فرع جديد للفلسفة الوضعية : لا بد أن القارئ قد لاحظ وجود حذف فيما ذكرته منذ قليل عن الأنواع الأربعة الرئيسية للظواهر الفلكية والفيزيائية والكيميائية والفسيولوجية؛ إذ لم أقل شيئا عن الظواهر الاجتماعية. ورغم ارتباط الظواهر الاجتماعية بالظواهر الفسيولوجية، فإنها تقتضي تصنيفا متميزا، نظرا إلى أهميتها وصعوبتها. فهي أكثر الظواهر فردية، وتعقدا، واعتمادا على كل الباقين ، ومن هنا وجب أن تكون آخرها، حتى لو لم تكن تصادفها أية عقبة خاصة؛ فهذا الفرع من العلم لم يدخل قبل الآن في مجال الفلسفة الوضعية. وما زالت المناهج اللاهوتية والميتافيزيقية، التي قضي عليها في الفروع الأخرى، تطبق حتى الآن في كل بحث للموضوعات الاجتماعية، سواء في طريقة البحث والمناقشة، وإن تكن أفضل العقول قد سئمت تماما تلك المنازعات الأزلية حول الحق الإلهي وسيادة الشعب. تلك هي الثغرة الكبرى، ومن الواضح أنها أيضا الوحيدة التي ينبغي ملؤها لإقامة الفلسفة الوضعية راسخة كاملة؛ ففي وقتنا هذا، الذي توصل فيه الذهن البشري إلى الفيزياء السماوية والأرضية، الميكانيكية والكيميائية، والفيزياء العضوية، النباتية والحيوانية - لم يبق إلا علم واحد لإكمال حلقات سلسلة علوم الملاحظة - وأعني به علم الفيزياء الاجتماعية. وهذا أهم هدف يحتاج الناس الآن إلى بلوغه، وهو أيضا الهدف الرئيسي الذي يسعى كتابنا هذا إلى تحقيقه.
الفيزياء الاجتماعية : من الحمق أن ندعي القدرة على الإتيان بهذا العلم الجديد على التو وفي صورته الكاملة؛ فهناك علوم أقدم منه، ما زالت أحوالها من حيث التقدم متفاوتة إلى حد بعيد. ولكننا سنبين أن نفس طابع الوضعية الذي تتسم به كل العلوم الأخرى، ينتمي إلى هذا العلم بدوره. وبانتهاء هذا العمل يكون المذهب الفلسفي للمحدثين قد اكتمل بالفعل؛ إذ لن تظل هناك ظاهرة لا تندرج بطبيعتها تحت واحدة من الفئات الخمس الكبرى. وعندما تصبح كل أفكارنا الرئيسية متجانسة، تكون دعائم المرحلة الوضعية قد استقرت تماما. ومن المحال أن يتغير طابعها هذا ثانية، وإن تكن ستظل على الدوام في تطور بإضافة معارف جديدة. وعندما تكتسب طابع الشمول الذي كان من قبل هو الميزة الوحيدة للنظامين السابقين، فسوف تحل محلهما بتفوقها الطبيعي، ولا تترك لهما إلا وجودا تاريخيا.
الهدف الثانوي لهذا الكتاب : أوضحنا من قبل الهدف الخاص لهذا الكتاب. أما هدفه الثانوي والعام فهو: دراسة ما حدث في العلوم؛ لكي نبين أنها ليست منفصلة في ماهيتها، وإنما هي كلها فروع لجذر واحد. ولو كنا قد اقتصرنا على الهدف الأول والخاص لهذا الكتاب، لكانت نتيجة بحثنا هي دراسة للفيزياء الاجتماعية فحسب. على حين أن القول بالهدف الثاني العام يجعلنا نقدم دراسة للفلسفة الوضعية، مستعرضين جميع العلوم الوضعية التي تكونت من قبل.
دراسة فلسفة العلوم : ليس الغرض من هذا الكتاب تقديم عرض للعلوم الطبيعية؛ فمثل هذا العرض إلى جانب كونه لا ينتهي، وكونه يقتضي إعدادا علميا لا يتوافر لأي شخص بمفرده، خارج عن نطاق هدفنا، الذي هو تتبع مجرى الفلسفة الوضعية، لا العلم الوضعي. وكل ما علينا هو أن ننظر إلى كل علم أساسي في صلته بالمذهب الوضعي في مجموعه، وفي الروح المميزة له؛ أي من حيث مناهجه ونتائجه الرئيسية.
والهدفان، مع تميز كل منهما عن الآخر، لا ينفصلان؛ إذ لا قيام، من جهة، لفلسفة وضعية دون أساس من العلم الاجتماعي، الذي لولاه لما كانت شاملة لكل شيء. وليس في وسعنا، من جهة أخرى، متابعة العلم الاجتماعي دون أن نكون قد تأهبنا لذلك بدراسة ظواهر أقل تعقيدا من الظواهر الاجتماعية، وتزودنا بمعرفة للقوانين والوقائع السابقة التي تؤثر في العلم الاجتماعي. ورغم أن العلوم الأساسية لا تتساوى في درجة أهميتها للأذهان العادية، فليس فيها ما يمكن تجاهله في بحث كهذا، وكلها في نظر الفلسفة ذات قيمة متساوية لرفاه الإنسان. وحتى تلك التي تبدو أقلها أهمية، لها قيمتها الخاصة؛ إما لاكتمال منهجها، وإما لأنها أساس ضروري للباقين جميعا.
مزايا الفلسفة الوضعية: الآن، وقد أوضحنا الروح العامة لهذه الدروس في الفلسفة الوضعية، فلنلق نظرة على المزايا الرئيسية التي يمكن استخلاصها لصالح التقدم البشري من دراسة هذه الفلسفة. ولنشر بوجه خاص إلى أربع من هذه المزايا:
الفلسفة الوضعية تلقي ضوءا على الوظيفة العقلية. تتمثل في دراسة الفلسفة الوضعية الوسيلة المعقولة الوحيدة لعرض القوانين المنطقية للذهن البشري، وهي القوانين التي كانت تلتمس من قبل بوسائل غير سليمة.
ولكي نوضح ما نعنيه بهذا، نشير إلى عبارة قالها السير «دي بلانفيل
de Blainville » في كتابه عن علم التشريح المقارن، وهي أن كل كائن إيجابي، وكل كائن حي بوجه خاص، يمكن أن ينظر إليه من ناحيتين؛ ناحية سكونية، وناحية حركية؛ أي من حيث هو خاضع لظروف أو من حيث هو فعال. ومن الجلي أن جميع الأفكار تندرج تحت واحدة من هاتين الفئتين. فلنطبق هذا التصنيف على الوظائف العقلية.
إذا ما نظرنا إلى هذه الوظائف من الناحية السكونية - أي إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الظروف التي تخضع لها في وجودها - لوجب علينا أن نحدد الظروف العضوية لهذه الحالة، وهو مبحث ينقلنا إلى مجال التشريح وعلم وظائف الأعضاء. أما إذا تأملنا الناحية الحركية، فسيكون علينا أن نكتفي بدراسة ممارسة القوى العقلية للجنس البشري ونتائجها، وهي دراسة لا تزيد ولا تنقص عن الموضوع العام للفلسفة الوضعية. وبالاختصار، فعلينا أن ننظر إلى جميع النظريات العلمية على أنها وقائع منطقية هامة بنفس مقدار هذه النظريات. وعندئذ لا يكون علينا، لكي نصل إلى معرفة القوانين المنطقية، إلا أن نقوم بملاحظة دقيقة لهذه الوقائع. ولما كانت هذه هي الوسيلة الوحيدة لمعرفة الظواهر العقلية، فسوف يؤدي هذا إلى استبعاد علم النفس المزيف، الذي هو المرحلة الأخيرة للاهوت. ذلك لأن علم النفس هذا يزعم لنفسه القدرة على تحقيق كشف قوانين الذهن البشري بتأمله في ذاته؛ أي بفصله عن العلل والمعلولات. ومثل هذه المحاولة، التي تنطوي على تحد للدراسة الفيسيولوجية لأعضائنا العقلية، وخروج على مناهج البحث العقلي، لا يمكن أن تنجح في أيامنا هذه.
نامعلوم صفحہ