لقد أدرك مل، كما قلنا، أن جميع الفروض والتنبؤات العلمية تتجاوز «الوقائع»؛ فليس العلم على الإطلاق مجرد سجل لما حدث في حالات فردية عديدة، وإنما يهتم العلم بالاطرادات العلية التي تصدق بانتظام على جميع أفراد فئة معينة. ومهمته هي أن ينتقل بدقة، وعلى نحو فيه شعور بالمسئولية، من التجربة الماضية إلى مستقبل لم يجرب بعد. فكيف إذن يمكن تبرير الإيمان بمثل هذه الاطرادات والتنبؤات العامة رغم أن ما تشتمل عليه يتجاوز دائما نطاق المعطيات المتوافرة؟ يجيب كانت، كما رأينا، عن هذا السؤال بقوله إن مبدأ العلية مبدأ أولي تركيبي للذهن البشري تفترضه مقدما جميع الكائنات العاقلة عندما تفكر في موضوعات المكان والزمان. غير أن مثل هذا الحل لم يكن في متناول يد مل، ومن ثم فقد اضطر إلى افتراض أن مبدأ اطراد الطبيعة، كما أسماه، هو ذاته قائم تماما على التجربة. وقد عبر هو ذاته عن هذه المسألة تعبيرا بلغ أقصى حدود الوضوح والدقة فقال: «علينا أن نلاحظ أولا أن في نفس القول الذي نعبر فيه عن كنه الاستقراء، مبدأ متضمنا، ومصادرة بشأن مجرى الطبيعة ونظام الكون، وأعني بهما أن في الطبيعة حالات يمكن أن تعد حالات متوازية، وأن ما يحدث مرة سيحدث إذا ما تشابهت الظروف بقدر كاف، مرة أخرى، وليس مرة أخرى فحسب، بل عددا من المرات يساوي عدد مرات تكرار الظروف نفسها. فإذا ما رجعنا إلى المجرى الفعلي للطبيعة، لوجدنا فيه ما يؤيد هذا الافتراض؛ فالكون بقدر ما نعلمه، مكون بحيث إن ما يصدق على أية حالة بعينها يصدق على جميع الحالات التي تتصف بأوصاف معينة، والصعوبة الوحيدة هي معرفة كنه هذه الأوصاف.»
غير أن المبدأ القائل إن مجرى الطبيعة مطرد، وإن يكن على ما يبدو هو المبدأ الأساسي للاستقراء، لا يفسر، في رأي مل، العملية الاستقرائية أو يبررها تبريرا مستقلا. إذ إن هذا المبدأ ذاته في حاجة إلى تبرير؛ لأنه كما يعتقد مل، لا يعدو أن يكون أعم فرض يمكن وضعه بشأن نظام الأشياء في الطبيعة. وفضلا عن ذلك فهو ليس أول استقراء لنا من التجربة، بل هو واحد من أواخر استقراءاتنا. ونحن لا نصل إليه إلا بعد القيام باستقراءات وتعميمات خاصة عديدة، تتوقف عليها صحة هذا المبدأ إلى حد بعيد. وهكذا يبدو، بالفعل، أن مل ينظر إلى قانون اطراد الطبيعة على أنه تعميم جامع من مرتبة ثانوية، يشهد بصحته المجموع الكامل للفروض المحدودة في مجال العلم ومجال التجربة اليومية. ومعنى ذلك أن القانون في أحسن الظروف، فرض استقرائي يقتضي، ويتلقى بالفعل، أدلة لا حصر لها تتجمع لديه من التعميمات الأضيق نطاقا للعلوم الخاصة والتجربة المعتادة. ولكن كيف إذن يكون فيه «ضمان» لهذه الأخيرة؟ ألسنا نصادف ها هنا دورا واضحا، ومحاولة عقيمة من المرء لحمل ذاته من أربطة حذائه الاستقرائية؟
هكذا، على الأقل، قال معظم نقاد مل، فإذا كان الضمان الوحيد للقضية القائلة إن مجرى الطبيعة مطرد، هو تلك التعميمات الأقل مرتبة التي استخلصت قبل ذلك من التجربة ، فكيف يتسنى لهذه القضية بدورها أن يكون فيها ضمان لهذه التعميمات؟ وهكذا تظل مشكلة الاستقراء الكامنة قائمة؛ فما الذي يبرر أي استقراء من التجربة، سواء أكانت مقيدة أم غير مقيدة؟ يرى نقاد مل أنه لا يأتي بأي جواب على هذا السؤال. كما أنه لم يكلف نفسه عناء توجيه السؤال الأهم، وأعني به إن كان مبدأ العلية الشاملة بالفعل فرضا على الإطلاق؛ أي إن كان ما يؤكده قانونا للطبيعة يصف ارتباطات تجمع بين فئات من الظواهر. والواقع أن هذا السؤال الملح، الذي ربما كان قد أدى، ب «مل» إلى التفكير طويلا لو كان قد حلل بعمق «مقال
Treatise » هيوم، أو «نقد
Critique » كانت، هو النتيجة الجدية التي تؤدي إليها تحليلاتهما للعلية. ولو كان الجواب عليه سلبا، لكان من الجائز أن ترد «مشكلة الاستقراء» بأسرها إلى مشكلة تتعلق بصياغة شروط الصحة التي نكون نحن أنفسنا، بوصفنا باحثين، على استعداد لقبولها في سعينا إلى تبرير أفكارنا بشأن عالم الظواهر. ولو فسرت هذه الشروط على هذا النحو، لكانت مهمتها هي تحديد ما نعده شروطا للمعقولية في مجال البحث الواقعي، ولو اتخذنا وجهة النظر هذه لما كان للأسئلة المتعلقة بصحة هذه الشروط ذاتها مجال؛ إذ ليس ثمة محكمة أعلى للعقل، يتسنى لنا تقديم استئناف معقول إليها. وعندئذ يكون الشك فيها أشبه بالشك في وجوب فعلنا الخير في مجال الأخلاق.
فإذا ظل أحد يشك فيها رغم هذا، فلا سبيل إلى التعامل معه إلا باتباع طريقة مل نفسه، في محاولته الرد على أولئك الذين جهروا بالشك في مبدأ المنفعة. فالمطلوب في هذه الحالة الأخيرة ليس هو البرهان، وإنما هو الدراسة الذاتية وإيضاح الالتزامات الكامنة للمرء بوصفه كائنا بشريا. وكما يقول مل «فليست المبادئ الأولى قابلة للبرهنة، وإن يكن من الممكن دعمها بمعنى ما. ولكن يبدو أن من المفيد، قبل دعمها على هذا النحو، أن نتساءل عن نوع الدعم الذي قد يعتقد أنها تقتضيه. ولو كان مل قد فكر في هذه المسألة في صدد مشكلة المعرفة بنفس دقته في التفكير فيها بالنسبة إلى مشكلة السلوك، لكان من الجائز أن يدرك أن المسألة الأساسية في الحالتين مسألة دوافع
motivation ، وأن العلاج الوحيد في الحالتين علاج عملي. وفي هذه المسألة، قد يكتشف الفيلسوف التجريبي أن في وسعه أن يستفيد شيئا، في معرض الدفاع عن العقل، من عدوه اللدود، فشته.
وهناك وجه آخر هام لفلسفة التجربة عند مل، لم نأت على ذكره بعد. وفي هذا الوجه يقتفي عن قرب أثر سلفيه باركلي وهيوم. فقد كان الهدف الأكبر لهذين الفيلسوفين معا، هو أن يأتيا بتفسير لملكات الذهن البشري وعتاده لا ينطوي على ما يتجاوز معطيات الإدراك الحسي والشعور ومبادئ الترابط «الطبيعية» التي تنظم بها «مادة» الإحساس والشعور، بحيث تتحول إلى الأفكار والمعتقدات التي نكون بها صورة عالمنا الذي نعيش فيه. وتبعا لهذا الرأي، لا يتمثل في الخيال شيء لا يكون موجودا من قبل، بطريق مباشر أو غير مباشر، في التجربة الحسية، ولا يكون الخيال ذاته سوى استعداد أفكارنا لتكوين ارتباطات مع أفكار أخرى. وهكذا لا يتألف ما نتصوره عالما طبيعيا، في أساسه، إلا من اطرادات ثابتة معينة بين فئات من الإحساسات، ولا يكون ما نراه شيئا ماديا، آخر الأمر، إلا «إمكانية معقدة للإحساس». وتبعا لهذا الرأي، الذي يطلق عليه أحيانا اسم «مذهب الظواهر
phenomenalism »، تكون كل قضية متعلقة بالواقع قابلة من حيث المبدأ للرد إلى مجموعة من القضايا المتعلقة بانطباعات حسية واقعة أو ممكنة. كما أن كل رد، تبعا لهذا الرأي، ينبغي أن يشير إلى نوع من أنواع الإحساس قابل بالقوة للتجربة. وليس ما نسميه ب «المادة» سوى نسق واحد للاطرادات بين الإحساسات، على حين أن ما نسميه ب «الذهن» نسق آخر لها. وعلى ذلك فنحن حين نتحدث عن الذهن البشري، لا نتحدث عن جوهر لا مادي يكمن من وراء عالم الحس، وإنما، نتحدث، كما قال هيوم، عن «حزمة من الانطباعات» فحسب. ولكن من الضروري ألا تفهم كلمة «انطباعات» على أنها تعني شيئا لا يوجد إلا في «الذهن»؛ إذ إن الذهن ذاته، حسب الفرض، كلمة خاوية لا تشير إلا إلى تنظيم معين لانطباعاتنا ذاتها. فالتمييز بين «المظهر» و«الحقيقة »، هو - إذا جاز التعبير - تمييز داخلي لا يسري إلا على مجال التجربة الممكنة ذاتها.
والهدف الكامن لفلسفة مل هو دائما أخلاقي بالمعنى العام للكلمة؛ فهذه الفلسفة ترمي إلى الإتيان بنظرة عامة إلى المعرفة البشرية وعالم الطبيعة، تكون لها أكبر منفعة في سلوكنا في الحياة. وهكذا تظهر فلسفة التجربة، بمنطقها الاستقرائي ومذهبها في الظواهر، على أنها تمثل قبل كل شيء مدخلا تمهيديا إلى الفلسفة النفعية في الحياة، التي ورثها مل عن جريمي بنتام، والتي أعاد التعبير عنها، بعد إدخال تعديلاته الخاصة، في بحثيه الشهيرين؛ «مذهب المنفعة
نامعلوم صفحہ