ووجدت دكانا يتخفى وراء الظلام ينير مصباحا خجولا يحوطه بأسطوانة ورقية من بقايا علبة سجائر قديمة. وكان باب الدكان لا يزيد عن ربع ضلفة من ضلف الأبواب العادية. - عندك سجاير نمرة ثلاثة؟ - لا. - عندك بحاري؟ - لا. - كرافن إيه؟ - لا. - ملك مصر أو سفير. - لا.
وانغمست في حديثي مع صاحب الدكان ونسيت أمر من معي، حتى وجدت يدا تنبعث من الظلام تحمل نصف قرش وتضعه على منضدة البائع لتقول في حسم: اثنين فلاج وهات مليم وحياة أبوك.
أدرك الأستاذ عثمان أنني أحادث الرجل بلغة لن يفهمها؛ فلو كان عنده شيء مما ذكرت لما سهر إلى آخر الليل ليهتبل ربحا لن يزيد عن ملاليم. وأراد الأستاذ عثمان أن يعلمني اللغة الصحيحة التي يمكن أن يفهمها. اثنين فلاج وهات مليم؛ أي إنه يعرف الثمن تماما. وقد تعلمت الكثير من هذه الجملة البسيطة التي طالما ضحكنا منها بعد ذلك.
لمن أتكلم وماذا أريد أن أقول وكيف أصل بما أريد إلى فهم من أكلمه؛ تلك هي مشكلة المشاكل أمام الكاتب أو المتحدث.
تستطيع أن تكون أستاذا عظيما في الأدب، ولكن هذا لا يجعلك بالضرورة تعرف اللغة التي تخاطب بها من تخاطبهم؛ فهناك كلام يقال في المدرج بأسلوب معين، وألفاظ بذاتها. وهناك كلام يكتب في المجلات المتخصصة. وهناك كلام يكتب للجرائد اليومية. وهناك حديث خاص للندوات العامة. ومعرفة كل مجال وما يتطلبه من كلام هو الأساس الذي نستطيع به أن نصل إلى الناس .
ولكن كثيرا من الأساتذة يكتبون في الجرائد اليومية ما لا تحتمله إلا المجلة المتخصصة، وكثير منهم يكتب في الكتب كلاما لا يسوغ إلا في الجرائد اليومية. وتختلط الأمور عليهم وعلى قرائهم ويقعون في أحابيل «الأستذة»، ويقع الجمهور في أحابيل الخوف من التصريح بعدم الفهم، حتى لا يقال عنهم جهلاء، ويصبح الكلام في الهواء لا قيمة له، ولا يجد له فاهما. كم يحتاج الأساتذة إلى عثمان نويه ليقول لهم اثنين فلاج وهات مليم وحياة أبوك.
لم يتسع الوقت
حين تقرر أن يسافر إلى السعودية لأعمال الشركة البولندية التي يعمل بها لم يفكر في شيء آخر إلا أن يزور الأماكن المقدسة ويطوف حول الكعبة المكرمة ويقف أمام شباك النبي.
ولم يكن توقه إلى العمرة عن أي شعور بالإيمان، بل كان كل ما يفكر فيه هو تحدي هذه الرواسب التي تسيطر على أفكار المسلمين، والتي يرى أن انصياعهم لها ما هو إلا تعلق ببقايا الأبوة وعهود الصبا والطفولة.
وكان واثقا أن الإنسان المتحضر لا يمكن أن يؤمن بفكرة الدين أو التعلق بأوهامه.
نامعلوم صفحہ