170

أظن أنني لا أعدو الحق كثيرا إذا قلت: لا؛ إذ قلما يعرض المؤرخون القدماء لشيء من طفولة العظماء ورجال التاريخ.

على أنا قد وقفنا من طفولة الأمين على شذرات ليست بذات غناء كبير، نثبتها لك وندرسها معك؛ فربما ساعدتنا بعض المساعدة على تفهم حداثة الأمين، واستخلاص بعض الحقائق عنه.

يحدثنا البيهقي في «المحاسن والمساوي» بما سنلخصه لك خاصا بنشأة الأمين التعلمية؛ لتقف على البيئة التي كان فيها الأمين، ولأن روايته - خصوصا ما جاء عن حلم زبيدة وفزعها منه، مما رواه المسعودي في «مروجه» أيضا - قد تجعلنا نعلل بحق أثر الوسط والوراثة في خلق ما كان بالأمين من استعداد لحب الاستخارة، مما كانت له نتائجه السيئة، ولأنه يفهمنا بوجه عام لم كان الأمين فصيحا أديبا بليغا، ولم كان عابثا مستهترا، ولم كان وادعا متهيبا من الدماء، ولأنه يفسر نشأته في ترف الخلافة ونعيمها، ومرح الحداثة ونهزها، والاستمتاع بمال زبيدة والإدلال بهاشميتها. •••

أنت جد عالم أن الرشيد جعل الأمين في حجر الفضل بن يحيى، والمأمون في حجر جعفر بن يحيى، وأنت جد عالم أن الفضل بن يحيى قال لهشيم بن بشر الواسطي: «ليكن أكثر ما تأخذ به ولي العهد الأمين تعظيم الدماء، فإني أحب أن يشرب الله قلبه الهيبة لها، والعفاف عن سفكها»، وأنت جد عالم بوصية الرشيد للأحمر النحوي بأخذ الأمين بالشدة إن لم تنفع الملاينة في تقويمه، وقد آن لنا أن نترك للأحمر فرصة التكلم، فيروي لك ما كان من أمره مع تلميذه الأمين.

يقول الأحمر: «كنت كثيرا ما أشدد على الأمين في التأديب، وأمنعه الساعات التي يتفرغ فيها للهو واللعب، فشكا ذلك إلى خالصة - ولعلها كانت كبيرة وصيفات أو أمينات القصر الزبيدي - فأتتني برسالة من أم جعفر تعزم علي بالكف عنه، وأن أجعل له وقتا أجمه فيه لتوديع بدنه، فقلت: الأمير قد عظم قدره، وبعد صوته، وموقعه من أمير المؤمنين ومكانه من ولاية العهد لا يحتملان التقصير، ولا يقبل منه الخطل، ولا يرضى منه بالزلل في المنطق، والجهل بالشرائع، والعمى عن الأمور التي فيها قوام السلطان وإحكام السياسة، قالت: صدقت، غير أنها والدة لا تملك نفسها، ولا تقدر على كف إشفاقها، ومع حذرها أمر إن شئت حدثتك به، فقلت: وما ذاك؟ قالت: حدثتني السيدة أنها رأت في الليلة التي حملت فيها به كأن ثلاث نسوة دخلن عليها، فقعدت منهن ثنتان، واحدة عن يمينها، وواحدة عن يسارها، فأمرت إحدى الثلاث يدها على بطنها، ثم قالت: ملك ربحل، عظيم البذل، ثقيل الحمل، سريع الأمر! وقالت الثانية: ملك قصير العمر، سليم الصدر، منهتك الستر! وقالت الثالثة: ملك قصاف، عظيم الإتلاف، يسير الخلاف، قليل الإنصاف! فانتبهت وأنا فزعة فلم أحس لهن أثرا، حتى كانت الليلة التي وضعته فيها أتينني في الخلق الذي رأيتهن فيه، فقعدن عند رأسه واطلعن جميعا في وجهه، ثم قالت واحدة منهن: شجرة نضرة، وريحانة جنية، وروضة زاهرة، وعين غدقة قليل لبثها، عجل ذهابها! وقالت الثانية: سفيه غارم، طالب للمغارم، جسور على المخاصم! وقالت الثالثة: احفروا قبره، وشقوا لحده، وقربوا أكفانه، وأعدوا جهازه، فإن موته خير له من حياته! قالت: فبقيت متحيرة، وبعثت إلى المنجمين والمعبرين ومن يزجر الطير، فكل يبشرني بطول عمره، ويعدني بقاءه وسعادته، وقلبي يأبى إلا الحذر عليه والتهمة لما رأيت في منامي. وبكت خالصة وقالت: يا أحمر، وهل يدفع الإشفاق والحذر والاحتراق واقع القدر، أو يقدر أحد على أن يدفع عن أحبائه الأجل؟ قلت: صدقت، إن القضاء لا يدفعه شيء.»

ويحدثنا التاريخ أن الرشيد اتخذ فيمن اتخد لتربية الأمين وتعليمه قطربا النحوي، وكان حماد عجرد يتعشق الأمين، ويطمع أن يتخذه الرشيد عليه مؤدبا، فلم يتهيأ له ذلك لتهتكه وقبيح ذكره في الناس، وقد كان رام ذلك فلم يجب إليه، فلما سمع أن قطربا قد استوى أمره وأجيب إلى ذلك لستره وعفافه، أخذ حمادا المقيم المقعد حسدا على ما ناله قطرب من ذلك وبلغه من المنزلة الرفيعة والدرجة السنية، فأخذ رقعة وكتب فيها أبياتا ودفعها إلى بعض الخدم الذين يقومون على رأس الرشيد، وجعل له على ذلك جعلا، وسأله أن يودع الرقعة دواة أمير المؤمنين، ففعل، فما كان بأسرع من أن دعا الرشيد بالدواة، فإذا فيها رقعة فيها هذه الأبيات:

قل للإمام جزاك الله مغفرة

لا يجمع الدهر بين السخل والذيب

السخل غر وهم الذيب غفلته

والذيب يعلم ما بالسخل من طيب

نامعلوم صفحہ