ولتنظر معي أيضا إلى عبد الملك بن مروان، وهو من الخلفاء الثلاثة المعدودين أقطابا لهذه الدولة، وإلى ما كان من جبروته وضعف الوازع الديني عنده حتى استباح لنفسه أن يقول وهو على المنبر: «من قال لي بعد مقامي هذا: اتق الله؛ ضربت عنقه.»
وبعد، فإنه ليخيل إلينا أن فيما قدمناه بعض المقنع بما كان من استهانة الخلفاء بالدين، ومن إمعانهم في التهتك والخروج عليه.
ونريد الآن أن ندرس تأثر الخلق العربي بما كان للخلفاء من تنكب عن سنن الدين، وإمعان في التهتك والاستهتار، والناس على دين ملوكهم، والملوك على سنة رعيتهم، أو كما يقول عبد الملك بن مروان: «تطلبون منا أن نسير فيكم بسيرة الشيخين أبي بكر وعمر ولا تسيرون أنتم بسيرة الناس أيام أبي بكر وعمر.» على أنا نرغم أنفسنا إرغاما على أن نكتفي في هذا الفصل الذي كادت تتشعب علينا فروعه ونواحيه، وكدنا نضل في مهامهه وبواديه بمثلين قد لا يخلوان من النفع، وعمدتنا في ذلك الأغاني، وعيون الأخبار لابن قتيبة، وإن كان المثل الأخير هو إلى الأدب والعظة أقرب منه إلى التاريخ والتحليل العلمي، بيد أنا آثرنا إيراده لأنه حسن في نفسه، ومصيب محجة الصواب في جملته.
يقول أبو الفرج: إنه لما قدم عثمان بن حيان المري، والي يزيد بن عبد الملك، المدينة قال له قوم من وجوه الناس: إنك وليت على كثرة من الفساد، فإن كنت تريد أن تصلح فطهرها من الغناء والزنا إلخ. ونفهم من جملة الرواية أنه لم يفز في مهمته بطائل، ولم يوفق إلى ما كان يرجوه للناس من صلاح وتقويم.
أما ما يرويه لنا ابن قتيبة في عيون أخباره، فها هو ذا بنصه وعبارته، وهو ختام هذا الفصل بعد أن كدنا نطيل، قال: «سمر المنصور ذات ليلة فذكر خلفاء بني أمية وسيرهم، وأنهم لم يزالوا على استقامة حتى أفضى أمرهم إلى أبنائهم المترفين، فكانت هممهم من عظم شأن الملك وجلالة قدره قصد الشهوات، وإيثار اللذات، والدخول في معاصي الله ومساخطه، جهلا منهم باستدراج الله، وأمنا لمكره، فسلبهم الله العز، ونقل عنهم النعمة، فقال له صالح بن علي: يا أمير المؤمنين، إن عبد الله بن مروان لما دخل أرض النوبة هاربا فيمن معه سأل ملك النوبة عنهم فأخبر، فركب إلى عبد الله فكلمه بكلام عجيب في هذا النحو لا أحفظه، وأزعجه عن بلده، فإن رأى أمير المؤمنين أن يدعو به من الحبس بحضرتنا في هذه الليلة ويسأله عن ذلك، فأمر المنصور بإحضاره وسأله عن القصة، فقال: يا أمير المؤمنين، قدمت أرض النوبة بأثاث سلم لي فافترشت بها وأقمت ثلاثا، فأتاني ملك النوبة وقد خبر أمرنا، فدخل علي رجل أقنى طوال حسن الوجه، فقعد على الأرض ولم يقرب الثياب، فقلت له: ما يمنعك أن تقعد على ثيابنا؟ قال: لأني ملك، وحق على كل ملك أن يتواضع لعظمة الله إذ رفعه! ثم قال لي: لم تشربون الخمر وهي محرمة عليكم؟ قلت: اجترأ على ذلك عبيدنا وأتباعنا لأن الملك زال عنا؛ قال: فلم تطئون الزروع بدوابكم والفساد محرم عليكم في كتابكم؟ قلت: يفعل ذلك عبيدنا وأتباعنا بجهلهم، قال: فلم تلبسون الديباج والحرير وتستعملون الذهب والفضة وذلك محرم عليكم؟ قلت: ذهب الملك منا وقل أنصارنا، فانتصرنا بقوم من العجم دخلوا في ديننا، فلبسوا ذلك على الكره منا، قال: فأطرق مليا وجعل يقلب يديه وينكت في الأرض ويقول: عبيدنا وأتباعنا! دخلوا في ديننا! وزال الملك عنا! يردده مرارا، ثم قال: ليس ذلك كما ذكرت، بل أنتم قوم استحللتم ما حرم الله عليكم، وركبتم ما عنه نهاكم، وظلمتم فيما ملكتم، فسلبكم الله العز وألبسكم الذل بذنوبكم، ولله فيكم نقمة لم تبلغ غايتها، وأخاف أن يحل بكم العذاب وأنتم ببلدي فيصيبني معكم، وإنما الضيافة ثلاثة أيام، فتزودوا ما احتجتم إليه وارتحلوا عن بلدي. ففعلت ذلك.» (5) التعسف المذهبي
نريد أن ننظر الآن نظرة عجلى في أمر التعسف المذهبي، ونحن نعلم ما أصاب جماعة علي أيام معاوية وهو هو في حكمه وحلمه ومرونته، نعلم ما أصاب حجر بن عدي الكندي وجماعته، كما نعلم ما أصابها أيام يزيد من قتل هانئ بن عروة، ومسلم بن عقيل، والحسين بن علي، وزيد بن علي الذي صلب على شاطئ الفرات وذري رماده في الماء، ولننظر نظرة خاصة إلى حياة بسر بن أبي أرطأة وقتله الأطفال والرجال والنساء، ولنترك معاوية هنا يصور لنا مبلغ تأثر نفوس بني هاشم من خطة التعسف المذهبي هذه؛ فإن أبا الفرج الأصفهاني يقول في كتابه: لما كانت الجماعة واستقر الأمر لمعاوية، دخل عليه عبيد الله بن العباس وعنده بسر بن أبي أرطأة، فقال له عبيد الله: أأنت قاتل الصبيين أيها الشيخ؟ قال بسر: نعم، أنا قاتلهما، فقال عبيد الله: أما والله لوددت أن الأرض كانت أنبتتني عندك! فقال بسر: فقد أنبتتك الآن عندي، فقال عبيد الله: ألا سيف؟ فقال له بسر: هاك سيفي. فلما أهوى عبيد الله إلى السيف ليتناوله أخذه معاوية ثم قال لبسر: «أخزاك الله شيخا! قد كبرت وذهب عقلك! وذلك رجل من بني هاشم قد وترته وقتلت ابنيه، تدفع إليه سيفك! إنك لغافل عن قلوب بني هاشم! ولو تمكن منه لبدأ بي قبلك»، قال عبيد الله: «أجل! وكنت أثني به.»
ثم انظر كيف انتقم من بسر رجل من اليمن اتصل به حتى وثق به، ثم احتال لقتل ابنيه، فخرج بهما إلى وادي أوطاس
3
فقتلهما وهرب.
على أنه يجدر بنا أن نصور إلى أي مدى بلغت نتائج خطط الأمويين السياسية، من حيث بثهم البغضاء في النفوس لعلي وشيعته، وصرف الناس عن ذكرهم، وما كان من لعنهم على المنابر من تأثير خليق بعنايتنا، ومراجعنا في هذه الناحية عدة مصادر، بيد أنا نجتزئ اجتزاء، ونحيل القارئ إلى ما رواه ابن عائشة عن شعور رجل من الشام نحو حفيد علي، وقد نقل ذلك المبرد في الكامل.
نامعلوم صفحہ