عصر الحب
عصر الحب
عصر الحب
عصر الحب
تأليف
نجيب محفوظ
عصر الحب
1
يقول الراوي:
ولكن من الراوي؟ ألا يحسن أن نقدمه بكلمة؟ إنه ليس شخصا معينا يمكن أن يشار إليه إشارة تاريخية، فلا هو رجل ولا امرأة، ولا هوية ولا اسم له، لعله خلاصة أصوات مهموسة أو مرتفعة، تحركها رغبة جامحة في تخليد بعض الذكريات، يحدوها ولع بالحكمة والموعظة، وتستأسرها عواطف الأفراح والأحزان، ووجدان مأساوي دفين، وعذوبة أحلام يعتقد أنها تحققت ذات يوم. إنه في الواقع تراث منسوج من تاريخ ملائكي ينبع صدقه من درجة حرارته وعمق أشواقه، ويتجسد بفضل خيال أمين يهفو إلى غزو الفضاء رغم تعثر قدميه فوق الأرض الأليفة المتشققة التربة وثغراتها المفعمة بالماء الآسن.
وإني إذ أسجله كما تناهى إلي، إذ أسجله باسم الراوي وبنص كلماته، فإنما أصدع بما يأمر به الولاء، وأنفذ ما يقضي به الحب، مذعنا في الوقت نفسه لقوة لا يجوز المجازفة بتجاهلها. •••
يقول الراوي:
إنه كانت تعيش في حارتنا أرملة تدعى ست عين. امرأة قوية عجيبة الأطوار مثيرة الأوصاف، كائن فريد لا يتكرر، يدعو إلى الحذر بين يدي الحياة الغامضة التي لا حدود لإمكانياتها. وتبدأ حكايتها عادة وهي أرملة في الخمسين ذات ابن وحيد يدعى عزت، في السادسة من عمره. لم لم تبدأ الحكاية قبل ذلك؟ لم لم تبدأ وهي صبية أو وهي عروس؟ لماذا لا يحدثوننا عن عم عبد الباقي زوجها؟ لم لم تنجب إلا عزت؟ ولم أنجبته على كبر؟ أجاء النقص منها أم من الزوج؟ ولكن ماذا يهم ذلك كله؟ الراوي ملتزم برؤيته، ولو تحرر منها لوجب أن يسترسل في التقصي حتى يبلغ رحاب أبينا آدم وأمنا حواء. إذن فلتكن البداية وست عين في الخمسين ووحيدها عزت في السادسة، وهي امرأة مرموقة ذات شأن ينمو ويتضخم مع الزمن كمدينة صاعدة، تملك جميع العمارات الكبيرة في الحارة؛ فهي ثرية واسعة الثراء، بل لا مثيل لثرائها، ولا أدري إن كانت هي موجدة الثروة أم زوجها، ولكن مما يذكر أن شقيقتها أمونة لا تملك شيئا. أجل لا يقطع ذلك بأن ثروتها موروثة عن زوجها؛ فقد نتصور أن الشقيقتين تساوتا ذات يوم في إرث محدود، بددته أمونة على حين استثمرته عين. على أي حال كانت أغنى شخص في الحارة بلا استثناء للمعلمين والتجار.
وإلى الثراء الواسع خصت بصحة رائعة. يقولون إنها حافظت على رونق الشباب وهي في الخمسين من عمرها؛ لم يبهت سواد شعرة من شعرها، ولا اشتكى لها عضو، متينة البناء متوسطة القامة، لا بدانة تثقلها ولا نحافة تعيبها، يتكور نهداها شامخين وسالمين من أثر الرضاعة، ويكونان في مقدمة الجسد مركز ملاحة مستترا كأنه - بلغة اليوم - محطة إرسال، ولكنه مغلف بالجلال الزاجر، وأجمل قسماتها العينان السوداوان يشع منهما نور هادئ ذائب في الحنان، أما الأنف فدقيق ولكنه طويل يرشحه طوله لوجه رجل، كذلك فوها الواسع الممتلئ. ويحدثونك كثيرا عن لون بشرتها القمحي النقي الذي لم تمسه الأصباغ، وخمارها الأبيض وجلبابها السابغ وتلفيعتها السمراء؛ فلم تر في الطريق مندسة في ملاءة لف أو تزييرة أو متحجبة ببرقع أسود أو أبيض؛ متحدية الألسن بوقار العمر وهيبة الخلق وسحر السلوك وحصانة المنزلة، معتزة بسمعة مثل شذا الورد، وفي حارتنا لا يغض البصر عن نقيصة، ولا تعفى نقيصة من القيل والقال والحفظ والتسجيل؛ لذلك فليس أبقى في الذاكرة من سير الفتوات والقوادين والعاهرات، ونغالي فنؤرخ بهم الأحداث؛ فتقرن الذكرى بحياة الضبش أو الدنف أو علية كفتة؛ فأن يمضي تاريخ ست عين بلا كلمة واحدة تسيء إليها دليل قاطع على نقائها وطهارتها وفضائلها الجمة. وهي تمشي إذا خرجت في الطريق في صحبة مظلة لا تتخلى عنها صيفا أو شتاء، تتقي بها الشمس أو المطر أو تنذر بها - في الأحوال النادرة - من يتعرض لها من السكارى أو المسطولين، ويا ويل من يتعرض لها في ذهوله من أهل الطريق. الحق أنها لم تكن مصونة بسبب عفتها فحسب، ولكن لقوة شخصيتها أولا وأخيرا. كانت بحكم وظيفتها المالية تستقبل الكثيرين من السكان والمتعاملين، وكانوا سرعان ما يفيقون من سحر جمالها تحت تأثير صوتها القوي ومنطقها الجدي ونظراتها النافذة. حتى الفتوات لم تسول لهم أنفسهم الاستهتار في محضرها، وربما رجعوا من لقائها وهم يتمتمون: «يا لها من رجل!» غير أن ذلك لم يعن أكثر من خيبة ثعلب مكار أو هزيمة محتال. لم تكن رجولتها إلا أسلوبا وجدته مناسبا للتعامل في حارة هي أعلم الناس بأحوالها. لم تكن نقصا في أنوثة أو خشونة في طبع أو قناعا لستر عورة. كلا ... بل كانت الرحمة عينها. لم تصر أسطورة إلا بفضل رحمتها. لو أنها التزمت المكث في دارها لسعى إليها المحتاجون. وما دارها إلا أجمل دار في الحارة. من الخارج لا يتجلى منها إلا جدار حجري معتم لا يعد بخير، تتوسطه بوابة غليظة متهجمة تحمل فوق هامتها تمساحا محنطا، وفي نقطة الوسط منها مطرقة نحاسية غبراء على هيئة قبضة بشرية. إذا فتحت البوابة تبدت الدار جليلة وافية التقطيع تشي بالعز والنعيم، وترامت وراءها حديقة تنفث أخلاطا من روائح الياسمين والحناء والفواكه، تدور حول فسقية ارتفع فوق سورها الرخامي سور من الخشب منذ تعلم عزت المشي والجري والمغامرة. ومذ ترملت لم تعد تنتظر المحتاجين في دارها. انطلقت في الحارة بمظلتها، تهبط على المحتاج في داره، ألفت التجوال الرحيم، أصبحت الزائرة المترددة أبدا على ربوع الفقراء، تنغمس في أسر الكادحات والأرامل والعجزة. يقول الراوي: إن الحارة نسيت في أيامها البؤس والجوع والعري، وهانت عليها واجبات الزفاف والمرض والدفن. تلاشت الهموم جميعا تحت مظلة عين؛ عين الحنون، القلب الخفاق بالحب، الجود الوهاب بلا حساب، التي تدير العمارات لحساب الفقراء والمساكين. إنها الطل يهطل على القفر فيتركه أخضر يانعا يرقص بماء الحياة. أم الحارة ... المودعة بالدعوات الصالحات والبسمات المشرقات والامتنان الوفير؛ باسمها يحلفون، بنوادرها في الإحسان يتذاكرون الحقيقة والمعجزة والأسطورة. وكانت تصادق وتناجي وتألف وتؤلف قبل أن تقدم الدواء، كانت تتسلل إلى أعماق القلوب الجريحة؛ فتعايش الآلام وتخالط الأحزان وتوادد التعساء كأنما تتعامل مع أبناء أو تؤدي رسالة طرحتها عليها قوى الغيب. ويقال إنها مارست الإحسان في حياة زوجها عم عبد الباقي في نطاق الدار وبقدر محدود ثم انطلقت انطلاقتها الوردية عقب ترملها. كان المظنون أن تقتصد عقب الترمل، وأن تقتصد أكثر حبا في عزت الصغير، ولكنها تجاوزت منطق الأشياء بجناحين مستعارين من الفردوس، رغم أمومة قوية وعميقة، فلم تسعد امرأة كما سعدت بالأمومة التي وهبتها في فترة حرجة غير متوقعة. اعتبرت عزت هبة السماء لقلبها الوحيد. أسرها الامتنان للرحمن وأحيت ليالي البر للحسين والسيدة وأبو السعود طبيب الجراح. وكم أمضت من دهور وهي ترنو بمقلة مسحورة إلى الوجه الصغير ثم تمضي في طريق الخير ناشرة شراع الرحمة، في وجهه يتراءى أنفها الطويل وبشرتها النقية وعينا الأب الجاحظتان. وقالت إنه ولد لا بنت. والعبرة بالقلب، فليكن قلبه عذبا حنونا. وهو نشيط وأناني ولا يتخلى عنها إلا بالهزيمة، وهو أيضا مدمر يبعثر الأزهار ويطارد النمل ويقتل الضفادع، ولا ينام إلا وهي تقص فوق رأسه القصص. أيظن نفسه سلطانا؟ هكذا تتساءل ضاحكة، تتساءل بقلب شكور ونفس زاخرة بالرضا وبهجة الزهور المتفتحة. ويخطر لها على سبيل الدعابة أن تفصل له جبة وقفطانا وعمامة، وترامقه وهو يتزيى بها طروبا ثم تقول: «ما أجمل أن نهديها بعد زهدك فيها إلى الشيخ العزيزي!» ثم تعرضه على صديقاتها من طلاب الرحمة متسائلة: «ما رأيكن في هذا الشيخ؟» فيجبنها: «قمر ورب الحسين، فليمد الله في عمره إلى الأبد.» وتتفكر قليلا في «إلى الأبد»، وهي ذكية بقدر ما هي مؤمنة. وتغشى سحابة ربيع صفاءها فتغمغم: «فليكن يومي يا رب قبل يومه، ولتدفنني عند القضاء يداه.» وسرعان ما تتذكر جيلا راحلا من أحبائها فتقتحم مخيلتها القبور والشواهد، والصبار والرياحين، وصور مسربلة بالحياة من البشر، فتغمغم مرة أخرى: «إنهم أحياء معنا، ولكن لا يعلم الغيب إلا الله.»
وتسألها أم سيدة ذات يوم: كيف صرت أشرف خلق الله؟
فتستغفر الله تواضعا وتتمتم وهي تداري سرورها الذي تجلى في ابتسامة خفيفة كلمعة ضياء في سحابة يمر وراءها القمر: ما هي إلا رحمة الله بعابدة مخلصة.
ثم تسائل نفسها: كيف لي أن أدري بما يجعل سعادتي في الحب العطاء؟
وعرف وذاع أنه عندما مرض عزت بالحصبة قد مكثت مسهدة لا تذوق النوم ثلاثة أيام. •••
وقد مضى زمن وجاء زمن. تغيرت حارتنا بدرجة ملموسة وتمخضت عن أجيال جديدة ذات مزايا باهرة ولا تخلو أيضا من غرابة، وكانوا يتخذون موقفا خاصا مما يروى عن ست عين؛ موقفا يتسم باللامبالاة ولا يخلو أحيانا من قسوة: لم نطالب بتصديق ما يروى دون مناقشة؟ - إنها حكاية جميلة، ولكن هل تصمد أمام التمحيص؟ - ألا ترون أن التاريخ العلمي نفسه تحوم حوله الشكوك؟ - الإحسان ظاهرة حقيقية، ولكن ليس على تلك الصورة. - ولا تنسوا أن الإحسان نفسه لعبة من ألاعيب الأنانية. - إليكم حقيقة ست عين التي طمس الحب عليها، كانت مجنونة بالرحمة والإحسان ... ولكنها لم تجد العين التي تنفذ في أعماق الظواهر، ولو وجدتها لتكشفت عن امرأة أخرى لها سيرة بشرية حقيقية، وربما حافلة بالفضائح. ••• - ما عسى أن أقول ردا على ذلك؟ أقول ما سبق أن قلت من أن حارتنا تتطوع دائما بتكبير العيب ونشره، ولكنها لا تعترف بالخير إلا عندما لا تجد مفرا من ذلك. فضلا عن ذلك فإن حكاية عين لا تخلو من ضعف بشري؛ مما يؤكد صدقها وواقعيتها، ولكننا نأبى التسليم بالمثل العليا من طول انغماسنا في الماء الآسن. المحاكم مكتظة بالأخوة، ومن يسقط في الطريق يموت وحيدا. وما زلت متشبثا بتصديق حكاية عين؛ فما من حكاية إلا وتعبر عن حقيقة ما، كما أنه ما من ألم إلا ويشير إلى جرح ما. فحق لا شك فيه أن ست عين تمشي متلفعة بشملتها السمراء ومظلتها العتيقة وجلبابها السابغ. الابتسامة تشرق في صفحة وجهها الوقور، تسعد بالدعاء والتحيات والنظرات المعجبة، تمضي نحو الربوع البالية، تجلس بين التعساء وتهتف: كيف حالكم يا أحباء؟
تسأل عن زينب وعم حسين وأم بخاطرها، ثم تغادر المكان بعد أن فرشته بورود الرحمة، وما أكثر الذين يطالبون بدراستها على ضوء الغريزة والأنا والأنا الأعلى! ما أكثر الذين يحومون حول حياتك الجنسية يا عين! ما أكثر الذين ينقبون لك عن فضيحة في حفائر الذكريات! •••
ويقول الراوي: إن عين كانت تعشق الفصول الأربعة. ألفنا أغلبية الناس تؤثر بالحب فصلا بعينه أو فصلين، أما هي فكانت تعشق الفصول الأربعة. تحب الشتاء والسحب والمطر، لا تحول رياحه بينها وبين الجولات الثملة بالعطف، ولا يفزعها مطره إذا انهل فوق مظلتها المنشورة وجرى تحت قدميها ماء عكرا. وتحب الصيف وتتوافق سريعا مع حرارته وتنوه بلياليه العذبة، وتعشق الخريف وتقول عنه إنه فصل الجمال المغسول، والليالي المفتونة بالنجوى وتحيات الوداع المتبادلة. أما الربيع فهو فصل الحديقة والأصوات، وتجيء الخماسين محملة بالرسائل من أراض بعيدة مجهولة تشتعل أفئدتها بنار مقدسة، وهي تستجيب ولا شك للفصول المتغيرة بطبيعتها السمحة وإيمانها الراسخ.
وتموج حارتنا بالعواطف والانفعالات والأصوات المتلاطمة، وتجتاحها العواصف والخصومات ووجهات النظر المتضاربة، فتتابع ذلك بهدوء وإشفاق، وتدعو للخير أن ينتصر، ولا يرد على قلبها خاطر سوء أبدا. ولم يكن عن لامبالاة صفاؤها؛ فهي تدري غالبا - هي التي لا تنقطع عن الناس - أين يتأرجح الخير وأين يكمن الشر، وهي كما قلنا تدعو للخير أن ينتصر، ولكنها لا تنسى أن جميع المتنازعين أو كثرة منهم في حاجة إلى عونها. •••
ومما يذكر أن عامة المستهينين بها لم يعاصروا نشاطها، ولم يدركوا الفترة الأخيرة من حياتها، ولا شهدوا ختامها. ومما يذكر أيضا أن أكثرهم نشأ وتربى وشق طريقه بفضل إحسانها ورحمتها، ولكنهم يجهلون ذلك، أو يتناسونه أو يسيئون تأويله كما رأينا، وتتلاحق الأعوام فتتضخم السيرة في ضمير الراوي حتى تصير جبلا شاهقا، ولكنه مثل سائر الجبال يتعرض لعوامل التعرية.
2
وذات يوم - كما يقول الراوي - تجلس ست عين تحت خميلة الياسمين في الحديقة ترمي بلباب الخبز المغموس في المرق إلى مجموعة من القطط لا تقل عن الخمس عدا، وعزت واقف بجلبابه المقلم وصندله فيما بين الخميلة والفسقية، يقبض بيده الصغيرة على شعاع الشمس الغاربة الذي يتقلص على جذع شجرة الليمون. الصيف يودع الأيام الأخيرة من رحلته ولم يبق على مدفع الإفطار إلا قليل. وعين تطعم القطط بيدها، وتؤلف بينها وبينها ساعات الطعام وساعات المؤانسة؛ الأم «بركة» طحينية اللون ذات نجمة بيضاء في وسط الرأس، والأب «أبو الليل» أسود فاحم، إنعام وصباح من سلالتهما، ونرجس مهداة من أسرة غريبة، وكلهن روميات منفوشات الشعر، عن العلاقة الحميمة بينها وبين القطط، عن التفاهم والتخاطر، عن المودة والتناغم، عن الطاعة والدلال، عن الولاية والأسرار، عن كل أولئك تحكي القصص والنوادر.
وفي الهدوء يعلو صوت مستأذنا: يا أهل الله!
ترامى من ناحية الممر المفضي إلى مدخل الدار. تبتسم عين مستأنسة وتهتف: تعالي يا أم سيدة.
تقبل المرأة في ملاءتها اللف سافرة الوجه شأن الكادحات من نساء الحارة، تتبعها صغيرتها «سيدة» بشعرها الممشط وقبقابها الأخضر، تتصافح المرأتان على حين تمضي سيدة بتلقائية نحو عزت لتشهد صراعه مع شعاع الشمس الغاربة. ورغم أنها تماثله في السن - السادسة - إلا أنها تكبره تجربة ووعيا بأربعة أعوام. التفت نحوها التفاتة مقتضبة ثم رجع إلى الشعاع، ووقفت هي تراقبه باسمة وصامتة. وقالت عين لأم سيدة: لم أرك منذ ثلاثة أيام يا ولية يا خائنة.
تضحك أم سيدة من حنجرة غليظة وتقول: للرزق أحكام يا ست الكل.
ثم وهي تجلس فوق الأعشاب عند قدمي عين: ربنا يعلم أن يوما يمر من غير أن أراك لا يحسب من العمر.
القطط في حركة متوترة بين انكباب على اللباب والتحديق في عين بأعين شفافة مذعورة، وقالت عين: دائما تعثرين على الكلمة المناسبة، مشغولة بعروس جديدة؟ - الخاطبة تشوف العجب، من يصدق أن عريسا يرفض من أجل حلة نحاس؟! - ماذا تقصدين؟
أدركت أم سيدة أنها فهمت قصدها، فقالت باسمة: إنه شاب يستحق الإحسان!
تقوست بركة فارتفع ذيلها مثل نافورة، شبعت فيما يبدو، وثبت فاستقرت فوق الأريكة جنب عين؛ فهدهدتها براحتها، وبركة تستجيب مثل موجة راقصة. تساءلت أم سيدة مترددة وموجهة خطابها إلى القطة: كيف أنت يا نرجس؟
فهتفت عين: إنها بركة، أرأيت كيف نسيت أهل الدار؟!
فضحكت أم سيدة، ولمحت عزت فهتفت: كيف حالك يا سي عزت؟
فلم يهتم بها. وقالت عين معتذرة عنه: إنه مشغول بشعاع الشمس!
فضحكت أم سيدة كرة أخرى وقالت بحماس: رائحة الملوخية تملأ الحارة! - أهذا ما جاء بك يا نهمة؟
فراحت المرأة تناجي شذا الياسمين والحناء في نبرة غزل ممطوطة منغمة. •••
عقب الأذان غيرت عين ريقها على عصير خشاف فاتر ثم نهضت لتصلي المغرب، على حين جلست أم سيدة إلى المائدة بعد أن نزعت عنها الملاءة وهي تتمتم: «لا حياء في الجوع.» وراحت خادمة تشعل المصباح الغازي الكبير المدلى من السقف فوق السفرة، ثم أشعلت قنديل الفراندة المطلة على الحديقة، ومضى الإفطار في المضغ تتخلله كلمات عابرة. وانتقلتا بعد ذلك إلى الشرفة فجلست عين على الكنبة، وآثرت أم سيدة أن تقتعد شلتة لتمد ساقيها ترويحا لمعدتها المتخمة. ولفت سيجارة، تخدرت من أول نفس، نعست عيناها العسليتان، وانتفخ أنفها الغليظ الممسوح الأرنبة كرأس قطة. وسيطر الصمت قليلا تحت تأثير رغبة ملحة في الراحة، وجاءت خادمة بفانوس عزت الملون، فهفت نفس عين إلى الانطلاق وقالت: ما أحلى المشي عند الحسين!
فتمتمت أم سيدة ضاحكة: عندما ترجع إلي القدرة على المشي.
ولفت سيجارة ثانية فتمتمت عين: الشكر لله؛ فالليل جميل.
فرمقتها أم سيدة بنظرة طويلة ثم قالت: عندي ما هو أجمل. - ما عندك إلا حديث الزواج أو اغتياب عبد من عباد الله. - إنه حديث زواج! - حقا؟ ... عندك عروس لعزت؟
فقالت المرأة بابتهال: بل عندي عريس أو أكثر إن شئت.
فنظرت إليها بارتياب على ضوء القنديل الأزرق، فقالت أم سيدة: وأنت العروس المنشودة!
لوحت عين بيدها محتجة وهتفت: عليك اللعنة.
فقالت بحماس متصاعد: ما من رجل أصيل في حارتنا ...
ولكن عين قاطعتها: احتشمي يا ولية! - يا ست الستات ما زلت شابة جميلة.
فقالت بحدة: لو أردت الزواج ما لبثت حتى اليوم أرملة. - ولم تبقين أرملة؟ - هس.
زجرتها وهي تتطلع نحو السور القديم وقد علاه البدر، عظيم الثراء، عميق الحمرة، واني الضياء يبدأ رحلته. تركتها تنعم بالنظر، ولكنها أصرت على الرجوع إلى الموضوع، فقالت: ورب القمر ...
غير أنها قاطعتها بلهجة حاسمة: كفى يا أم سيدة، إنه عزت، إنه عزت وكفى.
ثم تنبهت من غفلة فتساءلت: أين الولد؟
فاستاءت أم سيدة من قطع الحديث وقالت: في الداخل طبعا. - وأين سيدة بنتك؟ - لا شك تلعب معه، لم يخرج، ها هو ذا فانوسه ينتظر.
قامت عين. هبطت درجتي الفراندة، غاصت في ظلمة الحديقة حتى اختفت تماما، ظهرت بعد قليل وهي تجر وراءها عزت بيد وسيدة بيد، وصوتها يتساءل في غضب: ألا تخافان النار؟
جرت سيدة نحو أمها، وقف عزت منكس الرأس. قالت عين مخاطبة أم سيدة: هي اللعنة، أرأيت؟
دارت أم سيدة ابتسامة، ولكنها هتفت وهي تزغد ابنتها: أعوذ بالله. - الولد بريء، ولكن بنتك ...
فتمتمت أم سيدة: الله أعلم. - فتحي عينك يا أم سيدة. - عيني مفتوحة دائما. •••
ولم تنس عند الوداع أن تقول لعين: لنا عودة إلى موضوعنا.
ولكن عين قالت بحزم: سدي هذا الباب بالضبة والمفتاح.
3
هامت في الصفاء المعهود خواطر قلقة، ليست بالخطيرة ولكنها تكدر بعض الشيء من ألف الصفاء. ما وجه الانزعاج الحقيقي وراء عبث الطفل؟ قد آن له أن يذهب إلى الكتاب. ورجال ثمة يطمحون إلى مالها. وتنظر إلى المرآة المثبتة في الإطار العاجي الموشى بالآيات، وتهز رأسها، وتتذكر وعدها لعزت يوم وفاة أبيه بألا تتيح مكان الأب لغريب. مضت خمسة أعوام فلم يهن العزم. الفصول وحدها تتغير وتمر الأعوام. وما يشغل بالها حقا هي شقيقتها أمونة. إنها تكبرها بعشرة أعوام؛ فهي شقيقة أمونة وأمها. وتتذكر أمهما، تتذكر بالأخص وفاتها، حزنها عند الفراق رائع، كذلك حزنها على أبيها، كما أشعل فراق الزوج قلبها. حزنها عميق كأفراحها، ولكن الحزن يعمر أكثر، ما إن تزور القبر حتى تخشع وتسترسل في المناجاة. إنهم مثلنا أحياء، ولكن لا يعلم الغيب إلا الله. ما يؤلمها حقا هو حدسها أن أمونة تضمر لها الحسد، وهي من ناحيتها لا تضن عليها بخير، ولكن ذلك لا يستأصل الحسد.
ما زالت أمونة تقول لها: إنك تبعثرين مالك بغير حساب.
فتقول عين متضايقة: إنه مال الله.
فتقول أمونة بامتعاض يشوه حسن وجهها: مدى علمي أنه مالك أنت يا أختي!
فتقول ساخرة: لا نملك في الواقع إلا قبضتين من تراب. - لم تحبين سيرة الموت؟ - ربما لأنه يرافقنا في كل خطوة. هل ينقصك شيء؟ - أنت الخير والبركة، ولكنني أتحسر على المال الضائع.
فتنظر إلى سجادة صغيرة معلقة بالجدار تعكس نقوشها قبة المسجد الأقصى وتهتف: اللهم فاشهد.
ثم ترنو إلى أمونة قائلة: أهو ضائع المال الذي يجبر الخاطر ويطعم الجائع ويسند العاجز ويبهج الطفل؟! - دليني على ثري أو ثرية ...
فتقاطعها: حسبك، حديثك ينغص علي الصفاء.
لكنها دائما ترجع إلى ذلك الحديث كما يرجع الحمار إلى حظيرته بلا مرشد. لذلك فهي لا تشك في أن مولد عزت كان صخرة تحطمت عليها أمواج الجشع، غير مولده الموازين والحسابات. وجاءته أم سيدة بالبخور السوداني الموصوف لتلك الأحوال وهي تقول: الأقارب عقارب!
وترضى عين عما تفعل صديقة العمر وتسألها: أتدرين ما هو سر السعادة في هذه الدنيا؟ - ربنا يسعدك دائما وأبدا. - عندما لا نأخذ من المال إلا ما يحفظ الحياة! •••
ويقول الراوي: إنه في ليلة القدر من رمضان زارتها أمونة، ساحبة بيدها صغيرتها إحسان ذات الأربعة الأعوام، وعندما جلستا في الفراندة عقب الإفطار، قالت لها عين برجاء: تجنبي ما يسبب لي الكدر.
واحتستا القهوة في سلام، ثم قالت أمونة بعذوبة: أريد أن أجرب حظي في ليلة القدر!
فدعت لها قائلة: فليهبك الله حظا سعيدا.
وراحت أمونة تنظر إلى القطط وهي تستكن في أركان الفراندة، وتمتمت ضاحكة: إنه بيت القطط. - إذا شبعت استرسلت في التسبيح. - أنت أدرى بلغتها.
ثم متسائلة في شيء من الارتباك: هل أجرب حظي؟
قالت عين ببراءة: عليك أن تنظري إلى السماء طيلة الوقت. - لكن حظي بين يديك أنت يا أختي. - حقا!
من خلال ما يشبه المجازفة: أختي ... ما رأيك في عزت وإحسان؟
تشاءمت عين لسبب خفي، ولكنها قالت: عزت ابني الصغير وإحسان بنتك الصغيرة. - ألا تفهمين قصدي؟ - من الأفضل أن تفصحي عنه. - إنه واضح كليلة القدر.
فقالت عين بجدية منذرة: هل عندك علم بما يحدث غدا؟ - لذلك يهمني جدا ما نستطيعه اليوم. - اليوم حقا؟ - نعم ... نكتب كتابهما! - يا للعجب! - نحن أحرار فيما نفعل!
كرهت عين الفكرة واستبشعتها. رأت فيها شراهة يجب أن تنبذ. اعتقدت أن أختها في حاجة ملحة إلى حمام بمطهر مركز. هتفت: لا يذكرني ذلك بخير أبدا. - إحسان بنت أختك. - أمونة ... يسعدني أن يختارها بنفسه ذات يوم. - إنها جميلة كما ترين. - لا أزوج طفلا لم يدخل الكتاب بعد. - يفعلون ذلك في الريف وهو مهد الحكماء. - لا يفعل ذلك إلا المجانين!
اندفعت بركة بغتة نحو الحديقة كأنما شمت صيدا، وساد الصمت منذرا بالشجن، وانبعث صوت أمونة متغيرا: أهي كلمتك الأخيرة لي؟
فقالت عين بجفاء: بكل تأكيد. - أنت ... أنت قاسية! - أسأل الله لك الشفاء.
فقالت بحدة: لست مريضة يا عين! - الله وحده يعلم.
فتساءلت أمونة بمرارة: ترى أينا المريض؟ - لسانك حصانك يا أمونة.
قامت بشدة وهي تقول: طول عمرك تكرهينني. - حقا؟ - وتحسدينني! - أحسدك؟! - رغم مالك الوفير تحسدينني!
فقالت وهي تنحي وجهها عنها: لا تستدعي الشيطان إلى قلبي.
فصاحت أمونة: إنه مقيم فيه!
حملت إحسان على كتفها وهي تجهش في البكاء، مضت تغادر المكان بلا سلام، تحول غضب عين إلى حزن، قالت بجزع: سأجدك في المرة القادمة في حال أفضل.
فجاءها صوتها قائلا: لن تريني ما حييت.
4
فتح كتاب الشيخ العزيزي بابه ورياح الخريف تحبو من مهدها الرطيب. عزمت عين على إرسال وحيدها إلى الشيخ. - ستجد في الكتاب التكريم ونور الله.
التكريم لأن الشيخ من رواد إحسانها الدائمين، ونور الله لأنه ينبثق أول ما ينبثق من الكتاب.
غير أن عزت تساءل في توجس: أليست الحديقة أفضل؟
فمسحت على رأسه براحتها وقالت: للرجولة أحكام.
وتذكر عزت جماعات الصبيان والبنات وهم يغادرون الكتاب في العصاري. لا تفصح وجوههم عن سعادة بما جاءوا منه، ولا رضا عن شيخه القزم المشوه. ورمقها بنظرة حائرة فقالت: يحب الكتاب الأولاد الصالحون، في الكتاب نتعلم، ولا احترام لإنسان بغير العلم، واحترام الشيخ واجب كاحترام الأم. إياك وأن تسول لك نفسك الضحك منه؛ فذلك حرام، والله لا يغفره لعبد.
إنه يتذكر الشيخ العزيزي، فصورته الغريبة ماثلة في كل ذاكرة، قزم مقوس الساقين أقعس الصدر، صغير القسمات كطفل، يتمايل في مشيته من جنب إلى جنب متوكئا على عصا قصيرة طولها ذراع أو دون ذلك، كأنه لعبة مما تعرض في الموالد، وهيهات أن ينسى أنه رآه في يوم ممطر وقد حمله فاعل خير على كتفه ليعبر به الطريق. - أوصيك بصفة خاصة باحترام الشيخ.
وكررت ذلك بصوت واضح؛ فشعر بنذير الفراق، وبالتوجس من تجربة مجهولة.
واستطردت وهي تحد من نظرة عينيها الجميلتين: واسلك مع البنات السلوك الذي يرضي الله!
فتخايلت لعينيه الخميلة تحت ستار الليل فتورد وجهه وتحرك رأسه ارتباكا، فتمتمت بلطف: عن الماضي قد قبل الله توبتك. •••
وحينما تلقى الشيخ العزيزي الخبر في حجرة الاستقبال - وهو يجلس على حافة مقعد مدلى الساقين فوق سطح الأرض بشبرين - تهلل وجهه وقال: طالما انتظرت هذا اليوم لعلي أرد جزءا من ألف جزء من جميلك.
لكن عزت حين تربع في الصف الأول - فوق الحصيرة - أمام سدة الشيخ بدا هذا شخصا آخر، لا رحب به ولا شجعه بابتسامة وكأنه لم يره ولم يسمع به. عجب أيضا للنظرة الثلجية التي تستقر في محجريه، والصرامة التي تكسو وجهه الصغير، على حين جلس الصغار والصغيرات في صمت تلفهم رهبة وتتحكم فيهم قوة مجهولة. أين اللعبة التي تتابعها الأعين في الطريق بعطف وسخرية؟ إنه الآن يتسلطن في مملكته، يمارس قوة غير محدودة، الجريدة منطرحة جنبه تهدد أيادي وأقدام المتمردين. أيقن عزت أنه أسير، بلا دفاع ولا امتياز، يسري عليه ما يسري على الآخرين، وأضمر ألا يتكرر حضوره مرة أخرى. ولمح سيدة في نهاية الصف، تلاقت عيناهما لحظة فيما يشبه ابتسامة ثم سرعان ما تجاهلته. ضايقه جو المساواة المخيم على المجلس، الجميع سواسية فوق حصيرة واحدة، تخلت عنه الامتيازات التي ينعم بها في أي مكان باعتباره ابن الست عين وربيب الدار الفاخرة. إنه وضع جديد لا يحتمل، ولعل أمه لا تدري عنه شيئا. ولمح لصق سيدة بنتا تماثلها في العمر لم يرها من قبل. شدت عينيه بقوة، لها وجه ثري مستدير وعينان سوداوان منعشتان؛ تركت في نفسه أثرا قويا وبهيجا لطف ألمه وأنساه حزنه. ترى في أي موقع من الحارة تعيش؟ هذه العصفورة التي أقصيت قسرا عن غصنها. إنها البنت التي خطفتها الغولة فغامر ابن السلطان بإنقاذها. ما أعذب صوتها وهي تردد وراء صوت الشيخ الرفيع
الحمد لله رب العالمين . على أي حال، فالكتاب ليس شرا كله، ولن يمسه الشيخ العزيزي بسوء. •••
وعندما جاء وقت الغداء جلس كالآخرين موجها وجهه للجدار. حل عقدة المنديل وبسطه وراح يقطع الرغيف، عند ذاك جاءه صوت عن يمينه مباشرة: ماذا عندك؟
رأى صبيا في مثل سنه، في عينيه ضيق ولكنهما مقبولتان، في فكيه قوة، وفي أنفه فطس، بدا بسيطا ومرحا. ساءه تطفله، ولكنه لم يجد بدا من إجابته: جبن أبيض وحلاوة طحينية. - عال، معي طعمية وسلطة طحينة. فلنأكل معا.
ولم ينتظر موافقته، فبسط منديله حتى تماست الحافتان، أشار إلى الطعمية بإغراء ويده تمتد إلى الجبن، ثم قدم نفسه قائلا: حمدون عجرمة.
فاضطر الآخر أن يقول: عزت عبد الباقي. - أنا عارف ... ابن الست عين!
استاء من أن يتردد اسم أمه مختلطا بالجبن والطعمية وسلطة الطحينة، لكنه لم يستثقل حمدون، وأعجبته نظافة جلبابه وطاقيته. وقال له حمدون: أنت غير جائع. - أشبع بسرعة.
فلم يرتح حمدون للإجابة، ولكنه التهم الطعام بصراحة. •••
وغادرا الكتاب معا. لم يفارقه حمدون، وسرعان ما أنس إليه. وقال له حمدون! - نلعب معا ونحفظ معا ونأكل معا ... هه؟
فحنى رأسه بالإيجاب، فقال الآخر: وقد يطلع لنا عفريت من القبو؛ فمن الأفضل أن نكون معا. - لا أقترب من القبو ليلا وأمي تحفظ القرآن. وإذا به يهتف فجأة «بدرية»، فتابع عينيه حتى وقعتا على «العصفورة». نظرت البنت نحوهما باسمة ثم اندفعت تجري، فسأله: تعرفها؟ - جارتنا ... بدرية المناويشي.
فأحب صداقته أكثر. •••
وتلقته عين بنظرة متفحصة ومشفقة، تمتمت: مباركة عليك رحلة الرجولة.
فقال بفتور: يا له من مكان ثقيل. - عليك أن تحبه، هو الذي يجعل منك رجلا محترما .
فقال بتأفف: جلست على الحصيرة كالآخرين. - كلنا أبناء آدم وحواء، والمجتهد هو الأفضل؛ لذلك وضعت في منديلك طعاما كأطعمة الآخرين، وطعامك الآن ينتظرك، لا تنفر من أحد.
فقال مجاراة لها: عرفت كثيرين. - حقا ... اذكر لي بعضهم. - حمدون عجرمة. - آه ... ولد يتيم يعيش مع خالته، وهي ست مستورة وطيبة. من أيضا؟
فصمت في حيرة ثم قال: هو فقط! - كثيرون، ولكنهم تمخضوا عن واحد فقط! وكم عدد البنات؟ - أربع. - جديدات عليك؟ - إلا واحدة. - سيدة؟ - نعم ... وعرفت اسم أخرى عند مناداتها؛ بدرية المناويشي. - آه ... بنت أم رمضان، لعلها آخر العنقود من آخر زوج، لقد تزوجت أمها خمس مرات أو أكثر.
فتساءل باهتمام: لها خمسة أزواج في وقت واحد؟
فضحكت عين وقالت: سوف تتعلم أن المرأة لا يكون لها إلا زوج واحد، ولكنها قد تتزوج من آخر إذا طلقت.
فسألها باهتمام متزايد: هل تتزوجين أنت أيضا من آخر؟ - كلا. - لماذا؟ - لأني لا أريد ... والآن هلم كل لقمة تسند قلبك.
وقبيل المساء جاءت خادمة تعلن قدوم صبي يدعى حمدون عجرمة.
5
لم تكن حياته في الكتاب يسيرة، فتلقى كثيرا من الزجر ولكنه لم يجلد قط. عرف الشيخ العزيزي أنه لا يستطيع أن يتجاوز معه حدودا معينة. وتقدم عزت فوق جسر من العثرات، وربما أعانه وحمسه أحيانا نشاط حمدون الموفور، أصبحت صداقتهما حقيقة، وقد عرف مع الأيام جميع الصبيان، ولكن بقي حمدون الصديق الأوحد. ورحبت عين بحمدون، أعجبها منظره النظيف ورغبته المبكرة في الحفظ، ورجت أن يجد فيه عزت مشجعا على العمل. قالت: إن الولد ذكي ومحب للمذاكرة دون أن يدفعه أحد إلى ذلك. وتمنت له مستقبلا حسنا يعوضه عن يتمه، وأكثر من مرة قالت له: ربنا يفتح عليك، إذا واظبت على اجتهادك فلن تترك التعليم لتتعلم حرفة يدوية.
وجعلت تدعوه للغداء يوم الجمعة. وبسبب ذلك دعت خالته ست رمانة لزيارتها؛ فتوطدت بينهما علاقة طيبة. وكان زوجها تاجر أجهزة سرادقات يؤجرها في الأفراح والمآتم، ربحه لا بأس به، ولكن كان له من الأبناء عشرة، رغم ذلك عطفت ست رمانة على حمدون، وعاملته كأي ابن من أبنائها. وكان قد ورث عن أبيه قطعة أرض صغيرة تنفع عند الضرورة للبيع والانتفاع بثمنها. واعترفت ست رمانة أكثر من مرة قائلة: إني أحبه لاجتهاده ... يندر أن تجدي مجتهدا في سنه.
هكذا بشرت الصداقة بخير للطرفين ووهبتهما سعادة بريئة سابغة، وكصداقة الصبية لم تخل من نزاعات فارغة، مثل هزيمة تلحق بأحدهما في الحجلة أو السيجة، ولم يكن ابن الست عين ممن يقبلون الهزيمة بروح طيبة، ولكن لم تتعد الخلافات قطيعة ساعة، وسرعان ما يجيء التنازل من ناحية حمدون!
واللعب في الحارة كان تسلية لا مفر منها، ثم بات هدفا سعيدا عندما انضمت إليهما سيدة وبدرية، ولم يستهجن أحد ذلك طالما دار اللعب تحت الأعين وفي ضوء النهار، واستأثرت بدرية بإقبال الصبيين حتى شعرت سيدة بأنها تكملة عدد ليس إلا، لم ينفعها مرحها، وتوارى حظها مع دكنة بشرتها وأنفها المتكور الذي يعيد سيرة أنف الأم. انبهر عزت بوجه بدرية رغم حداثة سنه، وسبق قلبه سنه في الانفعال بعاطفة مبهمة تستقطر الأشواق من أرض خرافية لا وجود لها إلا في الخيال. ولكي يستأثر باهتمامها حكى لها عن داره، أثاثها ورياشها، عن الحديقة والفواكه والأزهار. وقالت سيدة: أنا أعرف ذلك كله.
فقال عزت: ولكنها لا تعرف.
وقالت بدرية: نحن نلعب في الحارة فقط.
وقال حمدون: وسيدة تدخل الدار مع أمها.
فقال عزت لبدرية: فلتزرنا أمك وأنت معها.
فقالت بدرية: أبي لا يسمح لأمي بالخروج.
وكانت سيدة تتودد إليه ما وسعها ذلك، ولكنه لم يكترث لها، وربما وردت على ذهنه ذكرى الخميلة، ولكنها ترد مقرونة بالألم والخوف والخجل، أما بدرية فإنه يتطلع إليها بخيال عجيب سعيد مرح، يعد بأفراح الدنيا والآخرة.
وقضى عامين في الكتاب، حظي فيهما بسعادة لا تتحقق إلا في دنيا من نسج الخيال والبراءة. •••
وعندما هبت رياح الخريف من مهدها الرطيب كعادتها في الأعوام السابقة، أذنت هذه المرة بفراق جديد، حاد وأليم، أنذر بإخراج الولد الثمل من جنته. اعترضه قرار جديد بالتوجه إلى المدرسة الابتدائية لأداء امتحان القبول، ولم يغره هذه المرة أن يجد حمدون في رفقته. أما بدرية وسيدة فقد غادرتا الكتاب، ومنعتا من اللعب في الحارة. فتر حماس عزت وخمدت روحه، نجح حمدون في امتحان القبول وسقط هو في الحساب، غير أن زيارة مباركة من أمه للمدرسة غيرت النتيجة وألحقته بالمدرسة بلا ترحاب من ناحيته ولا سرور. ولم تنقطع سيدة عن مجاله؛ فهي تزور الدار عادة بصحبة أمها، واعتاد منظرها أكثر وأكثر، فباتت دكنتها مألوفة، وتكويرة أنفها عادية، ومرحها محبوبا، وحديثها لا يخلو من تسلية، أما بدرية فلم يكن يراها إلا في النادر جدا من الأوقات، غالبا بصحبة أبيها، يسرق منها نظرة خاطفة، وتمضي هي جادة أكثر مما يحتمل عمرها، وكأنها لم تقاسمه عامين أفراح الحياة. وكان لديه من فرص العمل واللعب ما يشغله عنها، ولكنه لم يستطع أن يتحرر من ذكراها، ولا أن يمحو من ذاكرته تعلقه الفريد بوجهها الثري. •••
وبدا متعثرا في دراسته، تمضي الأيام ولا يحظى باستحسان واحد، لا يأنس إلى المدرسة، ويحن دائما إلى الحرية والحديقة. وذات يوم سمع تلميذا يقول وهو يومئ إليه: ما حاجته إلى التعليم وهو أغنى شخص في الحارة؟!
فعجب من إصرار أمه على تعذيبه، ولم يؤثر فيه تفوق حمدون إلا قليلا، وكان حمدون يشجعه على العمل، ولولا مواظبته على المذاكرة معه ما أصاب أي قدر من التقدم. وكان يقول له: عقلك ممتاز، ولكنك كسول.
فتساءل عزت باستهانة: أمن المهم أن أكون مجتهدا؟
فقالت عين وهي تتابع الحديث باهتمام: طبعا، ما أجمل الناجحين، العلم من الإيمان، وأنت من المؤمنين الصادقين.
أجل، كن محبا للعبادات ومغرما بالحكايات، ولكنه حزن قبل الأوان.
واستطردت أمه باسمة: عليك أن تزيد من المذاكرة وأن تزيد الطعام.
فقال حمدون مؤكدا: إنه نحيف جدا، في المدرسة يقولون إن والدته تنفق مالها على الفقراء، وإن الابن لا يجد ما يأكله!
فضحكت عين وقالت بلهجة متوعدة: العلم والطعام.
فقال حمدون: يشغل نفسه بالجنة والنار!
فقال عزت لنفسه: بالجنة والنار وبدرية. وهناك أمه التي تكون نسيج حياته وأحلامه وأفراحه ومخاوفه! إنها الصلة بينه وبين الله، والصلة بينه وبين الحياة، هي كل شيء، وهكذا ينظرون إليها في الحارة. وقد ألف منذ يقظته الأولى ذهابها وإيابها، مسيرتها المكللة بالجلال والحب تحت مظلتها، اجتماعها بالفقيرات في الحديقة، وتعلم أن يعتد ذلك عبادة من العبادات الرائعة. وعلى ضوء ما ترامى لأذنيه من تعليقات على نشاطها الكريم الموفور، سواء في المدرسة أو في غيرها، مضى ينظر إليها بعين جديدة، ويقارن، وهو لا يدري، بينها وبين الأخريات. لم تكن الثرية الوحيدة التي تفعل ذلك، حتى صدق حمدون وهو يقول له مرة: إنها أم الحارة وليست أمك وحدك.
ولكن من العجيب أن هذه القوة النادرة لا تنفعه في أشيائه الحميمة؛ فلا عون ينتظر منها على دروسه المعقدة، ولا فرح يأتي على يديها ليعيده إلى جنة بدرية المفقودة. إنها تداوي القلوب الجريحة وتتركه يعاني وحده، تتركه والأعوام تمر والكآبة لا تنقشع. •••
وذات يوم جاءه حمدون متألق البصر خفيف الحركة، ولسبب مجهول انقبض قلبه وتذكر بقوة وحزن بدرية المناويشي. جلسا في الفراندة والسماء تمج رذاذا يغسل الأوراق ويطارد العصافير، وراح حمدون يقول بحماس عجيب: دنيا ... دنيا لا مثيل لها.
فحدق إليه متسائلا، فقال الآخر: أمس اصطحبني زوج خالتي مع بعض أبنائه إلى الكلوب المصري. - المقهى! - بل المسرح، شاهدت مسرحية من البداية إلى النهاية.
ووصف له تفاصيل الرحلة بكل دقة؛ الدخول، الجلوس، الصالة، الستار، المسرح، الممثلين والممثلات، الحكاية، الغناء، كل شيء. - هناك تضحك وتطرب وتبكي أحيانا.
لم يستطع عزت أن يتخيل شيئا ذا بال، صورة الجنة أوضح في مخيلته، وكذلك صورة النار. وقال حمدون: سوف تراها يوما ما ... لكننا نستطيع أن نحاكيها ها هنا، في هذه الفراندة! - كيف؟! - سأحفظك ما يقال.
ودون تردد راح يقتبس المسرحية ويخلق الديكور بالوهم، ثم قال: أنت الآن فتاة تدعى جولييت، وأنا فتى اسمه روميو!
فقطب عزت متسائلا: ولم لا يكون العكس؟
فقال مطاوعا ومتجنبا إثارة غضبه أو عناده: ليكن.
ودار الحوار القصير كما تخيله حمدون، وكان يمثل ما وسعه ذلك، ولكنه لم يفلح في حمل عزت على التمثيل، تخيل عزت بدرية في دور جولييت. هذه هي الحكاية. ولكن أين صاحبة الدور الحقيقي؟!
وتابعت عين المنظر من شباك حجرتها فلم تفهم شيئا، وقالت لنفسها: إن الأطفال يجيئون إلى الدنيا بالأعاجيب، وتلت آية الكرسي وقلبها ينضح بالعطف على اليتيم. •••
وتغير حمدون تغيرا ملموسا ... فتنته بالمسرح لا تخمد أبدا ... ملأ بعض وقت فراغه بهواية جديدة هي القراءة ... بشيء من الصعوبة كان يقرأ ما تصل إليه يداه من إعلانات، مجلات، قصص بوليسية، واهتدى أخيرا إلى ألف ليلة وليلة. ومنه تعلق عزت بالقصص البوليسية، فلم يقرأ بدافع الحب وحده إلا القرآن والقصص البوليسية. وقال حمدون: ستكون العطلة الصيفية رائعة، سنمثل كل حكاية نقرؤها.
فقال عزت: لننقل المسرح إلى الحارة. - فكرة ... هل تضايقت أمك من اللعبة؟ - أبدا ... ولكن لعلنا نضم إلينا ممثلات!
فضحك حمدون وراح يمسح على حاجبيه البارزين ويقول: فكرة مستحيلة. - أليست بدرية جارتك! - ولكن بيني وبينها جدارا أقوى من جدار القبو العتيق.
ولكنه يراها، ربما كل يوم، ويستحق لذلك الحسد. •••
في ختام العام الرابع نجح كلاهما في الابتدائية. كان النجاح بالقياس إلى عزت معجزة. قدمت لهما الحلوى في الحديقة. في الثانية عشرة من العمر أعلن حمدون عن رغبته في أن يصير ممثلا ومؤلفا. ابتسم عزت ولم يصدق. وقالت عين: اختر عملا لا لعبة.
كان حماسه أقوى مما يتصوران. وسألت عين وحيدها: وأنت؟
مط بوزه في غير مبالاة. إنه يحب شيئين متنافرين؛ العبادة والسيادة. يعتز بأمه وبداره، ويهوى فؤاده الوجاهة. لم يكن متكبرا، ولكنه يضمر أن يكون خليفة أمه، ربما في الدار والحارة، أو في الدار وحدها! وتمتمت عين: أود أن أراك عظيما.
ولم يدر ما العظمة على وجه الدقة، ولكن فؤاده هفا إليها.
6
عهد المدرسة الثانوية كان عهدا جديدا. فتحت نوافذ لتيار من المعلومات الجديدة، ثم تدفق منها هواء دافئ يفتح الأكمام وينضج الحنايا، ونبت شخص جديد في حنايا عزت ... وحمدون أيضا ... فانقسمت أرنبة أنفه، وغلظ صوته، وتقلقل بالأشواق المبهمة. وترحمت عين على عم عبد الباقي، وقالت: إنه يحاكيه رغم أنه لم يعرفه. وقالت إنه من الآن فصاعدا ستهب النسائم محملة بالعبير والمخاوف. في ذلك العهد صار حمدون قارئا لا ريب فيه، متنوع القراءات، منقبا عن أي كلمة ذات علاقة بالمسرح، وانغمس عزت - في أوقات فراغه - في قراءة القرآن والقصص البوليسية.
وكاد يعتاد السلوان عن بدرية لولا لقاء عابر غزاه بقوة من جديد. كان يمضي لدى الغروب في العطفة نحو بيت حمدون، وكانت بدرية تعبر العطفة نحو بيت مقابل. تشجعت بقرب المسافة وغياب الأب، فخرجت في الفستان سافرة شبه أنثى ناضجة، بوجه أكثر ثراء ونقاء، وقامة ممشوقة، وضفيرتين مرسلتين حتى نهاية الظهر. كادا يتلاقيان في نقطة واحدة تحت مظلة الغروب، تبادلا نظرة باسمة بالذكريات المشتركة عامرة بالمودة، وسرعان ما همس: أهلا.
فهمست في حياء: أهلا.
وأسرعت في مشيتها متعثرة بالخطا فواحة بالشباب المبكر. وتوقف تحت بيت ست رمانة والمغيب يقتحمه بعمق فيتحول رويدا إلى شبح ... أراد الوقوف ليثوب إلى رشده ويستر توازنه وتنعقد أواصره بما حوله من جديد ... أدرك بوجدان جديد أنه قضي عليه بأن يحب بدرية إلى الأبد. وتبدى له الحب كالحياة نفسها في جاذبيته واستبداده، وتخلى عنه إحساسه العميق بالسيادة فشعر بأنه وحيد. ولم يكن يحب المكث طويلا في بيت حمدون لاكتظاظه بأهله؛ فسرعان ما غادراه معا. مضيا نحو الكلوب المصري، وفي الطريق قال عزت ليروح عن نفسه: رأيت بدرية وأنا ذاهب إليك.
فتمتم حمدون: كثيرا ما أراها.
فاستسلم لدفعة داخلية قائلا: إني أحبها.
فقال حمدون ضاحكا: مثلك تماما!
فتساءل عزت بانزعاج: تحبها أيضا؟ - أكنت تتوقع أن أكرهها؟ - كلا طبعا ... ولكني أعني بالحب شيئا آخر.
فقال الآخر بهدوء: ليس بهذا المعنى. - اصدقني القول! - متى عرفتني كاذبا؟
ارتاح نوعا ما، ولكن قلبه لم يعرف اليقين، وهو لم يرغب في شيء ويمتنع عليه باستثناء عالم البنات. لكن اليوم غير الأمس. إنه يحلق ذقنه صباحا بعد صباح؛ ربما ليعجل طلوع شعره، بيد أنه لا يدري كيف يبلغ رسالة حبه في حارته ذات القضبان العتيقة. إذا رفع رأسه ارتفعت معه مائة رأس متسائلة مستريبة، وما زال يرفل في غشاء الحياء والتقوى الذي نسجته يد أمه بأصابعها الطويلة الناصعة. والسهو عذر ولكنه لا يخلو من الحساب العسير، وأين المفر من عين الله الساهرة؟!
وقد صار من المترددين على المسرح بإغراء حمدون المتواصل. وبات حمدون يحلم بالتأليف ويحاوله سرا فلا يطلع عليه أحدا إلا عزت. وكم ود لو يغير مجرى حياته، ولكنه استمر في التعليم بهدف الاستقرار في وظيفة. عزت يواصل التعليم بدافع الكبرياء وإرضاء لأمه. •••
ولم تغفل الأم عما يغلي في داخله ... أشفقت من أن يزل، من أن يعصي الله جل جلاله، ورفضت أن تهرب من تحمل مسئوليتها أو أن تتركه وحده في مواجهة الشيطان، وتتشجع بالظلمة في الحديقة وهي تجالسه في أمسية من أماسي الربيع فتقول له: آن لي أن أعاملك كرجل.
فضحك ضحكة مقتضبة. أما هي ففكرت بشقيقتها أمونة ... أرادت أن تصالحها كثيرا ... أرسلت إليها أم سيدة ... زارتها بنفسها. أرجعتها إلى زياراتها السابقة، ولكن أمونة ظلت متحفظة ... عزمت عين على أن تصالحها بطريقة عملية ... قالت: عزت ... من أصول التقوى أن نصون أنفسنا بالزواج.
أضاءت لفظة الزواج الخميلة فتبدت بدرية منورة، وتمتم عزت بدهشة: الزواج! - نعم ... إنك رجل! - لم أحصل بعد على البكالوريا. - إنهم يتزوجون بلا شهادة.
فتساءل عزت ضاحكا: هل تستعينين بأم سيدة؟ - بل عندنا العروس، إحسان بنت خالتك.
إحسان جميلة، تميل إلى الامتلاء أكثر مما ينبغي؛ مما ينذر بأنها ستكون في حكم خالته أمونة، وهو لم يشعر نحوها بأي ميل حقيقي. قال بوضوح: لا.
فتساءلت باستياء: لماذا يا حضرة؟ ... البنت كاملة. - ربما، ولكن لا حيلة لنا في ذلك.
فسألته بأسف: ألا تعينني على استرضاء أختي؟ - ليس عن هذا السبيل. - هل تكره فكرة الزواج الآن؟
فقال بصراحة: الحق أني لا أكرهها.
فتساءلت باهتمام: هل عينك على عروس أخرى؟ - نعم.
فقالت بقلق: تحدث أمور من وراء ظهري، لم لم تصارحني من أول يوم؟ من؟ - بدرية المناويشي.
أخذت لحظات فانداح الصمت، ثم قالت بنبرة آسفة: لا. - لا؟! ... ألا تعجبك؟ - أمها مزواجة. - إني أتحدث عن البنت لا عن أمها. - البنت لأمها! - حكم غير معقول. - لا خلاف عليه. - لا أصدق ذلك! - أمك لا تخطئ أبدا.
فقال بشيء من الحدة: دعيني أجرب حظي.
فقالت بتوسل: لا تستهن برأي أمك.
فقال بضيق: لا أستطيع أن أستهين كذلك برغبتي. - إني شديدة الرغبة في تزويجك، ولكني حريصة على سعادتك.
فقال بقوة: لن أتزوج إلا بمحض رغبتي الخاصة.
فتأوهت قائلة: هذا صوت جديد يا عزت، أنت طبعا حر، ولكني غير راضية.
انقبض قلبه، لم يهن عليه إغضابها، وهل يستطيع أن يخطو خطوة بغير رضاها؟ قال: لولاك ما فكرت في الزواج الآن قط.
لم تنبس. ثقل عليه صمتها. أخذ يتعذب من الداخل. قال بحسم: لننس ما دار بيننا من حديث.
لبث وحده في الحديقة بعد ذهابها، شعر بأنها ما زالت قائمة في مكانها. أحس غضبا قاسيا يجتاحه نحوها. كان أشبه بالكراهية. غير أنها كراهية عابرة. سرعان ما أخلت موقعها لأسر الحب وذله. لكنه استطاع أن يراها بعين ناقدة كأنما استعارها من زفرات الصراصير. إنها تتحول إذا شاءت إلى صخرة صلدة، وينضب معين الرحمة من قلبها. هذه المرأة العجيبة التي تؤاخي الفقراء وتصادق القطط وتناصب ابنها العداء. وكم خوفته من الشياطين، وها هو أسمج شيطان يتجسد في عنادها! •••
وقال عين وهي تتنهد في حزن بالغ: إن الولد عنيد، عنيد مثل أبيه ومثل أمه أيضا. وصممت ألا تبيعه وهو جوهرة حياتها. هو أيضا أحمق مثل أبيه. ولولا أن عم عبد الباقي أذعن في النهاية إلى مشيئتها لضاع مثل ذرة غبار. أجل إنه يحب البنت، والبنت جميلة حقا، ولكن ما قيمة الحب المترع بالضلال؟ والحب يحرره الزواج، وعند ذلك لا يجد بين يديه إلا امرأة تحلم برجل آخر. هكذا عاشت أمها متنقلة من رجل إلى آخر. إني مسئولة عنه اليوم، غدا يستقل عني ويرتكب حماقاته.
واستدعت أم سيدة وسألتها بجفاء: ماذا تعرفين عن عزت وبدرية؟
فذهلت المرأة وتساءلت بدورها: ماذا عن عزت وبدرية؟!
فهتفت بتحذير : إياك والمكر. - معاذ الله. - ماذا تعرفين إذن؟ - أستغفر الله العظيم. - لا يتحرك قلب في حارتنا إلا وأنت معه في نبضه!
فقالت بحرارة: لا تهمني الإشاعات. - تهمني أنا.
فنفخت أم سيدة وقالت بصوت منخفض: يتحدثون عن حب، إنهم كما تعلمين يصنعون من الحبة قبة. - يتحدثون عن حبه لها؟ - أجل. - وماذا يقولون عنها؟ - لا شيء، أنت تعرفين أباها. - وكيف يثبتون صدق رأيهم؟ - كلام فارغ، لا يقوم على أساس، نظرة عابرة مثلا.
فقالت بأسى: قد يقود ذلك إلى فضائح، اصدقيني يا أم سيدة، هل تقابلا ولو مرة واحدة؟ - أستغفر الله ... البنت تعيش في ظل أب صارم. - هل عرفت أمها؟ - طبعا. - ما رأيك فيها؟ - ليس بالرأي الحسن. - هل علمت بما يشاع عن ابني؟ - لا أستبعد ذلك. - والأب؟ - مستحيل. - هل حدثتك أم بدرية بهذا الشأن؟ - كلا، ولكنها طلبت مني البحث عن عريس مناسب، وألمحت إلى سي عزت وعلاقتي الوثيقة بوالدته. ولما كنت على علم برأيك فيها فقد اعتذرت بحجة أن سي عزت ما زال دون سن الزواج.
واقترحت حمادة الأفندي. - وماذا كان رأيها؟ - لم يملأ عينيها.
فقالت عين ساخرة: طبعا، ما دامت تحلم بالعلالي.
ورمتها بنظرة قاسية أخجلت عينيها وقالت: وأخفيت عني ذلك كله.
فقالت بحرارة: لم أشأ أن أغضبك بكلام يجيء من ناحية أم بدرية.
فمالت نحوها متجهمة وقالت: ولكنك لن تخفي عني كبيرة أو صغيرة تخص هذا الموضوع؟
فقالت وهي تتنفس بارتياح لأول مرة: أعاهدك على ذلك والله شهيد.
ولما غادرتها أم سيدة أفرغت قلقها في بركة، فراحت تهدهدها وتهمس لها: إني أتعذب يا بركة فادعي لي بالسلام.
7
مضى الحب ينمو ويتضخم مثل شجرة بلح، وكان يسلي همه بالمسرح، ولكنه يغرق وقت فراغه في القصص البوليسية، وكلما طالعه حمدون بوجهه القوي المشرق توجس خيفة غامضة، وغبطه على تقدمه وعبادته لهدفه. وردد عزت حكاية حبه كثيرا، فكان حمدون يشاركه همه بحرارة الصديق المحب. قال له مرة: يخيل إلي أن والدتك تسيء الظن بالحب.
فقال عزت: إنها تسيء الظن بأم البنت، وهذا ظلم. - الحب أيضا متهم في حارتنا. - قصص الجريمة أجمل من الواقع! - أجل، أجمل من واقع بلادنا.
وراح يتحدث عن الاستعباد. وكان يهتم بذلك، ويتزايد اهتمامه بتقدمه في العمر. ولم يخل حديثه من عبارات دموية. ولم تحرك هذه الشئون قلب عزت بجدية مثل صاحبه، ولكنه قال: بوسعنا أن نقاوم الاستعباد، ولكن كيف نتصرف مع أم مثل أمي؟
فقال حمدون: ومع ذلك فلا ينكر أحد جمال ابنة خالتك!
فحنق عليه وثارت مخاوفه الغامضة من جديد. •••
وحصلا على البكالوريا في عام واحد. وهنأته عين ووجهها يطفح بالبشر، ولكنه قال لها: لا ... انتهى الحب بيننا!
فلم تأخذ قوله مأخذ الجد وقالت مازحة: أتدري ما عدد البنات اللاتي يحلمن بالزواج منك؟ - ولكني أريد واحدة فقط. - ما تريدها إلا لأنني لا أريدها. - بل كأنك ما ترفضينها إلا لأنني أريدها. - أتحب أن أروي لك نوادر أمها؟ - أمها لا تهمني البتة. - إنها كامنة في أعماقها. - هبي أنه زواج خائب، فهل أعجز عن الطلاق؟ - والخيبة؟! ... أتظنها تمر بلا عواقب؟ •••
في أثناء الصيف اختار عزت أن يلتحق بمدرسة الحقوق. أما حمدون فعزم على أن يتوظف ليخفف عن خالته من ناحية، ويهب بقية يومه للمسرح. وفي ذلك الوقت عرف أن عبد الحميد الكومي خطب بدرية، وأن الفاتحة قد قرئت. اقتلع الخبر قلبا - وربما أكثر - من جذوره، وتبدت الحديقة لعيني عزت صفراء تنفث ريحا سامة. أكان يعتمد على سحر الحب الكامن وحده؟ هل تصور أنه - سحر الحب - قادر على حفظ حبيبته لحين قدرته على الخروج من سلبيته؟ وهتف بأمه ثقة منه في قوتها غير المحدودة: اصنعي شيئا.
فتساءلت بجزع: أتريد أن تخطف بنتا من رجلها؟ - أنت التي مكنته من خطفها!
فتمتمت بحنان: الخيرة فيما اختار الله.
ورماها بنظرة حزنت لها ومضى. ووجد حمدون جياشا بالانفعال. وقال عزت: إني أحترق، وكان ينبغي أن أحرق.
فتساءل حمدون: هل انتهى الأمر؟
واصطحبه إلى والد بدرية، ورجاه أن يبقيها على ذمته حتى يستقل بنفسه، فقال الأب: لقد قرأنا الفاتحة، وكان بوسع والدتك أن تتكلم لو توفرت لها الرغبة.
فقال حمدون: هو الذي يرغب.
فقال الرجل: إني رجل مستقيم، لا أتعامل بالحيل! •••
عرف عزت الوحدة وهو منغمس في خضم الناس. حزن حزن القوي عندما يغلب على أمره ... أدرك أن جاهه زائف، وأنه يستمد نوره من أمه. إنه في الواقع حقير فقير عاجز. أعماه الغضب حتى فقد الرشد. تفجرت منه قوة حطمت رأس أمه، إنها قوة شريرة تتهادى في رداء ملاك، قتلها سبع مرات كل مرة بأداة خاصة. وماتت حتف أنفها مرات أخر. لو كان في قوة حمدون لغامر مغامرة فريدة مرحبا بالصعلكة، ولكنه أسير الحديقة والوسائد الناعمة وتلك القوة الغامضة المجهولة. ولشدة ارتباطه بالحياة فقد الحياة الباهرة. إنه وفي للأسر ليشدو أغاني العذاب، وستجلو بدرية عن مجال أمله بعد أن أرست فيه طابعا لا يبيد. وكتب عليه أن ينتظر أملا لا يعود، وأن يبحث عن كائن ليس له وجود. واللعنة على الكبرياء التي يلقنها غر في مهد عبودية. •••
وفي حومة النضال العقيم تلقى من حمدون رسالة، ألم يجتمع به أمس وكل يوم؟!
عزيزي عزت ...
عليك أن تفهمني باسم صداقة العمر. إنها صداقة حقيقية متينة ونقية. إياك أن تسيء بي الظن. لقد وطنت النفس على التضحية تحت شرط أن تفعل أنت شيئا. لكنك أعلنت عجزك وسلمت بالواقع. عند ذاك قررت أنه من حقي أن أعمل. إني مثلك في الحب، ولكني لا أتركها تذهب مع الكومي. سنهرب معا لنتزوج بعيدا عن الأهل والحارة. معي مال قليل من ثمن الأرض سأعتمد عليه حتى ألحق بالوظيفة. لن أتخلى عنها كما لن أتخلى عن المسرح، وستبقى صداقتك معي وذكرياتها الجميلة. لا تسئ بي الظن وتقبل تحياتي.
حمدون عجرمة
قرأها مرات قبل أن يسيطر على معانيها. وقتل حمدون مرات - أكثر من أمه - قبل أن يفهم موقفه. شد ما أخفى عنه حبه. حقا إنه لممثل ماكر، لم يغفر له رغم أنه لم يتهمه. ربما كان يسخر منه، ربما كان من الأفضل أن يأخذها الكومي. اعتاد أن تنفذ رغباته قبل أن يجهر بها، فماذا جرى من وراء ظهره ؟ غصت الدنيا بالمجرمين أمثال عين وحمدون وبدرية. أصبح القتل لا يجدي. أفظع من ذلك أن تغرورق العينان بالدموع، أن تغمق صفرة الحديقة وتموت العصافير، أن يمسي بلا حبيبة وبلا صديق وبلا أم.
وانتشرت حكاية الهرب في الحارة كالغبار في يوم عاصف. لفحته العاصفة باعتباره بطلها المهزوم. احترق والد بدرية وأمها وست رمانة خالة حمدون. اشتعلت خصومات. سجلت الشائعات للحادث حكاية فاضحة متكاملة. طلقت أم بدرية في أثر شجار عنيف. •••
وكان يجلس في الخميلة في أصيل قائظ عندما رأى ظل أمه يفرش الأرض أمامه بين الشوح والجدول. اقتربت وهي تقول: لم نتبادل كلمة منذ أيام، إنه الجحيم.
رأى وجها متهدلا وخامدا، وقد حلت نظرة خابية في مكان الألق البهيج. لم يعطف عليها وحول عينيه عنها. همست وهي تجلس: يجب أن تعرفني أكثر.
فانتقم منها بالتمادي في الصمت، فقالت: آن لي أن أعترف لك بأشياء.
في الصمت ارتفع نقيق الضفادع وزقزقة العصافير. واصلت الحديث: اهتممت بمعرفة كل شيء، فكرت في الإذعان لمشيئتك، فجاءتني معلومات غير متوقعة.
أنصت باهتمام ولكنه لم ينبس. - كان ثمة حب متبادل بينها وبين حمدون، ذاك أمر الله ولا لوم على أحد.
فهتف وهو لا يدري: كان يخدعني! - أبدا، إنه فتى أمين، لم يكن في موقف سعيد، لا أدري ماذا كان يدور في ذهنه، ولكنه على أي حال لم يخطئ في حقك.
وتنهدت بعمق واستطردت: اضطررت إلى الإصرار على الرفض، ولم أر خيرا في كشف الحقيقة.
قربت وجهها المحزون منه حتى لثمت جبينه وقالت: لا تستسلم للحزن، الحياة أقوى من كل شيء، سيجيئك السلوان بأسرع مما تقدر، وستجد من هي خير منها.
عند ذاك جاءت أم سيدة تتقدمها نحنحة فظة. غادر المكان والمغيب يستفحل، وفي الممر التقى بسيدة قادمة لتلحق بأمها. تصافحا. وفجأة اشتعل بلا تمهيد ولا مقدمات، وبلا سبب في الظاهر. أخذ بما اجتاحه. لم يترك يدها. مضى إلى الداخل جاذبا يدها معه. أذعنت بلا مقاومة تذكر متشجعة بالظلمة. لم ينبس بكلمة، ضمها إليه، شملها ذهول أخرس. أطاع قدرا جامحا وغامضا وبلا أدنى تفكير في العواقب، وكأنه يعبث في الظلام وحده بلا شريك. وتفشى في الوحدة المطلقة إذعان ذليل ورغبة دفينة وذكرى آسرة. وحفرت في لوحة الليل السوداء نقوش لا تمحى.
8
لم يعد الحب هو المحتل الوحيد للمكان، زاحمه قدر جديد هو الخوف. وتناسى الحب أحيانا ليرامق الشبح الجديد، وهو شبح ثابت لا يتزحزح ولا يهن بمرور الزمن. ومن الأخطاء خطأ لا يني يطارد ويطالب بحل. وسيدة في ذاتها لا شيء، ولكنها بسبب الخطأ صارت كل شيء. إنها الآن تستكن في ركن من الوجود، ضئيلة لا ترى، غائصة في ضعفها، ولكن صوتها يدوي مثل صرار الليل. لقد مات أبوها من دهر، أخوها الأكبر في السجن، والأصغر مهاجر، أمها ربيبة نعمة أمه، ولكن الخطأ قوض بناء وأقام محله بناء جديدا. ما العمل؟ ما اعتادت أعماقه أن تقترح حلولا، ولكنها دأبت على القتل. ونظرة سيدة التي ترمقه بها عند اللقاء العابر راسخة في خياله، مفعمة بالدلالات المشتركة، ذليلة وجلة يائسة، تؤكد له أن ما كان لا يمكن أن يمضي كأن لم يكن. إنها حزنه الخفي حين يتجسد، وأحيانا تند عنها إشارة خفية تحكي مأساة متكاملة، استغاثة حارة صامتة، تستوهب إحسانا أو رحمة كآخر انتفاضة للضفدع قبل أن تسلم الروح. ما العمل؟ وتذكر وهو كاره حمدون. لماذا؟ ربما لثرثرته الملحة عن الأقوياء والضعفاء، لآرائه التي يريد أن يصلح بها الكون.
وكان يقرأ فصلا في رواية بوليسية عندما خيل إليه أن صوت أمه يحتدم في الحديقة. نظر من نافذته فرأى المرأتين - أمه وأم سيدة - تسترسلان في حديث ما. داخلته كآبة مثل جو المغيب المخيم. سيحدث ذات يوم أمر ما. إنه يتوقعه كما يتوقع مريض الفم ضربان ضرسه. •••
وسمع خطوات أمه قادمة فلعن مخاوفه ومرق من الخوف إلى التحدي. جلست على ديوان يتوسط الحجرة بوجه شاحب. أرعشت بيدها مروحة عاجية بحركة عصبية، فوردت ذهنه فكرة غريبة بأن معجزة أمه ستتحطم على يديه. وقالت عين بصوت متهدج: ماذا ينقص هذا البيت؟
وتريثت قليلا ثم أجابت نفسها: يتلى فيه القرآن، يعبقه البخور، ترعاه الحسنات والنوايا الطيبة، فكيف يندس الشيطان في أركانه؟!
آه ... لقد وقعت الواقعة ... وعليه أن يتظاهر بمواصلة القراءة.
وتساءلت عين بأسى: ألم تشعر بوجودي بعد؟
فتساءل ببلاهة: ماذا؟ - ألا تخمن ما ورائي من حزن؟
أغلق الكتاب ونظر إلى تهاويل السجادة الفارسية في استسلام. - ما هذا الذي كاشفتني به أم سيدة؟
فشحب وجهه ولم ينبس. تأوهت قائلة: لم أعذبك؟ ... لا معنى للتأنيب بعد فوات الوقت.
رأى بوضوح - ربما لأول مرة - مبخرة فضية محمولة بساقين من النحاس تستقر أسفل ستارة أرجوانية. - اسمع يا بني، لست أول شخص يعبث به الشيطان، وما يهم حقا هو تصرفنا بإزاء ما نرتكب من أخطاء.
وتنهدت بصوت مسموع وقالت: نحن أغنياء، ولكن لا قيمة لذلك، وإنما قيمة الإنسان تتحدد في علاقته بربه، غير أننا نحاسب على قدر قوتنا.
وجد نفسه ينزلق في طريق وحيد مسدود.
واستطردت عين: قد نخطئ ولكن لا يجوز أن نظلم، علينا أن نصلح خطأنا، وكلما جاء الإصلاح على غير هوانا اقتربنا أكثر من عفو ربنا.
ورفعت رأسها كأنما ترنو إلى القنديل، وقالت بحزم: ستتزوج من سيدة في أقرب فرصة.
ثم نهضت وهي تقول: إنه قرار لا يقبل المناقشة، وما يشهد لك بالطيبة أن ترحب به. •••
وتلاحقت الأحداث كأنما تقع لشخص آخر ... وذاع الخبر في الحارة فأحدث دهشة عامة، كما صعق بيوت العرائس المرشحات لجمالهن وأصلهن لمثل هذا العريس الفريد. وكيف ترفض الست عين بدرية المناويشي لتقبل سيدة بنت أم سيدة الخاطبة؟! أيرجع السر إلى مهارة أم سيدة؟ أيجد تفسيره في شذوذ طرأ على ذوق عزت؟ وكالعادة تمطى التأويل السيئ لينفث ظنونه فأصاب الحقيقة هذه المرة بمحض الصدفة. هكذا تزوج عزت وهو في الثامنة عشرة من عمره زواجا مناقضا لذوقه وميوله، وهكذا انتقلت سيدة إلى أجمل دار في الحارة لتحتل أرفع مكان فيها. هكذا صارت أم سيدة حماة الوجيه الأول. وثارت أمونة ثورة حاقدة؛ فقطعت علاقتها بشقيقتها إلى الأبد. واستسلم عزت للواقع، كما يستسلم إلى قدر لا مفر منه، أجل لم يعتده قضاء نهائيا، ولكن حلا ضروريا مؤقتا حتى يتخلص منه في الوقت المناسب. وتضاعفت أشجانه على حبه الضائع، فاعتبر المحنة كلها جزاء عادلا يستحقه لضعفه وتردده. ومن أول لحظة أدركت سيدة أنها لا تحظى بحب زوجها ولا حتى برضاه، وأنها تتجرع حياة باردة، حيوانية مجردة، لا عطف فيها ولا احترام. وبدافع من غريزة الدفاع عن النفس انطوت تحت جناح عين، فوهبتها من قلب محروم جريح كامل الولاء والوفاء، وأوصتها أمها بالصبر والتزام الأدب. قالت لها: لك رب؛ فليكن اعتمادك عليه وحده.
فقالت لها الفتاة: أفضل أن أرجع إلى بيتي.
فقالت المرأة بإصرار: لا تفرطي في النعمة، واعلمي أن الرجال لا يثبتون على حال، وما الحياة الزوجية إلا معركة.
وفي ذلك الجو الشحيح بأي عذوبة حملت سيدة، ثم أنجبت «سمير». أصبحت أما، أصبح عزت أبا، أصبحت عين جدة، فحتى في أسوأ الظروف استطاعت أن تغير أبعاد كونها الصغير، وأن تفجر فيه من ينابيع العواطف الجديدة ما لا عهد له به. تحرك قلب عزت. جاءه حب جديد ليزاحم حبه القديم الذي اعتاد ألمه حتى ألفه. أما عين فجنت بالوليد وعشقته، وطمح قلب سيدة الكسير إلى حياة أفضل.
وخاب عزت في دراسته القانونية، لا الهمة وجد ولا الحماس، فانقطع عن المدرسة بعد عامين من التحاقه بها. وضاق بحياة بلا حب ولا صداقة، فعزم على التوظف. أراد أن يظفر بقدر من الاستقلال، وأن يملأ فراغه، وأن يجرب الحياة الرسمية التي تفتن الكثيرين.
والتحق بوظيفة بوزارة المعارف. وسرعان ما نشب التنافر بينه وبين الوظيفة ومناخها العدواني. ونصحته أمه بأن يدعو موظفي إدارته إلى وليمة في الدار تعزيزا لمركزه ودفعا لمكر الماكرين. ومضى عليه شهر في العمل. ولدى عودته سألته أمه: ألم تحدد يوما للوليمة؟
فأجابها بهدوء: قامت معركة بيني وبين رئيسي.
فحدجته باهتمام، فقال: قدمت استقالتي.
وأغرق في الضحك.
9
يقول الراوي:
ويمر عام في أعقاب عام. يغوص حبه القديم في غلاف من السكينة والفتور. وتظل علاقته بسيدة باردة في مشاعرها، خشنة في معاملاتها، لا تند عنه كلمة طيبة، ولا يتردد عن الإساءة إليها لأقل هفوة، وأحيانا بلا سبب، وكان يمضي بسمير بعيدا عنها ليمارس حريته في ملاعبته وتقبيله. وضاق بحياته بعد غياب بدرية وحمدون، ولم تكف القصص البوليسية لملء الفراغ، فانزلق إلى غرزة يسلي بها همه؛ ومن ثم عرف أين يقضي ليلته حتى مطلع الفجر، وأن يهرب بالنوم حتى الظهيرة. وتابعت عين نظام حياته الجديد بقلق، وكانت تقول له: نحن الذين نصنع سعادتنا بأيدينا.
وحنق عليها لسعادتها الدائمة، إنها تمضي كالنحلة تمج رحيق الإحسان والحب. تتوغل في الحلقة السابعة بحصانة تامة ضد أعراض الشيخوخة، تتجول بلا انقطاع، تحظى بالنشاط والرشاقة والفرحة المتألقة. وكأنما تقصد تعذيبه وهي تقول: يا بني تعامل مع زوجك بالرحمة، إنها امرأة نادرة المثال في صبرها وأدبها.
لقد ساءه أن تثبت له براءتها في موقفها من بدرية، إنه نهم إلى إدانتها. ويذكر لها موقفها المتعنت من حبه قبل أن تعرف ما بين بدرية وحمدون من حب. إنها مدانة على أي حال. وهو ممزق بين حبها وكراهيتها. يحلم أحيانا بموتها، ولكن كيف يمكن أن تموت هذه المرأة البارعة؟ سوف يسبقها إلى القبر، سيعيش في أسرها عمره كله، إنها تستمد من المجهول قوة خارقة، ولكن هل يتحمل الحياة بغير شعوره الباطني بوجودها في مكان ما في الدار أو الحارة؟!
وتكرر حثه على معاملة سيدة بالحسنى فيتساءل: ما الذي جعله يبقي عليها طيلة الأعوام الماضية؟
الحق أنه لا يحبها ولا يريدها. أمن أجل سمير، أم إنه الضعف الأبدي الذي يمنعه من العمل؟ وقال لعين ردا على توسلاتها: آن لي أن أطلقها.
فبسطت يدها نحو السماء متمتمة: اللهم جنبه قسوة الحيوان. - إنني لا أحبها. - الرحمة أولى بمن لا تحب. - المسألة أنك سعيدة، أما أنا فرجل تعيس.
فقبضت على يده بشدة وتوسلت قائلة: لا تفكر في الطلاق، حتى لو رأيت أن تتزوج من أخرى.
ما معنى أن يجيء بامرأة أخرى بلا حب؟
عين امرأة سعيدة، والسعداء لا يرون الحقيقة.
إنها تبعثر الثروة والعمر يمضي ... قال لها: إنك تنفقين بلا حساب. - الحمد لله. - ولكنه مالي أيضا! - حد علمي أنه مال الله سبحانه وتعالى.
فتساءل ضاحكا: ألم تسمعي عن أبناء يقتلون أمهاتهم؟
فأجابته إجابة ضاحكة أيضا: ولكني أعلم أنك تحبني، وستملأ قبري بدموعك فيسبح فوقها جثماني. •••
وانتهزت سيدة فرصة هدوء يمر بلا نقار فقالت له: إن ما ينقصك حقا هو العمل.
فتساءل بسخرية: أعمل خاطبة؟
فتجاهلت غمزته وقالت: أنشئ عملا مناسبا، لن تضن عليك والدتك برأس المال.
غزته الفكرة، كره أن تجيئه من سيدة، ولكنها غزته. تمتم بسخرية: عجيب أن تخرج منك فكرة طيبة.
قالت وهي تتنهد: جرب وربنا معك.
إنه في حاجة إلى العمل والاستقلال، ولكن من أين يجيء بالخبرة؟ أين اللعين حمدون؟ لم يحسن في حياته سوى قراءة قصص الجريمة وتدخين الكيف في الغرزة. ها هو ذا حلم جديد يبزغ في حياته القاحلة.
10
لم يعقب اقتراح سيدة فعل. حلم بالمشروع وبرم أكثر بالحياة. لم يجد في الحياة جديدا سوى أنه اعتاد عادة جديدة هي الإكثار من الطعام بتأثير من الكيف ومعالجة للضجر. ولأول مرة يفقد رشاقته ويميل قليلا إلى البدانة. في ذلك الوقت نسي حبه القديم أو كاد، وانطبع بطابع بلادة غاشية، حتى العبادات مارسها بلا شعور وبلا حماس. ولم يجد أمامه إلا سيدة فحملها مسئولية تدهوره. وتمردت الفتاة فجأة على وضعها فهرعت إلى عين وهي متدثرة بعباءة وراء النافذة تشاهد من وراء الزجاج مطرا ينهل فوق الحديقة فيغسل الأوراق ويملأ القنوات، بثتها شكاتها وقالت وهي تجهش في البكاء: يجب أن أرجع إلى أمي.
فلم تسترد عينيها من الماء والشجر ممتصة ثورتها بهدوء شامل، ثم تساءلت: ألك أم غيري؟
فهمست بأسى: أنت أم الجميع، ولكنني معذبة.
وتساءلت عين وهي تلتفت نحوها بحنان: أما زلت على جهلك بالرجال؟
ثم وهي تقرصها بعطف في خدها: إنهم يحتاجون إلى تربية متواصلة تمتد من المهد إلى اللحد، وهذه هي مهمتنا.
وهمت الأخرى بالكلام فأسكتتها بإشارة وواصلت: المرأة التي تهجر بيتها جاهلة لا تستحق نعمة الأمومة، ماذا غيرك بعد أن آمنت بأنك أعقل الستات طرا؟ - حتى متى أتحمل الإهانة؟! - إنه يهينني بأفعاله أكثر مما يهينك بأقواله، فهل أهجره بدوري؟ - ولكن ...
فقاطعتها: حذار أن تعرضي الأمير الصغير للمتاعب. •••
وكان يسترق النظر إلى الفتيات اللاتي حلمن ذات يوم بالزواج منه. إنهن يرحن ويغدين في الحارة محصنات بالزواج والاستقامة. أي واحدة منهن تفضل سيدة جمالا، وأي واحدة كانت خليقة بأن تخلق الحب خلقا إذا لم يتوفر في البداية، وكان يعاشرهن في الخيال وقد وهنت روادعه بوهن عباداته. ومن بينهن «اعتدال»، عرفت بشيء من المرح، فتشجع ذات مرة إلى توجيه تحية هامسة إليها، لكنه قوبل بتجهم خشن. وكان للخطأ عواقبه، ففاجأه الشيخ سلام الدروي ناظر المدرسة الأولية بالانقضاض عليه في الغرزة، وعلى مرأى من الجالسين بصق على وجهه وهو يصيح به: يا نذل ... يا جبان.
وتفشت الفضيحة وعرفت تفاصيلها. اعتذر قوم بأنها لم تكن إلا تحية بريئة ندت عنه ببراءة وفي حال من السهو، واستنكرتها الأغلبية، ولكنها لم تنف عنه حسن النية. وتشابك الشيخ والفتى حتى خلص الآخرون بينهما. ورجع عزت إلى داره بشفة متورمة. •••
لأول مرة ينصب لوم على شيء ينتمي إلى الست عين. وتوارت سيدة عن الأعين لتبكي وحدها. أما عين فوقفت أمام عزت وقفة عسكرية وقالت: اصدقني، هل عبث بك الشيطان؟
فقال بحرارة كاذبة: كلا ... وأقسم لك على ذلك.
فقالت وهي تتنهد بارتياح: إني أصدقك ... ولكنك أخطأت.
واستدعت الشيخ الدروي فأكرمته غاية الإكرام، وأكدت له براءة ابنها، واستبقته للغداء فصالحت بينه وبين عزت، ولم يسكن خاطرها حتى اطمأنت إلى أن سحابة الكدر قد تلاشت تماما. •••
لكنها لم تتلاش من سماء عزت، هو وحده يعلم بكذبه ونفاقه وجبنه، ويشعر بأن عباداته خسرت روحها الصافية فلم يبق منها إلا وخز خفي ينفث الأسى، وأذعن أكثر لمغريات الطعام الدسم، وراح يحلم بالمشروع المقترح، ويحلم أيضا بالهجرة من الحارة التي لم تعد تعد بخير.
ومنه علمت عين برغبته في إنشاء مشروع تجاري، فرحبت بالفكرة وقالت: طالما فكرت في ذلك، ولكني انتظرت حتى يجيء التفكير من ناحيتك!
فلم يسر بترحيبها وتوجس خيفة غامضة، أما عين فواصلت تقول: لا خبرة لك، ولكن لا شيء يدعو لليأس، الناس حولنا يعملون في الخشب والدقيق والبن والخيش، دعني أدخلك شريكا لأحدهم حتى تعرف سر المهنة، ولك بعد ذلك أن تستمر معه أو أن تستقل بعمل مماثل في مكان آخر.
وجد نفسه على باب تغيير حاسم سيقلب نظام حياته رأسا على عقب فأجفل. هل يتحرر من النظام الراهن بسهولة؟ إنه يسهر الليل في الغرزة، وينام حتى الظهيرة، ويتسلى بقصص الجريمة، فهل يتخلى عن ذلك كله دفعة واحدة؟!
قال: عظيم ... سيحدث ذلك دون ريب ... ولكن فلنؤجل تنفيذه إلى حين.
وألحت عليه الرغبة في هجر الحارة، وجعل يردد رغبته على مسمع من سيدة، وانقبض قلب الفتاة، إنها تعلم يقينا أن حياتها الزوجية تدين ببقائها حتى الآن لعين، وأنه لا يتجاوز الحد في الإساءة إليها حذرا من إغضاب أمه، ولكن أي مصير تلقى إذا انفرد بها في مكان بعيد؟!
لذلك وشت بأفكاره إلى عين ورجتها أن تخفي وشايتها. وتساءلت عين آسفة: أين يجد مثل دارنا؟ ولكنه كره الحارة!
وفكرت لأول مرة في إدخال تجديدات حديثة على هندسة دارها العريقة، وأنفقت بسخاء لتوصل إليها الماء والمجاري والكهرباء حتى عجب عزت من قرارها المفاجئ ... وتساءلت ضاحكة: لم لا؟ ... الدنيا تتغير، وثمة تجديدات تنفع ولا تضر.
ثم سألته بعد حين قليل: هل يروقك الأثاث الحديث؟
فتساءل بفتور: ما أهمية ذلك؟ - أنت شاب وللشباب ميوله، ممكن أن تجيء بقطع حديثة لتحتل مكانها بين الأثاث القديم، وممكن أن نجعل التجديد في حجرتك شاملا. لم لا؟ ماذا يعجبك؟
فرفع منكبيه ولم ينبس، وداخله شك في أن سيدة وشت به، وسألها حال انفراده بها:
فأنكرت بشدة، ولكنه قال بازدراء: نمامة واشية مثل أمك.
وعلمت عين بالشجار فواجهته بالصراحة التي تحبها. قالت له: لا تعذب أم سمير أكثر من ذلك، هذه دارك وقد جددتها إكراما لك، إذا كانت لك رغبة في حياة مستقلة بعيدا عن حارتك فلن أعترض رغبتك، لك الحرية الكاملة، فافعل ما تشاء.
هكذا وجد نفسه مع حريته - مرة أخرى - بلا عائق. وسرعان ما فترت همته وتحرك تردده. كالعادة توقف فوق العتبة. ترى من أين يزحف عليه هذا الشلل؟! أهي حياته الخاصة التي تحولت إلى بلادة ناعسة؟ هل يوجد في عين سر خفي ما زال يجهله؟
11
وطالعته عين ذات صباح بعينين محمرتين من أثر البكاء فانزعج جدا. لا يذكر أنه رآها تبكي من قبل. سألها عما بها بقلب منقبض يتوقع شرا، فهمست بصوت حزين: بركة ... تعيش أنت!
فما تمالك أن ابتسم وهو يشعر بالنجاة وتمتم: القطط تملأ الدار، البقية في حياتك. - لكن بركة هي الأصل، كان قلبها عامرا بالحب وحسن الإدراك، ولم يكن ثمة مفر؛ فقد انتهى الأجل.
كان قد ألف هذه الدروشة، وسلم بحقيقة المناجاة المتبادلة بين أمه والقطط، وربط بين ذلك وبين حيويتها التي لم تنقص منها سبعون عاما شيئا. كذلك ألف معاشرة سيدة الراكدة، بل لقد تألم لإجهاضها مرتين بلا سبب ظاهر، وقد خفق قلبه عندما قالت له أمه ذات يوم: آن لنا أن نرسل سمير إلى الشيخ العزيزي! حقا بلغ سمير السادسة، وضحت الآن ملامح عين في وجهه. الزمن يتقدم وقد بلغ هو الخامسة والعشرين من عمره، لم يحدث شيء هام في أثناء ذلك ... بل حدث تغير خفي لم يهمس به لأحد.
تغير عجب له وانزعج. إنه الفتور الذي يسري في شعوره الديني. لا علاقة بذلك بأحد من جلساء الغرزة فهم مؤمنون، ولا شأن لقصص الجريمة في ذلك، ولا دخل للتفكير في الموضوع كله فهو لا يفكر، ما هو إلا فتور في الشعور أخمد الحماس واليقين فتهاوت أركان المعبد. كف عن الصلاة والصيام ولكنه احتفظ بسر ذلك لنفسه فلم يفطن إليه أحد. وخوت الدنيا ولم يكن في وسعه أن ينعشها؛ دنيا الفراغ والأكاذيب.
ولاحظ رمضان الزيني - عميد الغرزة - كآبته ذات ليلة فقال له:
وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها .
فابتسم متسائلا، فقال الرجل: جاه ومال وشباب، ماذا تريد أكثر من ذلك؟!
صدق الرجل، حتى لو تهادى إليه ميراثه فأي شيء يفعل أكثر مما يفعل الآن؟ •••
والغرزة تقع في مكان فريد على الحد الفاصل بين التاريخ والعصر، في حجرة مراقبة بالحصن العتيق القائم فوق القبو. في زمن مضى كان القبو هو الباب الشمالي للقاهرة، وكان الحصن فوقه هو مركز الأمن والدفاع. اليوم الحصن أثر من الآثار، والقبو ممر عبور ومنامة للمتسولين، ورمضان الزيني هو الذي اختار حجرة المراقبة مكانا لغرزته، ليست هي بالواسعة ولا بالضيقة، وتتوفر لها التهوية من نافذة كان يطلق منها الرماة نبالهم. وجعل من خفير الآثار خادما للجلسة، يهيئ الجوزة ويدور بها، ويشارك في التدخين والعشاء.
واحتفل عزت بدخول سمير الكتاب فأهدى الجلسة خروفا مشويا وصينية بسبوسة. وكانت ليلة لا تنسى، لا للمناسبة السعيدة وحدها، ولكن لخبر جديد جاء به رمضان الزيني. قال: رأيت أمس ما لا عين رأت.
فتطلعت إليه الأعين الناعسة، فقال: مر بالدرب الأحمر سيرك اللاوندي فذهبت إليه، بدأ العرض بالتمثيل، رأيت الممثلة والممثل. من هما فيما تظنان؟
قال له صوت مازحا: أمك وأبوك.
ولكنه استمر دون مبالاة: بدرية المناويشي وحمدون عجرمة!
وتصايح القوم: غير معقول.
أما عزت فقد اندلق فوق رأسه جردل ماء مثلج. فتح عينيه نصف المغمضتين فرأى الماضي متجسدا متسربلا بالانفعالات العنيفة.
وقال رمضان مسرورا بما أثار من اهتمام: بلحمهما ودمهما. - يا للفضيحة!
وقال رمضان: ما يبدأ بالهرب ينتهي في السيرك.
وتعاقبت التعليقات كالسموم، ورجع الماضي إلى عزت كأنما لم يغادره دقيقة واحدة لا سبع سنوات كاملة أو تزيد، ورغما عنه تمتم: يا لها من نهاية!
قال رمضان: صممت على إحراجه فقابلته. - لا شك أنه انزوى؟ - أبدا ... ضحك ... رحب بي. إنه الاستهتار نفسه.
وسأله عزت: ألا زال السيرك يعمل بالدرب الأحمر؟ - كلا ... ولكن حمدون وعد بزيارتنا هنا. - مستحيل. - سترون بأنفسكم بعد قليل. - حقيقة إنه لقارح.
واضطرب عزت، أيرى حقا حمدون بعد قليل؟ ماذا يهم؟ لقد اندثر الماضي ومات الحب كما ماتت الصداقة، ولكن وثوب الماضي على الحاضر فجأة لا يمر دون قلقلة. وتخيل للقاء صورا عديدة، ولكن ما حدث فعلا كان مختلفا عما تخيل؛ فما إن رآه ينظر إليه من تحت حاجبيه البارزين بابتسامة مشرقة فاتحا ذراعيه حتى لبى دعوته فتعانقا بحرارة، وهمس حمدون في أذنه: ما جئت إلا من أجلك عندما عرفت أنك من أركان الجلسة.
وسرعان ما شارك في التدخين بتلقائية وبلا حرج. لم يجد أحد الشجاعة للحملة عليه غير أن رمضان قال: ما تصورت أن أجدك في سيرك.
فقال ضاحكا: عملنا مقصور على المسرحية، وهي من تأليفي. - ولكن كنت موظفا. - وما زلت، المسرح هواية ليس إلا. - ولكن ...
ولم يكمل رمضان، فضحك حمدون وقال: ولكن زوجتي، أليس كذلك؟ ... إنها فنانة مثلي، لا جدوى من محاولة إقناع حارتنا بذلك، ولكننا أسرة شريفة كسائر الأسر الشريفة!
لم تتكلم إلا قرقرة الجوزة ... ثم التفت نحو عزت وقال: يسعدني أن أشارك في الاحتفال بدخول ابنك الكتاب. - وأنت كم ولدا لك؟ - أنجبت واحدا لم يعمر أكثر من عام، ولا شيء بعد ذلك والحمد لله.
فسأله رمضان: ألا تود أن تعقب ذرية؟ - إنها معطلة لنشاطنا الفني!
وقرقرت الجوزة وحدها مرة أخرى. •••
غادرا الغرزة معا. دعاه إلى داره وهي تغط في النوم. جلسا في الحديقة رغم ميل الخريف إلى البرودة في وقت الفجر. تبادلا عواطف صادقة دون أن يشير أحدهما إلى الماضي بكلمة. شعر عزت بانتعاش روحي جديد. قبض على الصداقة صافية بعد أن تلاشت الذكريات الأليمة. عادا كما كانا بلا حب خائب يفرق بينهما. إنها لمعجزة تروى. وراح حمدون يحدثه عن تجربته: ما زلت موظفا، ولكن كفاحي في سبيل الفن لم يضعف لحظة، واكتشفت أيضا موهبة بدرية، ولكن كيف نشق طريقنا في الصخر؟ لقد رفضتني المسارح كمؤلف كما رفضت زوجتي كممثلة. لم أيئس، عرفت صاحب سيرك اللاوندي، اقترحت عليه أن نعرض مسرحية من فصل واحد بدلا من التهريج الممجوج، لم نطالب بأجر فقبل التجربة، وقد نجحنا وانبسط الجمهور أضعافا مضاعفة.
فقال عزت: ولكنه سيرك! - أجل، خير من لا شيء حتى تلين إرادة المستقبل.
وبدافع من الكبرياء أخبره عن مشروعه التجاري الذي يفكر فيه، فقال حمدون: لا مفر من ذلك، وإلا فما معنى الحياة؟! - إذن حياتك الآن لها معنى؟ - إنها مفعمة بالنشاط ... ومن يدري؛ فقد أكون فرقة ذات يوم. - وهل تستطيع أن تصمد أمام المسارح الكبيرة؟ - أعني فرقة صغيرة تعمل في روض الفرج صيفا، وإن وجدنا تشجيعا عملنا في الكلوب المصري شتاء. هذا ما أطمح إليه.
دار رأس عزت، دهمته خواطر غريبة مباغتة، غزاه إلهام بعث النشاط في قلبه وإرادته، لم يشعر من قبل بمثل ما شعر به وقتذاك من قدرة على الخلق والعمل والاقتحام. ولكي يثبت لنفسه أنه موجود لا حالم قال: حدثني يا حمدون عن التكاليف المطلوبة.
فقال الشاب باهتمام: أجرة المسرح والممثلين والملابس والديكورات. ليس بالمبلغ الخيالي، ولكن يحسن ألا يقل عن خمسمائة جنيه.
فتفكر عزت قليلا ثم تساءل: هل يضمن النجاح؟ - أعتقد ذلك خاصة إذا أدرنا البوفيه لحسابنا.
وساد صمت مليء بالانفعالات والأمل والدوافع العميقة. أخيرا تمتم عزت: دعني أفكر يا حمدون قليلا.
12
لم يكن في حاجة حقا للتفكير - كما يقول الراوي - إذ اجتاحته دفعة حيوية شديدة الانطلاق والقوة خلقت منه إنسانا جديدا مجنونا بالحركة، دعاه داع عميق للنشاط والثورة على البلادة حتى أنكر نفسه، واعتبر الأمر لهوا مقدسا ولعبا سارا تتحقق به الذات على نحو بهيج. ولم يغب عن تقديره أن المشروع الجديد يجب أن يطوى في طي الكتمان؛ فلا هو مما يمكن التفاهم عليه صراحة مع عين، ولا هو من الأعمال التي تعترف بها حارته أو تحترمها، وسوف تلوكه الألسنة إذا انكشف السر وتجود عليه بأشنع الصفات. ولم يثبط ذلك من همته، بل لعله ضاعف من حماسه وتمرده. صاحب مسرح ومديره، ترى ما معنى ذلك؟ أعجب من ذلك أنه لم يكتشف في نفسه اهتماما حقيقيا بالمسرح، ولكنه يجري وراء المجهول وتحدياته الغامضة، وينجذب إلى فترة ماضية عامرة بالثراء. ولا مراء في أن الإدارة تناسبه، وصحبة حمدون تعابثه، وتغيير الجو من النقيض إلى النقيض يسحره، وحسن أن يخوض التجربة متحررا من ضعف الحب وآلام الوهم وبقلب متوفز جسور.
ولكن هل تصادفه عقبة غير متوقعة عند أمه؟ لقد قالت له: إنه مبلغ لا يستهان به، ولكنه لك حبا وكرامة. أريد فقط أن أعرف مشروعك. - شركة مقاولات. - دعني أجلس ساعة مع شركائك.
فانتفض غاضبا وهتف: لست قاصرا، وهذه أعمال رجال!
فضحكت قائلة: ليكن التوفيق حليفك. •••
اصطحبه حمدون إلى شقته القديمة بشارع محمد على لتناول الغداء. عندما لاح له المسكن شعر برغبة جازمة في الهرب، غير أن الرغبة اندفعت في اتجاه ومضى هو يتأبط ذراع حمدون في الاتجاه المضاد، بعد دقيقة أو نحوها سيرى بدرية المناويشي، ممثلة سيرك اللاوندي، ويلمس راحة يدها لأول مرة في حياته، لو حدث ذلك قبل سبعة أعوام لتكهرب أو اشتعل، ولكنه يمضي اليوم متحررا وقد ذاب العاشق القديم في تيار الزمن، وحل محله آخر يحلم بالإدارة والسيادة واللهو البريء.
فتح الباب عن محياها الثري وابتسامتها العذبة وهي مرتدية فستانا منقطا بالبياض، ورجع الصوت القديم وهو يقول بمرح وترحيب: أهلا ... أهلا.
دخل عالما جديدا لا رجعة منه، كان عليه أن ينقب عنه بين الأطلال، وها هو ذا يغزوه متمتعا بالصحة والصداقة. وتذكر آلام الحب فتعجب. وجلس في حجرة استقبال متواضعة وغرقوا في المجاملات والذكريات المحايدة، ثم دعي إلى المائدة، أثاث البيت ينطق بالتقشف. صديقه يعاني، وها هو ذا يجيئه في الوقت المناسب. وراح يتناول طعامه بحماس قائلا: تعلمت أن آكل كما ينبغي.
فقالت بدرية: ازداد وزنك، ربما أكثر مما يلزم.
فقال حمدون معترضا: إنه مناسب جدا لصاحب مسرح ومديره.
فقالت بدرية: إليك المسقعة وورق العنب اللذين تحبهما كما أخبرني حمدون. •••
وفي حجرة الاستقبال مرة أخرى قال عزت لحمدون: أرجو أن تكون أحسنت التصرف مع الوقت.
فقال حمدون بثقة: سنبدأ مع أول يوم من الموسم الصيفي، اخترت الممثلين والممثلات وسائر العاملين، وعند العصر سيحضر الأستاذ يوسف راضي المحامي. كل شيء جاهز.
وتذكر وفاة أبيها منذ سنوات فقدم لها العزاء وسألها: هل ترين والدتك؟
فقالت باقتضاب: تزوجت من زمان وانتقلت بصفة نهائية إلى البلينا.
فقال حمدون ضاحكا: حسن أن يعيش الرجل بلا حماة.
فقالت له بدرية: أنت مؤلف ووغد. - المهم أن أنجح كمؤلف ... أتود أن ترى مكتبتي؟
فأجاب عزت بفتور: طبعا، ولكن فيما بعد!
وسألته بدرية: كيف حال الست عين؟ أما زالت تغدق الرحمة على أهل حارتنا؟
فقال ببرود: في غاية من النشاط والحركة. - أظن أنه آن لها أن تستريح. - ما زالت شابة!
فقال حمدون بإخلاص: إنها تستحق الإجلال على مدى الدهر.
فقال عزت ضاحكا: يخيل إلي أحيانا أننا أسرة من المجانين! - إذن فالجنون خير ما يوصف للعالم لإنقاذه. - أما زلت تعتقد أن العالم في حاجة إلى إنقاذ؟ فرفع حمدون يديه إلى السماء وهتف: اللهم فاشهد!
لاحظ عزت أن بشاشة بدرية تلاشت فجأة، وأنها غيرت مجرى الحديث قائلة: لولا ثقتي في أن مالك لن يتبدد ما رضيت أن نجرك إلى مشروعنا. - شيء مدهش حقا أن تنجحي كممثلة.
فأشارت إلى حمدون وقالت: إنه صاحب الفضل، هو المكتشف وهو المعلم، يحفظني دوري، وأصر على تقويتي في القراءة لأحفظ بنفسي.
فقال حمدون: لا أهمية لذلك طالما نقدم فصولا فكاهية، ولكني أحلم بتقديم مسرحيات شكسبير المترجمة، فعليك أن تحسني النطق بالفصحى. - الضحك مضمون النجاح، وسوف يؤيد المدير رأيي.
فابتسم عزت وامتنع عن الاشتراك في الحديث، فقال حمدون: الدموع تنجح كالضحك، وقد قرأت حضرتها مناظر من يوليوس قيصر فأبدعت.
نسي الحارة تماما بادئ الأمر كأنها ذكرى أسطورية، ثم جاءت سيدة لتجلس لصق بدرية ولتدعو إلى مقارنة قاسية؛ نشأة واحدة في الحارة والكتاب، هذه تتألق بالذكاء والجمال والاقتحام، والأخرى تتوارى وراء مسكنة ماكرة ببشرتها الداكنة وأنفها المتكور واستسلامها المنيع، لكن ماذا صنع حمدون من بدرية وماذا صنع هو من سيدة؟ وقال أيضا إن سيدة أنجبت سمير، أما هذه الحسناء فلم تنجب شيئا، ولو قدر لها أن تتزوج منه لتغيرت المصائر إلى أفضل أو أسوأ.
خير ما يفعله ألا يفكر إلا في مركزه الجديد كمدير على هذين النجمين، وهو به سعيد جدا، وفي غمرة حماس تتزايد قال: لعلنا نستطيع أن نستأجر مسرحا كبيرا في المستقبل.
ففرج حمدون بين ساقيه واضطجع إلى مسند الكنبة ليطلق لأحلامه العنان، أما بدرية فقالت: المهم أن ننجح أولا.
فتمتم عزت: لو أنها تهبني ما تبعثره على الناس، لو أنني أبيع عمارة واحدة!
فاستوى حمدون في جلسته وقال محتجا: إني أعترض على الأحلام غير البريئة!
فقال عزت دون مناسبة ظاهرة: أود أن يكون لي مسكن خاص بعيدا عن الحارة. •••
قبيل العصر بقليل دق جرس الشقة، فقام حمدون وهو يقول: جاء الأستاذ يوسف راضي وبدأ العمل.
13
تمخض الشتاء وأوائل الربيع عن إعداد واستعداد وإنفاق مال، كما تمخض عن صداقة حميمة بين عزت وحمدون وبدرية ... ويعد الراوي تلك الفترة من أسعد الفترات في حياة عزت عبد الباقي، وكان يمضي شطرا كبيرا منها في شقة حمدون، وهناك تحررت العقود مع مالك المسرح والممثلين والممثلات والفنيين والعمال، وقد جدد أجزاء من مبنى المسرح وزوده بكراسي جديدة، وركب له مدخلا جديدا، فصار تحفة روض الفرج كما قال عم فرج يا مسهل، عامل النظافة والمنادي الذي يرجع أصله إلى الحارة. وفي أبريل نقلوا مكان العمل إلى المسرح نفسه، وقد أعجبته حجرة المدير بمكتبها الكبير والخزانة والمقاعد الجلدية الوثيرة، ومارس عزت عمله كمدير وصاحب للمسرح. لم تكن السيادة بالحال الغريبة عنه، ولكنها لم تمتد من قبل إلى آخرين بهذه النوعية، وتبدت الممثلات لعينيه في صورة مبتذلة جدا، أقرب إلى دنيا الدعارة منها إلى دنيا الفن، وخيل إليه أنهن يتسابقن في عرض أنفسهن عليه، فمضى في إعداد شقة خاصة في بيت متوسط الحجم بحدائق شبرا، نوى أن يدعو إليه أسرته الخاصة بعد أن يستغله لنفسه قبل ذلك. ولاحظ حمدون تطلعاته الجنسية، فقال له: استمع إلى الصديق، جميعهن رخيصات كما ترى، الممثلات الحقيقيات لا يفرطن في مسارحهن من أجل مسرح كمسرحنا، وأي علاقة مع امرأة من هؤلاء ستضع من مكانتك كمدير، افعل ما تشاء بعيدا عن هنا.
فامتثل للنصيحة، لم يلق صعوبة تذكر، ولم يكن به رغبة حقيقية. توفر لعمله بحماس وأشواق، أو توفر له الرجل الجديد الذي خلق ليلة الاحتفال بدخول سمير الكتاب. وكان يلحق عند منتصف الليل بغرزة رمضان الزيني في حجرة المراقبة بالحصن الأثري العتيق، ثم يمضي إلى دار عين عند مطلع الفجر.
وكمدير قرأ النص، مسرحية نديم السلطان المقتبسة من ألف ليلة وليلة، وهي التي قدمها حمدون من خزانة مؤلفاته المتراكمة، وشهد أيضا البروفات، وراقب حمدون وهو يقوم بواجباته المتعددة من الإخراج والتمثيل، ورنا بدهشة إلى بدرية وهي ترفل في طيلسان الجارية الرومية. من المؤسف أنه لا دور له في هذا العمل المعقد السحري الفاتن. وقال له حمدون: ستكون المنافسة شديدة،
فقالت بدرية: ميزتنا أن روايتنا جديدة، جميع رواياتهم معادة من التراث الهزلي.
فقال الأستاذ يوسف راضي: لا تنسي أنهم يغيرون العرض كل أسبوع، والمكان لا يحتمل عرض رواية واحدة أكثر من أسبوعين أو ثلاثة ولو كانت جديدة!
فقال حمدون: عندي مخزون غزير، وعندنا التراث أيضا.
فقال المحامي: أنا عندي أيضا رواية جديدة!
فسألته بدرية: فكاهية؟ - دراما جادة تعالج مشكلة تعدد الزوجات.
فقال حمدون: موضوع صالح أيضا للمعالجة الفكاهية. - لكني تناولته من نواحيه المأساوية.
فقالت بدرية: لا يصلح لروض الفرج على أي حال.
فرمق يوسف راضي عزت برجاء، فقال هذا بثقة جديدة: دعني أقرأها أولا.
وارتاح للقرار واعتبره من صميم عمله. •••
وكانت ليلة الافتتاح في أول مايو. وقف عم فرج يا مسهل أمام المدخل يصيح بصوت مجلجل: هنا ... ست بدرية الفنانة ... مسرحية جديدة لم تمثل من قبل ... نديم السلطان ... ضحك حتى منتصف الليل ... أغان ورقص ... مشروبات من جميع الأنواع.
كان عزت متوتر الأعصاب، لم يعرف هذه الحال من قبل إلا في محنة الحب، وعند استهتاره بالعبادات لأول مرة. وقد شهد في الاستعداد نجوم الفرق المنافسة، فاطمأن إلى تفوق بدرية، ولكنه لم يضحك - كما توقع - وهو يتابع بروفات نديم السلطان. ومال نحو الأستاذ يوسف راضي ... كانا الوحيدين فوق مقاعد المشاهدين، وتساءل هامسا: لا شيء يدعو للضحك!
فقال المحامي منتهزا الفرصة: نحن في زمن الدراما والدموع !
انقبض عند ذاك صدره وتساءل: هل يرجع إلى أمه مفلسا؟! لذلك توترت أعصابه مع مشرق يوم الافتتاح ... غير أن الجمهور كان أكبر من المسارح جميعا. غصت المسارح بالرواد، وعمل البوفيه بنشاط فاق طاقته، فاستهلكت بالعشرات قوارير الغازوزة والجنجرايل وسندويتشات الفول والطعمية والبسطرمة. أكثر من هذا ضج الجمهور بالضحك، واستبق إلى إبداء الإعجاب ببدرية بألفاظ خرقت الاحتشام في كثير من الأحايين. وضح له نجاح العرض فاسترد الثقة والكبرياء، وتضاعف تقديره لحمدون، وشارك الجمهور في سروره بالرغم من أنه كان يرى المسرحية للمرة العاشرة.
14
عقب الانتهاء، عند منتصف الليل، جاءت بدرية وحمدون إلى حجرته بوجهين سعيدين، فهنأهما بالنجاح، فقال حمدون بحماس: نجاح فاق كل تصور.
وتمتمت بدرية: وبعد أن تاب الله علينا من السيرك.
وقام عزت وهو يقول: سنحتفل بالنجاح في حدائق شبرا!
اجتمع في الشقة الجديدة بدرية وحمدون ويوسف راضي، كذلك فرج يا مسهل للخدمة. وجيء بالكباب والفستق والويسكي، على حين عكف فرج يا مسهل على تجهيز الجوزة. وذاق عزت الويسكي لأول مرة في حياته، فغزاه انفعال جديد بالطرب، فلم يعد يبالي بوضعه الغريب ولا بتدهور قيمه، ورأى الكأس بيد بدرية فملكه شعور بأنهم - جميعا - أجانب، وأن الحارة القديمة كانت حلما ليس إلا. ولما أخذت النشوة بحمدون قال بنبرة خطابية: عرفت عزت في كتاب الشيخ العزيزي، فخلقت فوق الحصيرة صداقة أبدية، ولكني لم أعرف إلا الساعة أنه قدر علينا مصير واحد.
فقال عزت: لكل إنسان أسرة حقيقية خلق لها، وباهتدائه إليها يبدأ حياته الأصلية.
فهتفت بدرية: كان علينا أن نضل طويلا قبل أن نهتدي إلى أنفسنا!
وانغمس عزت في إلهام عجيب، فتح قلبه لإشراق باهر، وأحب بقوة خيالية كل شيء، غير أنه كان أيسر عليه أن ينفصل عن قلبه أو كبده من أن ينفصل عن حمدون وبدرية أو المسرح الذي هيأ لهم الالتحام الأبدي. وقال إن بالدنيا كنوزا من الأفراح لا تخطر على بال، ولكن على من يروم السعادة أن يكون حاسما مع المعوقات المتلفعة بظلمة الأركان العتيقة. وقال: أرغب في الغناء لولا قبح صوتي!
فقال حمدون ضاحكا: لنترك هذه المسألة لضميرك.
وقالت بدرية مشيرة إلى حمدون: كثيرا ما كان يصحو من نومه فيقول: «حلمت بعزت!»
فسأله عزت: بم كنت تحلم؟ - آه ... ما أسرع أن تنسى الأحلام!
فقالت بدرية: لكني ما زلت أذكر حلما رواه لي، رأى أنكما ترقصان معا في قارب. - ترى ما تفسيره؟ - إنه لا يهتم بذلك.
فقال فرج يا مسهل: لقد تحقق في مسرحنا «الفردوس»؛ فهو قارب على شاطئ النيل.
وسرعان ما رحبوا بالتفسير، غير أن عزت تساءل في نفسه: ترى ماذا كنت أحلم في ذلك الزمن؟! •••
في طريقه إلى الحارة امتعض كثيرا، فلعن الحركة القسرية التي تختم بها الدائرة، حتى الغرزة أوى أصحابها إلى مضاجعهم. وهو يخوض الظلمة ارتطم به معتوه معروف يطيب له الهيمان في الظلمة، وقع رأسه عليه وهو يتمتم بكلمات ممطوطة لا معنى لها، فسال لعابه على خد عزت وعنقه. تقزز الفتى ودفعه بقوة، فارتمى على ظهره عاويا. وجاءت نحنحة الخفير من بعيد محذرة متسائلة، فبلغ به القهر منتهاه، وانطلق منه قرار متكامل الأبعاد غير مسبوق بتدبير، كما ينقض قاطع طريق متربص، أن يرجع إلى الأبد، أن يقفز من شرفة الحصن العتيق ليقتنص حظا جديدا.
دار على عقبيه ومضى مترنحا ثملا بفرحة طاغية. •••
يقول الراوي:
إنه عند عصر اليوم التالي جاء رسول إلى دار عين حاملا وثيقة طلاق عزت من سيدة. أجهشت سيدة بالبكاء وراحت تجمع ثيابها في غمرة انفعالها. أسندت عين رأسها إلى ظهر الديوان المحلى بالحكم والأمثال وأغمضت عينيها، وجعلت تهمس: ما أصدقك يا قلبي!
ولما فتحت عينيها رأت سيدة تنتهي من جمع ملابسها، وسمير يتابعها بوجوم.
صاحت عين: ما هذا؟!
واعتدلت في جلستها وقالت بلهجة آمرة: أرجعي ملابسك إلى مكانها.
فقالت سيدة بصوت ممزق: كيف أبقى معه تحت سقف واحد؟
فقالت عين بأسى: لن يرجع إلينا مرة أخرى.
وقامت تتمشى في الحجرة، ثم تمتمت: لن أدهش إذا تحول السقف إلى سحاب وانهل منه المطر.
تمتمت سيدة: أذهب إلى أمي.
فقالت بضيق : قلت لك إن أمك هي أنا، هذا بيتك، هذا ابنك سمير، امكثي بسلام حتى يرزقك الله بخير منه.
وأرجعت الملابس بيديها وهي تواصل: حدثني قلبي بأن أحداثا ستقع، السحب لا تتجمع لغير ما هدف.
وأخذت سمير من يده إلى الديوان وقالت مغيرة لهجتها: الشيخ العزيزي يثني عليك طيب الثناء. اجتهد وعز قلوبنا الجريحة.
همس الولد بقلق: بابا. - لقد باعنا بالتراب، هذا هو أبوك!
وتساءلت في تأثر: لم لا يكون الجزاء من جنس العمل؟!
وتنهدت ثم قالت مخاطبة المجهول: لقد ربيته على خير ما أستطيع، وباركته بالهدى والحب، ماذا به؟ كان دائما يتوثب للسفر، إلى أين؟ لماذا تخاصم الهواء؟ لماذا تتحدى راحة البال؟ لماذا تبحث عن المتاعب؟ •••
واصلت الحياة سيرها الوئيد في الدار والحارة. مكثت سيدة بالدار في حياة جديدة خالية من الصراعات. استأنفت عين جولاتها المجللة بالحب والرحمة، مبدية تماسكا وصبرا جليلا حيال المكدرات، وسعدت باجتهاد سمير وتقدمه. وانتشرت أنباء عزت في الحارة - الطلاق والهجر - فلعن الرجال والنساء الولد المارق.
15
الموسم يمضي في نجاح. عرضت فرقة الفردوس أربع مسرحيات من تأليف حمدون. ومنذ أواخر أغسطس بدأ نشاط جديد لإعداد مسرح الكلوب المصري للموسم الشتوي. عزت يتمرس بعمل المدير، يحن لرؤية سمير، ولكنه لا يفكر قط في زيارة الحارة. ودارت مناقشة حول الموسم الجديد في مكتب عزت، فقال حمدون عجرمة: إني أحذرك من مسرحية يوسف راضي.
فقال عزت: سأجد وسيلة لإقناعه.
عند ذاك تساءلت بدرية: هل نعرض رواياتنا الهزلية في الكلوب المصري؟
فقال حمدون: إنها ليست هزلية بالمعنى المتعارف عليه؛ فمن خلال الهزل أقول أشياء لها قيمتها.
فقال عزت: عظيم، ولكنك حدثتني مرارا عن خطة أخرى. - إذا كان لا بد من الجد فعندنا مسرحيات شكسبير المترجمة.
تحرك رأس بدرية في رشاقة، وقالت بعذوبة: إني أحب يوليوس قيصر!
رأى عزت حركة الرأس وسمع الصوت فحدث شيء، ذهل عن بقية الحديث. ودعاه وذهبا وهو لا يدري. تمتم وحده: رباه ... إني أحبها!
إنها ملء القلب والنفس والحياة. هل بعث الحب القديم في هذه اللحظة أو إنه لم يذهب قط؟ أكان يلاعبه طيلة الوقت؟ إنه لشيء رائع مخيف، يقتحم الحياة ليشحن المستقبل بشتى الاحتمالات. وعلى أي حال يعصف بالسلام إلى الأبد. تراجعت مشكلة يوسف راضي إلى الوراء. أجل، لقد توثقت علاقته به، هو صاحب الفضل في تعريفه بأكثر من امرأة من صديقاته. أشعل في شقته ليالي حمراء، لكنه لم يهنأ بها كما تخيل. بدا له الحب التجاري مقززا للغاية، وشيء خفي في طبيعته ينغص عليه صفوه ويملؤه بالقلق والنفور. شيء خفي مغرم بالنكد، حتى قبل أن يكتشف حبه أو قبل أن يعترف به، نفسه تتضح له بقوة كما تتضح الأسماك تحت الماء الشفاف. من يدري؛ لعله لم يغامر باقتحام الحياة الجديدة، ولم يهجر عين وسمير وسيدة والحارة إلا من أجلها، من أجل بدرية، وسعيا وراء ندائها المجهول. إنه الآن أسير تماما، حياته محاصرة بأعداء مجهولين. متى يحدث الانفجار؟ ولكن مهلا. يجب أن تعالج الأمور بأسلوب آخر. ليبق الحب سرا دفينا تحت الصداقة والعمل، فلتستمر الحياة في عذوبة ولتستكن عذاباتها الخفية. وعاوده التناقض القديم الذي عاناه في رحاب أمه. يحب بدرية ويحنق عليها، يحب حمدون ويمقته، يحظى بالنجاح ويقع في قبضة القلق الحديدية، وعليه إلى ذلك كله أن يتعامل معها - بدرية - ببراءة وتلقائية، لكنه لا يطمئن إلى ثقته بنفسه، ويتعرض لهبوب رياح المخاوف، وهي - وهذا يقين - تحب زوجها لحد العبادة، وهي فيما بدا مطبوعة على الوفاء والاستقامة، ومواقفها من جمهور المعجبين مضرب المثل. ما أغبى حارته في اتهامها لها ولزوجها! الأغبياء يتهمونه بالاتجار في عرض زوجته. ليته كان من هؤلاء الصنف من الناس. إذن لاتخذت الحياة مجرى فريدا في انسجامها وسعادتها. وأشد ما يثيره ساعة الأرق أحيانا في أواخر الليل، يستيقظ فيسبح في عالم أثيري ويجيش صدره بأعمق عواطف الشجن والأسى. ما أفظع ساعات الأرق وسحب الذكريات تهطل صورا براقة تنداح في دموع ودماء وظلام وأنين، عند ذاك يرجع إلى البدائية الأولى المجللة بالبراءة والوحشية والألغاز. وجعل يختلس من الرقباء ساعة تحت ستار الظلام فيقف في ركن يشاهد دورها فوق المسرح في مناجاة وابتهال، ويتساءل في ذعر: ترى عن أي مصير سيسفر هذا الجنون؟ •••
يقول الراوي:
إنه قبيل انتهاء الموسم بأيام قلائل اندفعت الأحداث في جديد غير متوقع، أخل بتوازنها وأسرع بإيقاعها، فانطلقت مثل قذيفة.
كان عزت في حجرة الإدارة عندما جاءت بدرية وحدها قبل رفع الستارة بساعة أو نحوها. ورغم أنها تبدت قلقة مشتتة البال فإن قلبه خفق بابتهاج عميق؛ إذ كانت أول مرة يخلو إليها مذ عمل في رحابها. جلست وهي تقول بنبرة المعتذرة: إني مضطرة إلى إشراكك في همومي الشخصية.
تضاعف ابتهاجه للثقة الموهوبة من أحب الناس، وقال: همومك هي همومي أيضا.
قربت رأسها من المكتب حتى مست خصلات شعرها الأسود حافة الغطاء البلوري، وهمست: هناك شيء واحد يجمع بيننا في هذه الهموم.
تمتم وهو يبذل طاقة كبيرة للسيطرة على انفعالاته: إني مصغ إليك بكل جوارحي. - هذا الشيء هو حبنا لحمدون!
تراجع حتى ارتطم مؤخر رأسه بجدار الحقيقة الباردة، وقال: طبعا. - تحدث أشياء غريبة في بيتنا من شأنها أن تهدد حياتنا وعملنا ومستقبلنا. - ترى ما هي هذه الأشياء الغريبة؟! - هل سمعت عن «أبناء الغد»؟ - أجل. - بعضهم يتسللون إلى شقتي من تحت البواكي كل ليلة. - كيف؟ - عقب عودتنا من المسرح والشرطة نائمة، أو هكذا يتوهمون! - لا أكاد أفهم شيئا. - إنهم متمردون على كل شيء ومطاردون. - ومتهمون باغتيالات معروفة! - هذه هي المسألة. - أتعنين أن حمدون ...؟
ولاذ بالصمت، فقالت وهي تتنهد: نعم، حسبت الأمر مجرد تعاطف قلبي حتى اختاروا شقتنا مكانا لاجتماعهم، وعبثا حاولت منع ذلك، فضلا عن إقناعه بالتخلي عنهم.
فتمتم عزت متفكرا: إنه شيء خطير حقا. - لذلك ألجأ إليك.
فتساءل في حيرة: تعنين أن أفاتحه في الموضوع؟ - أعندك رأي آخر؟ - ألا يغضب لإفشائك سره؟
فقالت بسرعة: لا يجوز أن يعرف ذلك!
فكيف أفسر له معرفتي بالأمر؟ - لا أدري ... ولكن أبعد ظنه عني!
نظرت في ساعة يدها. نهضت وهي تقول: اعتمادي بعد الله عليك.
وسرعان ما غادرت الحجرة.
16
تركته في دوامة؛ دوامة لا تبقي عضوا واحدا في موضعه الطبيعي. الدنيا ألوان وأصوات وأفكار وملائكة وشياطين متلاطمة. ثمل بالثقة، تحفز للمساعدة، تحير طويلا، عبره طرب مجهول. وكان عليه أن يهتدي إلى فكرة، وتعترض أفكاره صورة حمدون في لباس السجن، أو فوق المشنقة. يقول لنفسه بصوت مسموع: لا بد من خطوة لإنقاذ الموقف، لا يجوز أن تهجر بدرية أو تترمل، لا يجوز!
عليه أن يكون عند حسن الظن به، عليه ألا يهمل واجبه. القدر أيضا لا يهمل واجبه.
عند انتهاء الليلة قبل الختامية قال عزت لحمدون: أود أن أحتفل بالنجاح في شقتك، ولا أريد رابعا معنا!
بهت حمدون عجرمة وقال: لست الليلة على ما يرام! - سوف ينعشك الويسكي.
فتساءل مترددا: أليست شقتك أوفى بالغرض؟ - ولكنها غير خالية! - دعنا نر عشيقتك الجميلة!
فتساءل عزت باستياء: كأنك لا ترحب بي! •••
ما كاد يستقر بهم المقام في الشقة حتى دق الجرس. هرع حمدون إلى الباب، عاد بعد دقائق وقد زايله التوتر. رفع عزت كأسه قائلا: صحتكما ... أزائر في هذه الساعة من الليل؟
فأجاب حمدون ضاحكا: طارق أضله الظلام!
شرب جرعة وهو يردد بصره بينهما، ثم تمتم: لا تحاولا خداعي. - خداعك؟! - لا تحاولا خداعي.
تساءلت بدرية: ماذا؟
فقال عزت بهدوء مخيف: إنكما متهمان!
هتف حمدون شاحب الوجه: صارحنا بما في نفسك.
فقال باقتضاب وثقة: أبناء الغد!
اشتد اصفرار وجه حمدون، غضت بدرية عينيها. قال حمدون: لا أفهم. - بل تفهم كل شيء.
هبط صمت كالموت ولكنه لم يستقر طويلا، فتساءل عزت: أي خطر تعرضان نفسكما له؟
سأله حمدون باهتمام: من أخبرك؟ - شخص أثق به. - الوغد! - من تقصد؟ ... إنك لا تعرفه! ... لولا ثقتي في أمانته لحثثتك على الهرب. - يوسف راضي! - كلا! - هو دون غيره. - قلت كلا، وأقسم على ذلك! ومن أين له أن يعلم؟ - إنه معنا ضمن مجموعة أخرى، ولكنه يعتقد أنني أصادر عبقريته! - أقسم لك أنه شخص آخر. - من هو؟ - لست في حل من ذكر اسمه، سأخبرك به ذات يوم عندما يحلني من قسمي. لا أهمية لذلك. كيف تورطتما في ذلك؟
فقال حمدون بضيق: لا علاقة لها بالأمر.
وقالت بدرية: لا أهتم إلا بالمسرح.
فقال عزت مخاطبا حمدون: ليتك كنت كذلك. - لا حيلة لي في ذلك. - طول عمرك تشغل نفسك بأمور لا تهم أحدا. - لا تهم أحدا؟! - لن أجادلك في ذلك، أريد فقط أن أعلم؛ هل تستمر هذه الاجتماعات المريبة؟
فلاذ حمدون بالصمت، فقال عزت: نحن صديقان وأكثر من شقيقين، لنا حياة مشتركة، لم نكد نبدأ بعد، أمامك مستقبل باهر، لا زواج بين الفن والجريمة، عليك أن تنقذ نفسك قبل ألا ينفع الندم. •••
ورجع إلى حدائق شبرا وهو يقول لنفسه ما كنت أتصور أن الملائكة والشياطين يتجاورون في وطن واحد!
17
في غمار الدوامة، في الليلة التالية - وهي الليلة الختامية - رأى خالته أمونة وكريمتها إحسان وشابا مجهولا يدخلون مسرحه. تلاقت الأعين فتقدم للمصافحة. مقابلة فاترة، ولكنه تعرف بعريس بنت خالته الذي دعا حماته للمشاركة في نزهة احتفاء بشهر العسل. لم يغب عنه أن مهنته الجديدة ستعرف على حقيقتها في الدار والحارة، وستلوكها الألسن كنادرة من النوادر. وكانت فكرة زيارة الأسرة تعابثه من آن لآن، فعدل عنها بقرار نهائي رغم حنينه المتقطع لرؤية سمير. انتهى عزت عبد الباقي القديم، وحل محله رجل يميل إلى البدانة، ويمارس عمله في بيئة تكتنفها الشبهات، وقنع بأن يكلف عم فرج يا مسهل - وهو أصلا من أبناء الحارة - باستطلاع الأخبار وموافاته بالأحوال. •••
وتحدد يوم 15 أكتوبر موعدا لافتتاح الموسم الشتوي بالكلوب المصري. نفحه نجاح الموسم الصيفي بالثقة، ولكن المستقبل تبدى له رغم ذلك غامضا، وأمدته أعماقه المنصهرة بالحب والأخيلة المفزعة بالريبة والقلق، ولم يخل ببدرية في تلك الفترة إلا دقيقة، فسألها: كيف الحال؟ - انتهت الاجتماعات، ولكن ... - ولكن؟! - ولكن حمدون يمر بحال سيئة.
وقال لنفسه: حسن أن تنتهي الاجتماعات، غير أنه ابتسم ساخرا، وثمة صورة كانت تلح على خياله، صورة حمدون في لباس السجن يصاحبها إحساس بالألم يمجه الصوت الخفي الذي ينغص عليه صفوه.
وقال له يوسف راضي: من المناسب أن تفتتح الموسم بروايتي.
فقال عزت مجاملا: سنفعل ذلك ذات يوم .
فقال الشاب: إني أفكر في دعوة حمدون ذات يوم لأسمع رأيه وأدخل ما يراه ضروريا من التعديلات. - خير ما تفعل.
وجرت مفاضلة في شقة حمدون بين يوليوس قيصر ونديم السلطان؛ بأيهما يستحسن أن يكون الافتتاح. قالت بدرية: يوليوس قيصر هائلة، ولكن دوري تافه.
فقال حمدون: لقد حفظت أقوال أنطونيو حبا واستحسانا، ولعله من الطريف أن تمثلي دوره.
فهتف عزت: دور رجل؟! - لم لا؟ ... ستكون مفاجأة مثيرة. •••
ولم يتقرر شيء في الاجتماع إذ جرت الأحداث بسرعة مذهلة. في اليوم التالي عثر على يوسف راضي جثة هامدة في شقة صغيرة بالقبيسي يقيم فيها بمفرده. نشرت الصحف الصورة والخبر، ووصفت الجريمة بأنها وحشية وغامضة.
ارتعد عزت وانقلبت ساحة نفسه إلى مسرح للأشباح المفزعة. إنه والشيطان الوحيدان اللذان يعرفان السر. وجد الشيطان يقبع في أعماقه ويشير ضاحكا إلى حمدون، حمدون الذي قتل رجلا بريئا جزاء جريمة وهمية لم يرتكبها. من الذي قتل يوسف راضي؟ ليس حمدون وحده، لكنه - عزت - وراء ذلك وبدرية أيضا. يا لك من رجل خطير حقا يا حمدون، ولكنك انتهيت ... انتهيت ... انتهيت ... انتهيت - اليوم أو غدا أو بعد غد - حضرة، أنت الذي بادأتني بالصداقة في الكتاب، أنت القضاء والقدر، أنت الرجل المعجزة، حضرة صاحب. أين المفر من ذلك الصوت الذي يطاردني ويكدر صفوي؟ ما ذنب البريء الذي قتل غدرا وجهلا؟ وحتى متى يلازمني الشيطان وهو يضحك؟ حضرة صاحب، فرصة. للتكفير فرصة. للجنون فرصة. للعذاب فرصة. للحب فرصة. لنقف أمام الميزان. حضرة صاحب السعادة، من أنت حتى تخاصم وتحاكم وتحكم؟ من أنت حتى تنفذ أيضا؟ دائما تصدر الإعدام على الآخرين، فعلت ذلك مرتين. في كل مرة يهتف هاتف الغيب: العين بالعين. أن أتحمل وقر إثمي فهو العدل، أن أتحمل إثم الآخر فهو الجنون. حتى لو لم يخرج من العدم وجود فهي التجربة اليائسة. لا بد لضحكة الشيطان أن تسكت، أو فليقهقه حتى يرج الجدران. ترى فيم تفكر عين في هذه اللحظة من الزمان؟ حذار أن يسبقك الزمن. حضرة صاحب السعادة النائب العام .
18
في الظاهر تستمر الاستعدادت للموسم الجديد، لكن مصرع يوسف راضي هز الأفئدة هزة عنيفة. جميع أفراد الفرقة يعرفونه معرفة شخصية؛ كاتب العقود والمؤلف المنتظر. قتل أمس والتحقيق ينقب في كل زاوية. سئلوا جميعا ولم يعثر لديهم على شيء. ذهب حمدون معهم. لم يبح عزت بهاجس واحد من هواجسه. رجع بصحبة حمدون وبدرية. لاذ حمدون بالصمت طيلة الوقت.
قال عزت برثاء: يا للخسارة!
فعقب حمدون: أجل، كان شابا.
وكعادة النساء نشجت بدرية بالبكاء. وبدت الدنيا غريبة كأنما تخلق من جديد، ولكن في لون منفر. مروا في طريقهم بصندوق البريد الذي تعامل معه أمس لأول مرة. ترى أغادره الخطاب أم لا زال ينتظر؛ عزت ... حمدون ... بدرية؟ صندوق البريد ... يا للوحشية يا بدرية، عندما لا نجد إلا الشيطان كرسول للضمير الحي! أرى عين ناشرة المظلة لتتقي أشعة الشمس. أتشرف بإبلاغ سعادتكم. •••
في عصر اليوم نفسه اقتحمت بدرية شقته بحدائق شبرا، زيارة غير متوقعة، متجلية التعاسة والاضطراب، تنذر بالمخاوف، الخطاب لم يصل بعد، فماذا دهاها؟ ارتمت على مقعد بحجرة الاستقبال، وأغمضت عينيها من الإعياء، وقف قبالها مذهولا يهمس: خيرا؟! ... ماذا حل بك؟
تمتمت بيأس واضح: إنه الخراب. - بدرية ... ارميني بما عندك مرة واحدة.
فقالت وهي تتنهد كمن يزفر آخر نفس: جن حمدون، طلقني، ضربني، ذهب ليعترف بجريمة قتل يوسف راضي.
هتف متظاهرا بالانزعاج والعالم من حوله يتناثر ويتطاير: أي جنون! - هي الحقيقة!
رأى في وجهها دمامة لم يدر من أين أتت، رأى امرأة أخرى. قال: أريد أن أفهم قبل أن أجن بدوري!
نحت عينيها عنه، وقالت كأنما تعترف للمجهول: انقلب حالي منذ علمت بمصرع يوسف، اتجه ظني نحو حمدون، أدركت أن الرجل راح ضحية جريمة لم يرتكبها، اجتاحني رعب وشعور مفزع بأنني القاتلة الحقيقية. - ذلك يعني أنني شريك، ولكنها محض أوهام. - ليست أوهاما على الإطلاق، يخيل إلي أنك شاركتني العذاب أيضا، وعقب عودتنا إلى البيت لاحظ حمدون تغيري المطلق، انهارت قوة احتمالي فصارحته بخوفي من أن يكون يوسف راضي قد راح ضحية جريمة لم يرتكبها.
قال عزت بأسف: اندفعت دون ترو. - انفلت مني الاعتراف وأنا في حال بائسة من الانهيار. - كيف كان وقع ذلك في نفسه؟ - اكفهر وجهه، استوضحني ما أعنيه، اعترفت له بأن يوسف لم يفش سر الاجتماعات إليك، وأنني أنا التي فعلت!
فقطب عزت واختفى وجهه تحت قناع غليظ من الكآبة، وتبدت هي مشدودة إلى ذكرى مفزعة وطاغية، ثم قالت: لا يمكن أن تتصور ما حدث، لقد وثب من مجلسه كالملدوغ. صرخ، تجلى الافتراس في ملامحه، لطمني لطمة كادت تفقدني الوعي. اتهمني بالجريمة. ومن شدة ألمي رددت إليه التهمة، صحت به: بل أنت القاتل!
تأوه عزت متسائلا: أهذا جزاء من يدفعه حسن النية إلى إنقاذ من يحب؟!
وراح يضرب الجدار بقبضته ويهدد بالويل. رماني بالطلاق، استمر يعوي مثل وحش جريح ... ثم ركز عينيه علي مليا وقال بمقت شديد: «أنت الجحيم، أما أنا فقد انتهيت.»
وارتدى ملابسه في عجلة ولهوجة وغادر الشقة وهو يقول: سأطلقك أولا، ثم أسلم نفسي.
هتف عزت: يا للتعاسة!
فانخرطت بدرية في البكاء وقالت: تركني في وحدة مرعبة!
إنه يتردى في نفس الوحدة المرعبة. لم تسرع بتحرير الخطاب الغفل من الإمضاء؟ كأنما لم يكن له من هدف سوى تسجيل الخسة على نفسه، سيعترف حمدون قبل وصول خطابه بيوم أو يومين. من العبث أن يمضي في إقناع ذاته بأنه فعل ما يمليه عليه الواجب الإنساني، وها هي ذي بدرية حرة وحمدون يرسف في الأغلال، ألم يكن ذلك حلمه الملح؟! لكنه مريض وبدرية دميمة، والدنيا تعاني أنيميا حادة لا تصلح معها للحب. قال بأسى: اغسلي وجهك، اشربي قدحا من الشاي، علينا أن نفكر بهدوء في الكارثة.
فنهضت وهي تقول متأوهة: إنه لا يدري كم أحبه!
19
عرف الآن أن حمدون عجرمة المؤلف والممثل هو قاتل يوسف راضي المحامي، وأن الباعث على الجريمة هو ما لاحظه القاتل من غرام القتيل بزوجته. ذاع أيضا خبر الخطاب الغفل من الإمضاء الذي اتهم حمدون بقتل يوسف. أعيد التحقيق مع بدرية فأكدت أقوال حمدون، ولم تشر من قريب أو بعيد إلى جماعة أبناء الغد. ولم تجد بدرية في وحدتها المرعبة من أنيس أو معين إلا عزت. زالت دمامتها الطارئة، ولكن ثقلت ملامحها بأسى ثابت وعميق. ورغم مرارة نفسه فإنه لم يفقد الأمل في مستقبل قريب أو بعيد. واستمرت الفرقة في أداء البروفات دون اشتراك بدرية، معيدة المسرحيات التي مثلتها في روض الفرج. وتعمد عزت أن يشعر بدرية من آن لآن بأنه ما زال يمارس عمله كمدير، وكانت تعلم من ناحية أخرى بأنه لا مورد له إلا العمل؛ لذلك تشجع ذات يوم وقال لها: علينا أن نبدأ العمل في ميعاده، وإلا عرضنا أنفسنا للإفلاس.
فتمتمت بضيق شديد: ما أبغض ذلك! - أشاركك الإحساس، ولكن لا بد مما ليس منه بد.
فقالت بحزن: نحن الآن بلا مؤلف. - ولكننا نملك رصيدا لا بأس به من المسرحيات فضلا عن التراث والروايات المترجمة. - إنه خسارة لا تعوض! - ذلك حق، ولكن علينا أن نفكر في كل شيء وفي المستقبل.
وهنا قالت برجاء: أود أن أنجز عملا هاما قبل بدء الموسم. - ستجدين مني ما تتوقعين وفوق ما تتوقعين. - لقد قابلت محامي حمدون فأملني كثيرا في إنقاذه من حبل المشنقة. - أرجو هذا؛ فقد سلم نفسه وانتحل للجريمة عذرا مخففا. - طلبت منه أن يبلغه رجائي في أن يتزوج مني مرة أخرى!
فلم يدر ماذا يقول وهو يتلقى لطمة جديدة بلا رحمة، أما بدرية فاستطردت: سيعينني ذلك على مواصلة الحياة.
فقال بفتور: شيء عظيم حقا. •••
استعد عزت لافتتاح الموسم وهو يشعر بأنه أحقر شيء في الوجود. لم يخفف من شعوره ما علمه بعد ذلك من أن حمدون رفض طلب بدرية، بل ورفض حتى مقابلتها. وبدأ الموسم بنجاح متوسط، ولم يخف عنه أن بدرية فقدت الكثير من سحرها المسرحي، وتعاقبت الأيام لا تبشر بخير جديد، وفي أثناء ذلك تمت محاكمة حمدون، وقضي عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة.
وجاءه فرج يا مسهل - كالعادة - بأخبار الحارة، فقال له لمناسبة الحكم على حمدون: لم يعطف عليه أحد في الحارة!
فقال عزت بأسى: لعلهم يتمنون لي مصيرا مشابها! - ست عين تدفع عنك بخيرها العميم نيات السوء. - وما أخبار الدار؟ - الست الكبيرة كعهدها، هي هي لم تتغير، أم سمير رفضت أن تتزوج من عليش النجار مفضلة البقاء مع ابنها، سمير يتقدم في الدرس بنجاح وذكاء.
وتذكر الحديقة وغرزة الحصن العتيق وسمير الذي سيشب جاهلا أباه، ولكن فيم يفكر؟ في ماض انقطعت عنه أسبابه إلى الأبد؟ •••
وقال لبدرية: ما رأيك في أن أجرب حظي مع مسرحية المرحوم يوسف راضي؟
فقالت بلا حماس: جرب، الموسم حتى الآن غير ناجح تماما. - وربما وفر لها اسم مؤلفها - الذي لم ينس الناس مأساته بعد - نجاحا إضافيا.
فقالت بدهشة وهي تبتسم: صرت حقا صاحب مسرح يا عزت!
فضايقته ملحوظتها، وقال بشيء من الحدة: لقد صرت صاحب مسرح من أجلك. - أجلي أنا؟! - أعني من أجلك وأجله!
فحدجته بنظرة معتذرة ولم تنبس.
وقد حققت المسرحية نجاحا ملحوظا أقال الموسم من تعثره. ومضى موسم الشتاء بلا سرور، ولكنه نجح نجاحا فذا في موسم روض الفرج الجديد، وكان يسرف في العمل كما يسرف في كل شيء ولكن بلا سعادة حقيقية. وظل الحب يطارده بلا أدنى أمل. وسنحت فرصة - والفضل فيها لفرج يا مسهل - لتأجير مسرح الإليزيه بشارع دوبريه، فاستأجره مدفوعا بروح المغامرة والآمال الغامضة، وقال لبدرية: ها هي ذي فرصة للعمل في قلب المدينة، آن لك أن تعملي كنجمة حقيقية.
20
أنفق في الاستعداد للموسم الجديد مالا كثيرا، والإليزيه مسرح حسن بناء وموقعا، وقد كان مغلقا من أعوام بسبب اختلافات بين الورثة حتى استحقه بحكم قضائي الخواجا بنيامين، فكان عزت أول مستأجر له في حياته الجديدة. شعر عزت بأنه أصبح صاحب مسرح بالمعنى الدقيق للكلمة، وأنه سيعمل بكل فخار في مجال رمسيس والأزبكية وبرنتانيا. أجل، لم يوفق إلى ضم ممثل أو ممثلة ذات شأن إلى فرقته، ولكنه كان شديد الثقة ببدرية، ومضى يحلم بنجاح مرموق حتى ليلة الافتتاح، وإذا به يتلقى صدمة باردة، فيرفع الستار عن صالة ثلاثة أرباعها خالية. اعتقد بادئ الأمر أن فرقته غير مؤهلة للنجاح في وسط المدينة، ولكن أنباء ترامت إليه عما تعانيه المسارح جملة من فتور وانكماش. وما كان بوسعه إلا أن يستمر، ولعل النجاح الوحيد الذي قسم للفرقة كان من نصيب بدرية؛ إذ تقدم لخطبتها تاجر ثري! عرف ذلك عن طريق فرج يا مسهل وليس عن طريق بدرية، فضاعف ذلك من آلامه المزمنة.
وانفرد بها في حجرة الإدارة في جو ثقيل من الخيبة وفي نيته عزم على التحدي. قال: الحال كما ترين. ترى ماذا يحسن بنا أن نفعل؟
فقالت بحزن: يحسن بك ألا تستمر. - الجميع يخسرون. - هذا أدعى للأخذ برأيي. - هل نرجع إلى الكلوب المصري وروض الفرج؟ - إذا شئت.
فقال بارتياب: لست متحمسة؟ - لا شيء يدعو إلى الحماس.
فتساءل بارتياب أشد: وماذا عن مستقبلك؟
فغضت بصرها ولم تنبس، فسألها بصراحة: أحقيقي ما سمعت عن رجل يطلب يدك؟
فأجابت بهدوء دون أن ترفع عينيها: نعم. - عجيب أن يجيئني الخبر من آخرين!
فندت عنها حركة تنم عن ضيق ولكنها لم تتكلم. قال: وهو خبر غير معقول. - لماذا؟ - ألم تبدي استعدادا لانتظار الآخر ربع قرن من الزمان؟ - لم يدر بخلدي الفشل. - وهل حقا ما يقال من أن الرجل يكبرك بثلاثين عاما؟ - يحدث ذلك. - لعلك خفت عواقب الكساد، ولكن ما تزال أمامنا فرص.
فحدجته بنظرة واضحة وقالت: المستقبل غامض، أريد أن أحافظ دائما على كرامتي، ثم إني وحيدة.
فقال محتجا: لا ... لا ... لست وحيدة.
وتبادلا نظرة طويلة ثم مضى يقول: لست وحيدة، ذلك قول أعتبره جارحا لي. - أشكرك، ولكني أبحث عن حل دائم ومعقول. - هنالك حل أجمل. - حقا؟ - أن نتزوج!
فتفكرت قليلا، ثم تساءلت بنبرة لم تخل من سخرية: بدافع العطف؟
فقال بحدة وإصرار: بدافع الحب. - الحب؟! - الحب القديم والجديد.
فقالت وهي ترمقه بنظرة ممتعضة: إنه لخبر جديد! - لولا غبار الأحداث لرأيته من زمن. - أكان موجودا وحمدون معنا؟!
فانكمش انفعاله وسقط في الرماد ولم يدر ماذا يقول. وبعد فترة من الصمت الخانق وجد منفذا للخلاص، فقال: عاد الحب في أثناء وحدتك!
ورجع الصمت كرة أخرى مشحونا بالريبة وعدم التصديق نفخ متحديا وقال: من الغباء أن نعتذر عن الحب!
فسألته بمرارة: من الذي أرسل الخطاب إلى النيابة؟
انخلع قلبه فزعا. لم يتوقع أن يجرد من ثيابه بجذبة واحدة. أدرك ما تعنيه ولم يكن نسي شيئا، ولكنه تساءل متجاهلا: أي خطاب؟ - أنت تعرف قصدي، وجهك يشهد بذلك. - ماذا تقصدين؟ - أنت الذي أرسل الخطاب. - إنك لمجنونة. - ولكنه الحق. - إنه الوهم، ثم أنسيت أنه اعترف قبل وصول الخطاب؟
فقالت ببرود: ولكن الخطاب كتب وأرسل. - تحقيق سخيف لا يقوم على أساس.
فقالت بهدوء: الزواج الذي تقترحه يعني التمادي في الإجرام، منك ومني أيضا.
فقال بعنف: المسألة أنك لا تحبينني! - هذا صدق أيضا، أنا لم أحب في حياتي سوى حمدون. - ولكنك لن تتزوجي من ذلك الرجل. - هذا شأني، ولا خيار لي.
فقال بغضب: سأمنعك.
فقالت وهي ترفع منكبيها، ثم مضت وهي تقول: أستودعك الله.
21
ذهبت بدرية. توقف العمل. أطفئت الأنوار. لم يعد صوت يجلجل بخير أو بشر. تقوض عالم الخيال. تبخر سحره. ران الأسى على كل قلب. لن يراها وهي تمرح في طيلسان الجارية. لن يسعد بابتسامة الثغر، ولا بعذوبة الصوت. نظرة متحجرة رافضة آخر ما أهدته. وداع الآثم الضنين بالدموع. إذا هلت طلعتها فهي خيال المحروم. كتب على جوانحه أن تتعذب بالحنين العقيم، أن يتذوق الألم كتمزز المخمور، أن ينادي الغيب ليصد عنه سخريات الغيب. ملعون يوم رأيتك، ملعون يوم رجعت إليك، ويوم ماكر شرير يوم لمحتك في الكتاب؛ حين قدر البؤس على الوجيه المدلل، حين تواثبت العصافير فوق الغصون محذرة. ومضت عين بحماقتها تكفر عن حماقات البشر. وتلقى من الحصن العتيق ثورة، ولكن بقلب طفل غرير. وشهد المجاذيب والمساطيل بجمالك يا بدرية. وها هو ذا ضغط الحياة لا يسمح للمحزون بأن ينعم بالحزن. مضى يصفي عمله ويتخلى عن رجاله بألم بالغ. لم يبق معه من ماضيه القريب إلا فرج يا مسهل، وحتى هذا قال له: آن لك أن ترجع إلى دارك العامرة.
كيف يرجع بالخيبة والجريمة والحب الضائع ؟ قال: فات الأوان. - مكانك هناك، ستجدني في خدمتك، لقد خلقت للوجاهة والعز. - تريد أن ترجعني إلى البطالة والغم. - بل إلى الوجاهة والزواج ثم الحج إلى بيت الله!
فقال باسما: إني الآن في زمن العذاب، في عمر قادم سأعمل بما يناسبه، أليس عندك رأي آخر؟
سرعان ما تحول الرجل من أقصى طرف إلى أقصى طرف، سأله: هل عندك مال موفور؟ - نعم. - عظيم، حول المسرح إلى ملهى ليلي؛ فهذا زمن الملاهي! - ألك خبرة بذلك يا مسهل؟ - الحمد لله، سيبقى المسرح كما هو، تتغير الصالة، البوفيه يكبر، أما البنات وخلافه فدع أمرها لي.
أدرك أنه يغوص في أعماق مظلمة. لم يفزع ولم يتردد. ألقى بنفسه في تيار الاستهتار وكأنما ينتقم من عدو مجهول، وراح يا مسهل في تفكير عميق وهو يقول: ربحه مضمون. •••
انهمك في تحويل المسرح إلى ملهى ليلي. جاء البناءون والنجارون. جرى الاتفاق مع الفتيات والجرسونات والعازفين. مثل الإدارة خير تمثيل ببدانته المتزايدة وحزمه المكتسب، وانتقل من شقة حدائق شبرا إلى شقة بشارع دوبريه نفسه، وزود نفسه بما تشتهيه من طعام وشراب ومخدر ونساء. صمم على نسيان بدرية كما نسي عين من قبل، وأن ينسى كذلك جريمته، وجعل يقول لنفسه إنه ما فعل إلا أن أرشد العدالة إلى قاتل، ورغم ذلك فإنه لم يستطع أن يبدد سحب الكآبة ولا أن يسكت صوت النكد الخفي. •••
وعلى فترات متباعدة من الزمن تجيئه أخبار الحارة فتثيره وتنعشه، يجد فيها جديدا وسط لياليه المفعمة باللهو والطرب والرقص والعجائب. أمه تطعن في السن، ولكنها لا تفقد حيويتها ونشاطها الدءوب على الخير. تمضي متوكئة على المظلة أو ناشرة إياها من درب إلى درب، ومن بيت إلى بيت، وقد أضفى الخيال عليها بركة وقداسة، وسلم أخيرا بالإعجاب بها بلا حدود؛ فالعمر الطويل الذي يتحدى الزمن بنشاطه وقدراته مما يستحق الإعجاب والتقدير. إنها مصممة على الخلود والشباب. وسيدة أصبحت وكأنها صاحبة الدار وبخاصة بعد وفاة أمها. أما سمير فإنه يشق طريقه بنجاح خليق بأن يكفر عن سقوط أبيه، وها هو ذا يتأهب لدخول مدرسة الهندسة، وكما يخلق من ظهر العالم فاسد يخلق من ظهر الفاسد عالم.
وربما تساءل أحيانا عما جرى لبدرية. وقد تكفل الزمن بإعدام حبه هذه المرة حتى الموت وليس كالمرة الأولى. إنه يدرك الآن أن كل شيء يموت، وأن ما يلزمنا حقا هو شيء من الصبر عند الملمات. لعلها اليوم أم محجوبة وراء الأستار أو لعلها أرمل أو لعلها مطلقة وشريدة. ماذا يهم؟ ما هي إلا مجرمة؛ هي قاتلة يوسف راضي، هي دافعته إلى الخيانة، هي مرسلة حمدون إلى التأبيدة. ماذا بقي من جمالها؟ أي شيء هذا الجمال الذي يعيش بضع سنين؟ ولكن كتب على الإنسان أن يتعذب بلا سبب، ولولا الطعام والشراب والمخدر لفسدت الأرض. •••
وتمر أعوام أيضا. تتراكم أرباحه، تزداد بدانته، ترمقه الأعين بالحسد، يجد في الهروب من الألم والكآبة. آمن بأن السعادة هي التخفيف من الألم المحتوم، وأن الإنسان يتألم لسبب؛ فإذا لم يجد السبب تألم أوتوماتيكيا. وذلك الملل الخفي الذي يتبعه كما يتبع الصوت عجلة العربة بلا تحديد لمصدره. أما أسعد الأوقات حقا فهي وقت النوم العميق. وإنه ليرنو إلى الضاحكين بارتياب حتى خيل إليه أن ملهاه الليلي ما هو إلا بؤرة للمجانين والتعساء. ترى هل تنتهي هذه الحياة بخراب فناء شامل؟! وعجب كيف أنه لا يعرف في دنياه من يأنس إليه إلا فرج يا مسهل.
وأيقظه أرق في الهزيع الأخير من الليل. جاش صدره بالعواطف الحزينة الغامضة. قرر فجأة أن يستدعي ابنه ليراه.
22
انتظر في شقته الأنيقة ضحى يوم الجمعة. لم يتصور أن يتخلف عن الحضور، وحتى لو وقع المحذور فليتحمل ما جنت يداه.
عزيزي سمير ...
لا تدهش. كاتب الخطاب هو أبوك. سوف تتساءل: أبعد ذلك العمر؟ لكنك لم تعرف أعماق حياتي حتى يحق لك الحكم علي. أبوك يدعوك إلى مسكنه (عمارة 3، شارع دوبريه، شقة 14)، صباح الجمعة القادم (14 مارس). ما كان يجوز أن نفترق ذلك الزمن الطويل ونحن في مدينة واحدة. الأسباب كثيرة، ولعلك سمعت الكثير ولكنك لا تعرف كل شيء . إني والدك على أي حال. من الواجب أن نتعارف. سيسعدني جدا أن أقابلك.
عزت عبد الباقي
لن تمنعه من الزيارة أمه ولا جدته. ارتدى البيجاما والروب، حلق ذقنه بعناية، سوى شاربه، مشط شعره، تطيب، انتظر. وفي الساعة العاشرة دق جرس الباب. انتقل الرنين إلى قلبه، هرع بجسمه البدين إلى الباب. فتح، رأى شابا لم يشك لحظة في هويته، خفق قلبه كما لم يخفق من قبل، فتح ذراعيه. أخيرا تلاقى الأب والابن وتعانقا ... مضى به إلى حجرة الجلوس. جلسا على فوتيلين متقابلين وراء باب الشرفة المغلق، بينهما خوان عليه طبق سمح متعدد الثغرات، مليء بالفواكه والنقل والشيكولاتة ودورق ماء وقارورة اسباتس وقدح ذي حامل فضي. راحا يتبادلان النظر في اهتمام وانفعال وعلى شفتي كل منهما ابتسامة متألقة ترتعش في شيء من الارتباك. سره أن يراه رشيق القامة مع ميل إلى الطول، وأن يرث عيني «عين» الجميلتين وأنفها الطويل السامق وجبينها المرتفع. يا له من شاب مليح عامر بالحيوية والذكاء!
وقرر إنهاء الصمت فقال: إني سعيد جدا برؤياك.
فأجاب بصوت ذكره بصوت سيدة: وإني لأسعد يا أبي.
وهو يضحك: لا شك أنك تعرف عني أشياء، لعلها غير سارة، أنا أيضا أعرف عنك الكثير، عندي من يوافيني بالأخبار، ومن ذلك تدرك أنني لم أتناس الأهل والمكان، ولكن لندع جانبا ما يعكر الصفو، ولندافع عن سعادتنا المشتركة ما أمكن. - خير ما نفعل. - أنت طالب في الهندسة؟ - أجل. - وناجح في دراستك فيما بلغني؟ - أملي كبير في بعثة إلى الخارج.
فأشار إلى الخوان يدعوه إلى تناول شيء، وقال: هائل! أبوك لم يحب الدراسة ولم يوفق فيها، وتسليتي في قراءة قصص الجريمة، لكن الزمن يجيء دائما بالأحسن، كل واشرب ثم حدثني عن حياتك.
فقال وهو يصب الاسباتس في القدح: دراستي هي شغلي الشاغل، في العطلة أمارس الرياضة والمطالعة. - لا تلمني إذا لم أسألك عن أمي أو أمك؛ فإني أعرف عنهما كل شيء. ماذا تطالع؟ - موضوعات شتى ... سياسة ... أدب ... دين ... وأحب السينما كذلك.
وهو يضحك مرة أخرى: والمسرح ؟
فعصر عينيه من الدموع التي بعثتها الغازوزة متجاهلا السؤال، فقال عزت: لذلك أفلست المسارح. وهل تهتم بالسياسة؟ - الجيل كله يهتم بها.
فغشيت عينيه نظرة جادة وتمتم: للسياسة مآسيها! - أحيانا.
فقال عزت معاودا المرح: لن أنصحك بشيء، أتدري لماذا؟ لأنني ما عملت بنصيحة أحد!
فقال سمير بحبور غمره من خلال ألفة متزايدة: طالما تشوقت لرؤياك. - ولم لم تشبع أشواقك؟ - خيل إلي أنك لا تهتم برؤيتي! - تخيل خاطئ مائة في المائة، ولكنك لا تعرف كل شيء.
وقدم له برتقالة ثم سأله: لم يكن لي أصدقاء كثيرون. وأنت؟ - لي كثيرون منهم، في الحارة والمدرسة. - ولا شك أن علاقتك بأمك وجدتك جميلة؟ - على خير ما يرام. - أيهما أحب إليك؟
فابتسم وقال: الأم هي الأم، ولكن سحر جدتي لا يقاوم! - إنها العجيبة الثامنة في الدنيا. - كيف هان عليك أن تهجرها ذاك العمر كله؟
وقال لنفسه: إن ابنه لم يعرف الضجر ولا الألم بعد، وإذا به يقتحمه متسائلا: هلا حدثتني عن حياتك العاطفية؟
فارتبك سمير وبدا عليه أنه لم يفهم، فرحمه أبوه وسأله: يهمني أن أعرف؛ أأنت سعيد؟ - أعتقد ذلك. - في ذلك الكفاية، أرجو أن تكون سعيدا حقا. - أعتقد ذلك. - عظيم، استمتع بوقتك؛ فالحياة لا تبقى على حال.
فتفكر الشاب مليا، ثم سأله: وكيف حالك أنت يا أبي؟ - ناجح والحمد لله. - أعني أأنت سعيد؟
فضحك عزت عاليا وقال: أعتقد ذلك! - لدي سؤال ولكني أهاب طرحه. - صارحني بما تشاء. - أأنت متزوج؟ - ماذا يقولون هناك؟ - يقولون إنك متزوج. - ومن الزوجة التي زعموا؟ - بدرية المناويشي!
فضحك عزت مداراة لانفعاله وقال: أتزوج من امرأة الصديق السجين؟! ... هل تصورت أن أباك يرتكب فعلا خسيسا كهذا؟
فقال سمير مرتبكا: ربما كانت الشهامة لا الخسة هي ...
فقاطعه قائلا: أبوك لم يتزوج ولم يفكر في الزواج.
ثم وهو يعاود الابتسام: وماذا تعرف عن عمل أبيك؟ - صاحب ملهى ليلي. - ترى ما رأيهم في ذلك؟
فقال سمير ضاحكا: إنك أدرى بأهل حارتنا! - وأدرى بجدتك أيضا. - ولكنها تحبك دائما، لا يمكن أن تتصور كيف كانت فرحتها بخطابك ! - وأنت يا سمير، صارحني برأيك في عملي. - إنه عمل شريف يا أبي. - لعلها إجابة مدرسية! - ولكنها صادقة. - ألا يسيئك أن يعلم بها زملاؤك؟ - إنهم يعرفون! - أنت ولد شجاع! - بل أنت الشجاع يا أبي. - حقا؟! - تفعل ما تشاء دون اكتراث لآراء الناس!
وتبادلا نظرة باسمة وغامضة، وتساءل عزت: ترى ألم يكن يفضل أن يجد أباه أقل بدانة وأنظف عملا؟! وشعر بأنه ما زال عند أول درجة من درجات التعارف، وأن الكلفة لم ترفع بعد بينهما. قال: لا يجوز بعد اليوم أن تغيب عني طويلا، سأنتظرك كل جمعة.
فقال سمير معتذرا: أعدك بذلك، ولكن بدءا من العطلة الصيفية.
تلقى أول خيبة، ولكنه قال: أجل، الامتحان يقترب، فليكن. وعلى فكرة لقد أعددت لك غداء طيبا!
23
بدخول سمير في حياته تغير تركيبها بعض الشيء. على أي حال لم تعد كما كانت، وتوثقت العلاقة بينهما في الصيف فتحولت إلى معاشرة على مستوى رفيع. فاز بسعادة صافية يوم الجمعة، وأغدقت عليه ذكريات عذبة بقية الأسبوع، ومنه عرف أنه يحب طالبة بكلية العلوم تدعى رجاء، وأنه سيعلن خطبته فور انتهائه من الدراسة، فسعد عزت بالخبر. رحب بالحب الموفق، واعتبر نفسه مشاركا فيه على نحو ما. هنأ ابنه على التوفيق الذي حرم منه طيلة عمره. ترى كيف كانت تكون حياته لو تزوج من بدرية يوم رغب في ذلك؟ أي حياة نظيفة ومستقرة أفلتت من كليهما؟! ترى ألا تخطر لها مثل هذه الخواطر أحيانا؟ أما الذي أزعجه حقا فهو اهتمام ابنه الواضح بالسياسة. أصبحت السياسة مقرونة في ذهنه بالخيانة والجريمة والضياع. قال له مرة: السياسة شديدة الخطورة يا سمير. - ألا تشغل بالك أبدا؟ - كلا. - وتظن أنه لذلك توفرت لك السعادة؟
خطف منه نظرة؛ فقد حسبه يسخر منه، ولكنه وجده جادا بريئا. قال متهربا: لقد قضت السياسة على صديقي الوحيد في هذه الدنيا. - حمدون عجرمة؟ - أجل، أسمعت عن جماعة أبناء الغد؟ - طبعا. - إنها لمأساة حقا.
فقال سمير باسما: ومأساة أيضا ألا نهتم بالسياسة. - كان يردد ذلك، ألا يكفيك أن تكون مهندسا ورب أسرة؟ - لا هندسة ولا أسرة بلا سياسة! - مرحى ... مرحى ... يوجد ما هو أهم. - حقا؟ - يطيب لي في أوقات فراغي النادرة أن أتساءل عن معنى حياتنا! - ولكن السياسة تعطيك الجواب!
فضحك عزت عاليا، وقال: لا فائدة، ولكن معذرة؛ فقد أصبحت من رجال الماضي! - ما زلت شابا!
ابتسم عزت بمرارة. ابنه لا يدري ماذا يقول. لا يرى هذا الكرش، ولا هذه التجاعيد المبكرة تحت عينين أضناهما السهر والشراب والمخدر، ولم يعرف شيئا عن الخطاب الغفل من الإمضاء، ولا عن احتقار المطلقة المهجورة له وإيثارها لحيوان طاعن في السن. وعاد يسأله: وما الهدف من السياسة؟
فأجاب بعد تفكير: هو هدف كل إنسان؛ السعادة! - ولكن للسعادة سبلا أسهل وأقل خطورة. - لا أظن، نادرا ما يحقق إنسان ذاته وسعادته مثلك!
فقال بحدة غير متوقعة: لا تضرب بي المثل من فضلك!
وتذكر أمه في إصرارها الأبدي وجولاتها الخالدة، فقال: إن الولد سر جدته، كلاهما مصاب بجنون واحد، ولكنه فريد من نوعه. أما حياته هو فهي السعي الدائب نحو سعادة لا تريد أن تتحقق، وقد وهب الصحة والمال والنجاح والمرأة ويعيش مطاردا بقوة ماكرة خفية. وقال بنبرة جديدة مستسلما: أتدري يا بني، يبدو أن أكبر خطأ نرتكبه في حياتنا هو الاعتقاد بأن الهدف هو السعادة.
فسأله سمير ببراءة: فما البديل؟
فقال في حيرة وهو يضحك: لا أدري. - ولكنك خبرت الناس والحياة. - لا أرى في الملهى إلا السفهاء والمجانين.
فضحك سمير في حبور، فاستطرد عزت: لعل النقص يكمن في أننا نمر بفترة انتقال. - أجل، إن وطننا.
ولكنه قاطعه قائلا: أعني الإنسان، إنه قادر على إدراك تعاسته. - الأمر سهل، ما علينا إلا أن نزيل أسباب الشقاء!
فارتفع صوته وهو يقول: صديقي حمدون فقد حياته وهو يفعل ذلك. - إن التضحية ... حسن، لا بد أنك تسلم بقيمة التضحية؟
فأجاب ضاحكا: كلا، إنها حماقة لا يبررها إلا الجنون.
ولما انفرد بنفسه عقب ذهاب سمير قال: «آه لو أجد الشجاعة للاعتراف بخطيئتي!»
24
تخرج سمير مهندسا. أعلنت خطبته على رجاء. اختير لبعثة مدتها عامان في إنجلترا. دعا عزت ابنه وخطيبته للاحتفال بهما في شقته. أعجبته الفتاة. غزاه جو الخطبة حتى الأعماق، حن فجأة إلى حياة زوجية مستقرة. وجد في حنينه المباغت فكرة جديدة ماكرة، ولكنها قوية آسرة، لكن أي عروس تناسب رجلا في سنه؟ إن نفسه تعاف النساء اللاتي يزرن شقته من آن لآن. يريد أن يرفع النقاب الأبيض عن وجه بريء في ميعة الشباب. لعل ذلك آخر ما ينتظره من سلسلة المغامرات الجنونية. وهبط عليه الإلهام الذي يسبق الإقدام. إنه يتذكره وهو به خبير، غير أن ينابيعه جفت وهو يودع سمير. قبله وهو يقول: ليس من اليسير أن أصبر عامين.
وخلت دنياه من الكائنات والحياة، كما خلت يوم اختفاء بدرية، ومن عجب أنه توثب رغم ذلك لتحقيق حلم الزواج الطارئ. •••
يقول الراوي:
إن الحوادث لم تمهله، كعادتها معه دائما. تجيء إذا جاءت منقضة كأنما لتفرغ من مهمتها في أقصر وقت؛ فذات صباح جذب بصره هذا العنوان في الجريدة: «القبض على فرع لجماعة إخوان الغد». ولأسباب تاريخية ليس إلا ... سرت في بدنه رعدة شديدة، واجتاحه شعور بالتشاؤم عميق، وقرأ التفصيلات باهتمام مركز لا يتفق وما عرف عنه من لامبالاة إزاء ذلك النوع من الأخبار. إنه يتابع الأخبار هذه المرة وكأنما هو عضو في هذه الجماعة المخيفة، وكأن من قبض عليهم من الشبان أقرانه، وما ضبط من منشورات هو شريك في تحريرها وطبعها وتوزيعها. ونشر خبر القبض على الفرع باعتباره أول نصر يحققه جهاز الأمن في ذلك المجال، وأنه الخيط الذي سيؤدي حتما إلى أوكار الجماعة حيثما وجدت. ومضى يهش الذكريات المعتمة عن خياله المريض، ويلعن الضعف الذي اعتور أعصابه، ولكنه تابع الأخبار يوما بعد يوم حتى صدر البيان الرسمي عن الموضوع. لقد قبض على الكثيرين، والمطاردة جادة في إدراك الهاربين. وإذا بالبيان يشير إلى حقيقة جديدة ما إن اطلع عليها حتى تردى قلبه في هاوية ... بل ندت عنه صرخة مدوية في شقته الخالية. ثمة كلام عن سمير عزت عبد الباقي، عضو البعثة الهندسية بإنجلترا، الذي هرب من إنجلترا في اللحظة المناسبة إلى مكان مجهول. راح يتمشى مهرولا بجسمه البدين ويتساءل في ذهول: سمير عضو في جمعية أبناء الغد؟! سمير هرب إلى مكان مجهول؟! هل يختفي سمير إلى الأبد؟! هل يلتهمه الضياع والتشرد في الغربة؟ ها أنت ذا تنتقم مني يا حمدون عجرمة. إني خبير بهذه الألاعيب القاتلة التي تصادفنا ونحن نجد في سبيل السعادة! عزت وسيدة وعين ينصهرون في بوتقة تعاسة واحدة. يا لها من ألاعيب قاسية مجنونة يحركها شيطان ساخر ... وشرق بالدمع فجفف عينيه بالمنديل الحريري المطرز ركنه بالحرفين الأولين من اسمه. وقال له فرج يا مسهل معزيا: حظه على أي حال أسعد من الذين قبض عليهم. - لا أدري ... إني واثق من شيء واحد فقط، وهو أنني لن أراه مرة أخرى في هذه الحياة.
فقال الرجل بتسليم: لا يعلم الغيب إلا الله ... هلا زرت الست الكبيرة؟
خطر له هذا وهو غارق في حزنه ... أن يزور عين وسيدة ... ولكنه سرعان ما نبذ الفكرة في غضب ونفور. ليس الوقت بالمناسب للتمثيل والحركات البهلوانية. إنه يعلم الآن بما قدر عليه؛ أن يقلع عن أحلام السعادة السخيفة، أن يتسول رؤية لن تتحقق، أن ينفذ حكما بالأشغال الشاقة المؤبدة وهو قائم بين السكارى وطلاب اللذة. •••
وزحف عليه تعب من نوع جديد شمل الرأس والأعضاء، وعانى من صداع لم يعرفه من قبل. ربما كانت الفائدة الوحيدة لذاك الألم الوحشي أنه أجبره - ولو إلى حين - على تناسي أزمته الأبوية، وألا يفكر في شيء سواه. ولأول مرة يقصد عيادة طبيب، واكتشف أنه يعاني من ارتفاع كبير جدا في ضغط الدم. وعملا بمشورة الطبيب وافق على دخول مستشفى الجمعية الخيرية الإسلامية ليظفر برعاية متصلة حتى يزول الخطر. وهدف العلاج إلى تخفيض الضغط وإنقاص وزنه عشرين كيلو على الأقل. وأشرف فرج يا مسهل على الملهى، وكان يزوره باستمرار، وكان يقول له: دعني أخبر الست عين.
جعله هذا الاقتراح يستشعر الخطورة ويفكر في الموت. تخيل عين جالسة مكان فرج يا مسهل. كلا إنها لن تفارق الفراش. سينهال عليه سيل فياض بالدعوات المباركات والآيات الشريفة. ستقول له: آن لك أن تغير حياتك، ستقول له أيضا إني أعرف سر هذا الشقاء كله. ورغم حنينه الطارئ المستفحل بالرقاد والتفكير في الموت فإنه لم يستسلم.
قال: لا تخبر أحدا، لا عين ولا أحدا في الملهى. - ترى ذلك؟ - نعم ... نفذ بكل دقة ... لا عين ولا أي راقصة ولا أي قواد!
وأخذ يتلقى التحذيرات عن البدانة والطعام والشراب، تهاوت الحصون التي يحتمي بها من الحياة وأطوارها الغريبة، يجردونه من أسلحته، ويتحالف المرض مع العقوبات المفروضة. ومن عجب أن رأى في نومه قطط الست عين في الحديقة، ورأى بينها بركة بهدوئها الشامخ، وتهلل لذلك سرورا، وظن أنه سيفاجئ عين بالخبر السعيد، وهو أن بركة حية، لم تمت كما توهمت، وأنه ما كان يجدر بها أن تبكي. واستيقظ ليلتها عند الفجر بقلب ثقيل بخلاف المتوقع، كمن يرجع من رحلة طويلة عقيمة، فخطر له أن الدنيا قطة وأنها تأكل صغارها، وقال بصوت مسموع في سكون الليل: إذا كان شارع دوبريه والإليزيه سجنا، فالحارة ليست إلا زنزانة! •••
وغادر المستشفى نحيلا هزيلا، ولكن سليما. تهدلت ملابسه الداخلية والخارجية، وتبدى العالم متغير اللون، باردا، لا يحيي ولا يرد تحية. ورجع للتفكير في سمير، ولكن من خلال استسلام شامل. وحرص على الحياة رغم كل شيء، فاحترم الرجيم والدواء ومواعيد التردد على العيادة، وهجر الكأس، ولكنه لم يهجر الجوزة.
وأعاد تفصيل ملابسه. رجع رشيقا كما بدأ. انتشر المشيب في رأسه وحاجبيه وشاربه. بدا كهلا وقورا، يتنافر وقاره مع بيئته وعمله. وكلما تذكر أنه جاوز الخمسين يدهش، لا يصدق، يستحضر مناظر خالدة في خميلة الياسمين أو كتاب الشيخ العزيزي أو تمثيل مسرحية روميو وجولييت في الحارة. كان يظن أن ذلك يحدث للغير فقط؛ فالظاهر أن التاريخ صادق فيما يؤكد من مرور أقوام في القديم وذهابهم. وحتى متى نسلم بذلك ونذعن له؟ ولكن شكرا للعادة؛ فقد قتلت كل حزن وكل فرح. ولعله من الخير أن نترك الدنيا بعد أن نضيق بها مللا. •••
وماذا عن الحارة؟
إن المخبر مستمر في رواية الحكايات. ما زالت سيدة منطوية في الدار، منطوية على أحزانها. ما زالت عين مصرة على نشاطها، لكن هيهات؛ لم تعد تخرج إلا مرة واحدة في الأسبوع كتمثال للشيخوخة الخالدة، وتسير إذا سارت بصحبة خادمة. ترى ماذا بقي من الذاكرة والإرادة والذكاء؟ وأي الحزنين أشد عليها؛ حزنها على عزت أم حزنها على سمير؟ وما رأي إيمانها الراسخ في هذه الأحوال الغريبة؟ هل لقي الموت مقاومة أشد مما لقي على يدي عين؟!
25
يقول الراوي:
إن عزت عبد الباقي لم يتوقع جديدا إلا أن يكون إنزال الستار وإطفاء الأنوار، ولكن فرج يا مسهل زاره في شقته ذات صباح من أيام الخريف، وقال له: عرفت خبرا غريبا، لعله يهمك أنت أكثر من جميع الناس.
فقال عزت ساخرا: لك الملهى وما فيه إن استطعت أن تشعل اهتمامي! - لكنه خبر يحكى على أي حال. - ما هو؟ - بدرية المناويشي، نجمة مسرحك القديم.
من أي صمت يخرج هذا الاسم؛ نجمة مسرحك القديم؟! لم يحدث أي رد فعل. نجمة يتهادى ضوءها إليه من خلال أعوام طويلة طويلة، وكالنجوم تشكل ذكرى متألقة وحاضرا مجهولا. أي معنى للخبر؟ لا معنى على الإطلاق ولا أهمية. تساءل بفتور: ماتت؟
فضحك يا مسهل وقال: كلا، يقال إنها ترملت منذ عامين أو نحو ذلك، وإنها ورثت مالا سائلا لا بأس به، ولكن أتدري كيف استثمرته؟ - كيف؟ - أسمعت عن ملهى زهرة النيل الليلي؟! - هو ملهى في عوامة فيما أعلم. - بدرية صاحبته ومديرته!
ابتسم ابتسامة بلهاء، تمتم: مدهش! - ربما تكون قد حنت إلى أصلها أو قريب منه. - أو أنها خافت الوحدة والكهولة. - الأرجح أنها اختارته لضمان الربح.
وضحك عزت. عزت صاحب ملهى الإليزيه، وبدرية صاحبة ملهى زهرة النيل! •••
بدافع الفضول، بدافع الضجر، قرر أن يسهر ليلة في زهرة النيل. قال لنفسه عرفت الآن لم يرغب الناس في زيارة الآثار. استعد بحمام فاتر، بدلة أنيقة، حلق ذقنه وسوى شاربه وشعره، مضى إلى زهرة النيل. أعمارنا متماثلة ... حمدون وأنا وبدرية وسيدة، وكل أخذ نصيبه بالعدل. من المسئول عن تعاسة الجميع؟ أنا ... حمدون؟ ... بدرية؟ ... سيدة؟ ... أما كان يجب أن نحاكم؟!
والعوامة معدة على هيئة صالة بالغة الأناقة مرتفعة الأسعار، تشهد لمن أسسها بالذوق الجميل والبراعة في الخيال. اتخذ مجلسه وراحت عيناه تجوسان في الأركان والصفوف والمسرح، إن صح ظنه فحجرة الإدارة تقع فوق السطح، ويصل إليها بهذا السلم الحلزوني المفروش بالبساط الأحمر. طلب زجاجة شمبانيا. كان الوحيد المنفرد بنفسه. لماذا جاء؟ ولماذا لا يجيء؟ وغنى شاب بطريقة الإفرنجوآراب. تلاه مونولوجست ثم راقصة. هل تمضي الليلة دون ظهور بدرية؟! كان ينظر من آن لآن إلى السلم الحلزوني. انتبه على طقة حذاء. أخذ الجسم يظهر رويدا فوق السلم الحلزوني من أسفل إلى أعلى حتى استوى عند رأس الصالة؛ بدرية المناويشي، وقفت تراقب وتلاحظ، مديرة بمعنى الكلمة، فراح يتفحصها. كان يتوقع تغيرا، ولكن غير هذا التغير الماثل. بدينة مثل امرأة عمدة، ريانة الوجه بدرجة تدعو للنفور. جف الماء العذب وانطفأ التألق. في مثل عمرها، يحتفظ نساء بآثار جمال، ولكنها لم تحتفظ بشيء. ثم ما معنى هذه النظرة في العينين المكحولتين؟ ليست طبيعية، مريضة؟ مهزوزة الأعصاب؟ فاقدة الذاكرة؟ حكاية تاريخ طويل تعيس! مرت به عيناها فلم تقف عنده. من الأفضل أن يتجاهلها وأن يتحاشاها، ولكن ها هي ذي تتهادى في الممشى الجانبي، ورغما عنه لم يهرب منها بعينيه. لقد جاء وعليه أن يتحمل المسئولية. لم يعد يفصلها عنه إلا متر، تلاقت العينان، ابتسم اضطرارا. وقفت مبهوتة لا تصدق عينيها. وقع المقدور. زحزح كرسيه ووقف. همست: يا ألطاف الله!
مد يده فتصافحا. أشار إلى الكرسي الخالي هامسا بدوره: تفضلي.
فجلست وهي تتمتم: يا حسين مدد!
فضحك عزت متسائلا: أطلب لك كأسا؟ - كلا ... نسيت عادتها ... وأنت لم تشرب بعد؟ - ولن أشرب، ولكن بسبب المرض. - سلامتك ... ليست صحتي على ما يرام أيضا ... ولكني لم أتوقع أن أراك قط. الظاهر أنه مكتوب على الأحياء أن يتلاقوا.
انقبض قلبه، تذكر المطارد الغائب، تمتم: ليس دائما. - ماذا جاء بك إلى ملاهي الشباب؟
فقال دون مبالاة: جئت لأراك! - كيف عرفت؟ - أهل الخير كثيرون. - دهشت طبعا، ولكن يوجد أكثر من سبب، وأنت ماذا تعمل؟
فقال وهو يضحك: صاحب ملهى الإليزيه.
فضحكت ضحكة عالية غير مبالية بالرواد! فقال: تحويل مسرح إلى ملهى ليس بالمسافة الطويلة، ولكن أنت؟! - أسباب كثيرة منها حلم سخيف بأن أقدم مسرحيات قصيرة وأمثلها. - جميل أن يعاودك الحنين إلى التمثيل بعد ذلك العمر الطويل. - مجرد حلم سخيف. - وكيف كانت حياتك الماضية؛ أعني منذ فارقتنا؟
فقالت مقطبة: غاية في التعاسة، بين زوج لا رجاء فيه، وكراهية أبنائه وأهله لي! وأنت متزوج طبعا؟! - كلا، كما تركتني. - أخطأت يا عجوز. - حياتنا مليئة بالأخطاء! - صدقت، تسليتي أن أراقب المجانين من عشاق الملهى. - إنهم مضجرون في النهاية. - ولكن لا حياة لنا بدونهم. كيف حال ابنك؟
أجاب وهو يخفي انفعاله: عال ... مهندس قد الدنيا. - برافو ... هذا أهم شيء في الدنيا. - ليس في الدنيا شيء مهم!
وهي تتنهد: أتتذكر أيام الحارة؟ - تجدينها الآن سعيدة؟ - أجل ... وأيام المسرح الناجحة ... وحبي القديم ... وأمي وهي تخلل الليمون. ترى أما زالت المرأة على قيد الحياة؟! ... على فكرة ما أخبار ست عين؟ - بخير. - برافو! ... ليتني أزورها ذات يوم ... وأنت مقيم في دارها؟ - لم أرها منذ فارقت الحارة. - يا خبر! يا ويلنا من أمنا في يوم القيامة!
فقال ببرود: اختلفت الطرق. - طبعا، من الفن الخائب إلى الملاهي الليلية، نحن نمت إلى طبيعة واحدة، وقد تخلصنا في الوقت المناسب من العضو الصالح!
فقال بامتعاض: هو الذي تخلص منا. - سيخرج قريبا إذا لم يكن قد خرج. ترى متى يخرج؟ - لم أعد أذكر شيئا. - ألا تتوقع أن تراه؟ - لا أظن، وأنت؟ - لا أهمية لذلك، ولكن ما الذي جاء بك إلى هنا؟ - قلت كي أراك. - أجل، أما زلت تذكر حبك القديم؟
فابتسم ولم يجب. فقالت بحدة: الحب كذبة وضيعة، لئيم مخادع، يخيل إلي أنني لم أحب إلا المسرح. - حقا؟! ... رغم أنه جاءك عرضا؟ - لكنني أحببته، لم أتخل عن حبه، في أيام الزوجية التعيسة كنت أتعزى بالانفراد بنفسي وترديد بعض الأدوار. - تعزية مبتكرة.
وهي تضحك بقحة: لقد كنت وغدا، وكان حمدون بطلا، ثم ماذا كانت النتيجة؟!
فقال بحدة لم يستطع تهذيبها: وكنت الشيطان وراءنا! - لو تزوجني الشيطان لكان التوفيق نصيبنا؛ فهو خير من أمثالكم من الرجال.
فما تمالك أن ضحك وزايله التوتر. تساءلت: لم لم تنشأ على مثال أمك الكريمة؟ - أمي مثال لا يتكرر.
فضحكت ضحكة غجرية دون مناسبة، وقالت: ليست أمك وحدها بالمثال النادر، اسمعني جيدا واحكم بنفسك.
هزت رأسها المصبوع برشاقة، ثم راحت تقول في أناة وتجويد وبصوت منخفض: أيها الأصدقاء، أيها الرومانيون، أيها المواطنون، أعيروني أسماعكم، «إني جئت لكي أدفن قيصر لا لكي أشيد بذكره».
فابتسم كالحالم وتمتم: جميل!
فانتفخت بتشجيعه وواصلت بصوت ارتفع درجة عن سابقه: «إن ما يفعل الناس من شر يعيش بعدهم، أما الخير فغالبا ما يطمر مع عظامهم.»
التفت الجالسون حول المائدة القريبة نحو الصوت وعلت الابتسامة وجوههم، شعر عزت بشيء من الحرج، غير أنه همس وكأنما ليغريها بالرجوع إلى الهمس: كل شيء سيطمر مع العظام.
لم تنتبه لقوله، سكرت بنشوة الفن والذكرى، اجتاحتها موجة تمرد واستهتار، جلجل صوتها في جناح الملهى وهي تنشد: «جئت أتكلم في مأتم قيصر، كان صديقي، وكان وفيا لي، منصفا معي، لكن بروتس يقول إنه كان طماعا وبروتس رجل شريف.»
أحدقت بمائدته الأعين، واشرأبت الأعناق من الجناح الآخر، انتقل المسرح الحقيقي إلى ركنه، التهب جبينه ارتباكا وحياء، قال برجاء: فلنذهب إلى حجرة الإدارة!
لكنها كانت قد جاوزت الزمان والمكان، وقفت بهيئتها الداعية للرثاء وقفة شموخ وتحد، وهتفت بصوت هز القلوب والأركان: «حتى الأمس كانت كلمة قيصر قادرة على أن تصد العالم، والآن ينطرح هناك لا تبلغ المسكنة بأحد أن يخصه بتكرمة.»
دوى المكان بالتصفيق، تصفيق الإعجاب والمجاملة والرثاء والسكر. وقال لها عزت بتوسل: حسبك.
فقالت بظفر أبله: ما علينا إلا أن نعود للمسرح.
فقال اتقاء لغضبها: سأفكر في ذلك. - معنا المال، سيرجع حمدون، ماذا ينقصنا؟! - عظيم ... عظيم ... عظيم. - تعاملني كطفلة؟! - أبدا.
بحدة وحنق: لماذا جئت؟ - يجب أن نكون أصدقاء. - إنك أسوأ ذكرى في حياتي. - الله يسامحك. - وغد جبان. - الله يسامحك يا بدرية. - اذهب ولا تعد!
وصدع بالأمر، فقام ومضى يتسلل بوجدان يشتعل. أما هي فعادت تخطب بقوة: «أيها الأصدقاء، أيها الرومانيون، أيها المواطنون، أعيروني أسماعكم، إني جئت لكي أدفن قيصر لا لكي أشيد بذكره.»
26
فر وهو يجفف عرق وجهه بمنديله. أي حماقة ساقته إلى زهرة النيل؟ لم لم يعمل بالحكمة التي تجعلنا نواري الجثث في المقابر؟ ما كان أغناه عن تلك التجربة الأليمة التي انغرزت في عظامه، ألم تكفه تجربة سمير الضائع المشرد؟ وانفرد بنفسه في حجرة الإدارة وراح يفكر في حياته.
لم تكن أول مرة، ولكنه كان مثارا لحد الإلهام. ضاق أول أمره بالفراغ، ولكنه استبدل به عملا لا يؤمن به. أليس كذلك؟ لم يكن من رجال المسرح، ولا هو من رجال الملاهي الليلية. العمل يمثل في حياتي مهربا من شيء أو طمعا في شيء أو انتقاما من شيء. أمي أول من دفعني إلى الانحراف وهي الخير الصافي. لست قادرا على فهم هذه الأمور أو هضمها. وما ينقصني حقا هو راحة البال، ما ينقصني حقا هو الرضا عن النفس. هل يوجد حقا ما يسمونه بالرضا عن النفس؟! كيف يبلغه الإنسان؟ وأين يجد الجواب عن هذا السؤال؟! وما جدوى الأسئلة وأنا مستسلم لتيار الحياة اليومية؟! وخطر له أن يسأل فرج يا مسهل وهما يدخنان معا في شقته عقب التشطيب، سأله: أأنت سعيد يا عم فرج؟
فأجاب الرجل صادقا: بفضل الله وفضلك.
أدرك أنه لم يفهم قصده، فعاد يسأله: ما أهم شيء لتوفير السعادة؟ - الصحة! - ولكنها وحدها لا تكفي. - والرزق! - ولا شيء آخر؟ - الزوجة والأولاد.
لقد ضاق بها جميعا، وفر منها إلى المجهول. ولو شاء أن يبقى ويتزوج من أخرى لفعل. كلا، الأمر أشد تعقيدا مما يتصور فرج يا مسهل. •••
ودق جرس التليفون ضحى يوم في شقته: ألو؟ - عزت عبد الباقي؟ - أنا هو ... من حضرتك؟ - أما زلت تذكر حمدون عجرمة؟
خفق قلبه مستدعيا خليطا من الانفعالات المضطربة، لكنه هتف: حمدون! - نعم. - لا أصدق ... أي فرحة ... مبارك ... مبارك ... مبارك ... أين أنت الآن؟ ... تعال بلا تردد ... إني في انتظارك. •••
كان قد مضى على تجربة زهرة النيل شهر أو شهر وأيام، وجلس ينتظر بقلب كئيب ونفس رافضة حانقا على الماضي الذي لا يريد أن يموت، وخيل إليه أنه يستمد من عذابه قوة ستغير كل شيء، وأنه سيرفض ذل الأسر المقيم.
وأقبل حمدون عجرمة.
أقبل رجلا آخر كما توقع، ولكنه فاق توقعه، لم يكد يعرفه. رآه لأول مرة أصلع، وعينه اليسرى أضيق من اليمنى، على حين وشت مشيته الواهنة ورجله اليمنى المتصلبة بشلل أصابه ذات يوم ... تجسد له إثمه القديم مكشرا بغيضا، فاستل من نفسه أي حنان كان جديرا أن يمس أوتار وجدانه. اجتاحته عاصفة في الخفاء وهما يتعانقان. استفزه ذلك إلى مزيد من التفكير في البحث عن حياة جديدة. يريد أن يذهب كما يتعطش إلى رؤية سمير، وجلس في فوتيل مقابل، في موضع ابنه المختار، وتبادلا النظر؛ هو مبتسما والآخر جامدا أو عاجزا بفيه المعوج قليلا من الابتسام. قال عزت بابتهاج: الله وحده يعلم بمدى فرحتي بلقائك.
فقال حمدون بصوت منخفض: توقعت ذلك، لست على ما يرام، ولكن يسعدني أن أراك في صحة جيدة.
فقال عزت كالمحتج: بل أصبحت بدوري أخا مرض، ليس هذا هو المهم، كلانا وراءه حكاية، وسيتيح لنا الوقت تبادل الحكايات.
فقال حمدون بهدوء وثبات: ولكنك أنجبت ابنا رائعا!
فتأثر عزت تأثرا عميقا، غطى على دهشته وتساءل: من أدراك به؟ - لا شيء يمتنع عمن وراء الأسوار. - ماذا تعلم عنه؟
فلم يزد على قوله: إنه فتى رائع. - سرعان ما فقدته.
هز رأسه نفيا ولم يعقب ... ترى هل يعرف عن سمير أكثر منه؟ واندفع ربما دون تدبر ليخرجه من تزمته فقال: آخر أخبار بدرية أنها تعمل مديرة لملهى ليلي ... «زهرة النيل».
ولكنه لم يتأثر. تساءل بلامبالاة: كيف حالها؟ - شاخت وخرفت! - نهاية طبيعية وإن جاءت قبل الأوان بقليل. - لنرجع إليك ... ما مشروعك عن المستقبل؟ - لا شيء!
رغم توقعه لذلك فقد حنق، غير أنه قال بنبرة ودية: لا تحمل هما ... ولكنك لست على ما يرام. - أصبت من أعوام بشلل نصفي، ولست آمل في تحسن أكثر مما بلغت. - يا للأسف ... ولكن الأمل موجود ... لا شك أنك متشوق للتأليف؟! - لا قدرة لي على تأليف جملة واحدة. - على أي حال لا تحمل للرزق هما.
فقال ممتنا: نعم الصديق أنت!
سرعان ما حدث تغير في صورة انفجار، بلا تمهيد ولا مناسبة ظاهرة. خرج به عن الزمان والمكان، ألقى به في جحيم فتوثب بإرادة من حديد وحطم حاجز الكذب. وقف كصاروخ، وقال بصلابة ورفض كالمجنون: إني صاحب الرسالة.
ارتسمت الدهشة على وجه حمدون وتساءل: أي رسالة؟ - رسالة الاتهام التي أرسلت إلى المحقق عقب القبض عليك!
ساد صمت كئيب ثقيل. رماه بنظرة بليدة. تساءل: أنت؟! - نعم ... وأعرف أنك اعترفت قبل وصولها، ولكنني أنا الذي أرسلتها.
ازدرد ريقه وسأله: لم؟ - خدمة للعدالة في الظاهر، ولكن لأستولي على زوجتك في الحقيقة!
فتساءل حمدون بغموض: وتزوجت بدرية؟ - كلا، ليس بوسعنا أن نسيطر على خطة كاملة؛ إذ إن غيرنا يشاركنا - ونحن لا ندري - في تأليفها.
وساد الصمت كغلاف لانفعالات شتى، ولكن عزت رجع من مغامرته الجنونية بشيء من الهدوء ... وكثير من الاستسلام، حتى إنه سأله في النهاية: ما رأيك فيما سمعت؟
فأجاب بازدراء: إنك قذر، ولكنك لست أقذر من كثيرين.
ولم يغضب، تلقى الذم ضمن سيال مرتعش من نشوة مبهمة. ووقف على حافة التحدي بقلب لا يخلو من جذل وإلهام ... وإعرابا عن حاله الجديدة قال بصوت لا أثر للاستياء فيه: أمامنا فرصة لنسيان الماضي.
فتساءل حمدون بوجوم: ألم يكف ربع قرن للنسيان؟ - كلا. - ماذا تقصد؟ - أن نعالج أمورنا بروح جديدة. - أتريد أن توحد مصائرنا مرة أخرى؟ - بعزيمة صادقة.
فقال بازدراء: إنك تبحث عن كفارة، وإني أحتقر ذلك. - لم جئتني؟ - لم يساورني فيك شك. - لقد حطمنا أنفسنا فيما مضى، وعلينا أن نحاول البناء.
فقال بازدراء أشد: علي أن أبصق على وجهك.
فابتسم عزت وهو نشوان بقدرته على الاحتمال: إني مسئول عنك. - إنك لا تستطيع أن تحمل مسئولية حشرة. - بل يجب أن تعيد التفكير. - لن أراك بعد اليوم. - كيف تواجه الحياة؟ - هل طرحت هذا السؤال على ابنك؟
تغلغل الألم حتى جذور قلبه فأمسك عن الكلام، على حين واصل حمدون قائلا: أي تسامح من ناحيتي يعني أن عمري ضاع هباء.
فقال عزت بأسى: إني أفكر في بناء جديد يتسع لحياة صحية تضم حمدون وعزت وبدرية وسيدة. - تحاول أن تجعل منا أدوات لخلق السلام لنفسك، كما سبق أن جعلت منا أدوات تخريب لتشيد فوق أطلالنا السعادة التي رفضتك.
فقال عزت بحرارة: لقد نلت الجزاء وأكثر. - لو صح ذلك ما فكرت فينا قط.
وأخذ حمدون يقوم معتمدا على عصاه الغليظة ذات الكعب المطاط، فقال عزت برجاء: تخل عن عنادك.
استقام ظهره على مهل ... تحرك للذهاب.
تساءل عزت: كيف تواجه الحياة؟
فقال وهو لا يتوقف: كما يواجهها ابنك.
وخفق قلبه، فسأله بلهفة: أنت تعرف عنه أشياء. ماذا تعرف عن ابني؟
فقال وهو يعبر العتبة: لا تسأل عما لا يعنيك!
27
يقول الراوي:
إن عزت صار شخصا آخر. منذ ذهاب حمدون تواجد عزت الأول وعزت الآخر متجاورين في مكان واحد؛ صورتان متطابقتان تماما غير أن الأول رمق الآخر بدهشة وحيرة، توجس منه خيفة واعتقد أن الآخر يتوجس منه خيفة أيضا، وتساءل كيف يمضي التيار بهما وهما في قارب واحد. لقد اعتاد أن ينفرد برأيه ربع قرن من الزمان، وذاك الآخر يتصرف تصرف الشركاء ويعتد بنفسه لحد التحدي. وسمعه يقول: لن أستمر.
فسأله بحذر: ماذا تعني؟
لكنه لم يجبه. لم يبد عليه أنه يهتم بوجوده أو يشعر به. فقال وكأنه يخاطب نفسه: لن أستمر، أصبح ذلك مستحيلا.
وإذا به يندفع في إجراءات لم تجر على بال الأول. قال لفرج يا مسهل: إني ذاهب، لك أن تدير الملهى إذا شئت. وحدجه فرج يا مسهل ببصر ذاهل، فقال الآخر: سأبيع أثاث شقتي والتحف وخلافه.
فقال له عزت الأول: لا حق لك في شيء من ذلك.
ولكن الآخر تصرف تصرف المالك الأوحد، وأدرك الأول أنه لا قبل له بمعارضته، فأوعز إلى فرج يا مسهل بإطاعته، وأن يوهمه بأنه يصدع بأمره، وأن يبقي كل شيء على حاله. وأخيرا عانق الآخر فرج يا مسهل وهو يودعه، فقال عم فرج: رجوعك إلى الحارة هو ما اقترحته عليك من بادئ الأمر.
فدهش الأول وسأله: أنرجع حقا إلى الحارة؟
وتجاهله الآخر كعادته ومضى إلى التاكسي، وقبل أن يتحرك التاكسي قال الآخر لفرج: قلبي يحدثني بأنني سأحظى ذات يوم برؤية ابني سمير.
فقال العجوز: وستجده على خير ما تتمنى له. •••
مضى التاكسي في طريقه إلى الحارة؛ الآخر متخذا مجلسه داخله، والأول يتبعه عن كثب. وقف التاكسي عند المدخل فدخل الاثنان الحارة مشيا على الأقدام. دهش الأول وقال لنفسه: ليس من سمع كمن رأى. شد ما تغيرت الحارة! جددت أرضها فحل الأسفلت محل الحجارة، رشقت المصابيح بالجدران، اختفت الخرائب وشيدت مكانها مساكن ومدرسة. حقا إنها تبدو جديدة؛ فتياتها يخطرن في الفساتين سافرات. لم يبق على حاله إلا القبو والحصن القديم فوقه. عمارات ست عين طليت من جديد، أما باب دارها فلاذ بمكره تحت التمساح المحنط لا ينم أديمه الخشن عن الفردوس المترامي وراءه. لم ينتبه لهما أحد، لم يعرفهما أحد. غريبان في حارة غريبة. سأله: ألم يكن الأوفق أن نسافر إلى الخارج؟
لكن الآخر طرق الباب. دخل بثقة كمن يدخل بيته. عرفته خادمة عجوز فهللت، فقال الأول: عما قريب سترى عين. ماذا عندك من قول لها؟
وانجذب - متناسيا الآخر - لروائح الياسمين والحناء، ورأى قطة من جيل جديد، لا بركة ولا نرجس ولا أنعام ولا أمل الليل ولا صباح. - ها هي ذي سيدة!
ظهرت في الممشى الذي شدت منه قديما إلى المذبح. ما أشبهها اليوم بأمها في كهولتها، ولكنها نحيلة شاحبة، حزينة إلى الأبد. أنا المعتدي لا أنت، ولكنها ترنو إليك أنت وكأنها لا تراني، ولكنكما تترامقان صامتين تحت الذكريات. ثم يقول الآخر: كيف حالك يا سيدة؟
لم ترد من شدة الانفعال. اغرورقت عيناها الذابلتان. لعل التاريخ اقتحمها في دقيقة واحدة، ولكنها غمغمت أخيرا: تفضل في الشرفة؛ فالجو هناك ألطف.
إنه الأصيل وآخر الخريف، ولكن اليوم دافئ، وجلس على الأريكة القديمة، كل شيء تغير إلا الدار. وهناك الخميلة التي شهدت عبث الطفولة. وتساءل الآخر: أين أمي؟ - في حجرتها. - ألم تدر برجوعي؟
سمع أنفاسها بدلا من الجواب، فكرر السؤال. قالت: إنها لا تغادر الفراش. - مريضة؟! - كلا ... إنه العمر. - كان يجب أن تقوديني إليها. - يجب أن تعرف أشياء قبل ذلك.
فرمقها متسائلا، فقالت: لقد فقدت البصر.
قطب الآخر منزعجا، وأدرك الأول ما غاب عن فرج يا مسهل. واستطردت سيدة: وفقدت السمع أيضا!
وقف الآخر مضطربا متسائلا: ألم يعالجها طبيب في الوقت المناسب؟ - بلى، أقل ما يجب، ولكنها إرادة الله.
وقال الأول بحزن: لا عودة بلا ثمن. •••
اندفع الآخر إلى حجرة عين. رأى وجهها فوق الغطاء الأخضر على الفراش العتيق ذي الأعمدة الأربعة. انحسر المنديل الأبيض عن خصلات فضية. انطرح الوجه نحيلا طويلا محنطا بالشيخوخة. هتف: أمي!
وانكبا على جبينها فلثماه في وقت واحد. ندت عنها حركة رقيقة وهمست: سيدة؟!
فقال الأول مخاطبا الآخر: رحلة خاسرة.
قال الآخر بحزن: أنا عزت يا أمي.
فقال الأول: لن تخاطب إلا نفسك.
وقالت سيدة: لا تكف عن الدعاء لك ولسمير.
فقال الأول: فلنسافر إلى الخارج. •••
رجع الآخر بصحبة سيدة إلى الشرفة والمغيب يهبط متمهلا. قال: ستعرفني بطريقة أو بأخرى.
فقالت سيدة: بالتأني واللطف حتى لا تنفعل.
وابتعدت قليلا حتى كادت تلتصق بالأول وهي لا تدري، وقالت: يجب أن أذهب.
فسألها الآخر: إلى أين؟ - أي مكان.
فقال بحزم: هنا بيتك. - ولكن ...
فقاطعها: إنه بيتك، وسيكون بيتك أكثر.
فسأله الأول: ماذا تعني بالضبط؟!
أما سيدة فقد رمقت الآخر بنظرة متسائلة، فسألها مبتسما: أيداخلك شك في أنني تغيرت؟
فهمست: كل شيء تغير!
فقال له الأول: من الآن فصاعدا عليك أن تنظم قصيدة طويلة في الرثاء.
وتساءلت سيدة: أما من جديد عن سمير؟
فقال الآخر: لا جديد، إنه بعيد، أمي بعيدة أيضا. - لو أعرف أنه حي يرزق!
فقال الآخر متأثرا بإلهام منبعث من الأعماق: هو كذلك، وسوف نتلاقى ذات يوم.
فقال الأول: لا بد من السفر إلى الخارج.
وجلست سيدة لأول مرة غير بعيد من الآخر، وراحا ينظران إلى الحديقة معا.
وشعر الأول بأنه آن له أن يذهب، غير أنه سمع سيدة وهي تقول: أوقفت ست عين أملاكها للخير على أن ينفذ ذلك بعد انقضاء الأجل.
فتفكر الآخر قليلا، ثم قال في غير مبالاة: خير ما فعلت! - وعينتك ناظرا للوقف ومن بعدك سمير.
فتمتم: عظيم. - قالت وهي تفعل ذلك عنك: «سيمارس الخير، رضي بذلك أو أبى!»
فابتسم الآخر وقال: سأفعله راضيا.
وقال له الأول: أستودعك الله.
غادر الدار. غادر الحارة. مضى إلى شارع دوبريه. استراح قليلا في شقته. ذهب إلى الملهى والمطربة تفتتح السهرة منشدة: يا ورد على فل وياسمين الله عليك يا تمر حنة.
ألقى نظرة على الصالة المكتظة ثم اتجه إلى حجرة الإدارة. وما إن انفرد بنفسه حتى قال: عندما يرجع سمير سيجد ثلاثة آباء في انتظاره، أنا والآخر وحمدون، سيختار أباه بنفسه كما اختار حياته.
وتفكر مليا ثم قال: سأسافر إلى الخارج حال انتهاء الشتاء.
28
يقول الراوي:
إنه في ليلة القدر انبعث في الست عين نشاط غير متوقع. رفضت أن تمس عشاءها من الزبادي، وسألت سيدة أن تجلسها. كسرت سيدة وراء ظهرها وسادة طرية وأجلستها نصف جلسة.
وقالت عين وهي تبتسم: سيطيب الجو وتشرق الأرض بنور ربها؛ فارعوا العصافير بالرحمة.
وتمادت في الابتسام وهي تقول: سأغني أغنية عشقتها في صغري.
وراحت تغني بصوت ضعيف مثير:
يمامة حلوة،
ومنين أجيبها؟
ثم هتفت: إني أرى ... أرى بكل وضوح.
اقترب منها الآخر وسألها بلهفة: هل ترينني يا أمي؟
ولكنها استطردت دون أن تشعر به: إني أرى الطيبين الذين ذهبوا ... إنهم ينادونني ... سمعا وطاعة ... عين قادمة. •••
يقول الراوي:
إن الست عين لم تمت ... رغم أن الذين عاصروا وفاتها لم يعرفوها أو كذلك كانت أغلبيتهم. ما عرفوا إلا ما يتناقله الرواة، ولكن ست عين لم تمت ... وحتى اليوم يطلق الناس على المستشفى الذي قام مكان دارها ... «مستشفى الست عين».
نامعلوم صفحہ