الليل ينادي بعضنا بعضا.
في ظلام الليل ينادي الأخ أخاه، والأم ابنها، والزوج زوجته، والمحب حبيبته، وعندما تتمازج أصواتنا، وتتعالى إلى كبد الفضاء يقف الموت هنيهة ضاحكا منا، مستهزئا بنا، ثم يسير محدقا بالشفق البعيد.
الأضراس المسوسة
كان في فمي ضرس مسوس، وكان يحتال على تعذيبي؛ فيسكن متربصا ساعات النهار، ويستيقظ مضطربا في هدوء الليل عندما يكون أطباء الأسنان نائمين، والصيدلية مقفلة.
ففي يوم، وقد نفد صبري، ذهبت إلى أحد الأطباء وقلت له: «ألا فانزعه ضرسا خبيثا يحرمني لذة الرقاد ويحول سكينة ليالي إلى الأنين والضجيج».
فهز الطبيب رأسه قائلا: «من الغباوة أن نستأصل الضرس إذا كان بإمكاننا تطبيبه».
ثم أخذ يحفر جوانب الضرس، وينظف زواياه، ويتفنن بتطهيره من العلة، ولما وثق بأنه صار خاليا من السوس حشا ثقوبه بالذهب الخالص، ثم قال مفاخرا: «لقد أصبح ضرسك العليل أشد وأصلب من أضراسك الصحيحة» فصدقت كلامه، وملأت حفنته بالدنانير وذهبت فرحا.
ولكن لم يمر الأسبوع حتى عاد الضرس المشؤوم إلى تعذيبي، وإبدال أنغام روحي بحشرجة الاحتضار، وعويل الهاوية.
فذهبت إلى طبيب آخر، وقلت به بصوت يعانقه الحزم: «ألا فاخلعه ضرسا مذهبا شريرا، ولا تعترض «فمن يأكل العصى لا كمن يعدها».
فنزع الطبيب الضرس، وقد كانت ساعة هائلة بأوجاعها، ولكنها كانت ساعة مباركة.
وقد قال لي الطبيب بعد أن استأصل الضرس وتفحصه جيدا «لقد فعلت حسنا، فالعلة قد تحكمت بأصول ضرسك هذا حتى لم يبق رجاء بشفائه».
وقد نمت مرتاحا في تلك الليلة، ولم أزل في راحة، والحمد للخلع، والاستئصال، في فم الجامعة البشرية أضراس مسوسة، وقد نخرتها العلة حتى بلغت عظم الفك، غير أن الجامعة البشرية لا تستأصلها؛ لترتاح من أوجاعها؛ بل تكتفي بتمريضها، وتنظيف خارجها، وملء ثقوبها بالذهب اللماع.
وما أكثر الأطباء الذين يداون أضراس الإنسانية بالطلاء الجميل، والمواد البراقة، وما أكثر المرضاء الذين يستسلمون إلى مشيئة أولئك الأطباء المصلحين، فيتوجعون، ثم يموتون بعلتهم مخدوعين.
غير أن الأمة التي تعتل، ثم تموت لا تبعث ثانية لتظهر للملأ أسباب الأمراض المعنوية وماهية الأدواء الاجتماعية التي تؤول بالأمم إلى الانقراض والعدم. •••
وفي فم الأمة السورية أضراس بالية سوداء قذرة ذات رائحة كريهة، وقد حاول أطباؤنا تطهيرها، وحشوها بالمينا، وإلباس خارجها رقوق الذهب، ولكنها لا تشفى، ولن تشفى بغير الاستئصال، والأمة التي تكون أضراسها معتلة تكون معدتها ضعيفة، وكم أمة ذهبت شهيدة عسر الهضم.
ومن شاء أن يرى أضراس سورية المسوسة، فليذهب إلى المدرسة حيث يستظهر رجال الغد ما قاله الأخفش نقلا عن سيبويه، وسيبويه عن سائق الأظعان.
أو فليذهب إلى المحكمة حيث يتلاعب الذكاء البهلواني بالقضايا الشرعية، مثلما تلعب القطة بصيدها.
أو فليذهب إلى منازل الموسرين حيث التصنع، والكذب، والرياء.
أو فليذهب إلى بيوت الفقراء حيث الخوف، والجبانة، والجهالة.
وبعد ذلك فليذهب إلى أطباء الأسنان ذوي الأسنان، ذوي الأصابع الناعمة، والآلات الدقيقة، والمساحيق المخدرة، الذين يصرفون الأيام بإملاء ثقوب الأضراس المسوسة، وتطهير زواياها المعتلة، وإذا أراد محادثتهم والانتفاع بمواهبهم فهم النبهاء، الفصحاء، البلغاء الذين يؤلفون الجمعيات، ويعقدون المؤتمرات، ويخطبون في النوادي والساحات، ففي حديثهم نغمة أسمى من أناشيد حجر الرحى، وأنبل من أغاني الضفادع في ليالي تموز.
ولكن إذا قال لهم: «إن الأمة السورية تقضم قوت الحياة بأضراس مسوسة، وإن كل لقمة تلوكها تمتزج بلعاب مسمم، وإنه قد نتج عن ذلك مرض في أمعائها» إذا قال هذا يجيبونه بقولهم: «نعم، ونحن الآن منصرفون إلى درس أحدث المساحيق وأجد المخدرات».
وإذا قال لهم: «ما قولكم بالاستئصال؟» يضحكون منه؛ لأنه لم يدرس طب الأسنان الشريف.
وإذا أعاد السؤال ثانية يبتعدون عنه متضجرين قائلين في نفوسهم: «ما أكثر الخياليين في هذا العالم، وما أوهى أحلامهم».
مساء العيد
جاء المساء، وغمر الظلام، فشعشعت الأنوار في القصور، والمنازل، وخرج الناس إلى الشوارع بملابس العيد الجديدة، وعلى وجوههم سيماء البشر، والاستكفاء، ومن بين دقائق لهاثهم تنبعث رائحة المآكل والخمور ...
أما أنا فسرت وحيدا، منفردا، مبتعدا عن الزحام، والضجيج أفكر بصاحب العيد.
أفكر بنابغة الأجيال الذي ولد فقيرا، وعاش متجردا، ومات مصلوبا ...
أفكر بالشعلة النارية التي أوقدها الروح الكلي في قرية حقيرة بسوريا، فطافت مرفرفة فوق رؤوس العصور مخترقة مدنية بعد مدنية ...
ولما بلغت الحديقة العمومية، جلست على مقعد خشبي أنظر من خلال أغصان الأشجار العارية نحو الشوارع المزدحمة، وأسمع عن بعد أناشيد المعيدين السائرين في موكب اللهو والخلو ...
وبعد ساعة مفعمة بالأفكار والأحلام التفت، وإذا برجل جالس بقربي على المقعد، وفي يده عصاه يرسم بطرفها خطوطا ملتبسة على التراب ... فقلت في نفسي: «هو مستوحد مثلي» ثم تفرست إليه متبصرا شكله؛ فألفيته رغم أثوابه القديمة، وشعره المسترسل المشوش ذا هيبة ووقار ... وكأنه قد شعر بأنني أنظر إليه متفحصا شكله، وملامحه فالتفت نحوي، وقال بصوت عميق هادئ «مساء الخير» فأرجعت التحية قائلا: «أسعد الله مساءك».
ثم عاد يرسم الخطوط بعكازه على أديم الأرض، وبعد هنيهة، وقد أعجبت بنغمة صوته خاطبته ثانية قائلا: «هل أنت غريب في هذه المدينة؟».
فأجاب: «أنا غريب في هذه المدينة، وأنا غريب في كل مدينة أخرى».
قلت: «إن الغريب في مثل هذه المواسم يتناسى ما في الغربة من الضيم، والوحشة لما يجده الإنسان من الأنس والانعطاف».
فأجاب «أنا غريب في مثل هذه الأيام أكثر مني في غيرها».
قال هذا ونظر إلى الفضاء الرمادي، فاتسعت عيناه، وارتعشت شفتاه كأنه رأى على صفحة الفضاء رسوم وطن بعيد ...
قلت: «إن القوم في هذه المواسم يعطفون على بعضهم البعض، فالغني يذكر الفقير، والقوي يرحم الضعيف».
فأجاب: «نعم، وما رحمة الغني بالفقير سوى نوع من حب الذات، وليس انعطاف القوي على الضعيف إلا شكلا من التفوق والافتخار».
قلت: «قد تكون مصيبا، ولكن ماذا يهم الفقير الضعيف ما يجول في باطن الغني القوي من الرغائب والأميال؟ إن الجائع المسكين يحلم بالخبز، ولكنه لا يفكر بالكيفية التي يعجن بها الخبز».
فأجاب: «إن الموهوب لا يفتكر، أما الواهب فيجب عليه أن يفتكر، ويفتكر طويلا».
فأعجبت بكلامه وعدت، أتأمل منظره الغريب، وأثوابه القديمة.
وبعد سكينة نظرت إليه قائلا: «يلوح لي أنك في حاجة فهلا قبلت درهما أو درهمين؟».
فأجاب وقد ظهرت على شفتيه ابتسامة محزنة: «نعم أنا بحاجة ولكن إلى غير المال».
قلت: «وماذا تحتاج؟».
فقال: «أنا بحاجة إلى مأوى ... أنا بحاجة إلى مكان أسند إليه رأسي».
قلت: «خذ مني درهمين، واذهب إلى المنزل، واستأجر غرفة».
فأجاب: «قد ذهبت إلى كل نزل في هذه المدينة، فلم أجد لي مأوى ، وطرقت كل باب، فلم أر لي صديقا، ودخلت كل مطعم، فلم أعط خبزا».
فقلت في نفسي: ما أغربه فتى يتكلم تارة كالفيلسوف، وطورا كالمجنون.
ولكن لم أهمس لفظة «مجنون» في أذن روحي حتى حدق بي شاخصا، ورفع صوته عن ذي قبل، وقال: «نعم أنا مجنون، ومن كان مثلي يرى نفسه غريبا بلا مأوى، وجائعا بلا طعام».
قلت مستدركا مستغفرا: «سامح ظنوني فأنا لا أعرف من أنت، وقد استغربت كلامك، فهلا قبلت دعوتي، وذهبت معي لتصرف الليلة في منزلي؟».
فأجاب: «قد طرقت بابك ألف مرة ولم يفتح لي».
قلت: وقد تحققت جنونه «تعال الآن واصرف الليلة في منزلي؟».
فرفع رأسه وقال: «لو عرفت من أنا لما دعوتني؟».
فقلت: «ومن أنت؟».
قال وفي صوته هدير مياه غزيرة: «أنا الثورة التي تقيم ما أقعدته الأمم، أنا العاصفة التي تقتلع الأنصاب التي أنبتتها الأجيال، أنا الذي جاء ليلقي في الأرض سيفا لا سلاما».
ووقف منتصبا، وتعالت قامته، وسطع وجهه، وبسط ذراعيه، فظهر أثر المسامير في كفيه: فارتميت راكعا أمامه، وصرخت قائلا: «يا يسوع الناصري ...».
وسمعته يقول إذ ذاك: «العالم يعيد لاسمي، وللتقاليد التي حاكتها الأيام حول اسمي، أما أنا فغريب أطوف تائها في مغارب الأرض، ومشارقها، وليس بين الشعوب من يعرف حقيقتي».
للثعالب أوجرة، ولطيور السماء أوكار، وليس لابن الإنسان أن يسند رأسه.
ورفعت رأسي إذ ذاك، ونظرت، فلم أر أمامي سوى عمود من البخور، ولم أسمع سوى صوت الليل آتيا من أعماق الأبدية.
الجبابرة
ليس من يكتب بالحبر، كمن يكتب بدم القلب، وليس السكوت الذي يحدثه الملل، كالسكوت الذي يوجده الألم.
أما أنا فقد سكت، لأن آذان العالم قد انصرفت عن همس الضعفاء، وأنينهم إلى عويل الهاوية وضجتها، ومن الحكمة أن يسكت الضعيف عندما تتكلم القوى الكامنة في ضمير الوجود تلك القوى التي لا ترضى بغير المدافع ألسنة، ولا تقنع بسوى القنابل ألفاظا.
نحن الآن في زمن أصغر صغائره أكبر من كبائر ما تقدمه، فالأمور التي كانت تشغل أفكارنا، وأميالنا قد انزوت في الظل، والمسائل، والمشاكل التي كانت تتلاعب بآرائنا، ومبادئنا قد توارت وراء نقاب من الإهمال، أما الأحلام المستحبة، والأشباح الجميلة التي كانت تميس متنقلة على مسارح وجداننا، فقد تبددت كالضباب، وحل محلها جبابرة تسير كالعواصف، وتتمايل كالبحار وتتنفس كالبراكين.
وما عسى أن يصير إليه العالم بعد أن تنتهي الجبابرة من صراعها؟
هل يعود القروي إلى حقله فيلقي البذور حيث زرع الموت جماجم القتلى؟
هل يقود الراعي مواشيه إلى مروج مزقت أديمها السيوف، ويوردها مناهل يمتزج ماؤها بنجيع الدماء؟
هل يركع العابد في هيكل رقصت فيه الشياطين، ويردد الشاعر قصائده أمام كواكب حجبت بالدخان، وينغم المنشد أغانيه في ليل عانقت سكينته الأهوال؟
هل تجلس الأم بجانب سرير رضيعها مرتلة بالهدوء أغاني النوم، وهي لا ترتجف وجلا مما سيجلبه الغد؟
هل يلتقي الحبيب بحبيبته ويتبادلان القبل حيث التقى العدو بعدوه وتبادلا القذائف؟
وهل يعود نيسان إلى الأرض، ويستر بقميصه أعضائها المكلومة؟
ليت شعري! هل يعود نيسان إلى الحقول؟ •••
وماذا عسى تصير إليه بلادكم وبلادي؟ وأي من الجبابرة يضع يده على تلك التلال والهضبات التي أنبتتنا، وصيرتنا رجالا، ونساء أمام وجه الشمس؟
هل تبقى سورية مطروحة بين مغائر الذئاب، وحظائر الخنازير، أو يا ترى تنتقل مع العاصفة إلى عرين الأسد، أو ذروات النسر؟
وهل يطلع الفجر فوق قمم لبنان؟
كلما خلوت بنفسي أطرح عليها هذه السؤالات، غير أن النفس كالقضاء تبصر، ولا تتكلم وتسير، ولكنها لا تلتفت، فهي ذات عيون تتجلى، وأقدام تتسارع، أما لسانها فثقيل.
ومن منكم أيها الناس، لم يسأل نفسه في كل يوم وليلة عن مصير الأرض، وسكانها بعد أن تختمر الجبابرة من دموع الأرامل والأيتام؟
أنا من القائلين بسنة النشوء والارتقاء، وفي عرفي أن هذه السنة تتناول بمفاعيلها الكيانات المعنوية بتناولها الكائنات المحسوسة، فتنتقل بالأديان، والحكومات من الحسن إلى الأحسن، انتقالها بالمخلوقات كافة من المناسب إلى الأنسب، فلا رجوع إلى الوراء إلا في الظاهر، ولا انحطاط إلا في السطحي.
ولسنة الارتقاء سبل متشعبة يتفرع بعضها من بعض، ولكنها متلازمة الأصول ، ومظاهر قاسية ظالمة مظلمة تنكرها الأفكار المحدودة، وتتمرد عليها القلوب الضعيفة، أما خفاياها فعادلة منيرة متمسكة بحق أسمى من حقوق الأفراد، محدقة بغرض أعلى من مرام الجماعة، مصغية إلى صوت يغمر بهوله، وعذوبته تنهدات المنكوبين، وغصات المتوجعين.
حولي بكل مكان أقزام يرون عن بعد أشباح الجبابرة متناضلين، ويسمعون في المنام صدى تهاليلهم، فيضجعون كالضفادع قائلين: قد رجع العالم في فطرية الوضيعه، فما بنته الأجيال بالعلم والفن قد هدمه الإنسان الوحشي بالطمع والأنانية، فحالنا اليوم حال سكان الكهوف، ولا يميزنا عنهم سوى آلات نبتدعها للدمار، وحين نستخدمها للهلاك؟
هذا ما يقوله هؤلاء الذين يقيسون ضمير العالم بمقياس ضمائرهم، ويحللون مراد الوجود بالفكرة القصيرة التي يستخدمونها؛ لحفظ وجودهم الفردي، فكأن الشمس لم تكن إلا لتدفئتهم، وكأن البحر لم يوجد إلا لغسل أرجلهم. •••
من أحشاء الحياة، من وراء المرئيات، من أعماق السكون المدبر حيث تصان أسرار الكون المدبر، قد انبثق الجبابرة كالريح، وتصاعدوا كالغيوم، ثم تلاقوا كالجبال، وهم الآن يتصارعون ليحلوا مشكلة في الأرض لا يحلها غير الصراع.
أما البشر وكل ما في رؤوسهم من المدارك، والمعارف، وما في قلوبهم من المحبة والبغضاء، وما يعانق نفوسهم من الصبر، والجزع، والأوجاع، فآلات يتناولها الجبابرة، ويديرونها توصلا إلى غاية علوية لابد من بلوغها.
أما الدماء التي أهرقت فسوف تجري أنهارا كوثرية، وأما الدموع التي نثرت، فستنبت أزهارا زكية، وأما الأرواح التي فاضت فسوف تجتمع، وتأتلف، وتتطلع من وراء الأفق الجديد صباحا جديدا، فيعلم الناس بأنهم قد ابتاعوا الحق في سوق البؤس، وأن من ينفق في سبيل الحق لم يخسر.
مات أهلي
كتبت أيام المجاعة
مات أهلي وأنا قيد الحياة أندب أهلي في وحدتي وانفرادي.
مات أحبائي وقد أصبحت حياتي بعدهم بعض مصابي بهم.
مات أهلي وأحبائي، وغمرت الدموع، والدماء هضبات بلادي، وأنا ههنا أعيش مثلما كنت عائشا عندما كان أهلي، وأحبائي جالسين على منكبي الحياة، وهضبات بلادي مغمورة بنور الشمس.
مات أهلي جائعين، ومن لم يمت جوعا قضى بحد السيف، وأنا في هذه البلاد القصية أسير بين قوم فرحين مغبوطين يتناولون المآكل الشهية، والمشارب الطيبة، وينامون على الأسرة الناعمة، ويضحكون للأيام، والأيام تضحك لهم.
مات أهلي أذل ميتة، وأنا ههنا أعيش في رغد وسلام، وهذه المأساة المستتبة على مسرح نفسي.
لو كنت جائعا بين أهلي الجائعين مضطهدا بين قومي المضطهدين، لكانت الأيام أخف وطأة على صدري، والليالي أقل سوادا أمام عيني، لأن من يشارك بالأسى، والشدة يشعر بتلك التعزية العلوية لتي يولدها الاستشهاد، بل يفتخر بنفسه؛ لأنه يموت بريئا مع الأبرياء.
ولكنني لست مع قومي الجائعين، المضطهدين، السائرين في موكب الموت نحو مجد الاستشهاد، بل أنا ههنا وراء البحار السبعة أعيش في ظل الطمأنينة، وخمول السلامة، أنا ههنا بعيد عن النكبة، والمنكوبين، ولا أستطيع أن أفتخر بشيء حتى ولا بدموعي.
وماذا عسى يقدر المنفي البعيد أن يقول لأهله الجائعين.
ليت شعري، ماذا ينفع ندب الشاعر ونواحه؟
لو كنت سنبلة من القمح نابتة في تربة بلادي، لكان الطفل الجائع يلتقطني، ويزيل بحباتي يد الموت عن نفسه.
لو كنت ثمرة يانعة في بساتين بلادي، لكانت المرأة الجائعة تتناولني، وتقضمني طعاما.
لو كنت طائرا في فضاء بلادي، لكان الرجل الجائع يصطادني، ويزيل بجسدي ظل القبر عن جسده.
ولكن، واحر قلباه، لست بسنبلة من القمح في سهول سورية، ولا بثمرة يانعة في أودية لبنان، وهذه هي نكبتي الصامتة التي تجعلني حقيرا أمام نفسي، وأمام أشباح الليل.
هذه هي المأساة الموجعة التي تعقد لساني، وتكبل يدي، ثم توقفني بلا عزم، ولا إرادة، ولا عمل. •••
يقولون لي: ما نكبة بلادك سوى جزء من نكبة العالم، وما الدموع والدماء التي هرقت في بلادك سوى قطرات من نهر الدماء والدموع المتدفق ليلا ونهارا في أودية الأرض وسهولها.
نعم، ولكن نكبة بلادي نكبة خرساء، نكبة بلادي جريمة حبلت بها رؤوس الأفاعي والثعابين، نكبة بلادي مأساة بغير أناشيد ولا مشاهد.
لو ثار قومي على حكامهم الطغاة، وماتوا جميعا متمردين، لقلت إن الموت في سبيل الحرية لأشرف من الحياة في ظلال الاستسلام، ومن يعتنق الأبدية، والسيف في يده كان خالدا بخلود الحق.
لو اشتركت أمتي بحرب الأمم، وانقرضت عن بكرة أبيها في ساحة القتال، لقلت هي العاصفة الهوجاء تهصر بعزمها الأغصان الخضراء، واليابسة معا، والموت تحت أغصان العواصف لأشرف منه بين ذراعي الشيخوخة.
ولو زلزلت الأرض زلزالها، وقلبت ظهر بلادي صدرا، وغمر التراب أهلي، وأحبائي، لقلت هي النواميس الخفية تتحرك بمشيئة قوة فوق قوى البشر، فمن الجهالة أن نحاول إدراك أسرارها وخفاياها.
ولكن لم يمت أهلي متمردين، ولا هلكوا محاربين، ولا زعزع الزلزال بلادهم، فانقرضوا مستسلمين.
مات أهلي على الصليب.
ماتوا وأكفهم ممدودة نحو الشرق والغرب، وعيونهم محدقة بسواد الفضاء.
ماتوا صامتين، لأن آذان البشرية قد أغلقت دون صراخهم.
ماتوا لأنهم لم يحبوا أعدائهم كالجبناء، ولم يكرهوا محبيهم كالجاحدين.
ماتوا لأنهم لم يكونوا مجرمين.
ماتوا لأنهم لم يظلموا الظالمين.
ماتوا لأنهم لم يكونوا مسالمين.
ماتوا جوعا في الأرض التي تدر لبنا وعسلا.
ماتوا لأن الثعبان الجهنمي قد التهم كل ما في حقولهم من المواشي، وما في أهرائهم من الأقوات.
ماتوا لأن الأفاعي أبناء الأفاعي قد نفثوا السموم في الفضاء الذي كانت تملؤه أنفاس الأرز وعطور الورود والياسمين •••
مات أهلي وأهلكم أيها السوريون، فماذا نستطيع أن نفعل لمن لم يمت منهم؟
إن نواحنا لا يسد رمقهم، ودموعنا لا تروي غليلهم إذن ماذا نفعل لننقذهم من الجوع والشدة؟
هل نبقى مرتابين، مترددين، متكاسلين، مشغولين عن المأساة العظمى بتوافه الحياة وصغائرها؟
إن العاطفة التي تجعلك، يا أخي السوري، أن تعطي شيئا من حياتك لمن يكاد أن يفقد حياته، هي الأمر الوحيد الذي يجعلك حريا بنور النهار، وهدوء الليل.
وإن الدرهم الذي تضعه في اليد الفارغة الممدودة إليك هو هو الحلقة الذهبية التي تصل ما فيك من البشرية بما فوق البشرية.
الأمم وذواتها
الأمة: مجموع أفراد متبايني الأخلاق، والمشارب، والآراء تضمهم رابطة معنوية أقوى من الأخلاق، وأعمق من المشارب، وأعم من الآراء.
وقد تكون الوحدة الدينية بعض خيوط هذه الرابطة، غير أن الخلاف في العقيدة لا يحل الروابط الأممية، إلا إذا كانت ضعيفة واهية كما هي معنوية أقوى من الأخلاق في البلاد الشرقية.
وقد تكون وحدة اللغة سببا أساسيا لإيجاد هذه الرابطة، ولكن هناك شعوب كثيرة تتكلم لغة واحدة مع أنها في خلاف مستمر من حيث السياسة، والإدارة، والنظريات الاجتماعية.
وقد تكون الوحدة الدموية أساسا لهذه الرابطة، ولكن في التاريخ أمثلة عديدة نستدل منها على أن أفخاذ عنصر واحد انشقت بعضها على بعض، وكان ذلك الانشقاق مجلبة للتطاحن والتباغض ثم الاضمحلال.
وقد تكون المصلحة المادية نولا تحاك عليه تلك الرابطة، ولكن شعوب عديدة لم تحك مصلحتهم المادية سوى المنافسة والمناقشة.
إذن ما هي تلك الرابطة الاجتماعية؟ وما هي التربة التي تنبت فيها أنصاب الأمم؟
لي رأي في الرابطة الأممية قد يحسبه بعض المفكرين غريبا، لأن أصوله ونتائجه ليست من الأمور المحسوسة.
أما رأيي فهو هذا:
لكل شعب ذات عامة تشابه بجوهرها، وطبيعتها ذات الفرد، ومع أن هذه الذات العامة تستمد كيانها من أفراد الشعب، كما تستمد الشجرة حياتها من الماء، والتراب، والنور، والحرارة فهي مستقلة عن الشعب، ولها حياة خاصة وإرادة منفردة، وكما يصعب علي تحديد وتعيين الزمن الذي تتولد فيه ذات الفرد الواحد، هكذا يصعب على تعيين وتحديد الزمن الذي تتولد فيه الذات العامة، غير أنني أشعر أن الذات المصرية - مثلا - قد تبلورت قبل ظهور الدولة الأولى على ضفاف النيل بزمن لا يقل عن خمسمائة سنة، ومن تلك الذات العامة قد استمدت مصر مظاهرها الفنية، والدينية، والاجتماعية، وما أقوله عن مصر يصح في آشور، وفارس، واليونان، ورومة والعرب، وغيرها من الأمم الحديثةن أعني تلك التي ظهرت بعد انقضاء الأجيال المتوسطة.
قلت: إن للذات العامة حياة خاصة، نعم، ولما كان لكل حي عمر محدود كان لتلك الذات العامة أجل محدود لا تتجاوزه، ومثلما يسير الكيان الفردي من الطفولة، إلى الشبيبة، إلى الكهولة، إلى الشيخوخة هكذا يتدرج كيان الذات العامة من يقظة الفجر الموحشة بنقاب النوم، إلى يقظة الظهر المتجلية بنور الشمس، إلى يقظة الليل المغمورة بالنعاس، إلى سبات عميق.
إن الذات اليونانية قد استيقظت في القرن العاشر قبل المسيح، ومشت بعزم وجلال في القرن الخامس قبل المسيح، ولما بلغت عهد الناصري كانت قد ملت أحلام اليقظة، فنامت على مضجع الأبدية، لتعانق أحلام الأبدية.
أما الذات العربية: فقد تجوهرت، وشعرت بكيانها الشخصي في القرن الثالث قبل الإسلام، ولم تتمخض بالنبي محمد حتى انتصبت كالجبار، وثارت كالعاصفة متغلبة على كل ما يقف في سبيلها، ولما بلغت العباسيين تربعت على عرش منتصب فوق قواعد لاعداد لها: أولها في الهند، وآخرها في الأندلس، ولما بلغت عصارى نهارها، وكانت الذات المغولية قد أخذت تنمو وتمتد من الشرق إلى الغرب، كرهت الذات العربية يقظتها فنامت، ولكن نوما خفيفا متقطعا، وقد تعود وتفيق ثانية، لتبين ما بقي خفيا في نفسها، كما عادت الذات الرومانية في زمن النهضة الإيطالية المعروفة بالرنسانس، وأكملت في البندقية، وفلورنسا، وميلان ما ابتدأت به قبل أن تباغتها الشعوب التوتونية في بدء الأجيال المظلمة.
وأغرب الذوات العامة في التاريخ، هي الذات الفرنساوية، فها قد عاشت ألفي سنة أمام وجه الشمس، ولم تزل في شبيبة النضرة، وهي اليوم أدق فكرا، وأحد نظرا وأوسع فنا وعلما مما كانت في أي زمن من تاريخها المجيد.
فرودان، وكارير، وشيتان، وهوغو، ورينان، وساسه، وسيمون، وجميعهم من أبناء القرن التاسع عشر كانوا أعظم رجال العالم فنا، وأكثرهم علما، وأبعدهم خيالا، الأمر الذي يدلنا على أن لبعض الذوات العامة أعمارا أطول من الأخرى، فالذات المصرية عاشت ثلاثة آلاف سنة، أما الذات اليونانية فلم تعش أكثر من ألف سنة، وقد تكون الأسباب في طول آجال الذوات العامة أو قصرها شبيهة بأسباب قصر أعمار الأفراد أو طولها.
وماذا يا ترى يحل بالذات العامة بعد ن تلعب دورها على مسرح الوجود؟
هل تموت وتفنى بدورها غير تاركة ورائها سوى الذكرى لمن يجيء بعدها؟ هل تضمحل أمام الأيام، والليالي كأنها لم تكن مظهرا لليالي والأيام؟
في عقيدتي أن الكيان المعنوي يتغير، ولكنه لا ولن يضمحل، فهو كالكيان المادي يتحول من شكل إلى شكل، ومن صورة إلى صورة، أما دقائقه وذراته الوضعية فباقية ببقاء الزمن، فذات الأمة العامة تنام، ولكن نوم الأزاهر بعد أن تلقي بذورها في تربة الأرض، أما عطرها فيتصاعد إلى عالم الخلود، وعندي أن العطر في الأمة، أو في الزهرة، هو الحقيقة المجردة، هو الجوهر المطلق، فعطر ثيب، وبابل، ونينوى، وأثينا، وبغداد موجود الآن في الغلاف الأثيري المحيط بالأرض، بل هو موجود في أعماق أرواحنا، ونحن - أفرادا وجماعات - ورثة كل الذوات العامة التي وجدت على سطح الأرض.
غير أن ذاك الإرث العلوي لا يتخذ له صورا محسوسة في الفرد، أو الجماعات حتى تتبلور الأمة التي ينتسب الأفراد، والجماعات إليها، وتصير ذاتا لها حياة خاصة، وإرادة منفردة.
همسة في سر الوجود.
فلسفة المنطق أو معرفة الذات
في ليلة من ليالي بيروت الممطرة جلس سليم أفندي دعيبس أمام منضدة فوقها أكداس من الكتب العتيقة، والأوراق المنثورة يقلب الأسفار، ويرفع رأسه بين الآونة، والأخرى مخرجا من بين شفتيه الغليظتين سحابة من دخان التبغ، وقد كان بين يديه إذ ذاك رسالة فلسفية أوحاها سقراط لتلميذه أفلاطون في «معرفة الذات».
كان سليم أفندي يتبصر آيات تلك الرسالة النفيسة مستحضرا إلى حافظته ما قاله الفلاسفة والمرشدون في موضوعها، حتى لم يبق شاردة لمفكر غربي إلا ولازمت فكرته، ولا واردة لمعلم شرقي إلا ولاحمت ذاكرته، حتى إذا ما غرقت ذاته في موضوع معرفة الذات نهض فجأة، ومد ذراعيه، وصرخ بأعلى صوته قائلا: «نعم، نعم إن معرفة الذات هي أم كل معرفة، أما أنا فعلي أن أعرف ذاتي، وأعرفها تماما، وأعرفها بتفاصيلهان ومعالمها، ودقائقها، وذراتها، علي أن أزيل النقاب عن أسرار نفسي، وأمحو الالتباس عن مكامن قلبي، بل علي أن أبين معاني كياني المعنوي لكياني الهيولي، وخفايا وجودي الهيولي لوجودي المعنوي».
قال هذا بحماسة غريبة، وفي عينيه تتقد شعلة «محبة المعرفة» معرفة الذات، ثم دخل إلى غرفة محاذية، وانتصب كالتمثال أمام مرآة كبيرة تصل أرض الغرفة بسقفها، ونظر محدقا بشبحه متفرسا وجهه، متأملا بشكل رأسه، وخطوط قامته، وإجمال هيأته.
ظل واقفا جامدا على هذه الحالة نصف ساعة، كأن الفكرة الأزلية قد أنزلت عليه أفكارا هائلة بسموها تجعله بواسطتها أن يكتشف بواطن روحه، ويملأ النور خلايا ذاته، ثم فتح شفتيه بهدوء، وقال مخاطبا نفسه: أنا قصير القامة وهكذا كان نابليون وفكتور هوغو.
أنا ضيق الجبهة وهكذا كان سقراط وسبينوزا.
أنا أصلع، وهكذا كان شكسبير.
أنفي كبير ومنحن إلى جهة واحدة، وهكذا كان سفنزوولا، وڨولتير، وجورج واشنطون.
في عيني سقم، وهكذا كان بولس الرسول، ونيتشة.
فمي غليظ، وشفتي السفلى ناتئة، وهكذا كان شيشرون، ولويس الرابع عشر.
عنقي غليظ، وهكذا كان هنيبال، ومرقص أنطونيوس.
أذناي مستطيلتان بارزتان إلى الجهة الوحشية، وهكذا كان برونر وسرفانتي.
وجنتاي بارزتان، وخداي ضامرتان، وهكذا كان لافيات، ولنكلن.
ذقني متقاهر إلى الوراء، وهكذا كان غولد سمث، ووليم بت.
كتفاي متباينان؛ فالواحد يعلو على الآخر، وهكذا كان غمبتا، وأديب إسحق.
يداي ثخينتا الكفين، قصيرتا الأصابع، وهكذا كان بلبك، ودانتون.
وبالإجمال جسدي ضعيف نحيل، وهذا شأن أكثر المفكرين الذين تتعب أجسادهم في مرامي نفوسهم، ومن الغريب أني لا أستطيع الجلوس كاتبا، أو مطالعا، إلا وبجانبي إبريق القهوة مثلما كان يفعل بلزك. وفوق ذلك فلي ميل إلى معاشرة الرعاع والبسطاء كتولستوي، ومكسيم غوركي. وقد يمر اليوم، واليومان دون أن أغسل وجهي ويدي، وهكذا كان بيتهوفن، وولت، وتمن. وللعجب أني أستريح لسماع أخبار النساء، وما يفعلنه في غياب أزواجهن كبوكاشيو، وريبالي. أما عطشي إلى الخمرة فيضارع عطش نوح، وأبي نواس، ودي موسه، ومارلو. وأما مجاعتي للمآكل الشهية، والموائد المرصوفة بالألوان المتنوعة فتقارن نهم بطرس الأكبر، والأمير بشار الشهابي.
ووقف سليم أفندي دقيقة عن مخاطبة نفسه، ثم لمس جبهته بأطراف بنانه، وزاد قائلا: هذا أنا، هذه هي حقيقتي، فأنا مجموع صفات كان حائزا عليها أعاظم الرجال من بدء التاريخ إلى يومنا هذا، وفتى جامع لهذه المزايا لا بد أن يفعل شيئا عظيما في هذا العالم. «رأس الحكمة معرفة الذات، وأنا قد عرفت نفسي في هذه الليلة، ومنذ الليلة سأبتدئ بالعمل العظيم الذي انتدبتني إليه فكرة هذا العالم بوضعها في أعماق عناصر متعددة متباينة، رافقت عظماء البشر من نوح، إلى سقراط، إلى بوكاشيو، إلى أحمد فارس الشدياق، أنا لا أدري ما هو العمل العظيم الذي سأقوم به، ولكن رجلا جمع في شخصه الهيولي وذاته المعنوية ما أنا جامع له من معجزات الأيام، ومبتكرات الليالي ... لقد عرفت نفسي نعم، والآلهة قد عرفت نفسي فلتحي نفسي، ولتعيش ذاتي، وليبقى الكون كونا حتى تتم أعمالي».
ومشى سليم أفندي في تلك الغرفة ذهابا وإيابا، وسيماء البشر على سحنته القبيحة، وهو يردد بصوت يأتلف بنبراته مواء القطط بقلقلة العظام بيت أبي العلاء القائل:
أنا وإن كنت الأخير زمانه
لآت بما لم تستطعه الأوائل
وبعد ساعة كان صاحبنا مضطجعا بملابسه المشوشة على سريره المشقلب، وغطيطه يملأ فضاء ذلك الحي بنغمة أدنى إلى جعجعة الطاحون منها إلى صوت ابن آدم.
العاصفة
1
كان يوسف الفخري في الثلاثين من عمره عندما ترك العالم، وما فيه وجاء ليعيش وحيدا متزهدا، صامتا في تلك الصومعة المنفردة القائمة على كتف وادي قاديشا في شمال لبنان.
وقد اختلف سكان القرى المجاورة في أمره، فمنهم من قال: «هو ابن أسرة شريفة مثرية، وقد أحب امرأة فخانت عهده فهجر الديار، وطلب الخلوة توصلا إلى السلوان» ومنهم من قال: «هو شاعر خيالي قد انصرف عن ضجة الاجتماع، ليدون أفكاره وينظم عواطفه»، ومنهم من قال: «هو متصوف متعبد قد اقتنع بالدين دون الدنيا» ومنهم من اكتفى بقوله «هو مجنون».
أما أنا فلم أكن من رأي هذا ولا ذاك؛ لعلمي أن في داخل الأرواح أسرارا غامضة لا تكشفها الظنون، ولا يبوح بها التخمين، غير أني كنت أتمنى لقاء هذا الرجل الغريب، وأشتهي محادثته. وقد حاولت مرتين التقرب إليه، لأستطلع حقيقته، وأستفسر مقاصده، وأمانيه، فلم أظفر منه سوى بنظرات حادة، وبعض ألفاظ تدل على الجفاء، والبرودة والترفع.
ففي المرة الأولى، وقد لقيته سائرا بقرب غابة الأرز، حييته بأحسن ما حضرني من الكلام فلم يرد التحية إلا بهز رأسه، ثم تحول عني مسرعا، وفي المرة الثانية وجدته واقفا في وسط كرمة صغيرة بقرب صومعة، فدنوت منه قائلا: «قد سمعت بالأمس أن هذه الصومعة بناها ناسك سرياني في القرن الرابع عشر، فهل لك علم بذلك يا سيدي؟».
فأجاب بلهجة خشنة «لا أعلم من بنى هذه الصومعة، ولا أريد أن أعلم»، ثم أدار لي ظهره وزاده ساخرا: «لماذا لا تسأل جدتك فهي أقدم عهدا، وأكثر علما بتاريخ هذه الأودية؟»، فتركته مكسوفا نادما على تطفلي.
وهكذا مر عامان، وحياة هذا الرجل المكتنفة بالأسرار تراود خيالي، وتتمايل مع أفكاري، وأحلامي.
2
ففي يوم من أيام الخريف، وقد كنت متجولا بين تلك التلول، والمنحدرات المجاورة لمزرعة يوسف الفخري، فاجأتني العاصفة بأهوائها، وأمطارها، وأخذت تتلاعب بي مثلما يتلاعب البحر الهائج بمركب كسرت الأمواج دفته، ومزقت الريح شراعه، فتحولت نحو الصومعة قائلا في نفسي: هذه فرصة موافقة لزيارة هذا المتنسك، وستكون العاصفة عذري، وأثوابي المبللة شفيعي.
بلغت الصومعة، وأنا في حالة يرثى لها، ولم أطرق الباب حتى ظهر أمامي الرجل الذي طالما تشوقت إلى لقائه حاملا بيده طائرا مهشم الرأس، منبوش الريش وهو يختلج كأنه على آخر رمق من الحياة، فقلت بعد أن حييته «اعذرني يا سيدي على مجيئي إليك في هذه الحالة، ولكن العاصفة شديدة وأنا بعيد عن المنازل».
فتفرس في عابسا، وأجاب بصوت يساوره الاستنكاف: «الكهوف كثيرة في هذه النواحي، وقد كان بإمكانك الالتجاء إليها».
قال هذا وهو يلامس رأس الطائر بانعطاف لم أر مثله في حياتي، فعجبت لمرأي الضدين: الرأفة، والخشونة في وقت واحد، وتحيرت في أمري، وكأنه قد علم بما يخالج ضميري، فنظر إلي نظرة استيضاح، واستعلام ثم قال: «إن العاصفة لا تأكل اللحوم الغامضة، فلم تخافها وتهرب منها؟».
فأجبته: «العاصفة لا تحب الحوامض، ولا الموالح، ولكنها تميل إلى الرطب البارد، ولا أشك بأنها ستجدني لقمة لذيذة إذا قبضت علي ثانية».
فقال وقد انفرجت ملامحه قليلا: «لو مضغتك العاصفة لقمة، لحصلت على شرف رفيع لا تستحقه».
فأجبته: «نعم يا سيدي، ولقد جئت إليك هاربا من العاصفة لكي لا أنال ذلك الشرف الذي لا أستحقه».
فحول وجهه محاولا إخفاء ابتسامة ضئيلة، ثم أشار نحو مقعد خشبي بقرب موقد تتأجج فيه النار، وقال: «اجلس وجفف أثوابك».
فجلست بقرب النار شاكرا، وجلس هو قبالتي على مقعد محفور في الصخر، وأخذ يغمس أطراف أصابعه بمزيج زيتي في طاسة فخارية، ويدهن بها جانح الطائر، ورأسه، وقال: «هذا الشحرور حملته الريح، فهبط على الصخور بين حي وميت».
فقلت: «والريح قد حملتني أيضا إلى بابك يا سيدي، وأنا للآن لا أدري ما إذا كانت قد كسرت جانحي أو هشمت رأسي».
فنظر إلى وجهي بشيء من الاهتمام وقال: «حبذا لو كان للإنسان بعض أطباع الطيور. حبذا لو كسرت العواصف أجنحة البشر، وهشمت رؤوسهم، ولكن الإنسان مطبوع على الخوف والجبانة، فهو لا يرى العاصفة مستيقظة حتى يختبئ في شقوق الأرض ومغاورها».
فقلت وقصدي متابعة الحديث: «نعم إن للطير شرفا ليس للإنسان، فالإنسان يعيش في ظلال شرائع، وتقاليد ابتدعها لنفسه، أما الطيور فتحيا بسبب الناموس الكلي المطلق الذي يسير بالأرض حول الشمس».
فلمعت عيناه وانبسطت ملامحه كأنه وجد بي تلميذا سريع الفهم ثم قال: «أحسنت، أحسنت، فإذا كنت تعتقد حقيقة بما تقول، فاترك الناس وتقاليدهم الفاسدة وشرائعهم التافهة، وعش كالطيور في مكان بعيد خال إلا من ناموس الأرض والسماء».
فقلت: «إني اعتقد بما أقول يا سيدي».
فرفع يده وقال بصوت يمازجه التعنت، والتصلب: «الاعتقاد شيء والعمل به شيء آخر، كثيرون هم الذين يتكلمون كالبحر، أما حياتهم فشبيهة بالمستنقعات، كثيرون هم الذين يرفعون رؤوسهم فوق قمم الجبال، أما نفوسهم فتبقى هاجعة في ظلمة الكهوف».
قال هذا ولم يدع لي فرصة للكلام، بل قام من مكانه، ومدد الشحرور على جبة قديمة بقرب النافذة، ثم تناول رزمة من القضبان اليابسة، وألقاها في الموقدة قائلا: «اخلع حذائك، وجفف قدميك، فالرطوبة أضر بالإنسان من كل شيء آخر، جفف أثوابك جيدا ولا تكن خجولا».
فاقتربت من النار، والبخار يتصاعد من أثوابي الرطبة، أما هو فوقف في باب الصومعة محدقا بالفضاء الغضوب.
وبعد هنيهة سألته قائلا: «هل جئت إلى هذه الصومعة منذ زمن بعيد؟».
فأجاب دون أن يلتفت نحوي: «جئت إلى هذه الصومعة عندما كانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرف على وجه المياه».
فسكت قائلا في سري: «ما أغرب هذا الرجل، وما أصعب السبيل إلى حقيقته، ولكن لا بد من محادثته، ومعرفة خفايا روحه، وسوف أصبر حتى يتحول شموخه إلى اللين والدعة».
3
وغمر الليل تلك البطاح بردائه الأسود، ونمت العاصفة، وغزرت الأمطار حتى خيل لي أن الطوفان قد جاء ثانية ليبيد الحياة ويطهر الأرض من أدرانها، وكأن ثورة العناصر قد ولدت في نفس يوسف الفخري تلك الطمأنينة التي تجيء في بعض الأحايين مظهرا لرد الفعل، فتحول نفوره مني إلى الاستئناس بي، فقام وأشعل شمعتين، ثم وضع أمامي جرة طافحة بالخمر، وطبقا عليه الخبز والزيتون والعسل وبعض الأثمار المجففة، ثم جلس قبالتي، وقال بلطف: «هذا كل ما عندي من الزاد فتفضل يا أخي وشاركني به».
تناولنا العشاء صامتين صاغين إلى ولولة الريح وبكاء الأمطار، غير أنني كنت أتبصر وجهه بين اللقمة والأخرى، مستفسرا ملامحه عن غوامضه، سائلا معانيه عن الميول، والمقاصد المستحكمة بوجدانه.
وبعد أن رفع المائدة تناول من جانب الموقد إبريقا نحاسيا، وصب منه قهوة صافية زكية الرائحة في فناجين، ثم فتح علبة مفعمة بلفائف التبغ، وقال بهدوء «تفضل يا أخي».
فأخذت لفافة رافعا بيدي فنجان القهوة، وأنا لا أصدق ما تراه عيني، فنظر إلي، وكأنه قد سمعني مفكرا، فابتسم هازا رأسه، ثم قال بعد أن أشعل لفافة، وشرب قليلا من القهوة: أنت بالطبع تستغرب وجود الخمر، والتبغ، والقهوة في هذه الصومعة، وقد تستغرب وجود الطعام والفراش، وأنا لا ألومك؛ فأنت واحد من الكثيرين الذين يتوهمون أن البعد عن البشر يستوجب البعد عن الحياة من الملذات الطبيعية، والمسرات البسيطة.
فأجبته: «نعم يا سيدي لقد تعودنا الاعتقاد بأن من يتنحى عن العالم ليعبد الله يترك ورائه كل ما في العالم من الملذات، والمسرات؛ ليعيش وحده متنسكا، متقشفا، مستكفيا بالماء والأعشاب».
فقال: «لقد كان بإمكاني عبادة الله وأنا بين خلقه؛ لأن العبادة لا تستلزم الوحدة والانفراد. وأنا لم أترك العالم لأجد الله؛ لأنني كنت أجده في بيت أبي، وفي كل مكان آخر، ولكنني هجرت الناس؛ لأن أخلاقي لا تنطبق على أخلاقهم، وأحلامي لا تتفق مع أحلامهم، تركت البشر؛ لأنني وجدت نفسي دولابا يدور يمنة بين دواليب تدور يسارا، تركت المدينة؛ لأنني وجدتها شجرة مسنة فاسدة، قوية هائلة عروقها في ظلمة الأرض، وأغصانها تتعالى إلى ما وراء الغيوم، أما أزاهرها فمطامع، وشرور، وجرائم، وأما أثمارها فويل، وشقاء، وهموم، ولقد حاول بعض المصلحين تطعيمها، وتغيير طبيعتها، فلم يفلحوا بل ماتوا قانطين، مضطهدين، مغلوبين على أمرهم».
واتكأ إذ ذاك إلى جانب الموقد، وكأنه قد وجد لذة في تأثير كلامه علي، فرفع صوته أكثر من ذي قبل، وزاد قائلا: لا، لم أطلب الوحدة للصلاة، والتنسك؛ لأن الصلاة، وهي أغنية القلب، تبلغ آذان الله وإن تصاعدت ممزوجة بصياح ألوف الألوف، وأما التنسك، وهو قهر الجسد وإماتة رغائبه، فمسألة لا مكان لها في ديني؛ لأن الله بنى الأجسام هياكل للأرواح، وعلينا أن نحافظ على هذه الهياكل؛ لتبقى قوية نظيفة لائقة بالألوهية التي تحل فيها، لا يا أخي لم أطلب الوحدة للصلاة، والتقشف؛ بل طلبتها هاربا من الناس، وشرائعهم، وتعاليمهم، وتقاليدهم، وأفكارهم وضجتهم، وعويلهم. طلبت الوحدة؛ لكي لا أرى أوجه الرجال الذين يبيعون نفوسهم ليشتروا بأثمانها ما كان دون نفوسهم قدرا وشرفا. طلبت الانفراد؛ لكي لا ألتقي بالنساء اللواتي يسرن ممدودات الأعناق، غامزات العيون على ثغورهن ألف ابتسامة، وفي أعماق قلوبهن غرض واحد.
طلبت الانفراد لكي لا أجالس ذوي «النصف معرفة» الذين يبصرون في المنام خيال العلم فيتخيلون أنهم أصبحوا من المدارك بمقام النقطة من الدائرة، ويرون في اليقظة أحد أشباح الحقيقة فيتوهمون أنهم قد امتلكوا جوهرها الكامل المطلق. طلبت الخلوة؛ لأنني مللت مجاملة الخشن الذي يظن اللطف ضربات من الضعف، والتساهل نوعا من الجبانة، والترفع شكلا من الكبرياء. طلبت الخلوة؛ لأن نفسي تعبت من معاشرة المتمولين الذين يظنون أن الشموس ، والأقمار ، والكواكب لا تطلع إلا من خزائنهم، ولا تغيب إلا في جيوبهم، ومن الساسة الذين يتلاعبون بأماني الأمم، وهم يذرون في عيونها الغبار الذهبي، يملئون آذانهم برنين الألفاظ، ومن الكهان الذين يعظون الناس بما لا يتعظون به، ويطلبون منهم ما لا يطلبونه من نفوسهم. طلبت الوحدة، والانفراد؛ لأنني لم أحصل على شيء من يد بشري؛ إلا بعد أن دفعت ثمنه من قلبي. طلبت الوحدة، والانفراد؛ لأنني سئمت ذلك البناء العظيم الهائل المدعو حضارة، ذلك البناء الدقيق الصنع والهندسة، القائم فوق رابية من الجماجم البشرية. طلبت الوحدة؛ لأن في الوحدة حياة للروح، والفكر، والقلب، والجسد. طلبت البرية الخالية؛ لأن فيها نور الشمس، ورائحة الأزهار، وأنغام السواقي. طلبت الجبال؛ لأن فيها يقظة الربيع، وأشواق الصيف، وأغاني الخريف، وعزم الشتاء. جئت إلى هذه الصومعة المنفردة؛ لأنني أريد معرفة أسرار الأرض، والدنو من عرش الله».
وسكت متنفسا الصعداء كأنه ألقى حملا ثقيلا عن عاتقه، وقد تلمعت عيناه بأشعة غريبة سحرية.
وظهرت على وجهه أمارات الأنفة، والإرادة، والقوة.
ومرت بضع دقائق وأنا أنظر إليه مسرورا بظهور ما كان محجوبا عني، ثم خاطبته قائلا: «أنت مصيب في كل ما قلته، ولكن ألا ترى يا سيدي أن بتشخيصك أمراض الاجتماع وأوصابه قد أبنت لي أنك أحد الأطباء الماهرين، وأنه لا يجدر بالطبيب الإعراض عن العليل قبل أن يشفى أو يموت؟ إن العالم بحاجة ماسة إلى أمثالك، وليس من العدل أن تعتزل عن الناس، وأنت قادر على نفعهم».
فحدق بي هنيهة، ثم قال بلهجة ملئوها القنوط والمرارة: «منذ البدء والأطباء يحاولون إنقاذ العليل من علته، فمنهم من جاء بالمباضع، ومنهم من جاء بالأدوية، والمساحيق، ولكنهم ماتوا جميعا بدون رجاء ولا أمل، ويا ليت عليل الدهر يكتفي بملازمة مضجعه القذر، ومؤانسة قروحه المزمنة، ولكنه يمد يده من بين اللحف، ويقبض على عنق كل من يزوره ممرضا ويخنقه، والأمر الذي يغيظني ويحول الدم في عروقي إلى نار محرقة، هو أن ذلك العليل الخبيث يقتل الطبيب، ثم يعود ويغمض عينيه قائلا لنفسه : «لقد كان بالحقيقة طبيبا عظيما» ... لا يا أخي، ليس بين الناس من يستطيع أن ينفع الناس، فالحارث وإن كان حكيما ماهرا لا يقدر على استنبات حقله في أيام الشتاء.
فأجبته قائلا: «قد يمر شتاء العالم يا سيدي، ويجيء بعده ربيع بهي جميل، فتظهر الأزهار في الحقول، وتترنم الجداول في الأودية».
فقطب ما بين عينيه متنهدا، وبصوت تعانقه الكآبة قال: «ليت شعري هل قسم الله حياة الإنسان - وهي الدهر بكامله - إلى فصول تشابه فصول السنة بمصيرها، وتتابعها؟ هل يظهر على سطح الأرض بعد ألف ألف عام طائفة من البشر تحيى بالروح والحق، هل يأتي زمن يتمجد فيه الإنسان، فيجلس عن يمين الحياة فرحا بنور النهار، وطمأنينة الليل؟ هل يتم ذلك يا ترى، هل يتم بعد أن تشبع الأرض من لحوم البشر، وترتوي من دمائهم؟
وانتصب إذ ذاك واقفا رافعا يمينه نحو العلاء، كأنه يشير إلى عالم غير هذا العالم: «تلك أحلام بعيدة، وليست هذه الصومعة منزلا للأحلام؛ لأن ما أعلمه يقينا يشغل كل فسحة وكل قرنة فيها، بل يشغل كل مكان في هذه الأودية وهذه الجبال، أما ما أعلمه يقينا فهو هذا، أنا كائن موجود، وفي أعماق وجودي جوع وعطش، ولي الحق أن أتناول خبز الحياة وخمرها من الآنية التي أصنعها بيدي. من أجل ذلك تركت موائد الناس، وولائمهم، وجئت هذا المكان، وسأبقى فيه حتى النهاية».
وأخذ يمشي ذهابا، وإيابا في وسط تلك الغرفة، وأنا أتأمله، وأفكر بكلامه، وبالعوامل والبواعث التي صورت له الجامعة البشرية بخطوط عوجاء، وألوان قاتمة، ثم استوقفته قائلا: «إني احترم أفكارك، ومقاصدك يا سيدي، واحترم وحدتك، وانفرادك غير أنني أعلم، والعلم مجلبة الأسف، أن هذه الأمة التعسة قد فقدت بتنحيك، وابتعادك رجلا، موهوبا، قادرا على خدمتها وإيقاظها».
فأجاب هازا رأسه: «ليست هذه الأمة إلا كالأمم كافة، فالناس من جبلة واحدة، وهم لا يختلفون بعضهم عن بعض إلا في الظواهر، والمظاهر الخارجية التي لا يعتد بها، فتعاسة الأمم الشرقية هي تعاسة الأرض بكاملها، وليس ما تحسبه رقيا في الغرب سوى شبح آخر من أشباح الغرور الفارغ، فالرياء يظل رياء وإن قلم أظافره، والغش يبقى غشا، وإن لانت ملامسه، والكذب لا يصير صدقا إذا لبس الحرير، وسكن القصور، والخداع لا يتحول إلى أمانة إذا ركب القطار، أو اعتلى المنطاد، والطمع لا ينقلب قناعة إذا قاس المسافات، أو وزن العناصر، والجرائم لا تصبح فضائل وإن سارت بين المعامل والمعاهد، أما العبودية، العبودية للحياة، العبودية للماضي، العبودية للتعاليم، والعوائد، والأزياء، العبودية للأموات؛ فستبقى عبودية، وإن طلت وجهها، وغيرت ملابسها، العبودية تظل عبودية حتى، وإن دعت نفسها حرية، لا يا أخي ليس الغربي أرقى من الشرقي، ولا الشرقي أحط من الغربي، وما الفرق بينهما إلا كالفرق الكائن بين الذئب والضبع، ولقد نظرت فرأيت مظاهر الاجتماع المتباينة ناموسا أوليا عادلا يفرق التعاسة، والعماوة، والجهالة على السواء، فلا يميز شعبا على شعب، ولا يظلم طائفة على طائفة.
فقلت وقد بلغ بي الاستغراب حد الالتباس: «إذا فالمدنية باطلة، وكل ما فيها باطل».
فأجاب متهيجا: «نعم باطلة هي المدنية، وباطل كل شيء فيها، فما الاختراعات والاكتشافات سوى ألاعيب يتسلى بها العقل وهو في حالة الملل والتضجر، وما تقصير المسافات وتمهيد الجبال والأودية والتغلب على البحار والفضاء غير أثمار غشاشة مملوئة بالدخان لا ترضي العين ولا تغذي القلب ولا ترفع النفس، أما تلك الألغاز والأحاجي التي يدعونها بالمعارف والفنون فهي قيود وسلاسل ذهبية يجرها الإنسان مبتهجا بلمعانها ورنين حلقاتها، بل هي أقفاص ابتدأ الإنسان بتطويق أعمدتها وأسلاكها منذ القدم، غير عالم بأنه لا ينتهي من صنعها إلا ويجد نفسه أسيرا مسجونا في داخلها، نعم، باطلة هي أعمال الإنسان، وباطلة هي تلك المقاصد، والمرامي والمنازع والأماني، وباطل كل شيء على الأرض، وليس بين أباطيل الحياة سوى أمر واحد خليق بحب النفس وشوقها، وهيامها، ليس هناك غير شيء واحد».
فقلت: «وما ذلك يا سيدي؟».
فوقف دقيقة ساكتا، ثم أغمض أجفانه، واضعا يديه على صدره، وقد أشرق وجهه، وانبسطت ملامحه، وبصوت عذب مرتعش قال: «هي يقظة في النفس، هي يقظة في عمق أعماق النفس، هي فكرة تفاجئ وجدان الإنسان على حين غفلة، وتفتح بصيرته، فيرى الحياة مكتنفة بالأنغام، محاطة بالهالات، منتصبة كبرج من النور بين الأرض واللانهاية، هي شعلة من شعلات ضمير الوجود تتأجج فجأة في داخل الروح، فتحرق ما يحيط بها من الهشيم، وتصعد سابحة، مرفرفة في الفضاء الوسيع، هي عاطفة تهبط على قلب الفرد فيقف مستغربا مستهجنا كل ما يخالفها، كارها كل شيء لا يجاريها، متمردا على الذين لا يفهمون أسرارها، هي يد خفية قد أزالت الغشاء عن عيني وأنا في وسط الاجتماع بين أهلي وأصحابي ومواطني، فوقفت منذهلا مدهوشا قائلا في نفسي: ما هذه الوجوه، وما شأن هؤلاء الناظرين إلي، وكيف عرفتهم، وأين لقيتهم، ولماذا أقيم بينهم، بل لماذا أجالسهم وأحادثهم؟ هل أنا غريب بينهم، أم هم الغرباء في ديار بنتها الحياة لي وأسلمتني مفاتيحها ...؟».
وسكت فجأة كأن الذكرى رسمت على حافظته صورا وأشباحا لا يريد إظهارها، ثم بسط ذراعيه وقال همسا: «هذا ما حل بي منذ أربع سنوات، فتركت العالم، وجئت هذه البرية الخالية لأعيش في اليقظة، متمتعا بالفكر والعاطفة والسكينة».
ومشى إذ ذاك نحو باب الصومعة ناظرا إلى أعماق الليل، ثم هتف كأنه يخاطب العاصفة: «هي يقظة في أعماق النفس، فمن يعرفها لا يستطيع إظهارها بالكلام، ومن لم يعرفها لا ولن يدرك أسرارها».
4
ومرت ساعة طويلة ممنطقة بهمس الفكر ونداء العاصفة، ويوسف الفخري يمشي تارة في وسط تلك الحجرة، ويقف طورا في بابها محدقا بالفضاء العابس، أما أنا فبقيت صامتا شاعرا بتموجات روحه، مستظهرا أقواله، مفكرا بحياته وما وراء حياته من لذة الوحدة وآلامها، وعند انقضاء الهزيع الثاني من الليل اقترب مني، ونظر طويلا إلى وجهي كأنه يريد أن يحفظ في ذاكرته رسم الرجل الذي باح له بسر وحدته وانفراده، ثم قال ببطء: «أنا ذاهب الآن للتجول في العاصفة، هي عادة أتمتع بلذتها في الخريف، وفي الشتاء ... هناك إبريق القهوة، واللفائف، وإن طلبت نفسك الخمر تجدها في الجرة، وإذا شئت النوم تجد اللحف، والمساند في تلك القرنة».
قال هذا والتف بجبة سوداء كثيفة، ثم زاد مبتسما: «أرجوك أن توصد باب الصومعة عندما تذهب في الصباح، لأنني سأصرف الغد في غابة الأرز».
ثم سار نحو الباب، وتناول من جانبه عكازا طويلا، وقال: «إذا فاجأتك العاصفة ثانية وأنت في هذه النواحي، فلا تتأخر عن الالتجاء إلى الصومعة هذه، ولكنني أرجو أن تعلم نفسك حب العواصف لا الخوف منها ... مساء الخير يا أخي».
وخرج إلى الليل مسرعا.
ولما وقفت في باب الصومعة لأرى وجهته كان الظلام قد أخفاه، ولكنني بقيت بضع دقائق أسمع وقع قدميه على حصباء الوادي.
5
جاء الصباح وقد مرت العاصفة، وانقشعت الغيوم، وظهرت تلك الصخور، والغابات متشحة بنور الشمس، فتركت الصومعة بعد أن أقفلت بابها، وفي نفسي شيء من تلك اليقظة المعنوية التي تكلم عنها يوسف الفخري.
ولكنني لم أبلغ منازل الناس، وأرى حركاتهم، وأسمع أصواتهم حتى وقفت قائلا في سري: «نعم إن اليقظة الروحية هي أخلق شيء بالإنسان، بل هي الغرض من الوجود، ولكن أليست المدنية بما فيها من التلبس والإشكال من دواعي اليقظة الروحية؟ وكيف يا ترى نستطيع إنكار أمر موجود، ونفس وجوده على إثبات صلاحيته، قد تكون المدنية الحاضرة عرضا زائلا، ولكن الناموس الأبدي قد جعل الأعراض سلما تنتهي درجاته بالجوهر المطلق».
ولم اجتمع ثانية بيوسف الفخري؛ لأن الحياة أبعدتني عن شمال لبنان في أواخر ذلك الخريف، فجئت منفيا إلى بلاد قصية عواصفها داجنة، أما التنسك فيها فضرب من الجنون.
الشيطان
كان الخوري سمعان عالما بدقائق الأمور الروحية، متبسطا بالمسائل اللاهوتية، متعمقا بأسرار الخطايا العرضية والمميتة، متضلعا بخفايا الجحيم والمطهر والفردوس.
وكان يتنقل بين قرى شمال لبنان؛ ليعظ الناس، ويشفي أرواحهم من أمراض الإثم، وينقذهم من حبائل الشيطان، فالشيطان كان عدو الخوري سمعان يحاربه ليلا، ونهارا بلا ملل، ولا تعب.
وكان سكان القرى يكرمون الخوري سمعان، ويرتاحون إلى ابتياع عظاته، وصلواته بالفضة والذهب، ويتسابقون إلى إهدائه أطيب ما تثمره أشجارهم، وأفضل ما تنبته حقولهم.
ففي عشية يوم من أيام الخريف، وقد كان الخوري سمعان سائرا إلى مكان خال نحو قرية منفردة بين تلك الجبال، والأودية، سمع أنينا موجعا آتيا من جانب الطريق، فالتفت فإذا برجل عاري الجسم منطرح على الحصباء، ونجيع الدم يتدفق من جراح بليغة في رأسه وصدره، وهو يقول مستنجدا: أنقذني، أعني، أشفق علي فأنا مائت».
فوقف الخوري سمعان محتارا، ونظر إلى الرجل المتوجع، ثم قال في ذاته: «هذا أحد اللصوص الأشقياء، وأظن أنه قد حاول سلب عابري الطريق، فغلب على أمره ... هو منازع فإذا مات وأنا بقربه اتهمت بما أنا براء منه».
قال هذا وهم ليتابع السير، فأوقفه الجريح بقوله: «لا تتركني، أنت تعرفني، وأنا أعرفك، أنا مائت لا محالة».
فقال الخوري في ذاته، وقد اصفر وجهه، وارتعشت شفتاه: «أظنه أحد المجانين الذين يتوهون في البرية» ثم عاد، وقال لنفسه: «إن منظر جراحه يخيفني، فماذا عسى أفعل له ... إن طيب النفوس لا يستطيع أن يداوي الأجساد».
ومشى الخوري بضع خطوات، فصاح الجريح بصوت يذيب الجماد قائلا: «اقترب مني، اقترب فنحن أصدقاء منذ زمن بعيد، أنت الخوري سمعان الراعي الصالح وأنا، أنا لست بلص ولا بمجنون، اقترب مني ولا تدعني أموت وحيدا في هذه البرية الخالية، اقترب فأقول لك من أنا».
فاقترب الخوري سمعان من المنازع، وانحنى فوقه متفرسا، فرأى وجها غريب الخطوط يأتلف بين تقاطيعه الذكاء بالدهاء، والقباحة بالجمال، والخباثة بالدماثة، فتراجع إلى الوراء، وصرخ قائلا: «من أنت؟».
فقال المنازع بصوت خافت: «لا تخف يا أبت فنحن أصدقاء منذ عهد بعيد، أعني علي النهوض، وسر بي إلى الساقية القريبة، واغسل جراحي بمنديلك».
فصرخ الخوري: «قل لي من أنت، فأنا لا أعرفك، ولا أذكر بأنني رأيتك في حياتي».
فأجاب الجريح، وحشرجة الموت تعانق صوته: «أنت تعلم من أنا، فقد لقيتني ألف مرة وشاهدت وجهي في كل مكان، أنا أقرب المخلوقات إليك، بل أنا أعز عليك من حياتك».
فصاح الخوري قائلا: «أنت كاذب محتال، وخليق بالمنازعين الصدق، فأنا لم أر وجهك في حياتي، قل من أنت وإلا تركتك تموت مضرجا بدمائك ».
فتحرك الجريح قليلا، وشخص بعيني الخوري، وقد ظهرت على شفتيه ابتسامة معنوية، وبصوت هادئ ناعم عميق قال: «أنا الشيطان».
فصرخ الكاهن صوتا هائلا ارتعشت له زوايا ذلك الوادي، ثم نظر إليه محدقا فرأى أن جسد الجريح ينطبق بتفاصيله، ومعالمه على هيأة الأبالسة في صورة الدينونة المعلقة على جدار كنيسة القرية، ثم صرخ مرتجفا: «لقد أراني الله صورتك الجهنمية؛ ليزيد بك كرهي، فلتكن ملعونا إلى أبد الآبدين».
قال الشيطان: «لا تكن متسرعا يا أبتاه، ولا تضيع الوقت بالكلام الفارغ، بل اقترب، وضمد جراحي قبل أن يسيل ما في جسدي من الحياة».
فقال الخوري: «إن أصابعي التي ترفع الذبيحة الربانية في كل يوم لن تلمس جسدك المصنوع من مفرزات الجحيم، فمت ملعونا بألسنة الدهور، وشفاه الإنسانية؛ لأنك عدو الدهر والعامل على إبادة الإنسانية».
فقال الشيطان متململا: «أنت لا تدري ما تقول، ولا تعلم أي ذنب تقترفه نحو نفسك، اسمع فأخبرك حكايتي ... كنت اليوم سائرا وحدي في هذه الأودية المنفردة، ولما بلغت هذا المكان التقيت بجماعة من أجلاف الملائكة، فهجموا علي وضربوني ضربا مبرحا، ولو لم يكن مع أحدهم سيف ذو حدين لفتكت بهم جميعا، ولكن ماذا يفعل العزل مع المسلح؟».
وقف الشيطان عن الكلام هنيهة واضعا يده على جرح بليغ في جانبه، ثم زاد قائلا: «أما الملاك المسلح، وأظنه ميخائيل، فداهية يحسن ضرب السيف، ولو لم أنطرح على الأرض، وأمثل دور النزع والموت لما أبقى مني عضوا بجوار عضو آخر».
فقال الخوري بصوت تعانقه رنة النصر والتغلب: «ليكن اسم ميخائيل مباركا، فقد أنقذ الإنسانية من عدوها الخبيث».
فقال الشيطان: ليست عداوتي للإنسانية أشد سوادا من عداوتك لنفسك، فأنت تبارك ميخائيل، وهو لم يفدك بشيء، وتجدف على اسمي في ساعة انكساري، وتنكر معروفي، وأنت عائش في ظلال كياني. أو لم تتخذ وجودي صناعة لك واسمي دستورا لأعمالك؟ هل أغناك ماضي عن حاضري ومستقبلي؟ هل نمت ثروتك إلى حد لا تحتمل معه الزيادة؟ ألا تعلم أن زوجتك وبنيك، وهم كثيرون يفقدون رزقهم بفقدي ، بل يموتون جوعا بموتي؟ ماذا تفعل لو حكم القضاة باضمحلالي؟ وأية صناعة تحسنها إذا أبادت الأرياح اسمي؟ منذ خمس وعشرين سنة وأنت تسير متجولا بين قرى هذا الجبل؛ لتحذر الناس من حبائلي، وتبعدهم عن مصائبي، وهم يبتاعون مواعظك بأموالهم وغلة حقولهم، فأي شيء يبتاعون منك غدا إذا علموا أن عدوهم الشيطان قد مات، وأنهم أصبحوا في مأمن من حبائله، ومعاقله؟ وأية وظيفة يسندها القوم لك إذا ألغيت وظيفة محاربة الشيطان بموت الشيطان؟ ألا تعلم وأنت اللاهوتي المدقق أن وجود الشيطان قد أوجد أعدائه الكهان، وأن تلك العداوة القديمة هي اليد الخفية التي تنقل الفضة، والذهب من جيوب المؤمنين إلى جيوب الوعاظ، والمرشدين؟ ألا تعلم وأنت العالم الخبير أنه بزوال السبب يزول المسبب؟ إذا كيف ترضى بموتي، وبموتي تفقد منزلتك، وينقطع رزقك، ويكف الخبز عن أفواه زوجتك وبنيك؟
وسكت الشيطان دقيقة، وقد تبدلت في وجهه دلائل الاستعطاف بأمارات الاستقلال، ثم عاد فقال: «ألا فأسمع أيها الغبي المكابر فأريك الحقيقة التي تضم كياني بكيانك، وتربط وجودي بوجدانك. في أول ساعة من الزمن وقف الإنسان أمام الشمس، وبسط ذراعيه، وصرخ للمرة الأولى قائلا: «ما وراء الأفلاك إله عظيم يحب الخير»، ثم أدار ظهره للنور فرأى ظله منبسطا على أديم التراب فهتف قائلا: «وفي أعماق الأرض شيطان رجيم يحب الشر»، ثم سار نحو كهفه هامسا في نفسه: «أنا بين إلهين هائلين، إله أنتمي إليه، وإله أحاربه». ومرت العصور إثر العصور، والإنسان بين قوتين مطلقتين، قوة تصعد بروحه إلى العلاء فيباركها، وقوة تهبط بجسده إلى الظلمة فيلعنها. غير أنه لم يكن يدري معاني البركة، ولا مباني اللعنة، بل كان بينهما كشجرة بين صيف يكسوها وشتاء يعريها، ولما بلغ الإنسان فجر المدينة، وهي الألفة البشرية ظهرت العائلة، ثم القبيلة، فتفرقت الأعمال بتفرق الميول، وتباينت الصناعات بتباين المشارب، والمنازاع، فقام البعض من تلك القبيلة بحراثة الأرض، وآخرون ببناء المآوي، وغيرهم بنسج الملابس، وغيرهم بصهر المعادن. في ذلك العصر البعيد ظهرت الكهانة في الأرض، وهي الحرفة الأولى التي ابتدعها الإنسان دون حاجة حيوية، أو داع طبيعي إليها.
وقف الشيطان دقيقة عن الكلام، ثم قهقه ضاحكا بصوت ارتعشت له تلك الأودية الخالية ... وكأن الضحك قد أوسع فوهات كلومه فأسند خاصرته بيده متوجعا، ثم شخص بالخوري سمعان وزاد قائلا: «في ذلك العهد ظهرت الكهانة في الأرض، وإليك يا أخي كيفية ظهورها، كان في القبيلة الأولى رجل يدعى «لاويص» ولا أدري لماذا اتخذ له هذا الاسم الغريب، وكان لاويص هذا رجلا ذكيا، ولكنه كان بطالا متوانيا كره حراثة الأرض وبناء المآوي بكرهه رعاية المواشي وصيد الوحوش، بل كان يكره كل عمل يستلزم السواعد أو الحركة الجسدية، ولما كان الرزق في ذلك العهد لا يأتي إلا بالعمل، كان لاويص يبيت أكثر لياليه خاوي الجوف فارغه. وفي ليلة من ليالي الصيف، وأفراد تلك القبيلة ملتئمون حول كوخ زعيمهم يتحدثون بما آتى يومهم، ويترقبون النعاس، انتصب أحدهم فجأة، وأشار نحو القمر، وصرخ بخوف قائلا: «انظروا نحو إله الليل فقد شحب وجهه، واضمحل بهاؤه، وتحول إلى حجر أسود معلقا بقبة السماء»، فشخص القوم بالقمر، ثم ضجوا صارخين، متهيبين، مرتعشين، خائفين، كأن أيدي الظلام قد قبضت على قلوبهم؛ لأنهم رأوا إله لياليهم يتحول ببطء إلى كرة قاتمة، وقد تغير لذلك وجه الأرض، وانحجبت البطاح، والأودية وراء نقاب أسود، فتقدم إذ ذاك لاويص وكان قد شهد الخسوف، والكسوف مرات عديدة في سابق حياته، فوقف في وسط الجماعة رافعا ذراعيه، وبصوت أودعه كل ما في ذكائه من التصنع والاحتيال صاح قائلا: «اسجدوا وصلوا مبتهلين، وعفروا وجوهكم بالتراب، فإله الشر المظلم يصارع إله الليل المنير، فإذا غلبه متنا وإذا غلب بقينا عائشين، اسجدوا، وصلوا، وعفروا وجوهكم بالتراب، بل أغمضوا أجفانكم، ولا ترفعوا رءوسكم نحو السماء؛ لأن من يشاهد صراع إله النور وإله الشر يفقد بصره ورشده، ويظل مجنونا، وأعمى إلى نهاية أيامه، خروا راكعين، وساعدوا بقلوبكم إله النور على عدوه».
وظل لاويص يتكلم بهذه اللهجة مبتدعا من خياله ألفاظا جديدة غريبة، مرددا كلمات ما سمعوها قبل تلك الليلة، حتى إذا ما مر نصف ساعة، وقد عاد القمر إلى سابق كماله، وجلاله رفع لاويص صوته عن ذي قبل، وقال بلهجة تعانقها رنة الغبطة والسرور: «قفوا الآن وانظروا، فقد تغلب إله الليل على عدوه الشرير، وتابع سيره بين الكواكب والنجوم، واعلموا أنكم بركوعكم وابتهالكم قد نصرتموه وسررتموه، ولذلك ترونه الآن أبهى نورا وأشد لمعانا».
فوقف القوم، وشخصوا بالقمر، فإذا به قد عاد ساطعا منيرا، فتحول خوفهم إلى طمأنينة واضطرابهم إلى مسرة، وأخذوا يقفزون راقصين، ويصرخون مهللين، ويضربون بنبابيتهم صفائح الحديد، والنحاس مفعمين خلايا ذلك الوادي بعويلهم، وضجيج لهجتهم.
في تلك الليلة استدعى زعيم القبيلة لاويص وقال له: «لقد أتيت في هذه الليلة بما لم يأته بشري قبلك، وعلمت من أسرار الحياة ما لا يعلمه بيننا سواك، فافرح وابتهج؛ لأنك ستكون من الآن وصاعدا صاحب المقام الأول من بعدي في هذه القبيلة، فأنا أشد الرجال بطشا، وأقواهم ساعدا، وأنت أكثر الرجال معرفة، وأكثرهم حكمة، بل أنت الوسيط بيني وبين الآلهة تبلغني مشيئتهم، وتبين لي أعمالهم وأسرارهم، وتعلمني ما يجب أن أفعله لأكون حاصلا على رضائهم ومحبتهم».
فأجاب لاويص: «كل ما يقوله لي الآلهة في الحلم أقوله في اليقظة، وما أراه من مآتيهم أظهره لك، فأنا الوسيط بينك وبين الآلهة».
فسر الزعيم، ووهب لاويص فرسين، وسبعة عجول، وسبعين كبشا، وسبعين شاة، وقال له: «سوف يبني لك رجال القبيلة بيتا يماثل بيتي، وسيهدونك في نهاية كل موسم قسما من غلة الأرض، وأثمارها، فتعيش سيدا مطاعا، مكرما».
وانتصب إذ ذاك لاويص للانصراف، فأوقفه الزعيم، وسأله قائلا: «ولكن من هو هذا الإله الذي تدعوه بإله الشر؟ من هو هذا الإله الذي يجسر أن يصارع إله الليل البهي، إننا لم نسمع به قط ولا علمنا بوجوده؟».
ففرك لاويص جبهته، وأجاب قائلا: «اعلم يا سيدي أنه في قديم الزمان، وذلك قبل ظهور الإنسان، كان جميع الآلهة يعيشون بسلام ومودة في مكان قصي وراء المجرة، وكان إله الآلهة، وهو والدهم، يعلم ما لا يعلمونه، ويفعل ما لا يستطيع أحدهم أن يفعله، ويحفظ لنفسه بعض الأسرار الربانية الكائنة وراء النواميس الأزلية، ففي العصر السابع من الدهر الثاني عشر تمردت روح «بعطار» وهو يكره الإله الأعظم فوقف أمام أبيه وقال: «لماذا تحفظ لنفسك السلطة المطلقة على جميع المخلوقات حاجبا عنا أسرار الأكوان والنواميس والدهور؟ أو لسنا أبنائك وبناتك ومشاركين لك بقوتك وخلودك؟».
فضغب إله الآلهة وأجاب: «سوف أحفظ لنفسي القوة الأزلية، والسلطة المطلقة، والأسرار الأساسية إلى أبد الدهر، فأنا البدء وأنا النهاية».
فقال بعطار: «إن لم تقاسمني قوتك وجبروتك تمردت أنا وأبنائي وأحفادي على قوتك وجبروتك».
فانتصب إذ ذاك إله الآلهة فوق عرشه، وقد امتشق المجرة سيفا، وقبض على الشمس ترسا، وبصوت ارتعشت له جوانب العالم صرخ قائلا: «ألا فاهبط أيها المتمرد الشرير إلى العالم الأدنى حيث الظلمة والشقاء، وابق هناك منفيا شريدا تائها حتى تنقلب الشمس رمادا، وتتحول الكواكب هباء منثورا».
في تلك الساعة هبط بعطار من مقر الآلهة إلى العالم الأدنى حيث تقيم الأرواح الخبيثة، وقد أقسم بسر خلوده أنه سيصرف الدهور محاربا والده وإخوته، واضعا الأشراك لكل محب لوالده أو مريد لإخوانه.
فقال الزعيم وقد تقلصت جبهته واصفر وجهه: «إذن فاسم إله الشر بعطار؟».
فأجاب لاويص: «كان اسمه بعطار إذ كان في مقر الآلهة، ولكنه قد اتخذ له بعد هبوطه إلى العالم الأدنى أسماء أخرى: «بعلزبول، وإبليس، وسنطائيل، وبليال، وزميال، وأهريمان، وماره وأبدون والشيطان، وأشهرها الشيطان».
فردد الزعيم لفظة الشيطان مرات بصوت مرتعش يشابه خفيف الأغصان اليابسة لمرور الهواء، ثم قال: «ولماذا يا ترى يكره الشيطان البشر بكرهه الآلهة؟».
فأجاب لاويص: «إن الشيطان يكره البشر ويعمل على إبادتهم؛ لأنهم من نسل إخوانه وأخواته».
فقال الزعيم محتارا: «إذا فالشيطان هو عم البشر وخالهم».
فأجاب لاويص وقال بلهجة لا تخلو من التشويش والالتباس: «نعم يا سيدي، ولكنه عدوهم الأكبر، ومناظرهم الحقود، يملأ أيامهم بالتعاسة ولياليهم بالأحلام المخيفة، فهو القوة التي تحول العاصفة نحو أكواخهم، وتحرق بالقيظ مزارعهم، وتقرض بالأوبئة مواشيهم، وتلامس بالأمراض أجسادهم، هو إله قوي، شرير، خبيث يضحك لشقائنا ، ويكتئب لأفراحنا، فعلينا أن نتفحص أطباعه لنتقي شره، وندرس أخلاقه، لنبتعد عن سبيل احتياله.
فأسند الزعيم رأسه إلى نبوته، وهمس قائلا: «قد عرفت الآن ما كان خافيا عني من أسرار تلك القوة الغريبة التي تحول العاصفة نحو منازلنا، وتقرض بالأوبئة مواشينا، وسوف يعرف البشر كافة ما أعرفه الآن، قيطوبونك يا لاويص؛ لأنك أبنت لهم خفايا عدوهم القوي، وعلمتهم كيف يتقون حبائله».
وانصرف لاويص من أمام زعيم القبيلة، وذهب إلى مرقده فرحا بذكاء فكرته، نشوانا بخمرة خياله، أما الزعيم، ورجاله فقد صرفوا تلك الليلة يتقلبون على مراقد محاطة بالأشباح المخيفة، والأحلام المزعجة.
ووقف الشيطان الجريح دقيقة عن الكلام، والخوري سمعان يحدق فيه، وفي عينه جمود الحيرة والاستغراب، وعلى شفتيه ابتسامة الموت.
ثم استأنف الشيطان الكلام قائلا: «كذا ظهرت الكهانة في الأرض، وهكذا كان وجودي سببا لظهورها، وقد كان لاويص أول من اتخذ عداوتي صناعة، وقد راجت هذه الصناعة بعد موت لاويص بواسطة أبنائه وأحفاده، فنمت، وتدرجت حتى صارت فنا دقيقا مقدسا لا يتخذه غير أصحاب العقول المختمرة، والنفوس الشريفة، والقلوب الطاهرة، والخيال الواسع، ففي بابل كان الناس يسجدون سبع مرات أمام الكاهن الذي يحاربني بتعازيمه، وفي نينوى كانوا ينظرون إلى الرجل الذي يدعي معرفة أسراري وخفاياي كحلقة ذهبية بين الآلهة والبشر، وفي ثيب كانوا يلقبون من يصارعني بابن الشمس والقمر، وفي بابلس، وأفسس، وأنطاكية كانوا يضحون بأبنائهم وبناتهم إرضاء لخصمي، وفي أورشليم، ورمة كانوا يضعون أرواحهم في قبضة من يتفنن في كرهي وإبعادي في كل مدينة ظهرت أمام وجه الشمس، كان اسمي محورا لدوائر الدين، والعلم، والفلسفة، فالهياكل لم تقم إلا في ظلالي، والمعاهد، والمدارس لم تظهر بغير مظاهري، والقصور، والبروج لم ترتفع إلا برفعة منزلتي، فأنا العزم الذي يولد العزم في البشر، وأنا الفكرة التي تستنبت الحيلة في الأفكار، وأنا اليد التي حركت أيادي الناس. أنا الشيطان الأزلي الأبدي، أنا الشيطان الذي يحاربه الناس؛ ليظلوا عائشين، فإذا كفوا عن منازلتي يوقف الخمول أفكارهم، ويميت الكسل أرواحهم، وتفني الراحة أجسادهم. أنا الشيطان الأزلي الأبدي، أنا عاصفة هوجاء، خرساء أهب في أدمغة الرجال، وصدور النساء، وأجرف أميالهم إلى الأديرة، والصوامع؛ ليمجدوني بخوفهم مني، أو إلى منازل البغي والخلاعة؛ ليفرحوني باستسلامهم إلى مشيئتي، فالراهب الذي يصلي في سكينة الليل لكي أبتعد عن مضجعه هو كالمسمومة التي تناديني لكي أقترب من مضجعها. أنا الشيطان الأزلي الأبدي، أنا باني الأديرة، والصوامع على أسس الخوف، وأنا مقيم الخمارات، وبيوت الفحش على أسس الشهوة واللذة، فإن زال كياني زال الخوف واللذة من العالم، وبزوالهما تضمحل الميول والأماني في القلب البشري، فتصبح الحياة خالية مقفرة باردة كقيثارة الأوتار مكسرة الجوانب. أنا الشيطان الأزلي الأبدي، أنا موحي الكذب، والنميمة، والاغتياب، والغش، والسخرية، فإذا انقرضت ههذ العناصر في العالم، أصبحت الجامعة البشرية كبستان مهجور لا تنبت فيه سوى أشواك الفضيلة. أنا الشيطان الأزلي الأبدي، أنا أبو الخطيئة وأمها، فإذا ما زالت الخطيئة زال محاربها، وزلت أنت أيضا، وزال أبناؤك، وأحفادك، وزملاؤك، ورصفاؤك. أنا أبو الخطيئة وأمها، فهل تريد أن تموت الخطيئة بموتي؟ هل تريد أن تقف الحركة البشرية بوقوف نبضات قلبي؟ هل تريد أن تمحو السبب لتمحي المسببات؟ أنا هو السبب الوضعي، فهل تريد أن أموت في هذه البرية الخالية؟ أجبني أيها اللاهوتي، هل تريد أن تنتهي العلاقة الأولية الكائنة بينك وبيني؟».
وبسط الشيطان ذراعيه، وألوى عنقه إلى الأمام، وتنهد طويلا، فظهر بلونه الرمادي المائل إلى الاخضرار كأحد تلك التماثيل المصرية التي أبقاها الدهر مطروحة على ضفاف النيل، ثم حدق بوجه الخوري سمعان بعينين مشعشعتين كالمسارج وقال: «لقد أنهكني الكلام، وكان الأحرى بي وأنا جريح منازع أن لا أطيل معك الحديث، ومن العجيب أني قد استرسلت بإظهار حقيقة أنت أدرى بها مني، وبيان أمور هي أدنى إلى صالحك منها إلى صالحي، أما الآن فلك أن تفعل ما تشاء، لك أن تحملني على ظهرك، وتذهب بي إلى منزلك لتداوي جراحي، أو أن تتركني في هذا المكان لأنازع وأموت».
وكان الشيطان يتكلم، والخوري سمعان يرتعش، ويفرك يدا بيد، وبصوت تعانقه الحيرة والارتباك قال : أنا أعرف الآن ما لم أكن أعرفه منذ ساعة، فسامح غباوتي، أنا أعلم بأنك موجود في العالم؛ لكي تجرب، والتجربة هي مقياس يعرف الله بواسطته قدر النفوس البشرية، بل هي ميزان يستخدمه الله عز وجل ليدرك ثقل الأرواح أو خفتها، أنا أعلم الآن إذا مت تموت التجربة، وبموتها تزول تلك القوى المعنوية التي تجعل الإنسان أن يكون متحذرا، بل يزول السبب الذي يقود الناس إلى الصلاة، والصوم، والعبادة، يجب أن تحيا؛ لأنك إن قضيت، وعرف الناس يزول خوفهم من الجحيم، فيبطلون العبادة، ثم يتمرغون بالإثم، من أجل ذلك يجب أن تحيا؛ لأن بحياتك خلاص الجنس البشري من الرذيلة، أما أنا فسوف أضحي بكرهي لك على مذبح محبتي للجنس البشري.
فضحك الشيطان ضحكة تشابه انفجار بركان ثم قال: ما أذكاك وما أبرعك يا حضرة الأب، وما أعمق معارفك بالأمور اللاهوتية، فها قد أوجدت بقوة إدراكك سببا لوجودي لم أكن أعرفه من قبل، والآن وقد فهم كل منا الأسباب الوضعية واللاهوتية التي أوجدتنا في البدء، وتوجد الآن، يجب أن نترك هذا المكان، اقترب يا أخي، تعال واحملني إلى بيتك، فأنا لست بثقيل الجسم، ها قد غمر الليل البطاح بعد أن أهرقت نصف دمي على حصباء هذا الوادي. فاقترب الخوري سمعان من الشيطان، وقد شمر عن ساعديه، وشكل أطراف عبائته بحزامه، ورفع الشيطان فوق ظهره ومشى نحو الطريق.
بين تلك الأودية المغمورة بالسكون، الموشاة بنقاب الليل، سار الخوري سمعان نحو قريته منحني الظهر تحت هيكل عار، وقد تلطخت ملابسه السوداء، ولحيته المسترسلة بقطرات الدم السائلة من كلومه.
الصلبان
المكان:
منزل يوسف مسرة في بيروت.
الزمان:
ليلة من ليالي الخريف سنة 1901م.
الأشخاص:
بولس الصلبان:
موسيقي، وأديب.
يوسف مسرة:
كاتب، وأديب.
الآنسة هيلانة مسرة:
شقيقة يوسف.
سليم معوض:
شاعر، وعواد.
خليل بك تامر:
موظف في الحكومة. (يرفع الستار عن قاعة حسنة في منزل يوسف مسرة مفعمة بالكتب، والأوراق، خليل بك تامر يدخن بالنارجيلة، الآنسة هيلانة تطرز، يوسف مسرة يدخن لفافة).
خليل بك (مخاطبا يوسف مسرة ) :
قد قرأت اليوم مقالتك في الفنون الجميلة وتأثيرها على الأخلاق، وقد أعجبتني كثيرا، ولولا صبغتها الإفرنجية لكانت خير ما كتب في الموضوع، أنا يا مسرة أفندي من الذين يرون أن تأثير الآداب الغربية على لغتنا من الأمور المضرة.
يوسف مسرة (مبتسما) :
قد يكون الحق معك يا صديقي، ولكن بارتدائك الملابس الإفرنجية، وبتناولك الطعام بآنية إفرنجية، وبجلوسك على مقاعد إفرنجية، عارضت ذاتك بذاتك. وفوق كل ذلك أنت أكثر ميلا إلى مطالعة الكتب الإفرنجية منك إلى مطالعة الكتب العربية.
خليل بك :
ليس لهذه الأمور السطحية من علاقة بالآداب والفنون.
يوسف مسرة :
نعم هناك علاقة حيوية وضعية، وإذا تعمقت قليلا في الموضوع تجد أن الفنون تلازم العادات، والأزياء، والتقاليد الدينية، والاجتماعية، بل تلازم كل مظهر من مظاهر حياتنا الاجتماعية.
خليل بك :
أنا شرقي وسأبقى شرقيا إلى آخر حياتي، وقهرا عن بعض مظاهري الأوربية، فأنا أرجو أن تبقى الآداب العربية طاهرة، ونقية من جميع التأثيرات الأجنبية.
يوسف مسرة :
إذا أنت ترجو موت اللغة، والآداب العربية؟
خليل بك :
وكيف ذلك؟
يوسف مسرة :
إن الأمم المسنة، التي لا تكتسب مما تثمره الأمم الحديثة، تموت أدبيا وتنقرض معنويا.
خليل بك :
إن كلامك هذا يحتاج إلى برهان.
يوسف مسرة :
لدي ألف برهان وبرهان. (في هذه الدقيقة يدخل بولس الصلبان، وسليم معوض، فيقف الحاضرون لهما احتراما).
يوسف مسرة :
أهلا وسهلا بالإخوان (مخاطبا الصلبان)
أهلا وسهلا ببلبل سوريا. (الآنسة هيلانة تنظر إلى الصلبان، وقد توردت وجنتاها قليلا، وظهرت على محياها أمارات السرور).
سليم معوض :
بالله عليك يا يوسف أن لا تقول كلمة حسنة لبولس.
يوسف مسرة :
ولماذا؟
سليم معوض (بين الجد والمزاح) :
لأنه لا يستحق التكريم ولا المديح ولا الإطراء؛ لأنه ذو أطوار وأخلاق غريبة؛ لأنه مجنون.
بولس الصلبان (مخاطبا معوض) :
هل أحضرتك برفقتي إلى هذا المنزل لتبين عيوبي وتشرح أخلاقي؟
الآنسة هيلانة :
ماذا جرى يا ترى؟ هل كشفت يا سليم أفندي عيوبا جديدة في أخلاق بولس؟
سليم معوض :
إن عيوبه القديمة ستبقى جديدة حتى يموت، ويدفن، وتتحول عظامه إلى تراب.
يوسف مسرة :
أخبرنا، ماذا جرى؟ أخبرونا بالحكاية من أولها إلى آخرها.
سليم معوض (مخاطبا الصلبان) :
هل تسمح لي أن أتكلم عن جرائمك يا بولس، أم تريد أن تعترف أنت بها؟
بولس الصلبان :
أريد أن تبقى صامتا كالمقبرة، هاجعا كقلب العجوز.
سليم معوض :
إذا فسوف أتكلم.
الصلبان :
يظهر لي أنك تريد أن تنغص عيشي في هذه السهرة.
سليم معوض :
لا بل أريد أن أعرض قصتك أمام هؤلاء الأصحاب، لينظروا في أمرك.
الآنسة هيلانة (مخاطبة معوض) :
تكلم وأسمعنا ما جرى (للصلبان)
قد تكون الجريمة التي يريد سليم أن يظهرها إحدى فضائلك.
الصلبان :
لم أقترف جريمة، كما أنني لم أفعل فضيلة، أما المسألة التي يشوق صاحبنا إلى إظهارها، فهي لا تستحق الذكر، وفوق كل ذلك، فأنا لا أريدكم أن تصرفوا السهرة بحديثي.
الآنسة هيلانة :
حسنا إذا فلنسمع الخبر
سليم معوض (يشعل لفافة، ويجلس بقرب يوسف مسرة) :
قد سمعتم طبعا يا سادتي بزواج ابن جلال باشا، وقد عرفتم أن والد العريس قد أقام ليلة أمس حفلة طرب دعا إليها وجهاء المدينة وكبارها (مشيرا إلى بولس)
وقد دعا هذا الشرير، ودعيت أنا أيضا؛ والسبب في ذلك أن الناس يحسبونني ظلا لبولس أسير حيث يسير، وأقوم حيث يقوم، ولأنه أدامه الله وأبقاه، لا يحب الإنشاد إلا على نقرات عودي. بلغنا منزل جلال باشا متأخرين، وبولسنا كالملوك لا يجيء إلا متأخرا فوجدنا هناك الوالي، والمطران، بل وجدنا هناك الحسناء الفاضلة، والأديب، والشاعر، والمثري والزعيم، جلسنا بين مجامر البخور، وكئوس الخمر، والقوم ينظرون إلى بولس كأنه ملاك هبط من السماء، أما السيدات فأخذن يقدمن إليه كؤوس الخمر، وصحف النقل، وطاقات الأزهار مثلما كانت تفعل نساء أثينا عند رجوع أحد الأبطال من ساحات الحرب - خلاصة الكلام - أن بولسنا كان في بدء السهرة موضوعا للتكريم والاحتفاء، أخذت عودي، وضربت أولا، وثانيا، وثالثا ففتح بولس شفتيه المقدستين، وأنشد بيتا ... بيتا واحدا من قصيدة ابن الفارض:
غيري على السلوان قادر
وسواي في العشاق غادر
فأصغى القوم، وتطاولت أعناقهم كأن الموصلي قد جاء من وراء حجب الأبدية؛ ليهمس في آذانهم أنغاما سحرية علوية، وبعد ذلك سكت بولس؛ فظن الحاضرون أنه سيعود إلى الإنشاد بعد أن يشرب كأسا أخرى من العرق، ولكن بولس ظل ساكتا.
بولس الصلبان (بلهجة جدية) :
أرجوك أن تقف عند هذا الحد، فأنا لا أقدر أن أسمع هذا الحديث البليد، وأنا لا أشك بأن أصحابنا لا يجدون لذة بهذه الثرثرة الخالية من المعنى.
يوسف مسرة :
بحقك دعنا أن نسمع البقية.
بولس الصلبان (ينهض من مكانه قائما) :
الظاهر أنكم تفضلون هذا الحديث البارد على وجودي بينكم - أودعكم
الآنسة هيلانة (تنظر إلى بولس نظرة معنوية) :
اجلس يا بولس، ومهما كان الخبر فنحن معك. (يجلس بولس وعلى وجهه دلائل الصبر والتجلد).
سليم معوض (متابعا حديثه) :
قلت إن بولس المعطر المعظم قد أنشد بيتا، بيتا واحدا من قصيدة الفارض وسكت، أعني أنه أذاق أولئك الجياع المساكين لقمة واحدة من طعام الآلهة، ثم رفس المائدة، وكسر آنيتها وكؤوسها، ثم جلس ساكتا جلوس أبي الهول على رمال النيل.
وقامت السيدات الواحدة بعد الأخرى يستعطفنه بأرق الكلام؛ لينشد أغنية أخرى، فكان يعتذر لهن بقوله: «أنا مرشح ... أشعر بألم في حنجرتي» ثم قام الوجهاء، والأغنياء يرجونه ويتذللون أمامه، فلم يحن ولم يلن، بل بقي جامدا، قاسيا، متمعنا كأن الله قد أبدل قلبه بحجر من الصوان، وحول الأنغام في نفسه إلى الغنج والدلال، وبعد نصف الليل وقد بلغ القنوط من الحاضرين حد الألم ناداه جلال باشا إلى غرفة محاذية، ووضع في جيبه قبضة من الدنانير قائلا: «أنت تستطيع يا بولس أفندي أن تختم حفلتنا بالسرور أو بالأكدار، لذلك أرجوك أن تقبل مني هذه الهدية الصغيرة لا كمكافأة، بل كمظهر لشعوري نحوك فلا تخيب آمالي، وأمال الحاضرين بك».
عند ذلك تعالت قامة بولس، وظهرت لوائح الكبرياء على وجهه، ورمى بالدنانير إلى مقعد بجانبه قائلا بلهجة الملوك الفاتحين: «أنت تهينني يا جلال باشا بل أنت تحتقرني، فأنا لم أجئ إلى منزلك لكي أنشد، وأغني، وأبيع أنفاسي بالمال، بل جئت كأحد المهنئين ».
بعد هذا فقد جلال باشا صبره وتجلده، وتلفظ ببعض كلمات خشنة جعلت بولس الحساس أن يخرج من المنزل لاعنا مجدفا، أما أنا، أنا المسكين، فقد تناولت عودي، وتبعت بولس تاركا ورائي الوجوه الجميلة، والقامات النحيلة، والخمور الطيبة، والمآكل الشهية، نعم قد ضحيت بكل ذلك؛ لكي لا أفقد صداقة هذا المتصلب المتعنت، قد ضحيت بكل ذلك على مذبح هذا البعليم، وهو للآن لم يشكرني، ولم يمدح بسالتي، ولم يعترف بمودتي وولائي.
يوسف مسرة (ضاحكا) :
هذه بالحقيقة حكاية لذيذة حرية أن تكتب بالإبر على آماق البصر.
سليم معوض :
لم أصل للآن إلى نهاية الحكاية ... أما اللذة ففي النهاية، تلك النهاية الشيطانية التي لا يحلم بمثلها أهريمان الفرس ولا سيفا الهنود.
الصلبان (مخاطبا الآنسة هيلانة) :
بقيت هنا إكراما لك، والآن أرجوك أن تطلبي من هذا الضفدع أن يقف عند هذا الحد.
هيلانة :
دعه يتكلم يا بولس، أو مهما كانت نهاية الخبر، فنحن معك قلبا وقالبا.
سليم معوض (يشعل لفافة ثانية ويتابع الحديث) :
قلت إننا خرجنا من منزل جلال باشا وبولس يجدف على اسم الأغنياء والوجهاء، وأنا أجدف على اسمه في سري، وبعد ذلك هل تظنون أنه ذهب كل منا إلى منزله؟ هل تظنون أن ليلة أمس قد انتهت على هذه الصورة؟ اسمعوا وتعجبوا، تعلمون أن بيت حبيب سعادة محاذ لمنزل جلال باشا، ولا يفصلهما غير حديقة صغيرة، وأنتم تعلمون أن حبيب سعادة من عشاق المدام، والأنغام، والأحلام، وممن يعبدون هذا البعليم (مشيرا إلى بولس)
فلما خرجنا من منزل جلال باشا وقف بولس دقيقة في منتصف الشارع فاركا جبهته كأنه قائد عظيم يفكر بفتح مملكة عاصية، ثم مشى فجأة نحو منزل حبيب سعاة، وقرع الجرس بشدة، فظهر حبيب بملابس النوم، وهو يفرك عينيه، ويتمتم ويتثائب، ولكنه عندما رأى وجه بولس، ورآني حاملا العود تحت إبطي تغيرت سحنته، ولمعت عيناه كأن السماء قد انفتحت أمامه، وصرخ مسرورا مؤهلا قائلا: «ما أتى بكم في هذه الساعة المقدسة؟» فأجاب بولس قد جئنا لنحتفل بعرس ابن جلال باشا في دارك» فقال حبيب: «هل ضاقت عليكم دار جلال باشا، فجئتم إلى هذا المنزل الحقير؟» فأجاب بولس: «ليس لجدران بيت الباشا آذان تسمع رنات العود والأناشيد، من أجل ذلك جئنا إليك، فهات قنينة العرق وصحفة المازة ولا تطل الكلام». الخلاصة، جلسنا حول مائدة الشراب التي تطل على حديقة الباشا، ثم ناولني العود، وقال آمرا «هذه عصاك يا موسى فحولها إلى أفعى، ومرها أن تبتلع جميع أفاعي مصر، اضرب النهوند، واضرب طويلا واضرب جميلا. فتناولت العود، وليس على العبد إلا الطاعة، وضربت النهوند، فحول بولس وجهه نحو منزل جلال باشا، وأخذ ينشد بصوت عال. (هنا يسكت سليم دقيقة، وتزول سيمياء المزاح عن وجهه، ويقول بلهجة هادئة جدية).
أنا أعرف بولس منذ خمس عشرة سنة، أعرفه منذ كنا صبيين في المدرسة، ولقد سمعته منشدا في حالتي الفرح والشقاء، سمعته ينوح كالثكلى، ويترنم كالعاشق، ويهلل كالمنتصر، سمعته يهمس في سكينة الليل وقد نامت هذه المدينة وسكانها، وسمعته بين أودية لبنان وأجراس الكنائس البعيدة تملأ الفضاء سحرا وهيبة، نعم لقد سمعته ألف مرة ومرة، وكنت أتوهم أنني أعرف حركات روحه وسكناتها، ولكنني في ليلة أمس لما حول وجهه نحو منزل جلال باشا، وأغمض عينيه وأنشد:
كلما أشكو من غرام قلبي
وكلما أشكوا يزيد الغرام
عندما أنشد هذا الدور متلاعبا بمقاطيعه مثلما يتلاعب الهواء بأوراق الخريف، قلت في نفسي: لا ما عرفت في الماضي من روح بولس إلا القشور، أما الآن فقد بلغت اللباب، لم أسمع في الماضي غير لسان بولس منشدا، أما الآن فإني أسمع قلبه وروحه، وظل بولس يلاحق الدور بالدور، ويتدرج من نشيد إلى نشيد، حتى خيل لي أن في الفضاء طغمة من أرواح العشاق تحوم مرفرفة هامسة منادية مرددة تذكارات الماضي البعيد، ناشرة ما طوته الليالي من أماني البشر وأحلامهم، نعم يا سادتي (مشيرا إلى بولس)
إن هذا الرجل قد صعد ليلة أمس على سلم الفن حتى بلغ الكواكب، ومن العجائب أنه لم يهبط على الأرض حتى الفجر، لم يسكت حتى وضع أعدائه تحت موطئ قدميه كما جاء في المزامير! أما ضيوف جلال باشا، فلم يسمعوا صوته خارجا من منزل حبيب سعادة حتى تزاحموا في النوافذ، وجلسوا نساء، ورجالا يتأوهون بعد كل مقطع وكل نبرة تخرج من فمه، وقد خرج بعضهم إلى الحديقة، ووقفوا تحت الأشجار مغبوطين متعذبين مصغين محتارين في أمر هذا البلعيم الذي ينكيهم ويهينهم، وفي الوقت نفسه يملأ قلوبهم بخمرة علوية، وقد كان يناديه البعض مستعطفا مترجيا، والبعض متوعدا مجدفا، وقد علمت من أحد المدعوين أن جلال باشا كان يزأر كالأسد متنقلا من غرفة إلى غرفة لاعنا الصلبان، غاضبا على ضيوفه - خصوصا - على أولئك الذين خرجوا إلى الحديقة حاملين كؤوس العرق وصحف المازة بأيديهم، هذا ما جرى ليلة أمس فما قولكم في هذه النابغة المجنون؟ ما رأيكم بأطوار هذا الرجل، وأخلاقه الغريبة؟
خليل بك :
هذه حادثة عجيبة، أما رأيي فيها فهو هذا: أنا من المعجبين بمواهب بولس أفندي، ومع كل احترامي له أقول: إنه أخطأ ليلة أمس، فقد كان بإمكانه أن ينشد في بيت جلال باشا كما أنشد في بيت حبيب سعادة، ويقابل استعطاف القوم بشيء من فنه «مخاطبا يوسف مسرة» ما رأيك يا يوسف أفندي؟
يوسف مسرة :
أنا لا ألوم الصلبان كما أنني لا أحاول فهم أسراره، وخفاياه؛ لعلمي أن المسألة شخصية تتعلق به دون سواه، ولعلمي أن أخلاق الفنيين، خصوصا الموسيقيين منهم، تختلف عن أخلاق الناس كافة، وليس من الصواب أو العدالة أن نقيس أعمالهم ومآتيهم على المقاييس التي نستخدمها لإدراك أعمال غيرهم، إن الفني، وأعني بالفني ذلك المبدع الذي يخلق لأفكاره، وعواطفه صورا جديدة، هو رجل غريب بين أهله وخلانه، وغريب في وطنه، بل هو غريب عن هذا العالم. الفني يميل شرقا عندما يميل الناس غربا، ويتأثر لعوامل باطنية لا يستطيع هو نفسه أن يبسطها، فهو تعس بين الفرحين، فرح بين التعساء، ضعيف بين القادرين، قادر بين الضعفاء. الفني فوق الشريعة رضي الناس أم غضبوا.
خليل بك :
إن كلام هذا يا يوسف أفندي ، لا يختلف بمعانيه، ومفاده عما جاء في مقالتك عن الفنون الجميلة، واسمح لي أن أقول ثانية: إن الروح الغريبة، الروح الإفرنجية التي تكرز بها ستكون سببا لزوالنا كشعب، واضمحلالنا كأمة.
يوسف مسرة :
هل تحسب أن ما فعله بولس أفندي ليلة أمس مظهرا للروح الإفرنجية التي تنكرها وتكرهها.
خليل بك :
إني أستغرب ما فعله بولس أفندي، أقول ذلك مع الاحترام لشخصه.
يوسف مسرة :
أو ليس للصلبان تمام الحرية أن يفعل بصوته وفنه ما يشاء ومتى يشاء؟
خليل بك :
نعم، له تمام الحرية أن يفعل ما يشاء، ولكنني أرى أن حياتنا الاجتماعية لا تتفق مع هذا النوع من الحرية، إن ميولنا وعاداتنا وتقاليدنا لا تسمح للفرد الواحد أن يفعل ما فعله بولس أفندي ليلة أمس دون أن يضع نفسه في موقف حرج.
الآنسة هيلانة :
هذه مناظرة لذيذة ومفيدة، ولكن بما أن السبب في هذه المناظرة موجود بيننا فهو بالطبع يستطيع أن يدافع عن نفسه بنفسه.
بولس الصلبان (بعد سكوت طويل) :
كنت أتمنى لو لم يفتح سليم هذا الحديث، بل كنت أود أن يزول ما جرى ليلة أمس مع ليلة أمس، ولكن بما أنني في مركز حرج كما يقول حضرة البك، فأنا لا أرى بدا من إظهار أفكاري في هذا الموضوع، أنتم تعلمون وأنا أعلم أيضا أن أكثر من يعرفني ينتقدني، هذا يقول إنني مغنج، وذلك أنني أعوج، وهنالك فئة تقول إنني لئيم، وليس للئيم كرامة، وما هو السبب يا ترى في هذه الانتقادات الجارحة؟ إن السبب في أخلاقي، نعم في أخلاقي التي لا أقدر أن أغيرها، ولو قدرت لما أردت، ولماذا يا ترى يهتم الناس بي وبأخلاقي؟ أليس بإمكانهم أن يتناسوا كياني؟ في هذه المدينة كثير من المغنين، والمنشدين، والموسيقيين، وكثير من الشعراء والمقرظين، وكثير من المبخرين، والشحاذين الذين يبيعون أصواتهم، وأفكارهم وعواطفهم، بل ويبيعون نفوسهم بدينار، أو بعلفة، أو بقنينة من الخمر، وقد عرف أغنياؤنا ووجهاؤنا هذا السر، لذلك تراهم يبتاعون أبناء الفن، والأدب بأبخس الأثمان، ويعرضونهم في منازلهم، وقصورهم، كما يعرضون خيولهم ، ومركباتهم في الساحات، والطرق، نعم أيها السادة، إن المغنين، والشعراء في الشرق هم حملة المباخر، بل هم العبيد، وقد فرض عليهم أن ينشدوا في الأعراس، ويترنموا في الحفلات، ويندبوا في المآتم، ويرثوا في المقابر؛ هم الآلات التي تدار في أيام الحزن، وليالي الأفراح، فإذا لم يكن من داع للحزن، أو الفرح طرحوا جانبا كأنهم سلع لا قيمة لها، وأنا لا ألوم الوجهاء والأغنياء، بل ألوم المغنين والشعراء والأدباء الذين لا يحترمون نفوسهم، ولا يضنون بماء وجوههم، ألومهم لأنهم لا يترفعون عن الصغائر والتوافه، ألومهم لأنهم لا يفضلون الموت على الخضوع والتذلل.
خليل بك (متهيجا) :
إن القوم كانوا يستعطفونك ليلة أمس، ويحاولون بكل وسيلة لديهم أن يسترضوك، لتتكرم عليهم بأغنية أو نشيد، فهل تحسب إنشادك في بيت جلال باشا نوعا من الخضوع والتذلل؟
بولس الصلبان :
لو استطعت الإنشاد في منزل جلال باشا لفعلت، ولكنني نظرت حولي فلم أجد بين الحاضرين غير الموسرين الذين لا يسمعون من الأصوات إلا رنات الدنانير، والوجهاء الذين لا يفهمون من الحياة إلا ما يرفعهم ويخفض سواهم، نظرت حولي فلم أجد من يميز النهاوند عن الرصد، أو العشاق عن الأصفهان، لذلك لم أستطع أن أفتح صدري أمام العميان، أو أعرض أسرار قلبي أمام الطرشان، إنما الموسيقى لغة الأرواح، هي سيال خفي يتموج بين روح المنشد وأرواح السامعين، فإذا لم يكن هناك من أرواح تسمع وتفهم ما تسمع، فالمنشد يفقد ذلك الميل إلى البيان، ويفقد ذلك الشوق إلى إظهار ما في أعماقه من الحركات والسكنات. والموسيقى مثل قيثارة ذات أوتار مشدودة حساسة، فإذا تراخت تلك الأوتار فقدت خاصتها وأصبحت كخيوط من الكتان «يقف ويسير بضع خطوات، ثم يقول ببطء». لقد تراخت أوتار روحي في منزل جلال باشا عندما تفرست في الحاضرين نساء ورجالا، ولم أر بينهم غير المتكلف والمتصنعة، والمتقلد، والبليدة، والعقيم، والمتعجرفة، أما استعطافهم إياي فلم يكن ناتجا إلا عن تمنعي وسكوتي، ولو كنت كالكثيرين من ضفادع المنشدين لما اهتم أحد بي.
خليل بك (يقاطعه مداعبا) :
وبعد ذلك ذهبت إلى منزل حبيب سعادة، وللنكاية - وللنكاية فقط - جلست منشدا حتى الصباح!
بولس الصلبان :
جلست منشدا حتى الصباح؛ لأني أردت أن أفرغ مكنونات قلبي؛ لأنني أردت أن ألقي حملا ثقيلا عن عاتقي؛ لأني أردت أن أعاتب الليل، والحياة، والدهر؛ لأنني شعرت بحاجة ماسة إلى شد تلك الأوتار التي تراخت في منزل الباشا. أما إذا كنت تظن يا خليل بك أنني أردت النكاية فلك الحق أن تفتكر بما تريد، إن الفن طائر حر يسبح محلقا عندما يشاء، ويهبط إلى الأرض عندما يشاء، وليس من قوة في هذا العالم تستطيع تقييده أو تغييره، الفن روح سام لا يباع ولا يشترى، وعلى الشرقيين أن يعرفوا هذه الحقيقة المطلقة، أما الفنيون بيننا، وهم أندر من الكبريت الأحمر، فعليهم أن يكرموا نفوسهم؛ لأنهم الإناء الذي يملأه الله خمرة علوية.
يوسف مسرة :
إني متفق معك يا بولس، ولقد أبنت أفكاري في هذا الموضوع بصورة لا أستطيع أنا إظهارها، أنت ابن الفن أما أنا فباحث بالفنون، والفرق بيننا هو كالفرق الكائن بين العنب الحامض، والخمرة المعتقة.
سليم معوض :
الصلبان يتكلم مثلما ينشد، وليس على سامعه إلا الاقتناع والإذعان.
خليل بك :
لم أقتنع بعد ولن أقتنع، وما فلسفتكم هذه إلا إحدى تلك العلل المتسربة إلينا من بلاد الإفرنج.
يوسف مسرة :
لو سمعت الصلبان منشدا يا حضرة البك لاقتنعت ونسيت الفلسفة (في هذه الدقيقة تدخل الخادمة، وتخاطب الآنسة هيلانة قائلة: يا معلمتي قد جاءت الكنافة من الفرن فوضعتها على المائدة) .
يوسف مسرة (ينتصب مخاطبا الجميع) :
تفضلوا أيها الإخوان فقد هيأنا لكم أكلة لذيذة، لذيذة جدا وتكاد أن تكون صلبانية بنكهتها وحلاوتها! (يقف الجميع ثم يخرج يوسف مسرة، وخليل بك، وسليم معوض، أما الصلبان، والآنسة هيلانة، فيظلان واقفين في وسط القاعة، وكل يحدق بوجه الآخر، وفي عينيهما أشعة لا توصف).
هيلانة (هامسة) :
هل علمت أنني كنت مصغية إليك ليلة أمس؟
الصلبان (مستغربا) :
ماذا تعنين يا هيلانة قلبي؟
هيلانة (بخجل ووجل) :
كنت أمس في بيت شقيقتي مريم، ذهبت لأنام عندها ؛ لأن زوجها متغيب وهي تخاف لوحدها.
الصلبان :
أوبيت صهرك على طريق الحرج؟
هيلانة :
ولا يفصله عن بيت حبيب سعادة غير زقاق ضيق.
الصلبان :
وهل سمعتيني منشدا؟
هيلانة :
سمعت نداء روحك من نصف الليل حتى الفجر، سمعتك حتى سمعت الله متكلما. (يسمع صوت يوسف مسرة آتيا من الغرفة المحاذية قائلا: تفضل يا بولس فقد بردت الكنافة). (يخرج بولس وهيلانة الستار).
الشاعر البعلبكي
1
في مدينة بعلبك سنة 112 قبل الميلاد.
جلس الأمير على عرشه الذهبي، المحاط بالمسارج المشتعلة، والمباخر المتقدة، فجلس القواد، والكهان عن يمينه، وشماله، ووقف الجنود، والعبيد أمامه، وقوف الأنصاب أمام وجه الشمس.
بعد هنيهة، وقد انتهى المرتلون من إنشادهم، وتوارت أنفاسهم من طيات أثواب الليل، وقف كبير الوزراء أمام الأمير، وقال بصوت تهدجه ضآلة الشيخوخة: أيها الأمير العظيم، قد جاء المدينة بالأمس حكيم من حكماء الهند ذو أطوار غريبة ومذاهب عديدة لم نسمع قط بمثلها، فهو يدعو الناس إلى الاعتقاد بتقمص الأرواح من جسد إلى جسد، وانتقال النفوس من جيل إلى جيل حتى تبلغ الكمال، وتصير إلى مصف الآلهة، وقد جاء الليلة طالبا الدخول عليك؛ ليبسط تعاليمه أمامك.
فهز الأمير رأسه، وقال مبتسما: «من بلاد الهند تأتي الغرائب والعجائب، فأدخلوه لنسمع حجته».
لم تمر دقيقة حتى دخل كهل أسمر اللون، مهيب المنظر، ذو عينين كبيرتين، وملامح منفرجة، تتكلم بلا نطق عن أسرار عميقة، وأميال غريبة، وبعد أن انحنى مستأذنا رفع رأسه، وتلمعت عيناه، وطفق يتكلم عن بدعته مظهرا كيف تنتقل الأرواح من هيكل إلى هيكل مرتقية بعوامل الوسط الذي تختاره، متدرجة بتأثيرات الأمور التي تختبرها، متمايلة مع الأمجاد التي ترفعها وتقويها، نامية مع الحب الذي يسعدها، ويشقيها ... ثم تطرق إلى كيفية انتقال النفوس من مكان إلى مكان باحثة عما تحتاج إليه من الكماليات، مكفرة في حاضرها عن ذنوب اقترفتها في ماضيها، مستغلة في بلد ما زرعته في بلد آخر.
ولما طال الكلام، وقد بدت على ملامح الأمير سماء الملل والضجر، اقترب كبير الوزراء من الحكيم، وهمس في أذنه قائلا: «كفى الآن فدع البحث إلى فرصة ثانية».
فتراجع الحكيم إلى الوراء، وجلس بين الكهان مطبقا أجفانه، كأن عينيه قد تعبتا من التحديق في خفايا الوجود وأسراره.
وبعد سكينة شبيهة بغيبوبة الأنبياء، تلفت الأمير إلى اليمين، وإلى اليسار، ثم سأل قائلا: «أين شاعرنا فقد مر زمن ولم نره ... ماذا حل به، وقد كان يحضر مجلسنا كل ليلة؟».
فقال أحد الكهان «قد رأيته منذ أسبوع جالسا في رواق الهيكل عشتروت، وهو ينظر بعينين جامدتين كئيبتين نحو الشفق البعيد كأنه أضاع بين الغيوم قصيدة من قصائده».
وقال أحد القواد «قد رأيته بالأمس واقفا بين أشجار السرو، والصفصاف، فحييته ولم يرد التحيةن بل ظل غارقا في بحر أفكاره وأحلامه».
وقال رئيس الخصيان: «قد رأيته اليوم في حديقة القصر، فدنوت منه، فوجدته أصفر اللون شاحب الوجه، تراود الدموع أجفانه، وتتلاعب الغصات بأنفاسه».
فقال الأمير بصوت تلاحقه اللهفة: «اذهبوا وابحثوا عنه وعودوا به مسرعين، لقد شغل بالنا أمره».
خرج العقيد، والجنود يبحثون عن الشاعر، وظل الأمير، وأعوانه صامتين حائرين مترقبين كأن نفوسهم قد شعرت بوجود شبح غير منظور منتصب في وسط تلك القاعة.
وبعد هنيهة عاد رئيس الخصيان، وارتمى على قدمي الأمير كطائر رماه الصياد بسهم. فصرخ به الأمير قائلا: «ما الخبر ... ماذا جرى؟».
فرفع الزنجي رأسه، وقال مرتعشا «قد وجدنا الشاعر ميتا في حديقة القصر».
فانتصب الأمير وقد علت سحنته سيماء الحزن والكمد، ثم خرج إلى الحديقة يتقدمه حاملو المسارج، ويتبعه القواد، والكهان، ولما بلغوا أطراف الحديقة حيث أشجار اللوز والرمان، جلت لهم أشعة السرج الصفراء جثة هامدة، مرتمية على الأعشاب كغصن ورد ذابل.
فقال أحد الأعوان: «انظروا كيف عانق قيثارته كأنها صبية حسناء أحبها وأحبته، فتعاهدا على أن يموتا معا».
وقال أحد القواد: «لم يزل يحقد في أعماق الفضاء كعادته، كأنه يرى بين الكواكب خيال إله غير معروف».
وقال رئيس الكهان مخاطبا الأمير «غدا نقبره في ظلال هيكل عشتروت المقدسة، فيسير سكان المدينة وراء نعشه، وينشد الفتيان قصائده، وتنثر العذارى الأزهار على ضريحه ، لقد كان شاعرا عظيما فليكن احتفالنا بدفنه عظيما».
فهز الأمير رأسه دون أن يحول عينيه عن وجه الشاعر المتشح بنقاب الموت، ثم قال ببطء: «لا، لا، لقد أهملناه إذ كان حيا يملأ جوانب البلاد من أشباح نفسه، ويعطر الفضاء بأنفاسه، فإذا ما أكرمناه ميتا تسخر بنا الآهلة، وتضحك منا عرائس المروج والأودية، ادفنوه ههنا حيث فاضت روحه، وأبقوا قيثارته بين ذراعيه، وإن كان بينكم من يريد أن يكرمه، فليذهب إلى بيته ويخبر أبنائه بأن الأمير قد أهمل شاعره فمات كئيبا، وحيدا، منفردا».
ثم التفت حوله، وزاد قائلا: «أين الفيلسوف الهندي؟».
فتقدم الفيلسوف، وقال: «ها أنذا أيها الأمير العظيم».
فقال الأمير «قل - أيها الحكيم - هل ترجعني الآلهة أميرا إلى هذا العالم، وتعيده شاعرا، هل تلبس روحي جسد ابن ملك عظيم، وتتجسم روحه في جسد شاعر كبير، هل توقفه النواميس ثانية أمام وجه الأبدية؛ لينظم الحياة شعرا، وتعيدني لأنعم عليه، وأفرح قلبه بالهبات والعطايا؟».
فأجاب الفيلسوف قائلا: «كل ما تشتاقه الأرواح تبلغه الأرواح، فالناموس الذي يعيد بهجة الربيع بعد انقضاء الشتاء سيعيدك أميرا عظيما، ويعيده شاعرا كبيرا».
فانفرجت ملامح الأمير، وانتعشت نفسه، ثم مشى نحو قصره مفكرا في أقوال الحكيم الهندي محادثا ذاته بقوله: «كل ما تشتاقه الأرواح تبلغه الأرواح».
2 «في مصر القاهرة سنة 1912 للميلاد».
طلع القمر، وألقى وشاحه الفضي على المدينة، وأمير البلاد جالس في شرفة قصره ينظر إلى الفضاء الصافي، مفكرا بمآتي الأجيال التي مرت متتابعة على ضفاف النيل، مستوضحا أعمال الملوك والفاتحين الذين وقفوا أمام هيبة أبي الهول، مستعرضا مواكب الشعوب والأمم التي سيرها الدهر من جوانب الأهرام إلى قصر عابدين.
ولما اتسعت دائرة أفكاره، وانبسطت مسارح أحلامه، التفت نحو نديمه الجالس بقربه، وقال: «في نفسنا الليلة ميل إلى الشعر فأنشدنا شيئا منه».
فحنى النديم رأسه، وأخذ ينشد قصيدة لشاعر جاهلي، فقاطعه الأمير قائلا: «أنشدنا شعرا أحدث عهدا».
فانحنى النديم ثانية، وابتدأ يردد أبياتا لأحد الشعراء المخضرمين.
فقاطعه الأمير أيضا وقال: «أحدث عهدا - أحدث عهدا».
فانحنى النديم للمرة الثالثة ، وأخذ يترنم بمقاطيع موشح أندلسي.
فقال الأمير «أنشدنا قصيدة لشاعر معاصر».
فرفع النديم يده إلى جبهته كأنه يريد أن يستحضر إلى حافظته كل ما نظمه شعراء العصر، ثم برقت عيناه، وتهلل وجهه، وطفق يرتل أبياتا خيالية ذات رنة سحرية، ومعان رقيقة مبتكرة، وكنايات لطيفة نادرة تجاور النفس فتملؤوها شعاعا، وتحيط بالقلب فتذيبه انعطافا.
فحدق الأمير بنديمه وقد استهوته نغمة الأبيات ومعانيها، وشعر بوجود أيد خفية تجذبه من ذلك المكان إلى مكان قصي، ثم سأل قائلا: «لمن هذه الأبيات؟».
فأجاب النديم «للشاعر البعلبكي».
الشاعر البعلبكي!
الشاعر البعلبكي ... كلمتان غريبتان تموجتا في مسامع الأمير، وولدتا في داخل روحه النبيلة أشباح أميال ملتبسة بوضوحها، قوية بدقتها.
الشاعر البعلبكي: اسم قديم جديد، أعاد إلى نفس الأمير رسوم أيام منسية، وأيقظ في أعماق صدره خيالات تذكارات هاجعة، ورسم أمام عينيه بخطوط شبيهة بثنايا الضباب صورة فتى ميت يعانق قيثارة، وقد وقف حوله القواد، والكهان والوزراء.
وامحت هذه الرؤيا أمام عيني الأمير مثلما تتوارى الأحلام بمجيء الصباح، فوقف ومشى جامعا ذراعيه على صدره، مرددا آية النبي العربي
وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون .
ثم التفت نحو نديمه قائلا: «يسرنا وجود الشاعر البعلبكي في بلادنا، وسوف نقربه ونكرمه» وبعد دقيقة زاد بصوت منخفض «إنما الشاعر طائر غريب المزايا، يفلت من مسارحه العلوية يجيء هذا العالم مغردا، فإن لم نكرمه يفتح جناحيه، ويعد طائرا إلى مواطنه».
وانقضى الليل ... فخلع الفضاء أثوابه المرصعة بالنجوم، ولبس قميصه المنسوجة من أشعة الصباح، ونفس أمير البلاد تتمايل بين عجائب الوجود وغرائبه، وخفايا الحياة وأسرارها.
السم في الدسم
في صباح يوم من أيام الخريف الذهبية التي تظهر شمال لبنان بكل مظاهره العلوية، اجتمع سكان قرية «تولا»، حول الكنيسة القائمة في وسط منازلهم يتساءلون، ويتبادلون الآراء في سفر فارس الرحال الفجائي إلى مكان قصي لا يعلم به غير الله، تاركا عروسته الصبية التي تزوج بها منذ ستة أشهر.
كان فارس الرحال شيخ القرية وزعيمها، وقد ورث هذه المنزلة عن أبيه وجده، ومع أنه لم يتجاوز السابعة والعشرين من عمره، فقد كان في شخصيته ما يوعز الاحترام والوقار في قلوب مواطنيه، وعندما اقترن في أواسط الربيع الغابر بسوسان بركات قال الناس: ما أسعده فتى، فهو قد حصل قبل أن يبلغ الثلاثين على كل ما يتمناه الإنسان من السعادة في الحياة الدنيا.
ولكن في ذلك الصباح عندما استيقظ سكان تولا، قيل لهم إن الشيخ فارس قد جمع ما تيسر له من المال، وركب فرسه وغادر القرية دون أن يودع نسيبا أو صديقا، تعاظمت ظنونهم، وأخذوا يتساءلون عن الأسباب الخفية التي جعلته يتركهم، ويترك عروسته، ومنزله، وحقوله، وكرومه.
إن الحياة في شمال لبنان أقرب إلى الاشتراكية منها إلى كل تعليم آخر؛ فالقوم هناك يتساهمون أفراح الوجود وشدائده، مدفوعين بأميال فطرية وضعية، فإذا ما جاءت الأيام بحادث إلى قرية ينصرف سكانها بكليتهم إلى استقصاء ذلك الحادث حتى تجيء الأيام إليهم بأمر آخر.
تلك هي العوامل التي صرفت سكان تولا عن أعمالهم اليومية، فاجتمعوا حول كنيسة مارتولا يتحدثون ويتساءلون، ويتبادلون الآراء بسفر فارس الرحال.
وبينما هم على هذه الحالة، وإذا بالخوري إسطفان كاهن القرية يقترب منهم منحني الرأس منقبض الملامح، فدنوا منه مستطلعين فظل ساكنا يفرك يدا بيد، وبعد هنيهة قال: لا تسألوني ... لا تسألوني، كل ما أعرفه يا أبنائي هو هذا: قرع فارس باب منزلي قبل طلوع الفجر، ولما فتحت له وجدته متمسكا بمقود فرسه، وعلى وجهه أمارات الحزن الشديد، فسألته مستغربا عما يريد فقال: «جئت لأودعك يا أبتي، فأنا مسافر إلى ما وراء البحار، ولن أعود إلى هذه البلاد وأنا حي»، ثم وضع في يدي رسالة مختومة باسم صديقه نجيب مالك، وطلب إلي أن أسلمها إليه يدا بيد، فعل هذا واعتلى فرسه وراح مسرعا قبل أن أستوضح أمره، هذا كل ما أعرفه فلا تسألوني الزيادة. فقال أحد الواقفين: لا شك أن في الرسالة ما ينبئنا عن سبب سفره؛ لأن نجيب مالك كان أعز صديق له في القرية.
وقال آخر: وهل رأيت عروسته يا أبتاه؟
فأجاب الكاهن: قد زرتها بعد صلاة الصباح، فوجدتها جالسة بقرب النافذة تنظر إلى البعيد بعينين زجاجيتين كأنها فقدت إدراكها، ولما سألتها هزت رأسها وقالت: «لا أدري لا أدري» ثم طفقت تبكي وتنتحب كالأطفال.
ولم ينته الكاهن من كلامه إلا وذعر القوم حولهن لطلق بندقية جاء من الوجهة الشرقية من القرية، ثم تبعه صراخ امرأة جارح ارتعشت له دقائق الفضاء، فبهت القرويون دقيقة، ثم تراكضوا نساء، ورجالا، وعلى وجه كل واحد منهم برقع من الخوف والتشاؤم، ولما بلغوا البستان الذي يحيط بمنزل فارس الرحال شاهدوا هنالك منظرا أجمد الدم في عروقهم، والفكرة في رؤوسهم؛ رأوا نجيب مالك منطرحا على التراب، والنجيع يتدفق من أمعائه، وعلى مقربة منه سوسان زوجة فارس الرحال تنبش شعرها وتمزق أثوابها وتصرخ متوجعة: قد قتل نفسه، قد قتل نفسه، قد أطلق البندقية في صدره.
فبهت القوم كأن أكف القضاء غير المنظورة قد قبضت على أرواحهم، ولما اقترب الكاهن من الصريع وجد في يمينه الرسالة التي كان قد سلمه إياها في ذلك الصباح، وقد قبض عليها بشدة، كأنه يريد أن يجعلها جزءا من أصابعه، فتناولها الكاهن، ووضعها في جيبه دون أن يراه أحد، ثم تراجع إلى الوراء لاطما وجهه.
وحمل القوم جثة المنتحر إلى بيت والدته المسكينة التي لم تر جثة وحيدها حتى فقدت عقلها.
واهتم بعض النساء بزوجة فارس الرحال فاقتادوها إلى منزلها بين حية وميتة. •••
ولما بلغ الخوري إسطفان منزله، أوصد الباب، ووضع النظارات على عينيه منتشلا الرسالة التي وجدها في يد نجيب مالك، وبصوت مرتعش أخذ يقرأ:
أخي نجيب:
أنا تارك هذه القرية؛ لأن وجودي فيها يجلب التعاسة لك ولزوجتي ولي أيضا، أنا أعلم أنك شريف النفس تترفع عن خيانة صديقك وجارك، وأعلم أن زوجتي سوسان طاهرة الذيل، ولكنني أعلم في الوقت نفسه أن الحب الذي يضم قلبك وقلبها هو أمر فوق إرادتكما، فأنت لا تستطيع إزالته كما أنك لا تقدر أن توقف مجاري نهر قاديشا، لقد كنت صديقا يا نجيب مذ كنا صبيين نلعب في الحقول وفي ساحة الكنيسة، وأنت لم تزل صديقي أمام الله، وأرجوك أن تفتكر بي في المستقبل مثملا كنت تفتكر بي في الماضي، وإذا التقيت بسوسان غدا، أو بعده فقل لها إني أحبها وأرحمها، وقل لها أيضا: إني كنت أذوب شفقة عندما كنت أستيقظ في سكينة الليل، وأراها راكعة أمام صورة يسوع تبكي وتنتحب وتجلد صدرها، ليس أصعب من حياة المرأة التي تجد نفسها واقفة بين رجل يحبها ورجل تحبه، وسوسان المسكينة كانت في حرب دائم، كانت تريد أن تقوم بواجباتها الزوجية، ولكنها لم تكن قادرة على قتل عواطفها، أما أنا فمسافر إلى مكان بعيد، ولن أعود إلى هذه الديار؛ لأني لا أريد أن أكون حجر عثرة في سبيل سعادتكما، وفي الختام أرجوك يا أخي أن تبقى مخلصا لسوسان، وأن تحافظ عليها حتى النهاية؛ لأنها قد ضحت بكل شيء من أجلك، فهي تستحق كل ما يستطيع الرجل أن يقدم للمرأة، ابق يا نجيب كما عهدتك شريف القلب كبير النفس، والله يحفظك لأخيك.
فارس الرحال
ولما انتهى الخوري إسطفان من قراءة الرسالة، طواها، وأعادها إلى جيبه، وجلس بقرب النافذة ينظر إلى الوادي البعيد، وعلى وجهه المتجعد أمارات التفكر العميق.
ولكن لم تمر دقيقة حتى انتصب فجأة على قدميه كأنه وجد بين ثنايا أفكاره سرا، دقيقا هائلا، محجوبا بالظواهر، ملتفا بالسطحيات؛ فهتف صارخا: ما أكثر دهائك يا فارس الرحال؛ فقد عرفت كيف تقتل ابن مالك، وتبقى بريئا من دمه، قد بعثت إليه بالسم ممزوجا بالعسل، قد بعثت إليه السيف ملتفا بالحرير، قد بعثت إليه الموت طي الرسالة، فعندما صوب بندقيته إلى صدره كانت يدك قابضة على يده، وإرادتك محيطة بإرادته ... أواه ما أكثر دهائك يا فارس الرحال.
وعاد الخوري إسطفان فجلس على المقعد، هازا رأسه، ممشطا لحيته بأصابعه، مبتسما ابتسامات ذات معان أشد هولا من المأساة، وبعد هنيهة تناول كتابا من خزانة قريبة، وأخذ يتلو بعض موشحات القديس أفرام السرياني، وهو يرفع عينيه بين الآونة، والأخرى؛ ليسمع صراخ النساء آتيا من قلب القرية .
ما وراء الرداء
عندما انتصف الليل فتحت راحيل عينيها، وحدقت هنيهة بسقف الغرفة، ثم أغمضتها وتنهدت تنهدة عميقة متقطعة، وبصوت يكاد أن يكون لهاثا قالت: «ها قد بلغ الصباح أطراف الوادي، فلنذهب إلى لقائه».
فاقترب إذ ذاك الكاهن من مضجعها، وجس يدها، فوجدها باردة كالثلج، ثم وضع أصابعه بلطف فوق قلبها، فألفاه ساكنا كالدهور، فأحنى رأسه، وارتعشت شفتاه كأنه يريد أن يلفظ كلمة علوية ترددها أشباح الليل في تلك الأودية القاصية الخالية، ثم صلب ذراعيها فوق صدرها، والتفت نحو الرجل الجالس في قرنة مظلمة من تلك الغرفة، وقال بصوت ملؤه الشفقة والانعطاف: «قد ذهبت زوجتك إلى لقاء ربها، فقم يا أخي اركع بجانبي لنصلي».
فرفع الرجل رأسه، وقد تغيرت ملامحه، وكبرت عيناه كأنه رأى في فضاء الغرفة ظل إله غير معروف، ثم وقف بهدوء، وتقدم من مضجع زوجته، وركع بجانب الكاهن مصليا منتحبا، راسما بين الآونة، والأخرى إشارة الصليب على وجهه وصدره.
وانتصب الكاهن واضعا يده على كتف الرجل قائلا: «قم يا أخي تعال إلى الغرفة الثانية، فأنت بحاجة إلى النوم والراحة».
فلم يبد الرجل معارضة، بل وقف، وسار إلى الغرفة المحاذية، ورمى بنفسه على سرير ضيق ممددا جسده شأن من ينهكه الهم، والسهر، والانتظار.
ولم تمر بضع دقائق حتى غلب النوم أجفانه؛ فرقد كالطفل بين ذراعي أمه. •••
أما الكاهن فظل منتصبا كالتمثال وسط تلك الغرفة بعينين غارقتين بالدموع نحو جثة الصبية الباردة، ويلتفت كل دقيقة نحو زوجها النائم في الغرفة المحاذية.
ومرت ساعة أطول من الدهر، وأشد هولا من الموت، والكاهن واقف بين رجل، وامرأة راقدين ... رجل راقد رقود حقل يحلم بمجيء الربيع، وامرأة راقدة مع الأزمنة الغابرة تحلم أحلام الأبدية.
حينئذ اقترب الكاهن من مضجع الصبية، وجثا أمامها كما يجثو أمام المذبح، ثم أخذ يدها الباردة، ووضعها على شفتيه المرتجفتين، ونظر إلى وجهها المتشح بنقاب الموت، وبصوت هادئ كالليل، عميق كالبحر، مرتعش كآمال البشر قال: «يا راحيل، يا راحيل، يا أخت روحي، اسمعيني يا راحيل فأنا استطيع الآن الكلام، قد فتح الموت شفتي لأبوح لك بسر أعمق من الموت، وأطلق الألم لساني؛ لأكشف لك أمرا أشد من الألم. اسمعي صراخ روحي أيتها الروح المرفرفة بين الأرض واللانهاية، اسمعي الشاب الذي كان يراك راجعة من الحقل فيتنحى محتجبا بين الأشجار خائفا من جمال وجهك، اسمعي الكاهن الذي يخدم الله فهو يناديك الآن بلا وجل؛ لأنك بلغت مدينة الله.
همس هذه الألفاظ، ثم انحنى فوقها، وقبل جبهتها، وقبل عينيها، وقبل عنقها، قبلات طويلة حارة، خرساء «علوية» تبين ما في نفسه من أسرار الحب والألم.
ثم تراجع فجأة إلى الوراء، وارتمى على الأرض مرتعشا كأوراق الخريف، كأن ملامسة وجه المرأة المثلجة قد أيقظت في داخله عاطفة الندم، ثم انتصب جاثيا ساترا وجهه بيديه قائلا في سره: «اغفر ذنبي يا رب، سامح ضعفي يا إلهي، فأنا لم أتجلد حتى النهاية، فالسر الذي أخفته الحياة في قلبي سبعة أعوام قد أباحه الموت بدقيقة واحدة، اغفر لي يا رب سامح ضعفي يا إلهي ...».
وظل على هذه الحالة ينتحب، ويتوجع، ويميل برأسه ذات اليمين، وذات اليسار، ولا ينظر إلى جثة الصبية خائفا على نفسه من خفايا نفسه حتى جاء الصباح، وألقى وشاحه الوردي على تلك الرسوم الهيولية التي تمثل الحب، والدين، والحياة، والموت.
البنفسجة الطموحة
كانت في حديقة منفردة بنفسجة جميلة الثنايا، طيبة العرف تعيش مقتنعة بين أترابها وتتمايل فرحا بين قامات الأعشاب.
ففي صباح، وقد تكللت بقطر الندى، رفعت رأسها، ونظرت حواليها فرأت وردة تتطاول نحو العلاء بقامة هيفاء، ورأس يتسامى متشامخا كأنه شعلة من النار فوق مسرجة من الزمرد.
ففتحت البنفسجة ثغرها الأزرق، وقالت متنهدة «ما أقل حظي بين الرياحين، وما أوضع مقامي بين الأزهار: فقد ابتدعتني الطبيعة صغيرة حقيرة، أعيش ملتصقة بأديم الأرض، ولا أستطيع أن أرفع قامتي نحو ازرقاق السماء، أو أحول وجهي نحو الشمس مثلما تفعل الورود».
وسمعت الوردة ما قالته جارتها البنفسجة؛ فاهتزت ضاحكة ثم قالت: «ما أغباك بين الأزهار، فأنت في نعمة تجهلين قيمتها، فقد وهبتك الطبيعة من الطيب، والظرف، والجمال ما لم تهبه لكثير من الرياحين، فخل عنك هذه الميول العوجاء، والأماني الشريرة، وكوني قنوعة بما قسم لك، واعلمي أن من خفض جناحه يرفع قدره، وأن من طلب المزيد وقع في النقصان».
فأجابت البنفسجة قائلة: أنت تعزيني أيتها الوردة؛ لأنك حاصلة على ما أتمناه، وتغمرين حقارتي بالحكم؛ لأنك عظيمة، وما أمر مواعظ السعداء في قلوب التعساء، وما أقسى القوي إذا وقف خطيبا بين الضعفاء». •••
وسمعت الطبيعة ما دار بين الوردة، والبنفسجة، فاهتزت مستغربة، ثم رفعت صوتها قائلة: ماذا جرى لك يا ابنتي البنفسجة؟ فقد عرفتك لطيفة بتواضعك، عذبة بصغرك، شريفة بمسكنتك، فهل استهوتك المطامع القبيحة، أم سلبت عقلك العظمة الفارغة؟».
فأجابت البنفسجة بصوت ملؤه التوسل والاستعطاف: «أيتها الأم العظيمة بجبروتها الهائلة بجنانها، أضرع إليك بكل ما في قلبي من التوسل، وما في روحي من الرجاء أن تجيبي طلبي، وتجعليني وردة، ولو يوما واحدا».
فقالت الطبيعة: «أنت لا تدرين ما تطلبين، ولا تعلمين ما وراء العظمة الظاهرة من البلايا الخفية، فإذا رفعت قامتك، وأبدلت صورتك، وجعلتك وردة تندمين حين لا ينفع الندم».
فقالت البنفسجة: «حولي كياني البنفسجي إلى وردة مديدة القامة، مرفوعة الرأس، ومهما يحل بي بعد ذلك يكن صنع رغائبي ومطامعي».
فقالت الطبيعة: «لقد أجبت طلبك أيتها البنفسجة الجاهلة المتمردة، ولكن إذا داهمتك المصائب، والمصاعب فلتكن شكواك من نفسك».
ومدت الطبيعة أصابعها الخفية السحرية، ولمست عروق البنفسجة؛ فتحولت بلحظة إلى وردة زاهية متعالية فوق الأزهار والرياحين.
ولما جاء عصر ذلك النهار تلبد الفضاء بغيوم سوداء مبطنة بالإعصار، ثم هاجت سواكن الوجود؛ فأبرقت، وأرعدت، وأخذت تحارب تلك الحدائق، والبساتين بجيش عرمرم من الأمطار والأهواء؛ فكسرت الأغصان، ولوت الأنصاب، واقتلعت الأزهار المتشامخة، ولم تبق إلا على الرياحين الصغيرة التي تلتصق بالأرض، أو تختبئ بين الصخور.
أما تلك الحديقة المنفردة، فقد قاست من هياج العواصف ما لم تقاسه حديقة أخرى.
فلم تمر العاصفة، وتنقشع الغيوم حتى أصبحت أزهارها هباء منثورا، ولم يسلم منها بعد تلك المعمعة الهوجاء سوى طائفة البنفسج المختبئة بجدار الحديقة. •••
ورفعت إحدى صبايا البنفسج رأسها؛ فرأت ما حل بأزهار الحديقة وأشجارها، فابتسمت فرحة ثم نادت رفيقاتها قائلة: «ألا فانظرن ما فعلته العاصفة بالرياحين المتشامخة تيها وإعجابا».
وقالت بنفسجة أخرى: «نحن نلتصق بالتراب، ولكننا نسلم من غضب العواصف والأنواء».
وقالت بنفسجة ثالثة: «نحن حقيرات الأجسام غير أن الزوابع لا تستطيع التغلب علينا».
ونظرت إذ ذاك مليكة طائفة البنفسج، فرأت على مقربة منها الوردة التي كانت بالأمس بنفسجة، وقد اقتلعتها العاصفة، وبعثرت أوراقها الأرياح، وألقتها على الأعشاب المبللة؛ فبانت كقتيل أرداه العدو بسهم.
فرفعت مليكة البنفسج قامتها، ومدت أوراقها، ونادت رفيقاتها قائلة: «تأملن وانظرن يا بناتي، انظرن إلى البنفسجة التي غرتها المطامع، فتحولت إلى وردة لتتشامخ ساعة، ثم هبطت إلى الحضيض، ليكن هذا المشهد أمثولة لكن».
عندئذ ارتعشت الوردة المحتضرة، واستجمعت قواها الخائرة، وبصوت متقطع قالت: «ألا فاسمعن أيتها الجاهلات المقتنعات، الخائفات من العواصف، والإعصار، فقد كنت بالأمس مثلكن أجلس بين أوراقي الخضراء مكتفية بما قسم لي، وقد كان الاكتفاء حاجزا منيعا يفصلني عن زوابع الحياة، وأهوائها، ويجعل كياني محدودا بما فيه من السلامة، متناهيا بما يساوره من الراحة والطمأنينة، ولقد كان بإمكاني أن أعيش نظيركن ملتصقة بالتراب حتى يغمرني الشتاء بثلوجه، وأذهب كمن ذهب قبلي إلى سكينة الموت، والعدم قبل أن أعرف من أسرار الوجود ومخبآته غير ما عرفته طائفة البنفسج منذ وجد البنفسج على سطح الأرض، لقد كان بإمكاني الانصراف عن المطامع، والزهد في الأمور التي تعلو بطبيعتها عن طبيعتي، ولكني أصغيت في سكينة الليل فسمعت العالم الأعلى يقول لهذا العالم «إنما القصد من الوجود الطموح إلى ما وراء الوجود» فتمردت نفسي على نفسي، وهام وجداني بمقام يعلو عن وجداني، ومازلت أتمرد على ذاتي، وأشوق إلى ما ليس لي حتى انقلب تمردي إلى قوة فعالة، واستحال شوقي إلى إ رادة مبدعة فطلبت إلى الطبيعة - وما الطبيعة سوى مظاهر خارجية لأحلامنا الخفية - أن تحولني إلى وردة ففعلت، وطالما غيرت الطبيعة صورها ورسومها بأصابع الميل والتشويق».
وسكتت الوردة هنيهة ، ثم زادت بلهجة مفعمة بالفخر والتفوق: «أي لقد عشت ساعة كوردة، لقد عشت ساعة كملكة، لقد نظرت إلى الكون من وراء عيون الورود، وسمعت همس الأثير بآذان الورود ... ولمست ثنايا النور بأوراق الورود، فهل بينكن من تستطيع أن تدعي شرفي؟».
ثم لوت عنقها، وبصوت يكاد أن يكون لهاثا قالت: «أنا أموت الآن، أموت وفي نفسي ما لم تكنه نفس بنفسجة من قبلي، أموت وأنا عالمة بما وراء المحيط المحدود الذي ولدت فيه، وهذا هو القصد من الحياة، هذا هو الجوهر الكائن وراء عرضيات الأيام والليالي».
وأطبقت الوردة أوراقها، وارتعشت قليلا، ثم ماتت، وعلى وجهها ابتسامة علوية، ابتسامة من حققت الحياة أمانيه، ابتسامة النصر، والتغلب، ابتسامة الله.
الشاعر
أنا غريب في هذا العالم.
أنا غريب، وفي الغربة وحدة قاسية، ووحشية موجعة، غير أنها تجعلني أن أفكر أبدا بوطن سحري لا أعرفه، وتملأ أحلامي بأشباح أرض قصية ما رأتها عيني.
أنا غريب عن أهلي وخلاني، فإذا ما لقيت واحدا منهم أقول في ذاتي: «من هذا، وكيف عرفته، وأي ناموس يجمعني به، ولماذا أقترب منه وأجالسه؟».
أنا غريب عن نفسي، فإذا ما سمعت لساني متكلما تستغرب أذني صوتي، وقد أرى ذاتي الخفية ضاحكة باكية، مستبسلة، خائفة، فيعجب كياني بكياني، وتستفسر روحي، ولكنني أبقى مجهولا، مستترا، مكتنفا بالضباب، محجوبا بالسكوت.
أنا غريب عن جسدي، وكلما وقفت أمام المرآة أرى في وجهي ما لا تشعر به نفسي، وأجد في عيني ما لا تكنه أعماقي.
أسير في شوارع المدينة، فيتبعني الفتيان صارخين: «هو ذا الأعمى فلنعطه عكازا يتوكأ عليها» فأهرب منهم مسرعا، ثم ألتقي بسرب من الصبايا، فيتشبثن بأذيالي قائلات: «هو أطرش كالصخر، فلنملأ أذنيه بأنغام الصبابة والغزل» فأتركهن راكضا، ثم ألتقي بجماعة من الكهول فيقفون حولي قائلين: «هو أخرس كالقبر فتعالوا نقوم اعوجاج لسانه» فأغادرهم خائفا، ثم ألتقي برهط من الشيوخ، فيومئون نحوي بأصابع مرتعشة قائلين: «هو مجنون أضاع صوابه في مسارح الجن والغيلان». •••
أنا غريب في هذا العالم.
أنا غريب وقد جبت مشارق الأرض ومغاربها.
فلم أجد مسقط رأسي، ولا لقيت من يعرفني، ولا من يسمع بي.
أستيقظ في الصباح؛ فأجدني مسجونا في كهف مظلم تتدلى الأفاعي من سقفه، وتدب الحشرات في جنباته، ثم أخرج إلى النور، فيتبعني خيال جسدي، أما خيالات نفسي، فتسير أمامي إلى حيث لا أدري، باحثة عن أمور لا أفهمها، قابضة على أشياء لا حاجة لي بها، وعندما يجيء المساء أعود، وأضطجع على فراشي المصنوع من ريش النعام، وشوك القتاد، فتراودني أفكار غريبة، وتتناوبني أميال مزعجة، مفرحة، موجعة لذيذة، ولما ينتصف الليل تدخل علي من شقوق الكهف أشباح الأزمنة الغابرة، وأرواح الأمم المنسية، فأحدق بها وتحدق بي، وأخاطبها مستفهما فتجيبني مبتسمة، ثم أحاول القبض عليها؛ فتتوارى مضمحلة كالدخان. •••
أنا غريب في هذا العالم.
أنا غريب وليس في الوجود من يعرف كلمة من لغة نفسي.
أسير في البرية الخالية، فأرى السواقي تتصاعد متراكمة من أعماق الوادي إلى قمة الجبل، وأرى الأشجار العارية تكتسي، وتزهر، وتثمر، وتنثر أوراقها في دقيقة واحدة، ثم تهبط أغصانها إلى الحضيض، وتتحول إلى حيات رقطاء مرتعشة، وأرى الأطيار تنتقل متصاعدة، هابطة، مغردة مولولة، ثم تقف وتفتح أجنحتها، وتنقلب نساء عاريات، محلولات الشعر، ممدودات الأعناق ينظرن إلي من وراء أجفان مكحولة بالعشق، ويبتسمن لي بشفاه وردية مغموسة بالعسل، ويمددن نحوي أيادي بيضاء ناعمة، معطرة بالمن، واللبان، ثم ينتفضن، ويختفين عن ناظري، ويضمحللن كالضباب تاركات في الفضاء صدى ضحكهن مني واستهزاءهن بي.
أنا غريب في هذا العالم.
أنا شاعر أنظم ما تنثره الحياة، وأنثر ما تنظمه، ولهذا أنا غريب، وسأبقى غريبا حتى تخطفني المنايا، وتحملني إلى وطني.
الكلام وطوائف المتكلمين
لقد مللت الكلام والمتكلمين.
لقد تعبت روحي من الكلام والمتكلمين.
لقد ضاعت فكرتي بين الكلام والمتكلمين.
أستيقظ في الصباح، فأرى الكلام جالسا بجانب مضجعي على صفحات الرسائل والجرائد والمجلات، وهو ينظر إلي بعيون ملؤها الدهاء، والخبث، والرياء.
أغادر فراشي، وأجلس إلى جانب النافذة؛ لأزيح نقاب النوم عن بصيرتي بفنجان من القهوة، فيتبعني الكلام، وينتصب أمامي راقصا صارخا معربدا، ثم يمد يده مع يدي إلى فنجان القهوة ويرتشف منه بارتشافي، وإذا تناولت لفافة يتناولها معي، وإذا رميت بها رماها معي أيضا.
أقوم للعمل فيلحق بي الكلام موسوسا في أذني، مهمهما حول رأسي، مقرقعا في خلايا دماغي، فأحاول طرده، فيضحك مقهقها، ثم يعود إلى الوسوسة، والهمهمة، والقرقعة.
أخرج إلى الشارع فأرى الكلام واقفا في باب كل حانوت، منبسطا على جدران كل منزل، أراه في أوجه الناس وهم صامتون وفي حركاتهم وسكناتهم، وهم لا يدرون.
إن جالست صديقي يكون الكلام ثالثنا، وإن التقيت بعدوي ينتفخ الكلام إذ ذاك، ويتمدد ثم يتجزأ متحولا إلى جيش عرمرم أوله مشارق الأرض وآخره مغاربها، فإذا غادرته هاربا ظل صدى كلامه يتمايل مختبطا في باطني اختباط طعام لا تهضمه المعدة.
أذهب إلى المحاكم، والمعاهد، والمدارس؛ فأرى الكلام وأبا الكلام وأخاه وهم يلبسون الكذب رداء والاحتيال عمامة وحذاء.
ثم أسير إلى المعمل، وإلى المكتب، وإلى الإدارة، فأجد الكلام واقفا بين أمه وعمته وجدته وهو يقلب لسانه بين شفتيه الغليظتين وهن يبتسمن له ويضحكن مني.
وإذا بقى لي شيء من العزم، والتجلد، وزرت المعابد والهياكل، رأيت هناك الكلام جالسا على عرشه وهو متوج الرأس وفي يده الصولجان دقيق الصنع لطيف الجوانب ناعمها.
وعندما أعود في المساء إلى غرفتي أجد الكلام الذي سمعته سحابة نهاري متدليا كالأفاعي من سقفها، منسلا كالعقارب في قرانيها.
الكلام في الفضاء، وما وراءه، وعلى الأرض وتحتها.
الكلام على أجنحة الأثير، وفي أمواج البحر، وفي الغايات، والكهوف، وفوق قمم الجبال.
الكلام في كل مكان، فإلى أين يذهب من يريد الهدوء والسكينة؟
أيوجد في هذا العالم طائفة من الخرسان لأنتمي إليها؟
هل يرحمني الله، ويمنحني موهبة الطرش فأحيا سعيدا في جنة الكون الأبدي؟
أليس على وجه البسيطة قرنة خالية من شقشقة اللسان وبلبلة الألسنة، حيث الكلام لا يباع ولا يشترى، ولا يعطى ولا يؤخذ.
ليت شعري، أبين سكان الأرض من لا يعبد نفسه متكلما؟ هل يوجد بين طغمات الخلق من لم يكن فمه مغارة للصوص الألفاظ •••
ولو كان المتكلمون نوعا واحدا لرضينا وتجلدنا، ولكنهم أنواع وأشكال لا عداد لها.
فهناك طائفة «المستضعفين» الذين يعيشون في المستنقعات النهار وطوله، وعندما يجيء المساء يقتربون من الشواطئ رافعين رؤوسهم فوق سطح الماء، مفعمين صدر الليل بضجيج قبيح تأباه المسامع والأرواح.
وهناك طائفة «المستبعضين» والبعوض من مولدات المستنقعات أيضا، وهم الذين يرفرفون حول أذنك بنغمة تافهة رفيعة شيطانية صداها النكاية، ولحمتها البغضاء.
وهناك طائفة «المستطحنين» وهي طائفة غريبة في داخل كل فرد من أفرادها حجر يدار بالكحول، فيولد جعجعة جهنمية أخفها أثقل مما تحدثه حجارة الرحى.
وهناك طائفة «المستبقرين» وهم الذين يملؤون أجوافهم حشيشا، ثم يقفون على منعطفات الشوارع، والأزقة مبطنين الهواء بخوار ألطفه أغلظ من خوار الجاموس.
وهناك طائفة «المستبومين» وهم الذين يصرفون الساعات بين مقابر الحياة، وأجداثها، محولين سكينة الدجى إلى عويل أفراحه أحزن من نعيب البوم.
وهناك طائفة «المستنشرين» وهم الذين لا يرون من الحياة إلا أخشابها، فيصرفون الأيام بتجزئتها، وتفصيلها محدثين بذلك خشخشة أعذبها أضنك مما تحدثه المناشير.
وهناك طائفة «المستبطلين» وهم الذين يقرعون نفوسهم بمطارق ضخمة، فيخرج من أفواهم الفاغرة فرقعة ألطفها أغلط من قرقعة الطبول.
وهناك طائفة «المستعلكين» وهم الذين لا شغل لهم ولا عمل، فيجلسون حيثما يجدون مقعدا ويمضغون الكلام، ولكنهم لا يلفظونه.
وهناك طائفة «المستهزين» وهم الذين يستغيبون الناس، ويستغيبون بعضهم بعضا ويستغيبون نفوسهم على غير معرفة من نفوسهم، ولكنهم يدعون الاستغابة باسم المجون، والمجون ضرب من الجد، ولكنهم لا يعلمون.
وهناك طائفة «الأنوال» التي تحرك الهواء بالهواء، ولكنها تظل هي بدون قمصان ولا سراويل.
وهناك طائفة «الزرازير» التي قال عنها الشاعر:
لما حام حائمها توهمت
أنها صارت شواهينا
وهناك طائفة «الأجراس» وهي تدعو الناس إلى الهياكل، ولكنها لا تدخلها.
وهناك طائفة، وعشائر لا تعد، ولا تحصى، ولا توصف، أغربها في عقيدتي طائفة نائمة تملأ الفضاء غطيطا، ولكنها لا تدري. •••
والآن وقد أبنت بعض قرفي، واشمئزازي من الكلام، والمتكلمين، أراني كالطبيب المعتل، أو كمجرم يقف واعظا بين المجرمين، فقد هجوت الكلام ولكن بالكلام ، وتطيرت من المتكلمين، وأنا واحد من المتكلمين، فهل يغفر الله ذنبي قبيل أن يرحمني، وينقلني إلى غابة الفكر، والعاطفة، وألحق حيث لا كلام ولا متكلمون.
نامعلوم صفحہ