وكانت أولى النتائج التي انتهينا إليها هي أن أي تجمع متجانس لا بد أن يفقد تجانسه، عن طريق تعرض أجزائه بطريقة غير متساوية للقوى الحادثة، وأن التجمع الناقص التجانس لا بد أن يتحول إلى آخر منعدم التجانس تماما. وقد أشرنا إلى أن قيام القوى المتباينة، والقوى التي تمارس في ظروف متباينة، بإيجاد تركيبات متباينة، يتمثل في التطور الفلكي، وأن التعديلات التي تسري على هذا الكون، كبيرها وصغيرها، يتمثل فيها كلها ارتباط متشابه للسبب بالنتيجة. وقد تجلى في التغيرات المبكرة للجراثيم العضوية دليل آخر على أن تغاير التركيب ينجم عن تغاير العلاقات بالعوامل المحيطة، وهو دليل يدعمه ما يطرأ على أفراد النوع الواحد من تنوع فرعي حين تختلف بيئاتهم. ورأينا أن التضاد السياسي والمهني الذي ينشأ بين أجزاء المجتمعات، يعد دليلا آخر على المبدأ ذاته. ووجدنا أن عدم الاستقرار الذي يتميز به دائما ما هو متجانس نسبيا، يسري أيضا على كل من الأجزاء المميزة التي يتحول إليها الكل، بحيث يزداد اللاتجانس على الدوام.
وقد كشفت خطوة أخرى في البحث عن سبب ثانوي لتزايد تنوع الصور؛ فكل جزء متفاضل ليس مركزا لتفاضلات أخرى فحسب، بل إنه أيضا يخلق مزيدا من التفاضلات؛ إذ إن نموه على نحو مخالف للأجزاء الأخرى يجعله مركزا لردود أفعال مختلفة للقوى الحادثة، وبهذا تؤدي إضافته لقوى عاملة متباينة، إلى تباين التأثيرات الناتجة. وقد تبين أن من الممكن تتبع تعديد التأثيرات هذا في كل شيء في الطبيعة في الأفعال - وردود الأفعال - التي تحدث في جميع أرجاء النظام الشمسي، وفي التعقدات الجيولوجية التي لا تتوقف أبدا، وفي التغيرات الكامنة التي تنتجها المؤثرات الجديدة في الكائنات العضوية، وفي كثرة الأفكار والمشاعر التي تولدها انطباعات واحدة، وفي النتائج الدائمة التشعب التي يحدثها كل مؤثر زائد يضاف إلى المجتمع، وقد أضفنا إلى ذلك نتيجة هي أن كثرة المؤثرات تسير في متوالية هندسية مع سير اللاتجانس.
ولكي نفسر التغيرات التركيبية التي تكون التطور تفسيرا كاملا، بقي علينا إيجاد سبب لذلك التميز المتزايد الوضوح بين الأجزاء، الذي يقترن بحدوث فروق بينها. وقد تبين لنا أن هذا السبب هو انفصال الوحدات المختلفة بفعل قوى قادرة على تحريكها، ووجدنا أنه عندما تؤدي قوى حادثة متغايرة إلى جعل أجزاء تجمع ما، متغايرة في طبائع وحداتها المكونة، يظهر بالضرورة ميل إلى انفصال الوحدات المتباينة كل عن الأخرى، وتكدس الوحدات المتشابهة. وتبين أن سبب وضوح معالم التكاملات المحلية التي تقترن بتفاضلات محلية، يتمثل بدوره في جميع أنواع التطور؛ في تكوين الأجرام السماوية، وتشكيل القشرة الأرضية والتعديلات العضوية، وإيجاد تمييزات ذهنية، ونشوء انقسامات اجتماعية.
وأخيرا، فقد أجبنا على السؤال عما إذا كان لهذه العمليات أي حد بأنها لا بد أن تنتهي إلى التوازن؛ فذلك الانقسام والانقسام الفرعي المستمر للقوى، الذي يغير ما هو وحيد الصورة إلى شيء كثير الصور، وما هو كثير الصور إلى شيء أكثر صورا، هو عملية تنتشر بها القوى دواما. وانتشارها هذا، الذي يستمر طالما ظلت هناك قوى لا توازنها قوى أخرى، لا بد أن ينتهي إلى السكون. وبينا أنه عندما تحدث عدة حركات سويا، كما هي الحال في التجمعات المختلفة الأنواع، فإن التبدد الأول للحركات الأصغر والتي تلقى مقاومة أشد، يوجد توازنات متحركة من أنواع مختلفة، فيكون بذلك مراحل انتقالية في الطريق إلى التوازن التام. وقد كشف لنا البحث التالي على أن هذا السبب ذاته يجعل لهذه التوازنات المتحركة قدرات معينة على حفظ ذاتها، ويتضح ذلك في تعادل الانحرافات وفي التكيف مع الظروف الجديدة. وقد تعقبنا هذا المبدأ العام المتعلق بالتوازن، كما فعلنا في المبادئ العامة السابقة، في جميع صور التطور - الفلكي منه والجيولوجي والبيولوجي والذهني والاجتماعي. وكان استنتاجنا النهائي هو أن المرحلة الأخيرة للتوازن في العالم العضوي، وهي المرحلة التي تستقر فيها أشد حالات كثرة الصور تطرفا، وكذلك يستقر أعقد توازن متحرك، لا بد أن تكون مرحلة تنطوي على أعلى حالات البشرية. •••
القسم 190 : وأخيرا انتقلنا إلى تأمل عملية التحلل كما تتمثل في جميع أرجاء الطبيعة، وهي العملية المكملة للتطور، والتي تقضي، في وقت واحد أو في آخر، على ما تم بفعل التطور.
فقد رأينا أن التحلل لا بد أن يحل بمضي الزمن.
فهو في المجاميع
aggregates
غير المستقرة، يحل فور توقف التطور، وفي المجاميع الثابتة المحيطة بنا، يحل بعد توقف التطور بفترات قد تطول ولكنها تبلغ في النهاية، بل إنه لا بد أن يحل حتى في أكبر المجاميع التي تكون هذه كلها أجزاء منها - أي في الأرض من حيث هي كل - بل لقد وجدنا من الأسباب ما يدعو إلى الاعتقاد بأن التجمعات المحلية لتلك الكتل الأكبر حجما بكثير، والتي نعرفها باسم النجوم، ستتحلل بمضي الوقت. والسؤال الذي يظل دون جواب هو ما إذا كان نظامنا النجمي في مجموعه سيلقى نفس المصير بعد وقت لا يتصوره الخيال المتناهي. ومع استنتاجنا أن التحلل يعقب التطور في أجزاء عديدة من الكون المنظور، وأن التطور في جميع هذه المجالات سيبدأ من جديد، فإن مسألة وجود تعاقب منتظم بين التطور والتحلل في مجموع الأشياء هي مسألة ينبغي تركها دون جواب؛ لأنها تعلو على فهم العقل البشري.
أما إذا كنا ميالين إلى الاعتقاد بأن ما يحدث للأجزاء سيحدث بمضي الوقت للكل، فإن هذا يؤدي بنا إلى الرأي القائل بوجود تطورات دارت في ماض سحيق وتطورات ستدور في مستقبل بعيد، وعندئذ لا يعود في وسعنا أن نتأمل العالم المنظور على أنه ذو بداية أو نهاية محددة، أو على أنه منعزل، وإنما يصبح متحدا بكل الموجودات السابقة واللاحقة، وتسري على القوة المتمثلة في الكون نفس ما يسري على المكان والزمان، من حيث إنها لا تقبل أي تحدد في الفكر.
نامعلوم صفحہ