كان صاحبي سعيدا وهو يحدثني، فربما كنت، بل إني أنا فعلا الشخص الوحيد الذي يحادثه بلا نفاق وبلا تحيط أو حذر ... جمعتنا الأيام الطويلة، وتعود أن يلقي إلي بسره، فأنا مطلع بعد الله على مرآة نفسه بلا ستار ولا غلائل ولا خفاء ... ولهذا رأيت في عينيه شعورا أكاد أثق أن أحدا لم يره إلا أنا ... كان القلق يعدو على بريق الفرح في عينيه. وعجبت أن يبدأ القلق مسيرته في نفسه في اليوم الأول لتوليه الوظيفة.
ومرت الأيام وكنت أزوره في غير انتظام وفي غير إكثار. رأيت على وجوه الموظفين قترة وكمدا. وأحسست أن ترحيبهم بي أصبح أكثر حجما مما كان، ولكن الإخلاص فيه منعدم والصدق غائب، حتى لا تستطيع ألفاظهم أن تخفي سخطهم المتستر وراء زواق الكلام. وما أنا منهم ولا تربطني بأحد فيهم رابطة إلا صداقتي برئيسهم. وألقاه. أين النفس الرضية؟ أين القلب المطمئن؟ أين الابتسامة المنطلقة في غير حذر تشق ظلام الحياة لتسفر عن راحة الضمير وسعادة الإنسانية إذا قدر للإنسانية يوما أن تكون سعيدة؟!
لم أسأله، وإنما أقللت من زيارتي حتى لأوشكت تنقطع ... وفي يوم بينما أنا في القيلولة إذا بصديقي قادم على غير موعد، ورأى دهشتي فلم يحفل بها، وانفردت بنا الحجرة.
صمت، ثم هم بحديث ثم صمت ... ثم اندفع في بكاء متواصل لم أجد معه أنا إلا الصمت، ثم رفع وجهه فرأيت صديقي الذي كنت أعرفه قد عاد إلى وجهه مرة أخرى، ثم تكلم: لقد استقلت، بلغت من مرتب المعاش أقصاه فاستقلت، لقد مرت بي فترة الرئاسة فقلبتني من إنسان إلى لا إنسان. ولا أعرف صفة أقولها لتغنيني عن هذا التركيب اللفظي، كرهت إخواني جميعا في العمل، كنت أحس أنهم يعرضون علي الورق وظلال سخرية تغلبهم على أمرهم، وتثب إلى شفاههم، ثم كنت أنظر إلى أقفائهم وأنا واثق أنها تخفي عني السخرية الصريحة. كنت أحس أنهم مجمعون على أنني آخر من يصلح لهذا العمل. وربما كانوا على حق؛ فلماذا يصبح هذا الشخص الذي عاش عمره بلا رأي ولا موقف ولا مبدأ ولا قيمة رئيسا لهم؟
كنت أعتقد أنهم يرون النفاق الذي بذلته هو الدرج، ولكنهم مع ذلك - فيما أظن - كانوا يتصورون أنه لا يكفي وحده لكل هذا المجد الذي نلته.
الحقيقة التي لا أستطيع أن أخفيها عنك لأنك ستعرفها دون أن أقولها؛ أنني أنا نفسي لم أكن مقتنعا أنني رئيس فعلا. كنت أحس نفسي شيئا تائها في الكرسي الذي أجلس عليه، حتى لقد كنت أنا نفسي أفتش عن نفسي في الكرسي إذا خلوت به وخلا بي. حتى إذا دخل مرءوس لي كان زميلا انتفشت عن نفخة كنت أضحك منها في داخلي، ثم أنا أوجه إليه أبشع النقد في أقسى لفظ، حتى إذا خرج واجهت صغري واقفا أمامي وداخلي يأخذ علي أقطار الحياة خارجي، وأقطار كياني في داخل كياني.
وكنت أحيانا أحب أن أتطرف وأبحث عن هذه الابتسامة التي كنت أرسمها على وجه زملاء الأمس ومرءوسي اليوم، فإذا الابتسامة قهقهة عالية أدرك افتعالها وأحار أهي مفتعلة لأنني رئيس ينافقونه، أم هي مفتعلة لأنها تفرج عن السخرية مني التي يحبسونها أمامي.
وكنت في كل يوم أنظر إلى المرآة أحس أنني أصبحت صورة حية لرسم دوريان جراي. كانت مرآتي هي صورة دوريان جراي؛ ففي كل يوم تختفي منها بسمة طيبة لتحل محلها تكشيرة وحش. كنت أفقد نفسي نأمة نأمة وشعاعا شعاعا، وتنطمس في نفسي يوما بعد يوم عواطف الطيبة والحب والرضا والقناعة والسعادة وقبول الحياة لتشتعل نفسي بنيران القدر والحقد والسخط والطمع والشقاء ورفض كل شيء في الحياة حتى ما هو جميل فيها.
أولادي. أولادي. كنت أتخيلهم يسخرون مني إذا خلا بعضهم ببعض. زوجتي. لم أقتنع يوما أنها قبلت أمر ترقيتي كشيء مسلم به. كنت دائما أحس أنها تشك أنني حقا رئيس، وأنني أصبحت مستقبلا للتملق بعد أن كنت مصدرا له.
تاهت نفسي من نفسي، ونفرت حياتي من حياتي. اسمع يا أخي، هناك ناس خلقوا ليكونوا أي شيء إلا رؤساء لأعمال، وأنا منهم. وتلك هي الحقيقة.
نامعلوم صفحہ