وأتصور أنه حين أشرق النور، وتهاوى الصنم؛ لأن الأصنام لا تعيش في النور. أتصور أنه بقي من الصنم قاعدة. وهذا الفريق الذي كان يعيش على النصب، والأكاذيب، والادعاء الباطل، والشعار الزائف، والاحتيال المقيت. ويجد هذا الفريق نفسه بلا مورد يعيش عليه، ولا ناس يحتال عليهم، إلا قلة قليلة لا ترى إلا في الظلام، ولا تحيا إلا في السراديب، ولا تتنفس إلا العفن، ولا تأكل إلا لحم البشر، ولا تشرب إلا الدماء الآدمية.
ويدور فريق الصنم المنهار حول القاعدة المهيضة المحطمة، يطلقون المباخر ويرفعون العقائر، ويستجدون النفع الذي زال عنهم؛ فهذه القاعدة هي كل ما بقي منهم، وبغيرها لا حياة لهم؛ لأن حياتهم قامت أول ما قامت على هذا البهتان. ولو كانوا يملكون صنعة غير طبولهم ومزاميرهم التي كانوا يدقونها وينفخونها هتافا للصنم، وأصبحوا يدقونها وينفخون فيها نواحا عليه، لذهبوا إلى صنعتهم تلك، ونسوا ما كان من أمر الصنم والقاعدة، ولكن من أين وهم عجزة إلا عن الهتاف، جهلة إلا عن الاحتيال، أغبياء إلا عن السلب والزور والغش والسرقة؟
ولكل فترة زمن صنم يقيمه الناس من الدماء، ثم لا يلبث الناس أن يتبينوا مقدار ما امتص الصنم من كيانهم؛ ولهذا فلا بد لكل صنم أن يسقط وينهار. ولا بأس أن تبقى القاعدة حينما يلف حولها هذا الفريق من نفاية البشر. ويمر الزمن بالنور فتمحى القاعدة كما أمحي الصنم، وتصبح النفاية عدما من العدم. ولا يبقى إلا الإشراق والنور والضياء؛ فإنه يمكث في الأرض وفي السماء.
الصوت المرتفع والتليفون والفن
تعود أبناء الريف أن يرفعوا صوتهم إلى أعلى الدرجات حين يتكلمون في التليفون. ولا شك أن هذه العادة قد لازمتهم من أيام تليفونات المركز المتصلة بالعمدة. وهي - بالمناسبة - ما زالت موجودة حتى اليوم. وكان الخفير لا يكاد يسمع محدثه حتى كان يرفع عقيرته إلى القمة. وأغلب الأمر أنه كان حين تنتهي المكالمة يرتمي إلى أقرب مقعد أو مصطبة مقطوع الأنفاس وكأنه جرى مائة كيلو بغير توقف.
وكان المرحوم أحمد عبد الغفار «باشا» فلاحا لم تتخل عنه أخلاق الفلاحين ولا عاداتهم رغم تعلمه في أكسفورد ورغم كرسي الوزارة الذي تبوأه.
وفي يوم كان أحد الزوار يجلس عند سكرتيره في الوزارة، وكان صوت الوزير عاليا جدا حتى كان الزائر يسمع كل كلمة يقولها صارخة في أذنه، وأحس السكرتير بحرج فنظر إلى الزائر وكأنه يعتذر. - أصل الباشا بيكلم تلا.
فرد الضيف بسرعة ذكية. - ولماذا لا يكلم الباشا تلا عن طريق التليفون؟
هذا الصوت المرتفع نلتقي به كثيرا في الأعمال الأدبية، وهو عيب أجمع النقاد على أنه ينال من العمل الفني ويغض من قيمته.
فالعمل الفني بطبيعته همسة تتسلل في ذكاء شديد ولباقة إلى أبعد أغوار النفس الإنسانية، وترسي فيها ما يشاء أن يرسيه الكاتب من معان.
نامعلوم صفحہ