وتواترت بين بغداد والقاهرة مسابقات في مضمار الثقافة ومنافسات في تشييد المدارس ومضاربات في اقتناء الكتب المفيدة،
15
وكاد يكون إنشاء المكتبات الخاصة والعامة مستلزما قصور الملوك وصروح الأمراء وبيوتات المشايخ والأغنياء، فكل قصر أو بيت خلا من مكتبة كبرى أو صغرى عد خاليا فارغا من أهم رياشه وأثمن محتوياته. والخليق بالذكر أن الدول الإسلامية أبرمت في سننها أن يضم كل مسجد من مساجدها خزانة كتب يؤمها الأدباء من كل صوب وحدب للمطالعة والاستفادة.
ومن أشهر تلك المساجد أو الجوامع: الجامع الأموي في دمشق، والمسجد الأقصى في القدس الشريف، والجامع الأزهر بالقاهرة، والجامع الأعظم في القيروان، وجامع الزيتونة في تونس، وجامع القرويين في فاس، وجامع النجف الأشرف، إلخ.
فلا غرابة إذا رأينا الكتبة والمؤرخين يطلقون على ذلك العصر لقب «عصر النهضة العربية الذهبي» أو «عصر العرب الذهبي»؛ إقرارا بجميل الخلفاء، وتنويها بفضلهم على الحضارة العربية. (7) تعزيز الفلاحة في العصر الذهبي
أدرك العرب أن الفلاحة من أقوى الدواعي إلى عمران البلاد وسعادتها، ومن أنجع الذرائع لإنقاذها من ضروب الأسواء البشرية كالمجاعات والقحط والغلاء، فراحوا يبحثون بحثا دقيقا مستمرا عن كتب تتناول ذلك الموضوع الخطير كيما يقرنوا علمهم بعملهم، وأول مؤلف سمعوا باسمه من هذا القبيل هو كتاب «الفلاحة النبطية» لابن وحشية الكلداني، وقد ترجم إلى اللسان العربي في صدر الخلافة العباسية. وروى ابن خلدون في مقدمة تاريخه: إن ابن العوام اختصر كتاب «الفلاحة النبطية» وإن مسلمة بن أحمد المجريطي نقل عنه أمهات من مسائله.
16
وغير خاف أن هذا الكتاب الثمين قد ضاع نصه السرياني الأصلي وحفظت ترجمته العربية، ولولا هذه الترجمة لتناولته أيدي الضياع وخسر العالم فوائده.
17
ومما تذرع به العرب لتعزيز شئون الفلاحة أو الزراعة في ما افتتحوه من البلدان أنهم ابتنوا على الأنهار أسدادا؛ ليحصروا المياه ويوفروا من كمياتها ما يلزم لري الأراضي، ومن مآثرهم الجلية أنهم شيدوا مقاييس عديدة على نهر النيل؛ ليسبروا غور مياهه ويعرفوا كميتها وكيفية توزيعها على الحقول والمزارع، وأشهر تلك المقاييس وأقدمها «مقياس الروضة» أمر ببنائه عام 76 للهجرة أسامة بن زيد التنوخي، ثم رممه الخليفة المأمون يوم ارتحل إلى مصر سنة 217 للهجرة، وعمر جامعا إلى جانبه. وفي سنة 246 للهجرة تولى إدارة المقياس عبد الله بن عبد السلام البصري في عهد المتوكل على الله (232-247ه)، وبعد وفاة ابن عبد السلام عام 279 للهجرة استمرت الولاية على المقياس في ولده.
نامعلوم صفحہ