وسأوضح الآن، محاولا إظهار الفرق بين طريقة التفكير الموضوعي وطريقة التفكير الذاتي، كيف يشق التفكير الذاتي طريقه داخليا إلى العالم الباطن. إن باطنية الذات الموجودة تبلغ قمتها في الانفعال، والحقيقة المناظرة للانفعال في الذات تتحول إلى امتناع منطقي. وكون الحقيقة تتحول إلى امتناع منطقي هو أمر متأصل في كونها ذات صلة بذات موجودة. وهكذا فإن كل طرف هنا يناظر الآخر، فإذا نسي المرء أنه ذات موجودة، فإن انفعاله يضيع ولا تعود الحقيقة امتناعا منطقيا، وتصبح الذات العارفة كيانا خياليا أكثر من كونها كائنا بشريا، وتغدو الحقيقة موضوعا خياليا لمعرفة هذا الكائن الخيالي.
فعندما تثار مسألة الحقيقة على نحو موضوعي، يتوجه التفكير موضوعيا إلى الحقيقة، بوصفها موضوعا يرتبط به العارف. غير أن التفكير لا يتركز على العلاقة، وإنما على مسألة كون الحقيقة هي ما يرتبط به العارف. فإذا كان الموضوع الذي يرتبط به هو الحقيقة فحسب، فعندئذ تعد الذات مالكة للحقيقة. أما عندما تثار مسألة الحقيقة ذاتيا، فإن التفكير يوجه ذاتيا إلى طبيعة علاقة الفرد، فإذا كانت طريقة هذه العلاقة هي الحقيقة، فإن الفرد يعد مالكا للحقيقة حتى لو كان في ذلك مرتبطا باللاحقيقة.
8 ⋆
ولنضرب لذلك مثلا بمعرفة الله؛ فمن الناحية الموضوعية، يوجه التفكير إلى مشكلة كون هذا الموضوع هو الإله الحقيقي، أما من الناحية الذاتية، فإنه يوجه إلى مسألة كون الفرد متصلا بشيء على نحو يجعل اتصاله هذا اتصالا بإله في واقع الأمر؛ ففي أي جانب إذن توجد الحقيقة؟ ألا يجوز لنا أن نلجأ إلى الوساطة، فنقول إنها لا توجد في هذا الجانب ولا ذاك، وإنما في وسط بين الاثنين؟ هذا كلام رائع، بشرط أن نتمكن من إيضاح كيف يستطيع الفرد الموجود أن يكون في حالة توسط؛ فلكي يكون أي شيء في حاله توسط لا بد أن يكون منتهيا، على حين أن الفرد الموجود في حالة صيرورة. وكما أن الفرد الموجود لا يستطيع أن يكون في مكانين في آن واحد، فكذلك لا يستطيع أن يكون هوية بين ذات وموضوع. وعندما يكون أقرب ما يمكن إلى الوجود في مكانين في آن واحد، يكون في حالة انفعال غير أن الانفعال وقتي، والانفعال كذلك أرفع تعبير عن الذاتية.
وهكذا فإن الفرد الموجود الذي يختار اتباع الطريق الموضوعي، يسير في جميع مراحل عملية التقريب التي يكون هدفه فيها الكشف عن الله بطريقة موضوعية. غير أن هذا مستحيل تماما؛ لأن الله ذات، ومن ثم لا يوجد إلا بالنسبة إلى الذاتية في حياتها الباطنة. أما الفرد الموجود الذي يختار اتباع الطريق الذاتي، فإنه يدرك على الفور كل الصعوبة الديالكتيكية التي ينطوي عليها الاضطرار إلى استغراق وقت ما، وربما وقت طويل، من أجل الاهتداء إلى الله موضوعيا، وهو يحس بهذه الصعوبة الديالكتيكية بكل ما تبعثه من ألم؛ لأن كل لحظة لا يصل فيها إلى الله، إنما هي لحظة ضائعة.
9 ⋆
في هذه اللحظة بعينها يكون قد وصل إلى الله، لا بفضل أي تأمل موضوعي، وإنما بفضل الانفعال اللانهائي لعالمه الباطن. أما الباحث الموضوعي فلا تحيره تلك الصعوبات الديالكتيكية التي ينطوي عليها تخصيص فترة بحث كاملة للاهتداء إلى الله؛ إذ إن الباحث قد يموت غدا، وإذا عاش فلن يكاد يستطيع أن ينظر إلى الله على أنه شيء يؤخذ إذا تبين أنه مريح؛ إذ إن الله ليس إلا ما يسعى إليه المرء بأي ثمن، وهذا هو ما يكون في فهم الانفعال العلاقة الباطنة الحقيقية بالله.
في هذه المرحلة العظيمة الصعوبة من الوجهة الديالكتيكية، ينحرف الطريق بكل من يعرف معنى التفكير، والتفكير وجوديا، وهو أمر مختلف تماما عن الجلوس إلى منضدة والكتابة عما لم يفعله المرء قط، ومختلف تماما عن الدعوة إلى «الشك في كل شيء
de omnibus dubitandum ، والتصرف وجوديا بطريقة فيها من التصديق الساذج ما لدى أكثر الناس تقيدا بعالم الحس. ها هنا ينحرف الطريق، ويتضح التغير في أنه على حين أن المعرفة الموضوعية تسير بتؤدة في طريق «التقريب» الطويل، دون أن يعوقها اندفاع الانفعال، فإن المعرفة الذاتية تعد كل إبطاء خطرا مميتا، وترى أن القرار ذو أهمية عظمى، وملح إلحاحا شديدا إلى حد يبدو معه كأن الفرصة قد فاتت بالفعل.
فإذا كان علينا أن نواجه مشكلة تحديد الجانب الذي تكون فيه حقيقة أعظم، وهل هو جانب من يلتمس الإله الحق موضوعيا، ويتعقب الحقيقة التقريبية لفكرة الله، أم جانب من يتملكه انفعال لا نهائي بحاجته إلى الله، فيشعر باهتمام لا نهائي بعلاقته بالله في الحقيقة (إذ إن كون المرء في كلا الجانبين معا بقدر متساو، هو كما لاحظنا من قبل مستحيل على فرد موجود، وما هو إلا الخداع البراق لعبارة أنا، هو أنا التقليدي). أما هذا فسؤال لا يمكن أن يشك في الإجابة من لم يؤد العلم إلى تثبيط عزيمته. فإذا ما توجه شخص يعيش وسط العالم المسيحي إلى بيت الله الحقيقي، ولديه في معرفته فكرة صحيحة عن الله، وصلى، ولكنه صلى بروح زائغة، وإذا ما صلى شخص يعيش في مجتمع وثني بكل انفعال اللامتناهي، وإن تكن عيناه مرتكزتين على صورة وثن؛ ففي أيهما تكون الحقيقة أعظم؟ إن أحدهما يصلي حقيقة لله وإن يكن يعبد وثنا، والآخر يصلي باطلا لله الحقيقي، ومن ثم فهو الذي يعبد الوثن. •••
نامعلوم صفحہ