مقدمة
1 - عصر نهضة عالمي
2 - نصوص الحركة الإنسانية
3 - الكنيسة والدولة
4 - عوالم جديدة
5 - العلم والفلسفة
6 - كتابة عصر النهضة من جديد
تسلسل زمني للأحداث
قراءات إضافية
مقدمة
1 - عصر نهضة عالمي
2 - نصوص الحركة الإنسانية
3 - الكنيسة والدولة
4 - عوالم جديدة
5 - العلم والفلسفة
6 - كتابة عصر النهضة من جديد
تسلسل زمني للأحداث
قراءات إضافية
عصر النهضة
عصر النهضة
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
جيري بروتون
ترجمة
إبراهيم البيلي محروس
مراجعة
هبة نجيب مغربي
مقدمة
سيد قديم
تعتبر المتاحف الوطنية والمعارض الفنية من أكثر الأماكن التي بزيارتها يتضح لنا ما نعنيه عندما نتحدث عن «عصر النهضة». فمعظم زوار المتحف الوطني بلندن لا يسعهم أن يغادروا قبل أن يشاهدوا واحدة من أشهر الأعمال الفنية بالمتحف؛ وهي لوحة «السفيران» لهانز هولباين التي يعود تاريخها إلى عام 1533. وبالنسبة للكثيرين، تمثل لوحة هولباين الزيتية صورة محددة المعالم لعصر النهضة الأوروبية، ولكن ما الذي يجعلها تحمل سمات «عصر النهضة» على هذا النحو المميز؟
تصور لوحة «السفيران» رجلين يرتديان ملابس أنيقة وحولهما حاجيات الحياة في القرن السادس عشر. ولعل تصوير هولباين رقيق الدقة والتفصيل لعالم هذين الرجلين اللذين عاشا في عصر النهضة - واللذين يحدقان في الناظر إلى اللوحة بنظرة تحمل وعيا واثقا بالذات لا يخلو من التساؤلات - لهو أمر لم يسبق له مثيل في عالم الفن. يبدو فن القرون الوسطى أكثر غرابة، حيث يفتقر إلى هذا الإبداع شديد الوعي بالنزعة الفردية. حتى إن كان من الصعب فهم الدافع وراء الفيض الجامح من المشاعر المعبر عنه في لوحات مثل لوحة هولباين، يظل من الممكن التوحد مع هذه المشاعر على أنها «حديثة» على نحو ملحوظ. وبعبارة أخرى، عندما ننظر إلى لوحات مثل لوحة «السفيران»، فإننا نلحظ بزوغ شمس الهوية ونزعة الفردية الحديثتين.
شكل 1: لوحة «السفيران» لهانز هولباين، وهي أحد رموز عصر النهضة، مع أنها لم تكتشف إلا في القرن التاسع عشر. ويقدم الشخصان الغامضان والأدوات المعروضة بها كنزا من الرؤى الثاقبة عن تلك الفترة.
1
وهذه بداية مثمرة في محاولة فهم لوحة هولباين باعتبارها تجسيدا فنيا لعصر النهضة. لكن هناك بالفعل بعض المصطلحات الغامضة - إلى حد ما - التي بدأت تتراكم وتحتاج إلى بعض التوضيح. فما هو «العالم الحديث»؟ أوليس هذا المصطلح فضفاضا بقدر مصطلح «النهضة»؟ وبالمثل، هل ينبغي تعريف فن القرون الوسطى (ورفضه بشدة) بكل هذه البساطة؟ وماذا عن «رجل النهضة»؟ وماذا عن «سيدة النهضة»؟ لكي نبدأ في الإجابة على هذه الأسئلة، لا بد من إمعان النظر في صورة هولباين.
عصر نهضة متعلم
إن ما يأسر العينين بقدر ما تأسرهما النظرة الثاقبة للشخصين الواقفين في اللوحة هو المنضدة الموجودة في وسط اللوحة والأشياء المتناثرة فوق رفيها العلوي والسفلي. فعلى الرف السفلي للمنضدة، يوجد كتابان (كتاب ترانيم، وكتاب رياضيات خاص بأحد التجار)، وعود، ونموذج كرة أرضية، وجراب لآلات الفلوت، ومثلث، وفرجاران. ويضم الرف العلوي كرة سماوية، والعديد من الأدوات العلمية شديدة التخصص: أدوات الربعية التي تستخدم لقياس الارتفاع، ومزاول (ساعات شمسية)، وجهاز الربعية لرصد الأجرام السماوية (جهاز ملاحة، وأداة لمعرفة الوقت). وتمثل هذه الأشياء الفنون السبعة الحرة التي شكلت أساس التعليم في عصر النهضة. فالفنون الثلاثة الأساسية - النحو، والمنطق، والبلاغة - كانت معروفة باسم «المقدمات»، ويمكن ربطها بأنشطة هذين الرجلين؛ فهما سفيران تدربا على استخدام النصوص، لكن يتمتعان بمهارة خاصة في فن الجدل والإقناع. أما «الرباعي العلمي» - الذي يشير إلى الحساب، والموسيقى، والهندسة، والفلك - فجميعها جلي في تصوير هولباين الدقيق لكتاب الحساب والعود والأدوات العلمية.
شكلت هذه الموضوعات الأكاديمية أساس «الدراسات الإنسانية»، وهي المسار الدراسي الذي سلكه معظم الشباب في تلك الفترة، والمعروفة على نحو أكثر شيوعا باسم «الحركة الإنسانية». وقد مثلت الحركة الإنسانية تطورا جديدا مهما في أوروبا في أواخر القرنين الرابع عشر والخامس عشر، وتضمن ذلك التطور دراسة النصوص الكلاسيكية للغتين والثقافتين والسياستين والفلسفتين: اليونانية والرومانية. وقد شجعت الطبيعة شديدة المرونة للدراسات الإنسانية على دراسة مجموعة متنوعة من التخصصات الجديدة التي أصبحت محورا للفكر في عصر النهضة، مثل فقه اللغة الكلاسيكي والأدب والتاريخ والفلسفة الأخلاقية.
يوضح هولباين أن الرجلين اللذين يصورهما في لوحته هما أنفسهما «رجلان جديدان»؛ أي شخصان متعلمان لكنهما خبيران بالشئون الدنيوية، يستخدمان تعليمهما في السعي وراء الشهرة والطموح. فالشخص الموجود إلى اليسار هو جون دى دينتفيل - السفير الفرنسي لدى البلاط الملكي الإنجليزي في عهد الملك هنري الثامن - وإلى اليمين يقف صديقه المقرب، جورج دي سيلف - أسقف لافور. وقد انتقيت الأشياء الموجودة على المنضدة لتشير إلى أن مكانتي هذين الرجلين في عالمي السياسة والدين ترتبط ارتباطا وثيقا بفهمهما للفكر الإنساني. فاللوحة تشير إلى أن تعلم المجالات التي تمثلها هذه الأشياء يعد أمرا بالغ الأهمية للطموح الدنيوي والنجاح.
الجانب المظلم من عصر النهضة
لكن إذا نظرنا إلى الأشياء الموجودة في لوحة هولباين نظرة أكثر إمعانا، فإنها تكشف لنا عن وجه مختلف تماما لعصر النهضة؛ فأحد أوتار العود الموجود على الرف السفلي مقطوعة، وهذا رمز للتنافر وغياب الانسجام، ويوجد بجانب العود كتاب ترانيم مفتوح، يمكن تمييزه بأنه كتاب المصلح الديني مارتن لوثر. وعلى الجانب الأيمن من اللوحة، سحبت الستارة قليلا إلى الوراء لتكشف عن صليب فضي يحمل صورة المسيح مصلوبا. تلفت هذه الأشياء انتباهنا إلى الجدال والخلاف الديني في عصر النهضة. فعندما رسم هولباين هذه اللوحة، كانت أفكار لوثر البروتستانتية تجتاح أوروبا وتتحدى السلطة القائمة للكنيسة الكاثوليكية الرومانية، والوتر المقطوع يعد دلالة قوية على النزاع الديني الذي يصوره هولباين في وجود كتاب ترانيم لوثري بجوار صليب كاثوليكي.
من الواضح أن كتاب الترانيم اللوثري في لوحة هولباين كتاب مطبوع، فاختراع الطباعة في النصف الأخير من القرن الخامس عشر أحدث ثورة في عالم إيجاد المعلومات والمعرفة وتوزيعهما وفهمهما، وبمقارنة الكتب المطبوعة بالنسخ الشاق وغير الدقيق غالبا للمخطوطات، كانت الكتب المطبوعة تنشر بسرعة ودقة وكميات لم يمكن تخيلها قبل ذلك، ولكن انتشار أفكار جديدة في مطبوعات، لا سيما في الشئون الدينية، كان من شأنه كذلك أن يثير حالة من عدم الاستقرار والشك والقلق، مما يدفع الفنانين والمفكرين إلى مزيد من التساؤل عن هويتهم وكيف أنهم يحيون في عالم سريع التوسع. وتعتبر هذه العلاقة بين الإنجاز والقلق الذي يتمخض عنه واحدة من السمات المميزة لعصر النهضة.
وبجانب كتاب الترانيم الخاص بمارتن لوثر في لوحة هولباين، ثمة كتاب آخر مطبوع يبدو من الوهلة الأولى كتابا دنيويا، لكنه يعرض بعدا آخر قويا من عصر النهضة؛ فهذا الكتاب عبارة عن دليل إرشادي للتجار يتعلق بكيفية حساب الربح والخسارة. ووجوده بجانب الأشياء الأكثر ارتباطا بالنواحي «الثقافية» في اللوحة يوضح أن المال والأعمال في عصر النهضة كانا مرتبطين ارتباطا وثيقا بالثقافة والفن. ففي الوقت الذي يلمح فيه الكتاب إلى «الرباعي العلمي» للمعرفة الإنسانية في عصر النهضة، فإنه يشير أيضا إلى الوعي بأن الإنجازات الثقافية لعصر النهضة قامت على النجاح في مجالي التجارة والمال. ومع ازدياد حجم العالم وازدياد درجة تعقيده، كان لزاما أن تكون هناك آليات جديدة لفهم التداول غير المرئي على نحو متزايد للمال والبضائع؛ من أجل زيادة الربح إلى الحد الأقصى وتقليل الخسارة إلى الحد الأدنى. نتج عن ذلك اهتمام متجدد بفروع المعرفة مثل الرياضيات؛ باعتبارها طريقة جيدة لفهم اقتصاديات نموذج عصر النهضة الآخذ في التحول إلى العالمية.
أما وجود نموذج الكرة الأرضية خلف كتاب الحساب للتجار فيؤكد توسع التجارة والمال بوصفهما سمة مميزة لعصر النهضة. ويعد نموذج الكرة الأرضية واحدا من أهم الأشياء التي تحويها اللوحة. فالسفر والاستكشاف والاكتشاف كانت جوانب ديناميكية ومثيرة للجدل من عصر النهضة، والكرة الأرضية في لوحة هولباين تخبرنا بذلك من خلال تصويرها شديد العصرية للعالم كما كان معروفا عام 1533. فأوروبا كانت مكتوبة بالطريقة نفسها التي كانت تكتب بها آنذاك، وهذا في حد ذاته شيء له مدلول؛ حيث كان القرنان الخامس عشر والسادس عشر هما النقطة التي بدأ فيها تعريف أوروبا بوصفها تمتلك هوية سياسية وثقافية مشتركة. فقبل ذلك، نادرا ما كان الناس يطلقون على أنفسهم «أوروبيين». وهولباين يصور أيضا الاكتشافات الأخيرة التي تمخضت عنها رحلات في أفريقيا وآسيا، وكذلك في رحلات «العالم الجديد» التي ابتدأها كريستوفر كولومبوس عام 1492، وإبحار فرديناند ماجلان للمرة الأولى حول العالم في عام 1522. وقد وضعت هذه الاكتشافات أوروبا في عالم سريع الاتساع، وغيرت كذلك من علاقة القارة بالثقافات والمجتمعات التي احتكت بها.
وكما هو الحال مع تأثير آلة الطباعة، وتأثير الاضطرابات الدينية، فإن هذا التوسع العالمي خلف تراثا ذا حدين؛ فكان أحد نتائجه تدمير الثقافات والمجتمعات الأصلية من خلال الحرب والمرض؛ لأنها لم تكن معدة أو مهتمة باعتناق المعتقدات وسبل المعيشة الأوروبية. وإلى جانب الإنجازات الثقافية والعلمية والتكنولوجية عن تلك الفترة، كان هناك تعصب ديني، وجهل سياسي، وتجارة رقيق، وتفاوت هائل في الثروة والمنزلة الاجتماعية - وهذا ما أطلق عليه «الجانب المظلم من عصر النهضة».
السياسة والإمبراطورية
يقودنا هذا إلى أبعاد أخرى بالغة الأهمية لعصر النهضة تناولها هولباين في لوحته، حيث تحدد هذه الأبعاد الرجلين والأغراض الأخرى ألا وهي: السلطة والسياسة والإمبراطورية. ولفهم أهمية هذه القضايا، وكيفية ظهورها في اللوحة، نحتاج إلى معرفة المزيد عن محتويات اللوحة. فقد كان دينتيفل وسيلف يعيشان في إنجلترا عام 1533 بأمر من الملك الفرنسي فرانسيس الأول. وكان الملك هنري الثامن قد تزوج سرا من آن بولين، وكان يهدد بالانشقاق عن الكنيسة الكاثوليكية إذا رفض البابا أن يطلقه من زوجته الأولى. وكان كل من دينتيفل وسيلف يحاولان منع انشقاق هنري عن روما، وكانا بمثابة وسطاء لفرانسيس في المفاوضات. ومع أن هذه اللوحة - على غرار جانب كبير من تاريخ عصر النهضة - عن العلاقات بين الرجال، فإنه من الملاحظ أيضا أنها تصور في جوهرها نزاعا حول امرأة غائبة، ولكن وجودها ملموس بقوة في الأشياء داخل اللوحة والمحيط. فالمحاولات المستميتة من الرجال لإسكات النساء ما كانت إلا سببا للفت مزيد من الانتباه لمكانتهن المعقدة في مجتمع أبوي: فقد حرمت المرأة من الكثير من مزايا التطورات الثقافية والاجتماعية لعصر لنهضة، ولكنها كانت تضطلع بدور رئيسي في آلية عمل هذا المجتمع، بصفتها من تحمل الورثة من الذكور الذين يضمنون الخلود لهذه الثقافة التي يسيطر عليها الذكور.
كما أن دينتيفل وسيلف كانا في لندن لتنفيذ مهمة أخرى؛ ألا وهي لعب دور الوساطة في التحالف السياسي بين هنري وفرانسيس وبين السلطان العثماني سليمان القانوني؛ القوة العظمى الأخرى في السياسة الأوروبية آنذاك. فالبساط الموجود على الرف العلوي للمنضدة في لوحة هولباين كان من تصميم وصناعة العثمانيين، ويشير إلى أن العثمانيين وأراضيهم الممتدة إلى الشرق كانت أيضا جزءا من المشهد الثقافي والتجاري والسياسي لعصر النهضة. ومحاولات دينتيفل وسيلف لدفع هنري الثامن للتحالف مع فرانسيس وسليمان كان بسبب خوفهم من القوة المتنامية للقوة الاستعمارية العظمى الأخرى لعصر النهضة، وهي إمبراطورية هابسبورج بقيادة شارل الخامس (في إسبانيا). وبالمقارنة، نجد أن إنجلترا وفرنسا كانتا لاعبتين استعماريتين صغيرتين: وهذا ما توضحه لنا الكرة الأرضية في اللوحة، والتي تشير أيضا إلى أن الإمبراطوريات الأوروبية بدأت في اقتسام العالم المكتشف حديثا. وهذه الكرة التي وضعها هولباين في لوحته توضح الخط الفاصل الذي وضعته إمبراطوريات إسبانيا والبرتغال عام 1494، بعد «اكتشاف» كولومبوس لأمريكا.
لقد وضعت هذه الحدود لحل نزاع قائم على أراض في الشرق الأقصى، حيث إن إسبانيا والبرتغال كانتا تحاولان استعمار جزر الملوك - وهي من جزر الأرخبيل الإندونيسي البعيدة - التي كانت تشتهر بإنتاج التوابل التي تدر أرباحا هائلة. وفي عصر النهضة، وضعت أوروبا نفسها في مركز الكرة الأرضية، ولكنها تطلعت إلى ثروات الشرق، بدءا من منسوجات وحرائر الإمبراطورية العثمانية، إلى توابل وفلفل الأرخبيل الإندونيسي. والكثير من محتويات لوحة هولباين لها أصل شرقي، بدءا من الحرير والمخمل اللذين يرتديهما الرجلان، إلى المنسوجات والتصميمات التي تزين الغرفة.
أما الأشياء الموجودة في أسفل اللوحة فإنها تكشف عن جوانب متعددة من عصر النهضة: الإنسانية، والدين، والطباعة، والتجارة، والاستكشاف، والسياسة، والإمبراطورية، بالإضافة إلى الوجود البارز لثروات وعلوم الشرق. وأما الأشياء الموجودة على الرف العلوي فإنها تشير إلى أمور مجردة وفلسفية أكثر؛ فالكرة السماوية هي أداة فلكية تستخدم لقياس النجوم وطبيعة الكون، وبجانب الكرة توجد مجموعة من المزاول، والتي تستخدم لمعرفة الوقت بالاستعانة بأشعة الشمس. وأما عن الأشياء كبيرة الحجم فهي الربعية التي تستخدم لقياس الارتفاع وجهاز لرصد الأجرام السماوية؛ وهي أدوات ملاحية تستخدم في تحديد موقع السفينة من حيث الزمان والمكان. ومعظم هذه الأدوات تم اختراعها بواسطة علماء فلك عرب ويهود، وانتقلت إلى الغرب بعد ذلك عندما احتاج المسافرون الأوروبيون خبرة ملاحية في السفر لمسافات بعيدة. وهذه الأدوات تعكس الاهتمام المتزايد بفهم العالم الطبيعي والسيطرة عليه في عصر النهضة. وكما ناقش فلاسفة عصر النهضة طبيعة عالمهم، فإن الملاحين وصناع الأدوات والعلماء حولوا هذه المناقشات الفلسفية إلى حلول عملية للمشكلات الطبيعية؛ وكانت النتيجة هي ابتكار أشياء مثل تلك الموجودة في لوحة هولباين.
وأخيرا، دعنا نتأمل الصورة المائلة الموجودة أسفل اللوحة والتي يستحيل فهمها إذا نظرنا إليها مباشرة. ولكن إذا وقف الناظر بزاوية ونظر إلى اللوحة، فستتحول الصورة إلى جمجمة مرسومة بوضوح، وهذه من الخدع البصرية الشائعة التي كان يستخدمها الكثير من فناني عصر النهضة، والتي يطلق عليها أنامورفوسيس. ولقد قال مؤرخو الفن بأن هذه الصورة تنتمي إلى فن «فانيتاس» والتي تذكرنا بحقيقة تقشعر منها الأبدان، وهي أنه بالرغم من الثروة والقوة والعلم، فإن الموت مصيرنا جميعا. ولكن تبدو هذه الجمجمة وكأنها تمثل مبادرة هولباين الفنية، بغض النظر عن متطلبات عميله. وتصور لنا هولباين وقد تحرر من قيود هويته كفنان محترف، وتؤكد القوة المتزايدة للرسام واستقلاليته كفنان لديه القدرة على تجربة التقنيات والنظريات الجديدة مثل البصريات وعلم الهندسة في ابتكار صور مرسومة ثرية بالإبداع.
أين كان عصر النهضة ومتى؟
عادة ما يرتبط عصر النهضة بدويلات المدن الإيطالية مثل فلورنسا، ولكن درجة الأهمية التي لا شك فيها التي تحتلها إيطاليا غالبا ما حجبت تطور الأفكار الجديدة في شمال أوروبا وشبه جزيرة أيبيريا والعالم الإسلامي وجنوب شرق آسيا وأفريقيا. ولكي نعرض طبيعة عصر النهضة من منظور عالمي شامل، سيكون من الدقة أن نشير إلى سلسلة من عصور نهضة في تلك المناطق، والتي عكس كل منها مميزات تلك المناطق وسماتها الخاصة. وعصور النهضة في هذه المناطق غالبا ما كانت تتداخل وتتبادل التأثير مع عصر النهضة الكلاسيكي المعروف الذي اتخذ من إيطاليا مركزا له، فقد كان عصر النهضة ظاهرة دولية سلسة ومتنقلة بصورة متميزة.
واليوم، هناك إجماع على أن تعبير «عصر النهضة» يشير إلى تغير عميق ودائم وتحول في الثقافة والسياسة والفن والمجتمع في أوروبا ما بين عامي 1400 و1600. والكلمة تشير إلى فترة من التاريخ، وإلى نموذج أكثر شمولا من التجدد الثقافي، وهي مشتقة من كلمة فرنسية تعني «إحياء». ومنذ القرن التاسع عشر، استخدم هذا المصطلح لوصف فترة من التاريخ الأوروبي شهدت إحياء التقدير الفكري والفني للثقافة اليونانية-الرومانية، والذي أدى إلى ظهور المؤسسات الفردية والاجتماعية والثقافية الحديثة التي تحدد هوية الكثيرين في العالم الغربي اليوم.
غالبا ما يرى مؤرخو الفن أن عصر النهضة يبدأ من القرن الثالث عشر، مع فن جوتو وتشيمابو، وينتهي في أواخر القرن السادس عشر بأعمال مايكل أنجلو، ورسامي فينيسيا مثل تيتيان. ومن ناحية أخرى، يتبنى الباحثون في مجال الأدب في العالم الأنجلو-أمريكي منظورا مختلفا، فيركزون على نشأة الأدب الإنجليزي باللغة العامية في القرنين السادس عشر والسابع عشر في شعر ودراما سبنسر وشكسبير وميلتون. أما المؤرخون، فيتبنون نهجا مختلفا، حيث يطلقون على الفترة من حوالي 1500 إلى 1700 «أوائل العصر الحديث»، بدلا من «عصر النهضة». وقد ازدادت حدة هذه الاختلافات في تأريخ - وحتى تسمية - عصر النهضة لدرجة أثارت الشكوك في صحة هذا المصطلح؛ فهل لا يزال للمصطلح أي معنى؟ وهل من الممكن فصل عصر النهضة عن العصور الوسطى التي سبقته وعن العصر الحديث الذي تلاه؟ وهل هذا المصطلح يدعم الاعتقاد بالتفوق الثقافي الأوروبي؟ للإجابة على هذه الأسئلة، علينا أن نفهم أولا كيف ظهر مصطلح «عصر النهضة» إلى الوجود.
لم يكن الناس في القرن السادس عشر يعرفون مصطلح «عصر النهضة»، وكانت الكلمة الإيطالية بمعنى «إحياء» تستخدم في القرن السادس عشر للإشارة إلى إحياء الثقافة الكلاسيكية. ولم يستخدم المصطلح الفرنسي «عصر النهضة» كعبارة تاريخية وصفية حتى منتصف القرن التاسع عشر. وكان أول من استخدم هذا المصطلح هو المؤرخ الفرنسي جول ميشليه، القومي الفرنسي الذي كان ملتزما بقوة بمبادئ المساواة التي أفرزتها الثورة الفرنسية. وفي الفترة ما بين 1833 و1862، كرس ميشليه جهده لمشروعه الأعظم؛ ألا وهو تأليف «تاريخ فرنسا» الذي صدر في عدة مجلدات. كان ميشليه ينتمي للتيار الجمهوري التقدمي ، وملأ الدنيا ضجيجا بإدانته للطبقة الأرستقراطية والكنيسة. وفي عام 1855، نشر ميشليه المجلد السابع من «تاريخ فرنسا» وأسماه «عصر النهضة»؛ وكان عصر النهضة يعني بالنسبة له: ... اكتشاف العالم، واكتشاف الإنسان. القرن السادس عشر ... بدأ من كولومبوس إلى كوبرنيكوس، ومن كوبرنيكوس إلى جاليليو، ومن اكتشاف الأرض إلى السماوات. لقد أعاد الإنسان اكتشاف نفسه.
كانت الاكتشافات العلمية التي توصل إليها مستكشفون ومفكرون مثل كولومبوس وكوبرنيكوس وجاليليو تمضي جنبا إلى جنب مع تعريفات فلسفية أكثر للفردية التي رصدها ميشليه في كتابات رابليه ومونتين وشكسبير. وكانت هذه الروح الجديدة تتناقض مع ما كان يراه ميشليه في القرون الوسطى على أنه صفة «غريبة ووحشية». فبالنسبة له، كان عصر النهضة يمثل حالة ديمقراطية تقدمية تحتفي ببعض الفضائل العظيمة التي يقدرها - مثل العقل والحقيقة والفن والجمال. ووفقا لميشليه، فإن عصر النهضة «يتطابق في جوهره مع العصر الحديث».
كان ميشليه أول مفكر يعرف عصر النهضة على أنه فترة تاريخية حاسمة في الثقافة الأوروبية مثلت فاصلا جوهريا مع العصور الوسطى، والتي صاغت فهما حديثا للبشرية ومكانتها في العالم. كما روج لعصر النهضة على أنه يمثل روحا معينة أو موقفا بعينه بقدر ما يشير إلى فترة تاريخية محددة. لم يبدأ عصر النهضة كما يراه ميشليه في إيطاليا في القرنين الرابع عشر والخامس عشر كما قد نتوقع، وإنما في القرن السادس عشر. وبصفته قوميا فرنسيا، فإن ميشليه كان شغوفا بأن يدعي أن عصر النهضة كان ظاهرة فرنسية. ونظرا لأنه كان ينتمي للحزب الجمهوري، فقد رفض أيضا ما رأى أنه إعجاب إيطاليا في القرن الرابع عشر بالكنيسة، والاستبداد السياسي، واعتبر أن هذا ضد الديمقراطية تماما، ومن ثم، بعيد كل البعد عن روح عصر النهضة.
وقد تشكلت قصة عصر النهضة عند ميشليه بصورة قاطعة على يد ظروفه الخاصة في القرن التاسع عشر. وفي الحقيقة، فإن قيم عصر النهضة عند ميشليه قريبة جدا بشكل مدهش من قيم ومبادئ الثورة الفرنسية: التي تعتنق مبادئ الحرية والعقل والديمقراطية، وترفض الاستبداد السياسي والديني، وتحافظ على قدسية روح الحرية وكرامة «الإنسان ». ونظرا لشعوره بالإحباط من عدم تطبيق هذه القيم في عصره، فقد راح ميشليه يبحث عن اللحظة التاريخية التي انتصرت فيها قيم الحرية والمساواة وبشرت بعالم حديث يخلو من الاستبداد.
عصر النهضة من منظور سويسري
إذا كان ميشليه هو من اكتشف فكرة عصر النهضة، فإن الأكاديمي السويسري ياكوب بوركهارت عرفها بأنها ظاهرة إيطالية حدثت في القرن الخامس عشر. فقد أصدر بوركهارت في عام 1860 كتابا باسم «حضارة عصر النهضة في إيطاليا»، وقد قال بأن الخصائص المميزة للحياة السياسية في نهاية القرن الخامس عشر أدت إلى ظهور نزعة فردية عصرية متميزة. وقد كان إحياء العصور الكلاسيكية القديمة، واكتشاف عالم أوسع، وعدم الارتياح المتزايد تجاه الدين الذي يتخذ شكلا مؤسسيا؛ يعني أن «الإنسان أصبح فردا له روحانيته». وقارن بوركهارت عمدا بين هذا التطور الجديد وبين غياب الوعي بالذات الذي كان السمة الأساسية للعصور الوسطى من وجهة نظره؛ إذ كان «الإنسان مدركا لذاته على أنه فرد من جنس كامل، أو من مجتمع أو حزب أو عائلة أو مؤسسة». بعبارة أخرى، فإن الناس - قبل القرن الخامس عشر - كانوا يفتقرون إلى الإحساس القوي بهويتهم الفردية. وطبقا لبوركهارت، فإن إيطاليا في القرن الخامس عشر أنجبت «إنسان عصر النهضة»، والذي أطلق عليه «المولود الأول بين أبناء أوروبا الحديثة»، وكانت النتيجة هي ذلك الشكل الذي أصبح مألوفا الآن لعصر النهضة: مهد العالم الحديث الذي أنشأه بيترارك وألبيرتي وليوناردو، والذي يتسم بإحياء الثقافة الكلاسيكية، وانتهى بحلول منتصف القرن السادس عشر.
لم يسترسل بوركهارت كثيرا في حديثه عن فن عصر النهضة، أو التغيرات الاقتصادية، ولكنه غالى في تقديره لما يرى أنه نهج شكوكي، بل وحتى «وثني» للدين في ذلك الوقت، وكان تركيزه مقتصرا على إيطاليا فقط، فلم يحاول أن يربط عصر النهضة بالثقافات الأخرى. وظل فهمه لمصطلحات مثل «الفردية» و«العصرية» غامضا للغاية. وعلى غرار ميشليه، كانت رؤية بوركهارت لعصر النهضة مبنية على ظروفه الشخصية. فقد كان بوركهارت مفكرا أرستقراطيا، يفتخر بتأييده للنزعة الفردية البروتستانتية والجمهورية في سويسرا. ولكنه كان يخشى نمو الديمقراطية الصناعية، وما رأى أنه تدمير للجمال الفني. ومن ثم، فقد كانت رؤيته لعصر النهضة كفترة اتحد فيها الفن والحياة، واحتفي فيها بالجمهورية ولكن مع تقييدها، وتولت الدولة تكوين صورة معتدلة من الدين، تبدو صورة مثالية لمدينة بازل التي يحبها. ورغم ذلك، فقد ظل كتاب بوركهارت - في الجدل الدائر بأن عصر النهضة كان أساس العصر الحديث - في قلب دراسات عصر النهضة منذ ذلك الحين، وغالبا ما كان يواجه الكثير من الانتقادات، إلا أنه لم يستبعد تماما.
وقد وجد احتفاء كل من ميشليه وبوركهارت بالفن والنزعة الفردية، على أنهما السمات المحددة لعصر النهضة، الدعم المنطقي في دراسة والتر باتر التي تحمل اسم «عصر النهضة»، والتي نشرت لأول مرة في إنجلترا عام 1873. تلقى باتر تعليمه في أوكسفورد، وعمل أستاذا بها، وكان مؤيدا للمذهب الجمالي، واستخدم دراسته لعصر النهضة كوسيلة للدفاع عن اعتقاده في «حب الفن من أجل الفن». رفض باتر الجوانب السياسية والعلمية والاقتصادية لعصر النهضة، حيث رأى أنها غير ذات أهمية، كما رأى «روح التمرد والثورة ضد الأفكار الأخلاقية والدينية التي كانت سائدة في ذلك الوقت» في الأعمال الفنية لبعض رسامي القرن الخامس عشر مثل بوتيتشيلي وليوناردو وجورجوني. كان هذا احتفاء جماليا تلذذيا، بل ووثنيا، لما كان يطلق عليه باتر «متعة الحواس والخيال». وقد وجد باتر آثارا لهذا الاعتقاد «بحب أمور الفكر والخيال من أجل الفكر والخيال» ترجع إلى القرن الثاني عشر والقرن السابع عشر. ورغم أن الكثيرين قد صدموا بكتاب باتر الفاسد والمضاد للدين، فقد شكلت آراؤه نظرة العالم الناطق بالإنجليزية لعصر النهضة على مدار عقود.
لقد رسم كل من ميشليه وبوركهارت وباتر صورة عن عصر النهضة من منظور القرن التاسع عشر، صورة ترى هذا العصر فترة روحانية أكثر منها تاريخية. وقد كشفت إنجازات الفن والثقافة موقفا جديدا تجاه الفردية وما يعنيه أن يكون المرء «متحضرا». ومشكلة هذه الطريقة في تعريف عصر النهضة أنها بدلا من أن تقدم وصفا تاريخيا دقيقا لما حدث منذ القرن الخامس عشر وما تلاه، فقد بدت أكثر وكأنها مثال نموذجي للمجتمع الأوروبي في القرن التاسع عشر. فقد احتفى هؤلاء النقاد بالديمقراطية المحدودة، ومذهب الشك تجاه الكنيسة، وقوة الفن والأدب، وانتصار الحضارة الأوروبية على جميع الحضارات الأخرى. وقد شكلت هذه المبادئ أسس الإمبريالية الأوروبية في القرن التاسع عشر. ففي تلك المرحلة من التاريخ التي كانت فيها أوروبا تحاول بعدوانية فرض سيطرتها على معظم أجزاء الأمريكتين وأفريقيا وآسيا، كان أناس مثل باتر يخلقون رؤية لعصر النهضة بدت كما لو أنها تقدم تأصيلا وتبريرا للهيمنة الأوروبية على العالم.
عصر نهضة القرن العشرين
وفي وقت مبكر من القرن العشرين، ظهرت وجهة نظر أكثر تناقضا عن عصر النهضة. وقد واجه بوركهارت أول التحديات في عام 1919، عندما نشر يوهان هازينجا كتاب: «انحسار العصور الوسطى». فقد درس هازينجا كيف تم تجاهل ثقافة ومجتمع أوروبا الشمالية في التعريفات السابقة لعصر النهضة، وتحدى تقسيم بوركهارت لتلك الفترة إلى «عصور وسطى» و«عصر النهضة»، قائلا بأن الأسلوب والمواقف التي حددها بوركهارت بأنها عصر النهضة، كانت في الواقع انحسارا لروح العصور الوسطى. واستدل هازينجا بالفن الفلمنكي ليان فان أيك في القرن الخامس عشر:
إنه - من حيث الشكل والمضمون - نتاج تراجع العصور الوسطى. وإذا اكتشف بعض مؤرخي الفن عناصر عصر النهضة خلال هذه الفترة، فذلك لأنهم اختلط عليهم الأمر بشكل خاطئ تماما في التمييز بين الواقعية وعصر النهضة. وهكذا أصبحت هذه الواقعية الدقيقة، وهذا الطموح في تقديم كافة التفاصيل الطبيعية، هما السمة المميزة لروح العصور الوسطى التي كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة.
تمثل الواقعية المرئية المفصلة في لوحة فان أيك - في نظر لهازينجا - نهاية تقاليد العصور الوسطى، وليس ميلادا لروح عصر النهضة المتمثلة في التعبير الفني القوي. ورغم أن هازينجا لم يرفض استخدام مصطلح «عصر النهضة»، فإنه لم يتبق من الفكرة سوى جزء ضئيل لم ير أنه قد انبثق عن العصور الوسطى. لقد قدم كتاب هازينجا نظرة متشائمة للغاية لنموذج عصر النهضة الذي احتفى به أسلافه في القرن التاسع عشر. ونظرا لأن هذا الكتاب قد وضع في خضم الحرب العالمية الأولى، فليس من المدهش أنه لم يستطع إثارة قدر كبير من الحماسة لفكرة عصر النهضة باعتباره ازدهار تفوق الفردية و«الحضارة» الأوروبية.
شهد منتصف القرن العشرين قيام مجموعة من المفكرين المهاجرين من أوروبا الوسطى بإعادة تقييم عميق لعصر النهضة، في وقت هدد فيه ظهور الأنظمة الاستبدادية بتقويض القيم الفلسفية الرحيمة للنزعة الإنسانية في عصر النهضة. فقد هرب العديد من الباحثين الألمان - مثل بول أوسكار كريستلر، وهانز بارون، وإرفين بانوفسكي - من الفاشية التي ظهرت في ثلاثينيات القرن العشرين، وذهبوا إلى المنفى في الولايات المتحدة؛ ولذلك فإن كتاباتهم اللاحقة عن عصر النهضة تأثرت تأثرا كبيرا بهذه الأحداث، ولا تزال تؤثر في الدراسات المعاصرة عن تلك الفترة.
يقول كتاب «أزمة عصر النهضة الإيطالية المبكرة» (1955) لهانز بارون بأن إحدى اللحظات الفارقة في تاريخ الحركة الإنسانية في عصر النهضة ظهرت في فلورنسا نتيجة لحرب ميلانو الثانية (1397-1402). ومن منظور بارون، فإن اللحظة التي استعد فيها دوق ميلانو جان جالياتسو فيسكونتي لمهاجمة فلورنسا عام 1402 كانت أشبه «بوقائع التاريخ الحديث التي يخيم فيها الغزو بهدف التوحيد على سماء أوروبا». وعندما قارن بارون جان جالياتسو بنابليون وهتلر، توصل إلى أن تلك المقارنات ساعدت على فهم «أزمة صيف عام 1402، وفهم أهميتها المادية والنفسية بالنسبة للتاريخ السياسي لعصر النهضة، ولا سيما لنمو الروح المدنية بفلورنسا». أصيب جان جالياتسو بالطاعون في سبتمبر 1402 ونجت فلورنسا من بين يديه. ومن منظور بارون، فإن البطل العظيم لما أطلق عليه انتصار الجمهورية المدنية على حكم الفرد الإقطاعي كان العالم ورجل الدولة ليوناردو بروني. ووفقا لما ذكره بارون في كتابه «في مدح مدينة فلورنسا» وكتابه «تاريخ الشعب الفلورنسي»، فإن بروني قد تحدث عن «فلسفة جديدة للمشاركة السياسية، والحياة النشطة التي نشأت اعتراضا على نماذج الانسحاب العلمي». وكان هذا يمثل تعريف بارون للنزعة الإنسانية المدنية، والتي «كانت تحاول أن تثقف الإنسان باعتباره عضوا في مجتمعه ودولته»، والتي اعتنقت فضائل الجمهورية، والتي رأى بارون أنها ممثلة في عائلة ميديتشي في فلورنسا.
كانت أطروحة بارون استجابة جذابة لدور المفكر الإنساني في وقت كانت أوروبا مهددة بظهور الاستبداد السياسي، واعتبرت هذه الأطروحة فلورنسا وآل ميديتشي في قلب أصول عصر النهضة، ولكنها في الوقت نفسه نظرت إلى النزعة الإنسانية لدى بروني والتوجه الجمهوري في فلورنسا نظرة مثالية. أما بول أوسكار كريستلر، فقد تبنى منهجا مغايرا لمنهج بارون؛ فبالنسبة لكريستلر، الفلسفة التأملية لمارسيليو فيتشينو - وهو من مؤيدي الحركة الإنسانية في فلورنسا - خاصة كتابه «اللاهوت الأفلاطوني» (المكتوب في الفترة ما بين 1469 و1473)؛ هي ما حددت انصهارا جديدا بين العالم الكلاسيكي والمسيحية. ومن منظور كريستلر، فإن ابتكار فيتشينو يكمن في الاعتقاد بأن:
الفلسفة تقف الآن حرة وعلى قدم المساواة مع الدين، ولكن لا يمكن أن تتعارض معه؛ لأن الأصل المشترك والمحتوى المشترك يضمن اتفاقهما. وهذا بلا شك أحد هذه المفاهيم التي أشار بها فيتشينو إلى الطريق نحو المستقبل.
تناولت أفلاطونية فيتشينو العلاقات المتوترة بين الفلسفة والدين والدولة؛ تلك العلاقات التي كانت أيضا متوترة في أوروبا في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي عندما كان كريستلر يدرس أعمال فيتشينو.
وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، والاضطرابات الاجتماعية والسياسية في ستينيات القرن العشرين، خاصة تسييس العلوم الإنسانية وظهور الحركة النسائية والمساواة بين الجنسين، خضع عصر النهضة لعملية إعادة تقييم جوهرية. وكانت هناك استجابة مؤثرة بوجه خاص من الولايات المتحدة الأمريكية. ففي عام 1980، نشر الباحث الأدبي ستيفن جرينبلات كتاب «تشكيل الذات في عصر النهضة: من مور إلى شكسبير». وقد بنى الكتاب على وجهة نظر بوركهارت عن عصر النهضة بأنه نقطة ميلاد الإنسان الحديث. ويقول جرينبلات - الذي أسس عمله على التحليل النفسي وعلم الإنسان والتاريخ الاجتماعي - بأن القرن السادس عشر قد شهد «وعيا متزايدا بتشكيل الهوية الإنسانية»، حيث إن الرجل (وأحيانا المرأة) تعلم كيف يعالج أو «يشكل» ذاته وفقا للظروف المحيطة. وعلى غرار بوركهارت، رأى جرينبلات ذلك بداية ظاهرة عصرية على نحو مميز. وبالنسبة لجرينبلات، فإن أعمال كبار كتاب القرن السادس عشر بإنجلترا - مثل إدموند سبنسر، وكريستوفر مارلو، وويليام شكسبير - قدمت شخصيات خيالية مثل فاوستس وهاملت اللذين - بإدراك كامل للذات - تأملا هوياتهما وبدآ معالجتها؛ أي إنهما - على هذا المستوى - كانا أشبه برجلين عصريين. واللوحة التي استخدمها جرينبلات لعرض نظريته عن تشكيل الذات كانت بالضبط مثل لوحة «السفيران» لهانز هولباين.
استنتج جرينبلات أنه في عصر النهضة «بدأ موضوع الإنسان نفسه يبدو مقيدا بصورة ملحوظة، ويبدو المنتج الأيديولوجي لعلاقات القوة في مجتمع معين». ونظرا لأن جرينبلات كان كاتبا أمريكيا، فقد استعرض لاحقا إعجابه بإنجازات عصر النهضة وقلقه بشأن الجانب المظلم منه، ولا سيما - بالنسبة له - استعمار العالم الجديد ومعاداة السامية التي انتشرت طوال القرن السادس عشر.
ورغم عنوان كتاب جرينبلات، فإنه وغيره من الباحثين بدءوا في استخدام تعبير «أوائل العصر الحديث» للإشارة إلى عصر النهضة. وهذا المصطلح مشتق من التاريخ الاجتماعي، ويشير إلى علاقة تملؤها الشكوك بين عصر النهضة والعالم الحديث بشكل أكثر من النظرة المثالية التي يتبناها ميشليه وبوركهارت. كما يؤكد أيضا على أن عصر النهضة فترة من التاريخ وليس «الروح» الثقافية كما أشار كتاب القرن التاسع عشر. ومصطلح «أوائل العصر الحديث» كان يشير كذلك إلى أن ما حدث في الفترة ما بين 1400 و1600 كان له تأثير كبير على العالم الحديث. وبدلا من التركيز على كيف نظر عصر النهضة إلى العالم الكلاسيكي، فإن مصطلح «أوائل العصر الحديث» يشير إلى أن الفترة تضمنت توجها مستقبليا وضع تصورا مبكرا لعالمنا الحديث.
كما أشعل مفهوم أوائل العصر الحديث فتيل استكشاف موضوعات وقضايا لم يكن يتصور أحد أن لها علاقة بعصر النهضة. وقد عمد بعض الباحثين مثل جرينبلات، وناتالي زيمون ديفيس في كتابها «المجتمع والثقافة في فرنسا في أوائل العصر الحديث» (1975) إلى استكشاف الأدوار الاجتماعية التي لعبها الفلاحون والحرفيون، والمخنثون، والنساء «الجامحات». ونظرا لأن التخصصات الفكرية مثل علم الإنسان والأدب والتاريخ تتعلم من الرؤى النظرية لبعضها البعض، فقد ازداد التركيز على الفئات المستبعدة والأمور المهمشة. ومن ثم، خضعت فئات مثل «السحرة» و«اليهود» و«السود» لدراسة متأنية مجددا، حيث سعى النقاد لاستعادة الأصوات المهملة أو المفقودة من عصر النهضة.
وقد تأثر بعض النقاد - مثل جرينبلات وزيمون ديفيس - بالفكر الفلسفي والنظري في أواخر القرن العشرين، لا سيما فكر حركتي ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة. وقد كانت هذه المناهج متشككة في «الروايات الجليلة» للتغير التاريخي من عصر النهضة إلى التنوير والحداثة. وهناك بعض المفكرين الذين ينتمون إلى توجهات متنوعة - مثل ثيودور أدورنو، وميشيل فوكو - قالوا بأن القيم الإنسانية والحضارية التي اعتبروا أنها نشأت في عصر النهضة لم يكن لها رد على الكوارث - بل وحتى من الممكن أن تكون متواطئة معها - التي نتجت عن التجارب السياسية للنازية والستالينية وأهوال محرقة الهولوكوست ومعسكرات الاعتقال السوفييتية. ونتيجة لذلك، فإن القليل من المفكرين في نهاية القرن العشرين كانت لديهم رغبة في الاحتفاء بالإنجازات الثقافية والفلسفية الكبرى لعصر النهضة، وبدلا من ذلك، بدأ الكثير من المؤرخين في تحليل الأشياء والأمور على مستوى محلي أكثر.
وبالمثل، فإن الأشياء العادية التي تمثل أهمية في الحياة اليومية ولكنها فقدت أو دمرت لاحقا، ظهرت لها أهمية مجددا. وبدلا من أن يركز الباحثون من مختلف التخصصات العلمية على فنون الرسم والنحت والهندسة المعمارية، فإنهم بدءوا البحث في كيف شكلت الأهمية المادية للأثاث والطعام والملابس والخزف وغيرها من الأشياء الدنيوية، عالم عصر النهضة. وبدلا من رؤية أوجه التشابه، فإن هذه المناهج أشارت إلى الهوة بين عصر النهضة والعالم الحديث. فالأشياء والهويات الشخصية لم تكن ثابتة وغير قابلة للتغيير كما أشار بوركهارت ضمنا في حديثه عن الإنسان «الحديث»، بل كانت سلسة وتعتمد على ما حولها.
ولا يزال النزاع قائما على تراث عصر النهضة في القرن الحادي والعشرين، فمنذ الهجوم على الولايات المتحدة الأمريكية في سبتمبر 2001، احتل الحديث عن صدام الحضارات بين الشرق والغرب موقع الريادة بناء على افتراض أن عصر النهضة يمثل انتصارا عالميا للقيم العليا لإنسانية الغرب. ولكن كما سنرى في الفصل التالي، فإن أصول عصر النهضة كانت مختلطة ثقافيا أكثر بكثير مما قد توحي هذه المزاعم، ويمتد تأثيرها إلى ما وراء شواطئ أوروبا.
هوامش
الفصل الأول
عصر نهضة عالمي
إحدى مشكلات التعريفات الكلاسيكية المقترحة لعصر النهضة هي تلك الحفاوة بإنجازات الحضارة الأوروبية لدرجة استبعاد ما دونها. وليس من قبيل الصدفة أن الفترة التي شهدت وضع هذا المصطلح هي نفسها الفترة التي شهدت قيام أوروبا بتأكيد هيمنتها الاستعمارية بمنتهى العدوانية في جميع أنحاء العالم. وفي الأعوام الأخيرة، أدت المناهج البديلة لدراسة عصر النهضة من جوانب التاريخ والاقتصاد وعلم الإنسان إلى تعقيد هذه الصورة، وقدمت عوامل بديلة حاسمة لفهم عصر النهضة، كان قد رفضها مفكرو القرن التاسع عشر أمثال ميشليه وبوركهارت؛ حيث اعتبروها غير ذات صلة بعصر النهضة. ويضع هذا الفصل عصر النهضة في إطار العالم الأوسع؛ إذ يوضح أن التجارة والمال والسلع والرعاية والصراع الاستعماري والتبادل مع مختلف الثقافات كانت جميعها عناصر أساسية لعصر النهضة. فالتركيز على هذه القضايا يقدم فهما مختلفا لما شكل عصر النهضة. كما أنه يدفعنا إلى التفكير في إبداع عصر النهضة خارج الإطار المقتصر على الرسم والكتابة والنحت والعمارة. كما أن هناك صناعات أخرى - كالخزف والمنسوجات والأشغال المعدنية والأثاث - شكلت كذلك معتقدات وتوجهات الناس، على الرغم من أن الكثير من هذه الأشياء أهملت أو دمرت أو فقدت منذ ذلك الوقت.
هناك لوحة شهيرة أخرى أثارت الكثير من هذه القضايا وهي لوحة جنتيلي وجوفاني بيليني المسماة: «القديس مرقص يعظ في الإسكندرية»، وهي أهم لوحة في مجموعة بيناكوتيكا دي بيريرا في ميلان. وتصور لوحة بيليني القديس مرقص - مؤسس الكنيسة المسيحية في الإسكندرية - حيث استشهد عام 75 بعد الميلاد تقريبا، وهو أيضا القديس الراعي لفينيسيا. ويظهر القديس مرقص في اللوحة واقفا على منبر وهو يعظ مجموعة من النساء الشرقيات المتشحات بعباءات بيضاء. وتقف خلف القديس مرقص مجموعة من نبلاء فينيسيا، بينما تصطف أمامه صفوف غير عادية من الشخصيات الشرقية التي تختلط في سهولة مع أوروبيين آخرين. وضمت هذه الصفوف مماليك مصريين ومغاربة من شمال أفريقيا وعثمانيين وفرسا وإثيوبيين وتتارا.
شكل 1-1: تجسد لوحة جنتيلي وجوفاني بيليني «القديس مرقص يعظ في الإسكندرية» (1504-1507) افتتان أوروبا بثقافة وعمارة ومجتمعات الشرق.
1
تكمن الإثارة في هذا العمل في الثلث السفلي من اللوحة، بينما يهيمن المشهد المؤثر للإسكندرية على باقي اللوحة. يهيمن على خلفية اللوحة كنيسة ذات قبة مبنية على الطراز البيزنطي؛ وهي بمثابة إعادة تصور خيالي لكنيسة القديس مرقص بالإسكندرية. وتوجد في الساحة شخصيات شرقية تتجاذب أطراف الحديث، بعضهم على ظهور الخيل، والبعض الآخر يقودون جمالا وزرافة. أما البيوت التي تواجه الساحة فتبدو مزينة بالنوافذ الحديدية والقرميد المصري، وتتدلى قطع السجاد إسلامي الطراز من النوافذ، في حين أن المآذن والأعمدة والركائز التي تشكل خط الأفق هي مزيج من معالم الإسكندرية، وتصورات من إبداع الأخوين بيليني الخاص. والكنيسة البيزنطية هي خليط منتقى من عناصر من كنيستي سان ماركو في فينيسيا، وآيا صوفيا في القسطنطينية، في حين أن الأبراج والأعمدة التي تشاهد على بعد تتوافق مع بعض أشهر المعالم في مدينة الإسكندرية، والتي تم بالفعل محاكاتها في الهندسة المعمارية لمدينة فينيسيا نفسها.
تبدو اللوحة للوهلة الأولى كأنها صورة ورعة للشهيد المسيحي وهو يعظ مجموعة من «غير المؤمنين»، وهي مستوحاة من العالم الكلاسيكي الذي يحترمه ويقدره كثيرا مفكرو وفنانو عصر النهضة. ومع ذلك، فإن هذا مجرد جانب واحد فقط من القصة. فعلى الرغم من أن القديس مرقص كان يرتدي زيا رومانيا قديما - وذلك بما يتفق مع حياته في القرن الأول الميلادي في الإسكندرية - فإن الملابس التي كان يرتديها الحضور في اللوحة تنتمي بوضوح لنهاية القرن الخامس عشر الميلادي، مثلها في ذلك مثل المباني المجاورة. إن لوحة الأخوين بيليني تصور الاختلاط بين المجتمعات والثقافات في مشهد يستحضر كلا من الكنيسة الغربية والسوق الشرقية. فاللوحة عبارة عن مزيج من عالمين: المعاصر والكلاسيكي. ففي الوقت نفسه الذي تستحضر فيه عالم الإسكندرية في القرن الأول الميلادي وحياة القديس مرقص، يحرص الفنانان أيضا على تصوير علاقة فينيسيا بالإسكندرية المعاصرة لها في أواخر القرن الخامس عشر. ونظرا لأن الفنانين كانا قد كلفا برسم قصة من تاريخ القديس راعي فينيسيا، فإنهما يصوران القديس مرقص في محيط يتعرف عليه الكثير من أهل فينيسيا الأثرياء وذوي النفوذ. وهذه صفة معروفة عن فن وأدب عصر النهضة: إلباس العالم المعاصر لباس الماضي كوسيلة لفهم الحاضر.
الغرب يلاقي الشرق
افتتن الأخوان بيليني بكل من أساطير وحقيقة العالم الذي يقع إلى الشرق مما ينظر إليه اليوم على أنه أوروبا عصر النهضة. فلوحتهما تهتم بالطبيعة المحددة للعالم الشرقي، وعلى وجه الخصوص العادات والهندسة المعمارية وثقافة الإسكندرية العربية التي كانت واحدة من الشركاء التجاريين لفينيسيا لفترة طويلة. كما أن الأخوين بيليني لم ينبذا المماليك في مصر أو العثمانيين أو الفرس معتبرين إياهم همجيين، وإنما كانا على دراية تامة بأن هذه الثقافات تمتلك الكثير من الأمور التي كانت دويلات المدن الأوروبية ترغب فيها. وشملت هذه الأمور السلع الثمينة، والمعرفة التقنية والعلمية والفنية، فضلا عن طرق إنجاز الأعمال التي أتت من الشرق. إن لوحة القديس مرقص في الإسكندرية تظهر كيف أن النهضة الأوروبية بدأت في تعريف نفسها لا بمواجهة الشرق، وإنما من خلال عملية تبادل مكثفة ومعقدة للأفكار والمواد.
كان أهل فينيسيا المعاصرون للأخوين بيليني واضحين فيما يخص اعتمادهم على مثل هذه المعاملات. فقد كانت فينيسيا في موقع الوسيط التجاري المثالي، وكانت قادرة على الحصول على هذه السلع من الأسواق الشرقية، ثم نقلها إلى أسواق شمال أوروبا. وفي نفس الوقت الذي رسم فيه الأخوان بيليني لوحة القديس مرقص، كتب كانون بييترو كاسولا معبرا بدهشة عن أثر هذا التدفق للبضائع من الشرق على فينيسيا نفسها قائلا:
بالفعل يبدو كما لو أن كل العالم يندفع أفواجا إلى هنا، وكما لو أن كافة البشر قد ركزوا هناك كل ما لديهم من قوة للتجارة ... فمن ذا الذي يمكنه أن يحصي المحلات التجارية الكثيرة المملوءة بالبضائع، حتى كادت أن تبدو كمستودعات تحتوي على الكثير من الملابس من كل صنعة: النسيج، والأقمشة المطرزة، والستائر من كل تصميم، والسجاد من كل نوع، وأوبار الجمال [البسط] من كل لون، وكل ملمس؛ والحرير من كل نوع، وهذا العدد الهائل من محلات البقالة، والتوابل والأدوية، والكثير من الشموع الجميلة! إن هذه الأشياء تخلب لب الناظر.
كانت التجارة في هذه السلع بين الشرق والغرب تتم في مختلف أنحاء البحر المتوسط لقرون عديدة، ولكن زاد حجمها بعد نهاية الحروب الصليبية. وبداية من القرن الرابع عشر، حاربت فينيسيا منافسيها مثل جنوة وفلورنسا لترسي هيمنتها على التجارة من البحر الأحمر والمحيط الهندي وانتهاء في الإسكندرية. وتأسست المراكز التجارية والقنصليات التابعة لفينيسيا وجنوة في الإسكندرية ودمشق وحلب، بل وأبعد من ذلك. وبينما كانت أوروبا تصدر في الغالب البضائع غير المعبأة مثل المنسوجات والأخشاب والأواني الزجاجية والصابون والورق والنحاس والملح والفضة والذهب، فإنها كانت تميل إلى استيراد السلع الفاخرة والقيمة. وتراوحت هذه السلع من البهارات (الفلفل الأسود وجوزة الطيب والقرنفل والقرفة) والقطن والحرير والساتان والمخمل والسجاد، إلى الأفيون والخزامى وخشب الصندل والخزف الصيني والخيول وعشب الراوند والأحجار الكريمة، وكذلك الأصباغ الزاهية المستخدمة في صناعة الغزل والنسيج وفي الرسم.
كان تأثير ذلك على ثقافة واستهلاك المجتمعات من فينيسيا إلى لندن تدريجيا ولكنه كان عميقا؛ إذ تأثرت به مجالات الحياة كافة، من المأكل إلى الرسم. وكما تغير الاقتصاد المحلي مع هذا التدفق من السلع الغريبة، فكذلك طرأ هذا التغير على الفن والثقافة. فتوسعت لوحة ألوان الرسامين مثل الأخوين بيليني من خلال إضافة أصباغ مثل الأزرق السماوي والقرمزي والأحمر الزاهي، وجميعها ألوان تم استيرادها من الشرق عن طريق فينيسيا، وزودت لوحات عصر النهضة بدرجات لوني الأزرق والأحمر التي تميزها. وقد عكست التفاصيل الرقيقة - التي أظهرت بها لوحة الأخوين بيليني المسماة «القديس مرقص» الحرير والمخمل ونسيج الموسلين والقطن والقرميد والسجاد، وحتى الحيوانات - وعي الفنانين بالكيفية التي غيرت بها هذه المبادلات مع الشرق من المشاهد والروائح والأذواق في العالم، وكذلك قدرة الفنان على إعادة إنتاجها.
وكانت أسواق الشرق بالقاهرة وحلب ودمشق أيضا مسئولة عن تشكيل البنية المعمارية لفينيسيا في عصر النهضة. فقد وصف المؤرخ الفني الفينيسي جوزيبي فيوكو فينيسيا باعتبارها «سوقا ضخمة». ومؤخرا لاحظ المؤرخون المعماريون كيف أن العديد من الخصائص المعمارية للمدينة كانت قائمة على المحاكاة المباشرة للتصميم والديكور الشرقي. فسوق ريالتو بمبانيها المتراصة في خط مستقيم، والمرتبة بالتوازي مع الطرق الرئيسية؛ مماثلة بشكل مذهل لتخطيط العاصمة التجارية السورية حلب. كما أن النوافذ والأقواس والواجهات المزينة لقصر دوج وقصر دوكالي مستوحاة من المساجد والأسواق والقصور في مدن مثل القاهرة وعكا وتبريز، حيث كان تجار فينيسيا يتاجرون على مدار عدة قرون. لقد كانت فينيسيا مدينة متطورة في عصر النهضة، ليس فقط للمزيج بين التجارة والترف الجمالي، ولكن أيضا لإعجابها بالثقافات الشرقية ومحاكاتها لها.
حسابات دائنة ومدينة
كان من بين سمات عصر النهضة ظهور أسلوب جديد للتعبير عن الثروة، وما يرتبط بذلك من استهلاك للسلع الكمالية. وقد ناقش المؤرخون الاقتصاديون والسياسيون بقوة أسباب التغيرات في الطلب والاستهلاك بداية من القرن الرابع عشر وما تلاه. ويتعارض الاعتقاد في ازدهار روح عصر النهضة مع الاعتقاد السائد بأن القرنين الرابع عشر والخامس عشر قد شهدا فترة كساد اقتصادي عميق، فانهارت الأسعار وتراجعت الأجور. وما كان لتفشي وباء الموت الأسود في عام 1348 سوى أن زاد من حدة هذه المشكلات. ومع ذلك، فكما هو الحال في حالة الحرب، فإنه غالبا ما يكون من بين تبعات انتشار المرض والموت على نطاق واسع؛ إحداث تغيير اجتماعي جذري واضطرابات، وكان هذا هو حال أوروبا في أعقاب الطاعون. وبالإضافة إلى المرض، عصفت الحروب بالمنطقة. فكان هناك الصراع الإسلامي المسيحي في إسبانيا وشمال أفريقيا (1291-1341)، والحروب التي دارت رحاها بين فينيسيا وجنوة (1291-1299، 1350-1355، 1378-1381)، وحرب المائة عام التي طالت شمال أوروبا كله (1336-1453)، والتي أثرت جميعها سلبا على التجارة والزراعة، وخلقت نمطا متكررا من التضخم والانكماش. وكان من بين تبعات كل هذا الموت والمرض والحروب التركيز على الحياة الحضرية، وتراكم الثروة في يد نخبة صغيرة شديدة الثراء.
وكما هو الحال في معظم فترات التاريخ، فحيث يواجه بعض الناس الكساد وتدهور الأحوال، يرى البعض الآخر الفرصة والثروة. فقد استفادت دول مثل فينيسيا من الطلب المتزايد على السلع الكمالية، وطورت وسائل جديدة لنقل كميات أكبر من البضائع. فتدريجيا حلت السفن الثقيلة ذات القيعان المستديرة والصواري محل القوارب الأقدم والسفن الصغيرة التي تعمل بالمجاديف. وأصبحت هذه السفن الكبيرة تستخدم في نقل البضائع الضخمة مثل الخشب والحبوب والملح والأسماك والحديد بين موانئ شمال أوروبا. وكانت هذه السفن قادرة على نقل أكثر من 300 «برميل» من البضائع (البرميل الواحد يساوى 900 لتر)؛ أي ما يزيد عن ثلاثة أضعاف حمولة السفن القديمة. وبنهاية القرن الخامس عشر، تم بناء المركب الشراعي ذي الصواري الثلاث بناء على تصاميم عربية، وكانت حمولته تصل إلى 400 برميل من البضائع، وكان أسرع بكثير من السفن القديمة.
وهكذا، مع ازدياد حجم البضائع وسرعة توزيعها، تغيرت كذلك سبل إتمام الصفقات التجارية. وبينما تبدو لنا تعقيدات تحقيق التوازن بين الواردات والصادرات لكل من السلع العالمية الأساسية والكمالية وحساب الائتمان والربح وسعر الفائدة؛ مألوفة للغاية بالنسبة لنا اليوم؛ فإنه من السهل أن نرى لماذا غالبا ما يشار إلى عصر النهضة بأنه كان مهد الرأسمالية الحديثة. فكما كان التجار الأوروبيون المسيحيون يتاجرون في السلع غير العادية القادمة من الشرق، فإنهم قاموا أيضا بإدخال طرق ممارسة الأعمال التجارية العربية والإسلامية من خلال زياراتهم للأسواق والمراكز التجارية في جميع أنحاء شمال أفريقيا والشرق الأوسط وبلاد فارس.
ففي القرن الثالث عشر، قام تاجر من بيزا يدعى ليوناردو بيزان - والمعروف باسم فيبوناتشي - باستخدام معرفته التجارية بالطرق العربية لحساب الربح والخسارة في إدخال الأرقام الهندية-العربية إلى التجارة الأوروبية. فأوضح فيبوناتشي طبيعة الأرقام الهندية-العربية من «0» إلى «9»، واستخدام الفاصلة العشرية، وتطبيقها على المسائل التجارية العملية التي تشمل الجمع والطرح والضرب والقسمة، وقياس الأوزان والمقاييس، بالإضافة إلى المقايضة وتحصيل الفوائد وتبادل العملات. وبينما قد تبدو هذه الأمور بديهية اليوم، فإنه يجدر بنا أن نتذكر أن علامات الجمع (+) والطرح (−) والضرب (×) لم تكن معروفة في أوروبا قبل القرن الخامس عشر.
وهذا النوع من الممارسة التجارية العربية الذي استعاره فيبوناتشي اعتمد على تطورات عربية سابقة في الرياضيات وعلم الهندسة. فعلى سبيل المثال، تم اعتماد المبادئ الأساسية لعلم الجبر من مصطلح عربي للتعويض يسمى الجبر. وفي حوالي عام 825م، قام عالم الفلك الفارسي أبو جعفر محمد بن موسى الخوارزمي بتأليف كتاب تضمن قواعد حسابية للنظام العشري سماه «كتاب الجبر والمقابلة». وأصبحت الترجمة اللاتينية لاسمه أساسا لمزيد من الدراسة لواحد من أهم الموضوعات الرياضية الحديثة: الخوارزمية.
اعتمدت المراكز التجارية في فينيسيا وفلورنسا وجنوة الأساليب الجديدة التي قدمها فيبوناتشي؛ حيث أدركوا أن هناك حاجة لوسائل جديدة لتتبع المعاملات التجارية الدولية التي تزداد تعقيدا. فقد كان سداد قيمة السلع غالبا ما يتم بسبائك من الفضة أو الذهب، ولكن مع زيادة المبيعات وارتباط أكثر من شخصين في الصفقة التجارية الواحدة، أصبحت هناك حاجة إلى طرق تجارية جديدة. وكانت الكمبيالة واحدة من أهم الابتكارات في هذا المجال، حيث كانت نوعا مبكرا من الأوراق المالية. وكانت الكمبيالة هي سلف الشيك بشكله الحديث، ونشأت من المصطلح العربي الذي كان يستخدم في العصور الوسطى «الصك». فأنت الآن عندما تقوم بتحرير شيك، تعتمد على الجدارة الائتمانية لك في أحد البنوك؛ فيقبل البنك هذا الشيك عندما يقدمه حامله للسداد، وبالمثل، كان التاجر في القرن الرابع عشر يدفع قيمة شحنة من البضائع عن طريق كمبيالة معتمدة من قبل عائلة تجارية قوية تقبل الكمبيالة عندما تقدم إليها، سواء في تاريخ لاحق محدد أو عند تسليم البضائع. وسرعان ما تحول أفراد عائلات التجار التي كانت تضمن هذه المعاملات الورقية إلى مصرفيين وتجار في نفس الوقت. وقام التجار، الذين تحولوا إلى مصرفيين، بكسب المال عن طريق فرض رسوم الفائدة على هذه المعاملات على أساس مقدار الوقت الذي يستغرقه سداد الكمبيالة، وكذلك من خلال التلاعب بسعر الصرف بين العملات الدولية المختلفة.
كانت الكنيسة في القرون الوسطى لا تزال تحرم الربا، الذي يعرف بأنه تقاضي فائدة ما على قرض. فالمعتقدات الدينية لكل من المسيحية والإسلام تحرم الربا رسميا، ولكن في الممارسة العملية وجدت ثغرات في كلتا الثقافتين على حد سواء لتحقيق أقصى قدر من الربح المالي، واستطاع التجار المصرفيون تمويه تقاضي الفائدة عن طريق إقراض المال بإحدى العملات ثم تحصيله بعملة مختلفة. وتبع هذه العملية وضع سعر صرف يسمح للتاجر المصرفي بتحقيق ربح من خلال نسبة مئوية من المبلغ الأصلي؛ وبهذا يحتفظ المصرفي بأموال بعض التجار «كوديعة »، على أن يوفر بذلك «ائتمانا» كافيا يمكن التجار الآخرين من قبول كمبيالات التجار الذين يودعون المال لديه، على اعتبار أن تلك الكمبيالات شكل من أشكال النقود في حد ذاتها. وكان هناك حل آخر يتمثل في توظيف التجار اليهود للتعامل مع معاملات القروض، والقيام بدور الوساطة التجارية بين أتباع الديانتين، وذلك لسبب بسيط هو أن اليهود لم يكن لديهم أي حظر ديني رسمي ضد الربا. ومن هذا الحدث التاريخي نشأت الصورة النمطية المعادية للسامية ضد اليهود، ونزعتهم المزعومة نحو التمويل الدولي، وكان ذلك نتيجة مباشرة لنفاق بعض المسيحيين وبعض المسلمين.
وقد وضعت الثروة المتراكمة ومكانة التجار المصرفيين أسس السلطة السياسية والإبداع الفني الذي كان من أبرز سمات عصر النهضة الأوروبية. وكانت أسرة ميديتشي، التي هيمنت على الساحة السياسية والثقافية في فلورنسا طوال القرن الخامس عشر، قد بدأت كتجار مصرفيين. وفي عام 1397، أنشأ جوفاني دي بيتشي دي ميديتشي «مصرف ميديتشي» في مدينة فلورنسا، الذي سرعان ما أتقن فن القيد المزدوج في مسك الدفاتر والمحاسبة والإيداع والتحويل المصرفي والتأمين البحري وتداول الكمبيالات. كما أصبح مصرف ميديتشي «المصرف الخادم للرب»، وذلك عن طريق تحويل الأموال البابوية في جميع أنحاء أوروبا. وبحلول عام 1429، قال الباحث في العلوم الإنسانية والمستشار الفلورنسي بوجيو براشيوليني بأن «المال ضروري كالأواصر التي تحفظ كيان الدولة»، وأنه «مفيد للغاية، بالنسبة للرفاهية العامة وللحياة المدنية». وبعد أن درس تأثير التجارة والتبادل التجاري على المدن حق له أن يحتفي «بالعديد من المنازل الرائعة والفيلات المتميزة والكنائس والأعمدة والمستشفيات التي تم بناؤها في عصرنا» بالأموال التي جمعتها عائلة ميديتشي.
الشرق يلتقي بالغرب
شكلت التجارة الدولية والممارسات المالية الجديدة ملامح ما كان يصنعه الناس وما يستهلكونه طوال القرنين الرابع عشر والخامس عشر. ففي عام 1453، انتهت حرب المائة عام بين إنجلترا وفرنسا. وكانت إحدى نتائج السلام تكثيف التجارة بين شمال وجنوب أوروبا. وعلى الطرف الآخر من أوروبا شهد عام 1453 حدثا تاريخيا آخر لا يقل أهمية عن انتهاء الحرب؛ حيث قامت الإمبراطورية العثمانية الإسلامية بغزو القسطنطينية. وقد شكل سقوطها في يد القوات العثمانية تحولا حاسما في القوة السياسية الدولية؛ إذ أكد ذلك على مكانة الإمبراطورية العثمانية كواحدة من أقوى الإمبراطوريات في أوروبا، ولاعب أساسي في تشكيل الفن والثقافة اللاحقين في عصر النهضة.
ففي ربيع عام 1453، ضرب أكثر من 100 ألف جندي حصارا على القسطنطينية، وفي مايو من العام نفسه، استولى السلطان محمد الفاتح الثاني على المدينة. فنظرا لأن القسطنطينية كانت عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، فإنها كانت من آخر الروابط بين عالم روما الكلاسيكية وإيطاليا القرن الخامس عشر. كانت بمثابة قناة لاسترداد الجزء الأكبر من تعاليم الثقافة الكلاسيكية، ويرجع الفضل في ذلك أساسا لرعاية السلطان محمد؛ فقد قاده ارتباطه بالطموحات السياسية وانجذابه نحو الأذواق الثقافية لنظرائه الإيطاليين إلى توظيف متخصصين إيطاليين في الإنسانيات، ليقوموا «بالقراءة على السلطان يوميا من أعمال المؤرخين القدماء مثل ليريتيوس وهيرودوت وليفي وكوينتس كورتيوس، ومن سجلات البابوات، وملوك لومبارد»، فإذا كان عصر النهضة قد تضمن إحياء المثل والمبادئ الكلاسيكية، فإن محمدا الفاتح كان واحدا من أنصارها. فمكتبته التي لا يزال الكثير منها محفوظا في قصر الباب العالي (أو طوب قابي سراي) في إسطنبول، تفوقت على مثيلتها التي كانت في حوزة آل ميديتشي وسفورزا في إيطاليا، واحتوت مكتبته نسخا من جغرافيا بطليموس، وإلياذة هوميروس، وغيرها من النصوص الإغريقية والعبرية والعربية. لقد كان يقارن صراحة إنجازاته الإمبراطورية بإنجازات الإسكندر الأكبر، وكان يرى نفسه قيصرا جديدا، يتمتع بالقدرة على غزو روما، وتوحيد الديانات الكتابية الكبرى الثلاث: المسيحية والإسلام واليهودية.
على غرار العديد من قادة عصر النهضة الآخرين ممن لهم تطلعات إلى السلطة الإمبراطورية، استخدم محمد الفاتح العلم والفن والهندسة المعمارية ليزيد من مطالباته بسلطة سياسية مطلقة. فشرع في تنفيذ برنامج طموح للبناء تضمن إعادة التجار اليهود والمسيحيين والحرفيين ليسكنوا في المدينة، وأسس البازار الكبير الذي رسخ المكانة الرفيعة للمدينة كمركز تجارة دولي، كما غير اسم المدينة إلى إسطنبول، وقام بتجديد كنيسة آيا صوفيا، وحولها إلى أول مسجد سلطاني بالمدينة، وفي الوقت نفسه تعاقد مع مهندسين معماريين إيطاليين للمساعدة في بناء قصره الإمبراطوري الجديد، قصر الباب العالي. وكان الأسلوب المعماري الدولي الجديد - الذي كان قائما على الأنماط الكلاسيكية والإسلامية والإيطالية المعاصرة - يهدف إلى إنتاج ما أطلق عليه معلق عثماني «قصر يتفوق على ما دونه من القصور، ويكون أكثر روعة من جميع القصور السابقة من حيث المظهر والحجم والتكلفة والجمال». وسيصبح هذا الطراز العالمي الذي ولد في عصر النهضة محل تقدير لدى كل من المسلمين والمسيحيين على حد سواء، وهو ما أكده سفير فينيسيا، الذي أشاد بقصر الباب العالي باعتباره «القصر الأكثر جمالا، والأكثر تنعما بوسائل الراحة، والأكثر إعجازا في العالم». وعلى غرار الكثير من المباني والأعمال الفنية في عصر النهضة، كان قصر الباب العالي عملا إبداعيا أصيلا، ورمزا سياسيا من الطراز الأول في الوقت نفسه. ولا يمكن فصل الدافعين بعضهما عن بعض، فقد كانت تلك هي السمة المميزة لعصر النهضة.
لقد حفز ذلك التسابق الدولي بين الدول والإمبراطوريات الشرقية الغربية جيلا جديدا كاملا من المفكرين والكتاب والفنانين في عصر النهضة. وقدم العديد منهم خدماتهم لمحمد الفاتح، بما في ذلك الرسام الفينيسي جنتيلي بيليني الذي رسم صورة لمحمد الفاتح لا تزال معلقة في المتحف الوطني في لندن. وقد عاد بيليني إلى فينيسيا محملا بالهدايا من محمد الفاتح، و«سلسلة مشغولة على الطريقة التركية، تساوي في الوزن 250 كراونا من الذهب». وفي لوحة «القديس مرقص يعظ في الإسكندرية»، عند سفح منبر القديس مرقص رسم جنتيلي بيليني نفسه، حيث تدلت حول عنقه السلسلة التي أهداها له محمد الفاتح. لقد عرض بيليني بفخر ثمار رعاية محمد الفاتح له، واستخدم خبراته في إسطنبول ليضيف تفاصيل مميزة لتصويره للإسكندرية.
وسرعان ما أثر هذا التبادل على أسلوب ما نسميه الآن بفن عصر النهضة. فعندما ذهب الفنان الإيطالي كوستانزو دا مويسيز أيضا إلى إسطنبول للعمل لدى محمد الفاتح، استلهم لوحاته ورسوماته من التقاليد الفنية لكل من الفن الفارسي والفن العثماني. وما الرسم الذي تم تنفيذه بالقلم وألوان الجواش بعنوان «الكاتب الجالس» - والذي ينسب إلى كوستانزو - إلا دراسة عميقة لكاتب عثماني، وقد اكتمل الرسم بنقش لكلمات فارسية في الزاوية اليمنى العليا منه. وإن استخدام ألوان زاهية مسطحة، والعناية بأدق التفاصيل في الجلسة والملبس والتصميم، يظهر مدى استيعاب كوستانزو للمبادئ المختلفة للأساليب الفنية الصينية والفارسية والعثمانية. ويمكن ملاحظة التأثير المتبادل في كلا الاتجاهين في نسخة رائعة من رسم كوستانزو تنسب إلى الفنان الفارسي بهزاد الذي عاش في القرن الخامس عشر، والتي تحمل عنوان «بورتريه لرسام في زي تركي»، والتي رسمت بعد عدة سنوات من رسم كوستانزو. لقد تعلم بهزاد من الفنان الإيطالي المعاصر له، ولكنه غير بمهارة شخصية الكاتب إلى رسام، والذي يصوره وهو يعمل على نوع التصوير الفني الإسلامي الذي نسخه كوستانزو في الأساس. لقد استلهم كل فنان منهما عمله من الابتكارات الجمالية للفنان الآخر، مما يجعل من المستحيل الفصل في أي اللوحتين تحديدا «غربية»، وأيهما «شرقية».
شكل 1-2: رائعة كوستانزو دا مويسيز: «الكاتب الجالس».
2
جاء صعود السلطان سليمان القانوني على العرش عام 1520 ليكثف التبادل الفني والدبلوماسي. فقد استجلب سليمان المفروشات الفاخرة التي من صنع النساجين الفلمنكيين، والمجوهرات والتاج الإمبراطوري من صائغي المشغولات الذهبية في فينيسيا، والتي كان يرتديها عندما فرض الحصار على فيينا في 1532، وكلف المهندس المعماري العثماني العظيم معمار كوكا سنان لبناء سلسلة من القصور والمساجد والجسور لمنافسة تلك التي لدى نظرائه الإيطاليين. فاستوحى سنان التصميمات من التقاليد المعمارية التركية الإسلامية، وكذلك التراث البيزنطي الذي قدمته كنيسة آيا صوفيا العظيمة لبناء سلسلة من المساجد في إسطنبول، بمخططات مركزية مقببة في أوائل القرن السادس عشر. وعندما عين البابا يوليوس الثاني المهندسين المعماريين دوناتو برامانتي، ولاحقا مايكل أنجلو من أجل إعادة بناء كنيسة القديس بطرس في روما، استلهما تصميماتهما من تصميم آيا صوفيا ذات القباب النصفية وأبراج المنارات، وكذاك من المساجد والقصور التي صممها سنان. لقد كان المهندسون المعماريون العثمانيون والإيطاليون يتنافسون من أجل إعادة بناء المدن الإمبراطورية اعتمادا على تقاليد فكرية وجمالية مشتركة.
شكل 1-3: القطعة الفنية الفارسية الرائعة لبهزاد «بورتريه لرسام».
3
ما تشير إليه هذه المبادلات والمنافسات هو أنه لم تكن هناك حواجز جغرافية أو سياسية واضحة بين الشرق والغرب في عصر النهضة. ولقد كان ذلك الاعتقاد الذي ظهر في القرن التاسع عشر بالفصل الثقافي والسياسي المطلق بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي هو ما طمس التبادل السهل للتجارة والأفكار بين هاتين الثقافتين. لقد انغمس الجانبان في كثير من الأحيان في صراعات دينية وعسكرية مع بعضهما البعض، ومع ذلك فقد استمر التبادل المادي والتجاري بينهما، رغم تلك الصراعات، وتمخض عن بيئة خصبة للإنجازات الثقافية في كلا الجانبين. كما أدى تراثهم الثقافي المشترك من الماضي الكلاسيكي التنافسي إلى تحقيق إنجازات جديدة نقول عنها الآن عصر النهضة.
رياح التغيير
بدلا من قطع التواصل الثقافي بين الشرق والغرب، قامت الإمبراطورية العثمانية فور السيطرة على القسطنطينية بفرض ضريبة على هذه المبادلات. فقد فرضت السلطات العثمانية ضريبة على طرق التجارة البرية إلى بلاد فارس وآسيا الوسطى والصين، لكن هذا أدى إلى إيجاد وسائل جديدة لممارسة الأعمال التجارية. فقد حفز انتهاء حرب المائة عام تبادلا تجاريا أكبر بين شمال وجنوب أوروبا، مما تمخض عنه زيادة الطلب على السلع غير العادية من الشرق. وهذا بدوره أدى إلى زيادة حجم التبادل التجاري، كما أدى إلى سعي الدول الأوروبية المسيحية لإيجاد طرق للتحايل على الرسوم الجمركية الباهظة. وكان ثمن معظم البضائع الشرقية يسدد بسبائك الذهب والفضة الأوروبية. وعندما بدأت المناجم في وسط أوروبا في النضوب وبدأت التعريفات الجمركية في الازدياد، ظهرت الحاجة لمصادر جديدة للعائدات؛ وقد أدى هذا مباشرة إلى زيادة الاستكشاف الجغرافي والاكتشافات.
لعدة قرون، كان الذهب ينتقل إلى أوروبا عبر شمال أفريقيا وطرق القوافل عبر الصحراء الكبرى. فكان الذهب المستخرج من المناجم في السودان ينقل على طول هذه الطرق إلى تونس والقاهرة والإسكندرية، حيث كان يبادله التجار الإيطاليون بالسلع الأوروبية. ومن بداية القرن الخامس عشر أدركت الإمبراطورية البرتغالية والتجار أن السفر بالطرق البحرية على طول الساحل الأفريقي يمكن أن يوصلهم إلى أسواق الذهب والتوابل في مصادرها الأصلية، مع تجنب الضرائب المفروضة على طرق التجارة البرية خلال الأراضي العثمانية . وقد تطلب مثل هذا المشروع الطموح تنظيما ورأس مال. وبحلول منتصف القرن الخامس عشر، كان التجار من ألمانيا وفلورنسا وجنوة وفينيسيا يسيرون رحلات بحرية برتغالية على طول ساحل غرب أفريقيا، ويقدمون نسبة مئوية من الأرباح للملك البرتغالي.
ومع ذلك، لم يكن الذهب وحده يتدفق عائدا مرة أخرى إلى أوروبا من خلال طرق التجارة الأفريقية. فأثناء السفر خلال مملكة زعيم يسمى بودوميل في جنوب السنغال، قام التاجر الفينيسي ألفيس كاداموستو بمقايضة سبعة خيول «كلفتني كلها 300 عملة ذهبية» - على حد قوله - بمائة من العبيد. كانت هذه الصفقة مربحة للتاجر الفينيسي، على أساس سعر صرف مقبول قدره من 9 إلى 14 عبدا لكل حصان (وتشير التقديرات إلى أنه في ذلك الوقت كان يعيش في فينيسيا أكثر من 3000 من العبيد). وكتب كاداموستو في عام 1446، أنه من المقدر أن 1000 من العبيد يتم شحنهم من منطقة أرجين كل عام. فكانوا ينقلون إلى لشبونة ليتم بيعهم في جميع أنحاء أوروبا. وكانت هذه التجارة تمثل واحدا من أسوأ جوانب عصر النهضة الأوروبية، وشكلت بداية تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي التي ستجلب البؤس والمعاناة للملايين من الأفارقة خلال القرون اللاحقة. ومن الضروري أن نلاحظ كيف أن الاقتصادات التي مولت الإنجازات الثقافية الكبرى في عصر النهضة كانت تتربح من هذه التجارة غير الأخلاقية في الأرواح البشرية.
شكل 1-4: أول نموذج حديث للكرة الأرضية، صنع في نورمبرج في عام 1492 على يد التاجر الألماني مارتن بيهايم عقب عودته من غرب أفريقيا.
4
شكل 1-5: ملاحة برتغالية-بينية صممها رحالة برتغاليون في وقت مبكر من القرن السادس عشر، ونحتها حرفيون أفارقة. والنتيجة عمل فني جديد تماما في عصر النهضة.
5
كان للواردات الأفريقية، من ذهب وفلفل وقماش وعبيد، التي تدفقت إلى أوروبا - جنبا إلى جنب مع البضائع المستوردة من الشرق - أثرها في غرس بذور التفاهم العالمي في أوائل العصر الحديث. ففي عام 1492، عشية رحلة كولومبوس الأولى إلى العالم الجديد، ابتكر تاجر القماش الألماني مارتن بيهايم شيئا جسد اندماج الاقتصاد العالمي مع الابتكار الفني الذي أصبح سمة متزايدة لذلك الوقت ؛ وكان هذا الشيء هو أول مجسم معروف للكرة الأرضية. واحتوت كرة بيهايم على أسماء أكثر من 1100 من الأماكن، وعلى أكثر من 48 تمثيلا مصغرا للملوك والحكام، كما احتوت أيضا على بعض الأساطير التي تصف البضائع والممارسات التجارية وطرق التجارة. وقد كانت هذه الكرة هي الخريطة التجارية للعالم في عصر النهضة، والتي صنعها شخص كان تاجرا وجغرافيا. وقد سجل بيهايم تجاربه التجارية الخاصة في غرب أفريقيا بين عامي 1482 و1484، وأعطت تلك التجارب بعض المؤشرات على دوافعه للقيام بتلك الرحلات. فقد أبحر «مع مختلف السلع والبضائع للبيع والمقايضة»، بما في ذلك الخيول «لتقديمها الى الملوك المغاربة»، وكذلك «أمثلة مختلفة من التوابل لعرضها على الأندلسيين لكي يفهموا ما نريد من بلادهم». وكانت التوابل والذهب والعبيد هي السلع الأساسية التي قامت عليها نشأة أول صورة عالمية حقيقية للعالم في عصر النهضة.
لم تكن مثل هذه التأثيرات الثقافية والتجارية في اتجاه واحد فقط؛ فقد أشار مؤرخ برتغالي إلى أنه «كان الرجال في سيراليون شديدي الذكاء، وكانوا يصنعون أشياء جميلة للغاية مثل الملاعق والملاحات ومقابض الخناجر»، وهذه إشارة مباشرة إلى «الأعمال العاجية الأفروبرتغالية»، وكانت هذه الأعمال الفنية التي نحتها فنانون أفارقة من سيراليون ونيجيريا، تدمج الأسلوب الأفريقي مع التصميمات الأوروبية لإنشاء أغراض هجينة فريدة من نوعها لكل من الثقافتين. وكانت الملاحات وأبواق الصيد بصفة خاصة أمثلة شائعة لهذه المنحوتات، وكانت تمتلكها شخصيات شهيرة مثل ألبريشت دورر، وعائلة ميديتشي. وإحدى الملاحات المذهلة بوجه خاص، والتي يرجع تاريخها إلى وقت مبكر من القرن السادس عشر، كانت تصور أربع شخصيات برتغالية يحملون سلة تبحر عليها سفينة برتغالية، ولإضافة لمسة من الفكاهة على النحت يظهر بحار من منصة المراقبة في السفينة. ومن الواضح أنه تم رسم تفاصيل الملابس والأسلحة وحبال الأشرعة بناء على مراقبة مفصلة، ولقاءات مع البحارة البرتغاليين. ويعتقد الباحثون أنه تم تصميم هذه المنحوتات للتصدير إلى أوروبا. وقد أثرت ملامح هذه المنحوتات المطرزة والمضفرة والملتوية برقة بشكل كبير في فن العمارة في البرتغال في القرن السادس عشر، حين بدأت البرتغال في تشييد معالم تذكارية تحتفي بقوتها التجارية في أفريقيا والشرق الأقصى.
هوامش
الفصل الثاني
نصوص الحركة الإنسانية
في نوفمبر عام 1466، وجد جورج من تريبيزوند - وهو أحد ألمع الباحثين الإنسانيين في القرن الخامس عشر - نفسه قابعا في أحد سجون روما بناء على أوامر البابا بولس الثاني. منذ وصول جورج إلى فينيسيا كباحث يتحدث اللغة اليونانية قبل 50 عاما، كان قد أثبت مكانته كممارس بارع للفنون الفكرية والتعليمية الجديدة في ذلك العصر، مستوحيا أفكاره من المؤلفين الكلاسيكيين من اليونان وروما. وسرعان ما سطع نجم جورج - مستخدما مهاراته في اللغتين اليونانية واللاتينية - بنشر كتب دراسية عن علم البلاغة والمنطق، علاوة على شروحات وترجمات لمؤلفات أرسطو وأفلاطون.
وبحلول عام 1450، كان جورج قد أصبح سكرتيرا باباويا، ومحاضرا بارزا في منهج الإنسانيات الجديد المشهور باسم الدراسات الإنسانية، وذلك في ستوديو رومانو تحت رعاية البابا نيكولاس الخامس. ولكن بدأ الباحثون الأصغر سنا في مجال الإنسانيات في نقد ترجمات جورج. وفي عام 1465، توجه جورج إلى عاصمة محمد الفاتح الجديدة إسطنبول؛ القسطنطينية فيما سبق. ونظرا لأن جورج كان على دراية باهتمامات محمد الفاتح الدراسية، فقد كتب مقدمة لعالم الجغرافيا اليوناني الكلاسيكي بطليموس وأهداها إلى السلطان، «معتقدا أنه لا شيء أفضل في الحياة الحالية من خدمة ملك حكيم، وإنسان يتفلسف بخصوص المسائل الكبرى». كما أهدى جورج مقارنته بين أرسطو وأفلاطون إلى السلطان، وعاد إلى روما لصياغة سلسلة من الخطابات إلى محمد الفاتح، زاعما أنه «لم يشهد التاريخ من قبل ولن يشهد إنسانا آخر منحه الله فرصة أعظم للسيطرة المنفردة على العالم». وفي خطاباته وإهداءاته البلاغية المؤثرة، كان من الواضح أن جورج يرى محمدا الفاتح راعيا مناسبا لمهاراته الأكاديمية. وبمجرد أن علم البابا بمغازلة جورج الفكرية للسلطان، لم يرق له ذلك وقام بسجنه. لكن مدة سجنه كانت وجيزة، وبعد مهمة محددة له في بودابست عاد جورج إلى روما ليجد كتبه عن البلاغة والجدل تنتعش من جديد نتيجة توزيعها عبر اختراع جديد: ألا وهو آلة الطباعة.
يتناول هذا الفصل ظهور أحد أكثر المصطلحات الفلسفية تعقيدا وإثارة للجدل؛ ألا وهو الحركة الإنسانية في عصر النهضة، وعلاقته الوثيقة بأحد أهم التطورات التكنولوجية في العالم قبل الحديث؛ اختراع آلة الطباعة. كان الشيء الذي وحد بين هذين التطورين هو الكتب. ففي بداية القرن الخامس عشر، كانت معرفة القراءة والكتابة والإلمام بالكتب حكرا على صفوة عالمية ضئيلة مركزة في المراكز الحضرية مثل القسطنطينية وبغداد وروما وفينيسيا. وبنهاية القرن السادس عشر، أحدثت الحركة الإنسانية وآلة الطباعة ثورة في تصورات الصفوة وعامة الناس بخصوص القراءة والكتابة ومكانة المعرفة المنقولة من خلال الكتب المطبوعة، والتي صارت مركزة بدرجة أكثر حصرية في شمال أوروبا.
تمتد سيرة حياة جورج من تريبيزوند على مدار فترة حاسمة بالنسبة لكل من النظريات الفكرية وتاريخ الكتب. ففي ذلك الوقت، طور جيل كامل من المثقفين طريقة جديدة للتعلم مأخوذة عن المؤلفين الكلاسيكيين الإغريق والرومان، يطلق عليها الدراسات الإنسانية. وأطلق هؤلاء الباحثون على أنفسهم «الإنسانيون»، واشتركوا في مهمة هائلة لفهم وترجمة ونشر وتعليم نصوص الماضي كوسيلة لفهم وتغيير حاضرهم. وبالتدريج حلت الحركة الإنسانية في عصر النهضة مكان التقليد الدراسي في العصور الوسطى الذي انبثقت منه. وبطريقة منظمة، عززت دراسة الأعمال الكلاسيكية بصفتها مفتاح خلق الفرد الناجح المهذب المتحضر، الذي استخدم هذه المهارات للنجاح في سياق عالم الحياة اليومية في السياسة والتجارة والدين.
يكمن نجاح الحركة الإنسانية في زعمها بتقديم أمرين لأتباعها: الأول هو أنها عززت الاعتقاد القائل بأن التفوق في الكلاسيكيات يجعلك إنسانا أفضل وأكثر «إنسانية»، وقادرا على التفكير في المشكلات المعنوية والأخلاقية التي كان يواجهها الفرد فيما يتعلق بعالمه الاجتماعي. أما الأمر الثاني فهو أنها أقنعت الطلاب والموظفين بأن دراسة النصوص الكلاسيكية قدمت المهارات العملية المطلوبة لمهنة مستقبلية، مثل السفير أو المحامي أو الكاهن أو السكرتير، في إطار طبقات من الإدارة البيروقراطية، التي بدأت في الظهور في أوروبا خلال القرن الخامس عشر. وكان ينظر إلى التدريب في الترجمة وكتابة الخطابات والخطابة العامة على يد الإنسانيين باعتباره تعليما رائجا بدرجة عالية بالنسبة لمن أرادوا الانضمام إلى طبقات الصفوة الاجتماعية .
يبدو هذا منفصلا بدرجة كبيرة عن الصورة الرومانسية المثالية عن الإنسانيين الذين ينقذون كتب الثقافة الكلاسيكية العظيمة، ويستلهمون حكمتهم في خلق مجتمع متمدن، لكن هذه هي الحقيقة. فالحركة الإنسانية في عصر النهضة كان لها هدف براجماتي يتمثل في توفير إطار عمل للتقدم المهني، ولا سيما إعداد الرجال للحكم. ويرتكز تعليم الإنسانيات الحديثة على النموذج نفسه (المصطلح نفسه مشتق من التعبير اللاتيني: الدراسات الإنسانية). فهو يعد بنفس الفوائد، ويحتفظ بالعيوب نفسها - وإن كان هذا محل جدل. فيعتمد على افتراض أن الدراسة غير المهنية للفنون الحرة تجعلك شخصا أكثر تحضرا، وتمنحك المهارات اللغوية والبلاغية المطلوبة للنجاح في بيئة العمل. ولكن تظل هناك توترات كامنة في هذا الافتراض، وهي توترات يمكن تعقب آثارها إلى الحركة الإنسانية في عصر النهضة.
يمكن تتبع الكثير من هذه الصراعات في الحياة المهنية لجورج من تريبيزوند؛ إذ إنها تكشف أن تطور الحركة الإنسانية في عصر النهضة كان مهمة عملية شاقة فكريا، تتضمن فحص النصوص الكلاسيكية وترجمتها وتحريرها ونشرها وتعليمها. ويوحي دمج جورج لمجالات الكتابة والترجمة والتعليم بأن نجاح الحركة الإنسانية كان يتحقق بصفة أساسية في إطار الفصول الدراسية كإعداد عملي للتوظيف. وأدخلت مناهج وأساليب جديدة لتدريس المهارات المطلوبة من التعليم الإنساني، والتي تتطلب براعة فائقة. لقد كانت الحركة الإنسانية تعتمد على خلق مجتمع أكاديمي لتدريس ونشر أفكارها، ولكن أعضاءها كانوا يتصارعون كذلك حول طبيعة تطور الحركة الإنسانية واتجاهها؛ مما أدى إلى النزاعات القاسية والتنافسات المريرة التي عانى منها جورج، والتي عرضت حياته المهنية للخطر. وقامت الحركة الإنسانية بتسويق مهاراتها للصفوة الحاكمة التي تم إقناعها بتقدير الخبرة اللغوية والبلاغية والإدارية التي كان يوفرها التعليم الإنساني.
ومع ذلك، كان هذا الترويج للحركة الإنسانية يواجه غالبا المشكلات، مثلما اكتشف جورج أثناء محاولته تحويل ولائه الفكري ومهاراته الإنسانية من راع ذي نفوذ (البابا بولس الثاني) إلى آخر (محمد الفاتح). ونتيجة ذلك، ركزت الحركة الإنسانية جهودها على نشر طريقتها من خلال الفصول الدراسية، والوسيلة الثورية المتمثلة في آلة الطباعة. فقد أتاح التحالف بين الطباعة والحركة الإنسانية للباحثين توزيع نسخ موحدة لمطبوعاتهم بأعداد هائلة تفوق بكثير الإمكانات الإنتاجية لنسخ المخطوطات. وتمثل تأثير هذا الاتحاد في نهضة لاحقة في معرفة القراءة والكتابة وفي المدارس، مما تمخض عنه تأكيد غير مسبوق على التعليم كأداة للحياة المجتمعية.
محترفو الإقناع
تبدأ قصة الحركة الإنسانية في عصر النهضة بالكاتب والباحث الإيطالي في القرن الرابع عشر بيترارك. كان بيترارك وثيق الصلة بالمقر البابوي في أفينيون في فرنسا حيث كان والده يعمل موثقا عاما - وهو باحث ماهر في فن إدارة المجموعة الهائلة من الوثائق الصادرة عن الشئون الباباوية. وقد اعتمد بيترارك على هذه التقاليد الدراسية في اهتمامه بالسمات البلاغية والأسلوبية الخاصة بمجموعة من الكتاب الرومان الكلاسيكيين المهملين، لا سيما شيشرون وليفي وفيرجيل. وبدأ يجمع نصوصا مثل كتاب ليفي «تاريخ روما»، ويقارن أجزاء من مخطوطات مختلفة، ويصحح الأخطاء اللغوية، ويحاكي أسلوبها في كتابة صيغة للغة اللاتينية أكثر طلاقة من الناحية اللغوية، وأكثر إقناعا من الناحية البلاغية.
كما كان بيترارك يقلب المكتبات والأديرة بحثا عن النصوص الكلاسيكية، وفي عام 1333، اكتشف مخطوطة خطبة للسياسي والخطيب الروماني شيشرون، عنوانها «خطبة إلى أرخياس»، وكانت تناقش فضائل «الدراسات الإنسانية». وصف بيترارك الخطبة بأنها «مليئة بالإطراءات الرائعة للشعراء». وكان شيشرون شخصية حاسمة بالنسبة لبيترارك، وبالنسبة للتطور اللاحق للحركة الإنسانية؛ لأنه قدم طريقة جديدة للتفكير بخصوص كيفية دمج الفرد المثقف للجانب الفلسفي والتأملي للحياة مع بعدها الأكثر نشاطا وعمومية. وفي نصه الشهير الذي يحمل عنوان «عن الخطيب»، طرح شيشرون هذه المشكلة بمقارنة البلاغة والخطابة من ناحية، والفلسفة من ناحية أخرى. إذ يرى شيشرون أن «فن الخطابة بأكمله متاح للدراسة، ويهتم إلى حد ما بالممارسات والعادات والأحاديث العامة للجنس البشري». أما الفلسفة، من الناحية الأخرى، فتتضمن التأمل الخاص بعيدا «عن الاهتمامات العامة»، وتكون في الواقع منفصلة «عن أي نوع من الأعمال». وقد استخدم بيترارك التمييز بين العلمين الذي أوضحه شيشرون في أطروحته «الحياة المنعزلة» في مناقشته لدور الفيلسوف ودور الخطيب:
إن تنوع أسلوب الفلاسفة في الحياة والغايات المتعارضة تماما التي يعملون من أجلها، تجعلني أومن أنهم دائما ما كانوا يفكرون بصورة مختلفة عن الخطباء. فجهود الخطباء موجهة ناحية الحصول على استحسان الجمهور، أما الفلاسفة فيجاهدون - إن لم تكن تصريحاتهم زائفة - لمعرفة أنفسهم، وإعادة الروح إلى نفسها، واحتقار المجد الأجوف.
كان مخطط الحركة الإنسانية لبيترارك كما يلي: توحيد السعي الفلسفي للحقيقة الفردية، والقدرة العملية على العمل بفعالية في المجتمع من خلال استخدام البلاغة والإقناع. وللحصول على التوازن المثالي، يحتاج الفرد المتحضر إلى تدريب صارم في علوم الدراسات الإنسانية؛ أي قواعد اللغة والبلاغة والشعر والتاريخ والفلسفة الأخلاقية.
كان هذا منطقا عبقريا منح الإنسانيين الأوائل قوة وهيبة أعظم من تلك التي تمتع بها أسلافهم من الباحثين. كانت الفلسفة المدرسية (السكولاستية) في العصور الوسطى تدرب الطلاب على اللغة اللاتينية وعلى كتابة الخطابات والفلسفة، لكن معلميها ومفكريها كانوا تابعين للسلطات (أي الكنيسة في المعتاد) التي كانوا يعملون لصالحها. وقد منح تعريف شيشرون للإنساني المتحضر - أنه ذلك الإنسان القادر على التفلسف في الأمور الإنسانية، بينما يقوم أيضا بتدريب الصفوة على مهارات الخطابة العامة والإقناع - الحركة الإنسانية وممارسيها استقلالية أكبر «لبيع» أفكارهم للمؤسسات الاجتماعية والسياسية. ومع ذلك، لم تكن الحركة الإنسانية حركة سياسية صريحة مطلقا، وذلك على الرغم من أن بعض ممارسيها كانوا سعداء للغاية بالسماح للأيديولوجيات السياسية بتبني نهجها حيثما وأينما كان ذلك مفيدا. فقد وصف الإنسانيون أنفسهم بأنهم خطباء وعلماء بلاغة ومعلمو أسلوب، وليسوا ساسة. وغالبا ما يكون من الخطأ دراسة موضوع الكتابات الإنسانية بقيمته الظاهرية فحسب؛ فمثل هذه الكتابات كانت تدريبات رسمية راقية في الأسلوب والبلاغة، وكانت تحتفي غالبا بالدفاع الجدلي في صالح وضد موضوع معين. ويكمن انتصار الحركة الإنسانية في قدرتها على استخدام مهاراتها في البلاغة والخطابة والجدل لإقناع مجموعة من الرعاة السياسيين المحتملين بفائدة خدماتها، سواء أكانوا جمهوريين أم ملكيين.
عودة إلى لوحة الرسم
بحلول منتصف القرن الخامس عشر، كانت ممارسة الحركة الإنسانية تنتشر في المدارس والجامعات والبلاط الملكي. وقد رفع تأكيدها على البلاغة واللغة من مكانة الكتاب كأداة مادية وفكرية. وكانت مراجعات الحركة الإنسانية، بخصوص كيفية الحديث والترجمة والقراءة وحتى كتابة اللغة اللاتينية، تركز بالإجماع على الكتاب بصفته الأداة المثالية المحمولة التي يمكن من خلالها نشر هذه الأفكار. ولكن كيف كانت هذه المثل الإنسانية تعمل في مجال الممارسة العملية؟ يظهر أحد الأمثلة الواضحة بصفة خاصة على الفجوة بين نظرية الحركة الإنسانية وممارستها في الفصول الدراسية من الحياة المهنية لأحد أكثر المعلمين الإنسانيين احتراما؛ وهو جوارينو جواريني من فيرونا (1374-1460). كان جوارينو موظفا لدى عائلة إيستي في فيرارا، حيث كان يحاضر بصفته أستاذا للبلاغة منذ عام 1436.
وكان نجاح جوارينو كمعلم يعتمد على قدرته على أن يروج لتلاميذه ولرعاته رؤية عن التعليم الإنساني، الذي يدمج ما بين القيم الإنسانية المتحضرة والمهارات الاجتماعية العملية الضرورية للتقدم الاجتماعي. وفي إحدى المحاضرات الافتتاحية حول شيشرون، سأل جوارينو:
هل هناك هدف أفضل لأفكارنا وجهودنا من الفنون والمبادئ والدراسات التي نصل بها إلى القدرة على إرشاد أنفسنا وعائلاتنا ومراكزنا السياسية وتنظيمها والتحكم فيها [؟] ... ولهذا استمروا كما بدأتم أيها الشباب والسادة العظماء، واعملوا على هذه الدراسات التي بدأها شيشرون، والتي تملأ مدينتنا بالأمل الراسخ فيكم، والتي تجلب لكم الشرف والسعادة.
هذه الرؤية نشرتها مجموعة من المعلمين والباحثين المدربين على فن البلاغة والإقناع؛ ولا عجب في أنها حازت القبول بسهولة في زمانها، ولا تزال تؤثر في طلبة العلوم الإنسانية اليوم.
ومع ذلك، لم ينتج فصل جوارينو الدراسي بالضرورة مواطني الصفوة من الإنسانيين كما وعد. فقد كان تعليمه يتضمن استغراقا شديدا في قواعد اللغة والبلاغة، استنادا إلى تسجيل الملاحظات بإتقان واستظهار النصوص والتكرار الشفوي والمحاكاة البلاغية في دائرة لانهائية فيما يبدو من التدريبات الأساسية. ولم يكن هناك متسع من الوقت للمزيد من التأمل الفلسفي في طبيعة النصوص قيد التحليل، وتكشف ملاحظات التلاميذ في المحاضرات عن استيعاب أساسي وحسب للطرق الجديدة في التحدث والكتابة التي كان الإنسانيون مثل جوارينو يرون أنها أساس التعليم الإنساني. وهذه الدروس الأولية في اللغة والبلاغة أعدت التلاميذ لتولي الوظائف في المناصب القانونية والسياسية والدينية، رغم أن هذا كان بعيدا للغاية عن المستويات الراقية التي وعد بها جوارينو في محاضراته الافتتاحية.
كانت طرق جوارينو تسر رعاته السياسيين؛ فالتعليم القائم على التكرار في الأمور الدقيقة من القواعد كان يزرع السلبية والطاعة والانصياع في الطلاب. وعندما يفشل هذا، يتم تطبيق التأديب والتقويم بصورة روتينية. كما شجع جوارينو على التبعية لسياسات الصفوة الحاكمة، سواء أكانوا جمهوريين أم ملكيين (كما في حالة راعيه: عائلة إيستي):
مهما كان قرار الحاكم ينبغي قبوله بعقل هادئ وسعادة؛ لأن من باستطاعتهم هذا يكونون محبوبين لدى الحكام، ويتمتعون بالرفاهية هم وأقرباؤهم، وينالون تقديرا بأرقى المنازل.
بالنسبة لمعظم طلاب الحركة الإنسانية، كانت التأكيدات البلاغية للحركة الإنسانية بخصوص مفهوم جديد عن الفرد تؤدي في الواقع إلى التوظيف في هيئات الطبقة البيروقراطية الناشئة. وكان جوارينو يضمن أن الإذعان السياسي يتوافق مع المهارات العملية المطلوبة لمثل هذه المناصب. وكان هذا يضمن الرعاية المستمرة من جانب الصفوة للمدارس والجامعات التي تنشر مثل الحركة الإنسانية.
مكان المرأة هو بيت مؤيد الحركة الإنسانية
ربما يتوقع من لغة الحركة الإنسانية أن من شأنها تقديم فرص فكرية واجتماعية جديدة للنساء. لكن علاقة الحركة الإنسانية بالنساء كانت أكثر تناقضا؛ ففي أطروحة ليون باتيستا ألبيرتي التي تحمل عنوان «عن العائلة» (1444)، عرف رؤية مؤيد الحركة الإنسانية عن البيت الذي يملكه الرجال وتديره النساء كما يلي:
شئون البيت الصغرى أتركها لرعاية زوجتي ... فبالكاد سننال الاحترام لو أننا تركنا زوجاتنا تشغلن أنفسهن وسط الرجال في السوق أمام أعين الناس. كما يبدو من المهين إلى حد ما بالنسبة لي البقاء ساكتا في البيت بين النساء، عندما تكون لدي شئون ذكورية أقوم بها وسط الرجال والإخوة المواطنين، والأجانب من ذوي الشأن الرفيع.
إن ذلك الرجل البليغ خارج البيت يقف على طرف النقيض مع زوجته الصامتة داخل البيت، والتي تبقى «محبوسة في البيت». فتدريبها الوحيد يكمن في إدارة البيت، ولضمان محافظة الزوجة الناجحة على البيت، فإن الزوج يكشف كل محتوياته لها مع استثناء واحد، «كتبي وسجلاتي» فقط تبقى محفوظة في مكان آمن، و«هذه ليس فقط لا تستطيع زوجتي قراءتها، وإنما لا تستطيع حتى أن تضع يدها عليها». وقد أبدى ألبيرتي القلق من فكرة وجود «نساء جريئات ومقدمات يحاولن بجد شديد معرفة الأشياء خارج البيت، ومعرفة اهتمامات أزواجهن، واهتمامات الرجال بصفة عامة».
وقد أثر موقف ألبيرتي على ردود فعل الإنسانيين على سيدات الصفوة اللائي تحدين دورهن المحدد، وسعين لأن يكون لهن رسالة في التعليم الإنساني. فلم يرفضوا تماما سعي النساء للتعلم، لكنهم كانوا مصممين على ألا يتجاوز الأمر هذا الحد. ففي خطاب كتب في عام 1405 تقريبا، حذر ليوناردو بروني - بحسب هانز بارون البطل العظيم للحركة الإنسانية المدنية - من أن دراسة النساء للهندسة والحساب والبلاغة أمر خطير؛ لأنه «لو أن المرأة حركت ذراعها أثناء الحديث، أو رفعت نبرة حديثها بقوة أكبر، فسوف تبدو مجنونة بصورة خطيرة، وسوف يتطلب الأمر كبح جماحها». فكان بإمكان النساء تعلم رعاية النباتات وقواعد الذوق واللياقة والمهارات المنزلية، لكن المهارة الرسمية في الموضوعات التطبيقية التي تؤدي إلى الظهور العام والمهني فلم يكن مرحبا بها.
رغم هذا العداء، حاولت بعض النساء المتعلمات الحصول بصعوبة على مهن أكاديمية. فقد أكدت الكاتبة الفرنسية كريستين دي بيزان في «كتاب مدينة السيدات» (1404-1405)، على أن «من يلومون النساء حسدا هم الرجال الأشرار الذين رأوا وأدركوا أن هناك نساء كثيرات يتمتعن بذكاء أكبر، وبسلوك أرقى منهم». وفي ثلاثينيات القرن الخامس عشر، ردت إيزوتا نوجارولا من فيرونا على الهجمات المتعلقة بثرثرة النساء باقتراح أن «النساء لسن يفقن الرجال في الثرثرة، ولكنهن في الواقع يتفوقن على الرجال في الفصاحة والفضيلة».
ومع ذلك، كانت ترد مثل هذه الهجمات في المنشورات وفي الأحاديث العامة باعتبارها أحداثا جديدة أكثر من كونها أنشطة مهنية. ففي عام 1438، افترى مؤلف كتيبات مجهول على إيزوتا لمحاولتها «التعبير عن رأيها»، وخلط بين معرفتها وبين العلاقات الجنسية المتعددة، قائلا باحتجاج باستخدام تورية جائرة: إن «المرأة طليقة اللسان لا تكون عفيفة على الإطلاق». وفور عبور المرأة الخط الفاصل بين مكانة التلميذة النجيبة إلى مكانة الخطيبة أمام جموع الجمهور، كان رد فعل أنصار الحركة الإنسانية إما معاقبتها لعدوانيتها الجنسية، أو إرباك وتسفيه الحوار الفكري للمرأة باعتباره مجرد تبادلات غزلية بين المحبين.
لم تخلق الحركة الإنسانية في عصر النهضة بالضرورة فرصا جديدة للنساء. لقد كانت تشجع تعليم المرأة كزينة اجتماعية، وكهدف في حد ذاته، وليس كوسيلة للخروج من البيت إلى ساحات الجماهير. وكان المعلمون والتلاميذ الإنسانيون من الذكور يجاهدون بشق الأنفس للحصول على مناصب مهنية ومكانة اجتماعية. فكان احتمال أن تحقق النساء هذا الحضور العام تهديدا واضحا، ومصدر إحراج محتمل، وأمرا لا يطاق بالنسبة للرجال. ومع ذلك، فإن فن خطابة الحركة الإنسانية في عصر النهضة قد أثنى على فضائل التعليم والفصاحة، وكلما كان الأمر ممكنا كانت النساء تحاول الاستفادة من الفرص التي تتيحها هذه التطورات. فإذا كانت النساء قد حظين بعصر نهضة، ففي الغالب كان هذا رغما عن إرادة نظرائهن من الذكور من الإنسانيين.
آلة الطباعة: ثورة في التواصل
في منتصف ستينيات القرن الخامس عشر، كتب ألبيرتي أنه «يطري بكل حماسة على المخترع الألماني الذي جعل من الممكن مؤخرا لثلاثة رجال أن ينتجوا أكثر من مائتي نسخة من نص أصلي معين في مائة يوم، وذلك من خلال صنع بصمات محددة للحروف، حيث تنتج كل ضغطة صفحة واحدة في تنسيق كبير». لقد كان اختراع الحروف المطبوعة المتحركة في ألمانيا في عام 1450 تقريبا أهم ابتكار تكنولوجي وثقافي في عصر النهضة. وسرعان ما أدركت الحركة الإنسانية الإمكانات العملية للاستفادة من وسيلة للإنتاج بالجملة، كما يشير ألبيرتي، لكن التأثير الثوري للطباعة كان في أبرز صوره في شمال أوروبا.
نشأ اختراع الطباعة من تعاون تجاري وتكنولوجي في مدينة ماينز في خمسينيات القرن الخامس عشر بين يوهان جوتنبرج، ويوهان فوست، وبيتر شوفر: كان جوتنبرج صائغا، وقد استخدم خبرته لصب الحروف المعدنية المتحركة للطباعة؛ وكان شوفر ناسخا وخطاطا، وقد استخدم مهاراته في نسخ المخطوطات لتصميم وتركيب وإعداد النص المطبوع؛ أما فوست فكان مصدر التمويل. وكانت عملية الطباعة عملية تعاونية، وكانت بصفة أساسية عملا تجاريا يديره المنظمون بهدف الربح. ومن خلال الاعتماد على الاختراعات الشرقية الأقدم المتمثلة في الكليشيهات الخشبية والورق، طبع جوتنبرج وفريقه كتابا مقدسا باللغة اللاتينية في عام 1455، وفي عام 1457 أصدر طبعة من سفر المزامير.
كان شوفر يعتبر أن الطباعة ببساطة هي «فن الكتابة اصطناعيا دون استخدام القصب أو القلم». وفي البداية، لم تحظ الوسيلة الجديدة بأهميتها الخاصة. فالكثير من الكتب المبكرة المطبوعة كانت تستخدم الناسخين المدربين في زخرفة المخطوطات لمحاكاة المظهر الفريد للمخطوطات. وتوحي الزخرفة الوافرة لهذه الكتب نصف المرسومة ونصف المطبوعة بأنها كانت بمثابة سلع ثمينة في حد ذاتها، وتحظى بتقدير شديد لمظهرها بقدر تقديرها لمحتواها. وقد استثمر الرعاة الأثرياء، مثل إيزابيلا من عائلة إيستي ومحمد الفاتح، في هذا النوع من الكتب المطبوعة الذي بقي إلى جانب مخطوطاتهما التقليدية.
وبحلول عام 1480، تم تأسيس المطابع بنجاح في كل المدن الرئيسية في ألمانيا وفرنسا وهولندا وإنجلترا وإسبانيا والمجر وبولندا. وبحلول عام 1500، أشارت التقديرات إلى أن هذه المطابع قد طبعت ما بين 6-15 مليون كتاب في 40 ألف طبعة مختلفة، وهو عدد أكبر من الكتب التي أنتجت منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية. كما أن الأرقام التي شهدها القرن السادس عشر كانت أكثر إثارة للدهشة: ففي إنجلترا وحدها طبعت 10 آلاف طبعة، ونشر على الأقل 150 مليون كتاب لسكان أوروبا الذين كان عددهم أقل من 80 مليون نسمة.
كانت نتيجة هذا التوزيع الضخم من المطبوعات اندلاع ثورة في المعرفة والتواصل أثرت على المجتمع بكافة شرائحه. فالسرعة والكمية التي كانت الكتب توزع بهما تشير إلى أن الطباعة خلقت مجموعات جديدة من القراء المتلهفين لاستهلاك المواد المتنوعة التي تخرجها المطابع. كما أن سهولة الوصول إلى الكتب المطبوعة وتكلفتها المنخفضة نسبيا كانت تعني أن عددا أكبر من الناس من أي وقت مضى صار بإمكانهم الوصول إلى الكتب. ولقد كانت الطباعة عملا مربحا. ومع ازدياد أعداد من يتحدثون ويكتبون باللغات العامية الأوروبية - أي الألمانية والفرنسية والإيطالية والإسبانية والإنجليزية - أصبحت المطابع تنشر بصورة متزايدة مؤلفات بهذه اللغات بدلا من اللاتينية واليونانية، اللتين كانتا تروقان لجمهور أقل . وبالتدريج، أصبحت هذه اللغات العامية لغات قياسية؛ فأصبحت الوسيلة الأساسية للتواصل القانوني والسياسي والأدبي في معظم الدول الأوروبية. أما وفرة الكتب المطبوعة بلغة الحياة اليومية فأسهم في صوغ صورة مجتمع قومي بين أولئك الذين يتشاركون لغة عامية واحدة. وقد أدى هذا في نهاية المطاف بالأفراد إلى أن يعرفوا أنفسهم بأنهم ينتمون إلى أمة بدلا من دين أو حاكم، وهو ما كان له نتائج عميقة بالنسبة للسلطة الدينية، وذلك مع تآكل السلطة المطلقة للكنيسة الكاثوليكية، وصعود نموذج أكثر علمانية من البروتستانتية.
تغلغلت الطباعة في كل جوانب الحياة العامة والخاصة. فقد كانت المطابع في البداية تصدر الكتب الدينية - كالكتاب المقدس وكتب الصلوات والعظات وكتب التعليم المسيحي - لكنها بالتدريج تحولت إلى إنتاج كتب دنيوية أكثر، مثل: الروايات الرومانسية، وقصص الرحلات، والكتيبات، والنشرات، وكتب السلوك التي تقدم النصائح بخصوص كل شيء؛ من الدواء إلى واجبات الزوجة. وبحلول ثلاثينيات القرن السادس عشر، كانت الكتيبات المطبوعة تباع بسعر رغيف الخبز، بينما كانت نسخة من العهد الجديد تكلف أجرة عامل في اليوم الواحد. وتدريجيا تحولت الثقافة القائمة على التواصل من خلال الاستماع والنظر والتحدث إلى ثقافة تتفاعل من خلال القراءة والكتابة. وبدلا من التركيز على القصور أو الكنائس، بدأت ثقافة أدبية في الظهور حول آلة الطباعة شبه المستقلة. وصار جدول أعمالها يتحدد من خلال الطلب والأرباح بدلا من الالتزام بالقواعد الدينية أو الأيديولوجية السياسية. لقد حولت دور الطباعة الإبداع الفكري والثقافي إلى مغامرة تعاونية؛ حيث كان أصحاب المطابع والتجار والمعلمون والناسخون والمترجمون والفنانون والكتاب؛ يساهمون بمهاراتهم ومواردهم في خلق المنتج النهائي. وشبه أحد مؤرخي الطباعة مطبعة ألدوس مانوتيوس الفينيسية، التي تعود إلى أواخر القرن الخامس عشر، بمصنع للعمل الشاق ومأوى ومعهد أبحاث معا. فقد خلقت المطابع، مثل مطبعة مانوتيوس، مجتمعا عالميا من أصحاب المطابع والممولين والكتاب، مع ظهور فرص للتوسع في أسواق جديدة.
كما غيرت الطباعة كذلك طريقة فهم ونقل المعرفة نفسها. فالمخطوطة وسيلة فريدة وغير قابلة لإعادة الإنتاج، لكن الطباعة - بما تتمتع به من تنسيق ونوع قياسيين - قدمت إمكانية إعادة الإنتاج المطابق بأعداد هائلة. وكان هذا يعني أن اثنين من القراء تفصلهما مسافات هائلة، يمكنهما مناقشة ومقارنة كتب متطابقة وصولا إلى كلمة معينة في صفحة محددة. ومع إدخال تقنيات ترقيم الصفحات المتناسق والفهارس والترتيب الأبجدي والببليوجرافيا (التي كانت جميعها أمورا غير واردة في المخطوطات)، كانت المعرفة نفسها تقدم في شكل جديد ببطء. فأصبحت الثقافة النصية علما تراكميا، فيما صار بإمكان الدارسين جمع مخطوطات كتاب «السياسات» الذي كتبه أرسطو - مثلا - وإصدار طبعة معيارية موثوقة قائمة على مقارنة لكل النسخ المتاحة. وقد أدى هذا إلى نشأة ظاهرة الطبعات الجديدة والمنقحة. فقد أدرك الناشرون إمكانية دمج الاكتشافات والتصحيحات في الأعمال المجمعة لأحد المؤلفين؛ وعلاوة على أن هذا كان صارما من الناحية الفكرية، فإنه كان أيضا مربحا للغاية من الناحية التجارية، حيث كان من الممكن تشجيع الأفراد لشراء طبعة جديدة من كتاب يمتلكونه أساسا. أما الكتب المرجعية والموسوعات الرائدة المتعلقة بموضوعات مثل اللغة والقانون، فقامت بإعادة تصنيف المعرفة وفقا لمناهج جديدة من الترتيب الأبجدي والزمني.
لم تكن آلة الطباعة تنشر النصوص المكتوبة فحسب؛ فجزء من التأثير الثوري للطباعة كان ابتكار ما أسماه ويليام أيفنز «التعبير التصويري القابل للتكرار بدقة». فباستخدام الكليشيهات الخشبية، ثم تقنية النقش على الكليشيهات النحاسية الأكثر تطورا، أتاحت الطباعة إمكانية النشر الإجمالي للصور القياسية للخرائط والجداول العلمية والرسومات والمخططات المعمارية والرسومات الطبية والرسوم الكرتونية والصور الدينية. وفيما يتعلق بأحد طرفي السلم الاجتماعي، كانت الصور المطبوعة اللافتة للنظر لها تأثير ضخم على الأميين، لا سيما عند استخدامها للأغراض الدينية. أما بالنسبة للطرف الآخر، فإن الصور المعاد إنتاجها بدقة أحدثت ثورة في دراسة موضوعات مثل: الجغرافيا والفلك وعلم النبات والتشريح والرياضيات. كما أشعل اختراع الطباعة فتيل ثورة اتصالات من شأن تأثيرها أن يمتد لقرون، ويمكن تشبيهها فقط بتطور الإنترنت وثورة تكنولوجيا المعلومات.
آلة طباعة الحركة الإنسانية
سرعان ما أدرك أنصار الحركة الإنسانية قوة آلة الطباعة لنشر رسالتهم الخاصة. فاستخدم الإنساني الأشهر في شمال أوروبا دسيدريوس إراسموس من روتردام (1466-1536) آلة الطباعة كوسيلة لتوزيع نسخته الخاصة من الحركة الإنسانية، وأثناء ذلك كان يلقب نفسه عن قصد بصفة «أمير الحركة الإنسانية». وردا من إراسموس على المزاعم القائلة بأن الإنسانيين المبكرين كانوا أكثر اهتماما بالكتاب الوثنيين الكلاسيكيين من اهتمامهم بالمسيحية؛ فقد شرع في ترجمة الكتاب المقدس وتقديم شروح له، وصلت إلى ذروتها في طبعته من العهد الجديد باللغة اليونانية بترجمة لاتينية افتتاحية (1516). وفي كتابه «منهج شيشرون» (1528)، عارض إراسموس الإنسانيين الإيطاليين الذين اعتبروا رؤيته الخاصة عن الحركة الإنسانية في أوروبا الشمالية «بربرية». وسخر من صفاء البلاغة اللاتينية للإنسانيين التابعين لمنهج شيشرون، مؤكدا على أن «الاهتمام الأول للإنسانيين التابعين لمنهج شيشرون كان ينبغي أن يكون فهم أسرار الدين المسيحي، وتقليب صفحات الكتب المقدسة بنفس الحماس الكبير الذي كرسه شيشرون لكتابات الفلاسفة».
سعى إراسموس جاهدا لدمج نسخته عن التعليم الأخلاقي الملهم من الكلاسيكيات مع «فلسفة المسيح»، وهي فلسفة تركز على المسيح وتؤكد على الإيمان الشخصي. وكان إنتاجه الوافر الهائل يشمل الترجمات والشروح على الأعمال الكلاسيكية (بما فيها سينيكا وبلوتارخ)، ومجموعات الأمثال اللاتينية، وأطروحات عن اللغة والتعليم، وخطابات وفيرة إلى الأصدقاء وأصحاب المطابع والباحثين والحكام في جميع أنحاء أوروبا. أما كتابه الأوسع انتشارا اليوم فهو كتابه الساخر «إطراء على الحماقة» (1511)، وهو «هجاء لاذع» وقاس بصفة خاصة في هجومه على فساد ورضا الكنيسة عن ذاتها، والتي يصفها الكتاب بأنها تؤمن بأن «تعليم الناس مهمة شاقة، والصلاة مملة، والدموع ضعيفة وأنثوية، والفقر مهين، والوداعة شائنة».
كانت معظم طاقة إراسموس الفكرية الهائلة تسير في اتجاه تأسيس مجتمع دراسي، ومنهج تعليمي ثابت تقف في مركزه كتاباته المطبوعة، ومكانته بصفته «المثقف» المطلق. وقد كانت آلة الطباعة عنصرا أساسيا في مسيرة إراسموس الفكرية، وصولا إلى توزيع صورته. ففي عام 1526، وافق دورر على تنفيذ نقش تصويري له. فاستخدم إراسموس ودورر هذه التقنية الجديدة في الطباعة لتوزيع صورة تذكارية قوية للباحث الإنساني وهو في غرفة مكتبه يكتب الخطابات وهو محاط بكتبه المطبوعة التي تمثل - كما يوحي نقش دورر اليوناني - سمعة إراسموس الخالدة: «إن أعماله ستقدم صورة أفضل عنه.»
وفي عام 1512، نشر إراسموس أحد أكثر أعماله المؤثرة، بعنوان «أسس الأسلوب الأنيق»، وهو كتاب دراسي لتدريبات في التعبير البلاغي باللغة اللاتينية. ومن أشهر ما يحتويه الكتاب هو أنه يتضمن 200 طريقة للتعبير عن العاطفة «طالما حييت، سأحتفظ بذكرياتي عنك». وقد كتب إراسموس الكتاب من أجل صديقه جون كوليت عميد مدرسة القديس بولس في لندن. وفي إهدائه إلى كوليت، زعم إراسموس أنه يريد «تقديم إسهام أدبي صغير إلى تجهيزات مدرستك»، وذلك باختيار «هذين الشرحين الجديدين من الكتاب، بقدر ما يكون العمل محل النقاش ملائما للصبية لقراءته». وأهديت الطبعات اللاحقة من الكتاب إلى باحثين ورعاة أوروبيين ذوي نفوذ، وذلك لضمان استخدام الكتاب ليس فقط في لندن، وإنما كذلك في الفصول الدراسية في جميع أرجاء أوروبا. لقد كان إراسموس بحاجة إلى الإضافة إلى الإنجازات الدراسية التي حققتها الحركة الإنسانية في القرن الخامس عشر من خلال استخدام وسيلة الطباعة للترويج لطريقة جديدة تماما من التعلم والعيش.
شكل 2-1: رسخت الصورة التي رسمها دورر لإراسموس في عام 1526 سمعة إراسموس بصفته المفكر الإنساني العظيم.
1
كان إراسموس يقدر كذلك أن الحركة الإنسانية بحاجة - علاوة على إصلاح التعليم والدين - إلى الفوز بحظوة السلطة السياسية. لذا في عام 1516 ألف كتابه «تعليم الأمير المسيحي» وأهداه إلى أمير هابسبورج - الإمبراطور تشارلز الخامس المرتقب. وكان الكتاب بمثابة دليل إرشادي للأمير الصغير حول كيفية ممارسة «الحكم المطلق على الرعايا الأحرار بكامل إرادتهم»، والحاجة للتعليم والإرشاد من جانب البارعين في الفلسفة والبلاغة؛ أي إن إراسموس كان يسعى للحصول على منصب عام بصفته المستشار الشخصي للأمير الصغير، ومرشدا في العلاقات العامة. ورغم أن تشارلز قبل الكتاب بلباقة، لم يكن هناك أي منصب وشيك.
فما كان من إراسموس إلا أن أرسل نسخة أخرى من كتاب «تعليم الأمير المسيحي» إلى منافس تشارلز السياسي وهو الملك هنري الثامن. وفي إهدائه الذي كتبه في عام 1517، أثنى إراسموس على هنري كملك تمكن من «تخصيص جزء من وقتك لقراءة الكتب»، الأمر الذي أكد إراسموس على أنه جعل هنري «إنسانا أفضل وملكا أفضل». وقد حاول إراسموس إقناع هنري بأن السعي وراء تحقيق الحركة الإنسانية هو أفضل طريقة لإدارة مملكته، مشيرا إلى أن هذا سيجعله إنسانا أفضل، وسيتيح المهارات المطلوبة لتحقيق غاياته السياسية. ومن المهم أن إراسموس كان يشعر أنه من الملائم إهداء النص نفسه لكل من تشارلز الخامس وهنري الثامن؛ إذ إنه كان يفترض أن كلا الحاكمين سيفهمان أنه قادر على استخدام مهاراته البلاغية لصياغة أي حجج سياسية يحتاجان إليها.
سياسات الحركة الإنسانية
شهد جيل إراسموس إنتاج اثنين من أكثر الكتب المؤثرة في تاريخ النظرية السياسية والحركة الإنسانية: كتاب «الأمير» (1513) من تأليف نيكولو مكيافيلي، وكتاب «يوتوبيا» (1516) من تأليف توماس مور. واليوم يقرأ الكتابان بصفتهما من الكلاسيكيات الخالدة عن كيفية الحفاظ على السلطة السياسية وخلق المجتمعات المثالية. كما أنهما منتجان محددان تمخضت عنهما خبرة الكاتبين عن العلاقة بين الحركة الإنسانية والسياسة في النصف الأول من القرن السادس عشر.
وضع مكيافيلي كتابه في أعقاب انهيار جمهورية فلورنسا في 1512، وعودة عائلة ميديتشي للسلطة. كان مكيافيلي قد خدم الجمهورية لمدة 14 عاما قبل طرده، وسجنه لفترة وجيزة على يد عائلة ميديتشي العائدة إلى الحكم. وكان الهدف من كتاب «الأمير» هو الاعتماد على خبراته السياسية «في مناقشة حكم الأمير ولصياغة القوانين المتعلقة به». وما حدث لاحقا كان وصفا مدمرا لكيفية حصول الحكام على السلطة واحتفاظهم بها. واختتم مكيافيلي كتابه بأنه لو أن اقتراحاته «وضعت في حيز التنفيذ بمهارة، فسوف ترسخ أواصر حكم الحاكم الجديد، وسوف تجعل سلطته آمنة أكثر سريعا». وقد أنتجت خلفية مكيافيلي المشتملة على التدريب الإنساني والخبرة السياسية المباشرة سلسلة من الآراء الشائنة التي كانت مستلهمة من المؤلفين الكلاسيكيين، وكذلك الأحداث السياسية المعاصرة. فيقول: «يجب أن يكون الحاكم الذي يرغب في الحفاظ على حكمه مستعدا للتصرف بصورة لا أخلاقية»، كما يجب عليه أن «يكون منافقا ومدعيا كبيرا»، ومستعدا «للتصرف بغدر وبقسوة وبلا إنسانية، ويتجاهل مبادئ الدين» بهدف الحفاظ على السلطة السياسية.
كان كتاب مكيافيلي محاولة للحصول على وظيفة سياسية (أو في حالة مكيافيلي العودة مرة أخرى إلى وظيفة سياسية). وقد أهدي كتاب «الأمير» إلى جوليانو دي ميديتشي الحاكم المطلق الجديد لفلورنسا، كما أشار المؤلف إلى كتابه بصفته «علامة على استعدادي لخدمتك». كما صرح مكيافيلي في خطاباته عن «رغبتي في أن يبدأ حكام عائلة ميديتشي هؤلاء في استخدامي». وكان كتاب «الأمير» بمثابة محاولة مكيافيلي لتقديم النصح لعائلة ميديتشي حول كيفية التمسك بالسلطة السياسية المطلقة. لقد كان مكيافيلي يصل بالحركة الإنسانية في عصر النهضة إلى نهايتها السياسية المنطقية بتزويد حاكمه الجديد بالوصف المتاح الأكثر إقناعا وواقعية عن كيفية الحفاظ على السلطة. لقد كانت إنسانية مكيافيلي مهيئة للترويج لأي أيديولوجية سياسية تملك زمام التحكم؛ سواء أكانت استبدادية أم ديموقراطية. أما مأساة مكيافيلي فكانت تتمثل في عدم اقتناع عائلة ميديتشي بتأكيداته على الولاء. ولم يحصل قط على أي منصب سياسي رفيع المستوى مرة أخرى، وظل كتاب «الأمير» بلا طباعة حتى مات في عام 1527.
أما كتاب توماس مور المعنون «يوتوبيا: عن أفضل دولة في الكومنولث وجزيرة يوتوبيا الجديدة»، فكان وثيق الصلة كذلك بالحياة المهنية لمؤلفه. فقد ترجم مور - وهو من أقرب أصدقاء إراسموس وطالب موهوب في القانون واللغة اليونانية - أعمال لوقيان وكتب الشعر باللغتين الإنجليزية واللاتينية. وفي عام 1517، انضم إلى مجلس هنري الثامن السياسي، وأصبح رئيس مجلس اللوردات في 1529، وكان يكتب الكثير من كتيبات الدعاية السياسية واللاهوتية الخاصة بهنري الثامن أثناء تلك الفترة. وكان مور تجسيدا لرؤية شيشرون عن الإنساني المثقف؛ وهو الشخص القادر على توفيق التأمل الفلسفي الخاص مع الخطابة العامة، والاشتراك في العالم المدني للسياسة والدبلوماسية.
يتخلل فعل الموازنة الدقيقة هذا كتاب يوتوبيا. فقد كتب هذا الكتاب في صيغة حوار لاتيني بين أشخاص مثقفين، وذلك في محاكاة مباشرة لأطروحة أفلاطون الأنيقة عن الدولة المثالية: «الجمهورية». ويستهل الكتاب بتقديم مور نفسه في مدينة أنتويرب بصفته الممثل الدبلوماسي لهنري الثامن، ثم يقدمه صديقه إلى رافاييل هيثلوداي، وهو مغامر عاد مؤخرا من جزيرة يوتوبيا. ويقدم هيثلوداي وصفا تفصيليا عن «كومنولث» يوتوبيا المثالي، حيث «كل الأشياء خاضعة للملكية المشتركة»، و«لا يوجد متسولون»، والطلاق والقتل الرحيم والصحة العامة أمور مسلم بها.
هل كان مور يؤمن برؤيته الخيالية عن المجتمع المثالي؟ هناك أسباب متعددة للاعتقاد بأنه كان متناقضا فيما يتعلق باليوتوبيا. فكلمة «يوتوبيا» في حد ذاتها تورية واختراع لغوي من اللغة اليونانية معناه «المكان المحظوظ» وأيضا «اللامكان». كما أن اسم هيثلوداي معناه «الخبير في الهراء». وكان مور يرى أن الكثير من «قوانين وعادات» يوتوبيا «سخيفة حقا»، لكنه اعترف «أنه في كومنولث يوتوبيا هناك الكثير من السمات الموجودة في مجتمعاتنا التي أحبها أكثر مما أتوقع أن أراها». وهذه موافقات مشروطة بشدة لمجتمعه الخيالي.
وعلى مدار صفحات الكتاب، يرفض مور الموافقة على الموضوعات السياسية المثيرة للنزاع التي يناقشها أو رفضها، بدءا من الملكية الخاصة والسلطة الدينية، وحتى المناصب العامة والتأمل الفلسفي. ولم يكن هذا بسبب أنه لم يستطع التوصل إلى قرار: فمن الناحية السياسية، لم يشأ أن يعتقد أحد أنه يساند موقفا محددا. وبصفته مستشارا سياسيا ماهرا، اضطر مور لاستعراض مهاراته البلاغية في تبرير التصريحات والمعتقدات المتنافرة أو المتناقضة بالتبادل في خدمة الدولة. وتمثل يوتوبيا لوحة يمكنه أن يناقش فيها مجموعة من الموضوعات وثيقة الصلة بعالمه الخاص. ولو تعرض تحليله للدراسة والتقييم، كان بإمكانه دائما الإشارة إلى أنه دافع عن الموقف المعاكس، أو القول بأن يوتوبيا في نهاية الأمر وببساطة فكرة مختلقة: فهي غير موجودة.
ويمثل كتاب «يوتوبيا» إعلانا عن قدرة مور على الحديث بفصاحة في سلسلة من الموضوعات المثيرة للنزاع التي أثرت على صاحب العمل الذي كان مور يعمل لديه، وهي أمور كان من المتوقع أن يقدم مور الاستشارة حولها. وعلى خلاف مكيافيلي، كتب مور «يوتوبيا» في أوج حياته العامة، وكان عليه أن يكون أكثر حذرا وأكثر مرونة من الناحية السياسية في تفكيره؛ ولهذا فإن رسالة وأسلوب «يوتوبيا» متناقضان بهذه الصورة؛ ولذلك فقد استطاع مكيافيلي، الذي كان دون عمل آنذاك، أن يقدم وصفا للسياسة والسلطة أقل غموضا بكثير وأكثر واقعية على المستوى السياسي في كتابه «الأمير». أما رفض مور المصادقة على طلاق هنري فكان سوء تقدير سياسي على أساس الدين أكثر من كونه موقفا أخلاقيا مرتبطا بالمبادئ، وهو ما أدى إلى إعدام مور. ويوضح كل من كتاب مور «يوتوبيا» وكتاب مكيافيلي «الأمير» الانتهازية السياسية للإنسانيين في عصر النهضة.
ومن بيترارك إلى مور، كانت الحركة الإنسانية في عصر النهضة تخدم بمرونة من كان يبدو من المناسب والمفيد اتباعه سياسيا. ولهذا فإن العديد من الفلسفات السياسية الحديثة ادعت أن كتبا مثل «الأمير» و«يوتوبيا» تبرر مطالبها الشخصية للقوة والسلطة. ولا تزال الحركة الإنسانية في عصر النهضة لها تأثير فعال على الحركات الإنسانية الحديثة، لكن الحركة الإنسانية - كما أكد هذا الفصل - ليست احتفاء مثاليا بالمشاعر الإنسانية كما كانت تزعم في الغالب، ولكنها في جوهرها براجماتية إلى حد بعيد. إن ميراث الحركة الإنسانية في عصر النهضة أكثر تناقضا مما يعتقد الكثيرون، ويرجع ذلك - جزئيا - إلى أن لغتها لا تزال شديدة الإغراء.
هوامش
الفصل الثالث
الكنيسة والدولة
وصل الباحث الإنساني لورنزو فالا إلى نابولي عام 1435 لعرض خدماته على ملكها المرتقب ألفونسو من أراجون. كان ألفونسو في ذلك الوقت في خضم صراع سياسي مع البابا يوجينيوس الرابع بخصوص الاستيلاء على نابولي. بدأ فالا العمل على نص له صلة سياسية مباشرة بولي نعمته الجديد، وكان ذلك النص هو «منحة قسطنطين»، والذي كان من بين الوثائق المؤسسة للكنيسة الرومانية الكاثوليكية، وكانت بمثابة منحة صادرة في القرن الرابع على يد الإمبراطور قسطنطين لمنح سلطات إمبراطورية وإقليمية شاملة للباباوية. ولقد كانت تلك الوثيقة من أقوى مبررات المزاعم الباباوية في الحصول على سلطة دنيوية وأكثرها إقناعا. وقد كشف لورنزو فالا أن تلك المنحة مزيفة. وباستخدام مهاراته في البلاغة والفلسفة وفقه اللغة التي اكتسبها من انتمائه للحركة الإنسانية، أثبت أن المفارقات التاريخية للوثيقة، وأخطاءها اللغوية، والتناقضات في منطقها؛ تكشف أن الوثيقة ما هي إلا تزييف يرجع إلى القرن الثامن.
كانت أناقة تحليل فالا النصي متناغمة مع هجومه القاسي على الكنيسة الرومانية وبابواتها، الذين إما أنهم «لم يكونوا يعرفون أن «منحة قسطنطين» مزورة وغير شرعية، أو أنهم زوروها»، واتهمهم «بإهانة الدين المسيحي، وخلط كل شيء بالقتل والكوارث والجرائم». سخر فالا من اللغة اللاتينية غير الدقيقة المستخدمة في الوثيقة والتي تنطوي على مفارقات تاريخية، وذلك قبل أن يطرح من جديد السؤال البلاغي: «هل يمكننا أن نبرر مبدأ السلطة الباباوية عندما نرى أنه سبب لمثل تلك الجرائم الكبرى، وتلك الشرور الجسيمة والمختلفة؟» واختتم هذا القدح الممتاز من الناحية البلاغية بهجوم على الذرائع الإمبراطورية للبابا الذي «من أجل أن يستعيد الأجزاء الأخرى من «المنحة»، كان ينفق المال المسروق بطريقة كريهة من الناس الأخيار بصورة أكثر شرا». كان ألفونسو مبتهجا بتدمير فالا لوثيقة «المنحة»، واستخدم برهانها في محاولته التي كللت بالنجاح في النهاية لتأمين مملكة نابولي رغم المعارضة الباباوية المدبرة.
تمثل قصة كشف فالا تطورا جديدا في العلاقات بين الدين والسياسة والتعليم في عصر النهضة. فظهور المؤسسات السياسية مثل الدولة المستقلة ولد الحاجة إلى مهارات فكرية وإدارية جديدة لتنظيم الهياكل السياسية ولتحدي سلطة بعض المؤسسات مثل الكنيسة بنجاح. وربما تبدو حقيقة أن البابا مارتن الخامس قد عين فالا سكرتيرا باباويا غريبة بعد أن فضح أمر وثيقة «المنحة». ومع ذلك، فإنها تكشف عن موقف الكنيسة من مثل أولئك الباحثين؛ (أي اتباع أسلوب أن الشيطان الذي تعرفه خير من الشيطان الذي لا تعرفه). كما توضح كيف أن الإنسانيين الاستراتيجيين على المستوى السياسي مثل فالا كانوا مستعدين لاغتنام الفرص الجديدة.
تساعدنا هذه القصة على فهم العلاقة المتداخلة المعقدة بين الدين والسياسة في عصر النهضة. فبين عامي 1400 و1600، كانت المعتقدات الدينية جزءا لا يتجزأ من الحياة اليومية. كما كان من المستحيل فصل الدين عن ممارسة السلطة السياسية، وعالم التمويل الدولي، وإنجازات الفن والتعليم. وبينما كانت الكنيسة الكاثوليكية تجاهد للتأكيد على سلطتها الدنيوية والروحانية طوال هذه الفترة، فإنها كانت تواجه صراعا وانشقاقا وانقساما مستمرا. وقد وصل هذا الصراع إلى ذروته في عهد الإصلاح الذي اكتسح شمال أوروبا في القرن السادس عشر، وتسبب في أكبر أزمة في تاريخ الكنيسة الرومانية. أما الإصلاح الكاثوليكي المضاد في منتصف القرن السادس عشر فقد حول الكنيسة إلى الأبد ، وهذا التحول، إضافة إلى الإصلاح البروتستانتي بقيادة مارتن لوثر، أرسيا معا الشكل العام للمسيحية كما هي موجودة اليوم. كما أثار الإصلاح أسئلة معقدة فيما يتعلق بعلاقة المسيحية بالديانتين الكتابيتين الأخريين: اليهودية والإسلام، واللتين أكدتا تفوقهما اللاهوتي على المسيحية، كما أن الإسلام كان سريعا في استغلال الانقسامات داخل الكنيسة المسيحية في القرن السادس عشر. لقد كان الدين في عصر النهضة في أزمة مستمرة. فالشك والقلق والتأمل الداخلي كان لا يزال حجر الأساس للتفكير الحديث والنزعة الذاتية الحديثة، ويمكن تتبع أصولهما بالعودة إلى مرحلة التوتر الديني في الفترة من 1400 إلى 1600.
كان التطور الآخر الذي حول شكل السلطة الدينية خلال هذه الفترة هو ظهور أنماط جديدة من السلطة السياسية. فمنذ أواخر القرن الخامس عشر، أصبحت المؤسسات السياسية تتحكم بصفة متزايدة في الحياة اليومية للكثير من الناس. أما الثراء والابتكار الإداري الذي صاحب التوسع التجاري والحضري المتفاوت في القرن الخامس عشر، فقد خلق الظروف الملائمة للتغير والتوسع السياسي البارز. فقد جربت المدن الإيطالية مثل فلورنسا وفينيسيا الحكومات الجمهورية، بينما كانت قصور البلاط الملكي في ميلانو ونابولي وأوربينو وفيرارا تحكم كإمارات صغيرة. وفي الشمال، أدى السلام والرخاء الذي حل عقب حرب المائة عام إلى تركز الثروة والسلطة في فرنسا والبلدان المنخفضة؛ مما أدى إلى بزوغ إمبراطورية هابسبورج العظيمة. وفي الشرق، كانت الإمبراطورية العثمانية نموذجا للسلطة الإمبراطورية العالمية التي كان ينبغي أن تنافسها كل الإمبراطوريات الأخرى. وبمنتصف القرن السادس عشر، كانت أوروبا في قبضة سلسلة من الدول والإمبراطوريات المهيمنة: ألا وهي فرنسا والبرتغال وإسبانيا والدولة العثمانية. وكان صعود هذه الإمبراطوريات في تناسب عكسي مع السلطة الدنيوية للكنيسة.
في بداية القرن الخامس عشر، كانت الكنيسة الكاثوليكية في أزمة. فمع أن كلمة «كاثوليكي» مشتقة من كلمة يونانية تعني «عالمي»، فقد كانت الكنيسة بحلول عام 1400 تنطبق عليها أي صفة غير أنها «عالمية». فالكنيسة كانت قد عانت بالفعل من الانقسام بانفصالها إلى الكنيسة الرومانية الغربية والكنيسة الأرثوذكسية الشرقية ومقرها القسطنطينية في عام 1054. وعلى مدار القرون الثلاثة اللاحقة، قاتلت الكنيسة الغربية للتأكيد على سلطتها اللاهوتية والإمبراطورية في وجه المعارضة من الداخل والخارج. وكان البابا يزعم - بموجب سلطة الكتاب المقدس - أنه، بصفته ممثل المسيح على الأرض، يملك النفوذ السياسي على القضايا الدنيوية.
وعلى مدار القرن الرابع عشر، انقسمت الباباوية بين المطالبين بها المتنافسين في كل من روما وأفينيون في فرنسا. أما الشقاق البابوي فأتاح للكرادلة المنشقين من كلا الجانبين اقتراح النظرية المجلسية لحكم الكنيسة؛ وهذا جعل المجالس الكنسية تفرض سلطتها الجمعية على البابوات الذين يتسببون في انشقاقات. وفي عام 1414، عقد بابوات الكنيسة مجمع كونستانس لإنهاء الانشقاق، وحكم المجمع بأن «كل البشر من كل رتبة ومنزلة، بما فيهم البابا نفسه، عليهم طاعة هذا الأمر في المسائل المتعلقة بالإيمان والقضاء على الشقاق وإصلاح كنيسة الرب». وقد أتاح هذا للمجمع تعيين مارتن الخامس ليكون أول بابا في روما غير متنازع عليه منذ قرن تقريبا.
زواج أرثوذكسي
رفع مجمع كونستانس مستوى السلطة الاستبدادية للباباوية دون قصد منه. فالبابا مارتن الخامس وخليفته البابا يوجينيوس الرابع دعما سلطتهما بالشروع في تنفيذ خطط طموحة لإعادة بناء روما والاتحاد مع الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية. وفي عام 1437، عقد يوجينيوس مجمع فلورنسا لمناقشة توحيد الكنائس الأرثوذكسية الشرقية والرومانية الغربية، وإبعاد محاولات المجمع لتحجيم السلطة الباباوية. وفي فبراير 1438، وصل الإمبراطور البيزنطي يوحنا الثامن باليولوجوس إلى فلورنسا مع حاشية مكونة من 700 يوناني ورئيس الكنيسة الأرثوذكسية وهو البطريرك يوسف الثاني. وبالإضافة إلى الوفد اليوناني، وصلت وفود من تريبيزوند وروسيا وأرمينيا والقاهرة وإثيوبيا. وكما هو الحال في الكثير من تعاملات عصر النهضة التي يبدو ظاهريا أنها معنية بالدين، فقد كان لهذا اللقاء الرسمي الخطير بين الشرق والغرب تضمينات سياسية وثقافية عميقة. فقد اقترح البابا يوحنا الثامن اتحادا بين فرعي العالم المسيحي الشرقي والغربي بصفته الطريقة الواقعية الوحيدة لمنع انهيار الإمبراطورية البيزنطية والاستيلاء على القسطنطينية في وجه صعود الإمبراطورية العثمانية. وقد كان البابا متحمسا لتوحيد الكنيستين كطريقة لمد سلطته السياسية الشخصية عبر أرجاء إيطاليا.
بعيدا عن شئون المجمع الرسمية، استكشفت الوفود بحماس الإنجازات الفكرية والثقافية لبعضها البعض. فكان اليونانيون معجبين بإنجازات برونليسكي المعمارية وبتماثيل دوناتيلو، وباللوحات الجصية لكل من مازاتشو وفرا أنجيليكو. كما انبهر الفلورنسيون بالمجموعة الرائعة من الكتب الكلاسيكية التي أحضرها يوحنا الثامن وحاشيته المثقفة معهم من القسطنطينية. وكانت هذه المجموعة تضم مخطوطات من أفلاطون وأرسطو وبلوتارخ وإقليدس وبطليموس، ونصوصا كلاسيكية أخرى كان «من الصعب الوصول إليها» في إيطاليا حسب وصف باحث حسود. أما الوفد المصري فقدم للبابا مخطوطة عربية للأناجيل ترجع إلى القرن العاشر، وأهداه الوفد الأرمني مخطوطات مزخرفة ترجع للقرن الثالث عشر عن الكنيسة الأرمنية التي كانت تعكس تراثها المنغولي والمسيحي والإسلامي المختلط. كما نشر الوفد الإثيوبي كتب مزامير من القرن الخامس عشر مكتوبة بالإثيوبية ومستخدمة في الكنائس عبر أرجاء شمال شرق أفريقيا.
بعد عشرين عاما من اجتماع المجمع، أكمل بينوتزو جوتزولي لوحاته الجصية في قصر ميديتشي التي كانت تحتفي بدور عائلة ميديتشي في تقريب الكنائس الشرقية والغربية. وفي لوحات جوتزولي، أصبح يوحنا الثامن ويوسف الثاني ولورينزو ميديتشي هم المجوس الثلاثة. ولأسباب سياسية مول كوزيمو ميديتشي - سلف لوينزو - المجمع بأكمله. فقد كانت عائلة ميديتشي تتفاوض بخصوص الوصول التجاري إلى القسطنطينية طوال ثلاثينيات القرن الخامس عشر، ولكن لم يتم التوصل إلى اتفاق إلا في أغسطس 1439 للتعبير عن شكر يوحنا الثامن لضيافة كوزيمو السخية طوال فترة عقد مجمع فلورنسا. ولم يكن عمل كوزيمو التقي المتمثل في التضحية المادية لصالح الكنيسة في واقع الأمر سوى خدعة بارعة. فقد ظل يوجينيوس مدينا بنقود لعائلة ميديتشي، وتوضح لوحات جوتزولي الجصية أن العائلة كانت تعتبر اشتراكها في توحيد الكنيستين أهم حتى من توسط البابا.
شكل 3-1: لوحة بينوتزو جوتزولي الجصية «توقير المجوس»: محاولة فنية من جانب عائلة ميديتشي لنسبة الفضل لنفسها في توحيد الكنيستين الشرقية والغربية.
1
وأخيرا، في 6 يوليو 1439، تم التوقيع على مرسوم الاتحاد بين الكنيستين. وقد كان المرسوم يحتفي بأن «الجدار الذي كان يفصل الكنيسة الشرقية عن الكنيسة الغربية قد انهار، وأن السلام والوئام قد عادا» لكن ذلك الاحتفال كان قصير العمر. ففي القسطنطينية ، تعرض الاتحاد للرفض من جانب الجماهير التي أثارها أعضاء الكنيسة الشرقية، بينما أظهرت الإمارات الإيطالية معارضتها برفضها المستمر لتقديم المساعدة العسكرية لمعاونة البيزنطيين في صراعهم ضد العثمانيين. ومع سقوط القسطنطينية في يد محمد الثاني في مايو 1453، وصل الاتحاد إلى نهاية دموية شائنة.
كان عقد مجمع فلورنسا من اللحظات الحاسمة في عصر النهضة. فبصفته قمة دينية كان فاشلا، حيث سحق الآمال الباباوية في تعزيز سلطتها الإمبراطورية من خلال الاتحاد مع الكنيسة الشرقية. لكن بصفته حدثا سياسيا وثقافيا، فقد كان يمثل انتصارا. فقد سمح للولايات الإيطالية بتحدي السلطة الباباوية الضعيفة، وبتقوية العلاقات التجارية مع الشرق. وكانت العائلات الحاكمة تتلاعب ببراعة بدورها في المجمع، وذلك من خلال أغراض فنية فخمة مثل لوحة جوتزولي التي أكدت على دور عائلة ميديتشي الرائد في التوصل إلى مرسوم الاتحاد. وعلى المستوى الثقافي، كان لانتقال النصوص الكلاسيكية والأفكار والأغراض الفنية من الشرق إلى الغرب، الذي حدث أثناء انعقاد المجمع؛ تأثير حاسم فيما بعد على الفن والثقافة في إيطاليا في أواخر القرن الخامس عشر.
عامة الشعب
ماذا عن حقيقة الالتزام الديني في الحياة اليومية من جانب ملايين الأشخاص في أرجاء أوروبا الذين كانوا يترددون على الكنائس بانتظام ويعتبرون أنفسهم مسيحيين؟ سيكون من المثالي الاعتقاد بأن الجدل الدائر حول السلطة الباباوية والتفسير النصي كان له تأثير كبير على الكثير من هؤلاء الناس. فالكنيسة كانت جزءا من نسيج الحياة اليومية بالنسبة لمعظم الأفراد، وكان هذا يعني أن التمييز بين المقدس والدنس أصبح في الغالب غير واضح. كانت الكنائس تستخدم للاحتفالات والاجتماعات السياسية وتناول الطعام وتجارة الخيول، بل وحتى تخزين بضائع التجار ونفائسهم. وكان رجال الدين في كل مكان. وبحلول عام 1550، كانت فلورنسا تفتخر بوجود أكثر من 5 آلاف رجل دين من بين تعداد سكان قدره 60 ألف نسمة. ونظرا لأنهم كانوا يتلقون تعليما سيئا وأجورا ضعيفة، فقد كانوا يعملون في الغالب بنائين وتجار خيول وتجار ماشية ويحرسون المحبين والأطفال ويحملون الأسلحة.
من الناحية النظرية، كانت الكنيسة الكاثوليكية بمثابة التجلي الأرضي لتجسد المسيح؛ فهي القائم بدور الوسيط بين الرب والأفراد، وكانت مسئولة حصريا عن منح نعمة الله من خلال الأسرار؛ أي المعمودية والتثبيت (الميرون) والتناول والتوبة والكهنوت والزواج والمسحة المقدسة. وطبقا لنظرية استحالة الشكلين، كان الكاهن يملك القدرة الإعجازية (أو السحرية كما يجادل البعض) لتحويل خبز وخمر التناول إلى جسد ودم المسيح الحقيقيين. وبدون شفاعة الكنيسة والكاهن، لم يكن الفرد يملك اتصالا مباشرا مع الرب. وفي تنفيذ تلك الأسرار، كان الكاهن وحده يجعل الرب في اتصال مباشر مع شعب الكنيسة. وكان ذلك الدور التوسطي هو ما يجعل من الكنيسة تلك المؤسسة القوية.
ومن الناحية العملية، كان الاهتمام العام الأكثر حماسة في الالتزام الديني يدور حول ما أطلق عليه أحد المؤرخين اتقاد «الشهية للأمور الإلهية». وكانت «معجزات» الأسرار تفسر في الغالب كأعمال سحرية؛ مما أدى إلى تبني مجموعة من الممارسات الشائعة، بدءا من العبادة الحماسية للرفات والقديسين والصور، إلى الاستخدام الخرافي للماء المقدس وسر التناول والزيت المقدس. ورغم أن مثل تلك الممارسات السحرية كانت تناقض الرأي الديني القويم، فقد كانت الكنيسة غالبا ما تتغاضى عن مثل تلك الانتهاكات، في غمار لهفتها لتعزيز القوة الروحانية للكنيسة وسلطتها.
بالنسبة لمعظم الناس، كانت الكنيسة تقدم طريقة طقسية للحياة يوما بيوم بدلا من مجموعة من المعتقدات اللاهوتية الصارمة. وكانت أسرار المعمودية والتثبيت والزواج والمسحة المقدسة تتيح طقوس الانتقال عبر اللحظات الحاسمة في حياة المرء. ونتيجة لذلك، كان الكثير من الناس يذهبون إلى الكنيسة مرة أو مرتين فقط في العام، وكشفت السجلات حضورا منخفضا بصورة ملحوظة، علاوة على جهل مطبق بأساسيات الدين. فقد حكى واعظ إنجليزي قصة راعي غنم عندما سئل عن الأب والابن والروح القدس فأجاب قائلا: «أما الأب والابن فأعرفهما جيدا لأنني أرعى خرافهما، أما الرفيق الثالث فلا أعرفه؛ فلا يوجد أحد بهذا الاسم في قريتنا.» وعلى أفضل تقدير، فقد كان هذا الموقف يمثل الجهل واللامبالاة الدينية؛ وعلى أسوأ تقدير، كان يوحي بالهرطقة والكفر اللذين اتخذا أشكالا متنوعة طوال عصر النهضة وما تلاه من عصور.
شكل 3-2: نقش المذبح الذي أبدعه روجر فان دير فايدن بعنوان «الأسرار السبعة» في محاولة لتعليم الأسرار لشعب الكنيسة في القرن الخامس عشر.
2
وفي أربعينيات القرن الخامس عشر، ساورت جان شيفروت أسقف تورناي المخاوف بسبب الحضور المتدني والالتزام بالأسرار المقدسة، لدرجة أنه كلف روجر فان دير فايدن برسم نقش فوق المذبح من شأنه أن يعلم الناس الأهمية الطقسية للأسرار، وكان عنوانه ببساطة «الأسرار السبعة». وكانت القطعة اليسرى من لوح فان دير فايدن الثلاثي تصور المعمودية والتثبيت والاعتراف، بينما كانت القطعة اليمنى تصور الكهنوت والزواج والمسحة المقدسة. أما القطعة المركزية فكانت مخصصة للسر الأهم؛ سر التناول المقدس، الذي يحدث وراء ظهور المسيح. ولتجنب أي تشويش، كانت الملائكة تساعد بالطواف فوق كل سر وهي تحمل رايات بها آيات تفسيرية. وقد وظف لوح فان دير فايدن الثلاثي تقنية «التبسيط» المميزة لعصر النهضة، وذلك من خلال استخدام شخصيات وأسلوب عمارة وملابس معاصرة؛ حيث وضع ألغاز الكنيسة في سياقات حديثة تشجع الشعب على الاندماج عن قرب مع الصورة المرسومة. وقد كانت الكثافة الهادئة للمشهد خالية أيضا بصورة تسترعي الانتباه من مشاهد الاصطدام والهجوم والممازحة والبصق والسباب والتشابك والتسول والنوم، بل وحتى إطلاق النيران التي كانت سمة يومية من حياة الكنيسة.
بناء الإصلاح
عندما أنهى البابا مارتن الخامس الانشقاق الحزبي وعاد إلى روما في عام 1420، «وجدها خربة ومهجورة لدرجة أنها بالكاد تبدو مدينة»، ناهيك عن حين أنها كانت عاصمة الإمبراطورية الرومانية السابقة والإمبراطورية الكاثوليكية المرتقبة. فما كان من مارتن وخلفائه إلا أن بدءوا برنامج بناء طموحا يحتفي بمجد الكنيسة الرومانية المتمركزة حديثا، كما كان البرنامج أيضا من شأنه أن يحول المدينة إلى موقع بناء على مدار المائة والخمسين عاما التالية. وبحسب كلمات البابا نيكولاس الخامس، كان شعب الكنيسة سيجد «معتقدهم يترسخ باستمرار ويثبت يوميا بمبان عظيمة تبدو أن يد الرب هي التي شيدتها». وكان ألبيرتي وفرا أنجيليكو وبرامانتي ومايكل أنجلو ورافاييل وبوتيتشيلي من بين الفنانين الذين انضموا لعملية إعادة بناء المدينة.
كانت المشكلة الأكبر التي واجهها البابوات المتعاقبون هي تجديد كنيسة القديس بطرس المنهارة، والتي شيدها قسطنطين على قبر القديس في منتصف القرن الرابع. وكما ذكرنا من قبل، كانت روما تنافس القسطنطينية كعاصمة إمبراطورية للعالم المسيحي. وقد صارت المنافسة أشد ضراوة حالما سقطت تلك المدينة في يد السلطان محمد في عام 1453. لم تكن روما وبابواتها يريدون أن تتفوق عليهم إسطنبول وسلاطينها. ففي أبريل 1506، وضع البابا يوليوس الثاني حجر أساس كنيسة القديس بطرس الجديدة، بعد أن عين برامانتي مهندسا معماريا لها. وتوضح ميدالية التأسيس التي شكلها كارادوسو مدى اقتراب التصميم الأصلي الذي وضعه برامانتي من تصميم آيا صوفيا. وقد أدت التعديلات اللاحقة التي أجراها رافاييل وسانجالو ومايكل أنجلو طوال القرن السادس عشر إلى إكمال كنيسة القديس بطرس بالشكل الذي تبدو عليه اليوم.
شكل 3-3: تخلد ميدالية كارادوسو ذكرى بداية العمل في كنيسة القديس بطرس في عام 1506، وتبين أن التصميمات الأولى اقتبست من فن العمارة البيزنطي والعثماني.
3
من المفارقات أن تكلفة إكمال هذا الاحتفال البارز بالسلطة الباباوية هو ما أشعل فتيل احتجاج صار في نهاية المطاف تحديا لجوهر الكنيسة الكاثوليكية، وحول المشهد الاجتماعي والسياسي في أوروبا إلى الأبد. ففي عام 1510، وبعد أربع سنوات من بدء العمل في كنيسة القديس بطرس، وبينما كان مايكل أنجلو يعمل بجد في لوحاته الجصية لسقف كنيسة سيستين، وصل الراهب الألماني مارتن لوثر إلى روما. وكانت خيبة أمله بسبب الفساد والاستهلاك المبذر اللذين شهدهما مصدر إلهام لبدء هجومه على مساوئ الكنيسة الكاثوليكية، والذي تمثل في أطروحاته الخمسة والتسعين ضد صكوك الغفران في أكتوبر 1517. ففي مارس من ذلك العام، أصدر البابا صك غفران لتمويل بناء كنيسة القديس بطرس. وكان صك الغفران عبارة عن وثيقة باباوية تمنح المشتري إعفاء من الحاجة إلى التوبة عن خطاياه. فلقد كانت الكنيسة متحمسة للغاية لتمويل إعادة بناء روما، لدرجة أن صكوك الغفران كانت تباع للأفراد لتغطية خطايا المستقبل التي لم ترتكب بعد. لقد ابتدعت الكنيسة تجارة في الخلاص سمحت للأفراد بشراء وبيع الخلاص. فثارت ثائرة لوثر، وكتب إلى رئيس أساقفة ماينز شاكيا:
إن صكوك الغفران الباباوية من أجل بناء كنيسة القديس بطرس يتم تداولها تحت اسمكم المبجل ... وإني لأشعر بعميق الحزن إزاء الانطباعات الزائفة التي كونها الناس منها؛ أي إن النفوس الشقية تؤمن أنها لو اشترت خطابات صكوك الغفران فإنها تضمن خلاصها.
وقد كرر لوثر احتجاجه في الأطروحات الخمس والتسعين التي تم تداولها بشكل واسع عبر أرجاء مدينة فيتنبرج. وكتب لوثر: «لماذا لا يبني البابا - الذي تخطت ثروته حتى اليوم ثروات أغنى الأغنياء - كنيسة القديس بطرس الوحيدة هذه بماله الخاص بدلا من بنائها بمال المؤمنين الفقراء؟» وبهذا، أطلقت طلقة الإصلاح الأوروبي الأولى.
حروب الإيمان
على غرار مصطلح «النهضة»، فإن مصطلح «الإصلاح» مصطلح صك من منظور حديث يصف تبعات أفكار لوثر. لقد بدأ لوثر في واقع الأمر رحلته وفي ذهنه فكرة إصلاح الكنيسة، لكن سرعان ما تحول الإصلاح إلى ثورة؛ فقد تبلور احتجاج لوثر ضد صكوك الغفران سريعا في صورة رفض منظم لكل افتراض ديني كانت الكنيسة الكاثوليكية تقوم عليه، فقال لوثر بأن المرء يتمتع بعلاقة مباشرة مع الرب، وليس بحاجة للاعتماد على توسط القساوسة أو القديسين أو صكوك الغفران لتمنحه الخلاص؛ فبإمكان الفرد الحفاظ على الإيمان المطلق بنعمة إله غامض لكنه رحيم، وذلك على أمل نيل الخلاص. فلا يسع الأفراد الضعفاء والأشرار فعل شيء أمام الله، سوى التمسك بالإيمان؛ تلك العطية المطلقة من الله. والمحاولات الدنيوية لتغيير حالة النفس من خلال صكوك الغفران والأعمال التكفيرية ليس لها معنى. وكما خلص لوثر في النهاية: «المسيحي لديه كل ما يحتاجه في الإيمان وليس بحاجة إلى أعمال لتبريره.»
كان المعنى المتضمن لهذا كله بالنسبة للكنيسة الكاثوليكية عميقا. فبتخلي لوثر عن الوساطة البابوية بين الرب والمرء، رفض بضربة واحدة مفاجئة سلطة كل من البابا والقسيس. قوبل مسرح الطقوس الكنسية وأدواتها بالرفض، وكذلك التفرقة بين رجال الدين وشعب الكنيسة. كما أدان لوثر كل الأسرار المقدسة فيما عدا اثنين؛ قائلا بأن الله قد منح الإيمان مباشرة للإنسان ولم يظهر من خلال وسائط، سواء أكانت كهنة أم طقوسا سرية.
كان تأثير أفكار لوثر معقدا لكنه كان فوريا. ففيما صقل ونشر موقفه ردا على الاستجابة الكاثوليكية المنزعجة بصفة متزايدة، انتشرت «اللوثرية» عبر أرجاء شمال أوروبا كالنار في الهشيم، ونتج عنها عواقب هائلة تجاوزت سيطرة لوثر. وعندما وافته المنية في عام 1546، كانت المجامع التي تغلب عليها ميول كنيسة الإصلاح تسيطر على فيتنبرج ونورمبرج وستراسبورج وزيوريخ وبيرن وبازل. وقد وجدت اللوثرية أرضا خصبة بين شعب كنيسة يغلب عليه الطابع المدني الحضري والاستياء من الكاثوليكية. فألغيت الرتب الرهبانية والعبادة التقليدية، أما ممتلكات الكنيسة فحطمت أو صودرت، ودمرت الصور الدينية في أعمال شغب لتحطيم الرموز الدينية. وحل محلها مواقع وطرق جديدة للعبادة وتجارب مثالية في الإصلاح الاجتماعي والسياسي. وفي عام 1524، انتفض الفلاحون الألمان وطالبوا برد مظالمهم من خلال تعاليم لوثر، لكنه أدان بازدراء التمرد «السام المؤذي»، كاشفا حدود حركته الراديكالية عندما يتعلق الأمر بالشئون الدنيوية.
عجز لوثر كذلك عن السيطرة على التأثير الفكري لكثير من المناقشات التي قدمها. فبحلول أربعينيات القرن السادس عشر، كانت جنيف تقع تحت سيطرة لاهوت جون كالفن، الذي قال بأن الإنسان عاجز عن التأثير على القضاء والقدر. فمن منظور كالفن، فإن الرب قد قرر سلفا النفوس التي حكم عليها بالهلاك، وتلك التي ستحظى بالخلاص. وفي إنجلترا، أدى القرار السياسي لهنري الثامن بالانفصال عن روما في عام 1533 في نهاية المطاف إلى الحرمان الكنسي لابنة هنري - وهي الملكة إليزابيث الأولى - بسبب ما كان يسمى في ذلك اليوم ميولها «البروتستانتية».
طباعة الكلمة
كانت الحركة الإنسانية والطباعة في قلب نشأة وانتشار أفكار لوثر. فقد استخدم لوثر وأتباعه التدريب الإنساني في فقه اللغة والبلاغة والترجمة لإنتاج علم لاهوت قائم على «الكلمة وحدها» و«الكتاب المقدس وحده». وكان ما وحد المصلحين من أمثال لوثر والإنسانيين من أمثال إراسموس؛ هو الالتزام بالتفسير أو التأويل الكتابي الدقيق، الذي كان يتحدى الجهل والخرافات، اللذين كانا من صفات التفكير السكولاستي الأسبق. وكان بإمكان لوثر مضاهاة أفضل ثقافة باباوية، وقد تفاخر في بحثه «عن الترجمة» (1530) قائلا: «بإمكاني التفوق عليهم جميعا متحدين في الجدل والفلسفة .» لكنه انفصل عن الحركة الإنسانية عندما أدرك حدود التزامها للتغيير، وأخبر إراسموس: «إنك لا تهتم كثيرا بما يؤمن به أي شخص في أي مكان في العالم طالما أن سلام العالم لم يضطرب.» ولكن كانت الحركة الإنسانية قد زودت اللوثرية بالفعل بالأدوات الفكرية لتحويل الدين، كما أنها وفرت للوثر الأداة التي كانت ستنقل أفكاره الجديدة في جميع أرجاء أوروبا؛ آلة الطباعة.
كتب لوثر عن انتشار أفكاره في عام 1522 قائلا: «أنا لم أفعل شيئا؛ فالكلمة هي ما فعلت كل شيء.» وقد كان محقا في ذلك؛ فوسيلة الطباعة هي التي نشرت «الكلمة». أما المعارضون السابقون للسلطة الباباوية فلم يكن لديهم قدرة كبيرة على نشر أفكارهم إلى جمهور أوسع، لكن تكنولوجيا آلة الطباعة أتاحت للوثر إمكانية نشر أفكاره في صورة آلاف من الكتب المطبوعة والنشرات والكتيبات. وكانت الولايات الألمانية أيضا هي المكان المثالي لتنتشر منه ثورة دينية، حيث كانت تقع في قلب أوروبا من الناحية الجغرافية والتكنولوجية. وبحلول عام 1520، كانت 62 مدينة ألمانية تمتلك آلات طباعة، وبين عامي 1517 و1524 زاد نشر الكتب المطبوعة في هذه المدن سبعة أضعاف. وكان لوثر نفسه أحد أسباب هذا الإنتاج المتزايد. فقد أدرك سريعا القوة الجذرية الكامنة لآلة الطباعة التي أطلق عليها «نعمة الله الأعلى والأسمى التي يتقدم بها عمل الإنجيل». وبين عامي 1517 و1520، كتب لوثر أكثر من 30 كتيبا بأكثر من 300 ألف نسخة مطبوعة. وادعى أحد الأصدقاء المعجبين أن: «لوثر هو الشخص الذي يمكنه أن يجعل مطبعتين في كل منهما آلتا طباعة مشغولتين في نفس الوقت.» كما أدرك لوثر قوة نشر كلمته باللغة الدارجة، بدلا من اللغة اللاتينية الكنسية التي كانت تخاطب الصفوة. وبحلول عام 1575، باعت ترجمته الألمانية المطبوعة من الكتاب المقدس مائة ألف نسخة. كما أشارت التقديرات إلى أن أعماله مثلت ثلث مجموع الكتب المكتوبة باللغة الألمانية المبيعة بين عامي 1518 و1525. وبحلول 1530، أصبح لوثر أول مؤلف للكتب الأكثر مبيعا في تاريخ الطباعة القصير.
لقد ظهرت اللوثرية من عالم انتقل فيه مركز الثقل التجاري والمالي والسياسي تدريجيا باتجاه الشمال. فمع بداية القرن السادس عشر، كانت أنتويرب تتفوق على فينيسيا بصفتها العاصمة التجارية لأوروبا، كما كانت الولايات الألمانية التي شهدت ولادة اللوثرية تصوغ هويات سياسية جديدة من شأنها أن تخلق خريطة حديثة لأوروبا بنهاية القرن. وبحلول عام 1519، أضاف تشارلز الخامس من عائلة هابسبورج النمسا إلى تراث سلالته الحاكمة المكون من إسبانيا ونابولي وهولندا والعالم الجديد. وقد أطلق اختياره للقب الإمبراطور الروماني المقدس صراعا خطيرا على السلطة السياسية عبر أرجاء أوروبا، شهد منافسة تشارلز والملك فرانسيس الأول وهنري الثامن، وكذلك يوحنا الثالث ملك البرتغال والسلطان سليمان؛ على السيطرة الإقليمية والسياسية، بينما تدنت الدول المدينة في إيطاليا إلى مجرد ورقات تفاوض عاجزة. وفي ذلك الوقت أيضا، بدأت بذور التمرد القومي نشاطها في شمال أوروبا؛ وفي الشرق كان تشارلز يواجه السلطة الإمبراطورية الكاسحة لسليمان الذي اجتاح بلجراد في عام 1521، وبحلول عام 1529 كان يضرب حصارا حول فيينا. لكن ظهور اللوثرية ضاعف مصاعب تشارلز.
كان تشارلز حريصا على عدم إبعاد حلفائه الألمان بالحرمان الكنسي لأحد رهبانهم. ومع ذلك، وبعد وعد لوثر للإمبراطور نفسه الذي قال فيه: «لا أستطيع التراجع ولن أتراجع عن أي شيء؛ لأنه ليس من الآمن أو من الصواب مخالفة الضمير»؛ اتهمه تشارلز بأنه «مهرطق رديء السمعة». وقد قاومت الولايات الألمانية الدعوات الباباوية لتدمير «البروتستانتية (الاحتجاجية)» كما سميت من عام 1529 عندما «احتجت» مجموعة من الأمراء الألمان على دعوات إدانة اللوثرية. وقد تشتت انتباه تشارلز بإدارة ممتلكاته الخارجية وكذلك شبح السلطان سليمان القانوني الذي كان يدق أبواب إمبراطوريته.
بحلول عام 1529، كانت إمبراطورية سليمان القانوني تمتد عبر أرجاء شمال أفريقيا وحوض البحر المتوسط ومعظم شرق أوروبا، وكان متحالفا مع فرانسيس الأول عدو تشارلز. وفي الوقت الذي استمر فيه العثمانيون في مواجهة تشارلز كطرفين يقفان على قدم المساواة من الناحية السياسية، فإن إيمانهم أيضا صار نقطة خلاف في المناخ الديني الذي كان يزداد استقطابا في عشرينيات القرن السادس عشر. وعلى غرار فرانسيس، كان لوثر وأتباعه يعتبرون إمكانية التحالف الاستراتيجي مع العثمانيين حصنا ضد إمبراطورية هابسبورج التابعة لتشارلز . وكان لوثر قد درس القرآن وشارك في نشر العديد من النصوص الألمانية عن الإسلام. وبعد دعوات العديد من المؤلفين اللوثريين للكتيبات بضرورة «البحث عن العدو في إيطاليا وليس في الشرق!» فقد أكد بحرص أنه «لو حدث وخضنا أي حرب تركية، فعلينا أن نبدأ بأنفسنا». وكان هذا يوحي بأن التهديد العثماني إنما أرسله الرب لتعذيب الإمبراطور والبابا الكاثوليكيين. كما أدرك سليمان إمكانية استغلال العثمانيين للوثرية لإلهاء آل هابسبورج عن التركيز على التهديد العسكري من الشرق. فقد كان كل من الإسلام والبروتستانتية يدركان أنه من الناحية اللاهوتية، فإن إيمانهما بقوة الكتاب ومعارضة الوثنية جعل من التقارب السياسي إمكانية متميزة في تلك السنوات المتقلبة من منتصف القرن السادس عشر.
كان تشارلز الخامس أبعد ما يكون عن المرونة الأيديولوجية؛ فميراث أسرته الحاكمة كان قائما على طرد كل من اليهود والمغاربة من إسبانيا في عام 1492. وسرعان ما صار هو ومستشاروه مقتنعين بأن لوثر وسليمان كانا وجهين لعملة واحدة، فكلاهما «مهرطق» لا بد من إبادته. وفي عام 1523 كتب السفير البابوي في نورمبرج قائلا: «إننا منشغلون بالمفاوضات حول الحرب العامة ضد الأتراك، وحول تلك الحرب الخاصة ضد ذلك الشنيع مارتن لوثر الذي يمثل شرا أكبر على العالم المسيحي من الأتراك.» وفي عام 1530، كتب الكاردينال كامبيجيو إلى تشارلز قائلا إن: «آراء لوثر الشيطانية الهرطقية ... سوف تلقى انتقادا وعقابا وفقا للحكم والممارسة المعمول بهما في إسبانيا فيما يتعلق بالمغاربة.»
ومع تصادم الحماسة من أجل الإصلاح الديني مع المطالبات بالسلطة السياسية العالمية التي تزداد طموحا، تزايد التعصب الديني. كانت التجمعات اليهودية تعيش في كل أرجاء أوروبا لمدة قرون، رغم طردها الرسمي من إنجلترا في عام 1290 ومن إسبانيا في عام 1492. ولكن، وفي تلك الفترة من الأوضاع الدينية الاستقطابية، سرعان ما وجد اليهود أنفسهم مضطهدين من قبل الكاثوليك والبروتستانت، وواجهوا اتهامات بجرائم تراوحت ما بين تسميم الآبار إلى قتل الأطفال المسيحيين. وفي عام 1555، أصدر البابا بولس الرابع بيانا باباويا يهاجم فيه الإيمان اليهودي، مدعيا أن الكنيسة فقط «تحتمل اليهود لأنهم قد يعترفون بالعقيدة المسيحية الحقة». كان اليهود بإمكانهم التحول إلى الكاثوليكية وإلا كانوا يمنعون من حيازة الممتلكات، وكانوا يحبسون في إطار أحياء للأقليات؛ حيث كانوا يجبرون على ارتداء شارة صفراء كعلامة للخزي. ولم تكن البروتستانتية أكثر تسامحا؛ ففي عام 1514، ادعى لوثر بأن «اليهود سوف يمارسون التجديف واللعن دائما في حق الرب والملك المسيح»، ثم ادعى لاحقا: «إني لأفضل أن يكون الأتراك أعداء على أن يكون الإسبان حماة: فرغم أنهم طغاة برابرة، فإن معظم الإسبان أنصاف مغاربة وأنصاف يهود، ولا يؤمنون بأي شيء على الإطلاق.» وكان الكاثوليك الإسبان بدورهم يعتبرون البروتستانت مهرطقين مقارنة بالمسلمين واليهود. وفيما ردت الكاثوليكية على تهديد اللوثرية، وحاولت البروتستانتية تعريف نفسها بتفريق لاهوتي واضح عن الديانات الأخرى، فإن كليهما هاجم بصفة متزايدة الديانتين الكتابيتين اللتين لم تعترفا بمعتقد أن يسوع ابن الرب.
هذه الصراعات غيرت أيضا من شكل الفن في عصر النهضة. ففيما كانت الباباوية في روما تشعر بتآكل سلطتها السياسية، ردت باستعراضات فنية ومعمارية أكثر إسرافا في محاولة لإعادة التأكيد على سلطتها. وقد كان ذلك التوتر ظاهرا في فن مايكل أنجلو ورافاييل. فاللوحات الجصية لمايكل أنجلو التي تصور مشاهد من سفر التكوين التي تزخرف كنيسة سيستين - والتي كلفه البابا يوليوس الثاني بتصميمها - تقدم رؤية شاملة للخلق قائمة على تعاليم روما. كما تجسد الدينامية الجميلة للمشاهد، والعضلات القوية الانفعالية لشخصيات تلك المشاهد؛ قوة الكنيسة الرومانية وغضبها المحتمل إذا ما تعرضت للشك. وهذا التوتر ملحوظ كذلك في لوحات رافاييل الجصية التي رسمها لصالون القسطنطينية التابع للفاتيكان. فهي تروي قصة حياة الإمبراطور قسطنطين وانتقال السلطة الكنسية من الشرق (المقر الإمبراطوري لقسطنطين في القسطنطينية) إلى الغرب (القديس بطرس في روما).
أما المشهد الأخير في حلقة اللوحات الجصية، بعنوان «منحة قسطنطين»، فيوضح الإمبراطور قسطنطين وهو يسلم سلطته الدنيوية والإمبراطورية إلى البابا الذي يرتدي تاجا مثلثا يعكس قوته الروحانية والدنيوية. وبعد شهور فقط من بدء العمل في صالون قسطنطين، كتب لوثر:
بين يدي دليل لورنزو فالا على أن «منحة قسطنطين» زائفة. يا إلهي، ما هذه الظلمة والشرور في روما؟! وسوف تتعجب لحكمة الله في أن مثل هذه الأكاذيب الزائفة الصفيقة لم تعش فحسب، بل وسادت قرونا كثيرة للغاية.
طبعت أطروحة فالا عن المنحة للمرة الأولى في ألمانيا في عام 1517 كجزء من الهجوم المتزايد على الكنيسة الرومانية. وتعد اللوحات الجصية الموجودة في صالون قسطنطين - التي تصور البابوات البارزين، والطوائف المتحاربة، والمشاهد الدرامية للسلطة الباباوية - ردود أفعال عدوانية ومتكلفة ومتوترة إزاء التغيرات الدينية والسياسية. وكانت «الكلمة» المطبوعة من الشمال تنتصر على الآثار الضخمة واللوحات الجصية المتألقة في الجنوب.
الإمبراطورية ترد الهجوم
سرعان ما أدركت الكنيسة الرومانية أن الفن الانتصاري لم يكن إجابة للأسئلة التي أثارها البزوغ القوي للبروتستانتية الأوروبية الشمالية. ففي عام 1545، عقد البابا بولس الثالث مجمع ترنت لإصلاح الكنيسة ودحض اللوثرية. وعلى مدار الثمانية عشر عاما اللاحقة، وضع المجمع مراسم شكلت أساس الإصلاح الكاثوليكي المضاد. وقد أعاد المجمع التأكيد على قدسية الأسرار السبعة واستحالة الشكلين والمطهر والسلطة البابوية، كما أكدت على توقير القديسيين والرفات وشراء صكوك الغفران، وقامت كذلك بإصلاح المساوئ التي أغضبت لوثر للغاية. أصلحت الدرجات الكهنوتية الدينية، وتأسست معاهد دينية لتدريب القساوسة، وكان من المتوقع أن يتبنى الأساقفة اتجاها يتسم بقدر أكبر من روح المبادرة لإدارة الأبرشيات المسئولين عنها. كما صادق المجمع على تأسيس مجتمع يسوع في عام 1540 (المشهور باسم نظام اليسوعيين) بقيادة الإسباني إجناطيوس لويولا، وتأسيس محاكم التفتيش الرومانية في 1542 التي تعقبت المهرطقين والمصلحين.
شكل 3-4: اللوحة الجصية «منحة قسطنطين» رسمتها ورشة عمل رافاييل في الفاتيكان بين عامي 1523 و1524، ويتجلى الصراع الديني من خلال محتواها الإمبراطوري وأسلوبها المتكلف العدواني.
4
كما وجه المجمع انتباهه إلى الناقل الأكثر خبثا للإصلاح البروتستانتي؛ ألا وهو الكتاب المطبوع. ففي عام 1563، أصدر المجمع قائمة بالكتب الممنوعة التي اعتبرت «هرطقية»، مصرحا بأنه «لو أن أي شخص قرأ أو امتلك كتبا ألفها هراطقة أو كتابات لأي مؤلف مدانة ومحرمة بسبب الهرطقة أو الشك في تقديم تعاليم خاطئة، فإنه يجلب على نفسه فورا عقوبة الحرمان الكنسي». وقد منعت تلك القائمة آلاف الكتب بدءا من أعمال لوثر وزوينجلي وكالفن، وكذلك أعمال مكيافيلي وكتابات مختارة من تأليف إراسموس. لقد أذعن مجمع ترنت ضمنيا بقوة الكتاب المطبوع (جزئيا من خلال تمويل المطابع الكاثوليكية لنشر النصوص القديمة)، ولكن على حساب تأسيس إحدى أولى المحاولات الحديثة للمراقبة الجماعية.
كان خليط مجمع ترنت الحماسي الذي جمع بين الإصلاح والتقوى والقتالية والقمع ناجحا بصورة واضحة. فمع نهاية القرن السادس عشر، أشارت التقديرات إلى أن حوالي ثلث جمهور الكنيسة الذين فقدتهم روما قد عادوا مرة أخرى إلى كنيستهم الأم نتيجة للإصلاح المضاد. ولكن موقف المجمع من الالتزام الديني والكتب وحتى الصور الدينية أدى إلى مزيد من الاستقطاب في المشهد الديني في أواخر القرن السادس عشر. لقد أكد مجمع ترنت على الفجوة المتسعة بين أيديولوجية البروتستانتية والكاثوليكية، وفي هذه الأثناء مهد الطريق للحروب الدينية التي ستندلع في النصف الثاني من القرن، والتي ستعيد تحديد شكل أوروبا.
بحلول عام 1600، كانت أوروبا قد تغيرت تغيرا جذريا، من مجرد مجموعة غير محددة الملامح من دويلات المدن والإمارات التي كانت لا تشير إلى كيان «أوروبا» في عام 1400. فحددت الولايات القومية والإمبراطوريات العالمية الناشئة البرنامج السياسي؛ أما سلاسة الصدامات الدينية والتبادلات بين الشرق والغرب، فقد تصلبت لتشكل الأنظمة العقائدية الكاثوليكية والبروتستانتية والإسلام، والتي لكل منها برنامجه الخاص. وقد أذن هذا بمولد المؤسسة الحديثة للدولة، وظهور النزعة القومية التي صاحبتها. وعلى مدار القرون الثلاثة التالية، استمرت القوى الإمبراطورية العظمى في أوروبا في ادعاء حقها في معظم أجزاء الكرة الأرضية التي تم اكتشافها حديثا. لكن تراث تلك الفترة كان أيضا عبارة عن سلسلة من الصراعات الدينية والسياسية التي يبدو أنها غير قابلة للحل في أقاليم متنوعة مثل أيرلندا والبلقان والشرق الأوسط، والتي ترجع أصولها إلى التصادم بين الكنيسة والدولة الذي حدث للمرة الأولى في عصر النهضة.
هوامش
الفصل الرابع
عوالم جديدة
في عام 1482، نشرت إحدى المطابع في مدينة أولم الألمانية طبعة جديدة من كتاب بطليموس «الجغرافيا»، وصورت خريطة العالم التي جاءت بالكتاب شكل العالم كما كانت تعرفه الصفوة الحاكمة في أوروبا في القرن الخامس عشر. وكان بطليموس قد وضع كتابه في الإسكندرية في القرن الثاني الميلادي. أما الدارسون العرب، فقد حافظوا على النص، وراجعوه قبل ترجمته إلى اللاتينية بنهاية القرن الرابع عشر. أما الجغرافيا المسيحية في العصور الوسطى فقد كانت مقصورة على الخرائط التخطيطية المعروفة باسم «خرائط العالم»، والتي كانت رموزا دينية للفهم المسيحي للخلق، فكانت تضع أورشليم (القدس) في مركز تلك الخرائط، دون محاولات جادة - إن وجدت محاولات من الأساس - لفهم أو تمثيل العالم الأكبر. جاء كتاب بطليموس «الجغرافيا» ليغير مفاهيم القرن الخامس عشر عن شكل وحجم الأرض؛ فقد سجل الكتاب ووصف أكثر من ثمانية آلاف مكان، علاوة على شرح كيفية رسم الخرائط الإقليمية والعالمية. أما الشبكة الهندسية لخطوط الطول ودوائر العرض التي استخدمها بطليموس حول العالم المعروف، فقد قدمت النموذج الذي استخدمته رحلات التجارة والاكتشاف في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، والتي بدأت في تشكيل الصورة الحديثة عن الكرة الأرضية، وهي تشكل أساس هذا الفصل.
بالنسبة للحاكم أو التاجر في أواخر القرن الخامس عشر، كانت طبعة مدينة أولم لكتاب بطليموس تقدم تمثيلا دقيقا بدرجة معقولة عن عالم ذلك الزمان. فيمكن تمييز أوروبا والبحر المتوسط وأفريقيا وآسيا في الخريطة. أما ما يبدو خاطئا بالنسبة لنا اليوم فهو إغفال الخريطة للأمريكتين وأستراليا والمحيط الهادئ وكتلة المحيط الأطلنطي، والرأس الجنوبي لأفريقيا (الذي بدونه يمثل المحيط الهندي كبحيرة عملاقة). ويرتكز عالم بطليموس على شرق البحر المتوسط ووسط آسيا، وعلى مدن مثل القسطنطينية وبغداد والإسكندرية. وكانت هذه المواضع تمثل الواقع الدولي السائد لدى الأشخاص المتعلمين من القرن الثاني وحتى قرب نهاية القرن الخامس عشر.
شكل 4-1: خريطة العالم لبطليموس من إحدى الطبعات الجديدة لكتابه الكلاسيكي «الجغرافيا»، وقد نشرت في مدينة أولم في عام 1482.
1
كان كتاب «الجغرافيا» يملكه الأمراء ورجال الدين والباحثون والتجار المتحمسون لإظهار وعيهم الشخصي بالجغرافيا والسفر من خلال امتلاك نسخ مخطوطات باهظة الثمن لبطليموس. ومع ذلك، تبين الخرائط التي لا تزال باقية من القرن الرابع عشر التقاليد الثقافية المتنوعة التي شكلت عالم عصر النهضة. فخريطة المغرب التي لا يعرف اسم واضعها ، والتي يعود تاريخها إلى عام 1330 تقريبا، هي مثال عملي للخرائط التي كان يطلق عليها «بورتولان» التي استخدمها التجار والملاحون لعبور البحر المتوسط. وكانت خطوط الاتجاهات الثابتة التي تجتاز الخريطة تساعد اتجاهات البوصلة وتسمح للملاحين بالإبحار في مسارات دقيقة بدرجة معقولة. ونظرا لأنها كانت تنتج إما في غرناطة أو المغرب، فإنها تبين تداول المعرفة الجغرافية، ومهارات الملاحة، والتجارة بين المجتمعات المسيحية والإسلامية. ومن بين أسماء الأماكن البالغ عددها 202 مكان، التي تظهر في تلك الخريطة، فإن 48 مكانا من أصل عربي والبقية من أصل كتالوني أو إسباني أو إيطالي. وبالاستناد إلى خبرة الملاحين والدارسين العرب واليهود والمسيحيين، كانت الخرائط العملية مثل هذه الخريطة هي التي جعلت أولى الرحلات البحرية التجريبية فيما وراء حدود أوروبا ممكنة.
الدوران حول الرأس
في عام 1415، استولى البرتغاليون على مدينة سبتة الإسلامية في المغرب. وقد منح هذا الانتصار البرتغال نقطة انطلاق للتوسع في الساحل الأفريقي الغربي. وباستغلال موقعها الجغرافي المواجه للمحيط الأطلنطي، سعى التاج البرتغالي للتوغل في الطرق التجارية عبر الصحراء الكبرى؛ وذلك هربا من دفع الرسوم الجمركية المجحفة التي كانت تمثل عبئا على السفر عبر طرق التجارة البرية والبحرية عبر شمال أفريقيا وصولا إلى جنوب أوروبا. وعندما فاز التاج البرتغالي بجزر ماديرا (1420)، وجزر الأزور (1439)، وجزر كاب فيردي (في ستينيات القرن الخامس عشر)، أصبحت التجارة في المواد الأساسية مثل الأخشاب والسكر والسمك والقمح أكثر أهمية من البحث عن الذهب. وقد أدى هذا إلى إعادة تعريف أهداف الاسكتشاف البحري والاستيطان من جانب التاج البرتغالي.
شكل 4-2: هذه الخريطة البحرية أو «بورتلان» التي تعرف باسم «خريطة المغرب»، رسمت في شمال أفريقيا في عام 1330 تقريبا، وتوضح كيف أن المعرفة المشتركة شكلت وجه الملاحة في البحر المتوسط.
2
وبمجرد أن استقر البرتغاليون على جزر الأزور، بدءوا يبحرون جنوبا إلى أقاليم لا تقع على أي خريطة، أو ما كان يطلق عليه في خريطة بطليموس «الأقاليم المجهولة». وعندما بلغ البرتغاليون حدود تقاليد الملاحة ورسم الخرائط في منطقة البحر المتوسط، استعانوا بخدمات العلماء اليهود لوضع جداول شمسية، وخرائط نجمية، وأسطرلابات، وأدوات الربعية، وعصي الملاحة لحساب دوائر العرض حسب موقع الشمس والقمر والنجوم. وبحلول ثمانينيات القرن الخامس عشر، كانت هذه التطورات العلمية ناجحة لدرجة أن البرتغاليين أبحروا حول سيراليون، وأسسوا مواقع تجارية على طول ساحل غينيا.
أما المواجهات التجارية التي نشأت عن تلك التطورات فكان لها تأثير ملحوظ على ثقافة واقتصاد المجتمعات في غرب أفريقيا والبرتغال وبقية أراضي أوروبا. فاختلاط الناس أدى إلى خلق مجتمعات مستقلة مختلطة الأجناس في غرب أفريقيا، والتي كان يشار إليها باسم «لانسادو». وكان يجري مقايضة النحاس والخيول والقماش مقابل الذهب والفلفل والعاج والأبنوس. وبنهاية القرن الخامس عشر، تمكنت البرتغال - بفضل الذهب الذي يشحن إلى لشبونة - من إصدار عملتها الذهبية القومية الأولى: الكروسادو، كما شرعت في تنفيذ برنامج بناء عام طموح كان يدمج العناصر الأساسية الكلاسيكية والمغولية والفارسية، والتي يمكن رؤيتها حتى اليوم على امتداد لشبونة وجوا وماكاو.
وفي ديسمبر من عام 1488، عاد بارثولوميو دياز إلى لشبونة ليعلن أنه قد أبحر حول الطرف الجنوبي الأقصى من أفريقيا. وسجل عالم جغرافي برتغالي معاصر أن دياز كان يدرك أن «الساحل في هذه النقطة كان يتجه إلى الشمال والشمال الشرقي تجاه إثيوبيا تحت مصر ونحو الخليج العربي، مقدما بذلك أملا عظيما لاكتشاف الهند». ونتيجة ذلك، فإن دياز أطلق على ذلك الجزء: «رأس الرجاء الصالح». وبهذا الخبر أصبحت الخرائط المطبوعة التي كانت لا تزال تعيد إنتاج رؤية بطليموس عن العالم قديمة ومهجورة بصورة متزايدة. فمنذ تلك اللحظة وصاعدا، كان الرحالة الأوروبيون يبحرون بالفعل إلى «الأقاليم المجهولة»؛ إلى عالم جديد بالكامل حيث لا يمكنهم الاعتماد على السلطة التقليدية.
الشرق هو الشرق
من بين المراقبين الذين كانوا منبهرين بشدة بهذه الاكتشافات، ملاح من مدينة جنوا يطلق عليه كريستوفر كولومبس، كان حاضرا في البلاط البرتغالي عندما عاد دياز بخبر الإبحار حول الرأس الأفريقي. وقادت متابعة كولومبس للإنجازات العملية للملاحين البرتغاليين، وانشغاله بالجغرافيا الكلاسيكية؛ إلى قيامه باتخاذ قرار مصيري. كان كولومبس يتقبل مغالاة بطليموس وماركو بولو في تقدير حجم آسيا. لكنه كان يدرك أيضا أنه لو كان تقدير بطليموس بخصوص محيط العالم صحيحا، فإن الرحلة المتجهة إلى آسيا المبحرة غربا من أوروبا ستكون أقصر من المسار الجنوبي الشرقي الذي كان يسلكه البرتغاليون. لقد حسب كولومبس أن المسافة المتجهة غربا بين اليابان وجزر الأزور تساوي ثلاثة آلاف ميل، لكنها كانت في الواقع أكثر من عشرة آلاف ميل؛ فقد كانت حسابات بطليموس بخصوص حجم آسيا وحجم الكرة الأرضية خاطئة، ولو كان كولومبس يعرف هذا لما كان انطلق في رحلته عام 1492.
اقترح كولومبس الفكرة في البداية على البلاط البرتغالي في عام 1485، لكن خطته رفضت بسبب نجاح لشبونة في اتخاذ المسار البحري إلى الشرق عبر جنوب أفريقيا. وبالتالي نقل كولومبس اقتراحه إلى التاج القشتالي. كانت قشتالة تعاني مأزقا ماليا بسبب صراعها المتواصل مع المسلمين الأيبيريين، لكن احتمالية احتكار السوق في التوابل والذهب من الشرق فرصة لا يمكن أن تفوتها، ومن ثم فقد عرضت على كولومبس الدعم المالي. وفي الثاني من أغسطس 1492، انطلق كولومبس أخيرا في رحلته من بالوس في جنوب إسبانيا على رأس فريق من البحارة قوامه 90 رجلا في ثلاث سفن.
بعد حوالي شهرين من الإبحار في اتجاه الغرب عبر المحيط الأطلنطي، وفي يوم الخميس الموافق 10 أكتوبر، شاهد كولومبس جزر الباهاما، حيث هبط إلى اليابسة وقابل السكان المحليين الذين «كانوا جميعا أقوياء البنية بأجساد ضخمة جدا ووجوه وسيمة»، كما تم تصويرهم باعتبارهم «خدم طيبين ويتمتعون بالذكاء الحاد». وكان كولومبس لا يطيق صبرا «للمغادرة إلى جزيرة أخرى ضخمة، والتي أعتقد أنها لا بد أن تكون سيبانجو [اليابان]، وفقا للعلامات التي يقدمها هؤلاء الهنود الذين معي؛ فهم يدعونها كولبا». كان كولومبس مقتنعا بأنه على مشارف الوصول لليابان. لكن «كولبا» اتضح أنها كانت كوبا. التف كولومبس حول ساحل كوبا وهايتي قبل تحطم السفينة الرئيسية، والعودة إلى الوطن بقليل من الذهب، والعديد من «الهنود» المختطفين.
أثارت عودة كولومبس إلى أوروبا عاصفة دبلوماسية. لم يكن السبب هو أنه اكتشف «عالما جديدا »، فقد كان لا يزال يتمسك باعتقاد أنه وصل إلى الشرق من خلال الإبحار غربا. فقد اعترضت البرتغال على أن البعثة المدعومة من جانب قشتالة نقضت بنود اتفاقية سابقة كانت تضمن احتكار البرتغال لجميع الاكتشافات «فيما وراء غينيا». لكن غموض هذه العبارة، وتوسط بابا إسباني متعاطف، منحا قشتالة الحق في الاكتشافات الجديدة بحسب بنود معاهدة تورديسيلاس (1494). كما نصت المعاهدة على رسم خريطة بها خط تقسيم يحدد مناطق مصالح الإمبراطوريتين. اتفقت الوفود على «تحديد ورسم حد أو خط مستقيم» عبر المحيط الأطلنطي «على بعد مسافة ثلاثمائة وسبعين فرسخا غرب جزر كاب فيردي». وكان كل ما يقع غرب هذا الخط يخص قشتالة، وكل ما يقع شرقه (وجنوبه) يخص البرتغال. فحصلت قشتالة على ما كانت تعتقد أنه طريق جديد إلى الشرق، بينما حمى البرتغاليون ممتلكاتهم الأفريقية والطريق إلى الشرق من خلال رأس الرجاء الصالح.
جوهرة التاج
كان «اكتشاف» كولومبس المبدئي لأمريكا ينظر إليه باعتباره عملا فاشلا. فقد بدا أنه قد اكتشف عقبة إقليمية جديدة تعترض الطريق أمام مسار أقصر مربح تجاريا إلى الشرق. أما البرتغاليون، فبعد أن تأخروا في محاولتهم للاستفادة من اكتشاف دياز لرأس الرجاء الصالح من خلال رحلة كولومبس والنزاع الدبلوماسي التالي، أرسلوا بعثة أخرى حول الرأس وأعلنوا صراحة أن هدفها هو الوصول إلى الهند. وفي يوليو 1497، غادر فاسكو دا جاما لشبونة ومعه 170 رجلا في أسطول مكون من أربع سفن ضخمة، تحمل كل منها 20 مدفعا ومختلف البضائع التجارية. وبينما كان دا جاما يبحر حول الرأس، وجد نفسه في مياه لا تذكرها أية خريطة على الإطلاق. والأسوأ من ذلك، أن الوسائل الملاحية البرتغالية المستندة على الحسابات الفلكية، كانت غير ذات فائدة تحت سماء المحيط الهندي غير المألوفة.
وعندما رسا دا جاما في ماليندي، استأجر ملاحا فلكيا عربيا معروفا بكونه أحد أمهر الربابنة في زمانه:
وبعد مناقشة الربان العربي، شعر فاسكو دا جاما بالرضا الكبير لما لمسه فيه من معرفة، لا سيما عندما عرض له الربان خريطة لساحل الهند بأكمله مرسومة بأسلوب المغاربة الذي يتسم بخطوط الطول والمتوازيات ... وعندما عرض عليه دا جاما أسطرلابا كبيرا من الخشب كان لديه، وأسطرلابات أخرى معدنية كان يقيس بها ارتفاع الشمس، لم تبد الدهشة على الربان الذي قال إن بعض الملاحين في البحر الأحمر كانوا يستخدمون أدوات نحاسية مثلثة الشكل، وربعيات يقيسون بها ارتفاع الشمس، وارتفاع النجم القطبي الذي كانوا يستخدمونه بدرجة شائعة في الملاحة.
كانت هذه التقنيات مجهولة تماما بالنسبة للملاحين الأوروبيين. لقد أخذت الخبرة الفلكية اليهودية البرتغاليين حتى حدود الرأس، ثم ساعدتهم المهارة الملاحية الإسلامية في نهاية المطاف على الوصول إلى الهند.
لم يزود الربان العربي دا جاما بالخبرة الملاحية المطلوبة للإبحار عبر المحيط الهندي فحسب، بل كشف له دون قصد منه عن مدى اتساع تطور العلم والفلك العربي. فكما أن نصوص بطليموس الكلاسيكية عن الجغرافيا والفلك انتقلت من الإسكندرية إلى القسطنطينية وإيطاليا وألمانيا والبرتغال، فقد انتشرت كذلك شرقا عبر دمشق وبغداد وسمرقند. ومثلت رعاية محمد الفاتح لكتاب بطليموس «الجغرافيا» أحد أبعاد التقليد القوي للفلك والجغرافيا الإسلامية. ففي عام 1513، أصدر القائد البحري العثماني المعروف باسم «بيري رئيس» خريطة للعالم، زعم أنها «تستند بالأساس إلى عشرين رسما وخريطة للعالم إحداها مرسومة في عصر الإسكندر الأكبر ومعروفة باسم «دجا جرافي». كانت هذه الخريطة تعتمد على كتاب بطليموس «الجغرافيا». كما استعان بيري رئيس كذلك «بخرائط جديدة للبحار الصينية والإيطالية»، علاوة على «خريطة عربية للهند، وأربع خرائط برتغالية جديدة مرسومة وفقا للطرق الهندسية المتعلقة بالهند والصين، وأيضا خريطة الأراضي الغربية التي وضعها كولومبس». وكان من الواضح أن البلاط العثماني في إسطنبول يراقب عن كثب التطورات في المحيط الأطلنطي الغربي.
لم يتبق من خريطة بيري رئيس سوى الجزء الغربي، لكن تفصيلات هذا الجزء توحي بأن تمثيل المحيط الهندي كان شاملا بالدرجة نفسها، من خلال الاستعانة بالخرائط البرتغالية الجديدة ودمجها مع الخبرة الفلكية والملاحية للربابنة والدارسين المسلمين والهندوس والصينيين. وتؤكد تعليقات بيري رئيس على المستوى الواسع للتبادل الثقافي ورواج المعرفة اللذين شكلا أساس عصر الاكتشافات. كان المسلمون والهندوس والمسيحيون يتبادلون المعلومات والأفكار في محاولة لانتزاع زمام المبادرة السياسية والتجارية.
شكل 4-3: توضح خريطة العالم التي رسمها بيري رئيس (1513) مدى انتقال المعلومات الجغرافية بين الشرق والغرب.
3
من الناحية الملاحية، كان دا جاما وأفراد بعثته يعتقدون أنهم يبحرون إلى عالم جديد. وسرعان ما اكتشفوا أنهم - على المستوى الثقافي - كانوا يدخلون عالما مألوفا بصورة مدهشة، حيث كان ينظر إليهم فيه على أنهم أناس قذرون وعنيفون ومتخلفون من الناحية التقنية. وصل دا جاما إلى كاليكوت التي تقع على الساحل الجنوبي من الهند في مايو 1498، لكن الهدايا التي أحضرها معه كانت ملائمة للتجارة في غينيا أكثر من تقديمها كهدايا في مراسم رسمية إلى البلاط الملكي الأنيق لملك كاليكوت سامورين. وعندما شاهد التجار المحليون عرض دا جاما المتنافر من القماش والمرجان والسكر والزيت والعسل، «سخروا منه قائلين إنه لا يليق تقديم مثل تلك الأشياء إلى ملك، وإن أفقر تاجر من مكة، أو من أي بقعة أخرى من الهند يمكنه أن يقدم أكثر من ذلك». تسبب هذا العجز عن تقديم هدايا ملائمة في توترات سياسية، وحصر البرتغاليين في إطار مقايضة محدودة. ومع ذلك، فإن الحمولة الصغيرة، ولكن الثمينة، من القرفة والقرنفل والزنجبيل وجوزة الطيب والفلفل والعقاقير والأحجار الكريمة والأخشاب، التي قدمها دا جاما لدى عودته إلى لشبونة في سبتمبر 1499؛ أقنعت البلاط الملكي البرتغالي بأنهم دخلوا أخيرا إلى عالم تجارة التوابل.
لم يكن دخول البرتغال إلى السوق التجارية في المحيط الهندي أكثر من مجرد قطرة في محيط. فأنماط التجارة التقليدية للمنطقة والتبادل التجاري وضخامة وتنوع بضائعه قزمت العرض والطلب للأساطيل البرتغالية الأولى. وقد استجاب البرتغاليون بالتكيف مع الوضع والقبول البراجماتي بالطرق المختلفة للتبادل التجاري، واستغلال الاختلافات السياسية بين المجتمعات الهندوسية والإسلامية، واستخدام البارود في تأسيس مواقع تجارية محدودة عبر أرجاء المنطقة. ومع ذلك، فقد سجلت الخرائط والكتب والمقايضات الدبلوماسية في أوروبا أن رحلة دا جاما رسخت احتكار البرتغال لتجارة التوابل الآسيوية.
تمثل تأثير رحلة البحار البرتغالي في تغيير الخريطة السياسية للعالم في عصر النهضة. فقد حاولت فينيسيا على الفور تقويض مناقشات كانت تدور مع تجار توابل هنود كانوا قد وصلوا إلى لشبونة لمناقشة دور البرتغال في التجارة، ودخلت في محادثات مفتوحة مع العثمانيين والمماليك المصريين بهدف استخدام القوة الدبلوماسية والعسكرية للدفاع عن مصالحهم التجارية. وردت البرتغال في عام 1511، بالتفاوض مع الحاكم الفارسي الشاه إسماعيل لشن هجوم عسكري مشترك على مصر، من شأنه أن يقضي على إمدادات فينيسيا بالتوابل، ويساعد إسماعيل في حربه ضد العثمانيين. وكما كان معتادا في عصر النهضة، فعندما تكون التجارة والثروة معرضة للخطر، تتبدد الخلافات الدينية والأيديولوجية.
مغامرات عالمية
بحلول عام 1502، وصلت المرحلة الكبرى الأولى من السفر البحري إلى ذروتها. فقد تحطمت صورة بطليموس عن العالم، وبدأت صورة حديثة متميزة عن العالم في الظهور. فقد دار البرتغاليون حول أفريقيا، ووصلوا إلى الهند، واكتشفوا البرازيل بالصدفة في الطريق إلى الشرق (1500)، وكانوا يتقدمون إلى ملقة بإندونيسيا (1511)، وهرمز (1513)، والصين (1514)، واليابان (1543). وباتجاه الغرب، رسخت رحلات كولومبس الثلاث إلى الأمريكتين تجارة مزدهرة في الذهب والفضة والعبيد. وفي أربع رحلات ما بين عامي 1497 و1502، أثبت أمريجو فيسبوتشي أن كولومبس قد اكتشف قارة جديدة. ونظرا لأن فيسبوتشي قام بنشر اكتشافاته عبر آلة الطباعة، فقد ارتبط اسمه هو وليس اسم كولومبس بتلك القارة الجديدة - أمريكا - في الفكر الأوروبي. وهكذا أصبحت قشتالة تملك قارة منفصلة تدعي ملكيتها، وإمبراطورية عليها بناؤها من شأنها أن تتنافس مع جارتها الأيبيرية.
وقد صاحب مراجعة الفكر الجغرافي الأوروبي تحول في نسيج الحياة اليومية. فالتوابل التي تدفقت إلى أوروبا أثرت على نوعية وكيفية الطعام الذي يأكله الناس، كما فعل تأثير تدفق جوز الهند والبرتقال واليام والموز (من الشرق)، والأناناس والفول السوداني والببايا والبطاطس (من الأمريكتين). وكان مصطلح «التوابل» يمكن أن يشير أيضا إلى مجموعة محيرة من العقاقير (بما فيها الأفيون والكافور والقنب)، ومستحضرات التجميل والسكر والشموع. أما الحرير والقطن والمخمل فغيرت ما كان الناس يرتدونه، وغير المسك والزباد رائحتهم. كما جعلت الأصباغ مثل الأزرق والقرمزي وأصماغ اللك والزعفران والشب، من أوروبا مكانا أكثر إشراقا، بينما غير الخزف الصيني والكهرمان والأبنوس وخشب الصندل والعاج والخيزران والأخشاب المطلية؛ مداخل البيوت العامة والخاصة للأثرياء. وكان الخزامى والببغاوات ووحيد القرن وألواح الشطرنج والأدوات الجنسية والتبغ؛ قلة قليلة من البضائع الخاصة الثمينة التي وصلت إلى أوروبا من الشرق والغرب. وتغيرت لشبونة نفسها إلى واحدة من أثرى المدن الأوروبية، حيث كان من الممكن شراء أي شيء تقريبا. وكان الأمراء يتباهون بعرض الجواهر والدروع والتماثيل واللوحات وأحجار البازهر، وحتى الببغاوات والقرود والخيول؛ في خزائن الغرائب، وذكر ألبريشت دورر بحماسة حصوله على ملاحات أفريقية وخزف صيني وخشب الصندل وببغاوات وجوز الهند وريش.
في عام 1513، وصل البرتغاليون أخيرا إلى جزر الملوك، وهي مجموعة صغيرة من الجزر في الأرخبيل الإندونيسي كانت بمثابة المورد الوحيد للقرنفل. وأثار هذا الاكتشاف أزمة سياسية حادة. فمنذ معاهدة تورديسيلاس، كانت البرتغال تتعقب مصالحها التجارية إلى الشرق بينما كانت قشتالة تركز على التوسع إلى الغرب. وكان هذا الأمر لا بأس به عند رسمه على خريطة مسطحة من النوع الذي استخدم بوضوح وفق بنود معاهدة تورديسيلاس، لكن اكتشاف جزر الملوك أثار سؤال أين يقع مثل هذا الخط في نصف الكرة الشرقي، لو رسم حول العالم على الكرة الأرضية.
ثم دخل اسم الربان البرتغالي فيرنو دي ماجالهايس - المشهور اليوم باسم فرديناند ماجلان - في المنافسة. فقد كان يشك في أن ممرا غربيا إلى جزر الملوك سيكون أقصر من المسار البرتغالي عبر رأس الرجاء الصالح. إلا أنه واجه مشكلة المعارضة البرتغالية لهذه الخطة؛ لذا أعاد إحياء فكرة كولومبس الأصلية المرتبطة بالوصول إلى الشرق من خلال الإبحار غربا، وعرض الخطة على ملك قشتالة وإمبراطور هابسبورج المرتقب تشارلز الخامس. كان ذلك مقترحا تجاريا طموحا يتطلب الاستثمار في رحلة طويلة، وهو مثال نموذجي على الدافع وراء الكثير من رحلات «الاستكشاف» في عصر النهضة. لم يكن هدف ماجلان هو الإبحار حول الكرة الأرضية؛ فقد كان يقترح القيام برحلة تبحر غربا إلى جزر الملوك ثم تعود عبر أمريكا الجنوبية. وكان هذا من شأنه أن يجعل جزر الملوك ملكية لقشتالة على أساس حادثة سياسية وجغرافية سابقة، ويقطع إمدادات البرتغال من التوابل فائقة الجودة، ويحول ثروة لشبونة إلى قشتالة. لقد كان اختيار ماجلان الناجح للدعم المالي قائما على تفكير عالمي. فوصل إلى إشبيلية في عام 1519، ومعه «نموذج جغرافي واضح للكرة الأرضية يوضح العالم بأسره، وقد خط عليه المسار الذي اعتزم أن يسلكه». لقد كانت الكرات الجغرافية وليست الخرائط هي التي تأسر انتباه الجغرافيا السياسية والتجارية بمنتهى الدقة في العالم في القرن السادس عشر.
وسرعان ما أقنع ماجلان قشتالة، وبدأ رحلته البحرية في سبتمبر 1519. وبينما كان يبحر عبر ساحل أمريكا الجنوبية، كان على ماجلان أن يقمع تمردا، كما أنه فقد سفينتين بينما كان يبحث عن طريق عبر المضيق الذي يحمل اسمه الآن في طرف أمريكا الجنوبية. وقد أمضى ماجلان أسابيع يبحر عبر المحيط الهادئ الذي كان أكبر مما توحي خرائطه، وفي النهاية وصل الأسطول إلى جزيرة سامار في الفلبين في أبريل 1521، حيث تورط ماجلان في صراع محلي تافه وقتل مع أربعين من رجاله. وأبحرت بقايا الأسطول مرة أخرى ووصلت أخيرا إلى جزر الملوك، حيث حملت بالقرنفل والفلفل والزنجبيل وجوزة الطيب وخشب الصندل. وفيما كان طاقم الرحلة غير قادر على مواجهة رحلة العودة المخططة عبر مضيق ماجلان، اتفقوا على العودة عبر رأس الرجاء الصالح، معرضين بذلك أنفسهم لمخاطرة الأسر من جانب سفن الدوريات البرتغالية. مثل قرارهم هذا حدثا تاريخيا عالميا. وفي الثامن من سبتمبر عام 1522، وصل 18 شخصا من بين الطاقم الأصلي المكون من 240 بحارا عائدا إلى إشبيلية، وقد أكملوا أول إبحار مسجل حول الكرة الأرضية.
تسبب خبر رحلة ماجلان في اضطراب دبلوماسي. فتشارلز الخامس فسر الرحلة على الفور بصفتها تبريرا للزعم بأن جزر الملوك تقع في إطار نصف الكرة الأرضية الذي يخصه. وبدأ مستشاروه في صياغة قضية دبلوماسية وجغرافية لملكية الجزر. وقد استخدم القشتاليون بمهارة المرجع التقليدي لدعم زعمهم، وكان تقدير بطليموس المبالغ فيه بخصوص حجم آسيا في صالحهم. فمن خلال تكرار العرض غير الدقيق لآسيا في خرائطهم، دفعت قشتالة جزر الملوك إلى مسافة أبعد ناحية الشرق، وبالتالي إلى النصف الخاص بهم من الكرة الأرضية. قدم القشتاليون الخرائط والكرات الجغرافية التي «يتوافق فيها وصف ورسم بطليموس، والوصف والنموذج المكتشفان مؤخرا على يد العائدين من أقاليم التوابل ... وبالتالي فإن سومطرة ومالاكا وجزر الملوك تقع في إطار حدودنا».
فيما جلس التاجان في محاولتهما الأخيرة لحل النزاع في ساراجوسا في عام 1529، استعانت قشتالة برسام الخرائط البرتغالي ديوجو ريبيرو لعمل سلسلة من الخرائط والكرات الجغرافية، التي تضع جزر الملوك ضمن النصف القشتالي من الكرة الأرضية. كانت تلك هي اللحظة التي أصبح عصر النهضة فيها عالميا بالمعنى الحديث. أما عواقب رحلة ماجلان فكان معناها أن الكرات الأرضية الجغرافية صارت تمثيلا أكثر إقناعا لشكل ونطاق العالم.
وبينما لم تبق هذه الكرات الجغرافية، فإن خريطة ريبيرو التي تعود إلى عام 1529 لا تزال شاهدة على التلاعب بالواقع الجغرافي الذي كان سمة لهذا النزاع. لقد وضع ريبيرو جزر الملوك على مسافة 172 درجة ونصف غرب الخط الذي رسمته معاهدة تورديسيلاس؛ أي سبع درجات ونصف فقط داخل نطاق نصيب قشتالة. وقد منحت الخريطة تشارلز الخامس قوة التفاوض التي كان بحاجة إليها. وقد باع حقوقه في الجزيرة إلى البرتغاليين قليلي الحيلة؛ إذ كان تشارلز قد أدرك في الواقع أن المال النقدي قصير الأجل أفضل من الاستثمار التجاري طويل الأجل؛ وذلك بسبب التكلفة الهائلة والإمدادات الضخمة التي يتطلبها إنشاء طريق للتجارة الغربية إلى جزر الملوك. أما ريبيرو، فقد بنى مكانته باعتباره رسام الخرائط الأكثر تقديرا واحتراما لدى قشتالة، ظنا منه أن تلك الحركة من خفة اليد الجغرافية لن تكتشف على الإطلاق؛ لأنه من دون طريقة دقيقة لحساب خط الطول سيكون من المستحيل تصحيح الوضع الدقيق لجزر الملوك.
عوالم جديدة وقصص قديمة
بعد اكتشاف كولومبس لأمريكا، أدى تدفق الذهب والفضة إلى صناديق إمبراطورية هابسبورج الخاصة بتشارلز إلى تقزيم عائدات تجارة التوابل الشرقية. وبينما أسست البرتغال مواقع تجارية في الشرق - والتي كانت تحتاج إلى آليات جديدة من التجارة والتبادل - استخدمت إسبانيا قوتها العسكرية لتحويل أمريكا إلى مستعمرة ضخمة للعبيد والتعدين.
وفي عام 1521، وصل هرناندو كورتز إلى تينوتشتيتلان (مكسيكو سيتي اليوم) عاصمة إمبراطورية الأزتك، فقام بتدميرها بصورة منظمة، وقتل معظم سكانها أثناء ذلك بمن فيهم إمبراطورها مونتزوما. وفي عام 1533، قاد المغامر فرانثيسكو بيثارو مجموعة من الفاتحين والخيالة لاحتلال كوزكو (بيرو اليوم)، عاصمة إمبراطورية الإنكا. لم يكن لدى السكان الأصليين قوة تجارية أو عسكرية كافية لمقاومة الاجتياح العنيف والسلب والنهب من قبل الإسبان، الذين فرضوا تدابير شبه إقطاعية على الأقاليم التي غزوها تعرف باسم «إنكومياندا». وقد تضمن هذا تقسيم مجتمعات محلية صغيرة بين المراقبين الإسبان، الذين كانوا يقدمون «مصدر رزق» استغلالي بصورة وحشية (كان في الواقع عملا شاقا بلا مقابل) وتعليما مسيحيا.
شكل 4-4: تلاعبت خريطة ديوجو ريبيرو لنصف الكرة الأرضية التي تعود إلى عام 1529 بالمعرفة الجغرافية؛ من أجل وضع جزر الملوك في نصف الكرة الأرضية التابع لهابسبورج.
4
تشير التقديرات المتحفظة إلى أنه من بين سكان العالم البالغ عددهم نحو 400 مليون عام 1500، كان حوالي 80 مليونا يسكنون الأمريكتين. وبحلول عام 1550، كان عدد سكان الأمريكتين 10 ملايين فقط. وفي بداية القرن السادس عشر، قدر عدد سكان المكسيك بحوالي 25 مليون نسمة. وفي عام 1600، انخفض العدد إلى مليون نسمة فقط؛ فقد قضت الأمراض الأوروبية، مثل الجدري والحصبة، على معظم السكان الأصليين، كما كانت الحرب والقتل والمعاملة البشعة مسئولة كذلك عن الكثير من القتلى. وسرعان ما تحولت القصة الشاعرية حول اكتشاف أكوام من الذهب والفضة إلى عمل قذر قاتل من التعدين والاستعباد.
كان استغلال الإسبان للأمريكتين ذا تأثير مباشر على اقتصاد أوروبا. فبصورة مبدئية، تدفق الذهب على أوروبا من هسبانيولا وأمريكا الوسطى. ولكن سرعان ما قلب غزو المكسيك وبيرو التوازن لصالح تعدين الفضة. وبين عامي 1543 و1548 وجدت مستودعات الفضة في زاكاتيكاس وجواناخواتو شمال مكسيكو سيتي؛ وفي عام 1543، اكتشف الإسبان جبل الفضة المخروطي رديء السمعة في بوتوسي في بوليفيا. ولكن جاءت الطفرة الحاسمة في عام 1555، باكتشاف عملية دمج الزئبق بمعادن أخرى؛ مما سمح بابتكار فضة أكثر نقاء من خلال صهر خام الفضة بالزئبق. وكانت النتيجة تدفق هائل للفضة إلى أوروبا. وبنهاية القرن السادس عشر، كان أكثر من 270 ألف كيلوجرام من الفضة، وتقريبا ألفا كيلوجرام من الذهب، يصل إلى أوروبا كل عام؛ مما تسبب في ارتفاع التضخم، وبالتالي أسهم فيما أطلق عليه المؤرخون الاقتصاديون «ثورة الأسعار»؛ حيث قفزت الأجور وتكلفة المعيشة، مما خلق الإطار للتطور طويل الأجل للرأسمالية الأوروبية.
كانت المناجم والمزارع الأمريكية بحاجة للعمال، ولكن سرعان ما تبين أن هلاك السكان المحليين معناه أن الإسبان كانوا بحاجة إلى مصدر آخر للعمالة. وكان الحل الذي توصلوا إليه هو العبيد. وفي عام 1510، صرح الملك فرديناند ملك قشتالة بتصدير 50 عبدا أفريقيا إلى مناجم هسبانيولا. وقد كتب ألونسو سوازو من هناك إلى تشارلز الخامس في عام 1518، معبرا عن قلقه من معدل العمل لدى الهنود، ونصح «باستيراد الزنوج، فهم مثاليون للعمل هنا، على خلاف السكان الأصليين الضعفاء، لدرجة أنهم ملائمون فقط للعمل الخفيف». وبين عامي 1529 و1537، أصدر التاج القشتالي 360 رخصة لنقل العبيد من أفريقيا إلى العالم الجديد، وهكذا بدأت واحدة من أكثر الخصائص الشائنة لعصر النهضة، حيث كان العبيد الأفارقة - الذين كانوا يختطفون أو يشترون مقابل 50 بيزو للعبد الواحد من قبل «التجار» البرتغاليين في غرب أفريقيا - يحشرون في مراكب ويشحنون إلى العالم الجديد. وهناك كانوا يباعون بضعف ثمن شرائهم، ويبدءون العمل في المناجم والمزارع. وبين عامي 1525 و1550، شحن حوالي 40 ألف عبد من أفريقيا إلى الأمريكتين، مما أدى إلى إثراء أوروبا وتدمير المجتمعات الأفريقية.
لم يكن كل الإسبان يؤيدون المذابح والقمع اللذين كانا يحدثان في الأمريكتين. فكان الفرنسيسكاني فراي موتولينيا يؤمن أنه «لو سأل أي إنسان عن سبب وجود الكثير من الشرور فسأجيبه: الجشع»، وبنفس المنطق قال بارتولومي دي لاس كاساس: «أنا لا أقول إنهم يريدون أن يقتلوهم [أي الهنود] مباشرة بدافع الكراهية التي يحملونها تجاههم؛ لكنهم يقتلونهم لأنهم يريدون أن يكونوا أغنياء، ويحصلوا على الكثير من الذهب.» ومن الناحية الفلسفية، غير اكتشاف عالم جديد من الفهم الأوروبي لسيادتها الثقافية. ففي قسم «عن آكلي لحوم البشر» من كتاب «المقالات» في عام 1580، زعم الإنساني ميشيل دي مونتين أنه تحدث بالتفصيل مع العديد من الهنود البرازيليين، واستنتج قائلا: «هذه الشعوب لا تتصف بالهمجية أو البربرية، لكن كل شخص يدعو أي شيء غير معتاد عليه بربريا.» وقد كون مونتين نهجا شديدة الشكوكية والنسبية بخصوص مفاهيم «الحضارة» و«البربرية»، مؤكدا: «يمكننا بالفعل أن نصف أولئك القوم بالبربرية حسب قواعد العقل، ولكن ليس مقارنة بأنفسنا، فنحن نفوقهم في كل صنف من صنوف البربرية.»
لقد أحدث اكتشاف أمريكا ثورة في صورة أوروبا عن العالم في عصر النهضة. فقد دحض المعتقدات الفلسفية والدينية الكلاسيكية المترسخة بعمق؛ تلك المعتقدات التي لم تستطع أن تتواءم بسهولة مع وجود الأنظمة الثقافية والعقائدية ولغات السكان الأصليين. كما أن هذا الاكتشاف كان مسئولا - بصفة جزئية - عن تحديد انتقال أوروبا من عالم العصور الوسطى إلى عالم حديث بصورة واضحة. ومن ناحية أخرى، فإن اكتشاف أمريكا ربط بين الخوف من كل ما هو جديد ومجهول؛ والرغبة في الثراء غير المحدود، الذي تجاهل المعاناة الهائلة والقمع الرهيب الذي نزل على رءوس السكان الأصليين والعبيد في الأمريكتين. ويمكن رؤية ميراثه في فقر معظم دول أمريكا الجنوبية اليوم وعدم استقرارها سياسيا، وكذلك في التفاوت في توزيع الثروات والفرص الذي يميز جانبا كبيرا من اقتصاد العالم الحديث.
هوامش
الفصل الخامس
العلم والفلسفة
هيا، يا مفيستوفيليس، لنتناقش مرة أخرى،
ولنتجادل عن التنجيم الإلهي.
تحدث، هل هناك نجوم وكواكب كثيرة فوق القمر؟
هل كل الأجرام السماوية مجرد كرة أرضية واحدة،
مثل جوهر هذه الأرض المركزية؟ (فاوستوس، في «دكتور فاوستوس»
لكريستوفر مارلو، عام 1592 تقريبا)
تعبر مسرحية «دكتور فاوستوس» للكاتب كريستوفر مارلو بصورة درامية عن الإثارة والخطر المرتبطين ببزوغ نجم العلم والتفكير التأملي في عصر النهضة. إن فاوستوس «منجم» علامة، وصل إلى أقصى حدود دراسة علم الفلك والتشريح والفلسفة. وفيما كان فاوستوس يسعى وراء قوى سحرية في الحياة للتغلب على الموت، فإنه يبيع نفسه للشيطان مفيستوفيليس. ورغم أنه يحصل على فرصة للتوبة، فإنه يرفضها. فهو مهتم أكثر بسؤال مفيستوفيليس عن موضوع «التنجيم الإلهي» المثير للجدل. وفي النهاية يلعن فاوستوس ويسقط إلى الجحيم؛ ولكن تفضيله للتعليم واحتقاره للدين أسر خيال العامة في أواخر عصر النهضة. ويلخص مصيره المخاوف الحديثة حول أخلاقيات التجارب العلمية. وأصبح هذا التناقض (التوق إلى المعرفة مع التساؤل: هل يمكننا أن نعرف أكثر مما ينبغي؟) بمثابة سمة للتغيرات التي طرأت على كل من العلوم المبسطة والعلوم التطبيقية التي حدثت في القرنين الخامس عشر والسادس عشر. فقد تغيرت علاقة الفرد بعقله وجسمه وبيئته، نتيجة التعاون العلمي المتجدد في سعيه وراء حل المشكلات بصورة عملية، وتبادل الأفكار بين الثقافات، وتأثير التكنولوجيات الجديدة.
من الكون الكبير إلى الكون الصغير
بمجرد أن باع فاوستوس روحه، طلب من مفيستوفيليس كتابا «يمكن أن أرى فيه كل شخصيات وكواكب السماوات». وكان كتاب «حول دوران الأجرام السماوية» للكاهن والفلكي البولندي نيكولاس كوبرنيكوس هو الكتاب الأكثر إثارة للجدل الذي كان باستطاعة فاوستوس الرجوع إليه. طبع كتاب كوبرنيكوس الثوري هذا للمرة الأولى في نورمبرج في مايو 1543، فأطاح بمعتقد العصور الوسطى القائل بأن الأرض تقع في مركز الكون. وقد أظهر تصور كوبرنيكوس للسماوات أن الأرض وسائر الكواكب الأخرى المعروفة تدور حول الشمس. وقد راجع كوبرنيكوس بمهارة عمل باحثي الفلك اليونانيين والعرب الكلاسيكيين، وكان يؤكد: «إنهم لم يحققوا هدفهم الذي نأمل أن نصل إليه بقبول حقيقة أن الأرض تتحرك.»
حاول كوبرنيكوس أن يحد من الأهمية الثورية لأفكاره بجعلها متوافقة مع تقليد علمي كلاسيكي. لكن الكنيسة الكاثوليكية شعرت بالذعر وأدانت الكتاب. فقد أطاحت حجة كوبرنيكوس بالمعتقد الإنجيلي بأن الأرض - والبشرية معها - تقف في مركز الكون. لقد كانت فكرة محررة لكن خطيرة.
شكل 5-1: النظام الشمسي الذي صوره نيكولاس كوبرنيكوس في كتابه «حول دوران الأجرام السماوية» (1543). للمرة الأولى، تقع الشمس
sol
في مركز الكون.
1
في غضون شهر من نشر بحث كوبرنيكوس، طبع كتاب آخر كان من شأنه أن يغير شكل مجال آخر من العلم: وهو كتاب أندرياس فيزاليوس «حول تركيب الجسم البشري». نشر كتاب فيزاليوس في بازل في يونيو من عام 1543، ومثل بداية العلم القائم على الملاحظة وعلم التشريح الحديثين. وتوضح صفحة العنوان فيزاليوس وهو يقدم درس تشريح تصويري عام منعقدا في «مسرح»، حيث يحيط به التلاميذ والمواطنون والزملاء من الأطباء، وينظر فيزاليوس إلينا وهو يكشف بطن جثة أنثى. هذه الإيماءة تدعو القارئ لفتح الكتاب ومتابعة عالم التشريح وهو يختزل الجسم البشري إلى الهيكل العظمي الذي يحوم حول الجسم المشرح. كشف فيزاليوس سر الجسم الداخلي كخريطة معقدة من اللحم والدم والعظام، وهذا بمثابة مصدر - قد يكون لامتناهيا - للدراسة. لقد فتح استكشافه لأسرار الجسم البشري الطريق أمام دراسة الأذن وأعضاء التناسل الأنثوية، والجهاز الوريدي في وقت لاحق من القرن السادس عشر، وكذلك أمام نظرية ويليام هارفي عن الدورة الدموية في عام 1628.
كانت دراسات فيزاليوس التشريحية قائمة على الملاحظة المنهجية وتحليل الواقع التجريبي. وكان هذا معناه بالنسبة لفيزاليوس سرقة أجساد المدانين والمرضى كما اعترف قائلا: «لم أكن أخشى أن أقوم في منتصف الليل باختطاف ما كنت أتوق إليه.» وبينما كان فيزاليوس يستكشف الأسرار الميكروسكوبية للجسم البشري، استكشف كوبرنيكوس الأسرار الكونية الكبرى. وكانت لهذا دلالات عميقة؛ ففي نهاية المطاف، غير كوبرنيكوس من وجه الإدراك العلمي للزمان والمكان، وذلك بتقويض فكرة العالم المرتب إلهيا. وبدلا من هذا، أصبحت الأرض تصور على أنها مجرد كوكب واحد في زمان الكون وفضائه الممتدين. كما صور فيزاليوس الإنسان الفرد باعتباره آلية معقدة ومركبة من الدم واللحم والعظام، والتي سيعتبرها هاملت في المسرحية التي كتبها شكسبير فيما بعد «جوهر التراب»، وسيطلق عليها الفيلسوف رينيه ديكارت «آلة متحركة».
بالإضافة إلى أعمال كوبرنيكوس وفيزاليوس بدأت مئات المطبوعات في تحديد ملامح فروع البحث العلمي الناشئة: الرياضيات والفيزياء والبيولوجيا والعلوم الطبيعية والجغرافيا. وكان كتاب لوكا باتشولي «كل شيء عن الحساب والهندسة والتناسب» (1494) أول سجل عن التطبيق العملي للحساب والهندسة، وواحدا من بين 214 كتابا رياضيا نشرت في إيطاليا بين عامي 1472 و1500. وفي عام 1545، نشر المنجم جيرونيمو كاردانو كتابه «الفن العظيم»، وهو أول كتاب أوروبي معاصر عن الجبر. وفي عام 1537، أصدر نيكولو تارتاليا كتابه «العلم الجديد» الذي يتناول علم الفيزياء، وتبعه بدراسته عن الحساب التي تحمل عنوان «بحث عام حول الأرقام والقياس» (1556). أما في العلوم الطبيعية فقد درس ليونهارد فوكس في كتابه «تاريخ النباتات» (1542) أكثر من 500 نبات، بينما احتوى كتاب كونراد جيسنر «تاريخ الحيوانات» (1551-1558) على مئات الرسوم التوضيحية التي أعادت تعريف علم الحيوان. وفي الجغرافيا، وصلت تجارب الطرق الجديدة في رسم خرائط العالم إلى ذروتها في خريطة العالم التي رسمها جيرارد ميركاتور في عام 1569: ولا يزال إسقاط ميركاتور الشهير يستخدم حتى اليوم.
شكل 5-2: صفحة عنوان كتاب أندرياس فيزاليوس «حول تركيب الجسم البشري» (1543)، حيث تقدم دراما التحليل التشريحي كما لو أنها في مسرح.
2
كان الإبداع العلمي في عصر النهضة مرتبطا بثبات بالمتطلبات العملية، ولا سيما في مجال الحرب أكثر من غيره من المجالات. ومثلت مطبوعات نيكولو تارتاليا عن الميكانيكا والديناميكا والحركة أولى الدراسات الحديثة في علم القذائف. وقد أهدي كتابه «تساؤلات واختراعات متعددة» (1546) إلى الملك هنري الثامن ذي الطموح العسكري، وتناول الكتاب علم القذائف وكذلك ابتكار المدفعية واستخدامها. وقد تجاوب كتاب تارتاليا مع الاختراعات الجديدة في صناعة الأسلحة والحرب وأضاف إليها وطورها، وذلك بدءا من ابتكار استخدام البارود كوقود تفجيري في بداية القرن الرابع عشر حتى نشأة سلاح الفرسان الذي كان عاملا حاسما في صراعات القرن السادس عشر. وقد أدى تأثير هذه التطورات العسكرية العلمية إلى مزيد من التطورات في مجالي التشريح والجراحة. ففي عام 1545، نشر أمبرواز باريه - وهو من أشد المعجبين بفيزاليوس - دراسته عن الجراحة القائمة على اشتراكه في الحروب الفرنسية-الهابسبورجية في أربعينيات القرن السادس عشر. ودحض باريه المعتقد الشائع بأن جروح الطلقات النارية سامة، ورفض تضميد الجروح بالزيت المغلي، وقد كان هذا ابتكارا عمليا جعله يستحق فيما بعد لقب أبي الجراحة الحديثة.
وكذلك قدمت الهندسة والرياضيات طرقا جديدة لفهم الحركة التي تزداد تعقيدا وغالبا ما تكون غير مرئية للبضائع والأوراق المالية عبر الكرة الأرضية، كما أنهما سهلتا تطورات جديدة في تصميم السفن ومسح الأراضي ورسم الخرائط؛ الأمر الذي تنبأ بتعاملات تجارية أسرع من ذي قبل، والتي لم يتخيلها أحد في ذلك الوقت من حيث السرعة والحجم. وأصبح كتاب ريجيومونتانوس «عن المثلثات» كتابا أساسيا بالنسبة لرسامي الخرائط والملاحين في القرن السادس عشر. فمعالجته المتطورة لعلم المثلثات الكروية دعت رسامي الخرائط لإنشاء كرات أرضية ومساقط خرائطية تأخذ في الاعتبار انحناء سطح الأرض. ونشرت النسخة المطبوعة الأولى في عام 1533 في نورمبرج موطن صناعة نماذج الكرة الأرضية المبكرة، التي ظهرت في أعقاب الإبحار الأول حول الكرة الأرضية في عام 1522.
أتاحت الابتكارات العلمية في الرياضيات والفلك والهندسة الفرصة أمام السفر والتجارة عبر مسافات بعيدة في اتجاه الشرق والغرب، والتي كانت تزداد طموحا، وهو ما خلق في حد ذاته فرصا جديدة وكذلك مشكلات جديدة. فمقابلة بشر ونباتات وحيوانات ومعادن جديدة عبر أرجاء أفريقيا وجنوب شرق آسيا والأمريكتين؛ وسعت مدارك مجالات علم الوظائف وعلم النبات وعلم الحيوان وعلم المعادن في أوروبا وأعادت تعريفها. وكانت هذه التطورات غالبا ما تتميز ببعد تجاري تحديدا. فتناول كتاب جورجيوس أجريكولا «حول المعادن» - الذي نشر للمرة الأولى في عام 1556 - «استخراج المعادن الخام» و«صهر المعادن»، و«فصل الفضة عن الذهب والرصاص عن الذهب والفضة»، و«صناعة الملح والصودا وحجر الشب والزاج والكبريت والقار والزجاج». وقد أحدث دمج علم الكيمياء وعلم المعادن وملاحظات وتجارب أجريكولا عن تجمعات التعدين في جنوب ألمانيا ثورة في تقنيات التعدين، ولعب دورا أساسيا في الزيادة الهائلة في إنتاج فضة العالم الجديد وتصديرها في النصف الثاني من القرن السادس عشر.
وسرعان ما أدرك التجار والممولون أن الاستثمار في العلم يمكن أن يكون عملا مربحا. ففي عام 1519، كتب الإنساني الألماني أولريخ فون هوتن دراسة عن نبات الجياك؛ وهو عقار سحري جديد مستخرج من نبات في الأمريكتين كان يعتقد أنه يشفي من مرض الزهري. وقد أهدى هوتن كتابه إلى رئيس أساقفة ماينز، وكتب يقول: «أتمنى أن تكون نيافتكم قد أفلتم من مرض الزهري، ولكن في حالة الإصابة به (لا قدر الله، لكن لا أحد يعلم) سيكون من دواعي سروري أن أعالجكم وأشفيكم.» وكان يعتقد (اعتقادا خاطئا) أن مرض الزهري قد بدأ في العالم الجديد وعاد إلى أوروبا مع كولومبس في عام 1493، وأن الأصل الجغرافي للمرض ينبغي أن يوفر العلاج. وأطلقت عائلة فوجر الألمانية التجارية، التي فرضت احتكارا على استيراد العقار، حملة لتأييد الجياك، وفتحت سلسلة من المستشفيات لتوفير العقار حصريا. وعندما ارتفع سعر العقار واتضح عدم فعاليته، نشر الطبيب والخيميائي السويسري باراسيلسوس سلسلة من الهجمات على العقار، رافضا إياه باعتباره خدعة تجارية، ونصح باستخدام الزئبق في العلاج، وإن كان الأكثر ألما.
رفض باراسيلسوس الاعتقاد الكلاسيكي في نظرية الأخلاط؛ التي كانت تؤمن بالاحتفاظ بالتوازن بين سوائل الجسم الأربعة الأساسية: الدم والصفراء والبلغم والسوداء. وبدلا من هذا، تبنى نهجا كيميائيا في الطب، مؤكدا على أن المكونات الأساسية للطبيعة يمكن ملاءمتها مع أمراض معينة؛ الأمر الذي قاده لاستخدام عناصر مثل الحديد والكبريت والزئبق في معالجته لأمراض مثل الزهري. وبالاعتماد على العالم العملي الجديد القائم على التجربة والخطأ، بالإضافة إلى مجال الكيمياء، اصطدم باراسيلسوس بالسلطات المؤسسية والمالية. فقد ردت عائلة فوجر على عمله على مرض الزهري والزئبق باستخدام نفوذها المالي لحظر مطبوعاته، والسخرية من مصداقيته العلمية. وقد تنبأت مثل هذه الصراعات بظهور صناعة الصيدلة الحديثة، وعالم الأدوية التجارية.
العلم القادم من الشرق
حصل علم عصر النهضة أيضا على قوة دافعة إضافية من الانتقال المتزايد للمعرفة بين الشرق والغرب. فقد حفظت الكثير من النصوص اليونانية العلمية الكلاسيكية في الترجمات العربية والفارسية والعبرية، وروجعت في أماكن مثل توليدو في إسبانيا، وأكاديمية العلوم التي تأسست في بغداد في القرن التاسع. وقد لعبت المراكز التعليمية الإسلامية دورا أساسيا في دفع التطورات العلمية القائمة على المعرفة اليونانية والابتكارات العربية قدما، ولا سيما في مجالي الطب والفلك. ففي أربعينيات القرن الثاني عشر، كتب هوجو سانتالا - وهو مترجم لاتيني للنصوص العربية - قائلا: «سيكون من المفيد لنا محاكاة العرب بصفة خاصة؛ لأنهم بالضبط كما كان معلمونا وكما كان الرواد.»
وقد أثرت الدراسات العربية للطب مباشرة على نشر المعرفة في الغرب. فالباحث العربي ابن سينا من القرن العاشر درس الأبحاث الطبية اليونانية لجالينوس وأرسطو أثناء تأليف كتابه الموسوعي «القانون في الطب». وقد عرف الطب بأنه: «العلم الذي نتعلم من خلاله الحالات المختلفة للجسم البشري - عندما يكون صحيحا وعندما يكون سقيما - والذي به نحافظ على الصحة، وبه كذلك نستعيدها بعد السقم.» ترجم كتاب «القانون في الطب» إلى اللاتينية في توليدو في القرن الثاني عشر على يد جيرارد من كريمونا. وطبع من هذه الترجمة أكثر من 30 طبعة في إيطاليا في الفترة ما بين 1500 و1550، في الوقت الذي صار فيه كتاب ابن سينا نصا طبيا أساسيا في الجامعات في جميع أرجاء أوروبا. وفي عام 1527، نشر الطبيب الفينيسي أندريا ألباجو طبعة جديدة من كتاب «القانون في الطب» تستند إلى خبرته كطبيب يعمل لصالح قنصلية فينيسيا في دمشق. وكان ألباجو قد درس كتابات الطبيب السوري ابن النفيس (1213-1288)، الذي أثر بحثه عن حركة الدم في الرئتين على الدراسات الأوروبية عن الدورة الدموية في القرن السادس عشر. كما أدان فيزاليوس الأطباء الأكاديميين الذين كانوا يمضون وقتهم في «نقد غير ذي جدوى لابن سينا وبقية الكتاب العرب». إذ إنه كان شديد الاقتناع بأهمية الطب العربي، حتى إنه بدأ في تعلم اللغة العربية بنفسه، كما كتب شروحا لمدح علوم المداواة والمواد الطبية التي استخدمها الرازي. وفي عام 1531، قام أوتو برونفيلز - الذي يطلق عليه «أبو علم النبات» - بتحرير طبعة من المواد الطبية التي استخدمها ابن سرابيون (سرابيون الأصغر) من القرن التاسع، والتي كان لها تأثير حاسم على فهمه الخاص لعلم النبات.
وفي الفلك والجغرافيا كان للباحثين العرب فائدة استثنائية في ترجمة أهم أعمال عالم الكونيات اليوناني بطليموس. إذ ترجم كتاباه «المجسطي» و«الجغرافيا» من اليونانية إلى العربية، وتعرضا للنقد ثم تمت مراجعتهما في توليدو وبغداد وسمرقند. وبعد سقوط القسطنطينية في عام 1453، أثبت السلطان العثماني محمد الفاتح أنه راع متحمس لبطليموس؛ فكلف الباحث اليوناني جيورجيوس أميروتزس بمراجعة نص بطليموس باللغة العربية. وتعد خريطة العالم التي اكتملت في عام 1465 دمجا لحسابات بطليموس، مع معلومات جغرافية عربية ويونانية ولاتينية أحدث. وكانت خريطة العالم هذه - التي تظهر الجنوب متجها لأعلى الخريطة وتستخدم مقاييس خطوط العرض ومسقطا مخروطيا معقدا - شديدة التطور .
شكل 5-3: كلف محمد الفاتح جيورجيوس أميروتزس بوضع خريطة قائمة على أعمال بطليموس في عام 1465. يوضح هذا كيف تطورت دراسة بطليموس في الشرق والغرب على حد سواء.
3
كما أسهمت التعاملات العلمية بين الشرق والغرب في نظرية كوبرنيكوس عن طبيعة النظام الشمسي المتمركز حول الشمس. وتأسس واحد من أهم مراكز الفلك والرياضيات العربية في مرصد مراغة في بلاد فارس في منتصف القرن الثالث عشر. وكانت الشخصية البارزة فيه هي نصير الدين الطوسي (1201-1274) الذي أدخل كتابه في علم الفلك الذي يحمل اسم «تذكرة في علم الحياة» تعديلات على عمل بطليموس المتناقض عن حركة الأجرام السماوية. وأدت مراجعة الطوسي الأكثر أهمية لعمل بطليموس إلى نشأة «مزدوجة الطوسي». وتنص هذه النظرية على أن الحركة الخطية يمكن اشتقاقها من الحركة الدائرية المنتظمة التي صورها الطوسي باستخدام جسم كروي يدور داخل جسم كروي آخر له ضعف نصف القطر. وقد أدرك مؤرخو الفلك أن كوبرنيكوس قد أعاد إنتاج مزدوجة الطوسي في كتابه «حول دوران الأجرام السماوية»، وأن النظرية كانت أساسية في تعريف رؤيته عن النظام الشمسي المتمركز حول الشمس. ولم يكن أحد يبحث عن التأثير العربي على العلم في عصر النهضة؛ لأن الافتراض العام كان أنه لا يوجد أي تأثير.
فن العلم
ربطت الطباعة بين الفن والعلم كما لم يحدث من قبل، وكان ألبريشت دورر من بين من استفادوا من هذا الوضع. فسرعان ما أتقن بورر التقنية الجديدة للنقش على الكليشيهات النحاسية، وسافر إلى إيطاليا كي «يتعلم أسرار فن الرسم المنظوري». وكان يعتقد أن «الفن الجديد ينبغي أن يكون قائما على العلم، ولا سيما الرياضيات بصفتها أكثر العلوم دقة ومنطقية واستدلالية من ناحية الرسوم البيانية». وفي عام 1525، نشر دراسة عن الهندسة والرسم المنظوري عنوانها: «دورة تدريبية في فن القياس بالبوصلة والمسطرة»، وذلك كي «يستفيد منها ليس فقط الرسامون، ولكن أيضا الصائغون والنحاتون والبنائون والنجارون، وكل من يعتمدون على القياس».
وقد شرح كتاب دورر تطبيق علم الرسم المنظوري الجديد وعلم البصريات. كما احتوى على رسومات توضيحية «لآلات الرسم» التي كان يمكن استخدامها لترتيب شبكة الرسم المنظوري على موضوع الرسم. ويوضح أحد رسوماته المصمم وهو يستخدم أداة تسديد لتحديد موقع موضوع الرسم على قطعة من الورق. ويتوافق تركيب لوح الفنان الشبيه بالشبكة مع اللوح الزجاجي الذي يفصل المصمم عن العارضة التي يرسمها. وينسخ المصمم كل نقطة على الزجاج على الشبكة المتوافقة على اللوح الخاص به. ويتشارك رسم دورر في الكثير من أوجه التشابه مع جثة الأنثى التي يشق رحمها لتعليم الرجال الذين يملئون الغرفة في كتاب فيزاليوس. وفي نظر كل من دورر وفيزاليوس، فإن النساء ليس لهن دور يلعبنه في هذه الثورة الفنية والعلمية، إلا دور عينات للتشريح، أو نماذج بكماء متاحة جنسيا.
شكل 5-4: مصمم دورر يحدق في امرأة عارية من خلال «آلة رسم» في كتابه «دورة تدريبية في فن القياس» والذي طبع في عام 1525.
4
كان من بين الشخصيات المبكرة المؤثرة على مهنة دورر ذلك الشخص الذي جسد العلاقات بين الفن والعلم في عصر النهضة: إنه ليوناردو دافنشي. زعم لوكا باتشولي أن ليوناردو كان «الشخصية الأفضل والأكثر كفاءة بين جميع الفنانين والرسامين المنظوريين والمعماريين والموسيقيين؛ شخصية منحت كل كمال»، حيث استخدم استغراقه في العلم لتسويق مهاراته كنحات ومساح ومهندس عسكري ورسام تشريحي. وقد جعلت قدرة ليوناردو على دمج المهارات الفنية بالقدرة العلمية العملية من خدماته محل تقدير شديد من جانب العديد من الرعاة النافذين.
وفي عام 1482، عين لودوفيكو سفورزا دوق ميلانو ليوناردو مهندسا عسكريا على أساس سيرة ذاتية أكدت على قدراته العملية:
لدي تصميمات لجسور خفيفة، وقوية، وسهلة الحمل ... لدي طرق لتدمير كل حصن ... سوف أصنع المدافع والهاون والمعدات الحربية الخفيفة ... ويمكنني صناعة المجانيق والمقاذف والأدوات الأخرى ... وأعتقد أنني يمكنني تلبية كامل الرغبات في مجال العمارة، وفي بناء المباني العامة والخاصة ... كما يمكنني كذلك نحت التماثيل بالرخام والبرونز والصلصال.
طرح لودوفيكو علم ليوناردو الفائق في المجال العسكري جانبا، وكلفه بدلا من ذلك بإنشاء نصب تذكاري فروسي ضخم زعم ليوناردو أنه «سيكون تجسيدا للمجد الخالد والشرف الأبدي ... لعائلة سفورزا الشهيرة». وتبين مخططات ليوناردو عن النسب وقالب صب الحصان كيف أنه استخدم كافة مهاراته في الهيدروليكا والتشريح والتصميم لتصميم تمثال يجسد المجد المدني لعائلة سفورزا.
وعلى غرار معظم مشروعاته الطموحة من الناحية التقنية، فإن حصان ليوناردو لم يشيد قط. فقد انتقل ليوناردو إلى مكان آخر، وبحلول عام 1504 كان في خضم مفاوضات مع السلطان العثماني بايزيد الثاني لبناء جسر بطول 350 مترا فوق البوسفور. فكتب ليوناردو إلى بايزيد قائلا: «سوف أقيمه مرتفعا مثل القنطرة حتى تتمكن السفينة منشورة الأشرعة من الإبحار تحته.» وعندما استاء بايزيد من تصميمات ليوناردو غير الواقعية، استبعده وبدأ مفاوضاته مع مايكل أنجلو. وكان من أكبر أخطاء ليوناردو في التقدير هو عدم تقديم أفكاره للطباعة. ونتيجة ذلك - وعلى خلاف دورر - لم يترك ليوناردو أي ابتكارات ملموسة للأجيال اللاحقة. فظل شخصية لامعة لكنها غامضة، إلى أن أنقذه والتر باتر من السقوط في بئر النسيان في القرن التاسع عشر.
الفلسفة الطبيعية
لم يكن هناك تفريق بين العلم والفلسفة والسحر في القرن الخامس عشر، فجميعها كان يندرج تحت المصطلح العام «الفلسفة الطبيعية». ومن بين العوامل الرئيسية لتطور الفلسفة الطبيعية كان استعادة أعمال المؤلفين الكلاسيكيين، لا سيما أعمال أرسطو وأفلاطون. ففي بداية القرن الخامس عشر، ظل أرسطو أساس كل التفكير البحثي في الفلسفة والعلم. وقد قدم أرسطو - الذي ظلت أعماله على قيد الحياة في الترجمات والشروح العربية التي قدمها ابن رشد وابن سينا - منظورا نظاميا عن علاقة البشرية مع العالم الطبيعي. أما النصوص الباقية مثل كتبه: «الفيزياء» و«الميتافيزيقا»، و«علم الأرصاد الجوية»؛ فزودت الباحثين بالأدوات المنطقية لفهم القوى التي خلقت العالم الطبيعي. فالجنس البشري موجود في هذا العالم باعتباره «حيوانا سياسيا» فانيا، مقدرا له أن يشكل المجتمعات الاجتماعية بفضل قدرته على الفهم بطريقة أرقى وأكثر من أي حيوان آخر. ومن بداية القرن الخامس عشر، بدأ الباحثون الإنسانيون في ترجمة أعمال أرسطو إلى اللاتينية واكتشاف نصوص جديدة مثل «فن الشعر»، والكتاب الأرسطي الزائف «الميكانيكا». أما المهندسون في البناء والتشييد فقد استخدموا كتاب «الميكانيكا» الذي يصف الحركة والمعدات الميكانيكية. وفي عالم الإدارة السياسية والمحلية، ترجم ليوناردو بروني كتب «السياسات» و«علم الأخلاق إلى نيقوماخوس» و«الاقتصادي»، وهذا الأخير عبارة عن دراسة عن تنظيم المزارع والمنازل، والتي أكد أنها مهمة للنظام المدني في المجتمع الإيطالي في القرن الخامس عشر.
شكل 5-5: دراسات ليوناردو لعمل قالب مصبوب لتصميم حصان سفورزا والتي أكملها في عام 1498. لكن التمثال لم يكتمل على الإطلاق.
5
وفي الوقت الذي بدأ فيه الباحثون الإنسانيون نشر ترجمات وشروح جديدة لأعمال أرسطو، فإنهم استعادوا كذلك مجموعة كاملة من أعمال المؤلفين الكلاسيكيين، والرسامين المنظوريين الفلسفيين، الذين غفلهم التاريخ، وأهمها أنصار المدارس الفلسفية الرواقية والشكوكية والأبيقورية والأفلاطونية. وكان التطور الأهم هو استعادة وترجمة أعمال أفلاطون معلم أرسطو. كانت الأفلاطونية الصوفية المثالية لمارسيليو فيتشينو، ونيكولاس من كوسا، وجوفاني بيكو ديلا ميراندولا، تؤكد - على خلاف معتقد أرسطو - أن الروح خالدة، وكانت تطمح لوحدة كونية ولحب الحقيقة المطلقة. فكان فيتشينو في كتابه «اللاهوت الأفلاطوني» (1474) يرى أن الروح المحبوسة في ذلك الجسد الأرضي «تحاول أن تشبه نفسها بالرب». وكان فيتشينو يقول بأن أفلاطون:
كان يعتبر أنه من العدل والتقوى أن العقل البشري - الذي يتلقى كل شيء من الله - يجب أن يعيد إليه كل شيء. ومن ثم، لو كرسنا أنفسنا للفلسفة الأخلاقية، فإنه يحثنا على تنقية روحنا حتى تصبح في نهاية المطاف صافية، مما يمكنها من رؤية النور الإلهي، وعبادة الله.
كان هذا المنهج الأفلاطوني يتمتع بميزتين واضحتين عن الفكر الأرسطي؛ الأولى هي أنه كان من الممكن ملاءمتها بصورة أسهل بكثير في الإيمان المسيحي في خلود الروح والعبادة الفردية لله الذي كان سائدا في القرن الخامس عشر. والميزة الثانية هي أنها عرفت التفكير الفلسفي بصفته أثمن ممتلكات المرء. لقد رفعت نسخة فيتشينو من الأفلاطونية بمهارة من مستوى مهنته كفيلسوف، كما أن رفضه للسياسة وتفضيله للتأمل الصوفي كان يلائم الفلسفة السياسية لراعي فيتشينو؛ وهو حاكم فلورنسا كوزيمو ميديتشي الذي عين فيتشينو رئيسا لأكاديميته الفلسفية في عام 1463.
سرعان ما وسع الفلاسفة اللاحقون الأفلاطونية المحدثة التي قدمها فيتشينو ونقحوها. ففي مقدمة كتاب «الاستنتاجات» (1486)، حاول جوفاني بيكو ديلا ميراندولا خلق ما أسماه «التناغم بين أفلاطون وأرسطو »، في محاولة لتوحيد الفلسفة الكلاسيكية مع المسيحية. واعتمد بيكو على النصوص اليهودية والعربية الصوفية (وقد بدأ تعلم اللغة العربية تقديرا لأهمية الفلسفة العربية) لتأسيس الفلسفة الطبيعية باعتبارها أفضل طريقة للبحث الميتافيزيقي. وزعم أن «الفلسفة الطبيعية سوف تهدئ الصراع واختلافات الرأي التي تعكر صفو الروح وتشتتها وتجرحها». ولسوء الحظ، تعرض كتاب بيكو «الاستنتاجات» للتحقيق من جانب لجنة باباوية أدانت بعض فرضياته باعتبارها هرطقة. أما الباحثون اللاحقون في عصر النهضة فكانوا أكثر اهتماما بملاحظات بيكو الافتتاحية في كتاب «الاستنتاجات»، حيث اعتبروا أنها تقدم رؤية جديدة للشخصية الفردية. واستنادا إلى ما قدمه أفلاطون، أكد بيكو في مقدمته أن الإنسان «صانع وصائغ نفسه»، حيث يتمتع بحرية «أن يمتلك ما يتمناه، وأن يكون ما يريده». وبالنسبة لكتاب القرن التاسع عشر - مثل والتر باتر - أصبحت مقدمة بيكو التصريح الكلاسيكي عن الفردية ومولد إنسان النهضة، وفي عام 1882، أعطيت عنوانها الإنجليزي: «خطبة عن كرامة الإنسان»، تلك العبارة التي لم يستخدمها بيكو نفسه قط.
استمر كل من أفلاطون وأرسطو في التأثير على الفن والأدب والفلسفة والعلم في القرن السادس عشر بشكل هائل. وقد ألهمت الأفلاطونية المحدثة العمل الفني والأدبي لشخصيات متنوعة مثل مايكل أنجلو وإراسموس وسبنسر، بينما ظلت الأرسطية كيانا متنوعا من الأعمال بدرجة تكفي لدعوة العلماء والفلاسفة لمراجعتها وفقا لعالمهم المتسع. ومع ذلك، ومع اقتراب نهاية ذلك القرن، كانت المنزلة الفكرية الرائدة لكلا الفيلسوفين تتآكل ببطء دون شك. فقد أدى اكتشاف أمريكا إلى أن يدرك مونتين في عام 1580 أن عمل أرسطو وأفلاطون «لا يمكن أن ينطبق على هذه الأراضي الجديدة». كما أدى دحض جاليليو لنظريات أرسطو الخاصة بالحركة والسرعة وطبيعة الكون في بدايات القرن السابع عشر إلى استنتاج مفاده: «إنني أشك بقوة في أن أرسطو قد أجرى أي اختبار قائم على التجربة.»
بدأ السير فرانسيس بيكون - الذي شارك جاليليو رفضه لأرسطو - في الدفاع عن الملاحظة التجريبية في التحليل العلمي. وبحلول عام 1620، كان بيكون يدعو إلى «تجديد عظيم» للتعليم، حيث «لا تعود الفلسفة والعلوم هائمة في الهواء، بل تستند إلى الأساس الصلب للتجربة من كل نوع، وتحظى بالفحص والتقدير». وقدم كتاب بيكون «الأورجانون الجديد» دحضا مباشرا لكتاب أرسطو «الأورجانون»؛ أو أداة التفكير العقلاني، والذي استلهم منه بيكون عنوان كتابه. وقد دافع أرسطو عن استخدام القياسات المنطقية في التفكير المنطقي، حيث يستدل بصورة منطقية من فرضيتين غير قابلتين للجدل (مثلا: أن كل البشر فانون، وأن كل اليونانيين بشر) استنتاج محدد (كل اليونانيين فانون). في هذا النظام الفلسفي تعتبر النظرية وعلم البلاغة أكثر موثوقية من الممارسة أو التجربة. لكن بيكون قلب هذا المخطط رأسا على عقب؛ مؤكدا على أن فرضيات أرسطو الأساسية المقبولة تتطلب تحقيقا، وما أطلق عليه:
منطق جديد يعلم الاختراع والحكم بواسطة الاستقراء (مثل اكتشاف أن القياس المنطقي غير صالح لعلوم الطبيعة)، ومن ثم يجعل الفلسفة والعلوم معا أكثر صحة ونشاطا.
لقد قدم بيكون رؤية جديدة تماما للمعرفة العلمية قائمة على التجميع الدقيق للبيانات الطبيعية استنادا على الملاحظة والتجربة والاستقراء؛ أي استنتاج المبادئ النظرية العامة من حقائق معينة. وقد ظلت المهمة الهائلة لإصلاح تصنيف العلوم الطبيعية غير مكتملة حتى موته، لكنها اصطدمت بالافتراضات الكلاسيكية التي كان يوقرها الباحثون في عصر النهضة، وبشرت بقدوم العلم التجريبي الذي تبنته الجمعية الملكية في العقود الأخيرة من القرن السابع عشر. وفي عام 1626، أكمل بيكون كتابه «أطلانتس الجديدة»؛ وهي عالم يوتوبي يستند إلى يوتوبيا أفلاطون، ولكن لم يعد مواطنو هذا العالم الأكثر احتراما وتبجيلا هم الفلاسفة بل العلماء التجريبيون. كان هذا تحولا من شأنه أن يؤثر على العلم الحديث وانفصاله عن الفلسفة.
هوامش
الفصل السادس
كتابة عصر النهضة من جديد
إن مصطلح «أدب عصر النهضة» لا يقل خداعا وانطواء على مفارقات تاريخية عن العبارات التي قابلناها مثل «الحركة الإنسانية في عصر النهضة» و«علم عصر النهضة». كان بيترارك ومكيافيلي ومور وبيكون ساسة ودبلوماسيين صنفت كتاباتهم فيما بعد باسم «أدب عصر النهضة»، والآن تدرس أعمالهم في الأقسام الأدبية في الجامعات حول العالم. ولم يتطور مفهوم الكاتب المحترف إلا قرب نهاية القرن السادس عشر، وذلك مع نمو المسرح في دول مثل إسبانيا وإنجلترا، ومع النجاح المالي للطباعة، الذي سمح للشعراء ومؤلفي الكتيبات في التفكير في الكتابة الإبداعية باعتبارها مهنة دائمة. فقد كانت الأنماط المختلفة من التعبير الأدبي - الشعر والدراما والنثر - تتجاوب مع هذه التغيرات الاجتماعية والسياسية بطرق متعددة تتمتع كلها بمظاهر محددة على المستوى الإقليمي. وما نطلق عليه اليوم أدب عصر النهضة، فقد كتب أغلبه باللغات المحلية الأوروبية المتنوعة: مثل الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية والألمانية. وتتضمن قصة هذه التطورات الأدبية كتابا كانوا يفضلون فصل أنفسهم عن اللغات العالمية الكلاسيكية التي تخاطب الصفوة (اليونانية والعربية، ولا سيما اللاتينية)، واختاروا الكتابة بلغاتهم العامية الخاصة. وبسبب صعوبة إنصاف هذه التقاليد العامية المحددة، فإن تأكيد هذا الفصل سيتركز على تطور الشعر والنثر والدراما فيما يتعلق باللغة الإنجليزية تحديدا.
الشعر
كان ينظر إلى الشعر الغنائي والشعر الملحمي باعتبارهما ذروة الإبداع الأدبي في عصر النهضة. وقد أتاح ظهور ثقافة البلاط الملكي في إيطاليا وشمال أوروبا مجالا للإحساس المرهف للشعر الغنائي، وذلك بتركيزه على العشيقة المحبوبة، بينما كان يكشف أيضا الحالة الشخصية للشاعر الولهان. وكان من بين أبرز رواده الباحث الإنساني بيترارك؛ الذي استند في تأليف كتاب «الأغاني» - الذي يتكون من 365 قصيدة كتبت بين عامي 1327 و1374 - على مجموعة دانتي الشعرية «الحياة الجديدة». وقد نقح بيترارك الشكل الغنائي الذي يطلق عليه السونيتة؛ وهي قصيدة ذات أسلوب خاص تتكون من 14 بيتا، ومقسمة إلى قسمين (الأوكتاف: أي السطور الثمانية الأولى من القصيدة، والسستت: أي السطور الستة الأخيرة)، وتتميز بتركيبة سجعية شديدة التحديد. وكانت سونيتات بيترارك تجعل من الأنثى موضوع القصيدة كائنا مثاليا في الوقت نفسه الذي تستكشف فيه التعقيد العاطفي لهوية الشاعر. فقد اشتكى بيترارك في إحدى سونيتاته قائلا: «يا سيدتي، إني في هذه الحالة بسببك أنت.» وقد أثر هذا الأسلوب الشعري الاستبطاني الموحي بالألفة والدفء - والذي مكن الشاعر من استكشاف حالته الأخلاقية فيما يتعلق بمحبوبته أو بدينه (وغالبا ما كان الاثنان مندمجين) - على ثقافة وشعر البلاط الملكي في عصر النهضة طوال القرنين الخامس عشر والسادس عشر .
وقد تطور هذا التقليد في إيطاليا في شعر الكاردينال بيمبو، وفي إسبانيا مع جارسيلاسو دي لا فيجا، وفي فرنسا مع يواكيم دو بيلاي، وبيير دي رونسار، وفي إنجلترا مع ترجمات السير توماس وايت في منتصف القرن السادس عشر لبيترارك إلى الإنجليزية. وقد وصل هذا التقليد الإنجليزي إلى ذروته في سلسلة سونيتات شكسبير (عام 1600 تقريبا) التي حاكت تقليد بيترارك بسطرها الشهير «عينا محبوبتي لا تشبهان الشمس في شيء» (سونيتة 130). وقد تخطى شكسبير في سونيتاته بيترارك، وذلك بإضافة بعد ثالث إلى العلاقة بين الشاعر ومحبوبته: وهو المنافس. فكانت هذه العلاقة الثلاثية التي كان يعبر عنها في لغة إنجليزية عامية مطواعة تتسم بالتورية، غير مسبوقة. فقد سمحت لشكسبير بمناقشة التنافس الذكوري، ومشكلات الرعاية الأدبية، والأعمال المنزلية، «تواقة إلى فن هذا الرجل، وإلى النظرة الشاملة لذاك الرجل» (سونيتة 29)، وكذلك استكشاف التأثيرات المزعجة للرغبة الجنسية «إهدار الروح في صحراء الخزي» (سونيتة 129).
وفي السونيتة 134، يعترف الشاعر أنه قد فقد محبوبته لصالح صديقه المنافس:
أعترف الآن أنه أصبح ملكك أنت
وأنني أنا نفسي صرت رهن رغبتك
وأنا مستعد للتضحية بنفسي حتى تتركيه
ليعود إلي ويواسيني
يتمنى الشاعر على الأقل الاحتفاظ بصداقته مع منافسه، لكن القصيدة تنتهي بإفادة أن هذا مستحيل: «لقد فقدت صديقي؛ أما أنت فملكته هو وأنا/إنه يعطيك كل شيء، ولكني رغم ذلك لست حرا.» إن الشاعر «مرتهن» لعشيقته ويعرض «فقدان» نفسه للحفاظ على صديقه، ولكن في النهاية حتى الصديق يكون في قبضة العشيقة الجنسية. ويرجو الشاعر أن يسدد صديقه الدين أو يدفعه «كاملا»، لكن هناك تورية في النص ترسم صورة جنسية تعبيرية تكشف قوة المرأة في «الإيقاع» بالرجلين. وتعتمد لغة السونيتة على التجربة الخاصة بالعصر الإليزابيثي المرتبط تحديدا بالالتزام القانوني، والدين المادي. كما أن سياقها إنجليزي بصورة متميزة في سجعها وتوريتها. لقد ابتعد شكسبير كثيرا عن التأثير اللاتيني والكلاسيكي لبيترارك. وشعره يتنبأ بتطور الشعراء الإنجليز اللاحقين مثل الشعراء الميتافيزيقيين، ويشير إلى الابتعاد عن أسلوب عصر النهضة القائم على التعبير الشعري والاقتراب من التقاليد العامية القومية التي ميزت أواخر القرن السابع عشر.
خطف اللغة: رد النساء
فيما كان شعر بيترارك يحتفي بالنساء كنماذج مثالية وصامتة عن الفضيلة العفيفة، كانت سونيتات شكسبير تعكس قلقا متزايدا عن مكانة النساء المتناقضة في ثقافة ذكورية. إلا أن بعض النساء استفدن من الطبيعة المتغيرة للتعليم الإنساني وظهور الطباعة لتقديم نسخة مختلفة عن الأنوثة. وتوحي كتاباتهن بأن الكثير من الافتراضات بخصوص العلاقات بين الجنسين موضع خلاف أكثر مما دفعتنا الأعمال الأدبية التي تسيطر عليها النزعة الذكورية للاعتقاد.
فعلى مدار القرن السادس عشر، خصصت مجموعة من الكاتبات التقاليد الأفلاطونية والبيتراركية للتشكيك في الافتراضات الذكورية عن النساء، ولمحاولة تحديد استقلاليتهن الشخصية والإبداعية. فقد استخدمت بيرنيت دو جييه في كتاب «القوافي» (الذي نشر بعد وفاتها في ليون عام 1545)، أفكار الأفلاطونية المحدثة والتقاليد البيتراركية لتأسيس المساواة الشعرية مع محبوبها؛ حيث تصرح في إحدى القصائد: «مثلما أنا لك/(وأريد أن أكون)، فأنت كلك لي.» وفي موضع آخر تهاجم تقلب العاطفة البيتراركية وافتقارها إلى المساواة، وتطمئن جمهورها النسائي قائلة: «دعونا لا نندهش/إذا ما تغيرت رغباتنا.» أما لويز لابيه فقد أخذت هذا الرفض للتقليد الشعري الذكري إلى آفاق أبعد، حيث نشر كتابها الشعري «إيفر» في ليون أيضا في 1555؛ إذ استخدمت لابيه السونيتة البيتراركية لنقد تحويل أجساد النساء إلى أشياء حسية، حيث قلبت الموقف بطرح السؤال: «ما الطول الذي يجعل الرجل يستحق الإعجاب؟» وبدلا من إعلان خنوعها لمحب خيالي، فإنها تتنافس معه، وتؤكد في تناقض آخر مع التقاليد البيتراركية: «سوف أستخدم قوة عيني جيدا ... حتى يمكن أن أقهره تماما في لمح البصر.»
كانت هذه الصراحة الجنسية مصحوبة بتصميم على حق المرأة في التعليم والحرية الإبداعية. وفي كتابي «نسخة الخطاب» (1567) و«باقة الزهر العطرة» (1573)، أكدت إيزابيلا ويتني التي تنتمي إلى العصر الإليزابيثي على استقلال محدود عن قيود الحياة المنزلية، قائلة: «طالما أن شئون البيت تشغلني/فسوف أستعمل كتبي وقلمي.» واستكشفت ويتني شاعرة أخرى حررت نفسها من القيود المنزلية، وهي فيرونيكا فرانكو التي كانت في البلاط الملكي في فينيسيا. وقد أزالت مجموعتها الشعرية - التي كانت بعنوان: «السجع» ونشرت في عام 1575 - غموض مثالية الحب البيتراركي من منظور إحدى المحظيات، فقالت: «عندما نكون نحن النساء أيضا متسلحات بالعلم ومدربات/فسيكون بإمكاننا مواجهة أي رجل.» ونظرا لأن الكاتبات، مثل ويتني وفرانكو، كن يناضلن في علاقتهن بالاضطهاد الديني المتزايد والتغير السياسي الحاد في أوروبا في منتصف القرن السادس عشر، فقد هيأن التقاليد الأدبية الذكورية لتقديم منظور مختلف تماما حول طبيعة النساء.
القصص المطبوعة
استفاد الكتاب أيضا من وسيلة الطباعة الحديثة نسبيا في ترسيخ أساليبهم الأدبية المميزة. فقد غيرت الطباعة التعبير الأدبي؛ إذ إنها خلقت طلبا بين جمهور من أبناء المدن ممن كانت ثقافتهم في ازدياد، وكانوا يبحثون عن أشكال جديدة لفهم عالمهم المتغير. وفي عام 1554، نشر الراهب الدومينيكاني ماتيو بانديلو كتابه «قصة قصيرة»؛ وهو عبارة عن مجموعة من القصص القصيرة عن الحياة المعاصرة في المدينة، والتي - بحسب مؤلفها - «لا تتعامل مع التاريخ المترابط، بل كانت بالأحرى مزيجا من الأحداث المتنوعة». أما جيامباتيستا جيرالدي - المشهور باسم سينثيو - فطبع مجموعة أخرى من القصص القصيرة في عام 1565، والتي لا تقل تأثيرا عن سابقتها. وتستلهم مقدمة كتابه «هيكاتوميثي» أحداث السلب والنهب الشديد الذي تعرضت له روما على يد الجنود اللوثريين في عام 1527. وقد وصفت تلك الأحداث العنيفة في مصطلحات تذكرنا بكاتب الدراما التراجيدي الروماني سينيكا؛ كما أن قصص سينثيو وبانديلو ألهمت بعض أعظم التراجيديات وأكثرها دموية التي قدمت على المسارح في عهدي إليزابيث وجيمس، بما فيها «التراجيديا الإسبانية» (1587 تقريبا) للكاتب توماس كيد، و«عطيل» (1603) لشكسبير، و«الشيطان الأبيض» لجون وبستر (1613 تقريبا). وعلى غرار كتابة النثر، كان تطور المسرح، ولا سيما في إنجلترا، معتمدا بصورة متزايدة على الاستثمار والربح أكثر منه على رعاية البلاط الملكي أو الورع الديني، وهو ما سمح بتمثيلات متزايدة في التعقيد والارتباط بالمذهب الطبيعي للمجتمع والفرد.
كما سمحت مرونة عملية الطباعة لكتاب مثل فرانسوا رابيليه بالرد على النقد الموجه لكتبه، وإدراج أحداث معاصرة في الطبعات اللاحقة من عمله. نشر رابيليه عمليه «بانتاجرول» (1532) و«جارجانتوا» (1534)، اللذين سردا المغامرات الكوميدية لعملاقين هما جارجانتوا وابنه بانتاجرول. وقد استخدم رابيليه مغامرات عملاقيه لهجاء والسخرية من كل شيء، من الكنيسة إلى التعليم الإنساني الحديث. وكان رابيليه يكتب بأسلوب «ثري» رائع يمزج ما بين اللغات المكتسبة مع الفرنسية العامية، ولذا جاء وصفه لبانتاجرول يجسد ما لديه من ثراء في الأساليب المختلفة. فقد ولد هذا العملاق الصغير لأم «ماتت أثناء الولادة؛ لأنه كان كبير الحجم بصورة مذهلة، وثقيلا لدرجة أنه لم يستطع أن يأتي إلى العالم دون أن يخنقها»، وكان يأكل الخراف والدببة، وتسبب في إخافة أحد الباحثين بشدة، حتى إنه لوث ملابسه بغائطه، ويدرس المعارف الجديدة من خلال تنوع محير من الكتب المطبوعة الجديدة التي تتضمن «فن الضراط» و«تنظيف مداخن علم التنجيم». كما أن بانتاجرول يسوي نزاعا قانونيا بين اللورد كيسمايارس واللورد ساكفارت؛ وفي محاكاة للاكتشاف البحري والإبداع العلمي، فإنه يبحر في النهاية إلى «ميناء يوتوبيا».
حققت الكتب الأربعة عن مغامرات جارجانتوا وبانتاجرول التي نشرت أثناء حياة رابيليه نجاحا مذهلا. وفي مقدمة كتاب «بانتاجرول»، تفاخر رابيليه بأن «عدد النسخ التي باعتها المطابع من هذا الكتاب في شهرين، أكثر من النسخ التي يمكن بيعها من الكتاب المقدس في تسع سنوات». وبداية من عام 1533 انتقم الفلاسفة السكولاستيون في السوربون بباريس الذين هجاهم رابيليه بلا رحمة، فأدانوا كل كتبه بصفتها إباحية وتجديفية؛ فمنعت مطبوعاته لبقية حياته. ومع ذلك، فقد تبنى كتاب آخرون أسلوبه المبتذل الوافر، ومن بينهم كاتب الهجاء الإنجليزي ومؤلف الكتيبات توماس ناش. ففي كتابه «المسافر التعيس» (1594)، يسرد ناش التجولات التشردية لجاك ويلتون - غلام جوال - في أنحاء أوروبا في القرن السادس عشر، حيث يورط نفسه في الحرب والصراعات الدينية والقتل والاغتصاب والسجن. وعلى غرار رابيليه، يستخدم ناش النمط الحديث نسبيا المتمثل في كتابة النثر، وذلك لقلب تقاليد القصيدة الغنائية والملحمة رأسا على عقب. فبدلا من اتباع السرد الرومانسي للشعراء الملحميين، تستخدم «الرسالة الخيالية» لناش المذهب الشكوكي والبراعة اللفظية للإنسانيين الأوائل، مثل مور وإراسموس (اللذين يقدمهما في سياق السرد)، لتحدي القيود الأخلاقية للتقاليد الأدبية الأكثر تقليدية. وفيما يدمج صوت ناش الأنماط والأصوات بشكل مفعم بالحياة، فإنه يشترك في بعض الصلات مع عمل ميجيل دي ثربانتس «دون كيشوت» (1604)، ويتنبأ بالتطور اللاحق للرواية الإنجليزية. وكان دانيال ديفو من بين الكثير من الروائيين الإنجليز الأوائل الذين أعجبوا بعمل ناش.
الملاحم
كان للشعر الملحمي تاريخ وإرث أكثر تميزا بكثير من القصص النثرية الجديدة نسبيا والتجريبية التي قدمها بانديلو وسينثيو وناش. فأعمال هوميروس مثل «الإلياذة» و«الأوديسا» وعمل فيرجيل «الإنيادة»، قدمت لشعراء عصر النهضة أنماطا كلاسيكية عن بناء الإمبراطورية، وأساطير ذات أصول وطنية، كانت تنسج حول التجوالات البطولية لبطل العمل، وهو في حالة هوميروس أوديسيوس، وفي حالة فيرجيل إينياس. وقد جاءت نشأة دويلات المدن الإيطالية في القرن الخامس عشر، وما تبعه من محاولات البرتغاليين وأسرة هابسبورج والإنجليز فرض هيمنتهم العالمية، لتمنح الشعراء الملحميين الفرصة لإعادة صياغة الملحمة الكلاسيكية على مستوى عالمي معاصر أكثر.
وكان من بين أكثر كتاب الملحمة المؤثرين لودوفيكو أريوستو؛ وهو سفير عائلة إيستي فيرارا، إحدى أعظم الأسر الحاكمة الإيطالية في القرن الخامس عشر. ففي افتتاحية قصيدته الملحمية «أورلاندو فوريوزو» (1516) يصرح أريوستو: «إنني أتغنى في شعري عن الفرسان والسيدات، وعن الحب والحرب، وعن الفروسية في البلاط الملكي، وعن الأعمال الشجاعة، وكل شيء منذ الوقت الذي عبر فيه المغاربة البحر من أفريقيا، وعاثوا فسادا في فرنسا.» كانت هذه القصيدة قصيدة فروسية تسرد عملا من الماضي، وتدور حول صراع القرن الثامن بين فرسان الإمبراطور شارلمان المسيحيين والشرقيين. لم يكن أريوستو قادرا على تقديم أعمال مواكبة للعصر، ويرجع ذلك تحديدا إلى أن قوة إيستي كانت في طريقها إلى الفناء مع بداية القرن السادس عشر. ومن خلال قراءة قصيدة أريوستو والاستماع إليها، كان نبلاء إيستي يمكنهم تخيل الحلم بهزيمة الأتراك - الذين كانوا المعادل العصري للشرقيين - لكن كان ذلك محض خيال جمالي صرف. وبحلول القرن السادس عشر كانت القوة الإمبراطورية الحقيقية تقع خارج إيطاليا.
أما قصيدة لويس دي كامويس الملحمية «اللوسياد» (1572) فقد تناولت ماضيا أكثر قربا؛ المجد الآخذ في الخبو لقوة أوروبية أخرى هي الإمبراطورية البرتغالية. كان كامويس جنديا وإداريا إمبراطوريا كتب قصيدته فيما كان يعمل في أفريقيا والهند وماكاو في منتصف القرن السادس عشر. وتنسج قصيدة «اللوسياد» أسطورة حول بزوغ فجر الإمبراطورية البرتغالية في القرن الخامس عشر، من خلال التركيز على رحلة فاسكو دا جاما إلى الهند في 1497. وعلى غرار أريوستو، زعم كامويس أن ملحمته تفوقت على الملاحم القديمة؛ لأن مجالها البطولي والجغرافي - أي أعمال وبطولات البرتغاليين في أماكن لم يسبق أن اكتشفها اليونانيون أو الرومان على الإطلاق - تفوق على إنجازات العالم الكلاسيكي. فكان كامويس يتغنى «عن البرتغاليين المشهورين/الذين انحنى لهم الإلهين مارس ونبتون». وقد خلقت القصيدة قالبا أدبيا للإمبريالية الأدبية، وتمت محاكاتها طوال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر اللذين شهدا الحركة الاستعمارية الأوروبية العالمية. ومع ذلك، بحلول سبعينيات القرن السادس عشر، عندما كتب كامويس ملحمته، كانت الإمبراطورية البرتغالية بدأت تتدهور بالفعل، وفي عام 1580، ضمها الملك الإسباني فيليب الثاني جزءا من إمبراطورية هابسبورج المتسعة. وكما هو الحال مع أريوستو، فقد كانت قصيدة كامويس تتغنى بأمجاد الماضي.
وفي إنجلترا، تبنى إدموند سبنسر والسير فيليب سيدني تقليد الملحمة، لكنهما أضفيا عليها حسا بروتستانتيا مميزا. كان كلا الرجلين من أفراد الحاشية الملكية الطموحين في البلاط الإليزابيثي، ومتحمسين لتأمين مناصبهما السياسية بكتابة قصائد ملحمية تتوافق مع الأذواق السائدة لسلالة تيودور الحاكمة. مزجت قصيدة سيدني «أركاديا» (1590) بين النثر السردي والشعر الرعوي الذي يستخدمه رعاة أركاديا، والأبطال الأرستقراطيون المتخفون؛ لمناقشة مجموعة من الموضوعات المحورية للحكومة الإليزابيثية بدءا من الاستشارات السياسية، حتى الحاجة لممارسة ضبط النفس، والتحكم في الانفعالات في الشئون الرومانسية، وتحالفات الأسرة الحاكمة. كان إدموند سبنسر إداريا سياسيا مثل أريوستو وكامويس، لكن إبداع ملحمته كان يحتفي بإمبراطورية لم تكن موجودة من الأساس. كتب سبنسر «ملكة الجن» (1590-1596) أثناء قيامه باستعمار أيرلندا نيابة عن الملكة الإنجليزية إليزابيث الأولى «الإلهة المتلألئة المبهجة/مرآة النعمة والجلالة السماوية/السيدة العظيمة للجزيرة العظمى».
استخدم سبنسر - متعمدا - مصطلحات إنجليزية مهجورة أثناء تتبع مغامرات سلسلة من الأفراد الذين يجسدون القيم البروتستانتية تحديدا ؛ مثل الإيمان وضبط النفس. فهو يحول إليزابيث إلى «ملكة الجن» ذات المجد، ويستعيد القديس جورج من أصوله الشرقية ليجعله القديس الراعي لإنجلترا. لكن لم يكن ذلك سوى أسطورة مجيدة أخرى. فعندما أكمل سبنسر قصيدته، كانت إليزابيث منعزلة سياسيا في أوروبا، وكان تراثها الاستعماري الوحيد الباقي هو أنها مهدت الطريق لقرون لاحقة من العنف الطائفي في أيرلندا. ومع ذلك، فمن خلال إبداع ملحمة عالمية باللغة العامية عن ميلاد الأمة الإنجليزية البروتستانتية، ابتعد سبنسر عن التقليد الأوروبي السائد، وأثر بقوة على عمل ميلتون «الفردوس المفقود».
المسرح
تصلح دراما شكسبير لاختتام هذا الاستعراض لعصر النهضة؛ إذ إن سيرة حياته المهنية تمثل انتقالا حاسما من التقليد الكلاسيكي الإنساني، الذي كان يستمد قوته من تأثيرات جنوب أوروبا والبحر المتوسط إلى الانشغالات الفكرية الأكثر محلية وقومية التي أنبأت بنهاية عصر النهضة. وفي مسرحياته المبكرة ظل شكسبير مدينا بقوة لهذا التقليد الكلاسيكي. ففي مسرحيته «كوميديا الأخطاء» (1594)، أعاد شكسبير كتابة المسرحية الكوميدية «مانيشمي» للكاتب المسرحي الروماني بلاوتوس، حيث جعل الأحداث تجري في مدينة أفسوس القديمة. أما غزوته الأولى إلى عالم التراجيديا التاريخية فكانت في مسرحية «تيتوس أندرونيكوس»، والتي كانت هي الأخرى مدينة للتاريخ الروماني. وتروي المسرحية قصة صراع الإمبراطورية في سنوات انهيارها من خلال شخصية تيتوس أندرونيكوس، الذي يشاهد القوطيين «الهمجيين» وهم يتسللون إلى القيم «المتحضرة» لروما تدريجيا ثم يسحقونها.
ورغم أن هاتين المسرحيتين المبكرتين توضحان أن شكسبير كان مدينا للماضي الكلاسيكي، فإنهما تعكسان أيضا مخاوف واهتمامات إليزابيثية معينة. فكوميديا أخطاء الهوية والفوضى المالية في «كوميديا الأخطاء» تجسد عدم الارتياح المتزايد من جانب الإنجليز بخصوص سيولة الأموال وتعقيدات التعاملات التجارية بعيدة المدى، في وقت كانت إنجلترا تدخل فيه إلى الأسواق العالمية في البحر المتوسط الذي يسيطر عليه المسلمون. كما توضح مسرحية «تيتوس أندرونيكوس» شكسبير وهو يكتب تاريخ انقضاء الماضي، ويحاول التأقلم مع اللقاءات الإنجليزية مع الثقافات المختلفة، التي جسدها في شخصية هارون المغربي الجذابة والمشئومة في الوقت نفسه، والتي كانت تمهيدا لظهور شخصية عطيل.
أدت ثقة شكسبير المتنامية بالمصادر التاريخية إلى اهتمام متزايد بالموضوعات الأكثر محلية، ولا سيما تلك المتعلقة بالعهد الإليزابيثي في مسرحياته اللاحقة الكوميدية والتاريخية. فسلسلة مسرحياته التاريخية، من «ريتشارد الثاني» حتى «هنري الخامس»، بدأت في الانتقال من التاريخ الزمني المستوحى من الدين إلى فهم أكثر غموضا وأكثر انفتاحا للاحتمالات لماضي إنجلترا القريب، وعلاقته مع الحاضر. ورغم أن هذه المسرحيات كان ينظر لها - من الناحية التقليدية - على أنها تزود دولة تيودور بتبرير أيديولوجي لشرعيتها السياسية، فإنها كشفت أيضا سلسلة من العنف الدموي واغتصاب السلطة الذي ارتكبه أسلاف الملكة إليزابيث. وهناك دليل على أن مسرحية «ريتشارد الثاني» قد قدمت دعما لانقلاب غير ناجح ضد الملكة إليزابيث، وأن مسرحية «هنري الخامس» خضعت للرقابة؛ لأنها حملت إشارات حساسة إلى مشكلات سياسية في أيرلندا واسكتلندا.
تعكس المسرحيات الكوميدية الثقة اللغوية المتزايدة التي عبر عنها شكسبير في السونيتات. ففي مسرحية «الليلة الثانية عشرة»، المهرج فيست يخبر فيولا التي ترتدي ثيابا ذكورية «إنما العبارات شيء يسهل التلاعب به بذكاء: فسرعان ما يمكن قلب الأمور بكل سهولة!» («الليلة الثانية عشرة»، 3. 1). إن القدرة على التلاعب باللغة، والدفاع عن موقف معين - أو الوقوف ضده - كانا من إرث البلاغة الإنسانية، أما في المسرح التجاري في لندن في العصر الإليزابيثي، فكانت مثل تلك التقنيات تستخدم لتمثيل وتقديم موضوعات لها صلة وثيقة بجمهور المسرحية، سواء أكانوا أغنياء أم فقراء. وقد استندت أول مسرحية لشكسبير تعرض على مسرح جلوب الجديد - وهي مسرحية «يوليوس قيصر» - إلى الماضي الكلاسيكي في معالجتها الدرامية لسقوط الجمهورية الرومانية باغتيال يوليوس قيصر، لكنها استكشفت كذلك كيف شكلت البلاغة الأداء السياسي. وكان تراث النظام الجمهوري، الذي نوقش في خطب العزاء المتباينة، التي قدمها كل من بروتس ومارك أنطونيو؛ موضوعا قد يكون من الخطير مناقشته في إطار سياق الاستبدادية الإليزابيثية. ومع ذلك، وكما هو الحال مع الكثير من المسرحيات الكوميدية، فإن شكسبير كان أكثر اهتماما بكيف أن البلاغة تشكل وتقنع الجمهور أكثر من التصديق على أيديولوجية سياسية معينة. أما آمال ومخاوف المجتمع الزراعي الذي كان يناضل للتكيف مع اقتصاد الائتمان، والمخاوف المتعلقة بمكانة المرأة والعلاقات الأسرية المتغيرة، والمخاوف الدينية المستمرة فيما يتعلق بالسلطة السياسية والخلاص الشخصي؛ فكانت جميعها موضوعات متكررة شكلت المسار المهني الدرامي لشكسبير.
نعى بن جونسون منافسه اللدود شكسبير قائلا: «لم يكن رجلا لعصر بعينه، وإنما رجل لكل العصور.» واليوم يتفق كثيرون على أن أبطال شكسبير التراجيديين العظماء - هاملت وماكبث ولير وعطيل - إنما هم بالفعل إبداعات خالدة تتجاوز زمان ومكان إبداعها. ولكن يجب أن نتذكر أنه من السمات الحاسمة لعصر النهضة، قدرة فنانيها العظماء على صياغة اعتقاد ذاتي بخلود أعمالهم. فقدر ما كان هاملت رجلا مستوحى من قلب عصر النهضة، وشخصية معقدة متعددة الأوجه تبشر بالحداثة، وتصور مسبقا الرؤى الثاقبة لماركس وفرويد، فإنه كان شخصية رسمت ملامحها في خضم الضغوط والمخاوف التي سادت في عصر شكسبير. فمن السهل رؤية خطبه الاستبطانية عن الموت، وعجزه المحير عن الانتقام لمقتل أبيه؛ على أنها تعكس آمال ومخاوف كل مراهق حديث يشعر بالغربة. ولكن من المهم فهم أن تصرفاته تشكلت أيضا من جانب الإدراك البروتستانتي الإصلاحي في إنجلترا، والمخاوف المتناغمة فيما يتعلق بالخلاص والحياة الآخرة، «البلد غير المكتشف الذي من حدوده/لا يعود مسافر». وبالمثل، بينما يبدو قتل عطيل لديدمونة كما لو أنه تفكر لا يعرف حدود الزمن في العواقب المزعجة - والتي قد تكون قاتلة - للغيرة، فإنه أيضا استكشاف لعطيل بصفته غريبا؛ «غريبا متهورا ومندفعا/من هنا ومن كل مكان»، وهو مسلم تحول إلى المسيحية ويبدو مألوفا لأولئك الإنجليز الذين يتاجرون علنا مع المغرب والإمبراطورية العثمانية الإسلامية.
وتمثل مسرحية «العاصفة» ختاما ملائما لحياة شكسبير المهنية، وكذلك لهذه الدراسة عن عصر النهضة. فمن الناحية التقليدية، كانت هذه المسرحية تعد بمثابة تأمل في قوة الفن، وهي تمثل وداع شكسبير للمسرح. كما أنها تعد واحدة من أكثر مسرحيات شكسبير كلاسيكية. تدور أحداث المسرحية في يوم واحد على الجزيرة، وتعتمد أحداثها على عمل فيرجيل «الإنيادة »؛ إذ يبحر ألونسو - ملك نابولي - إلى الوطن من تونس حيث زوج ابنته كلاريبل. ولكن تتحطم سفينته على جزيرة بروسبيرو في مكان ما في البحر المتوسط، ومن هنا تستلهم الرحلة رحلة إينياس من طروادة إلى روما عبر قرطاج. ومع ذلك، تحتوي المسرحية أيضا على صلات قوية بالاستعمار الأوروبي لعالم أمريكا الجديد. فالمسرحية تنظر في الاتجاهين: شرقا إلى البحر المتوسط حيث ذلك العالم الكلاسيكي، الذي أتاح مصدرا شديد الثراء من الإلهام لمفكري وفناني عصر النهضة؛ وغربا حيث عالم المحيط الأطلنطي، الذي سيشكل فيما بعد التفكير في عصر التنوير في القرنين السابع عشر والثامن عشر. فإذا كان هذا التحول في المنظور الأدبي والفكري والعالمي أنبأ بنهاية ما يعرف بعصر النهضة، فإنه قدم كذلك بداية فهم مختلف وحديث للثقافة والمجتمع.
تسلسل زمني للأحداث
1333:
اكتشاف بيترارك لخطبة شيشرون «برو أركيا».
1348:
انتشار الطاعون في أوروبا.
1378:
بداية الشقاق البابوي.
1397:
تأسيس بنك ميديتشي في فلورنسا.
1400:
خطبة بروني «في مدح مدينة فلورنسا».
1414:
انعقاد مجمع كونستانس.
1417:
نهاية الشقاق البابوي؛ انتخاب البابا مارتن الخامس.
1420:
استعمار البرتغال لجزر ماديرا؛ عودة مارتن الخامس إلى روما.
1438:
انعقاد مجمع فيرارا في فلورنسا.
1440:
انتخاب فريدريك الثاني الإمبراطور الروماني المقدس؛ كشف فالا أن «منحة قسطنطين» مزورة.
1444:
أطروحة ألبيرتي «عن العائلة».
1450(تقريبا):
اختراع جوتنبرج للحرف المطبعي المتحرك.
1453:
سقوط القسطنطينية؛ نهاية حرب المائة عام.
1459:
لوحة جوتزولي «توقير المجوس»؛ بدء البناء في قصر الباب العالي.
1474:
صدور كتاب فيتشينو «اللاهوت الأفلاطوني».
1488:
دوران بارثولوميو دياز حول رأس الرجاء الصالح.
1492:
رحلة كولومبس الأولى؛ غزو غرناطة؛ صنع بيهايم لنموذج الكرة الأرضية؛ بدء الأخوين بيليني في رسم لوحة «القديس مرقص يعظ في الإسكندرية» (أنجزت في 1504-1507).
1494:
معاهدة تورديسيلاس؛ الحروب الإيطالية؛ صدور كتاب لوكا باتشولي «كل شيء عن الحساب، الهندسة والتناسب».
1497-1498:
وصول دا جاما إلى الهند.
1500:
وصول كابرال إلى البرازيل.
1505:
لوحة ليوناردو «الموناليزا»؛ وصول دورر إلى إيطاليا.
1506:
بدء برامانتي العمل في كنيسة القديس بطرس في روما.
1509:
صعود الملك هنري الثامن على عرش إنجلترا (حكم حتى عام 1553).
1511:
صدور كتاب إراسموس «إطراء على الحماقة».
1512:
انتهاء مايكل أنجلو من العمل على سقف كنيسة سيستين؛ صدور كتاب إراسموس «أسس الأسلوب الأنيق».
1513:
وصول كورتز إلى المكسيك؛ استيلاء البرتغال على هرمز ؛ صدور كتاب مكيافيلي «الأمير».
1515:
صعود الملك فرانسيس الأول على عرش فرنسا (حكم حتى 1547).
1516:
تتويج شارل الخامس ملكا على إسبانيا؛ صدور طبعة إراسموس من العهد الجديد باللغة اليونانية؛ صدور كتاب مور «يوتوبيا».
1517:
صدور الأطروحات الخمس وتسعين للوثر.
1520:
صعود السلطان سليمان القانوني على العرش.
1521:
انعقاد الاجتماع العام الإمبراطوري في مدينة فورمس بألمانيا؛ وصول بعثة ماجلان إلى المحيط الهادي.
1524:
ثورة الفلاحين في ألمانيا؛ لوحة رافاييل «منحة قسطنطين».
1525:
معركة بافيا؛ صدور كتاب دورر «دورة تدريبية في فن القياس».
1527:
نهب روما.
1529:
معاهدة سرقسطة؛ خريطة العالم لديوجو ريبيرو.
1533:
انشقاق هنري الثامن عن روما؛ لوحة هولباين «السفيران»؛ صدور ريجيومونتانوس «عن المثلثات».
1543:
صدور كتاب كوبرنيكوس «حول دوران الأجرام السماوية»؛ صدور كتاب فيزاليوس «حول تركيب الجسم البشري»؛ وصول البرتغاليين إلى اليابان.
1545:
بدء انعقاد مجمع ترينت (انتهى في 1563).
1554:
صدور كتاب بانديلو «قصة قصيرة».
1555:
صلح أوجسبورج؛ إصدار بيان بابوي من قبل البابا بولس الرابع ضد اليهود؛ صدور كتاب لويز لابيه «إيفر».
1556:
تنازل شارل الخامس عن العرش؛ تتويج فيليب الثاني ملكا لإسبانيا؛ صدور دراسة تارتاليا بعنون «بحث عام حول الأرقام والقياس»؛ صدور كتاب أجريكولا «حول المعادن».
1558:
صعود الملكة إليزابيث الأولى على عرش إنجلترا.
1567:
صدور كتاب إيزابيلا ويتني «نسخة الخطاب».
1569:
خريطة العالم لميركاتور.
1570:
الحرمان الكنسي للملكة إليزابيث الأولى؛ صدور أول أطلس للعالم الحديث بعنوان «مسرح العالم» لأبراهام أورتيليوس.
1571:
هزيمة القوات البحرية العثمانية في معركة ليبانتو.
1572:
مذبحة يوم القديس بارثولوميو؛ قصيدة كامويس «اللوسياد».
1580:
صدور كتاب «المقالات» لمونتين.
1590:
قصيدة سبنسر «ملكة الجن».
1603:
صدور مسرحية شكسبير «عطيل»؛ وفاة الملكة إليزابيث الأولى؛ صعود جيمس الأول على العرش.
1604:
صدور رواية ثربانتس «دون كيشوت».
1605:
صدور كتاب بيكون «في تقدم المعارف وتطورها».
قراءات إضافية
مقدمة
Hans Baron,
The Crisis of the Early Italian Renaissance (Princeton, 1955).
Warren Boutcher, 'The Making of the Humane Philosopher: Paul Oscar Kristeller and Twentieth-Century Intellectual History’, in John Monfasani (ed.),
Kristeller Reconsidered (New York, 2005), pp. 37-67.
Jacob Burckhardt,
The Civilisation of the Renaissance in Italy , tr. S. G. C. Middlemore (London, 1990).
W. K. Ferguson,
The Renaissance in Historical Thought: Five Centuries of Interpretation (New York, 1970).
Mary S. Hervey,
Holbein’s Ambassadors, the Picture and the Men: An Historical Study (London, 1900).
The Philosophy of Marsilio Ficino (New York, 1943).
Walter Mignolo,
The Darker Side of the Renaissance (Ann Arbor, 1995).
Erwin Panofsky,
Studies in Iconology: Humanist Themes in the Art of the Renaissance (Oxford, 1939).
الفصل الأول
Ezio Bassani and William Fagg,
Africa and the Renaissance (New York, 1988).
Jerry Brotton and Lisa Jardine,
Global Interests: Renaissance Art between East and West (London, 2000).
Charles Burnett and Anna Contadini (eds.),
Islam and the Italian Renaissance (London, 1999).
Deborah Howard,
Venice and the East (New Haven, 2000).
Halil Inalcik,
The Ottoman Empire: The Classical Age 1300-1600 , tr. Colin Imber and Norman Itzkowitz (New York, 1973).
Gülru Necipoglu, 'Süleyman the Magnificent and the Representation of Power in the Context of Ottoman-Hapsburg-Papal rivalry’,
Art Bulletin , 71 (1989), 401-27.
Julian Raby,
Venice, Dürer and the Oriental Mode (London, 1982).
الفصل الثاني
Elizabeth Eisenstein,
The Printing
, 2 vols. (Cambridge, 1979).
Lucian Febvre,
The Coming of the Book , tr. David Gerard (London, 1976).
Anthony Grafton and Lisa Jardine,
From Humanism to the Humanities: Education and the Liberal Arts in Fifteenth- and Sixteenth-Century Europe (London, 1986).
William Ivins,
Communications (Cambridge, Mass., 1953).
Lisa Jardine,
Erasmus, Man of Letters (Princeton, 1993).
Jill Kraye (ed.),
The Cambridge Companion to Renaissance Humanism (Cambridge, 1996).
الفصل الثالث
John Bossy,
Christianity in the West, 1400-1700 (Oxford, 1985).
Thomas Brady
et al . (eds.),
Handbook of European History, 1400-1600 , vol. 1 (Leiden, 1994).
Euan Cameron,
The European Reformation (Oxford, 1991).
David M. Luebke (ed.),
The Counter-Reformation (Oxford, 1999).
Steven Ozment,
The Age of Reform, 1250-1550 (New Haven, 1980).
Eugene Rice,
The Foundations of Early Modern Europe , rev. edn. (New York, 1993).
الفصل الرابع
Jerry Brotton,
Trading Territories: Mapping the Early Modern World (London, 1997).
Mary Baines Campbell,
Wonder and Science (New York, 1999).
Tony Grafton,
New Worlds, Ancient Texts (New York, 1995).
Jay Levenson (ed.),
Circa 1492: Art in the Age of Exploration (Washington, 1992).
J. H. Parry,
The Age of Reconnaissance (London, 1963).
Joan-Pau Rubies,
Travel and Ethnology in the Renaissance (London, 2000).
الفصل الخامس
Marie Boas,
The Scientific Renaissance 1450-1630 (London, 1962).
Brian Copenhaver and Charles B. Schmitt,
Renaissance Philosophy (Oxford, 1992).
Nancy Siraisi,
Medieval and Early Renaissance Medicine (Chicago, 1990).
Quentin Skinner,
The Foundations of Modern Political Thought (Cambridge, 1978).
The Body of the Artisan (Chicago, 2004).
الفصل السادس
Terence Cave,
The Cornucopian Text (Oxford, 1979).
Walter Cohen,
Drama of a Nation (New York, 1985).
Margaret Ferguson
et al . (eds.),
Rewriting the Renaissance (Chicago, 1986).
Stephen Greenblatt,
Renaissance Self-Fashioning: From More to Shakespeare (Chicago, 1980).
Ann Rosalind Jones,
The Currency of Eros: Women’s Love Lyric in Europe, 1540-1620 (Bloomington, 1990).
David Quint,
Epic and Empire (Princeton, 1993).
نامعلوم صفحہ