72

هوامش

الفصل الثاني

العصبية والموالي في الدولة العباسية

(1) توطئة

لقد مرت بك إشارة بسيطة - حين تكلمنا عن العصر الأموي - إلى حنق الموالي الذين نالهم في ذلك العصر من الاحتقار والزراية حظ غير قليل، وبينا لك أن هذه الناحية من المعاملة التي لا تنطبق على المذهب الحديث «حرية، إخاء، مساواة»، كانت عاملا قويا من عوامل الضعف والانحطاط في دولتهم، ووعدناك أن ندرس حال العصبية والموالي في هذا الفصل من الكتاب تمشيا مع النظام الذي وضعناه له.

والآن نعرض عليك حال الشعوب التي كانت خاضعة لسلطان بني أمية حتى تتبين أحوالها النفسية، والأهواء التي كانت غالبة عليها، فإنه لا يكفي في انتقال الملك من شخص إلى شخص، أو من بيت إلى بيت بث الدعوة وتنظيمها، وحزم القائمين بها، وإخلاص المشيرين وكفاية القواد، بل لا بد مع هذه الأمور أن تصادف الدعوة الجديدة نفوسا مستعدة لها، راغبة فيها، عاملة على إنمائها، لكي تزهر وتؤتي ثمارها.

والحق أن الدعوة العباسية قامت في وقت كانت قد توزعت فيه الحواضر الإسلامية أهواء مختلفة، وتقسمت القبائل العربية عوامل العصبية، وأخذت الشعوب المغلوبة على أمرها والتي أصبحت خاضعة للنفوذ العربي تستفيق من الدهشة التي استولت عليها من الفورة العربية التي أخضعتها لسلطان العرب المسلمين.

أما الحواضر الإسلامية فكان قد غلب على كل حاضرة هوى أسرة أو شخص معين، ولم تكن لتخضع للسلطان العربي الأموي لولا القوة القاهرة؛ ولهذا لم يكد يضطرب أمر بني أمية في الأطراف، ويظهر الخارجون من الدعاة على ولاتهم، حتى أخذت هذه الحواضر تنسل عن طاعة بني أمية واحدة بعد أخرى. وتستطيع أن تلتمس هذه الظاهرة بينة واضحة من تقاعد الولايات عن نصرة آخر خلفاء بني أمية عندما حزبه الأمر وتعقبه مطاردوه. (2) العصبية

العصبية هي مناصرة من يمت إليك بصلة من صلات الحياة؛ كأن تجمعكما رحم قريبة أو بعيدة، أو عقيدة دينية، أو هوى سياسي. فيظهر أنها من طبيعة الوجود؛ إذ لا تختص بها قبيلة دون قبيلة، ولا أمة دون أمة، ولا جنس دون جنس، ولا عصر دون عصر، وكما توجد في الأمم البادية، كذلك توجد في الأمم الحاضرة، وما الدعوات القومية والنعرات الجنسية إلا نوع من العصبية بمعنى أوسع.

والعصبية العربية التي نحن بسبيل القول فيها، والتي كانت من الأسباب التي اضمحل بها سلطان بني أمية، قديمة في القبائل العربية؛ كانت في الجاهلية قبل الإسلام، وكانت تضيق وتتسع بحسب الظروف والمناسبات، فبينما نراها بين العدنانية والقحطانية، وهو أوسع معانيها من الوجهة التاريخية العربية، نراها بين ربيعة ومضر، وهي قبائل عدنانية، ونراها بين بني أمية وبني هاشم، وقد يكون هذا من أضيق ميادينها، وكانت هذه العصبيات تشتد حينا، وتفتر آخر.

نامعلوم صفحہ