184

ومع كبر سن المأمون وظهور هذه الخلال فيه، وثقة الرشيد به ومحبته له لم يتح له ما أتيح للأمين من البيعة بولاية العهد؛ إذ كان لأم الأمين من المكانة لدى الرشيد، وهي زوجه، ما لم يكن لأم المأمون. وقد سبق أن بينا لك في كلامنا على الأمين ما قام به أخواله من المسعى الموفق في أن يكون أمر الدولة من بعد الرشيد لابن أختهم، وما قام به الفضل بن يحيى في خراسان من البيعة للأمين بولاية العهد، حتى أصبح الرشيد أمام الأمر الواقع، فأعلن بولاية العهد للأمين راضيا أو مكرها. (3) نشأته وأخلاقه

وكل الرشيد بكفالة المأمون والنظر في شئونه ومراقبة أحواله جعفر بن يحيى وزيره، كما جعل الأمين في كفالة الفضل أخي جعفر. ونحن نحس عند ذكر كفالة الفضل للأمين إحساسا، قد لا يعدو الواقع كثيرا، أن بين هذه الكفالة وبين إعلان الفضل بولاية العهد للأمين في خراسان صلة.

فلما نما المأمون وترعرع أخذ المؤرخون يذكرون لنا من مظاهر نجابته وحزمه، وتقديره لنفسه وللناس، ومعرفته بمن كانت أهواؤهم معه أو عليه، ووقوفه على ما يجري حوله من شئون وأحوال، مما سنقصه عليك، ما ينبئ بما سيكون لهذا الغلام من شأن عظيم.

ولعل أظهر ما يدل على نجابة المأمون في صباه ما يقصه علينا التاريخ عن أبي محمد اليزيدي مؤدبه الذي يقول: «كنت أؤدب المأمون وهو في كفالة سعيد الجوهري، فجئت دار الخلافة وسعيد قادم إليها، فوجهت إلى المأمون بعض خدمه يعلمه بمكاني، فأبطأ علي، ثم وجهت آخر فأبطأ، فقلت لسعيد: إن هذا الفتى ربما تشاغل بالبطالة وتأخر، فقال: أجل، ومع هذا فإنه إذا فارقك تعرم

1

على خدمه، ولقوا منه أذى شديدا، فقومه بالأدب، فلما خرج تناولته ببعض التأديب، فإنه ليدلك عينيه من البكاء إذ قيل: جعفر بن يحيى الوزير قد أقبل، فأخذ منديلا فمسح عينيه وجمع ثيابه، وقام إلى فراشه فقعد عليه متربعا، ثم قال: ليدخل، فقمت عن المجلس وخفت أن يشكوني إليه فألقى منه ما أكره، قال: فأقبل عليه بوجهه وحدثه حتى أضحكه وضحك إليه، فلما هم بالحركة، دعا المأمون بدابة جعفر ودعا غلمانه فسعوا بين يديه، ثم سأل عني فجئت، فقال: خذ علي بقية حزبي، فقلت: أيها الأمير، أطال الله بقاءك، لقد خفت أن تشكوني إلى جعفر بن يحيى، ولو فعلت لتنكر لي، فقال: تراني، يا أبا محمد، كنت أطلع الرشيد على هذه، فكيف بجعفر بن يحيى حتى أطلعه على أنني أحتاج إلى أدب؟! خذ في أمرك، عافاك الله، فقد خطر ببالك ما لا تراه أبدا ولو عدت إلى تأديبي مائة مرة!»

وكذلك مما يدل على ذكاء المأمون وثقوب بصيرته، وأصالته وحصافته منذ نعومة أظفاره وميعة صباه ما يحكى من أن أم جعفر عاتبت الرشيد في تقريظه للمأمون دون الأمين ولدها، فدعا خادما وقال له: وجه إلى الأمين والمأمون خادما يقول لكل واحد منهما على الخلوة: ما تفعل إذا أفضت الخلافة إليك؟ فأما الأمين فقال للخادم: أقطعك وأعطيك، وأما المأمون فإنه قام إلى الخادم بدواة كانت بين يديه وقال: أتسألني عما أفعل بك يوم يموت أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين، إني لأرجو أن نكون جميعا فداء له، فقال الرشيد لأم جعفر: كيف ترين؟ فسكتت عن الجواب.

وأعدل الشواهد على تقدير هذا الغلام لنفسه كأمير وابن خليفة، وشعوره بما له من منزلة اجتماعية خاصة، وبما ينبغي أن يكون له في نفوس الناس من إجلال واحترام، وما يجب لمثله في آداب التحية وحسن الخطاب ما جبه به الحسن اللؤلؤي، وهو الذي اتخذه الرشيد مؤدبا للمأمون بعد أبي محمد اليزيدي، حين كان يطارحه شيئا من الفقه، وأخذت المأمون سنة من النوم، فقال له اللؤلؤي: نمت أيها الأمير؟ فقال المأمون: سوقي ورب الكعبة، خذوا بيده، فجاء الغلمان فأقاموه، فلما بلغ الرشيد ما صنع قال متمثلا:

وهل ينبت الخطي إلا وشيجه

وتغرس إلا في منابتها النخل

نامعلوم صفحہ