لم أكن قد سمعت شوقي يرفع صوته أبدا إلى درجة الصراخ، ولم يحدث أبدا أن فقد اتزانه.
وبدأت الفرحة في نفسي تزداد والأمل يكاد ينقلب إلى حقيقة، أفرحني ذلك الصوت الذي افتقدته سنين وأزعجني، فقد كان يتوهج نفس التوهج الصادر من عيني شوقي حتى بدأت فرحتي تمتزج بخوف أن يحدث شيء أكثر، مثل أن نفاجأ بشوقي ينهال على الرجل الهيكل ضربا وركلا وخنقا، وتدخلت طالبا من شوقي أن يتذكر مهمته، ويعامل الرجل بمثل ما يعامل الطبيب مريضه.
ولكن شوقي لم يأبه لتدخلي، بل بدا وكأنه لم يحس به أصلا أو يسمعه، كان وكأنه يعاني من جنون الفرحة المغلولة التي تنتابنا حين تحين فرصة العمر.
وقالت نور الزوجة: بالراحة عليه يا دكتور، دا عيان. - إنت عباس الزنفلي؟
ورفع الرجل رأسه وأبقى نظرته الميتة معلقة على ملامح شوقي تتلقى الرذاذ الخارج من فمه، ويصفعها زفيره المحموم الذي كان واضحا أنه ينتزعه من أعماق سحيقة، من جروح بالغة القدم، بالغة الألم، أعمارها سنين، وقروحها حية لا تزال رغم كل العمق والزمن ... - ما تستعبطش! ما تعملش إنك ناسي! مش فاكر العنبر؟! مش فاكر علق الساعة خمسة؟! مش فاكر دور تسعة؟! مش فاكر النبابيت؟! مش فاكر الكرباج؟! مش فاكر الدم؟! فين كرباجك وديته فين؟! فين صراخك يا وحش فين؟! فين نعل جزمتك الحديد؟! فين كفك؟! فين صوابعك؟! فين النار فين؟ بص لي وانطق واتكلم وصرخ، صرخ زي زمان، سمعني صوتك، صرخ يا عسكري يا اسود، بص لي وانطق واتكلم وصرخ، ما تعملش ناسي! وإن عملت أفكرك، حالا أفكرك ...
ولا أعرف كيف استطاع شوقي في تلك الومضة المتناهية الصغر من الزمن أن يخلع جاكتته وقميصه، ويرفع فانلته ويكشف ظهره، ويا لهول ما وقعت عليه أبصارنا! لم يكن في ظهره مكان واحد له شكل الجلد أو مظهره، كل جلده كان ندوبا بشعة، تمتد بالطول والعرض، وتتجمع في هضاب مندملة، وتكشف عن مناطق غائرة، في قاعها تكاد تبدو عظام الضلوع، مشهد بشع يجعل القشعريرة تسري في جسدك ، لا لمجرد مرآه وإنما لتساؤلك عن القسوة المتوحشة التي أحدثت كل ما تراه، لكأن ذئبا مجنونا أو غولا قد أعمل أنيابه وأظافره في ظهر شوقي نهشا وتقطيعا وفتكا.
في جزء من الثانية كان قد فعل هذا، فعله وهو يستدير ليواجه «عباس» بنظره وصراخه لا يكف: إذا كنت نسيتني فمش ممكن حتنسى ده، مش رح تنسى اللي عملته، دلوقتي افتكرت؟
وكما بدأ فجأة كف فجأة عن عرض ظهره، واستدار وهو يصرخ: لازم تفتكر كويس ما تنساس، أنا مش ناسي، ولا حد ناسي، ولا حد حينسى، انطق واتكلم وصرخ وقول إنك فاكر، انطق.
وروعت لما حدث، للطريقة التي كان شوقي يصرخ بها، للصوت العالي المزعج، للهدير، للصراخ وكيف ظل يعلو، وللكلمات المفهومة وقد بدأت تصبح غير مفهومة أو متبينة، ثم كيف، لعلوها بدأت تفقد شكل الكلمات، ويصبح كل ما يصدر عنه آخر الأمر مجرد خيط متصل طويل مكون من أشياء لا ندري إن كانت حقدا أو أنينا أو تألما وبكاء، وكيف بدأ خيطها يلتوي ويستحيل إلى شيء يشبه العواء، بل إلى عواء حقيقي، عواء مرتجف مستغيث، لا يستطيع الكائن الحي أن يطلقه إلا وهو يعاني أقصى وأحد درجات الألم، الألم الذي لا يحتمله بشر، الألم الذي لا تصرخ معه الحنجرة، وإنما الصارخ هو الجسد نفسه، لحم الجسد، وعظامه، وأعصابه، وكأنما يجبرها الألم أن تطلق صرختها المستميتة الأخيرة.
والشيء المخيف أن كل هذا كان يصدر عن شوقي، وأننا كنا أنا وعبد الله والزوجة قد أصابنا الشلل، لا نعرف ماذا نفعل، ومنظر شوقي يجعلنا نؤمن أن لا قوة في الوجود تستطيع إيقافه، لا عن الصراخ والعواء، ولا عن قتل عباس الزنفلي، ولا عن قتل أي منا، لو أراد.
نامعلوم صفحہ