وماء الوجه حين يراق ويجف يصبح صاحبه السابق وقد تملك سلاحا لا يملكه من الناس إلا قلة في العالم نادرة؛ هذا السلاح السفاك الباتر النفاذ هو الصفاقة والقدرة على بيع كيانه البشري ليكون مطية لكل من يريد يركب.
وقد تعرف من لا أسميه هذا على مهرج في السيرك ما لبث أن عرف سره.
وبلغ إلى الخوافي الحقيقية في حياته؛ فهو في السيرك مهرج وهو في الحياة مجرم سفاح لص قاتل يستبيح كل الحرمات، ويستهين بكل ما هو كريم في الإنسانية. وقد وجد من لا كرامة له خير ملجأ له عند من لا ضمير له. وتلازما في الحياة. المهرج يسرق ويقتل ويثري ويهرج في السيرك، وناضب ماء الوجه يطيب له، ويكيل المديح، ويبرر له كل ما يصنعه من اعتداء على الحياة وعلى الكرامة من سلب للأعراض، وقتل لكل نبيل في الحياة، واستيحاء لكل خسيس عفن من جوانبها، بل كانا يبتدعان من الخسة والعفن ألوانا لم تشهدها البشرية ولم تسمع بها، ولم يتخيل أبناء البشر أنهم سيسمعون عنها في يوم من الأيام. واستطاع المهرج أن يجد لمن لا حياء له وظيفة في سيرك، فكان يهيئ للمهرج الساحة، ويفرش له الرمال، ويضع له معدات التهريج. وتعلم من لا حياء له أن يقفز في بعض الأحيان قفزات بهلوانية تخيب في أغلب الأمر، فينال عليها الضحك والسخرية والتصفيق الذي يعني الاستهانة والاحتقار، ولا يعني - على أية حال - إعجابا أو استمتاعا، ولكنه كان يفرح بهذا التصفيق والصيحات المستهجنة المصاحبة له. وصار من لا حياء له ملازما لمن لا ضمير له عند مشاهدي السيرك؛ فإن ذكروا أحدهما ذكروا الآخر دون تفكير. وإنما كلاهما تهريج يذكر بتهريج، وسخف يوحي بسخف، وسقوط حياء يرادفه سقوط كرامة.
وتعود من لا حياء له هذه الحياة، وجنى منها مالا ما كان يحلم أن يصيبه؛ فميدان النهب أوسع الميادين مجالا للغنى. وانعدام الضمير من أعظم شباك الثراء نجاحا، فإذا واكبه انعدام الحياء أيضا أصبحت الأموال غدقا وصار الغنى فاحشا.
وجاب السفاح المهرج والمداح الصفيق أقطار الحياة، وساحا في أرجائها، وأصبح اسم كل منهما على ألسنة رواد السيرك جميعا. وراح يذكرهما في غير تصريح كل من أصاباه في ماله أو عرضه، أو أصابا أحدا من أقاربه في حياته. وتدور الأيام وإن الأيام دائما تدور. وذلك أعظم سنن الكون وأرفعها شأنا وأعلاها دستورا. ومات المهرج. والمهرج هو الأصل، والمداح نبات عليه متسلق، لا يحيا بدونه، ولا يعيش بغير وجوده.
ولكنه صفيق. أصر أن يبقى في حلبة السيرك، وحاول أن يتقافز كما كان يتقافز، ولكن الجمهور في هذه المرة ثار عليه ثورة جادة لا هزل فيها. وأعاد هو المحاولة في يوم تال، ثم في أيام توال، ولكن الجمهور أصر أن يظل ثائرا عليه، لا يريد أن ينظر إليه، ولا يجد في وجوده بالحلبة أي معنى؛ فقد كان قطعة صغيرة مكملة لآلة مضحكة. وقد هلكت الآلة، فما معنى بقاء هذه القطعة المكملة لها؟! كان يمكن أن تصلح الآلة بغير القطعة، ولكن هيهات أن تصلح القطعة بغير آلة.
رفضت الحياة وجهه الصفيق، وأبعدته عن الحلبة قصيا زريا كالكلب الأجرب، لا يحب أحد أن يراه، ولا يشتهي أحد أن يذكره.
ولكن المسكين كان قد تعود أن يتقافز في الحلبة، ونزل عليه إبعاده عنها نزول الصاعقة، وإن كان من ماله الذي انتهبه في بحبوحة وغني، ولكن المسكين كان قد تعود مع المال التصفيق الساخر والصيحات المستهجنة.
وهو اليوم يريد أن يتقافز ولكن الحلبة الكبرى قد أغلقت دونه. وهكذا لم يعد غريبا أن يراه الناس في بعض الحارات والأزقة يقوم بحركاته البهلوانية الفاشلة ويتجمع حوله بعض المارة، فأما من يتبين ماضيه فينصرف عنه راضي النفس سعيدا أن الزمن دار، وأن ملحق البهلوان قد صار إلى هذا المصير. وأما من لا يعرفه وهم الكثرة فما هي إلا نظرة عابرة يلقيها إليه ثم ينصرف عنه وكأنه ما رأى شيئا.
الثور المذءوب
نامعلوم صفحہ