الذي لا يعترف بأية كيانات عقلية «خاصة» على الإطلاق. ف «الذهن» في رأيه لا معنى له بمعزل عن متضايفات الإحساس التي يمكن أن يشير إليها، والإحساسات ذاتها كيانات محايدة يمكن أن تتضايف وتتضايف من جديد، على أنحاء لا حصر لها. وليس هناك ما يمنع على الإطلاق، من وجهة نظر ماخ، من أن يكون الإحساس الواحد «ماديا» و«ذهنيا » معا، أو من أن يكون أي إحساس بعينه قابلا من حيث المبدأ لأن يدركه أكثر من شخص واحد.
على أنه لا يمكن القول إن جميع النظريات التجريبية في المعرفة قد أنكرت على هذا النحو القاطع وجود فروق حتمية في المنهج، بين العلوم التي تتناول الموضوعات المادية وتلك التي تختص بالظواهر الذهنية؛ فمن الممكن منطقيا الاعتراف بأن كل معرفة تشير آخر الأمر إلى أجزاء من التجربة، وتظل مسألة كون جميع أنواع التجربة مشتركة بين الناس من حيث المبدأ أم لا، مسألة لم يبت فيها بصفة قاطعة. ولقد كان هناك في الواقع عدد غير قليل من الفلاسفة الذين عدوا أنفسهم تجريبيين، وظلوا مع ذلك يؤكدون أن هناك فئة معينة من المعطيات (يسميها هيوم «بانطباعات الانعكاس») لا يمكن أن تفهم إلا بنوع خاص من الملاحظة، يشار إليها بتعبيرات مختلفة؛ منها «الاستبطان» و«ملاحظة الذات» أو «الوعي بالذات»، ولا شك أن اعترافات كهذه كفيلة بالقضاء على برنامج كبرنامج ماخ؛ إذ إننا ما إن نعترف من حيث المبدأ بأن الوسيلة الوحيدة للوصول إلى وقائع الانفعال والشعور والذاكرة هي أنواع خاصة معينة من الملاحظة، حتى ينهار المثل الأعلى لوحدة العلم بأسره في الحال. وفي هذه الحالة يكون من الضروري الاحتفاظ بمبدأ مثالي واحد على الأقل، هو المبدأ القائل إن هناك فارقا أساسيا في النوع بين علوم الطبيعة والسلوك، وتلك الأبحاث التي تتعلق أساسا بالحياة الباطنة.
وإذن، فليس يكفي، لتحقيق أهداف ماخ، أن يقال إن من الواجب ألا يقبل شيء بوصفه فرضا علميا ما لم يواجه اختبار الملاحظة؛ إذ ما الذي ينبغي أن نعده «ملاحظة»؟ وهل هناك نوع واحد أساسي للملاحظة فحسب، أم إن هناك أنواعا شتى؟ وهل بعض فئات الظواهر عام وبعضها الآخر خاص، أم إن جميع الظواهر قابلة، من حيث المبدأ على الأقل، للملاحظة بين ذوات مختلفة؟ تلك أسئلة كانت ملحة في عصر ماخ، وما زالت كذلك حتى يومنا هذا. كما أنه لا يكفي من وجهة نظر ماخ، أن يقال إن جميع الأسئلة المتعلقة بالارتباطات العلية بين الظواهر هي أسئلة خاصة بالارتباط القابل للملاحظة. فماذا يكون الحال لو لم يكن من الممكن في جميع الحالات تحقيق هذه الارتباطات بطريقة مشتركة بين الذوات؟ وإذا كانت بعض الظواهر المترابطة لا يتوصل إليها إلا فرد واحد، فيبدو أنه ليس ثمة أساس كاف للقول إن المناهج المستخدمة في العلوم الفيزيائية هي في أساسها تلك اللازمة لمعرفة الظواهر النفسانية.
وإذن فالهدف من مذهب ماخ مضاد أساسا للذاتية. ولنعبر عن فكرتنا بلغة «مل»، فنقول إنه لا توجد إمكانيات للإحساس لا يمكن، من حيث المبدأ، المشاركة فيها. وتبعا لهذا الرأي تكون العزلة راجعة إلى انفصال المرء عن رفاقه من الناس، لا إلى وجود إحساسات أو مشاعر في تجربته تمتنع بالضرورة على الآخرين.
وليس بين الفلاسفة بأجمعهم اتفاق حول كون هذه القضية الوضعية هي ذاتها «ميتافيزيقية»، أم إنها مجرد قاعدة من قواعد البحث أو المنهج. ولكن ليس لمسألة الأسماء أهمية كبرى، طالما أننا ندرك أن مبدأ اشتراك الإحساسات بين الذوات هو التزام أساسي ليس في ذاته قابلا للتحقيق بمناهج العلم. وكيف يكون قابلا للتحقيق وهو في قراره ادعاء بشأن الإجراءات والمثل العليا التي يختص بها العلم ذاته؟ غير أن هذا لا يغدو أمرا يؤخذ عليه، إذا أدركنا أن كل فلسفة، وكل ميتافيزيقا قبل كل شيء، ترتبط بالتزامات أو مواقف أساسية معينة لا تقبل البرهنة عليها لأنها سابقة على كل برهان.
والحق أن الأهداف الكامنة من وراء فلسفة ماخ واضحة تماما؛ ففي رأيه أن العلم، بوصفه النظام المتعلق بالمعرفة التراكمية، لم يحقق نجاحه الباهر إلا بفضل تمسكه الشديد، عمليا، بالمبدأ القائل إن الفرض لا يصح أن يقبل إلا إذا خضع لشروط قابلة للملاحظة المشتركة بين الذوات. ومجرد تأكيد سلطة هذا المبدأ، حتى باسم مذهب تجريبي أكثر تسامحا، يسمح بالاعتراف بالإحساسات الخاصة التي لا تعرف إلا بالاستبطان، يعني أنه قد أزيلت من الطريق عقبات أنصار الغيبيات، الذين يدعون بصحة قضايا لا يدعمها إلا التحامل أو الوحي أو سلطة أفراد معينين، ولا شك أن الاعتراف بهذه الأنواع من «المعرفة» ينطوي على نتائج أيديولوجية خطيرة.
ولقد أدرك ماخ بكل وضوح الدلالة الأيديولوجية الأساسية لالتزاماته الفلسفية الخاصة. ولعله من الملائم أن يختم كتاب كهذا، يبحث في خلافات أيديولوجية لها أعظم الأهمية في حياتنا، بمختارات من كتابات فيلسوف استطاع، عن إيمان صادق، أن يؤكد من جديد المثل الروحية العليا الكامنة في «عصر التنوير» ذاته؛ فقرب نهاية كتاب ماخ العظيم «علم الميكانيكا» نجد الفقرة الآتية: «يبدو أن المذهب العقلي لم يجد مسرحا واسعا للعمل إلا عند ظهور أدب القرن الثامن عشر؛ ففي هذا الأدب تقابل العلم الإنساني والفلسفي والتاريخي والفيزيائي، وشجع كل منهم الآخر. والحق أن كل من تتبعوا جزئيا تجربة هذا التحرر الرائع للعقل البشري في أدبه سيظلون يشعرون طوال حياتهم بأسف رثائي عميق على القرن الثامن عشر.» ولقد أدرك ماخ أن المثل العليا القيمة لعصر التنوير لم تواجه بالرفض من جانب الفلاسفة المعادين للوضعية فحسب، بل إنها أصبحت الآن مهددة من جانب العلماء أنفسهم، الذين قد يقوضونها دون أن يشعروا. ولقد سمعنا في الآونة الأخيرة وضعيين معاصرين يصيحون «عودا إلى ماخ» عندما أدركوا وجود انحرافات بين صفوفهم. ولكن المعنى الحقيقي لصيحتهم هذه، من وجهة نظر ماخ ذاته، هو «عودا إلى عصر التنوير».
ولقد أثيرت منذ عصر ماخ مجادلات خاصة حول صحة برنامج ماخ لتطهير العلم من شوائبه؛ فرأى عالم الفيزياء الكبير، ماكس بلانك، مثلا، أن مبدأ الاقتصاد الفكري عند ماخ يؤدي، إذا ما طبق تطبيقا عاما، إلى إعاقة تقدم العلم ذاته على نحو خطير؛ إذ يشل الخيال العلمي وإيمان العالم بعمله من حيث هو تصوير صادق للواقع. ورأى آخرون أن كرامة العلم بوصفه أرفع أداة لنقل المعرفة البشرية، ستختفي إذا ما نظر إلى نظريات العلم الطبيعي، عموما، على أنها لا تعدو أن تكون نظاما من الصيغ الشاملة المريحة للتنبؤ بحدوث الإحساسات، بل إنه ليبدو أن أينشتاين ذاته، مع إعجابه الشديد بماخ، قد عارض الوضعية أحيانا في سنواته المتأخرة لأسباب مماثلة.
ومع ذلك فهذه الاعتراضات نفسانية في أساسها، وهي لا تؤثر في قوة مركز برنامج ماخ من الوجهة الفلسفية. وهناك صعوبة أخطر، تتعلق بالوجه القائل بمذهب الظواهر في نظرية المعرفة عند ماخ. وتتضح هذه الصعوبة من الدفاع الآتي للأستاذ فيليب فرانك إزاء التأويلات الباطلة لمذهب ماخ: «فالمسألة ليست هي التعبير الفعلي عن جميع القضايا الفيزيائية بوصفها قضايا تعبر عن علاقات بين إدراكاتنا الحسية، وإنما المهم هو إثبات المبدأ القائل إن القضايا التي يمكن من حيث المبدأ التعبير عنها بوصفها قضايا تعبر عن علاقات بين إدراكاتنا هي وحدها القضايا التي تحمل معنى حقيقيا.» على أن هذا الدفاع غير كاف؛ فقد يتساءل المرء: ولماذا لا تكون المسألة هي القيام فعلا بما يقول المذهب إن من الممكن القيام به؟ وكيف ندرك أن للمبدأ معنى، إذا كان من المتفق عليه بوجه عام أن أحدا لم يأت بمثال واضح واحد ترجمت فيه القضايا المتعلقة بالأشياء المادية إلى قضايا أخرى عن العلاقات بين الإحساسات دون فقدان للمعنى؟ إن عددا كبيرا من الفلاسفة الذين يعطفون، في النواحي الأخرى، على فلسفة التجريبية العلمية، يؤمنون في الوقت الحالي بأن من المستحيل تماما تنفيذ نظرية ماخ «الظاهراتية
» في المعنى. والسبب الرئيسي لذلك يتعلق في رأيهم بالفروق المنطقية القاطعة بين القضايا الخاصة بالأشياء المادية وبين عمليات وتقارير التجربة المباشرة التي تستخدم لتأكيد هذه القضايا. ولكن حتى لو تعين علينا أن نتخلى عن هذا الجانب في مذهب ماخ، فإن هذا لا يعني، مع ذلك، أن من الواجب التخلي عن المبدأ الأساسي للتجريبية الوضعية؛ أعني المبدأ القائل إن الملاحظة المشتركة بين الذوات هي المعيار الأساسي الوحيد لجميع القضايا الواقعية؛ ذلك لأن هذا المبدأ لا يتعلق بإمكان ترجمة القضايا الواقعية (
نامعلوم صفحہ