أما فلسفة كانت فهي تفترض في أساسها تمييزا قاطعا بين المسائل المنتمية إلى مجال ما هو كائن، وتلك المنتمية إلى مجال ما يجب أن يكون. ومثل هذا التمييز في رأيه ضروري، لا في الأخلاق فحسب، حيث ينبغي التفرقة بين المرغوب فيه وبين الجدير بأن يكون مرغوبا فيه، وإنما هو ضروري أيضا في المنطق ونظرية المعرفة، حيث ينبغي التفرقة، على نحو مماثل، بين ما نعتقده وما ينبغي أن نعتقده، وبين ما نستدل عليه وما يكون من الصحيح الاستدلال عليه. ومما له دلالته أن كانت، من حيث هو فيلسوف، لم يكتب «بحثا في الطبيعة البشرية» كما أسمى هيوم كتابه الرئيسي، وإنما كتب «نقدا للعقل الخالص» و«نقدا للعقل العملي». ولا جدال في أن «المنهج التاريخي الصريح» عند لوك لم يكن يفي بأغراض كانت على الإطلاق، ومن ثم فقد كان عليه أن يضع «منهجا ترنسندنتاليا» جديدا، هو وحده الكفيل بتحديد أسس الاعتقاد والفعل المبنيين على العقل.
وطالما أساء الناس فهم المعنى الذي استخدم به كانت لفظ «الترنسندنتالي». فقد يظن القارئ غير المدقق، حين يلاحظ تكرار ورود هذا اللفظ في صفحات مؤلفات كانت، أن فيلسوفنا كان يعني به طريقة للوصول إلى أشياء «تعلو على هذا العالم». ومثل هذا الاعتقاد باطل؛ إذ إن آراء كانت حول إمكان معرفتنا لأية حقيقة علوية كانت آراء حذرة لا تطلق جزافا على الإطلاق. ولم تكن لديه أية رغبة في أن يفعل ما فعلته إحدى شخصيات أوبرا جلبرت وسليفان «بيشنس
»،
2
فيأخذ جميع بذور الألفاظ الترنسندنتالية ويزرعها في كل مكان، بل إنه بذل قدرا كبيرا من طاقته العقلية في سبيل انتقاد التطبيق الميتافيزيقي للألفاظ الترنسندنتالية على ما يتجاوز حدود التجربة الممكنة.
ولقد كان كانت يعتقد أن نقده للعقل قد أحدث ما يمكن تسميته ب «الانقلاب الكبرنيكي» في الفلسفة. غير أن التشبيه الذي قصده من هذه التسمية غامض، وكثيرا ما أسيء فهمه، شأنه في ذلك شأن لفظ «الترنسندنتالي». وعلينا، لكي نفهم على نحو أكمل المعنى الذي قصده كانت، أن نعود إلى الموقف التاريخي الذي واجهه عندما قرأ لأول مرة، في وقت كان فيه من أتباع ليبنتس، تحليل هيوم للعلية، الذي بدا ذا طابع شكاك.
فقد سلم كانت في شبابه، حين كان من أتباع المذهب العقلي، بأن مبدأ العلية؛ أي المبدأ القائل بأن لكل حادث علة، هو مبدأ ضروري للطبيعة، متأصل في طبيعة الأشياء، ولا يحتاج المرء لإدراك حقيقته إلا إلى عقله الخالص، دون التجاء إلى التجربة. كما سلم دون مناقشة بوجود ارتباطات ضرورية في الطبيعة، كامنة في النظام الموضوعي للواقع. ومن خلال وجهة النظر هذه، لا يمكن أن تكون قوة العقل سوى القدرة على إدراك مثل هذه «العلاقات الواقعية» بالحدس، فيكون بذلك قد رسم نوعا من الخريطة أو الأشعة السينية للتركيب الداخلي للوجود ذاته؛ فالذهن البشري يفكر من خلال العلية؛ لأن ذلك الذهن ذاته هو في واقع الأمر مرآة تعكس بدقة ذلك التركيب الباطن للعالم الخارجي. والعقل يدرك هذه المبادئ على أنها ذات صحة واضحة بذاتها؛ إذ إنه «يرى»، عن طريق عملية حدس عقلي، أنها تصح بالضرورة على طبيعة الأشياء. وهكذا لا يكون العقل من وجهة النظر هذه مجرد ملكة للتجريد والاستدلال، وإنما ملكة للكشف أيضا، تتيح لنا إدراك أعم صفات الأشياء كما هي في ذاتها.
ولقد رد هيوم على هذا كله ردا غاية في البساطة.
فقد تساءل: كيف يتسنى لنا أن نعرف، على نحو مستقل عن التجربة، أن كل حادث له، وينبغي أن تكون له، علة؟ لقد كان هيوم على استعداد للاعتراف بأن لبعض القضايا صحة ضرورية، ومن هذه القضايا الحقائق الرياضية والمنطقية، والقضايا «اللفظية» مثل «كل كلب كلب» و«كل شيء ملون ممتد». غير أن مثل هذه الحقائق تعبر عن «علاقات بين الأفكار»، ولا تنبئنا بشيء عن الأمور الواقعة أو الوجود الفعلي. والمعيار الوحيد للحقيقة الضرورية عند هيوم هو قانون عدم التناقض.
فإذا كان من المحال نفي قضية دون تناقض، فإن القضية تكون صحيحة بالضرورة. ولكنها، لهذا السبب عينه، لا تنبئنا بشيء يتجاوز ما تتضمنه التصورات التي تنطوي عليها . أما القضية التي يمكن نفيها دون تناقض، فليست لها صحة مطلقة. وفي هذه الحالة لا يمكن استخلاص الشواهد على صحتها - إن كان لها أي معنى - إلا من التجربة.
نامعلوم صفحہ